حقيقة الموت وعالم القبر
لا أقصد بحقيقة الموت حالة السَكْرة التي تكلّمنا عنها، وإنّما أقصد بالنسبة إلى ما بعد السَكْرة، أي: بعد انتهاء حالة النزع.
وهناك آية لعلّها تشير إلى حقيقة الموت، وهي قوله تعالى: ﴿اللّٰهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(1).
هذه الآية المباركة تشعر بأنّ الموت يشبه حالة النوم، أي: إنّ الإنسان عندما يموت أو ينام فإنّ روحه تسحب منه مع اختلاف درجة السحب؛ إذ تكون درجةُ السحب بالنسبة إلى حالة النوم درجةً خفيفة، وتكون بالنسبة إلى حالة الموت درجةً شديدة.
فيتوفّى اللّه نَفْس النائم كما يتوفّى نَفْس الميّت، فالنوم صِنْو الموت، ولكنّه أخفّ منه درجة.
والموت كالنوم، إلّا أنّه بشكل أعمق وأطول؛ إذ تكون هذه الحالة مؤقّتة بالنسبة إلى النائم؛ إذ تعود إليه النفس حينما يستيقظ، وكذا الحال بالنسبة إلى الميّت؛ فإنّ هذه الحالة تكون مؤقّتة أيضاً، ولكنّها
(1) الزمر: 42.
مؤقّتة بوقت أطول؛ إذ إنّها مؤقّتة إلى (يوم يبعثون)، وحينما يأتي ذلك الوقت، فإنّ الروح ستعود إلى البدن.
وقد ورد في بعض الروايات: «كما تنامون تموتون، وكما تستيقظون تبعثون»(1).
وهناك رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام)، قيل له: «ما الموت؟ فقال(عليه السلام): هو النوم الذي يأتيكم في كلّ ليلة، إلّا أنّه طويل مدّته، لا ينتبه منه إلّا يوم القيامة، فمنهم مَنْ رأى في منامه من أصناف الفرح ما لا يقادر قدره، ومنهم من رأی في نومه من أصناف الأهوال ما لا يقادر قدره، فكيف حال مَنْ فرح في النوم ووجل فيه؟ هذا هو الموت، فاستعدّوا له»(2).
فالإمام(عليه السلام) يشرح هنا كيفية الثواب والعقاب في عالم البرزخ، فيقول(عليه السلام): إنّ حالات الثواب والعقاب هي حالات مثالية، وليست هي من الثواب المادّي والعقاب المادّي؛ إذ إنّ الثواب والعقاب المادّيين سيكونان في يوم القيامة، وحينما يرجع الجسد، ويعود البدن المادّي،
(1) اُنظر الجامع لأحكام القرآن، ج15، ص261، ذيل الآية: 42 من سورة الزمر، وروضة الواعظين، ج1، ص144، مع اختلاف يسير.
(2) اعتقادات الإمامية (للصدوق)، ص53.
فيكون الثواب حينذاك من قبيل النعم الموجودة في الدنيا، إلّا أنّه هناك أعظم وأكثر، هذا إضافة إلى الثواب المعنوي طبعاً؛ إذ إنّ الثواب في يوم القيامة ليس منحصراً بالثواب المادّي فقط، وإنّما يوجد إلى جنبه أيضاً الثواب المعنوي الذي سُمِّي في القرآن الكريم بـ (رِضْوَانِ اللّهِ).
وكذلك الأمر بالنسبة إلى العقاب؛ إذ يكون مادّياً في يوم القيامة، ويتجسّد في أنواع العقوبات وأشدّها، ولعلّ العقاب بالنار _ نعوذ باللّه_ هو أشدّ تلك العقوبات، قال تعالى: ﴿... سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارَاً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودَاً غَيْرَهَا...﴾(1).
هذا هو العذاب المادّي في يوم القيامة.
أمّا في عالم البرزخ فيبدو أنّ الثواب والعقاب فيه ليسا بمادّيين بذلك الشكل، باعتبار أنّ هذه الروح فقدت البدن المادّي، وانفصلت عنه، وذهبت إلى عالم المثال أو إلى قالب المثال، وسيكون الثواب والعقاب من سنخ ذلك العالم.
ومن هنا فإنّ الإمام(عليه السلام) يشبّه الثواب والعقاب في عالم البرزخ بما يراه النائم أحياناً في عالم النوم من نعيم أو عذاب؛ فإنّه ثواب أو عقاب
(1) النساء: 56.
مثالي، وليس بمادّي، ولكن مع اختلاف الشدّة والخفّة، ففي عالم النوم شيء خفيف وطفيف، ولكنّه هناك شيء شديد.
فهذه الرواية وأشباهها تفتح علينا باباً في كيفية تصوّر الحالة في عالم البرزخ، وفي حقيقة الثواب والعقاب.
وبالنسبة إلى المفهوم الذي يقال عنه بأنّ القبر روضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حُفَر النيران، يبدو أنّ هذه النار (حفرة من حُفَر النيران) ليست نار الآخرة المادّية التي سيلقاها الكافر يوم البعث، وإنّما هذه مثال لتلك، أو نفحة منها، أو ما شئت فعبّر، وكذلك الثواب.
وهذه الروايات تلقي ضوءاً على كيفية حياة الإنسان في عالم القبر، أو فيما بعد الموت من كونها حياة مثالية، وفي قالب مثالي.
كما أنّ هناك عدّة آيات في القرآن الكريم يشير بعضها إلى عالم البرزخ بوضوح، وورد التفسير في بعض آخر بأنّها ناظرة إلى عالم البرزخ، منها:
1_ قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾(1).
(1) مريم: 60 _ 62.
فهناك روايات تفسّر هذة الآية المباركة _ التي تتكلّم عن الثواب _ بجنّة الدنيا، أي: جنّة عالم البرزخ، وتستشهد هذه الرواية على ذلك بقوله تعالى: ﴿بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾؛ إذ تقول: إنّ (البكرة) و(العشيّ) إنّما يكونان بسبب الشمس، والشمس إنّما تكون في الدنيا، أمّا في يوم القيامة فلا شمس، ومن هنا فإنّ هذه الآية المباركة راجعة إلى جنّة الدنيا، أو بتعبير آخر إلى جنّة عالم البرزخ، وليست ناظرة إلى جنّة عالم الآخرة.
2_ قوله تعالى: ﴿... وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾(1).
إنّ هذه الآية المباركة راجعة إلى العقاب، والاستدلال بهذه الآية يكون بقوله تعالى: ﴿غُدُوّاً وَعَشِيّاً﴾؛ إذ إنّ (الغدوّ) و(العشيّ) لا يكونان إلّا مع وجود الشمس، والشمس لا تكون إلّا في الحياة الدنيا هذه.
كما أنّ قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ...﴾ الناظر إلى عالم الآخرة يكون قرينة على أنّ صدر الآية _ وهو قوله تعالى: ﴿يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً﴾_ كان ينظر إلى عالم البرزخ.
(1) المؤمن: 45 _ 46.
إنّ حالة ما بعد الموت إذاً هي حالة حياة للروح منفصلة عن الجسد، وقد تكون إحدى حِكَم تسليط النوم على البشرية هي أن يكون هذا حجّة على العباد؛ لكي لا ينكروا حياة عالم البرزخ، وإبطالاً لادّعاء من يقول: إنّنا نرى أنّ الميّت ينتهي عندما يموت، فلا يتنفّس، ولا يحسّ ولا يشعر، وسيتحوّل بدنه إلى تراب، فكيف نتصوّر أنّه حيّ، وكيف نتصوّر الحياة لأجسام بلت ولأُناسٍ انتهوا، وأصبحوا جماداً لا يسمعون ولا يعقلون، خصوصاً بالنسبة إلى الشهداء الذين قال اللّه تعالى عنهم: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبَّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾(1)؟!
وهذه الشبهة تارة تُذْكَر في مقابل عالم الآخرة، وأُخرى تُذْكَر في مقابل عالم البرزخ، أي: ما بعد الموت مباشرة وعلى مستوى عالم القبر.
والجواب عن هذه الشبهة واضح جدّاً، فحينما تُذْكَر هذه الشبهةُ في مقابل عالم الآخرة، فإنّ جوابها _ على وفق مبادِئ الإسلام _ واضح جدّاً؛ إذ إنّنا لم ندّعِ أنّ عالم الآخرة نحسّ به بمجرّد الموت، بل سيحيينا اللّه تبارك وتعالى في يوم القيامة على أرض غير هذه الأرض، ويظلّنا
(1) آل عمران: 169.
تحت سماء غير هذه السماء، وهناك نرى عالم الآخرة، قال اللّه تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ...﴾(1).
فالإشكال إذاً لا يمكن أن يرد بالنسبة إلى عالم الآخرة، ولا يمكن أن يقال: كيف يكون الثواب والعقاب ونحن نرى الميّت يُدْفَن في الأرض، وأنّه سيتحوّل إلى تراب بعد حين؟!
أمّا حينما تُذْكَر هذه الشبهةُ في مقابل عالم البرزخ، فربّما يتجسّد هذا الإشكال في أذهان السذّج؛ وذلك لأنّ عالم البرزخ عالم مقارن لعالمنا هذا، وأنّه ليس منفصلاً عنه، وأنّنا في الوقت الذي نعيش في عالمنا هذا يعيش موتانا في البرزخ، ويثابون ويعاقبون على أرضنا هذه نفسها.
كما ورد في الروايات أنّ وادي السلام مثلاً روضة من رياض الجنّة، وأنّ أرواح المؤمنين تجتمع فيه، أو مثلاً أنّ وادي برهوت مكان لعذاب الكفّار.
ومن هنا فإنّ الشبهة يمكن أن تأتي، فيقال: كيف نتصوّر الثواب والعقاب، وكيف نتصوّر جنّة وناراً ونحن نرى وادي السلام، ونذهب إليه، دون أن نرى شيئاً من آثار الجنّة ونعيمها؟! كما ونذهب إلى وادي
(1) إبراهيم: 48.
برهوت فلا نرى أثراً لعذاب أو دليلاً على نار؟! بل نرى أنّ الموتى أصبحوا جماداً، فكيف نفترض أنّهم يعون، وأنّهم يثابون ويعاقبون؟!
وللجواب عن هذه الشبهة نقول: إنّ اللّه تعالى قد سلّط النوم على العباد؛ إتماماً للحجّة ورأفة بالعباد، وكأنّما هذا نموذج مصغّر من الموت، والفرحُ الذي يطرأ على النائم أو النعيم الذي يراه النائم أحياناً هو نموذج مصغّر من ثواب عالم البرزخ، وكذلك العذاب الذي يحسّ به النائم أحياناً هو نموذج مصغّر من عذاب عالم البرزخ، ويكفي هذا النموذجُ المُصغّرُ لإبطال الشبهة وكسر الاستبعاد الذي استدلّ المادّيون به.
فنحن نرى النائم بأعيننا المادّية، ونرى أنّه لا حَرَاك فيه، وأنّه لا يحسّ ولا يعي ولا يرى ولا يسمع، ولو تكلّمنا معه، لما أجاب، في حين أنّه في عالم نومه كأنّما يتحرّك في البلاد، ويسبح في الفضاء طاوياً المسافات البعيدة، وهو يرى ويسمع ويتنعّم ويتألّم، وكثير منّا يتذكّر ما رآه، وما عاشه في عالم النوم بعد ما يستيقظ من نومه ويَجْلِس.
إذاً هذا شيء ممكن ومعقول، وهو محسوس، ولا يمكن إنكاره، وإن صحّ هذا الشيءُ في نموذج صغير، فإنّه يصحّ إذاً في نموذجه الكبير الواسع الذي أُخْبِرنا به في الآيات المباركات وفي الروايات.
كما أنّه ورد في الروايات أنّ الأرواح بعد الموت تحلّ في قوالب
مثالية مشابهة للقوالب البدنية المادّية، وتعيش فيها.
وإنّنا لا نستطيع أن نقول: إنّ الوجل والفرح الذي نحسّ به في عالم البرزخ من حيث المستوى والدرجة هو نفس ما عليه الحال في عالم النوم، وإنّما نشبّه هذا بذاك من حيث السنخية، ومن حيث إنّه في قالب مثالي، وإنّ الثواب والعقاب هناك مثاليّان، وليسا بمادّيين.
أمّا بالنسبة إلى المستوى، فشتّان بين مستوى عالم النوم ومستوى عالم البرزخ، وما مستوى عالم النوم إلّا نموذج مصغّر لإتمام الحجّة على الإنسان؛ ليعرف ويحسّ أنّ هناك عالماً غير عالم المادّة، وأنّ هناك عالماً يمكن أن يثاب الشخص فيه أو يعقاب، وهذا العالم عالم لا نراه بأعيننا المادّية، وعندئذٍ فإنّ روح الإنسان ستكون فيما بعد الموت في قالب يُسمَّى بـ (القالب المثالي)، وهو أشبه شيء بقالبه الجسماني، إلّا أنّه ليس مادّة، كما أنّ الثواب والعقاب سيكون من سنخ عالم المثال وقالبه.
ويشهد لما ذكرناه _ من تصوّرٍ عن حقيقة الموت والبرزخ _ عدّةُ طوائف من الآيات والروايات على اختلاف؛ إذ توضّح حقيقة عالم البرزخ ومنهجته، ومن جملة تلك الطوائف:
الطائفة الأُولى: هي الروايات الصريحة التي تبيّن موطن الروح ومسكنها فيما بعد الموت؛ إذ تقول: إنّ أرواح الناس تحلّ في قوالب مثالية تشبه القوالب المادّية التي نعشيها هنا في هذا العالم.
وهذه الطائفة من الروايات عديدة واردة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، نذكر منها كنموذج:
1_ عن أبي ولّاد الحنّاط عن الإمام الصادق(عليه السلام)، قال: «قلت له: جعلت فداك، يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش، فقال: لا، المؤمن أكرم على اللّه من أن يجعل روحه في حوصلة طير، ولكن في أبدان كأبدانهم»(1). يعني: في أبدان شبيهة بأبدانهم الدنيوية. وهذا ما يُسمَّى بالقالب المثالي.
2_ عن الإمام الصادق(عليه السلام): «... فإذا قبض اللّه(عز وجل) المؤمن صيَّرَ تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا (يعني: في قالب مثالي)، فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم، عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا»(2). يعني: أنّ الموتى المؤمنين الذين ذهبوا إلى ربّهم في فترة سابقة يعرفون الموتى الجُدُد الذين يقدمون عليهم؛ وذلك لأنّ أرواحهم قد دخلت في قوالب مثالية تشبه القوالب المادّية (الدنيوية)، وباعتبار أنّهم شاهدوهم في الحياة الدنيا قبل الموت، فإنّهم يعرفونهم بأسمائهم
(1) الكافي، ج3، ص244، باب آخر في أرواح المؤمنين من كتاب الجنائز، ح1.
(2) المصدر السابق، ص245، ح6.
إن قدموا عليهم؛ إذ يرون أنّ أشكال هذه القوالب المثالية كأشكال القوالب المادّية (الدنيوية).
3_ عن الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً، قال: «إنّ الأرواح في صفة الأجساد (يعني: أنّها تتقولب بقالب الأجساد، أي: إنّها تدخل قالباً مثاليّاً كالقالب المادّي) في شجرة في الجنّة تعارف (أي: يعرف بعضهم بعضاً، فيتعارفون) وتساءل، فإذا قدمت الروح على الأرواح (يعني: عندما يموت مؤمن جديد كان إلى الآن حيّاً) يقول: (أي: يقول أحدهم) دعوها؛ فإنّها قد أفلتت من هول عظيم (يعني: سَكْرة الموت). ثم يسألونها (يعني: أنّهم يسألون هذه الروح القادمة عليهم عن إخوانهم وأصحابهم ومعارفهم): ما فعل فلان، وما فعل فلان؟ فإن قالت لهم: تركته حيّاً، ارتجوه (أي: يرجون أن يكون في المستقبل معهم، فيأتيهم، ويدخل رحمة الربّ، فمادام ذلك الإنسان حيّاً، فإنّهم ينتظرون قدومه، ويقولون: إن شاء اللّه يأتينا، وتختم عاقبته بخير)، وإن قالت لهم: قد هلك (أي: مات)، قالوا: قد هوى هوى»(1). أي: تلف وهلك؛ وذلك لأنّهم يرون أنّه لم يأتِ إليهم، ولم يقدم عليهم، فيفهمون أنّه قد ذهب إلى مسلك العذاب.
(1) الكافي، ج3، ص244، باب آخر في أحوال المؤمنين من كتاب الجنائز، ح3.
الطائفة الثانية: هي الروايات(1) التي تتضمّن المساءلة في القبر، فتقول هذه الروايات: إنّ سؤال القبر خاصّ بمن محض الإيمان محضاً، وبمن محض الكفر محضاً، أي: إنّ المؤمن الخالص هو الذي يُسأل، وأنّ الكافر الخالص في كفره أيضاً هو الذي يُسأل، وأمّا مَنْ عداهما، فالرواية تقول: «وأمّا ما سوى ذلك، فيلهى عنهم»(2). فكأنّهم يُتْرَكون إلى يوم يُبْعَثون.
كما أنّ هذا النمط من الروايات يشير إلى أنّ عالم الموت أو عالم البرزخ كعالم الرؤيا وكعالم النوم، فكما أنّ قسماً من النائمين يبدو كأنّه متروك في عالم النوم، فلا يَحُسّ بعذاب أو نعيم، وأنّ قسماً منهم يتنعّم في عالم النوم أو يتعذّب، كذلك في عالم البرزخ، فمن محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً، يأتيه منكر ونكير، ويسألانه عن عقائده، وقد يكون عن أعماله أيضاً، أمّا ما عداهم، فيلهى عنهم.
فهذا يشير إذاً إلى نفس الفكرة التي استنبطناها من الآيات والروايات.
(1) المصدر السابق، ص235، باب المسألة في القبر ومن يسأل ومن لا يسأل من كتاب الجنائز.
(2) المصدر السابق، ح2.
الطائفة الثالثة: هي قوله تعالى: ﴿... وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾(1).
فقوله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا﴾ لا يلائم يوم القيامة، وإنّما يلائم عالم البرزخ، فكأنَّ آل فرعون _ كما يبدو _ لا يدخلون النار في عالم البرزخ كما يدخلونها في يوم القيامة، وإنّما يُعْرَضُون عليها غدوّاً وعشيّاً، وكأنَّ اللّه تعالى يفتح _ كلّ غداة وعشيّ _ باباً من نار جهنّم على مقابرهم ومآويهم، فتدخل عليهم آثارها، فيَحُسّون بأنّ هذا هو المحلّ الذي هُيّئ لهم، وهو الذي سيدخلونه في يوم القيامة، وعندئذٍ تصدق الرواية التي تقول: «القبر روضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حُفَر النار»(2).
كما تشير الآية المباركة إلى فكرة أنّ العذاب في عالم البرزخ هو عذاب مثالي.
وفي القرآن الكريم آيةٌ بشأن قوم نوح الذين أُغرقوا ظاهرةٌ في أنّهم في عالم البرزخ يُعذَّبون بالنار، وهي قوله تعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا
(1) المؤمن: 45 _ 46.
(2) بحار الأنوار، ج6، ص218، باب أحوال البرزخ والقبر...، ح13.
فَأُدْخِلُوا نَاراً...﴾(1)، وهي: إمّا أن تُحْمَل على نارٍ برزخية، وليست النار المادّية الأُخروية، أو تُحْمَل على أنّها ناظرة إلى عالم الآخرة، وإنّما صِيْغَت بصياغة مناسبة لما تحقّق ووقع بنكتة: أنّ المستقبل المحقّق الوقوع يكون بمنزلة الواقع.
الطائفة الرابعة: هي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبَّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّٰهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّٰهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(2).
فهذه الآية المباركة تؤيّد التصوّر الذي طرحناه عن عالم البرزخ؛ إذ إنّها تقول: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبَّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، فما معنى: أنّ الشهداء ليسوا أمواتاً، في حين أنّنا نعتقد بأنّ الكلّ أحياء، وأنّ الروح لا تموت؛ لأنّ الإنسان خُلِقَ للبقاء لا للفناء، أمّا الأجساد فإنّها تموت سواءٌ كانت لشهيد أم لغير
(1) نوح: 25.
(2) آل عمران، 169 _ 171.
شهيد، فالشهيد والذي مات حتف أنفه ميِّتان بلحاظ الجسم، وهما حيّان بلحاظ الروح، فما معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبَّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾؟ وأيُّ امتياز للشهيد؟ وما معنى كون الشهداء أحياء؟ وهل يعني هذا: أنّ غيرهم ليسوا بأحياء؟
وهنا أقوال، والذي يبدو أنّ الآية تشير إلى سنخ من الحياة ذات درجات ومراتب؛ لأنّنا خُلِقْنا للبقاء لا للفناء، وأنّ الروح لا تموت، ولكن إذا تكلّمنا عن عالم كعالم الطيف، عن عالم البرزخ، عن عالم المثال، فإنّه يصحّ أن نقول: إنّ الحياة لها درجات، فكما أنّ عالم النوم ذو درجات ومراتب؛ إذ لا يرى بعض النائمين طيفاً، وكأنّه لا يَحُسّ بشيء، في حين أنّ بعضهم الآخر _ أو نفس ذلك البعض في زمان آخر _ يرى طيفاً مفصّلاً كأنّه المستيقظ الذي يمشي ويذهب ويتكلّم، كذلك الحال بالنسبة إلى حالة المثال التي سُمَّيت بـ (حالة البرزخ)؛ فإنّها ذات درجات ومراتب، فمنهم _ كما قالت الرواية السابقة _ من يلهى عنه، ومنهم من ينعّم، أو يعذّب.
أمّا الشهداء بالذات، فإنّهم لا يلهى عنهم، بل إنّهم يعطون مستوىً
من الحيويّة والرزق لا يعطيان للآخرين. وبهذا الشكل نتصوّر معنى الآية السابقة.
وتأييداً لهذا التصوّر الذي ذكرناه عن عالم البرزخ نذكر كلاماً لأبي ذر الغفاري، ذلك الصحابي الجليل الذي لابدّ أن يكون قد أخذ تصوّره عن الرسول(صلى الله عليه وآله) حيث قال: «يا مبتغي العلم، لا يشغلك أهل ولا مال عن نفسك، أنت يوم تفارقهم كضيف بتّ فيهم، ثم غدوت عنهم إلى غيرهم، والدنيا والآخرة كمنزل تحوّلتَ منه إلى غيره، وما بين الموت والبعث إلّا كنومة نمتها، ثم استيقظت منها...»(1).
إنّ الإنسان في ساعة الموت (ساعة الاحتضار)، يَحُسُّ بأنّ وقته قد انتهى، وأنّه سيرتحل في تلك الساعة، فإذا ما نظر إلى سنوات عمره التي عاشها حتّى لو فرضنا أنّها كانت آلافاً، فإنّه يراها كأنّها طرفة عين انتهت، وكأنّها يوم انتهى أو بعض يومٍ مضى، وكأنّه كان ضيفاً في بيت وهو الآن يرتحل إلى محلّه الذي هُيّئ له.
«وما بين الموت والبعث...»، هذا هو الشاهد، و (ما) هنا نافية، والمعنى: أنّه ليس بين الموت والبعث إلّا كنومةٍ نمتها، ثم استيقظت منها.
(1) الكافي، ج2، ص134، باب ذمّ الدنيا والزهد فيها من کتاب الإیمان والکفر، ح18.
كلمات ثلاث
وفي ختام هذا البحث أذكر ثلاث كلمات مستفادة كلّها من الروايات:
الكلمة الأُولى: بشارة للشيعة
وهي الرواية التي تثبت مستوى حياة الشهداء الذي ذكرناه آنفاً لكلّ الشيعة، فعن أبي بصير، عن الصادق(عليه السلام) قال: قال لي: «يا أبا محمد إنّ الميّت منكم على هذا الأمر شهيد. قال: قلت: وإن مات على فراشه؟ قال: إي والله وإن مات على فراشه حيّ عند ربّه يرزق»(1).
«على هذا الأمر» أي: على معرفة أهل البيت(عليهم السلام)، فكلّ من مات على معرفة أهل البيت(عليهم السلام) فهو شهيد.
وليس المقصود بهذه الرواية طبعاً أنّ هذا الشيعي الذي مات حتف أنفه، وذاك الشيعي الذي قتل في سبيل اللّه هما سواء؛ إذ إنّه من الطبيعي أن لا يكونا سواء، فالذي يقتل في سبيل اللّه له درجات لا ينالها الذي يموت حتف أنفه، وإنّما المقصود التشبيه في عنوان أنّه «حيّ عند ربّه يرزق»، وأنّ حالة الحياة هذه موجودة لكلّ الشيعة، وليست مقصورة على من يقتل فقط.
(1) الكافي، ج8، ص146، حديث محاسبة النفس من کتاب الروضة، ح120.
الكلمة الثانية: بشارة وإخطار
وأمّا ما يكون بشارةً وإخطاراً في وقت واحد، فهو مضمون بعض الروايات التي تقول: إنّ الأئمّة(عليهم السلام) يقولون للشيعة: نحن نكفل وضعكم يوم القيامة، وننجّيكم من عذاب جهنّم، ولكن نخشى عليكم من عالم البرزخ؛ فإنّنا في عالم البرزخ لا نعمل أيّ شيء لكم، وأنتم يجب أن تقوا أنفسكم من عذاب البرزخ(1).
فهذه الروايات تكون بشارةً من ناحية، وتكون إخطاراً من ناحية أُخرى؛ إذ إنّها تبشّرنا بأنّ الأئمّة(عليهم السلام) سينجّوننا _ إن شاء اللّه تعالى _ من عذاب اللّه في يوم القيامة، وتُخْطِرنا في نفس الوقت بأنّ عالم البرزخ ليست فيه شفاعة.
الكلمة الثالثة: إخطار
وأمّا الإخطار فقد ورد كلام عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) يخاطب به كميل بن زياد(رحمه الله)، فيقول: «يا كميل؛ إنّه مستقرّ ومستودَع، فاحذر أن تكون من المستودعين، يا كميل، إنّما تستحقّ أن تكون مستقرّاً إذا لزمت
(1) المصدر السابق، ج3، ص242، باب ما ينطق به موضع القبر من کتاب الجنائز، ح3
الجادّة الواضحة التي لا تخرج إلى عِوج، ولا تزيلك عن منهج ما حملناك عليه وما هديناك إليه»(1).
فالإيمان إذاً قسمان: مستقرّ، ومستودَع.
«فاحذر أن تكون من المستودعين» أي: احذر أن يكون إيمانك إيماناً غير مستقرّ، ويكون إيماناً مستودعاً قد يُؤْخَذ منك في سكرات الموت.
وأمّا المقياس في معرفة كون الإيمان مستقرّاً أو مستودعاً، فهو قوله(عليه السلام): «إنّما تستحقّ أن تكون مستقرّاً إذا لزمت الجادّة الواضحة التي لا تخرجك إلى عِوج، ولا تزيلك عن منهج ما حملناك عليه وما هديناك إليه»، أي: إنّ الإيمان حينما يكون محض اعتقاد عقلي، ودون أن يجري العمل على وفقه، فهناك توجد خشية أن يكون الإيمان مستودعاً، وهذه الوديعة قد تُؤْخَذ منه _ لا سمح اللّه _ في ساعة الموت وسَكْرته. وأمّا حينما يكون الإنسان قد لزم الجادّة الواضحة بحسب الرواية، وحينما يكون العمل مطابقاً للاعتقاد، فإنّ الإيمان سيستقرّ حينئذٍ في القلب، ولا تكون هناك خشية على تزلزله ساعة الموت.
وهناك رواية أُخرى عن المفضّل، عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال:
(1) بشارة المصطفى لشيعة المرتضى، ص28.
«إنّ الحسرة والندامة والويل كلّه لمن لم ينتفع بما أبصر، ولم يدرِ ما الأمر الذي هو عليه مقيم، أ نَفع له أم ضُرّ. قلت له: فبمَ يُعْرَف الناجي من هؤلاء جُعلت فداك؟ قال: من كان فعله لقوله موافقاً، فأُثبِتَ له الشهادة بالنجاة، ومن لم يكن فعله لقوله موافقاً، فإنّما ذلك مستودع»(1).
«فإنّما ذلك مستودع» أي: إنّ الإيمان مستودع.
وقد ينسب إلى البعض أنّه: ليس إذا كان إيمان الإنسان مستودعاً، فإنّه سيؤخذ منه حتماً في أثناء النزع، وإنّما المقصود هو أنّه لابدّ أن يبقى دائماً في حالة خوف، ومن المحتمل أن تؤخذ منه هذه الوديعة (الإيمان) في حالة النزع، ومن المحتمل أيضاً أن يتفضّل اللّه تعالى عليه بإبقائها في قلبه، في حين أنّ المستقرّ مضمون البقاء، ولا يؤخذ منه.
أُمور قد تكون خارجة من عالم الشفاعة
وممّا تقدّم ومن بعض الآيات والروايات قد يستفاد أنّ هناك أُموراً خارجة من عالم الشفاعة، ولابدّ لنا من أن نهيّئ أنفسنا لها في الأقلّ:
الأمر الأوّل: عالم البرزخ، فهو قد يكون خارجاً من منطقة الشفاعة؛
(1) الكافي، ج2، ص419، باب في علامة المعار من کتاب الإيمان والکفر، الحديث الوحيد في الباب.
ولذا علينا أن نقي أنفسنا من عذاب اللّه تعالى بأعمالنا.
الأمر الثاني: مسألة كون الإيمان مستودعاً، فهذه المسألة خارجة من منطقة الشفاعة؛ فإنّ إيمان الإنسان الذي يعصي كثيراً، ويخالف اللّه سبحانه باستمرار، إذا أصبح عارية لديه وأمانة عنده، فإنّه من المحتمل أن تُؤْخَذ منه هذه الأمانةُ في ساعة سكرات الموت، ولو أُخِذَت منه _ لا سمح اللّه _ وذهب كافراً، لم تلحقه الشفاعة طبعاً؛ لأنّ الشفاعة خاصّة بالمؤمنين فقط، وهذا هو الذي يُسمَّى بـ (سوء العاقبة)، وهذا هو الذي يجب أن نتعوّذ منه باللّه تعالى دائماً، ونطلب منه سبحانه أن يُعيذنا من ذلك، ويجب أن نعمل في سبيل أن لا نُبتلى بسوء العاقبة.
الأمر الثالث: مسألة الحساب، فهي خارجة أيضاً من الشفاعة؛ فإنّ اللّه سبحانه سيحاسبنا _ لا محالة _ في يوم القيامة على كلُّ صغيرة وكبيرة، قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾(1).
وقال سبحانه: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي
(1) الأنبياء: 47.
صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّٰهُ إِنَّ اللّٰهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾(1).
وقال عزّ ذكرُه: ﴿... وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّٰهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذَّبُ مَن يَشَاءُ...﴾(2).
فالحساب يكون حتّى على النيّات المحضة التي لا تنتهي إلى عمل كما في هذه الآية المباركة، وإن كانت تعفى عن العقاب كما في بعض الروايات، إذاً لا يمكن أن ننجو من الحساب بواسطة الشفاعة.
وختاماً أُلفت النظر إلى ما قد يَنْجُم عن الحساب في يوم القيامة _ لا سمح اللّه _ ممّا قد يكون أشدّ من العذاب المادّي على الإنسان الذي يَشْعُر بكرامته وعزّه اللَذين ألبسهما اللّه تعالى إيّاه في هذه الدنيا، ألا وهي مسألة الفضيحة.
فدعنا عن النار، ودعنا عن جهنّم، ولكن إذا حلَّ المحشر، وحضرنا جميعاً إلى حساب اللّه سبحانه، وحضر كلّ العالم من زمان أبينا آدم(عليه السلام) إلى آخر يوم من الدنيا، وحُشِرَ كلّ الناس، ووقفوا للسؤال بين يدي رحمته، فإنّ الآيات تقول: إنّ الأرض تشهد على المذنبين وتفضحهم،
(1) لقمان: 16.
(2) البقرة: 284.
كما تشهد عليهم أعضاؤهم والملائكةُ الكَتَبةُ والكتابُ المكتوبُ عليهم... فعندئذٍ، وفي حالة من هذا القبيل كيف يكون حال المذنب؟!
أليست هذه الحالة بالنسبة إلى الإنسان الغيور تكون أشدّ عليه من عذاب النار؟!
نعم، إنّ الإنسان إذا وقف إزاء أخيه الأكبر أو قبال أحد العلماء ليحاسبه على خطأ من أخطائه، فإنّه يتمنّى لو تنشقّ الأرض وتبتلعه؛ لكي لا يواجه هذا الإنسان الذي يحاسبه، فكيف إذا كانت المواجهة مع ربّ العالمين؛ ليحاسبه على كلّ ذنوبه وجميع قبائحه، وعلى مرأى من الناس ومسمع بما فيهم الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام) والصالحون؟!
قال تعالى: ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقَّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(1).
فاللّه سبحانه وتعالى لم يقل: (كنّا نكتب)، وإنّما قال: ﴿كُنَّا نَسْتَنْسِخُ﴾.
تُرى هل هناك شبه تصاوير التلفاز مثلاً يؤتى بها إلينا في يوم
(1) الجاثية: 28 _ 29.
القيامة لنرى أعمالنا؟!
وماذا يكون حالنا عندما نرى هذه الأُمور؟!
وقال سبحانه: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّٰهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللّٰهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾(1).
﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ﴾ يعني ليس هناك من حاجة أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم وجلودكم، فأنا ربّكم، وكنت أرى ما تفعلون، وكنتم لا تستطيعون أن تستتروا عنّي حين العصيان، فكنتم تعصون وأنا أُشاهدكم ﴿وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللّٰهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
(1) فصّلت: 20 _ 22.