دور القضاء والقدر
⬤ الإشكال من الناحية الفلسفية
⬤ الإشكال من ناحية السُنن التاريخية
⬤ الإشكال من ناحية الأدلّة النقلية
دور القضاء والقدر
يرتبط القضاء والقدر بمسألة سُنَن التاريخ، كما يرتبط بأعمال الفرد بما هو فرد. ولا إشكال في تأثّر سُنَن التاريخ بـالقضـاء والقدر، بـل هي مصـنوعة بهـما، ولـكن هـل يحتّمان عليه سيراً خاصّاً بحيث لا يترك أيّ موطئ قدم للبشرية وإرادتها؟
كما أنّه لا إشكال أيضاً في تأثّر عمل الفرد بالقضاء والقدر، ولكن هل يؤثّران به تأثيراً يجعل الشقيَّ شقيّاً شاء أم أبى، والسعيد سعيداً شاء أم أبى، ولا يبقى لنشاط الإنسان أيُّ تأثير بحياته وعاقبته الدنيوية والأُخروية؟
ويطرح هذا السؤال على مبدأ القضاء والقدر من عدّة زوايا:
الأُولى: من زاوية البحث الفلسفي، أي: البحث العقلي، فيقال: هل
من المعقول أن تنفكّ مسيرة الإنسان (الفرد أو المجتمع) من مبدأ القضاء والقدر المحتوم الذي يُسيّر البشرية ولا يبقي مجالاً لتأثير إرادتها فيه؟
وقد تمّ بحث هذا الإشكال من هذه الزاوية بشكل واسع ومفصّل في الكتب الكلامية.
الثانية: من زاوية ما ادّعي من أنّ للتاريخ سُنّةً إلهية لا تتبدّل ولا تتغيّر ﴿... وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّٰهِ تَبْدِيلاً﴾(1)، ﴿... وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّٰهِ تَحْوِيلاً﴾(2).
فإذا ما انطلقنا من منطلق أنّ السُنّة الإلهية تتحكّم في التاريخ، فسنواجه نفس الإشكال المتقدّم الذي اعترضنا فلسفيّاً، وهو أنّه إذا كانت السُنّة الإلهية لا تتبدّل ولا تتغيّر تاريخيّاً، فلا مجال لإرادة الإنسان في أن تؤثّر به.
الثالثة: من زاوية الآيات والروايات الواردة في القضاء والقدر، أي: من زاوية الأدلّة النقلية، فيقال: إنّ الآيات والروايات قد أكّدت حتميّة وضرورة القضاء والقدر الإلهيّين، وعندئذٍ لا يبقى أيُّ مجال لتأثير الإرادة البشرية.
(1) الأحزاب: 62.
(2) فاطر: 43.
وبناءً على كلّ ما تقدّم، فلماذا هذه المشقّة في سبيل تربية البشرية فرديّاً واجتماعيّاً؟ ولماذا هذا العمل الدؤوب في سبيلها؟ ولماذا لا ندع الأشياء تسير على وفق القضاء والقدر الإلهيّين؟
هذا هو أصل الإشكال، إلّا أنّه يطرح من زوايا مختلفة.
ولا نريد هنا أن ندخل في بحث هذا الإشكال من الزاوية الفلسفية أو من زاوية السُنن الإلهية للتاريخ، وإنّما نريد بحثه من الزاوية الثالثة فقط، إلّا أنّنا سنشير إلى الزاويتين الأُولى والثانية إشارة عابرة لكي نستوعب زوايا البحث.
الزاوية الأُولى: الإشكال من الناحية الفلسفية
هناك شبهتان أساسيّتان تعتبران من أهمّ الشبهات المطروحة من هذه الزاوية (الفلسفية والعقلية)، وهما:
1_ مسألة علم اللّه تعالى
حيث يقال: لو كان اللّه عليماً بكلّ شيء _ كما نعتقد _ لأصبحنا مجبورين على أن نعمل على وفق ما يعلمه اللّه تعالى؛ إذ إنّنا لو عملنا بشكل آخر مخالفٍ لعلم اللّه تعالى، لأصبح علم اللّه جهلاً، وتعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً.
وقد اعتاد علماؤنا الجواب عن هذه الشبهة: بأنّ العلم لا يؤثّر في تحقّق المعلوم.
فصحيح أنّ اللّه تعالى يعلم أنّ هذا الشقي سيشقى، إلّا أنّ علم اللّه لا يؤثّر في المعلوم، أي: إنّ نسبة العلم إلى المعلوم لا تكون كنسبة العلّة إلى المعلول على حدّ تعبير الفلاسفة، فربّما نعلم أنّ فلاناً سيعود من السفر بعد يومين، ولكن علمنا هذا لا يؤثّر أبداً في عودته، ولا يكون سبباً فيها، بل إنّ المعلوم هو الذي أوجد العلم عندنا، فنحن إنّما علمنا بأنّه سيعود لأنّه سيعود فعلاً.
وعلى هذا فإنّ اطّلاع اللّه سبحانه وتعالى على الأُمور وعلمه بها لا يؤثّر في عمل الإنسان ومسيرة حياته، ولا يعني أنّه مجبور على أن يفعل على وفق علم اللّه تعالى.
2_ شبهة العلّة والمعلول
إذ قال الفلاسفة: ما من شيء من الممكنات إلّا وله علّة، فقد قسّموا الوجود إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: وجود واجب، وهو اللّه تعالى لا غير.
القسم الثاني: وجود ممتنع، كاجتماع المتناقضين والمتضادّين، وكشريك الباري.
القسم الثالث: وجود ممكن، أي: يمكن أن يكون، ويمكن أن لا يكون.
وقالوا: إنّ الممكن لا يقع إلّا إذا تحقّقت علّته، وإذا تحقّقت علّته، فإنّه لا يمكن أن لا يقع، بل إنّه يقع حتماً؛ لأنّ انفكاك المعلول من علّته مستحيل.
وبناءً على هذا قالوا: إنّ فعل البشر وجود من الوجودات، أي: إنّ لهذا الفعل وجوداً، وإنّ هذا الوجود ليس واجباً، وإنّما هو ممكن الوجود؛ ولذا فإنّه لا يقع إلّا إذا تحقّقت علّته، وإذا تمّت علّته يجب أن يتحقّق، وهذا هو عين الجبر، ومعناه: فقدان الإرادة.
وهناك جوابان عن هذه الشبهة: أحدهما معروف ومذكور في الكتب، والآخر مورث عن أُستاذنا الشهيد(قدس سره):
أمّا الجواب الذي اعتاده علماؤنا؟رحهم؟، فهو: صحيح أنّ العلّة لا تنفكّ من المعلول، وصحيح أنّ فعل البشر وجود من الوجودات، وهو بحاجة إلى علّة، ولكن علّته لم تُوْجِد هذا الفعل مباشرة وبشكل مستقلّ عن الإرادة، بل إنّها أوجدت الإرادة والفعل، أي: إنّ علّة الفعل هي التي جعلت الإنسان يريد فيفعل.
فالإرادة إذاً حلقة من الحلقات الداخلة في وجود الفعل، أي: إنّ علّة الفعل تَخْلُق في نفس الإنسان الإرادة قهراً واضطراراً، وإذا خُلِقَت
الإرادة في النفس حصل الفعل؛ لأنّ المراد لا ينفك من الإرادة في القضايا الاختيارية، وعليه مادام الفعل ينتهي إلى الإرادة فالأفعال ليست قهرية وجبرية، بل هي اختيارية.
إلّا أنّ أُستاذنا الشهيد(قدس سره) لم يرتضِ هذا الجواب، وقال: إنّ هذا يُبقي إشكال الجبر بشكل مبطّن، ولم يُنهه تماماً؛ وذلك لأنّ الإنسان إذا كان مجبوراً على أن يريد، وأنّ الفعل لا يتخلّف عن الإرادة أبداً، وأنّه يتحقّق بمجرّد حصولها بلا اختيار، فإنّ هذا هو عبارة أُخرى عن الجبر، وأنّ مجرّد وجود حالة اسمها الإرادة لا تحلّ المشكلة، أي: مشكلة الجبر.
ومن هنا أجاب أُستاذنا الشهيد(قدس سره) بإبطال مبنى أنّ الشيء لا يوجد بلا علّة بالمعنى الفلسفي، وبيَّنَ أنّ القول: إنّ الشيء لا يوجد إلّا بعلّة إنّما يصحّ في الأُمور التكوينية فقط، من قبيل احتراق جسم مّا بالنار، أمّا في الأفعال الإرادية التي تصدر عن إرادة كالعمل الحسن والعمل القبيح، فإنّها لا تنبع من علّة، وإنّما تنبع من منبع آخر غير منبع العلّة، سمّاه أُستاذنا الشهيد بـ (منبع السلطة والقدرة). وبهذا تنحلّ مشكلة الجبر.
الزاوية الثانية: الإشكال من ناحية السُنن التاريخية
وقد أجاب أُستاذنا(قدس سره) عن الإشكال القائل: لو كانت سُنَن التاريخ موضوعة من قِبَل اللّه تعالى كما تدلّ عليه بعض الآيات من قبيل قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّٰهِ تَبْدِيلاً﴾ لما بقي إذاً للإنسان مجالٌ لأن يصنع تاريخه، بل إنّه يصبح حينئذٍ كمّية مهملة لا تدخل في الحساب.
إذ ذكر أنّ سُنَن التاريخ في الأعمّ الأغلب ليست ناجزة كالسنن التكوينية، من قبيل أنّ النار تحرق، وإنّما هي قضايا شرطية تشتمل على الشرط والجزاء، فالسنّة التاريخية التي تقول: ﴿... إِنَّ اللّٰهَ لَا يُغَيَّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...﴾(1) لا تعطينا قضية ناجزة، وإنّما تقول: إن غيّرتم أنفسكم من الشرّ إلى الخير، فأنتم منتصرون، وإن غيّرتم أنفسكم من الخير إلى الشرّ، فأنتم منكسرون.
وعلى هذا فإنّ سُنّة التاريخ لا تتنافى مع الاختيار والإرادة؛ لأنّها تضع أمامنا شرطاً وجزاءً، ويكون الشرط تحت أيدينا، فإن أوجدناه يوجد الجزاء، وإن لم نوجده لم يوجد الجزاء، وهذه حالها حال القضية الشرطية القائلة: إن وضعتَ الماء على النار غلى، فإنّ هناك شرطاً
(1) الرعد: 11.
وجزاءً، وإرادة الإنسان هي التي تتحكّم بالحساب، فإن أوجد الشرط تحقّق الجزاء، وإلّا فلا.
فسُنَن التاريخ حينما تكون ناجزة فإنّها تخالف الإرادة والاختيار، من قبيل سُنّة الكسوف وسُنّة الخسوف، وأمّا حينما تكون على نحو القضية الشرطية فإنّها لا تنافي الإرادة والاختيار، بل إنّها تؤكّد الإرادة، فلولا القضايا الشرطية، لما استطاع البشر أن يصنع شيئاً، وقد استطاع الإنسان أن يحقّق ما يريد من أهداف وأغراض؛ لأنّ اللّه تبارك وتعالى قد خلق في العالم قضايا شرطية، وجعل شروطها بيد الإنسان ليحقّق جزاءها.
الزاوية الثالثة: الإشكال من ناحية الأدلّة النقلية
وهذه هي الزاوية التي أردنا بحثها؛ إذ إنّنا حينما ننظر إلى الآيات والروايات نرى أنّها قد توحي إلى ذهن الإنسان الساذج مشكلةَ الجبر، وأنّه لا مجال للإنسان في سير التاريخ ولا في أعماله الشخصية، بل إنّ الأُمور تجري على وفق ما قدّره اللّه وقضاه.
ولو أردنا أن نصنّف الآيات والروايات الواردة بهذا الصدد، لوجدنا أنّها تعود في الأكثر إلى سبع طوائف، وقد تكون أكثر من ذلك، وهذه الطوائف هي:
1_ ما ورد في القضاء بشكل عامّ.
2_ ما ورد في الرزق بشكل خاصّ.
3_ ما ورد في موت الأُمّة بشكل خاصّ.
4_ ما ورد في موت الفرد بشكل خاصّ.
5_ ما ورد في الشهادة والقتل بشكل خاصّ.
6_ ما ورد في الهداية والضلال بشكل خاصّ.
7_ ما ورد في فعل البشر بشكل خاصّ.
وسنشير إلى كلّ قسم من هذه الأقسام بنموذج:
أوّلاً: ما ورد في القضاء والقدر بشكل عامّ
قال تعالى: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾(1).
والمعنى هو: أنّ اللّه تعالى يقدّر الأُمور في ليلة القدر لكلّ فرد ولفترة سنة من الزمان، ولهذا فإنّه يقال: إنّه لا يبقى مجال لتأثير الإرادة البشرية.
أمّا بالنسبة إلى الروايات، فقد ورد عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال في تفسير هذه الآية المباركة: «يقدّر في ليلة القدر كلّ شيء يكون في تلك
(1) الدخان: 1 _ 4.
السنة إلى مثلها من قابل خير وشرّ وطاعة ومعصية ومولود وأجل ورزق، فما قدّر في تلك السنة وقضي فهو المحتوم، وللّه(عز وجل) فيه المشيئة»(1).
وعنه(عليه السلام) أيضاً، وعن الإمام الصادق(عليه السلام)، وعن الإمام الكاظم(عليه السلام) أنّهم قالوا: «يقدّر اللّه (في ليلة القدر) كلّ أمر من الحقّ والباطل، وما يكون في تلك السنة، وله فيه البداء والمشيئة، يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض، ويزيد فيها ما يشاء، وينقص ما يشاء، ويلقيه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) إلى أمير المؤمنين(عليه السلام)، ويلقيه أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى الأئمّة(عليهم السلام) حتّى ينتهي ذلك إلى صاحب الزمان(عليه السلام)، ويشترط له ما فيه البداء والمشيّة والتقديم والتأخير»(2).
ثانياً: ما ورد في الرزق بشكل خاصّ
قال تعالى: ﴿...لَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ...﴾(3)، حيث كان قتل الأولاد متعارفاً في الجاهلية خشية الفقر.
وقال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ
(1) البرهان في تفسير القرآن، ج5، ص11، ح2.
(2) تفسير القمّي، ج2، ص290.
(3) الأنعام: 151.
وَإِيَّاكُمْ...﴾(1).
وقال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللّٰهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا...﴾(2).
وقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِن رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللّٰهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾(3).
وعلى هذا فإنّه قد يقال: إذا كان الرزق على اللّه تعالى، فما هو أثر طلبنا له؟ ولماذا نعمل ونكدّ ونجهد في سبيل تحصيله؟
ثالثاً: ما ورد في موت الأُمّة بوصفها أُمّة بشكل خاصّ
وهذا هو الذي شرحه أُستاذنا الشهيد(قدس سره)، فقال: إنّ للأُمّة حياةً وممات كما للفرد، قال تعالى: ﴿وَلِكُلَّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾(4).
(1) الإسراء: 31.
(2) هود: 6.
(3) الذاريات: 56 _ 58.
(4) الأعراف: 34.
وقال(عز وجل): ﴿... لِكُلَّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾(1).
فهاتان الآيتان قد تكونان ظاهرتين في التكلّم عن موت الأُمّة بوصفها أُمّة.
فموت الأُمّة إذاً رُبِطَ بساعة محدّدة وأجل محتوم لا يتقدّم ولا يتأخّر.
رابعاً: ما ورد في موت الفرد
قال تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّٰهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخَّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾(2).
فهذه الآية في أكبر الظنّ ناظرة إلى موت الفرد، وغير ناظرة إلى موت الأُمّة؛ إذ إنّ مقابلة الجمع بالجمع يفيد التوزيع كما يقول علماء الأُصول، فهي كالآية الكريمة ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ...﴾، فيكون المعنى: أنّ اللّه تعالى يؤخّر كلّ فرد من الأفراد إلى أجله المسمّى.
وقد ورد عن حمران بن أعين، عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال:
(1) يونس: 49.
(2) النحل: 61.
«سألته عن قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ﴾ قال: المسمّى ما سُمّي لملك الموت في تلك الليلة، وهو الذي قال اللّه: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾، وهو الذي سُمّي لملك الموت في ليلة القدر، والآخر له فيه المشيئة إن شاء قَدَّمه، وإن شاء أخّره»(1).
أي: إنّ الموت على قسمين: أحدهما حتمي، وهو الذي يُخبَرُ به ملك الموت في ليلة القدر، والآخر غير حتمي، وهو الذي لا يبلّغ به ملك الموت، ويمكن أن يدخله البداء.
وقال تعالى: ﴿لَهُ مُعَقَّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّٰهِ...﴾(2).
أي: إنّ للإنسان مَن يحفظه، وهناك ملائكة يحفظون الإنسان من الحوادث مادام أجله لم يَحِن بعد، ويبقى الأمر هكذا إلى أن يحين وقت أجله، فيترك العبد حينئذٍ.
وفي تفسير ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّٰهِ﴾ ورد عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه
(1) البرهان في تفسير القرآن، ج2، ص401، ح6.
(2) الرعد: 11.
قال: «بأمر اللّه من أن يقع في الرَّكي(1) أو أن يقع عليه حائط أو يصيبه شيء حتّى إذا جاء القدر خلّوا بينه وبينه یدفعونه إلی المقادير، وهما ملكان يحفظانه بالليل وملكان بالنهار يتعاقبانه»(2).
قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبَّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرَّطُونَ﴾(3).
أي: إنّ هناك حفظةً يحفظونكم وأنتم لا تعلمون، يحفظونكم من البلايا والمهالك مادام وقت الموت لم يَحِن بعد، فإذا جاء أجل الموت أحداً منكم، فإنّ الملائكة تتوفّاه.
خامساً: ما ورد في الشهادة والقتل بشكل خاصّ
فهناك ما يدلّ على أنّ الاستشهاد والقتل في سبيل اللّه تعالى مقدّر أيضاً بقدر، ومكتوب في حساب اللّه تعالى، وذلك من قبيل قوله
(1) البئر.
(2) البرهان في تفسير القرآن ، ج3، ص235، ح4.
(3) الأنعام: 60 _ 61.
تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُم مِنْ بَعْدِ الْغَمَّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّٰهِ غَيْرَ الْحَقَّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّٰهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّٰهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّٰهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾(1).
وهناك بيتان معروفان منسوبان إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) بشأن الموت بشكل عامّ سواءٌ كان بالقتل أم بغيره، وهما:
أيُّ يــومـيّ مـن المــوت أفـــرّ يـوم لـم يـقـدر أو يـوم قــدر
يوم لم يقدر لا أخشى الردى يوم قد قدّر لا يغني الحذر
سادساً: ما ورد في الهداية والضلالة
فهناك آيات كثيرة ظاهرها أنّ هذا مقدّر ومقضيّ في حساب اللّه تعالى، نختار منها كنماذج:
قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيَّنَ لَهُمْ
(1) آل عمران: 154.
فَيُضِلُّ اللّٰهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(1).
وقال سبحانه: ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّٰهَ لَا يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِن نَاصِرِينَ﴾(2).
وقال عزّ اسمه: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللّٰهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ...﴾(3).
وقال جلّ شأنه: ﴿أَفَمَنْ زُيَّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللّٰهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ...﴾(4).
وقال تبارك وتعالى: ﴿... كَذَلِكَ يُضِلُّ اللّٰهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ...﴾(5).
وقال عزّ من قائل: ﴿... وَمَن يُضْلِلِ اللّٰهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾(6).
وقال جلّ وعلا: ﴿مَن يَهْدِ اللّٰهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ
(1) إبراهيم: 4.
(2) النحل: 37.
(3) النحل: 93.
(4) فاطر: 8.
(5) المدثّر: 31
(6) النساء: 88.
هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾(1).
وقال تعالت أسماؤه: ﴿مَن يُضْلِلِ اللّٰهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ...﴾(2).
وقال(عز وجل): ﴿... وَمَن يُضْلِلِ اللّٰهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾(3).
وقد كُرِّرت هذه الآيةُ في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، كسورة الرعد، وسورة الزمر، وسورة غافر.
وقال تبارك اسمه: ﴿... مَن يَهْدِ اللّٰهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً﴾(4).
وقال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللّٰهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾(5).
سابعاً: ما ورد في فعل البشر
إذ يبدو من بعض الآيات أنّ القضاء والقدر يؤثّران بفعل البشر،
(1) الأعراف: 178.
(2) الأعراف: 186.
(3) الرعد: 33.
(4) الكهف: 17.
(5) القصص: 56
كما في قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّٰهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّٰهَ رَمَى...﴾(1).
فلو لاحظنا كلّ ما تقدّم من الآيات المباركات، ولاحظنا الروايات التي وردت على نسقها، لبدت شبهة موقع العنصر البشري واختياره؛ إذ إنّ الإرادة إذا ما سلبت عن الإنسان فإنّه يكون كالصفر على اليسار لا قيمة له، فلا يُثاب، ولا يُعاقب، ولا يُلام، ولا يُمدح....
وللجواب عن هذا الإشكال يمكن أن نستظهر من الآيات والروايات خمس نقاط تكوّن بمجموعها جواباً عنه:
الأُولى: ما ورد من الروايات التي تقسّم القضاء والقدر إلى قسمين:
1_ المحتوم الذي لا مردّ له.
2_ وغير المحتوم أو القضاء المعلَّق الذي يكون للّه فيه البداء.
وقد وردت الإشارة إلى هذه النقطة في بعض الروايات الواردة بخصوص ليلة القدر التي تقول: إنّ اللّه تعالى يُقدِّر فيها الأُمور كلَّها، من تلك الليلة إلى السنة الآتية من نفس الليلة، وإنّ قسماً من هذا القدر يكون محتوماً، وقسماً آخر يكون غير محتوم، ويرتبط بمشيئة اللّه تعالى وإرادته، فربّما يبدّل ويغيّر أو يقدّم أو يؤخّر، وإنّ اللّه تعالى يُخْبِر
(1) الأنفال: 17.
به نبيَّه(صلى الله عليه وآله)، والنبي يخبر الإمام(عليه السلام)، وكلّ إمام يخبر الإمام من بعده، وحتّى صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف) الذي يبقى مطّلعاً على كلّ هذه الأُمور، إلّا أنّه يقال له: إنّ القسم الفلاني قد يدخل فيه البداء، فيتبدّل ويتغيّر.
وهذا التقسيم بالنسبة إلى القضاء، والتفكيك بين المحتوم وغير المحتوم لعلّه يشير _ والعلم عند اللّه _ إلى الأُمور التي تتأثّر بإرادة الإنسان وبعمله. فلمّا كان الإنسان عنصراً حياديّاً تجاه الخير والشرّ، ليس مجبوراً على أحدهما، فإنّ الأُمور المقضية أو المقدّرة قد تقدّر بغضّ النظر عمّا سيفعله هذا الإنسان، وفي ضوء موقف الإنسان سيتبدّل القضاء.
وهناك الكثير من الروايات التي تشير إلى تأثير إرادة الإنسان وموقفه في القضاء، فقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إنّ رجلاً أتى النبي(صلى الله عليه وآله)، فقال له: يا رسول اللّه، أوصني. فقال له: فهل أنت مستوصٍ إن أنا أوصيتك؟ حتی قال له ذلك ثلاثاً، وفي كلّها يقول الرجل: نعم يا رسول اللّه. فقال له رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): فإنّي أُوصيك، إذا أنت هممت بأمر فتدبّر عاقبته، فإن يك رشداً فامضه، وإن يك غيّاً فانته عنه»(1).
(1) وسائل الشيعة، ج11، ص285، الباب33 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح1.
أي: عليك أن تلاحظ النتائج والعواقب، فإن كانت خيراً فأقدم، وإن كانت شرّاً فلا تقدم، وهذا يعني أنّ قضاء اللّه لم يتعلّق بالنتائج بشكل منفصل عن العمل الذي يعمله الإنسان. وتتّجه هذه الوصية إلى الأُمّة كما تتّجه إلى الأفراد بما هم أفراد.
كما ورد في روايات أُخر ما يدلّ على ذلك، فقد يكون من القضاء غير المحتوم أنّ الإنسان الفلاني سيموت في الساعة كذا، ولكن هذا الإنسان عندما يقوم بدفع الصدقة التي تدفع أمواج البلاء، أو يقوم بعمل الخير، أو صلة الرحم التي تزيد في العمر وما شابه ذلك، فإنّ القضاء والقدر يتبدّل ويتغيّر، وفي أكبر الظنّ أنّ هذا التبدّل والتغيّر إشارة إلى وجود العنصر البشري في الحساب وإلى إرادته واختياره، فالقضاء والقدر لا يجعل الإنسانَ مسلوب الإرادة وغير مؤثّر في مسيرته الشخصية وفي مسيرة الأُمّة.
وعلى هذا فإنّ الأُمور التي تدخل في نطاق القضاء غير المحتوم تقع في مسار عمل الإنسان، وأمّا الأُمور الخارجة عن مسار تأثير عمله، فتدخل في القضاء المحتوم.
ومن هنا فإنّ القضاء غير المحتوم يرتبط إلى حدّ كبير بما يصدر عن الفرد أو الأُمّة أو المجتمع، وإنّه يبقى غير محتوم ما لم يصدر ذاك العمل
الذي له الأثر في تعيين المسير، فإذا صدر العمل عن فرد أو أُمّة مّا، فإنّ القضاء سيصبح محتوماً.
الثـانية: الآيـات الـتي وردت بخصـوص الهـداية والضلال. فحينما ندقّق في الآيات القرآنية المباركة الواردة في الهداية والضلال نرى أنّ هناك قسماً من تلك الآيات قد نسبت الهداية والضلال إلى اللّه تعالى، ولكنّها أخذت في موضوع إرادة اللّه تعالى عنواناً راجعاً إلى البشر أنفسهم:
فقوله تعالى: ﴿...قُلْ إِنَّ اللّٰهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾(1) مثلاً قد نسب الهداية والضلالة إلى اللّه تعالى، ولكنّه أخذ في موضوع القضية عنوانَ ﴿مَنْ أَنَابَ﴾، أي: الذي ينيب إلى اللّه تعالى ويعود إليه ويلتجئ إليه فإنّ اللّه يهديه.
فمصدر الهداية إذاً هو من اللّه، ولكن موضوعها هو عمل هذا الإنسان، فإن لم ينب هذا الإنسانُ إلى اللّه تعالى، فإنّه سيضلّه، فلعمل الإنسان إذاً أثرٌ في ذلك.
وفي آية أُخرى: ﴿... وَيُضِلُّ اللّٰهُ الظَّالِمِينَ...﴾(2) أُخِذَ الظلم في
(1) الرعد: 27.
(2) إبراهيم: 27.
موضوع الإضلال، فلم يقل: (إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ) فقط، وإنّما قال: (يضلّ الظالم)، فقد أخذ سابقاً عنوان (الظلم) في موضوع الإضلال.
وفي آية أُخرى: ﴿... كَذَلِكَ يُضِلُّ اللّٰهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾(1) نـسـب الإضـلال إلى اللّه تـعـالى، ولـكن الإسراف والارتياب قد أُخذا في موضوع الإضلال.
وآية رابعة: ﴿... كَذَلِكَ يُضِلُّ اللّٰهُ الْكَافِرِينَ﴾(2)، فإنّ فرض الكفر في موضوع الحكم _ على حدّ تعبير الأُصوليّين _ يعني: فرضه سابقاً قبل الإضلال؛ فلأنّه كفر فقد أضلّه اللّه تعالى.
فكأنَّ هذه الآيات تشير إلى أنّ الضلال وإن كان _ بمعنى من المعاني _ من اللّه تعالى، ولكن السبب الأصلي يكمن في الإنسان نفسه وتحت إرادة الإنسان وعمله.
فإذا صدرت عناوين الظلم والإسراف والارتياب والكفر مثلاً عن الإنسان فإنّها ستسبّب الضلالة، وإذا صدرت عنه عناوين أُخر كالإنابة فإنّها ستسبّب له الهداية، وأنّ اللّه تعالى سيهديه عندئذٍ.
(1) غافر: 34.
(2) غافر: 74.
الثالثة: ما هو راجع إلى قوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّٰهَ رَمَى﴾.
فالظهور الأوّلي لهذه الآية _ لولا الارتكاز العرفي والعقلائي _ هو سلب إرادة الإنسان نهائيّاً، وهو في قوّة القول: إنّ السكّين ليس هو الذي قتل، وإنّما صاحب السكّين هو القاتل؛ وذلك لأنّ الإنسان إذا لم يكن يمتلك اختياراً فإنّ حاله ستكون حال السكّين أو السيف.
ولكن هذا المعنى غير مقصود من الآية حتّى لدى القائلين بالجبر؛ إذ إنّ غاية ما يقولونه: هو أنّ الإنسان مجبور على أن يكون مريداً، وعليه فالقرينة الداخلية أو الارتكاز العقلائي _ كما يقول الأُصوليّون_ الذي يؤثّر في ظواهر الألفاظ، يدلّ على أنّ المقصود ليس هو الظهور الابتدائي لهذه الآية، أي إنّ الآية لا تقصد أنّ الرمي ليس فعلاً إراديّاً للإنسان كحركة يد المرتعش؛ وذلك لوضوح وبداهة أنّ الرمي رميه هو، حتّى على مبنى القائلين بالجبر؛ ولهذا فإنّه لابدّ من أن نرفع يدنا عن ذلك الظهور الأوّلي، ولم يبق إلّا أن نقول: إنّ قدرة الإنسان وقوّته التي صدر عنها الرمي ليست ذاتية، وإنّما هي من اللّه سبحانه وتعالى، فلم يكن الرمي بقوّة الإنسان الذاتية، وإنّما كان بالقوّة والقدرة التي منحها اللّه تعالى إليه، فاللّه تعالى هو الذي منحه الحركة والقدرة على الرمي،