هذا قُبَيْل قيام الساعة بنحو أربعين يوماً، فتنقطع الحجّة وقتئذٍ عن وجه الأرض، وينغلق باب التوبة كما ورد في بعض الروايات، وكأنَّ الناس يستيقنون وقوع العذاب، ويلمسون قربه.
ومن تلك الروايات ما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه: «مازالت الأرض إلّا وللّه تعالى ذكرُه فيها حجّة يُعرَّف الحلال والحرام، ويدعو إلى سبيل اللّه، ولا تنقطع الحجّة من الأرض إلّا أربعين يوماً قبل يوم القيامة، فإذا رُفِعَت الحجّة أُغلِقَ باب التوبة، ولا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أن تُرْفَع الحجّة، أُولئك شرار من خلق اللّه، وهم الذين يقوم عليهم القيامة»(1).
كما أنّ هناك آيةً قرآنية لا يبعد أن تكون مشيرة إلى هذه الفترة، وهي قوله تعالى: ﴿... يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبَّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾(2).
فهذه إشارة إلى أنّ هناك يوماً تظهر فيه بعض الآيات (العلامات)،
(1) لسان العرب، ج1، ص369.
(2) الكهف: 47.
وعندها لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل، فالشخص الكافر حينما يؤمن بعد ظهور الآية (العلامة) لا ينفع إيمانُه، وكذا من لم يكسب في إيمانه خيراً، وكان مشغولاً بزخارف الدنيا وغارقاً في بحر المعاصي، فإنّ توبته لن تُقبل.
وفي أغلب الظنّ أنّ هذا ينطبق على تلك الفترة: فترة انقطاع الحجّة عن الأرض؛ لأنّه مع قيام الحجّة على الأرض تُقْبَل التوبة؛ لأنّ هدف الحجّة هو هداية المنحرفين، فما معنى عدم قبول توبتهم؟!
وقد ورد في بعض الروايات تفسيرُ كلمةِ (الآية) الواردة في الآية المباركة، بـ (ظهور الشمس من المغرب)(1)، وهذه علامة لتغيير وضع العالم وانتهاء الدنيا.
4_ المهديّون
لقد ورد في بعض الروايات أنّ حكّام الدولة فيما بعـد صـاحب الزمـان(عجل الله تعالى فرجه الشريف) أُنـاسٌ يُسـمَّون بـ (المهديّين)، وهم ليسوا بمعصومين، وإنّما هم مهديّون، وهل يأتون إلى الحكم بالانتخاب، أو بالتعيين من قبل الإمام المعصوم؟ فهذا ليس معلوماً.
(1) تفسير العياشي، ج1، ص384؛ تفسير القمي، ج1، ص221.
وهناك روايات عديدة وردت بهذا الشأن، ننقل منها كنموذج:
1_ ما ورد في حديث المعراج عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)؛ إذ قال: «...فقلت يا ربّ، ومَن أوصيائي؟ فنُوديت يا محمد، أوصياؤك المكتوبون على ساق عرشي. فنظرت _ وأنا بين يدي ربّي جلّ جلاله_ إلى ساق العرش، فرأيت اثني عشر نوراً، في كلّ نور سطرٌ أخضر، عليه اسمُ وصيٍّ من أوصيائي، أوّلهم علي بن أبي طالب ، وآخرهم مهدي أُمّتي، فقلت: يا ربّ، هؤلاء أوصيائي من بعدي؟ فنُوديت: يا محمد، هؤلاء أوليائي (وأوصيائي) وأصفيائي وحججي بعدك على بريّتي، وهم أوصياؤك وخلفاؤك وخيرُ خلقي بعدك. وعزّتي وجلالي لأُظهرنَّ بهم ديني، ولأُعلينّ بهم كلمتي، ولأُطهّرنّ الأرض بآخرهم من أعدائي، ولأُملَّكنَّه مشارق الأرض ومغاربها، ولأُسخّرنّ له الرياح، ولأُذلّلنَّ له السحاب الصعاب، ولأُرَقَّيَنَّهُ في الأسباب، فلأنصرنّه بجندي، ولأُمدّنّه بملائكتي حتّى تعلو دعوتي، وتجمع الخلق على توحيدي، ثم لأُديمنّ ملكه، ولأُداولنَّ الأيّام بين أوليائي إلى يوم القيامة»(1).
والشاهد في هذه الرواية هو: «لأُداولنَّ الأيّام بين أوليائي إلى يوم القيامة»؛ إذ يعني: أنّ هناك عدداً من الأولياء سوف يأتي اللّه بهم واحداً تلو الآخر.
(1) بحار الأنوار، ج18، ص346، باب إثبات المعراج ومعناه...، ح56.
2_ ما ورد عن أبي بصير، قال: «قلت للصادق جعفر بن محمد(عليه السلام): يابْنَ رسول اللّه، سَمِعْت من أبيك(عليه السلام) أنّه قال: يكون بعد القائم اثنا عشر مهديّاً، فقال: إنّما قال: اثنا عشر مهديّاً، ولم يقل: اثنا عشر إماماً، ولكنّهم قوم من شيعتنا يدعون الناس إلى موالاتنا ومعرفة حقّنا»(1).
وهناك روايات أُخر لا مجال لذكرها.
ولابدّ من أن نذكر هنا أنّه ليس هناك من تعارض بين هذه الروايات وروايات الرجعة التي قلنا عنها إنّها متواترة، فقد يكون في بعض الأيّام هناك إمام معصوم يرجع ويحكم الأرض، وفي بعض الأيّام هناك مهدي هو الذي يحكم على الرغم من وجود المعصوم؛ إذ قد يرى(عليه السلام) أنّه ليس من المصلحة أن يحكم هو بصورة مباشرة، فيبقى(عليه السلام) شاهداً، ويعطي الأُمور إلى المهديّين. هذا من جانب.
ومن جانب آخر، ففي كيفية تسليم السلطة إلى هؤلاء المهديّين احتمالان، وكلاهما معقول:
الأوّل: أن يكون تسليم السلطة إلى هؤلاء بنصّ من قبل الإمام المعصوم(عليهم السلام).
الثاني: أن يكون ذلك باختيار الأُمّة وانتخاب الناس لهم، ويعني
(1) بحار الأنوار، ج53، ص145، باب خلفاء المهدي صلوات الله عليه وأولاده، ح1.
هذا الاحتمال: أنّ الأُمّة سوف تحكم نفسها بنفسها وقتذاك، ويكون ذلك بإذن اللّه تعالى وأمره؛ لأنّ الحاكم الحقيقي هو اللّه، أمّا الأُمّة فإنّها تمارس بذلك دور خلافتها له تعالى.
وفيما إذا تمّ هذا الاحتمال الثاني، فإنّه لا يمكن أن نقيس أيّامنا هذه عليه، فلا نستطيع أن نقول: إنّه من المفروض إذاً أن يتمّ تعيين الحاكم بالانتخاب؛ وذلك لأنّ هناك فرقاً بين الزمانين.
ففي زماننا هذا لم يَثْبُت لنا الانتخاب إلّا بأمر من وليّ الأمر، فلو لم يأمرنا بالانتخاب، لما انتخبنا؛ إذ ليس عندنا نصّ يدلّ على تعيين الحاكم بالانتخابات؛ فإنّ قوانين الشورى ونظم الانتخابات لم تُبيَّن لنا لا في القرآن الكريم ولا في السنّة المطهّرة، وهذا بخلاف الزمان المستقبل، فإن صحَّت الانتخابات والشورى، وجاز للأُمّة أن تمارسها، فإنّ القوانين والضوابط المتعلّقة بهما سوف يتمّ بيانُها من قبل الإمام(عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وعندئذٍ يكون تطبيق هذا النظام ممكناً.
5_ إمكان رؤية الإمام الحجّة(عليه السلام) في زمان غيبته الكبرى
إنّ بحث الرؤية هو فرع ما نعتقده نحن الشيعة من أنّ صاحب الزمان(عليه السلام) قد وُلِدَ، وهو مازال حيّاً يُرْزَق إلّا أنّه غائب عن الأبصار(1).
(1) أمّا بناءً على ما يعتقده بعض المسلمين من أنّه لم يوْلَد بعد، وأنّه سيُولَد في آخر الزمان، فلا محلّ لهذا البحث، ولا مجال للكلام عن إمكان رؤيته.←
وقد ثبت عندنا بالتواتر الواصل إلينا يداً بيد من زمان الأئمّة المعصومين(عليهم السلام) إلى يومنا هذا، وبالنقول المتواترة أباً عن جدّ: أنّ الإمام الحجّة(عجل الله تعالى فرجه الشريف) قد وُلِدَ، وشُوهِد في حياة أبيه وفي أيّام غيبته الصُغرى، وشُوهِد أيـضـاً عـنـدمـا صـلّى(عليه السلام) عـلى أبـيـه الإمـام الـحـسن العسكري(عليه السلام).
أمّا مسألة بقائه(عليه السلام) كلّ هذه المدّة المديدة من الزمن، فقد يقال: إنّها ليست شيئاً على خلاف الطبيعة، وإنّما هي من نوادر الطبيعة، فطول العمر ليس خلافاً لقوانين الطبيعة بعد أن وقع مثله في الأزمان السالفة من قبيل ما ورد في قصّة نوح؛ إذ صرّح القرآن الكريم بأنّه(عليه السلام) قد لَبِثَ في قومه ﴿أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً﴾(1)، ومن قبيل قصص المعمّرين الكثيرة التي ثبتت في التاريخ والنصوص الواردة إلينا.
فهناك فرق بين أن يكون الشيء على خلاف قوانين الطبيعة كتسبيح الحصى مثلاً، وبين أن يكون من نوادر الطبيعة كطول العمر. هذا على فرض أنّ طول العمر هو من نوادر الطبيعة.
→
آخر الزمان، فلا محلّ لهذا البحث، ولا مجال للكلام عن إمكان رؤيته.
(1) العنكبوت: 14.
أمّا مع فرض كون طول العمر على خلاف الطبيعة، فإنّ ذلك لا يولّد إشكالاً؛ لأنّنا نؤمن بأنّ المعصومين(عليهم السلام)كثيراً ما يتمتّعون بحالات هي على خلاف الطبيعة، وهذا ما يسمّى بـ (المعجز) أو (الكرامة)(1).
(1) إذ إنّه يسمّى (معجزاً) إذا كان صادراً عن النبي(صلى الله عليه وآله)، وأمّا إذا كان صادراً عن الولي، فإنّه يسمّى (كرامة).
أو إنّه يسمّى (معجزاً) حينما يقترن بادّعاء يراد إثبات صدقه بذلك الفعل، ويسمّى (كرامة) حينما لا يكون كذلك.
ويعرّف المعجز بأنّه إبراز شيء على خلاف نُظُم الطبيعة، غير أنّ تفسيره الفنّي يختلف باختلاف الرأي المتبنّى في تفسير قوانين الطبيعة.
فالرأي المعروف لدى الفلاسفة هو أنّ نُظُم الطبيعة التي نراها في عالمنا هذا تعود كلُّها إلى ما يسمّى بـ (قوانين العلّة والمعلول)، فالنار مثلاً تُحْرِق؛ لأنّها علّة للإحراق. وتشكّل هذه العلل والمعلولات ظواهر معيّنة تسمّى بـ(ظواهر الطبيعة) أو (نواميس الطبيعة).
وقال الفلاسفة: إنّ قانون العلّة والمعلول لا يمكن أن ينخرم، أي: إنّ هناك استحالةً عقلية في تخلّف المعلول عن علّته، وانفصال الأثر عن المؤثّر؛ وذلك لأنّهم قالوا: إنّ العلّة لا يمكن أن تُوجِد معلولها إذا لم تكن تامّة، فإذا كانت تامّة، فإنّ معلولها لا يمكن أن يتخلّف عنها، ومن المستحيل أن ينفصل عنها. ←
→
وبناءً على هذه الفكرة يتلخّص تفسير المعجز فيما ذكره فلاسفتنا الإسلاميّون من أنّ قوانين الطبيعة ونُظُمها فيها نقاط خاصّة يمكن من خلالها إيجاد حالات ونتائج غير معهودة لدى الناس، وليست مألوفة عندهم، وهذه النقاط هي من صميم الطبيعة، إلّا أنّها مجهولة لدينا، ومعلومة لدى اللّه خالق الطبيعة، ولدى أوليائه المقرّبين منه تعالى، وعندما يمارس أحياناً أولياء اللّه بعضاً من تلك النقاط يتراءى لنا أنّهم خرقوا نظام الطبيعة؛ لأنّنا نجهل تلك النقاط التي استخدموها، ونجهل آثارها.
وعلى هذا فإنّ الإعجاز عند الفلاسفة ليس خرقاً للقوانين الطبيعية، وإنّما هو ممارسة حالة استثنائية هي من ضمن قوانين الطبيعة، غير أنّنا جاهلون بها. فمن طبيعة النار مثلاً أنّها تُحْرِق، إلّا أنّ هناك حالاتٍ استثنائية لا تستطيع النار أن تؤثّر أثرها فيها، كورق الألمنيوم مثلاً؛ إذ إنّها لا تحترق بها، وكذا الحال بالنسبة إلى المعجز؛ فإنّ هناك استثناءاتٍ لم يتعرّفها البشر، إلّا من شاء اللّه أن يعلم أو يعرف من أوليائه، وحينئذٍ عندما يتصرّف الوليّ أو النبي يبدو كأنّه يتصرّف على خلاف قوانين الطبيعة وأنظمتها، ويبدو لدينا أنّ المعلول قد انفصل عن علّته وتخلّف عنها، ولكنّه في الواقع ليس كذلك؛ لأنّ هذا الانفصال أو التخلّف مستحيل، وما ذلك إلّا استفادة من حالة استثنائية هي جزء من نُظُم الطبيعة ونواميسها، وهي ←
→
مجهولة لدى الناس، ولكنّ اللّه تعالى قد علّمها أولياءه، فاستخدموها.
هذه هي خلاصة تفسير الإعجاز على وفق رأي أكثر فلاسفتنا الإسلاميّين.
ولكن هناك احتمال آخر لتفسير الإعجاز، وذلك بناءً على تفسير آخر لقوانين الطبيعة، وهذا الاحتمال الآخر كان يبرزه أُستاذنا الشهيد الصدر(قدس سره)أيّام طبع كتابه الموسوم بـ (الأُسس المنطقية للاستقراء)، وهو غير متعارف لدى فلاسفتنا الإسلاميّين. ويتلخّص محتواه بأن نفسّر نُظُم الطبيعة وقوانينها لا بمعنى العلّية والمعلولية الفلسفية التي يستحيل خرقها، وإنّما نفسّرها بمعنى: أنّ اللّه تعالى شاء أن تترتّب آثار (كذا) من دون أن تكون هناك علّيةٌ تستحيل الانفكاك أو سببية ممتنعة الانفصال؛ وذلك من أجل أن تنتظم أُمور البشر وتستقيم معايشهم، فيصبحون قادرين على إدارة أُمورهم وتنظيم شؤونهم، فقد شاء اللّه أن يترتّب الإحراق مثلاً على إيجاد النار وهكذا، وهذا خلاف التفسير الأوّل.
وبناءً على هذا التفسير (الثاني) فإنّ المعجز يصبح أقرب إلى الذهن، ويكون أوضح فهماً وأبرز معلماً؛ إذ إنّنا نستطيع أن نقول: إنّ الإعجاز خرق لقوانين الطبيعة؛ وذلك لأنّ (قانون الطبيعة) على هذا التفسير ليس بقانون عقلي مستحيل الخرق كما هو العلّية في التفسير الأوّل، وإنّما هو قانون جارٍ بإرادة اللّه تعالى، فإذا أراد اللّه تعالى خلافه، فإنّه سيقع، دون أن يتمكّن ذلك القانون من ←
وهل تُحْتَمَل رؤية صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف) في أمثال زماننا، وهل نصدّق من ادّعى رؤيته فيها؟ لا إشكال في أنّ الأصل في حياته(عليه السلام) هو الاختفاء؛ لما قد ثبت بالنصوص الصريحة المتواترة من أنّ الغيبة التامّة (الكبرى) قد وقعت.
وقد ورد في بعض الروايات أنّ اللّه تعالى جعل الخضر(عليه السلام) _ الذي قُدِّر له أن يبقى حيّاً_ رافعاً لوحشة الإمام صاحب الزمان(عليه السلام)، وعليه فإنّ الإمام لمّا كان مختفياً عن الناس ولا يستطيع الاجتماع بهم، فإنّه(عجل الله تعالى فرجه الشريف) يأنس بالخضر(عليه السلام).
وقد ورد في روايات أُخر أنّ مكان الإمام صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف) لا يعرفه إلّا من يلي أمره(عليه السلام)، فكأنَّ هناك من يخدم الإمام، وهو يعرف مكانه.
→
أن يحول بين إرادة اللّه تعالى وبين وقوع ذلك الشيء الذي هو على خلافه، فسيكون ذلك حينئذٍ خرقاً لنواميس الطبيعة وقوانينها.
أمّا دلالة (المعجز) على صحّة مدّعى النبي، فهي من قبيل دلالة (العلامة الخاصّة) التي يأتيك بها شخص من قبل أخيك، كالخاتم المخصوص بأخيك مثلاً، فإنّه يكون دليلاً على صحّة دعوى كونه رسولاً لك من أخيك؛ لأنّ ذلك الخاتم مختصّ بأخيك دون غيره. ولا حاجة في ذلك إلى ضمّ قاعدة (قبح إخراج المعجز على يد الكاذب) على شرح وتفصيل كان يذكره أُستاذنا الشهيد(قدس سره)في بعض أبحاثه.
كما ورد في بعض آخر من الروايات أنّه: «ما بثلاثين من وحشة»(1)؛ إذ يبدو منها أنّ هناك ثلاثين نفراً من أولاد صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف) وأحفاده أو من أعزّ أصحابه يلتقون به، ويأنس بهم ولو من دون أن يعرفوا مكانه بالضبط.
ومن المعلوم أنّ هذه الروايات لا تنافي فرضية أن يتشرّف أحد المؤمنين _ كحالة استثنائية _ برؤيته(عجل الله تعالى فرجه الشريف)، غير أنّ هناك روايةً واحدة قد يُفْهَم منها أنّ الرؤية في أيّام الغيبة الكبرى لا تقع حتّى على نحو المصادفة والاتّفاق. اللّهم إلّا بالنسبة إلى الذين هم أيضاً مختفون علينا، ويعيشون حالة الإمام(عليه السلام).
فقد روى الشيخ الصدوق(رحمه الله) عن الحسن بن أحمد المكتّب أنّه قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي تُوُفِّيَ فيها الشيخ علي بن محمد السَمَري(قدس سره)(2)، فحضرته قبل وفاته بأيّام، فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته: «يا علي بن محمد السَمَري، أعظم اللّه أجر إخوانك فيك، فإنّك ميّت ما بينك وبين ستة أيّام، فاجمع أمرك، ولا توصِ إلى أحدٍ
(1) الكافي، ج1، ص340، باب في الغيبة من كتاب الحجّة، ح16.
(2) النائب الرابع للإمام صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف).
يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية(1)، فلا ظهور إلّا بعد إذن اللّه(عز وجل)، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً. وسيأتي شيعتي(2) من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو كاذب مفترٍ، ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العلي العظيم». قال الحسن بن أحمد المكتّب: فنسخنا هذا التوقيع، وخرجنا من عنده، فلمّا كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل: مَنْ وصيّك من بعدك؟ فقال: للّه أمر هو بالغه، وقضى(رضي الله عنه)، وهذا آخر كلام سمع منه(3).
فربّما يستفاد من تعبير الإمام(عليه السلام) عدم إمكان رؤية الإمام صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف) في غيبته الكبرى (التامّة أو الثانية): «وسيأتي شيعتي
(1) في بعض النسخ: الغيبة التامّة.
(2) في بعض النسخ: من شيعتي.
(3) کمال الدين وتمام النعمة، ج2، ص516، ح44؛ الغيبة (للشيخ الطوسي)، ص395. وقد أخرجه في بحار الأنوار، ج52، ص151، باب من ادعی الرؤية في الغيبة الکبری و...، ح1، عن الاحتجاج وكمال الدين، وأخرجه أيضاً المحدّث النوري في كتاب جنّة المأوى المطبوع في ضمن الجزء 53 من بحار الأنوار، ج53، ص318، عن غيبة الطوسي والاحتجاج.
(من شيعتي) مَنْ يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو كاذب مفتر».
وقد تصحّ هذه الاستفادة فيما إذا كان تعبير الرواية: (سيأتي من شيعتي)؛ إذ قد يُفْهَم من العبارة حينئذٍ عدم إمكان المشاهدة لأيّ أحد من الشيعة.
غير أنّني أظنّ خطأ هذه النسخة، وأنّ النسخة الأُخرى هي الصحيحة؛ إذ ورد التعبير بلفظ «سيأتي شيعتي»، أي: إنّ حرف الجرّ (من) غير موجود، فيكون المعنى حينئذٍ: أنّه سيأتي بعض إلى الشيعة، ويدّعي بأنّه رأى الإمام صاحب الزمان(عليه السلام)، وكأنّه مبعوث من قبله(عليه السلام) إليهم؛ لكي يبلغهم رسالته، وهذا هو الذي ينكره الإمام(عليه السلام)، ويصف من ادّعاه بأنّه كاذب مفترٍ، فكأنَّ الإمام صاحب الزمان(عليه السلام) قد أخبر شيعته بأنّه لن يبعث أحداً رسولاً إليهم إلّا بعد خروج السفياني وحدوث الصيحة؛ فإنّه من الطبيعي أن يرسل رسله إليهم حينذاك لدى ظهوره(عليه السلام).
وبناءً على هذه النسخة الخالية من وجود حرف الجر (من)، لا تدلّ الرواية على كذب القِصَص المعروفة الموجودة في الكتب من أنّ بعض علمائنا وأخيارنا قد تشرّفوا بلقاء الإمام(عليه السلام).
وبذلك نعرف أنّ رؤية الإمام صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف) ليست بمستحيلة، بل هي ممكنة، ولكن لا ينبغي لنا أن نتسرّع في تصديق من يدّعي المشاهدة، وينبغي أن لا نصدّق ادّعاء الرؤية إلّا في حالات خاصّة جدّاً، كأن نعرف الشخص المدّعي للرؤية جيّداً، ونعرف ورعه وتقواه وذهنيّته وقابليّته لاستيعاب الحقيقة التي يدركها وما شابه ذلك؛ وذلك لأنّ الأصل في حياة الإمام(عليه السلام) هو الاختفاء، وأنّ المشاهدة حالة استثنائية ونادرة جدّاً يجب أن يقوم عليها دليل قوي.
ومن هنا فإنّ أغلب القِصَص المنقولة في الكتب تحت عنوان (رؤية الإمام صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف)) تكون غير ثابتة الصحّة؛ إذ إنّنا حينما ندقّق فيها لا نجد في أكثرها دليلاً قطعيّاً يدلّ على أنّ الذي شُوهِد هو الإمام(عليه السلام).
تطرّقنا
تطرّقنا إلى أربعة أدوار لحياة الإنسان، وهي: دور الحضانة، ثم دور الوحدة، ثم دور التشتّت، ثم دور العدل الذي سيتمّ في آخر الزمان.
وهناك ثلاثة أدوار أُخر تعود إلى ما بعد حياتنا هذه، وهي:
دور البرزخ
دور القيامة
دور الجنّة والنار
ونحن نكتفي هنا ببحث دور البرزخ باعتباره ألصق تلك الأدوار بحياتنا الدنيا مرجئين بحث القيامة وبحث الجنّة والنار إلى الكتب الراجعة إلى الحديث عن أُصول الدين.
دور البرزخ
ويمكن تلخيصه في نقطتين نمرّ بهما بشكل عابر، وهما:
1_ سَكْرة الموت.
2_ حقيقة الموت وعالم القبر.
سَكْرة الموت
قال تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقَّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾(1).
ولا يخلو أيّ إنسان من أن يمرّ بسكرة الموت هذه.
والسَكْرة لغةً بمعنى ما يقابل الصحوة، أي: إنّها تعني حالة الذهول، وحالة ما قد تشبه فقدان الذهنية أو العقل، والتعبير الأدقّ هو: فقدان الصحوة.
(1) ق: 19.
إنّ هذه الحالة (السَكْرة) التي تُشير إليها الآية المباركة قد تكون نتيجة أحد سببين أو كليهما، واللّه أعلم بحقيقة الحال، وهذان السببان هما:
الأوّل: شدّة النزع وألمه؛ إذ إنّ النزع يسبّب للإنسان آلاماً شديدة يَصْعُب تحمّلها، وربّما لا تطاق في كثير من الأحيان، فيؤدّي بالإنسان إلى حالة السَكْرة، فيفقد صحوته، ويذهل ذهولاً لم يشهده في حياته.
والمستفاد من الروايات أنّ حالة النزع وآلامها ليست عامّة تَشْمُل الناس جميعاً، بل إنّ هناك من يكون بمنجىً من هذه الحالة.
فعن الإمام الصادق(عليه السلام)، قيل له: «صف لنا الموت، فقال(عليه السلام): للمؤمن كأطيب ريح يشمّه، فينعس(1) لطيبه، وينقطع التعب والألم كلُّه عنه، (يعني: حالة الموت بدلاً من أن تكون عذاباً أو شدّة أو ألماً للمؤمن، قد تؤدّي إلى إزالة كلّ ألم عن هذا المحتضر، وإنهاء كلّ تعب يحسّ به) وللكافر كلسع الأفاعي، ولدغ العقارب أو أشدّ. قيل: فإنّ قوماً يقولون: إنّه (أي الموت) أشدّ من نشرٍ بالمناشير، وقرضٍ بالمقاريض، ورضخ بالأحجار، وتدوير قطب الأرحية على الأحداق (يعني أحداق العين). قال: كذلك هو على بعض الكافرين والفاجرين، ألا ترون منهم من يعاين تلك الشدائد، فذلكم الذي هو أشدّ من هذا، لا من عذاب
(1) في بعض النسخ: فينفس.
الآخرة؛ فإنّه أشدّ من عذاب الدنيا (يعني: أنّ حالة النزع أشدّ من كلّ المحن والمصائب التي تتصوّر في عالمنا هذا، ولا شيء أشدّ منه إلّا عذاب الآخرة؛ إذ إنّه أشدّ من عذاب الدنيا). قيل: فما بالنا نرى كافراً يسهل عليه النزع، فينطفئ وهو يحدّث ويضحك ويتكلّم، وفي المؤمنين أيضاً من يكون كذلك، وفي المؤمنين والكافرين من يقاسي عند سكرات الموت هذه الشدائد؟ فقال: ما كان من راحة للمؤمنين هناك، فهو عاجل ثوابه (يعني: أنّ المؤمن الذي تراه في حالة النزع لا تكون صعوبة عليه، وتراه يموت براحة وسهولة، فهو عبارة من عاجل ثوابه، وأمّا الباقي من ثوابه الذي هو أفضل وأكمل، فسيَحْصُل عليه بعد الموت وعند اللّه تبارك وتعالى)، وما كان من شديدة، فتمحيصه من ذنوبه (يعني: حينما ترى المؤمن يقاسي شدّة النزع، فإنّه تمحيص له من الذنب، وهذا أيضاً عبارة عن رحمة من قِبَل اللّه تعالى على هذا المؤمن؛ كي يخرج من هذه الدنيا طاهراً ولا ذنب عليه)؛ ليرد الآخرة نقيّاً نظيفاً مستحقّاً لثواب الأبد، لا مانع له دونه. وما كان من سهولة هناك على الكافر (يعني: أمّا ما تراه من أنّ الكفّار تكون حالة نزع الروح سهلة عليهم أحياناً، ولا يحسّون بتعب أو ألم) فليوفّى أجر حسناته في الدنيا (يعني: أنّ هذا الكافر _ وعلى الرغم من أنّه كافر _ لابدّ من أنّه قد أتى
في بعض أيّام حياته ببعض الأعمال الحسنة من إحسان إلى شخص، وترحّم على ضعيف، أو ما شابه، فاللّه تبارك وتعالى يريد أن يثيبه في هذه الدنيا على تلك الأعمال؛ لكي يذهب إلى الآخرة ولا حقّ له فيها، فلا يبقى له هناك غير العذاب والنكال، فثوابه هو أن تصبح حالة النزع سهلة عليه)؛ ليرد الآخرة وليس له إلّا ما يوجب عليه العذاب، وما كان من شدّة على الكافر هناك (يعني: أمّا ما تراه أحياناً أنّ الكافر يبتلى بشدّة النزع وبالسكرات التي لا تتحمّل ولا تطاق) فهو ابتداء عذاب اللّه له بعد نفاد حسناته (يعني: أنّ هذا الكافر إذا كانت عنده بعض الحسنات، فإنّ اللّه تعالى قد وفّاها له في الدنيا قبل النزع، فأعطاه بعض الراحة مثلاً، بحيث إنّه عندما وصل إلى حالة النزع لم تبق له حسنات، فاللّه تبارك وتعالى يكون قد عجّل له ذلك العذاب من الآن، وهذه الشدّة في النزع هي بداية عذاب اللّه تبارك وتعالى بعد نفاد حسناته)، ذلكم بأنّ اللّه عدلٌ لا يجور»(1).
فسكرة الموت التي تعرض على الإنسان قد تكون إذاً بلحاظ شدّة نزع الروح والألم الذي لا يطاق.
الثاني: ما يصاب به الإنسان من ذهول حينما يرى فجأة أنّه فَقَد
(1) راجع بحار الأنوار، ج6، ص152، باب سکرات الموت وشدائده...، ح6.
كلّ شيء، وانقطعت جميع علاقاته، ويحسّ بأنّه أُحيل بينه وبين المتع والنعيم الذي كان في متناول يده في لحظة واحدة، وأنّه أقدم على عالم مجهول بالنسبة إليه؛ إذ لا يعرف هل يُبشَّر بالجنّة أو بالنار؟ وهل يكون من السعداء أو من الأشقياء؟
فإحساس الإنسان بفقدان كلّ ما يمتلك من ناحية، وإحساسه بأنّه أقدم على عالم مجهول لديه من ناحية أُخرى، يولّدان لديه الذهول، فيفقد الصحوة.
وقد أشارت بعض الآيات والروايات إلى هذا المعنى بتعابير مختلفة:
قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبَّ ارْجِعُونِ * لَعَلَّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(1).
وعن سويد بن غفلة، عن أميرالمؤمنين(عليه السلام)، قال: «إنّ ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيّام الدنيا وأوّل يوم من أيّام الآخرة، مُثّل له ماله وولده وعمله (يعني: باعتباره يحسّ بأنّه سيفقد كلّ شيء من مال، وبنين، وفرص العمل، وغير ذلك في هذه الساعة، فكأنّما يتجسّد أمامه
(1) المؤمنون: 99 _ 100
ماله وولده وعمله)، فيلتفت إلى ماله، فيقول: واللّه إنّي كنت عليك حريصاً شحيحاً، فما لي عندك؟ (يعني: أيّها المال، إنّي قد أفنيت كلّ عمري لتحصيلك، فماذا أستفيد منك الآن، وأنا في أوّل آنات إقدامي على عالم الآخرة والانفصال عنك) فيقول: خذ منّي كفنك (وهذا تجسيد للأفكار التي تعتري هذا الإنسان). قال فيلتفت إلى ولده، فيقول: واللّه إنّي كنت لكم محبّاً، وإنّي كنت عليكم محامياً (يعني: أدفع عنكم ما يقهركم)، فماذا لي عندكم؟ فيقولون: نؤدّيك إلى حفرتك نواريك فيها (فهم إذاً ليسوا مع هذا الأب المسكين إلّا إلى حفرة قبره). فيلتفت إلى عمله، فيقول: واللّه إنّي كنت فيك لزاهداً (يعني: أنّه لم يكن يعتني به) وإنْ كنت عليّ لثقيلاً، فماذا عندك؟ فيقول (العمل): أنا قرينك في قبرك ويوم نشرك حتّى أُعرض أنا وأنت على ربّك»(1).
فهذا هو السبب الثاني للسكرة.
وكِلا المعنَيين مجتمعان في كلام إمامنا أميرالمؤمنين(عليه السلام) في قوله في نهج البلاغه: «اجتمعت عليهم سَكْرة الموت وحسرة الفوت»(2).
(1) راجع الكافي، ج3، ص231، باب أنّ الميت يمثّل له ماله وولده وعمله قبل موته، من کتاب تاريخ الإمام الثاني عشر صلوات الله عليه، ح1.
(2) نهج البلاغة، ص160، الخطبة 109.
وأمّا قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبَّ ارْجِعُونِ * لَعَلَّي أَعْمَلُ صَالِحاً...﴾ فإنّه ليس من كلام المؤمنين، وإنّما هو من كلام الفسّاق أو الفجّار أو الكفرة الذين أسرفوا على أنفسهم.
وأمّا المؤمنون فإنّهم يتمنّون الرجوع أيضاً، ولكنّه يختلف عن ذلك؛ إذ تقول الرواية عن الإمام الصادق(عليه السلام): «إنّ نَفْس المحتضر إذا بلغت الحلقوم وكان مؤمناً، رأى منزله من الجنّة، فيقول: ردّوني إلى الدنيا (ليس لأنّه آسف على أخطائه وسيّئاته، وإنّما يقول ذلك) حتّى أُخبر أهلها بما أرى (أي: أُخبرهم بأنّي في الجنّة)، فيقال له: ليس إلى ذلك سبيل»(1). فحيـنما ينـكشف الغطـاء، وتنكشف الحقيقة لدى الإنسان، فإنّه ليس لرجعته إلى الحياة الدنيا من سبيل.
وكأنّ هذه الرواية تشير إلى الآية التي تقول: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبَّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾(2).
(1) بحار الأنوار، ج6، ص200، باب ما يعاین المؤمن والکافر عند الموت وحضور الأئمة؟عهم؟...، ح55.
(2) يس: 26 _ 27.