36

ولو التفتنا إلى هذا الأمر لانحلّ كثير من مشاكلنا، فلو أنّ كلّ فرد منّا أخذ على نفسه عهداً على أن ينصر الإسلام، ويفني عمره في سبيل اللّه وإعلاء كلمته تعالى بمعنى طاعة اللّه من حيث يريد لا بأيّ شكل من الأشكال، لما مسَّنا ضرٌّ، ولا حلَّت بنا مشكلة، ولكن قد يظنّ أحدنا أنّه يعمل من أجل الإسلام، ويفني عمره من أجل إعلاء كلمته، إلّا أنّه ربما لا يجني إلّا نار جهنّم؛ لأنّه لم يكن يعمل للإسلام بما أراد اللّه منه، ولم يكن يطيع اللّه من حيث أراد اللّه منه؛ لأنّ اللّه تبارك وتعالى يريد من أيّ فرد منّا أن يطيعه من حيث يريد، وأن ينصر الإسلام بالشكل الذي يريد.

2_ تقييم خطيئة آدم

إنّنا لا نريد هاهنا أن نبحث: هل كانت خطيئة آدم تلك معصية قد ارتكبها قبل دور الخلافة والعصمة كما يقول بعض، أو لم تكن معصية، وإنّما كانت عبارة عن ترك الأولى، وذلك باعتبار عصمته كما يقول آخرون؟ وإنّما نريد أن نقيّم هاهنا تلك الخطيئة، ونلاحظ في تقييمها ما يلي، وهو أنّ الزلل والخطأ ومخالفة التكليف يُقيَّم من زاويتين:

الأُولى: زاوية النتائج باعتبارها تؤدّي إلى الهلاك والعذاب والنار

37

والإبعاد عن رحمة الربّ، ويعتبر هذا النحو من التقييم متعارفاً لدى أكثر المتديّنين والمؤمنين؛ إذ إنّهم يتركون المعاصي؛ لأنّها تؤدّي بهم إلى الهلاك، وتسوقهم إلى نار الجحيم، وتبعدهم عن رحمة الربّ.

وقد كان آدم قد لاحظ نتائج عمله قبل أن يتّضح خطؤه، ولم يغفل عنها كما يبدو من الآيات، ولكنّه قد غفل من ناحية أُخرى عن إمكان الحلف باللّه كذباً، فلم يكن يتصوّر أنّ مخلوقاً من مخلوقات اللّه يحلف باللّه كاذباً، ولم يكن يحتمل أنّ إبليس يجرؤ على الحلف باللّه كاذباً، فقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «لمّا أُخرج آدم من الجنّة، نزل عليه جبرئيل(عليه السلام)، فقال: يا آدم، أ ليس خلقك اللّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجَدَ لك ملائكته، وزوّجك حوّاء أمته، وأسكنك الجنّة، وأباحها لك، ونهاك مشافهة أن لا تأكل من هذه الشجرة، فأكلت منها وعصيت اللّه؟! فقال آدم(عليه السلام): إنّ إبليس حلف لي باللّه إنّه لي ناصح، فما ظننت أنّ أحداً من خلق اللّه يحلف باللّه كاذباً»(1).

وقد حدث ذلك؛ لأنّ آدم(عليه السلام) كان في بداية حياته، ولم تكن لديه تَجْربة اجتماعية بعد؛ إذ إنّه كان أوّل مخلوق من هذا النسل _ هذا


(1) البرهان في تفسير القرآن، ج2، ص523، ح3.

38

بقطع النظر عمّا إذا كان هناك بشر قبل آدم أم لا _ ولذا قد سمّى أُستاذنا(قدس سره) جنّة آدم بـ (دار الحضانة)؛ باعتبار أنّ آدم(عليه السلام) لم يمرّ بمرحلة الطفولة ودور الاحتضان، ولم ينشأ في جوّ أُسريّ ليبلغ رشده فيه، فيتمكّن من الاستقلال ومواجهة مشاكل الحياة؛ ولذا فإنّه كان بحاجة إلى هذه الدار الاستثنائية؛ لتتمّ فيها تنميته وتربيته وتوعيته. أمّا إبليس فقد كان على عكس آدم(عليه السلام)، فقد مرّ إبليس بتجارب طويلة الأمد؛ إذ إنّ مجتمع الجنّ قد خُلِقَ قبل مجتمع البشر بما يعلمه اللّه تعالى من السنين، فأصبحت لديهم تجارب اجتماعية وخبرات حياتية؛ ولذلك قد صَدَّقَ آدم(عليه السلام) إبليس عندما جاءه وأوحى إليه أنّ اللّه تبارك وتعالى إنّما نهاه عن الأكل من هذه الشجرة بسبب وجود مقام لا يراه اللّه مناسباً له، وهو مقام الخلود في الجنّة، وأنّ الأكل من هذه الشجرة يستلزم الوصول إلى ذلك المقام والارتقاء إلى تلك الدرجة، قال تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾(2)، وقال تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾(1).


(1) الأعراف: 20.

(2) طه: 120.

39

إذاً قد حسب آدم(عليه السلام) حساب النتائج، فرأى أنّ هذا الفعل لن يضرّه، بل إنّه سينفعه، فيصبح خالداً، ولم يحتمل أنّ إبليس يحلف كاذباً. وحينما نقيّم خطيئة آدم(عليه السلام) فإنّه ينبغي لنا أن نقيّمها من خلال هذه الأُمور.

غير أنّنا نعلم أنّ هذا الحساب مقلوب، وأنّ التقييم من خلال هذه الزاوية خاطئ، وكذلك آدم عرف ذلك أيضاً فيما بعد.

والثانية: الحساب السليم لتقييم ذلك الخطأ، والزاوية الصحيحة للنظر إليه ينبغي أن تكون من خلال زاوية المولى الذي أمرنا بذلك الأمر ونهانا بذاك النهي، أي: ينبغي أن نقيّم الخطأ على أنّه معصية لمن لا ينبغي أن يُعصى، أمّا النتائج فإنّها ستكون تابعة لهذا التقييم، فإذا كان هذا الفعل معصية من حيث العقل العملي(1)، فإنّ النتائج ستكون هي الخسارة والحرمان، ولا يمكن أن تكون نتائج خير أبداً، وستكون العاقبة _ حينئذٍ _ سيّئة حتماً.

 


(1) إذا كان الشيء المدرَك ممّا ينبغي أن يُفعل أو ممّا ينبغي أن يترك كحسن العدل وقبح الظلم، فإنّ إدراكه يسمّى بـ (العقل العملي)، وإذا كان الشيء المدرَك ممّا ينبغي أن يُعلم، مثل: مسألة (الكلّ أعظم من الجزء)، ولم تكن له أيّ علاقة مباشرة بالفعل والعمل، فإنّ إدراكه يسمّى بـ (العقل النظري).

40

فالزاوية الأساسية في التقييم هي: أن نفهم أنّ هذا الأمر أمر مَن؟ وهذا النهي نهي مَن؟ ولابدّ من أن يكون التقييم إذاً من زاوية أنّ تلك المعصية كانت مخالفة للّه تعالى، وستكون النتائج تالية لذلك التقييم.

3_ كيف علمت الملائكة أنّ البشرية سوف تُفْسِد وتَسْفِكُ الدماء؟

لقد اعترضت الملائكة حينما أخبرهم اللّه تعالى بأنّه جاعل في الأرض خليفة؛ لأنّه سيُفسد ويَسْفِك الدماء، فكيف عرفت الملائكة ذلك؟

هناك عدّة احتمالات لذلك، أذكر منها احتمالين فقط:

الأوّل: أنّه من المحتمل أنّ الملائكة كانوا قد مرّوا بتجربة من قبل، وهذا وارد في بعض الروايات؛ إذ تقول: إنّه كان هناك آدم قبل أبينا آدم، وكانت هناك بشرية مثل هذه البشرية(1).

الثاني: هو ما أبرزه أُستاذنا(قدس سره): من أنّ الملائكة حينما عرفوا أنّ البشرية عنصر حيادي بالنسبة إلى الخير والشرّ، تخوَّفوا من أن يكون موجود من هذا القبيل خليفة للّه؛ إذ إنّه من الممكن أن يتّجه إلى


(1) علل الشرائع، ج1، ص105، باب علة الطبائع والشهوات والمحبات، ح1.

41

الشرّ كما يتّجه إلى الخير؛ ولذلك فإنّهم قدّموا أنفسهم بديلاً منه؛ لأنّ نسبتهم إلى الخير والشرّ ليست حيادية.

ويبدو أنّ الملائكة قد غفلت عن نكتتين:

الأُولى: أنّ البشرية _ وإن كانت نسبتها إلى الخير والشرّ واحدة _ لا تُسَيَّر كما تُسيَّر الجمادات والملائكة، وإنّما تهدى بطريق التعليم والتربية ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾.

والأُخرى: أنّ هناك عبادةً تصدر عن البشرية تعتبر خيراً من كلّ عبادات الملائكة، وهي عبارة عمّا نسمّيه بـ (التضحية) بشهواتها وغرائزها من أجل الخير وفي سبيل اللّه وإرضائه. وهذه لا يمكن أن تصدر عن الملائكة؛ ولذا فإنّ اللّه تبارك وتعالى قد رفض اعتراضهم؛ لأنّ الشيء الذي يريده هو (التضحية)، وهذا ما لا يمكن أن يصدر عنهم؛ إذ لا يمتلكون شهوات وميولاً نفسية يضحّون بها.

دور الوحدة ودور التشتّت

يقول أُستاذنا(قدس سره): إنّ البشرية قد مرّت بدور كانت فيه متوحّدة، ولا خلاف بين الناس، ويستظهر ذلك من الآية المباركة: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّٰهُ النَّبِيَّينَ مُبَشَّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ

42

بِالْحَقَّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيَّنَاتُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقَّ بِإِذْنِهِ وَاللّٰهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(1).

إنّ هذه الآية المباركة تشير إلى وجود دورين للبشرية: أوّلهما دور الوحدة، وثانيهما دور التشتّت.

ودور الوحدة الذي تشير إليه الآية المباركة ليس هو ما يدّعيه الماركسيّون والشيوعيّون من أنّ البشرية كانت تعيش حالة الشيوعية، بمعنى أنّهم يتقاسمون الأرزاق بمستوىً واحد، وأنّهم كانوا متساوين في كلّ شيء ومشتركين في كلّ شيء؛ إذ ثبت أنّ ذلك هو خلاف طبيعة البشر، ومن غير المحتمل أنّ البشرية كانت تعيش هذه الحالة، بل إنّ من طبيعة الإنسان أن يمتلك نتيجة أعماله، فليس من المعقول _ في الطبيعة البشرية _ أن نفترض الوحدة بهذا المعنى الذي يقول به الشيوعيّون، وإنّما المقصود هو أنّ الناس لم يكونوا مختلفين فيما بينهم، أي إنّهم كانوا إخوة، فالآية إذاً لا تنظر إلى الوحدة بالمعنى الاقتصادي أبداً.

هذا بناءً على أحد الاحتمالات الرئيسة الثلاثة التي فُسَّرَت بها


(1) البقرة: 213.

43

الآية المباركة؛ إذ وقعت اختلافات كثيرة بين المفسّرين في تفسير هذه الآية، وأهمّها:

1_ ما يميل إليه محمد عبده في تفسير المنار(1)، وهو: أنّ كلمة ﴿كَانَ﴾ قد استُعمِلت في هذه الآية المباركة بمعنى الثبوت والتحقّق، وليس بمعنى الفعل الماضي، وليس المقصود منها هو: أنّ الناس كانوا أُمّة واحدة في وقتٍ ما (سبق ومضى)، وإنّما الآية تقول: إنّ الناس أُمّة واحدة بالفعل، فكأنَّ وزان الآية هو وزان قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾(2)، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾(3).

وكأنَّ محمد عبده يريد أن يقول: إنّ هذه الآية المباركة كتلك الآيتين، وإنّ معنى كون ﴿النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ هو: أنّهم من أب واحد وطبيعة واحدة، وليس المقصود منها أنّهم لا خلاف بينهم. ويقول: لمّا كان الناس أُمّة واحدة ومشتركين في الطبائع والصفات، فلابدّ إذاً


(1) تفسیر المنار، ج2، ص276.

(2) الأنبياء: 92.

(3) المؤمنون: 52.

44

من العمل على إزالة الخلافات الموجودة بينهم، ولأجل إزالة هذه الخلافات بعث اللّه النبيّين مبشّرين ومنذرين؛ ليحكموا فيما بينهم.

ولكن هذا التفسير خلاف ظاهر كلمة ﴿كَانَ﴾؛ لأنّ ظاهرها هو أنّها بمعنى الماضي، كما أنّه يعارض العديد من الروايات الواردة في تفسير هذه الآية، والتي تقول: إنّ هذا الزمان بالذات كان زماناً قبل نوح(عليه السلام)(1)، وهذا يعني: أنّ الآية لا تنظر إلى الزمان الحاضر، وإنّما تنظر إلى زمان قد مضى.

2_ ما يُفهم من كلام العلّامة الطباطبائي في كتابه (الميزان في تفسير القرآن)(2)، حيث يفسّر ﴿كَانَ﴾ بمعنى الفعل الماضي، ويقول: إنّ هذه الآية تشير إلى نمطين من الخلافات بين البشر، وليس إلى نمط واحد، فلم تكن البشرية مختلفة فيما بينها في مراحلها الأُولی، غير أنّ الاختلاف قد برز بينها بعد ذلك بالتدريج بلحاظ معاشهم وحياتهم وارتباطهم، باعتبار الاختلافات الموجودة في طبائعهم وأذواقهم، وعلى أثر هذا الاختلاف بعث اللّه النبيّين؛ لكي يُزيلوا هذه الاختلافات.


(1) تفسير نور الثقلين، ج1، ص208.

(2) الميزان في تفسير القرآن، ج2، ص124.

45

وعلى أثر ذلك وقع خلاف ثانٍ فيما بين الناس في قبول الشريعة أو ردّها، فمنهم مَن قبل الشريعة، ومنهم مَن ردّها.

هذا ما يفهمه العلّامة الطباطبائي من هذه الآية المباركة، فيقول: إنّ قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ يشير إلى الفترة الزمنية التي لم يكن فيها خلاف بين الناس، وإنّ قوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللّٰهُ النَّبِيَّينَ مُبَشَّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقَّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ يشير إلى دور ما بعد الوحدة ووقوع الخلافات؛ إذ بعث اللّه النبيّين لإزالتها، وذلك ابتداءً من نوح(عليه السلام)، وإنّ قوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيَّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ يشير إلى اختلاف ثانٍ حدث على أثر بعثة الأنبياء(عليهم السلام)، وهو ليس إشارة إلى الاختلاف الأوّل نفسه؛ لأنّ الاختلاف الذي حصل قبل بعثة الرسل(عليهم السلام) لا يمكن أن يقال عنه: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيَّنَاتُ﴾؛ وذلك لعدم وجود ﴿الْبَيَّنَاتُ﴾ قبل مجيء الرسل، فكلمة ﴿أُوتُوهُ﴾ تكون في غير محلّها، فهذا الاختلاف إذاً هو غير الاختلاف الأوّل الذي بُعثت من أجله الرُسُل.

فالآية على هذا التفسير تشير إلى زمان ماضٍ، ولا تُثْبت وحدة الأُمّة في الزمن الحاضر، فليس وزانها وزان الآيتين اللتين ذكرناهما سابقاً، بل

46

إنّ وزانها هو وزان آية أُخرى، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، فهذه الآية ظاهرة في نفي الوحدة بالنسبة إلى الزمان الحاضر، كما أنّ قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللّٰهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِن وَلِيَّ وَلَا نَصِيرٍ﴾(1) يشعر أيضاً بأنّ الناس غير متوحّدين بالفعل.

وعلى كلّ حال، فإنّ تفسير العلّامة الطباطبائي(رحمه الله) هذا بعيد، وفيه نوع تكلّف؛ إذ إنّ افتراض أنّ الآية تشير إلى نمطين من الخلافات هو خلاف سياق الآية المباركة، وإنّ الذي يبدو هو: أنّ هناك اختلافاً واحداً فقط، وكما أنّه اختلاف في القضايا المعاشية هو اختلاف في الدين، وفي كلّ شيء.

هذا، إضافة إلى أنّ الدين لم يكن قد بدأ أوّل ما بدأ بعهد نوح(عليه السلام)، وإنّما هو موجود من لدن آدم(عليه السلام)، وأنّ الاختلاف يشمل مساحة الدين أيضاً؛ وذلك لأنّه:

أوّلاً: يحكم العقل بأنّ اللّه تعالى الذي خلق البشر لا يمكن أن يهملهم


(1) الشورى: 8.

47

دون أن يشرّع لهم ليهديهم، بل من المفروض أن يهديهم برحمته، ويبيّن لهم طريق الرشاد بلطفه.

ثانياً: توجد بعض الآيات القرآنية التي تشير إلى ما نقول، أي: إلى وجود الدين قبل نوح(عليه السلام)، كما يبدو في قصّة آدم(عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعَاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنَّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(1)، فإنّ هذا خطاب لآدم وحوّاء وإبليس حينما هبطوا، فقال لهم: سيأتينّكم هدىً، فمن تبع هدايَ، فحينئذٍ لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون.

كما أنّنا حينما نراجع قصّة نوح نرى أنّ أوّل آية من سورة نوح(عليه السلام) تقول: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحَاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(2)، فلو ضممنا هذه الآية إلى الآية التي تقول: ﴿... وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾(3)، لنتج أنّ هناك نبيّاً كان قبل نوح، وأنّ هناك ديناً سماويّاً قبله؛ إذ لو لم يكن هناك نبيّ قبله، ولم يكن هناك دين قبله، لما استحقّ قوم نوح العذاب كما تدلّ عليه الآية


(1) البقرة: 38.

(2) نوح: 1.

(3) الإسراء: 15.

48

الأخيرة؛ لأنّها تشير إلى أنّ العذاب لا يمكن أن ينزل على قوم قبل أن يبعث اللّه إليهم رسولاً؛ ليتمّ الحجّة عليهم، ثم ينزل العذاب عليهم فيما إذا خالفوا، أمّا قبل بعثة الرسل، فلا معنى للعذاب، وحينما يقول اللّه تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحَاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فإنّ هذا يعني: أنّ العذاب كاد أن ينزل على أُمّة نوح(عليه السلام)، فأرسل إليهم نوحاً؛ لكي ينقذهم من العذاب، وهذا يعني: أنّ هناك رسالةً قبل نوح(عليه السلام).

إنّ ذلك كلّه يشهد على أنّ الدين كان قبل نوح(عليه السلام)، وإنّما الفرق _ بحسب ما يفهم من عبارات أُستاذنا في بعض حلقات (الإسلام يقود الحياة)_ هو: أنّ وظيفة الرسل قبل نوح(عليه السلام) كانت تنحصر في مرحلة الشهادة، أي: إنّهم كانوا يراقبون وضع الأُمّة، ويشرفون عليه، ولم يكونوا بصدد استلام الحكم، وقد كانت الولاية والخلافة وقتذاك للبشرية بشكل عامّ، ولكن الأمر قد انقلب اعتباراً من زمن نوح(عليه السلام)؛ إذ لم تعد الأُمّة صالحة للقيادة بسبب اختلافها، فجُعِلَت الخلافة بيد النبي إلى جانب مرتبة (وظيفة) الشهادة.

3_ ما يبدو من عبارات أُستاذنا الشهيد(قدس سره) في حلقات (الإسلام يقود الحياة): من أنّ دور الوحدة هو عبارة عن فترة ما قبل نوح(عليه السلام).

 

49

وبناءً على هذا الفهم، فما معنى قوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللّٰهُ النَّبِيَّينَ مُبَشَّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾؟

هل يعني ذلك: أنّ فترة ما قبل نوح(عليه السلام) كانت خالية من أيّ دين؟ وأنّ نوحاً كان أوّل نبيّ يُبْعَث؟

والجواب هو: أنّ هذه الآية المباركة غير ناظرة إلى الأنبياء الذين بُعِثوا أوّل الزمان، وإنّما هي ناظرة إلى القسم الثاني من الأنبياء، فالأنبياء الذين بُعِثوا هم على قسمين:

القسم الأوّل: _ وهم من لدن آدم(عليه السلام) إلى ما قبل نوح(عليه السلام) _ هم الذين بُعِثوا لكي يكونوا شهداء، ولم تكن وظيفتهم الحكم، وإنّما كانت تبليغَ الرسالة والشهادة على الأُمّة فقط، وأمّا الخلافة فقد كانت بيد الناس أنفسهم. وقد سمّى أُستاذنا(قدس سره) هذه الفترة الزمنية بـ (دور الوحدة).

القسم الثاني: هم الذين بُعِثوا بعد ذلك؛ إذ اختلف الناس فيما بينهم، وبغى بعضهم على بعض، وسادت _ على حدّ تعبير أُستاذنا(قدس سره) _ مُثل عليا مادية غير المثُل العليا التي تؤثّر في تكامل الإنسان، فانتقلت الخلافة عندئذٍ إلى النبي، على الرغم من أنّها مبدئيّاً للأُمّة، فأصبح النبي هو الخليفة فعلاً، وقد بدأ هذا بفترة نوح(عليه السلام)، والآية تشير إلى ذلك، فأصبح النبي حاكماً إلى جانب كونه شاهداً، وأصبح دوره

50

الحكم إضافة إلى الشهادة.

فالاختلاف _ بناءً على هذا التفسير _ واحد سواءٌ في معاشهم أو في الدين؛ لأنّ البيّنات موجودة قبل نوح(عليه السلام)، فبعث اللّه النبيّين لكي يبلّغوا الرسالات، ويحكموا بينهم.

وبناءً على هذا الفهم للآية، فإنّ قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ يعني: أنّ الناس كانوا غير مختلفين، وهذا لا يعني: أنّهم يعيشون بلا دين، وأنّه لا دين لهم، بل كان لهم دين، إلّا أنّ الأنبياء كانوا شهداء على الناس، والناس يحكمون أنفسهم بأنفسهم إن صحّ التعبير.

ولا نقصد بذلك (مبدأ الديمقراطية)؛ فإنّ هناك فرقاً شاسعاً بينه وبين ما قصدناه؛ إذ إنّ الديمقراطية تعني: أنّ الناس يحكمون أنفسهم بأنفسهم بمبادئ موضوعة من قِبَل أنفسهم، في حين أنّ المقصود هنا: حكم الناس أنفسهم بأنفسهم بمبادئ موضوعة للأُمّة من قبل اللّه تعالى، وما هي إلّا خليفة له على وجه الأرض.

فالخلافة قبل نوح إذاً كانت للبشرية، وأمّا الأنبياء فكانوا شهداء، ولكن اشتداد الخلافات أدّى إلى إنهاء (دور الوحدة) وبداية دور التشتّت، فأُعطي زمام الحكم بيد النبي المعصوم؛ لأنّه فوق مستوى هذه الخلافات، ومنذ ذلك الحين جمع الأنبياء بين الشهادة على الأُمّة

 

51

وبين الولاية أو الخلافة.

فالذي يستفاد من عبارات أُستاذنا(قدس سره) هو: أنّ الخلافة مرّت بدورين:

فأوّلاً: كان دور الخلافة للبشرية ﴿إِنَّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً...﴾، وليس المقصود من ذلك: أنّ آدم كفرد خليفة، وإنّما المقصود: أنّ آدم يمثّل البشرية، والخلافة للبشرية على وفق قوانين السماء، واستمرّ هذا الدور مدّة استمرار الوحدة بين البشر.

وبعد أن انتهى الدور الأوّل، وانحرفت البشرية عن طريق الفطرة المودعة فيها، أصبحت غير مستحقّة لتحمّل أعباء الخلافة فعلاً، على الرغم من أنّ الخلافة لم تزل من حقّها نظريّاً.

ومن هنا جاء الدور الآخر، وهو: توحيد المركز الذي تجتمع فيه الشهادة والخلافة، ويكون ذاك المركز شخص النبي، فأصبح النبي هو الخليفة والحاكم، وقد بدأ هذا الـدور منـذ زمـن نـوح(عليه السلام)، وتكرّر إلى زمـان نبيّنـا محمد(صلى الله عليه وآله).

وأمّا بعد ذلك _ أي: بعد وفاة النبي محمد(صلى الله عليه وآله) _ فقد انتقلت الخلافة إلى خليفته، وليس من الشرط أن يكون هذا الخليفة نبيّاً.

يقول أُستاذنا(قدس سره): إنّه في أكبر الظنّ حينما تكون الرسالة مكتملة اكتمالاً كافياً، فليس من الشرط أن يكون الخليفة نبيّاً، وإنّما يكفي أن

 

52

يكون معصوماً، ويكون هو الخليفة والشاهد في نفس الوقت.

وقد شاءت الحكمة الربّانية أخيراً غيبة الإمام المعصوم؛ لكي يدّخره اللّه تعالى للوقت المناسب. وكان من الواجب على الأُمّة مواصلة العمل في خطّ الخلافة، ولكن مادامت الأُمّة تعيش تحت هيمنة الظالمين وسيطرتهم، ولم تأخذ بيدها القدرة العملية لإدارة دفّة الحكم، فإنّ الخلافة تكون _ بحسب ما يقول أُستاذنا(قدس سره) _ للفقيه، وهو الذي سيكون وليَّ الأمر، ويدير الأُمور بالحدود الضيّقة التي من الممكن إدارتها على الرغم من عدم وجود دولة، وحينما تصبح الأُمّة قادرة على أن تدير نفسها بنفسها، فإنّ هذا الدور سينتهي، وستنتقل الخلافة إلى الأُمّة بما هي أُمّة، ويكون الفقيه حينذاك مشرفاً وشهيداً، وتبقى ولايته في حدود ملء الفراغ بأحكام ولائية ترتبط بأُسس فقهية وشرعية؛ إذ إنّه لا يستطيع أحد غيره أن يملأ هذه المنطقة؛ لأنّ الأحكام التي يستنبطها الفقيه _ على الرغم من أنّها أحكام ولائية وليست أوّلية شرعية _ مرتبطة بشكل أو بآخر بجذور فقهية بحيث لا يمكن أن يحسنها ذلك الإنسان الذي ليس بفقيه، ويكون هذا للفقيه في الوقت الذي تكون فيه الأُمّة حاكمة نفسها بنفسها.

ويستفيد أُستاذنا هذا المعنى من كلمة «رواة أحاديثنا» الواردة في

53

العبارة المعروفة عن الإمام صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف): «وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا»(1)؛ إذ يقول(قدس سره) في بعض حلقات (الإسلام يقود الحياة): إنّ معنى الرجوع إلى «رواة أحاديثنا» هو: الرجوع إليهم بوصفهم «رواة»، وهذا يعني: الرجوع إليهم في الأُمور المرتبطة بالرواية بما هي رواية وإن لم تكن من الأحكام الأوّلية الفقهية التي تدخل في دائرة التقليد، وكانت من الأُمور التي تدخل في دائرة الولاية، والتي لها علاقة بالفقه والرواية، فمعنى الحديث هو: الأمر بالرجوع إلى الرواة بما هم رواة.

هذه هي خلاصة ما ذكره أُستاذنا(قدس سره) في بعض حلقات (الإسلام يقود الحياة)، ولنا معه نقاش فقهي فيه، وهو ممّا لا يمكن أن أطرحه مفصّلاً هنا، وإنّ المقدار الذي أستطيع أن أُبيّنه هنا عبارة عن مستوىً من البيان غير دقيق فقهيّاً، فأُشير إلى بعض النكات قائلاً:

هل أصبحت الخلافة للمعصوم، ثم للفقيه في فترة غياب الوحدة عن الأُمّة وفي فترة تشتّتها، على نحو بحيث إذا انتهت هذه الفترة، وأصبحت الأُمّة بمستوى إدارة الحكم، فإنّ الخلافة ترجع إليها؛ لأنّ المجتمع لم يعد بحاجة إلى قَيَّمٍ إلّا من أجل ملء الفراغ؟

 


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص101، الباب11 من أبواب صفات القاضي، ح9.

54

أو الخلافة هي للمعصوم، ثم للفقيه، وثم للمعصوم حين ظهوره، ولا تصير إلى الأُمّة أبداً، ولا ترجع إليها حتّى لو سلّمنا أنّ الخلافة كانت في فترة ما قبل نوح بيد الأُمّة؟

فأيّ الأُسلوبين هو الصحيح؟

إنّ معرفة ذلك تعود إلى خمس نقاط لابدّ من أن نتعرّفها، وأُشير إليها إشارة عابرة، فهي تتحكّم في تعيين أحد الأُسلوبين وتحدّده، وهي:

أوّلاً: أن نعرف ما هي حكمة انتزاع الحكم من الأُمّة وإعطائه بيد الأنبياء؟ وهل الحكمة منحصرة في اختلافهم وخروجهم عن كونهم أُمّة واحدة، فأُخذ الحكم من أيديهم، بحيث لو انتهى هذا الخلاف والتمزّق، لعادت الخلافة إلى الأُمّة من جديد؟

أو سبب انتزاع الخلافة من الأُمّة نشأ من تعقّد الحياة وتشعّبها وتعدّد مرافق الحياة والتعقيدات التي ترد على الحياة بمرور الزمن؟

فبناءً على هذا الاحتمال الأخير لا يمكن القول بأنّ الخلافة ستعود إلى الأُمّة حينما تكون بمستوى المسؤولية، وحينما تنتهي الخلافات بينها.

ثانياً: ما معنى الخلافة في قوله تعالى: ﴿إِنَّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً...﴾؟

 

55

إنّ المستَظَهر من الآية هو: أنّ الخلافة للبشرية، وما آدم إلّا مثال لها، ويشهد لهذا قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ...﴾(1)، فهذا شاهد على أنّ السجود للبشرية، كما يشهد له قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنَّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدَّمَاءَ﴾؛ إذ إنّ آدم لم يُفْسِد، ولم يَسْفِك دماً، وهو أشرف وأجلّ من ذلك، وإنّما البشرية هي التي تُفْسِد وتَسْفِك الدماء، فهذا شاهد آخر على أنّ الخلافة للبشرية، وليست لآدم فحسب.

فالبشرية بما هي بشرية هي الخليفة، ولكن ما معنى خلافة البشرية؟

فهل تعني: أنّ البشرية هي التي تحكم جميعاً كشورى، حتّى يصدق أنّ البشرية هي الخليفة؟

أو أنّه لا يشترط في صدق معنى خلافة البشرية أن يكون الحكم بيدها شورى، بل تصدق الخلافة للبشرية حينما نفترض أنّ البشرية جميعاً تقوم بالوظيفة من خلال تقسيم العمل، بحيث تُوزّع بينهم، فأحدهم مثلاً وظيفته الحكم، وهو المعصوم أو نائبه، وآخر وظيفته


(1) الأعراف: 11.

56

إنعاش الوضع الاقتصادي مثلاً، وثالث وظيفته غير ذلك... وهكذا، وهذا لا يستلزم أن تكون الولاية لأكثريّتهم كشورى، وقد يشهد لهذا المعنى للاستخلاف قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكَّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدَّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنَاً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئَاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(1)، فالآية تُعطي معنى: أنّ اللّه تبارك وتعالى قد وعد المؤمنين بأن يستخلفنّهم في الأرض، أي: إنّ المؤمنين سوف يتمكّنون في الأرض، ويصبحون حكّاماً عليها، وهذا ما لم يتحقّق منذ نزول الآية إلى زماننا طرفة عين. فيبدو إذاً أنّ هذه الآية إشارة إلى ظهور الحجّة(عجل الله تعالى فرجه الشريف) الذي ورد أنّه(عليه السلام) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً، وهذا ما ورد في بعض الروايات الواردة في تفسير هذه الآية؛ إذ فَسّرت الآيةَ المباركةَ بزمان الإمام صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «القائم وأصحابه»(2).


(1) النور: 55.

(2) البرهان في تفسير القرآن، ج3، ص146، ح4.

57

وبناءً على هذا المعنى للاستخلاف، لا يمكن أن نفهم الخلافة بمعنى ولاية كلّ فرد بحيث يكون مساهماً في الحكم، وذلك إذا قلنا: إنّ الإمام الحجّة(عليه السلام) حين ظهوره يحكم الأرض، والآخرون منفّذون، ولا ولاية لهم مع ولايته.

فما معنى كونهم خلفاء إذاً؟

وهل نستطيع أن نفسّر الاستخلاف هاهنا بمعنى خلافة كلّ البشرية، وأن تكون القضية انتخاباً وتصويتاً حتّى مع وجود الحجّة بين ظَهْرانيْهم؟

هنا يبدو للذهن أنّ المقصود من الاستخلاف ما قلناه: من أنّ المؤمنين جميعاً يتحمّلون أعباء الخلافة عن طريق تقسيم العمل، فيشكّلون بمجموعهم دور الخلافة.

ثالثاً: أن نعرف معنى قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ﴾.

فهناك احتمالان رئيسان:

الأوّل: أن يكون المقصود منه هو: إعطاء الولاية والحكم بيد الشورى، ولمّا كان هذا غير منطبق في زمن الرسول(صلى الله عليه وآله) _ أي: زمن نزول الآية؛ لأنّ الولاية حينذاك لم تكن بيد الشورى، وإنّما كانت بيد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) _ اضطررنا إلى أن نحمل الآية على معنىً آخر، وهو: أنّ

58

الآية في مقام الوصف، أي: إنّها تصف قوماً ذوي أوصاف مثالية ربّما لا تنطبق بعضها في زمن نزول الآية، وإنّما تنطبق في تاريخ متأخّر، وكأنّما تريد أن تقول: إنّ هذه الأوصاف هي الأوصاف النموذجية للأُمّة المؤمنة، وعلى هذا فإنّ الآية ليست بصدد بيان أوصاف حالية، وإنّما هي بصدد بيان أوصاف مثالية ربّما لم يَحِنْ بعد زمان انطباق بعضها.

فالقضية إذاً قضية مستقبلية، وأُمور الأُمّة سوف تكون في وقتٍ ما شورى بين أفرادها.

وبناءً على هذا الاحتمال تدلّ الآية على أنّ الأمر سيعود إلى الأُمّة، أي: إنّ الأُمّة سوف تصبح هي الخليفة كما كانت قبل نوح(عليه السلام) إن صحّ ذلك.

الثاني: أن نقول: إنّ قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ﴾ غير ناظر إلى مبدأ الولاية، وإنّما يصف المؤمنين في زمن نزول الآية كما هو ظاهر كلّ توصيف يرد في الكلام؛ إذ يكون توصيفاً فعليّاً، وليس مثاليّاً مستقبليّاً.

وبناءً على هذا الاحتمال إذا أردنا أن نطبّق الأوصاف على زمان نزول الآية المباركة، فإنّنا نضطرّ إلى أن نقول: إنّ قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ﴾ غير ناظر إلى الولاية، وإنّما هو ناظر إلى مبدأ (الاستضاءة

59

بالأفكار عن طريق المشوَرة)؛ وذلك لأنّ الولاية وقتذاك كانت للرسول(صلى الله عليه وآله)، ولم تكن للمؤمنين مطلقاً.

وعلى هذا الأساس لا يتمّ الرأي القائل بأنّ الولاية ستعود إلى الأُمّة، أي: إنّ هذه الآية لا تشهد لغرض عودة الولاية إلى الأُمّة.

وأمّا على الاحتمال الأوّل _ لو سلّمنا به، وقلنا: إنّ الآية تنظر إلى الشورى المستقبلية_ فإنّنا نضطرّ إلى القول بأنّ ذلك الزمن لم يأت بعد، وأنّها سوف تأتي بعد ظهور الإمام صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف) بعد حكمه وولايته؛ ذلك أنّه لو كانت هذه الأيّام هي نفس تلك الفترة، أو أنّ أيّام غيبة المعصوم(عليه السلام) هي أيّام إعطاء الشورى للأُمّة، لكان من الضروري إذاً أن يتعرّض القرآن والروايات لنظم وشروط هذه الشورى التي تَضْبُط هذا النظام، ونحن نرى أنّ هذا النظام لم يُبيَّن لا في آية ولا في رواية.

رابعاً: أن نعرف معنى كلمة «رواة أحاديثنا» في التوقيع الصادر عن الحجّة(عجل الله تعالى فرجه الشريف)؛ إذ يقول الأُصوليّون: إنّ العناوين والأوصاف التي تُذْكَر في الكلام تارةً تكون حيثيّات تعليلية، وأُخرى تكون حيثيّات تقييدية. وهذا يعني: أنّ الأوصاف والعناوين قد تكون حِكماً ومصالح للأحكام الشرعية، وقد تكون قيوداً تُقيّد الأحكام، وليست مجرّد حِكم ومصالح.

 

60

وهنا نقول: كيف أُخذت كلمة «رواة» أو صفة (راوٍ) في قوله(عليه السلام): «أمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا»؟

فهل هي مأخوذة كحيثية تقييدية للرجوع إلى الرواة بما هم رواة للأحاديث؟

أو مأخوذة كحيثية تعليلية تعلّل الحكم، وتأمر بالرجوع إلى الفقهاء؛ لأنّهم رواة ومطّلعون على الروايات والأحكام؟

فعلى التفسير الأوّل _ وهو أنّ كلمة «رواة» قد أُخذت كحيثية تقييدية _ تكون الولاية التي أُعطيت للفقهاء غير واسعة، ولا تشمل غير دائرة الروايات، فتُحَدّد ولايتهم في حدود ملء منطقة الفراغ بما يرتبط بالروايات فقط.

وأمّا إذا قلنا: إنّ كلمة «رواة» قد أُخذت كحيثية تعليلية، وإنّها علّة للحكم، فإنّ المعنى سيكون هو إعطاء الولاية العامّة للفقيه، ولا يبقى حينئذٍ أيُّ مجال لمبدأ ولاية الشورى.

خامساً: أن نلاحظ مبدأ (الرجعة) الواردة في الروايات، أي: رجعة الأئمّة(عليهم السلام) في آخر الزمان وبعد ظهور الحجّة(عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ونحاول أن نعرف معنى رجعتهم، فهل تعني: أنّهم(عليهم السلام) أولياء للأُمور، وأنّ الحكم سيكون بأيديهم؟ أو أنّهم سيكونون شهداء فقط؟ فإذا استطعنا أن نعرف من