89

دور البرزخ

ويمكن تلخيصه في نقطتين نمرّ بهما بشكل عابر، وهما:

1_ سَكْرة الموت.

2_ حقيقة الموت وعالم القبر.

سَكْرة الموت

قال تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقَّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾(1).

ولا يخلو أيّ إنسان من أن يمرّ بسكرة الموت هذه.

والسَكْرة لغةً بمعنى ما يقابل الصحوة، أي: إنّها تعني حالة الذهول، وحالة ما قد تشبه فقدان الذهنية أو العقل، والتعبير الأدقّ هو: فقدان الصحوة.


(1) ق: 19.

90

إنّ هذه الحالة (السَكْرة) التي تُشير إليها الآية المباركة قد تكون نتيجة أحد سببين أو كليهما، واللّه أعلم بحقيقة الحال، وهذان السببان هما:

الأوّل: شدّة النزع وألمه؛ إذ إنّ النزع يسبّب للإنسان آلاماً شديدة يَصْعُب تحمّلها، وربّما لا تطاق في كثير من الأحيان، فيؤدّي بالإنسان إلى حالة السَكْرة، فيفقد صحوته، ويذهل ذهولاً لم يشهده في حياته.

والمستفاد من الروايات أنّ حالة النزع وآلامها ليست عامّة تَشْمُل الناس جميعاً، بل إنّ هناك من يكون بمنجىً من هذه الحالة.

فعن الإمام الصادق(عليه السلام)، قيل له: «صف لنا الموت، فقال(عليه السلام): للمؤمن كأطيب ريح يشمّه، فينعس(1) لطيبه، وينقطع التعب والألم كلُّه عنه، (يعني: حالة الموت بدلاً من أن تكون عذاباً أو شدّة أو ألماً للمؤمن، قد تؤدّي إلى إزالة كلّ ألم عن هذا المحتضر، وإنهاء كلّ تعب يحسّ به) وللكافر كلسع الأفاعي، ولدغ العقارب أو أشدّ. قيل: فإنّ قوماً يقولون: إنّه (أي الموت) أشدّ من نشرٍ بالمناشير، وقرضٍ بالمقاريض، ورضخ بالأحجار، وتدوير قطب الأرحية على الأحداق (يعني أحداق العين). قال: كذلك هو على بعض الكافرين والفاجرين، ألا ترون منهم من يعاين تلك الشدائد، فذلكم الذي هو أشدّ من هذا، لا من عذاب


(1) في بعض النسخ: فينفس.

91

الآخرة؛ فإنّه أشدّ من عذاب الدنيا (يعني: أنّ حالة النزع أشدّ من كلّ المحن والمصائب التي تتصوّر في عالمنا هذا، ولا شيء أشدّ منه إلّا عذاب الآخرة؛ إذ إنّه أشدّ من عذاب الدنيا). قيل: فما بالنا نرى كافراً يسهل عليه النزع، فينطفئ وهو يحدّث ويضحك ويتكلّم، وفي المؤمنين أيضاً من يكون كذلك، وفي المؤمنين والكافرين من يقاسي عند سكرات الموت هذه الشدائد؟ فقال: ما كان من راحة للمؤمنين هناك، فهو عاجل ثوابه (يعني: أنّ المؤمن الذي تراه في حالة النزع لا تكون صعوبة عليه، وتراه يموت براحة وسهولة، فهو عبارة من عاجل ثوابه، وأمّا الباقي من ثوابه الذي هو أفضل وأكمل، فسيَحْصُل عليه بعد الموت وعند اللّه تبارك وتعالى)، وما كان من شديدة، فتمحيصه من ذنوبه (يعني: حينما ترى المؤمن يقاسي شدّة النزع، فإنّه تمحيص له من الذنب، وهذا أيضاً عبارة عن رحمة من قِبَل اللّه تعالى على هذا المؤمن؛ كي يخرج من هذه الدنيا طاهراً ولا ذنب عليه)؛ ليرد الآخرة نقيّاً نظيفاً مستحقّاً لثواب الأبد، لا مانع له دونه. وما كان من سهولة هناك على الكافر (يعني: أمّا ما تراه من أنّ الكفّار تكون حالة نزع الروح سهلة عليهم أحياناً، ولا يحسّون بتعب أو ألم) فليوفّى أجر حسناته في الدنيا (يعني: أنّ هذا الكافر _ وعلى الرغم من أنّه كافر _ لابدّ من أنّه قد أتى

92

في بعض أيّام حياته ببعض الأعمال الحسنة من إحسان إلى شخص، وترحّم على ضعيف، أو ما شابه، فاللّه تبارك وتعالى يريد أن يثيبه في هذه الدنيا على تلك الأعمال؛ لكي يذهب إلى الآخرة ولا حقّ له فيها، فلا يبقى له هناك غير العذاب والنكال، فثوابه هو أن تصبح حالة النزع سهلة عليه)؛ ليرد الآخرة وليس له إلّا ما يوجب عليه العذاب، وما كان من شدّة على الكافر هناك (يعني: أمّا ما تراه أحياناً أنّ الكافر يبتلى بشدّة النزع وبالسكرات التي لا تتحمّل ولا تطاق) فهو ابتداء عذاب اللّه له بعد نفاد حسناته (يعني: أنّ هذا الكافر إذا كانت عنده بعض الحسنات، فإنّ اللّه تعالى قد وفّاها له في الدنيا قبل النزع، فأعطاه بعض الراحة مثلاً، بحيث إنّه عندما وصل إلى حالة النزع لم تبق له حسنات، فاللّه تبارك وتعالى يكون قد عجّل له ذلك العذاب من الآن، وهذه الشدّة في النزع هي بداية عذاب اللّه تبارك وتعالى بعد نفاد حسناته)، ذلكم بأنّ اللّه عدلٌ لا يجور»(1).

فسكرة الموت التي تعرض على الإنسان قد تكون إذاً بلحاظ شدّة نزع الروح والألم الذي لا يطاق.

الثاني: ما يصاب به الإنسان من ذهول حينما يرى فجأة أنّه فَقَد


(1) راجع بحار الأنوار، ج6، ص152، باب سکرات الموت وشدائده...، ح6.

93

كلّ شيء، وانقطعت جميع علاقاته، ويحسّ بأنّه أُحيل بينه وبين المتع والنعيم الذي كان في متناول يده في لحظة واحدة، وأنّه أقدم على عالم مجهول بالنسبة إليه؛ إذ لا يعرف هل يُبشَّر بالجنّة أو بالنار؟ وهل يكون من السعداء أو من الأشقياء؟

فإحساس الإنسان بفقدان كلّ ما يمتلك من ناحية، وإحساسه بأنّه أقدم على عالم مجهول لديه من ناحية أُخرى، يولّدان لديه الذهول، فيفقد الصحوة.

وقد أشارت بعض الآيات والروايات إلى هذا المعنى بتعابير مختلفة:

قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبَّ ارْجِعُونِ * لَعَلَّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(1).

وعن سويد بن غفلة، عن أميرالمؤمنين(عليه السلام)، قال: «إنّ ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيّام الدنيا وأوّل يوم من أيّام الآخرة، مُثّل له ماله وولده وعمله (يعني: باعتباره يحسّ بأنّه سيفقد كلّ شيء من مال، وبنين، وفرص العمل، وغير ذلك في هذه الساعة، فكأنّما يتجسّد أمامه


(1) المؤمنون: 99 _ 100

94

ماله وولده وعمله)، فيلتفت إلى ماله، فيقول: واللّه إنّي كنت عليك حريصاً شحيحاً، فما لي عندك؟ (يعني: أيّها المال، إنّي قد أفنيت كلّ عمري لتحصيلك، فماذا أستفيد منك الآن، وأنا في أوّل آنات إقدامي على عالم الآخرة والانفصال عنك) فيقول: خذ منّي كفنك (وهذا تجسيد للأفكار التي تعتري هذا الإنسان). قال فيلتفت إلى ولده، فيقول: واللّه إنّي كنت لكم محبّاً، وإنّي كنت عليكم محامياً (يعني: أدفع عنكم ما يقهركم)، فماذا لي عندكم؟ فيقولون: نؤدّيك إلى حفرتك نواريك فيها (فهم إذاً ليسوا مع هذا الأب المسكين إلّا إلى حفرة قبره). فيلتفت إلى عمله، فيقول: واللّه إنّي كنت فيك لزاهداً (يعني: أنّه لم يكن يعتني به) وإنْ كنت عليّ لثقيلاً، فماذا عندك؟ فيقول (العمل): أنا قرينك في قبرك ويوم نشرك حتّى أُعرض أنا وأنت على ربّك»(1).

فهذا هو السبب الثاني للسكرة.

وكِلا المعنَيين مجتمعان في كلام إمامنا أميرالمؤمنين(عليه السلام) في قوله في نهج البلاغه: «اجتمعت عليهم سَكْرة الموت وحسرة الفوت»(2).


(1) راجع الكافي، ج3، ص231، باب أنّ الميت يمثّل له ماله وولده وعمله قبل موته، من کتاب تاريخ الإمام الثاني عشر صلوات الله عليه، ح1.

(2) نهج البلاغة، ص160، الخطبة 109.

95

وأمّا قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبَّ ارْجِعُونِ * لَعَلَّي أَعْمَلُ صَالِحاً...﴾ فإنّه ليس من كلام المؤمنين، وإنّما هو من كلام الفسّاق أو الفجّار أو الكفرة الذين أسرفوا على أنفسهم.

وأمّا المؤمنون فإنّهم يتمنّون الرجوع أيضاً، ولكنّه يختلف عن ذلك؛ إذ تقول الرواية عن الإمام الصادق(عليه السلام): «إنّ نَفْس المحتضر إذا بلغت الحلقوم وكان مؤمناً، رأى منزله من الجنّة، فيقول: ردّوني إلى الدنيا (ليس لأنّه آسف على أخطائه وسيّئاته، وإنّما يقول ذلك) حتّى أُخبر أهلها بما أرى (أي: أُخبرهم بأنّي في الجنّة)، فيقال له: ليس إلى ذلك سبيل»(1). فحيـنما ينـكشف الغطـاء، وتنكشف الحقيقة لدى الإنسان، فإنّه ليس لرجعته إلى الحياة الدنيا من سبيل.

وكأنّ هذه الرواية تشير إلى الآية التي تقول: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبَّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾(2).


(1) بحار الأنوار، ج6، ص200، باب ما يعاین المؤمن والکافر عند الموت وحضور الأئمة؟عهم؟...، ح55.

(2) يس: 26 _ 27.

96

حقيقة الموت وعالم القبر

لا أقصد بحقيقة الموت حالة السَكْرة التي تكلّمنا عنها، وإنّما أقصد بالنسبة إلى ما بعد السَكْرة، أي: بعد انتهاء حالة النزع.

وهناك آية لعلّها تشير إلى حقيقة الموت، وهي قوله تعالى: ﴿اللّٰهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(1).

هذه الآية المباركة تشعر بأنّ الموت يشبه حالة النوم، أي: إنّ الإنسان عندما يموت أو ينام فإنّ روحه تسحب منه مع اختلاف درجة السحب؛ إذ تكون درجةُ السحب بالنسبة إلى حالة النوم درجةً خفيفة، وتكون بالنسبة إلى حالة الموت درجةً شديدة.

فيتوفّى اللّه نَفْس النائم كما يتوفّى نَفْس الميّت، فالنوم صِنْو الموت، ولكنّه أخفّ منه درجة.

والموت كالنوم، إلّا أنّه بشكل أعمق وأطول؛ إذ تكون هذه الحالة مؤقّتة بالنسبة إلى النائم؛ إذ تعود إليه النفس حينما يستيقظ، وكذا الحال بالنسبة إلى الميّت؛ فإنّ هذه الحالة تكون مؤقّتة أيضاً، ولكنّها


(1) الزمر: 42.

97

مؤقّتة بوقت أطول؛ إذ إنّها مؤقّتة إلى (يوم يبعثون)، وحينما يأتي ذلك الوقت، فإنّ الروح ستعود إلى البدن.

وقد ورد في بعض الروايات: «كما تنامون تموتون، وكما تستيقظون تبعثون»(1).

وهناك رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام)، قيل له: «ما الموت؟ فقال(عليه السلام): هو النوم الذي يأتيكم في كلّ ليلة، إلّا أنّه طويل مدّته، لا ينتبه منه إلّا يوم القيامة، فمنهم مَنْ رأى في منامه من أصناف الفرح ما لا يقادر قدره، ومنهم من رأی في نومه من أصناف الأهوال ما لا يقادر قدره، فكيف حال مَنْ فرح في النوم ووجل فيه؟ هذا هو الموت، فاستعدّوا له»(2).

فالإمام(عليه السلام) يشرح هنا كيفية الثواب والعقاب في عالم البرزخ، فيقول(عليه السلام): إنّ حالات الثواب والعقاب هي حالات مثالية، وليست هي من الثواب المادّي والعقاب المادّي؛ إذ إنّ الثواب والعقاب المادّيين سيكونان في يوم القيامة، وحينما يرجع الجسد، ويعود البدن المادّي،


(1) اُنظر الجامع لأحكام القرآن، ج15، ص261، ذيل الآية: 42 من سورة الزمر، وروضة الواعظين، ج1، ص144، مع اختلاف يسير.

(2) اعتقادات الإمامية (للصدوق)، ص53.

98

فيكون الثواب حينذاك من قبيل النعم الموجودة في الدنيا، إلّا أنّه هناك أعظم وأكثر، هذا إضافة إلى الثواب المعنوي طبعاً؛ إذ إنّ الثواب في يوم القيامة ليس منحصراً بالثواب المادّي فقط، وإنّما يوجد إلى جنبه أيضاً الثواب المعنوي الذي سُمِّي في القرآن الكريم بـ (رِضْوَانِ اللّهِ).

وكذلك الأمر بالنسبة إلى العقاب؛ إذ يكون مادّياً في يوم القيامة، ويتجسّد في أنواع العقوبات وأشدّها، ولعلّ العقاب بالنار _ نعوذ باللّه‌_ هو أشدّ تلك العقوبات، قال تعالى: ﴿... سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارَاً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودَاً غَيْرَهَا...﴾(1).

هذا هو العذاب المادّي في يوم القيامة.

أمّا في عالم البرزخ فيبدو أنّ الثواب والعقاب فيه ليسا بمادّيين بذلك الشكل، باعتبار أنّ هذه الروح فقدت البدن المادّي، وانفصلت عنه، وذهبت إلى عالم المثال أو إلى قالب المثال، وسيكون الثواب والعقاب من سنخ ذلك العالم.

ومن هنا فإنّ الإمام(عليه السلام) يشبّه الثواب والعقاب في عالم البرزخ بما يراه النائم أحياناً في عالم النوم من نعيم أو عذاب؛ فإنّه ثواب أو عقاب


(1) النساء: 56.

99

مثالي، وليس بمادّي، ولكن مع اختلاف الشدّة والخفّة، ففي عالم النوم شيء خفيف وطفيف، ولكنّه هناك شيء شديد.

فهذه الرواية وأشباهها تفتح علينا باباً في كيفية تصوّر الحالة في عالم البرزخ، وفي حقيقة الثواب والعقاب.

وبالنسبة إلى المفهوم الذي يقال عنه بأنّ القبر روضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حُفَر النيران، يبدو أنّ هذه النار (حفرة من حُفَر النيران) ليست نار الآخرة المادّية التي سيلقاها الكافر يوم البعث، وإنّما هذه مثال لتلك، أو نفحة منها، أو ما شئت فعبّر، وكذلك الثواب.

وهذه الروايات تلقي ضوءاً على كيفية حياة الإنسان في عالم القبر، أو فيما بعد الموت من كونها حياة مثالية، وفي قالب مثالي.

كما أنّ هناك عدّة آيات في القرآن الكريم يشير بعضها إلى عالم البرزخ بوضوح، وورد التفسير في بعض آخر بأنّها ناظرة إلى عالم البرزخ، منها:

1_ قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾(1).


(1) مريم: 60 _ 62.

100

فهناك روايات تفسّر هذة الآية المباركة _ التي تتكلّم عن الثواب _ بجنّة الدنيا، أي: جنّة عالم البرزخ، وتستشهد هذه الرواية على ذلك بقوله تعالى: ﴿بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾؛ إذ تقول: إنّ (البكرة) و(العشيّ) إنّما يكونان بسبب الشمس، والشمس إنّما تكون في الدنيا، أمّا في يوم القيامة فلا شمس، ومن هنا فإنّ هذه الآية المباركة راجعة إلى جنّة الدنيا، أو بتعبير آخر إلى جنّة عالم البرزخ، وليست ناظرة إلى جنّة عالم الآخرة.

2_ قوله تعالى: ﴿... وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾(1).

إنّ هذه الآية المباركة راجعة إلى العقاب، والاستدلال بهذه الآية يكون بقوله تعالى: ﴿غُدُوّاً وَعَشِيّاً﴾؛ إذ إنّ (الغدوّ) و(العشيّ) لا يكونان إلّا مع وجود الشمس، والشمس لا تكون إلّا في الحياة الدنيا هذه.

كما أنّ قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ...﴾ الناظر إلى عالم الآخرة يكون قرينة على أنّ صدر الآية _ وهو قوله تعالى: ﴿يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً﴾_ كان ينظر إلى عالم البرزخ.


(1) المؤمن: 45 _ 46.

101

إنّ حالة ما بعد الموت إذاً هي حالة حياة للروح منفصلة عن الجسد، وقد تكون إحدى حِكَم تسليط النوم على البشرية هي أن يكون هذا حجّة على العباد؛ لكي لا ينكروا حياة عالم البرزخ، وإبطالاً لادّعاء من يقول: إنّنا نرى أنّ الميّت ينتهي عندما يموت، فلا يتنفّس، ولا يحسّ ولا يشعر، وسيتحوّل بدنه إلى تراب، فكيف نتصوّر أنّه حيّ، وكيف نتصوّر الحياة لأجسام بلت ولأُناسٍ انتهوا، وأصبحوا جماداً لا يسمعون ولا يعقلون، خصوصاً بالنسبة إلى الشهداء الذين قال اللّه تعالى عنهم: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبَّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾(1)؟!

وهذه الشبهة تارة تُذْكَر في مقابل عالم الآخرة، وأُخرى تُذْكَر في مقابل عالم البرزخ، أي: ما بعد الموت مباشرة وعلى مستوى عالم القبر.

والجواب عن هذه الشبهة واضح جدّاً، فحينما تُذْكَر هذه الشبهةُ في مقابل عالم الآخرة، فإنّ جوابها _ على وفق مبادِئ الإسلام _ واضح جدّاً؛ إذ إنّنا لم ندّعِ أنّ عالم الآخرة نحسّ به بمجرّد الموت، بل سيحيينا اللّه تبارك وتعالى في يوم القيامة على أرض غير هذه الأرض، ويظلّنا


(1) آل عمران: 169.

102

تحت سماء غير هذه السماء، وهناك نرى عالم الآخرة، قال اللّه تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ...﴾(1).

فالإشكال إذاً لا يمكن أن يرد بالنسبة إلى عالم الآخرة، ولا يمكن أن يقال: كيف يكون الثواب والعقاب ونحن نرى الميّت يُدْفَن في الأرض، وأنّه سيتحوّل إلى تراب بعد حين؟!

أمّا حينما تُذْكَر هذه الشبهةُ في مقابل عالم البرزخ، فربّما يتجسّد هذا الإشكال في أذهان السذّج؛ وذلك لأنّ عالم البرزخ عالم مقارن لعالمنا هذا، وأنّه ليس منفصلاً عنه، وأنّنا في الوقت الذي نعيش في عالمنا هذا يعيش موتانا في البرزخ، ويثابون ويعاقبون على أرضنا هذه نفسها.

كما ورد في الروايات أنّ وادي السلام مثلاً روضة من رياض الجنّة، وأنّ أرواح المؤمنين تجتمع فيه، أو مثلاً أنّ وادي برهوت مكان لعذاب الكفّار.

ومن هنا فإنّ الشبهة يمكن أن تأتي، فيقال: كيف نتصوّر الثواب والعقاب، وكيف نتصوّر جنّة وناراً ونحن نرى وادي السلام، ونذهب إليه، دون أن نرى شيئاً من آثار الجنّة ونعيمها؟! كما ونذهب إلى وادي


(1) إبراهيم: 48.

103

برهوت فلا نرى أثراً لعذاب أو دليلاً على نار؟! بل نرى أنّ الموتى أصبحوا جماداً، فكيف نفترض أنّهم يعون، وأنّهم يثابون ويعاقبون؟!

وللجواب عن هذه الشبهة نقول: إنّ اللّه تعالى قد سلّط النوم على العباد؛ إتماماً للحجّة ورأفة بالعباد، وكأنّما هذا نموذج مصغّر من الموت، والفرحُ الذي يطرأ على النائم أو النعيم الذي يراه النائم أحياناً هو نموذج مصغّر من ثواب عالم البرزخ، وكذلك العذاب الذي يحسّ به النائم أحياناً هو نموذج مصغّر من عذاب عالم البرزخ، ويكفي هذا النموذجُ المُصغّرُ لإبطال الشبهة وكسر الاستبعاد الذي استدلّ المادّيون به.

فنحن نرى النائم بأعيننا المادّية، ونرى أنّه لا حَرَاك فيه، وأنّه لا يحسّ ولا يعي ولا يرى ولا يسمع، ولو تكلّمنا معه، لما أجاب، في حين أنّه في عالم نومه كأنّما يتحرّك في البلاد، ويسبح في الفضاء طاوياً المسافات البعيدة، وهو يرى ويسمع ويتنعّم ويتألّم، وكثير منّا يتذكّر ما رآه، وما عاشه في عالم النوم بعد ما يستيقظ من نومه ويَجْلِس.

إذاً هذا شيء ممكن ومعقول، وهو محسوس، ولا يمكن إنكاره، وإن صحّ هذا الشيءُ في نموذج صغير، فإنّه يصحّ إذاً في نموذجه الكبير الواسع الذي أُخْبِرنا به في الآيات المباركات وفي الروايات.

كما أنّه ورد في الروايات أنّ الأرواح بعد الموت تحلّ في قوالب

104

مثالية مشابهة للقوالب البدنية المادّية، وتعيش فيها.

وإنّنا لا نستطيع أن نقول: إنّ الوجل والفرح الذي نحسّ به في عالم البرزخ من حيث المستوى والدرجة هو نفس ما عليه الحال في عالم النوم، وإنّما نشبّه هذا بذاك من حيث السنخية، ومن حيث إنّه في قالب مثالي، وإنّ الثواب والعقاب هناك مثاليّان، وليسا بمادّيين.

أمّا بالنسبة إلى المستوى، فشتّان بين مستوى عالم النوم ومستوى عالم البرزخ، وما مستوى عالم النوم إلّا نموذج مصغّر لإتمام الحجّة على الإنسان؛ ليعرف ويحسّ أنّ هناك عالماً غير عالم المادّة، وأنّ هناك عالماً يمكن أن يثاب الشخص فيه أو يعقاب، وهذا العالم عالم لا نراه بأعيننا المادّية، وعندئذٍ فإنّ روح الإنسان ستكون فيما بعد الموت في قالب يُسمَّى بـ (القالب المثالي)، وهو أشبه شيء بقالبه الجسماني، إلّا أنّه ليس مادّة، كما أنّ الثواب والعقاب سيكون من سنخ عالم المثال وقالبه.

ويشهد لما ذكرناه _ من تصوّرٍ عن حقيقة الموت والبرزخ _ عدّةُ طوائف من الآيات والروايات على اختلاف؛ إذ توضّح حقيقة عالم البرزخ ومنهجته، ومن جملة تلك الطوائف:

الطائفة الأُولى: هي الروايات الصريحة التي تبيّن موطن الروح ومسكنها فيما بعد الموت؛ إذ تقول: إنّ أرواح الناس تحلّ في قوالب مثالية تشبه القوالب المادّية التي نعشيها هنا في هذا العالم.

 

105

وهذه الطائفة من الروايات عديدة واردة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، نذكر منها كنموذج:

1_ عن أبي ولّاد الحنّاط عن الإمام الصادق(عليه السلام)، قال: «قلت له: جعلت فداك، يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش، فقال: لا، المؤمن أكرم على اللّه من أن يجعل روحه في حوصلة طير، ولكن في أبدان كأبدانهم»(1). يعني: في أبدان شبيهة بأبدانهم الدنيوية. وهذا ما يُسمَّى بالقالب المثالي.

2_ عن الإمام الصادق(عليه السلام): «... فإذا قبض اللّه(عز وجل) المؤمن صيَّرَ تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا (يعني: في قالب مثالي)، فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم، عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا»(2). يعني: أنّ الموتى المؤمنين الذين ذهبوا إلى ربّهم في فترة سابقة يعرفون الموتى الجُدُد الذين يقدمون عليهم؛ وذلك لأنّ أرواحهم قد دخلت في قوالب مثالية تشبه القوالب المادّية (الدنيوية)، وباعتبار أنّهم شاهدوهم في الحياة الدنيا قبل الموت، فإنّهم يعرفونهم بأسمائهم


(1) الكافي، ج3، ص244، باب آخر في أرواح المؤمنين من كتاب الجنائز، ح1.

(2) المصدر السابق، ص245، ح6.

106

إن قدموا عليهم؛ إذ يرون أنّ أشكال هذه القوالب المثالية كأشكال القوالب المادّية (الدنيوية).

3_ عن الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً، قال: «إنّ الأرواح في صفة الأجساد (يعني: أنّها تتقولب بقالب الأجساد، أي: إنّها تدخل قالباً مثاليّاً كالقالب المادّي) في شجرة في الجنّة تعارف (أي: يعرف بعضهم بعضاً، فيتعارفون) وتساءل، فإذا قدمت الروح على الأرواح (يعني: عندما يموت مؤمن جديد كان إلى الآن حيّاً) يقول: (أي: يقول أحدهم) دعوها؛ فإنّها قد أفلتت من هول عظيم (يعني: سَكْرة الموت). ثم يسألونها (يعني: أنّهم يسألون هذه الروح القادمة عليهم عن إخوانهم وأصحابهم ومعارفهم): ما فعل فلان، وما فعل فلان؟ فإن قالت لهم: تركته حيّاً، ارتجوه (أي: يرجون أن يكون في المستقبل معهم، فيأتيهم، ويدخل رحمة الربّ، فمادام ذلك الإنسان حيّاً، فإنّهم ينتظرون قدومه، ويقولون: إن شاء اللّه يأتينا، وتختم عاقبته بخير)، وإن قالت لهم: قد هلك (أي: مات)، قالوا: قد هوى هوى»(1). أي: تلف وهلك؛ وذلك لأنّهم يرون أنّه لم يأتِ إليهم، ولم يقدم عليهم، فيفهمون أنّه قد ذهب إلى مسلك العذاب.


(1) الكافي، ج3، ص244، باب آخر في أحوال المؤمنين من كتاب الجنائز، ح3.

107

الطائفة الثانية: هي الروايات(1) التي تتضمّن المساءلة في القبر، فتقول هذه الروايات: إنّ سؤال القبر خاصّ بمن محض الإيمان محضاً، وبمن محض الكفر محضاً، أي: إنّ المؤمن الخالص هو الذي يُسأل، وأنّ الكافر الخالص في كفره أيضاً هو الذي يُسأل، وأمّا مَنْ عداهما، فالرواية تقول: «وأمّا ما سوى ذلك، فيلهى عنهم»(2). فكأنّهم يُتْرَكون إلى يوم يُبْعَثون.

كما أنّ هذا النمط من الروايات يشير إلى أنّ عالم الموت أو عالم البرزخ كعالم الرؤيا وكعالم النوم، فكما أنّ قسماً من النائمين يبدو كأنّه متروك في عالم النوم، فلا يَحُسّ بعذاب أو نعيم، وأنّ قسماً منهم يتنعّم في عالم النوم أو يتعذّب، كذلك في عالم البرزخ، فمن محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً، يأتيه منكر ونكير، ويسألانه عن عقائده، وقد يكون عن أعماله أيضاً، أمّا ما عداهم، فيلهى عنهم.

فهذا يشير إذاً إلى نفس الفكرة التي استنبطناها من الآيات والروايات.


(1) المصدر السابق، ص235، باب المسألة في القبر ومن يسأل ومن لا يسأل من كتاب الجنائز.

(2) المصدر السابق، ح2.

108

الطائفة الثالثة: هي قوله تعالى: ﴿... وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾(1).

فقوله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا﴾ لا يلائم يوم القيامة، وإنّما يلائم عالم البرزخ، فكأنَّ آل فرعون _ كما يبدو _ لا يدخلون النار في عالم البرزخ كما يدخلونها في يوم القيامة، وإنّما يُعْرَضُون عليها غدوّاً وعشيّاً، وكأنَّ اللّه تعالى يفتح _ كلّ غداة وعشيّ _ باباً من نار جهنّم على مقابرهم ومآويهم، فتدخل عليهم آثارها، فيَحُسّون بأنّ هذا هو المحلّ الذي هُيّئ لهم، وهو الذي سيدخلونه في يوم القيامة، وعندئذٍ تصدق الرواية التي تقول: «القبر روضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حُفَر النار»(2).

كما تشير الآية المباركة إلى فكرة أنّ العذاب في عالم البرزخ هو عذاب مثالي.

وفي القرآن الكريم آيةٌ بشأن قوم نوح الذين أُغرقوا ظاهرةٌ في أنّهم في عالم البرزخ يُعذَّبون بالنار، وهي قوله تعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا


(1) المؤمن: 45 _ 46.

(2) بحار الأنوار، ج6، ص218، باب أحوال البرزخ والقبر...، ح13.

109

فَأُدْخِلُوا نَاراً...﴾(1)، وهي: إمّا أن تُحْمَل على نارٍ برزخية، وليست النار المادّية الأُخروية، أو تُحْمَل على أنّها ناظرة إلى عالم الآخرة، وإنّما صِيْغَت بصياغة مناسبة لما تحقّق ووقع بنكتة: أنّ المستقبل المحقّق الوقوع يكون بمنزلة الواقع.

الطائفة الرابعة: هي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبَّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّٰهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّٰهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(2).

فهذه الآية المباركة تؤيّد التصوّر الذي طرحناه عن عالم البرزخ؛ إذ إنّها تقول: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبَّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، فما معنى: أنّ الشهداء ليسوا أمواتاً، في حين أنّنا نعتقد بأنّ الكلّ أحياء، وأنّ الروح لا تموت؛ لأنّ الإنسان خُلِقَ للبقاء لا للفناء، أمّا الأجساد فإنّها تموت سواءٌ كانت لشهيد أم لغير


(1) نوح: 25.

(2) آل عمران، 169 _ 171.

110

شهيد، فالشهيد والذي مات حتف أنفه ميِّتان بلحاظ الجسم، وهما حيّان بلحاظ الروح، فما معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبَّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾؟ وأيُّ امتياز للشهيد؟ وما معنى كون الشهداء أحياء؟ وهل يعني هذا: أنّ غيرهم ليسوا بأحياء؟

وهنا أقوال، والذي يبدو أنّ الآية تشير إلى سنخ من الحياة ذات درجات ومراتب؛ لأنّنا خُلِقْنا للبقاء لا للفناء، وأنّ الروح لا تموت، ولكن إذا تكلّمنا عن عالم كعالم الطيف، عن عالم البرزخ، عن عالم المثال، فإنّه يصحّ أن نقول: إنّ الحياة لها درجات، فكما أنّ عالم النوم ذو درجات ومراتب؛ إذ لا يرى بعض النائمين طيفاً، وكأنّه لا يَحُسّ بشيء، في حين أنّ بعضهم الآخر _ أو نفس ذلك البعض في زمان آخر _ يرى طيفاً مفصّلاً كأنّه المستيقظ الذي يمشي ويذهب ويتكلّم، كذلك الحال بالنسبة إلى حالة المثال التي سُمَّيت بـ (حالة البرزخ)؛ فإنّها ذات درجات ومراتب، فمنهم _ كما قالت الرواية السابقة _ من يلهى عنه، ومنهم من ينعّم، أو يعذّب.

أمّا الشهداء بالذات، فإنّهم لا يلهى عنهم، بل إنّهم يعطون مستوىً

111

من الحيويّة والرزق لا يعطيان للآخرين. وبهذا الشكل نتصوّر معنى الآية السابقة.

وتأييداً لهذا التصوّر الذي ذكرناه عن عالم البرزخ نذكر كلاماً لأبي ذر الغفاري، ذلك الصحابي الجليل الذي لابدّ أن يكون قد أخذ تصوّره عن الرسول(صلى الله عليه وآله) حيث قال: «يا مبتغي العلم، لا يشغلك أهل ولا مال عن نفسك، أنت يوم تفارقهم كضيف بتّ فيهم، ثم غدوت عنهم إلى غيرهم، والدنيا والآخرة كمنزل تحوّلتَ منه إلى غيره، وما بين الموت والبعث إلّا كنومة نمتها، ثم استيقظت منها...»(1).

إنّ الإنسان في ساعة الموت (ساعة الاحتضار)، يَحُسُّ بأنّ وقته قد انتهى، وأنّه سيرتحل في تلك الساعة، فإذا ما نظر إلى سنوات عمره التي عاشها حتّى لو فرضنا أنّها كانت آلافاً، فإنّه يراها كأنّها طرفة عين انتهت، وكأنّها يوم انتهى أو بعض يومٍ مضى، وكأنّه كان ضيفاً في بيت وهو الآن يرتحل إلى محلّه الذي هُيّئ له.

«وما بين الموت والبعث...»، هذا هو الشاهد، و (ما) هنا نافية، والمعنى: أنّه ليس بين الموت والبعث إلّا كنومةٍ نمتها، ثم استيقظت منها.


(1) الكافي، ج2، ص134، باب ذمّ الدنيا والزهد فيها من کتاب الإیمان والکفر، ح18.

112

كلمات ثلاث

وفي ختام هذا البحث أذكر ثلاث كلمات مستفادة كلّها من الروايات:

الكلمة الأُولى: بشارة للشيعة

وهي الرواية التي تثبت مستوى حياة الشهداء الذي ذكرناه آنفاً لكلّ الشيعة، فعن أبي بصير، عن الصادق(عليه السلام) قال: قال لي: «يا أبا محمد إنّ الميّت منكم على هذا الأمر شهيد. قال: قلت: وإن مات على فراشه؟ قال: إي والله وإن مات على فراشه حيّ عند ربّه يرزق»(1).

«على هذا الأمر» أي: على معرفة أهل البيت(عليهم السلام)، فكلّ من مات على معرفة أهل البيت(عليهم السلام) فهو شهيد.

وليس المقصود بهذه الرواية طبعاً أنّ هذا الشيعي الذي مات حتف أنفه، وذاك الشيعي الذي قتل في سبيل اللّه هما سواء؛ إذ إنّه من الطبيعي أن لا يكونا سواء، فالذي يقتل في سبيل اللّه له درجات لا ينالها الذي يموت حتف أنفه، وإنّما المقصود التشبيه في عنوان أنّه «حيّ عند ربّه يرزق»، وأنّ حالة الحياة هذه موجودة لكلّ الشيعة، وليست مقصورة على من يقتل فقط.


(1) الكافي، ج8، ص146، حديث محاسبة النفس من کتاب الروضة، ح120.

113

الكلمة الثانية: بشارة وإخطار

وأمّا ما يكون بشارةً وإخطاراً في وقت واحد، فهو مضمون بعض الروايات التي تقول: إنّ الأئمّة(عليهم السلام) يقولون للشيعة: نحن نكفل وضعكم يوم القيامة، وننجّيكم من عذاب جهنّم، ولكن نخشى عليكم من عالم البرزخ؛ فإنّنا في عالم البرزخ لا نعمل أيّ شيء لكم، وأنتم يجب أن تقوا أنفسكم من عذاب البرزخ(1).

فهذه الروايات تكون بشارةً من ناحية، وتكون إخطاراً من ناحية أُخرى؛ إذ إنّها تبشّرنا بأنّ الأئمّة(عليهم السلام) سينجّوننا _ إن شاء اللّه تعالى _ من عذاب اللّه في يوم القيامة، وتُخْطِرنا في نفس الوقت بأنّ عالم البرزخ ليست فيه شفاعة.

الكلمة الثالثة: إخطار

وأمّا الإخطار فقد ورد كلام عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) يخاطب به كميل بن زياد(رحمه الله)، فيقول: «يا كميل؛ إنّه مستقرّ ومستودَع، فاحذر أن تكون من المستودعين، يا كميل، إنّما تستحقّ أن تكون مستقرّاً إذا لزمت


(1) المصدر السابق، ج3، ص242، باب ما ينطق به موضع القبر من کتاب الجنائز، ح3