إذاً، فالموالاة غير معتبرة بين الإيجاب والقبول.
وتدلّ عليه مضافاً إلى ما تقدّم السيرة المستمرّة بين العرف في بعض موارد المعاطاة، فإنّه لا إشكال في صحّة الهبة فيما إذا أهدى أحد كتاباً إلى آخر وهو في مسافة بعيدة فوصل الکتاب إلی المهدى إليه بعد شهر أو شهرين مع فرض المهدي غافلاً عن ذلك حين وصول هديّته ومع تخلّل الفصل بين الإهداء والقبول(1).
ودعوى الفرق بين المعاطاة والعقود اللفظية واضحة الفساد.
وكذا السيرة جارية على المعاملة بالبرقية والمكاتبة مع عدم الموالاة بين الإيجاب والقبول فيها.
فالمتحصّل: أنّ الموالاة غير معتبرة في صحّة المعاملات(2)، انتهى ما في التنقيح على تلخيص منّا.
أقول: وواقع المطلب أنّ شرط الموالاة يكون بمقدار أن يتطابق مفاد الإيجاب مع مفاد القبول. وعليه فيكون هذا الشرط مستأنفاً؛ إذ مع عدم تطابق مفادين لا يوجد عقد أصلاً، ولنا حديث مفصّل حول الموضوع في كتابنا (فقه العقود)(3).
التنجيز في العقد
وقع بحث مفصّل وخلاف عظيم في شرط التنجيز في العقد وحدوده، ومحطّ بحثنا بالخصوص هو البيع. وأصل شرط التنجيز في العقد في الجملة ممّا ادّعيت عليه الإجماعات.
(1) هذا المثال يتمّ في الهدية إذا افترضت عبارة عن إيجاب وقبول دون ما إذا افترضت رفعاً للمانع من قبل المهدي عن تملّك المهدى إليه. وعلى أيّ حال فيكفي مثال المعاطاة من مكان بعيد في موارد العقود مع المعاملات البرقية والمكاتبة من بُعد.
(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص209 _ 214.
(3) فقه العقود، ج2، ص82 _ 94.
ولعلّ أجمع تعبير ذكر في المقام لأقسام التعليق الذي احتملت مبطليّته للعقد هو ما أفاده السيّد الخوئي رحمه الله(1) فأنهى الأقسام إلى اثنى عشر قسماً؛ لأنّ المعلّق عليه إمّا أن يكون معلوم الحصول أو مشكوك، وعلى كلا التقديرين إمّا أن يكون حاليّاً أو استقباليّاً(2)، وعلى جميع التقادير الأربعة إمّا أن يكون ممّا يتوقّف حقيقة ما أنشأه المنشئ عليه عقلاً كإنشاء الطلاق معلّقاً على زوجيّتها أو العتق معلّقاً على رقّيّته، أو لا يكون متوقّفاً عليه عقلاً لكنّه متوقّف عليه شرعاً كالبيع المعلّق على شرط البلوغ بناء على اشتراط البلوغ فيه في الشريعة، ونحو ذلك، أو لا يكون متوقّفاً عليه لا عقلاً ولا شرعاً. وبضرب ثلاثة في أربعة تحصل اثنا عشر قسماً.
والوجه في استثنائه رحمه الله فرض العلم بعدم حصول المعلّق عليه هو أنّه لا شكّ في بطلان العقد في هذا الفرض؛ لأنّ المعلّق عليه غير حاصل، فالمعلّق منتفٍ سواء شرطنا التنجيز أو لم نشترط.
أقول: يظهر الأثر لإدخال فرض العلم بانتفاء المعلّق عليه في الحساب فيما لو علّقه على ما يعلم بانتفائه ثم انكشف خطأ علمه، فهل يثبت بذلك عندئذٍ ترتّب الأثر الشرعي على ذلك العقد أو لا؟
وعلى أيّ حال فلا ينبغي الإشكال في أنّ مقتضى إطلاقات الوفاء بالعقد والبيع والتجارة وما إلى ذلك أو عموماتها عدم اشتراط التنجيز، فيقع الكلام فيما يمنع عن شمول الإطلاقات والعمومات لها.
وقد عدّ السيّد الخوئي رحمه الله في المقام عدّة موانع وناقشها جميعاً(3):
المانع الأوّل: الإجماع المدّعی في المقام.
(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص215.
(2) وهو المعبّر عنه بالصفة على حدّ تعبير الشيخ الأنصاري في المكاسب، ج3، ص167.
(3) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص217 _ 221.
«والمتيقّن من موارد الإجماعات هو ما إذا لم يكن العقد معلّقاً في ذاته على ما علّق عليه لا عقلاً ولا شرعاً، ولم يكن حاليّاً معلوم الحصول، سواء كان حاليّاً غير معلوم الحصول أو كان استقباليّاً معلوم الحصول أو غير معلوم الحصول»(1).
وناقشه السيّد الخوئي رحمه الله بأنّه لا يفيد القطع برأي المعصوم خصوصاً بعد التعليلات المذكورة في كلماتهم، مضافاً إلى أنّ كلماتهم غير متطابقة على مطلب واحد وفي حدود مشخّصة.
المانع الثاني: أنّ الإنشاء غير قابل للتعليق بوجه؛ لأنّه نظير سائر الأفعال كالأكل والضرب ونحوهما من الأُمور الوجودية، فهي إمّا أن توجد وإمّا أن لا توجد، أمّا أن توجد معلّقاً فلا معنى له.
وناقشه بأنّ المعلّق ليس هو الإنشاء أو الإخبار اللذان هما من قبيل الأفعال، بل المعلّق هو المنشأ كالملكية ونحوها مع كون الإنشاء فعليّاً، ولا مانع من أن يكون المنشأ أو المخبر به أمراً معلّقاً على شيء كما في الوصيّة؛ فإنّ المنشأ فيها هو الملكية المعلّقة على الموت.
المانع الثالث: ما يرد في التعليق على الأُمور الاستقبالية، وهو أنّ ظاهر الأدلّة الدالّة على سببية العقود لمسبّباتها وترتّب المسبّبات عليها إنّما هو ترتّبها عليها في حال إنشاءاتها وفي ظرف وقوعها لا في الأزمنة الآتية، فكون العقد سبباً للبيع إنّما هو فيما إذا كان موجباً للملكية الفعلية، وأمّا إذا كان موجباً للملكية الاستقبالية فهو على خلاف ظواهر الأدلّة الدالّة على أنّ عقد البيع سبب للتملّك مثلاً.
وناقشه بأنّ مفاد الأدلّة هو وجوب ترتيب الأثر على كلّ عقد على طبق مدلوله منجّزاً كان أو معلّقاً، نظير النذر المعلّق على أمر متأخّر.
المانع الرابع: أنّ الأسباب الشرعية توقيفية، وهذا موجب لوجوب الاقتصار فيها
(1) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص216 _ 217.
على القدر المتيقّن، وهو العقد العاري عن التعليق، وصحّة المعلّق مشكوكة.
وناقشه بأنّه أيّ دليل أحسن من عموم قوله تعالى: :﴿أَوْفُوْا بِالْعُقُوْدِ﴾ و:﴿أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ﴾ و:﴿تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾ وغيرها من العمومات، وهي كافية في الترخيص كما هو واضح.
المانع الخامس: ما ذكره شيخنا الأُستاذ _ يقصد الشيخ النائيني رحمه الله _ من أنّ أدلّة صحّة البيع والنكاح وغيرهما من العقود إنّما تنصرف إلى العقود المتعارفة، والبيع المتأخّر عنه الملكية بأيّام أو الإجارة كذلك غير متعارف جدّاً، وهذا هو السرّ في بطلان التعليق في العقود(1).
وناقشه:
أوّلاً: بأنّ العمومات والمطلقات الواردة في الأدلّة والأخبار لا يعتبر في شمولها لشيء إلّا صدق الطبيعي عليه وكونه فرداً من الأفراد، وأمّا كونه متعارفاً أيضاً فلا.
وثانياً: بمنع عدم تعارف العقود التعليقية عندهم، فإنّا نراهم يهبون المال للغير معلّقاً على مجيء يوم الجمعة مثلاً لحاجتهم إلى ذاك المال قبل يوم الجمعة.
أقول: إنّ هذا المثال بالخصوص مبنيّ على تفسير الهبة بمعنى إنشاء التمليك مجّاناً، لا بمعنى الإذن في التملّك ورفع المانع عنه.
وقال رحمه الله: المتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّ التنجيز غير معتبر في العقود إلّا ما خرج بالدليل كالتزويج دائماً أو متعةً بامرأة داخلة في عقد المتعة مع رجل معلّقاً على انتهاء زمان متعتها وعدّتها؛ فإنّ الدليل على بطلان ذلك ما ورد من أنّ المزوّجة لا تزوّج(2).
أقول: لا أدري هل يعتقد السيّد الخوئي رحمه الله أنّ حرمة الزواج بامرأة مع كون العقد واقعاً على زمان متأخّر وبطلانه إنّما كان نتيجة لحرمة تزويج المزوّجة، فلو فرض أنّ
(1) راجع منية الطالب، ج1، ص113؛ المكاسب والبيع، ج1، ص295.
(2) راجع وسائل الشيعة، ج20، ص446، الباب16 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.
المرأة كانت خليّة جاز عندئذٍ تزويجها لزمن استقبالي؟! إنّ هذا أمر لا يحتمل الإفتاء به لا من قِبل السيّد الخوئي رحمه الله ولا من قِبل أيّ فقيه آخر، ففرق بين باب النكاح وباب الإيجار، ففي باب الإيجار يمكن أن يؤجّر البيت لما بعد أشهر أو سنة أو أقلّ أو أكثر، ولكن في باب النكاح لا يصحّ ذلك.
ولو كان يصحّ فالمنع عن تزويج المزوّجة _ المفهوم من الروايات التي أشار إليها _ لم يكن موجباً لبطلانه؛ لأنّها بلحاظ ذاك المقطع الزماني ليست مزوّجة، وليس المفهوم من تلك الروايات إلّا أنّ من لها زوج لا يمكن أن يكون لها زوج آخر في عرض الزوج الأوّل، وإن حصل ذلك حرمت على الثاني حرمة مؤبّدة إمّا مطلقاً أو بشرط العلم أو الدخول.
فالمهمّ في باب النكاح أنّ النكاح لزمن استقبالي باطل في حدّ ذاته، والدليل على ذلك هو المعنى العرفي والمتشرّعي للنكاح.
والمسألة لا تختصّ بالنكاح، فالبيع أيضاً كذلك، فليس المفهوم من البيع عرفاً ولا متشرعيّاً التمليك المتأخر، بل وكذلك الحال في الهبة التي تكون بمعنى التمليك لا بمعنى مجرّد رفع المانع عن تملّك الموهوب له للموهوب، في حين أنّ المفهوم العرفي والمتشرّعي للإيجار ليس خصوص تمليك المنفعة الحالية.
والمسألة أصلاً لا علاقة لها بباب التعليق، فمن باع بيته لشخص لما بعد سنة ولو منجّزاً ومن الآن كان بيعه باطلاً(1).
وإنّما المسألة مرتبطة بباب آخر، وهو أنّ بعض العقود لا يقبل في معناه العرفي ولا المتشرّعي التأخير، ففرق مثلاً بين التمليك في الإيجار والوصيّة والتمليك في البيع، فالأوّل يقبل في معناه العرفي التأخير، والثاني _ وهي الوصيّة _ مرتبط بذاته بزمن متأخّر وهو زمن ما بعد الموت، والثالث لا يقبل في معناه العرفي والمتشرّعي التأخير.
(1) هذه هي النكتة التي أشرنا إليها في نهاية الحديث عن المانع الثالث، وأنّه وقع الخلط في الكلمات بين التعليق على أمر استقبالي وبين كون المعاملة بلحاظ قطعة زمنية استقبالية.
إلّا أنّ هذا لا ينافي إيجاد عقد جديد مفاده التمليك المتأخّر بعوض، وآية الوفاء بالعقود لا تقصر عن الدلالة على صحّته ونفوذه سواء اصطلح عليه باسم البيع بتسمية جديدة غير البيع المعروف بمعناه في الشريعة الإسلامية أو لا.
نعم، إطلاق :﴿أَوْفُوْا بِالْعُقُوْدِ﴾ لا يصحّح عقد نكاح يفترض اختراعه اليوم لزمن متأخّر عن العقد؛ لأنّ الارتكاز العقلائي والمتشرّعي القائمين بوضوح على بطلان ذلك يمنعان عن تمامية مثل هذا الإطلاق. وهذا شبيه ببعض النكات التي شرحناها في بحث المعاطاة في النكاح لتوضيح عدم تمامية شمول الإطلاقات لها.
التطابق بين الإيجاب والقبول
جعل الشيخ رحمه الله من شروط العقد «التطابق بين الإيجاب والقبول»(1).
وأصل هذا الشرط من الواضحات _ أو قل: إنّه شرط مستأنف _؛ لأنّه لولاه لم يوجد أصلاً شدّ التزام بالتزام.
وقد بحث تحته في الكتب فروع أهمّها: أنّه لو اتحد الإيجاب والقبول في الثمن والمثمن ولكن اختلفا في الشرط، فالموجب اشترط شرطاً في إيجابه والقابل قبل بلا شرط فهل هذا يعدّ من عدم تطابق الإيجاب والقبول أو لا؟
الظاهر أنّ هذا يختلف باختلاف إرادة الموجب:
فتارة: يقصد الموجب الشرط قيداً في إيجابه ومحصَّصاً له، وأُخرى: يقصد إلزاماً للقابل في ضمن التزام كي لا يكون الشرط شرطاً ابتدائيّاً مثلاً ويكون ملزِماً له.
فإن فرض الأوّل فهذا يرجع إلى عدم تطابق الإيجاب والقبول ويبطل البيع. نعم، لو قبل القابل مع الشرط لكنّه تخلّف عملاً عنه فالبيع صحيح، ولكن كان للموجب خيار تخلّف الشرط.
(1) كتاب المكاسب، ج3، ص175.
وفي الفرض الثاني يصحّ البيع ولكن للموجب أن يتراجع عن إيجابه؛ لأنّ القابل لم يعط التزاماً بالشرط وله أن يصبر بأمل أن يعمل القابل في وقته بالشرط، فإن عمل به لم يبق للموجب الخيار، وإن لم يعمل به بقي له خيار تخلّف الشرط.
أن يقع إيجاب العقد وقبوله في حال يجوز لكلّ واحد منهما الإنشاء
قد جعل الشيخ الأعظم رحمه الله ذلك شرطاً من شروط العقد، فلو كان أحدهما فاقداً لإمكانية التخاطب لدى إنشاء الآخر _ لموت أو جنون أو إغماء أو نوم _ أو فاقداً لصحّة تخاطبه شرعاً لحجر _ بفَلْس أو سفه أو رقّ أو مرض موت أو فقد رضا _ فقد بطل البيع؛ إمّا لعدم تمامية التخاطب وعدم اجتماع الالتزامين المفروض ربط أحدهما بالآخر كما هو الحال في فقدان إمكانية التخاطب تكويناً، أو لعدم اعتبار ذلك شرعاً كما هو الحال في بطلان التخاطب شرعاً(1).
أقول: إنّ إرجاع هذا الكلام إلى كلام فنّي يكون بحاجة إلى عدد من التهذيبات:
فأوّلاً: يجب حذف بعض الأمثلة من قبيل جعل الجنون مثالاً لعدم إمكانية التخاطب، فإنّ خطاب المجنون في العديد من الموارد وعقد الالتزام منهم أمر ممكن، وإنّما العيب عدم اعتبار ذلك شرعاً.
وثانياً: إنّ مثال شرط الرضا بعنوان شرط الصحّة الشرعية وإن كان صحيحاً بمعنى أنّ الأثر الشرعي للمعاملة لا يترتّب إلّا مع الرضا، ولكن كونه شرطاً لصحّة الإنشاءين غير معلوم، فيمكن افتراض صحّة الإنشاءين بمعنى إمكانية لحوق الإجازة بذلك إن لم يكن أحدهما راضياً حين المعاملة، كما هو الحال في مسألة رضا المالك الذي هو شرط لترتّب الأثر على عقد الفضولي، ولكنّه ليس شرطاً لصحّة إنشاء الفضولي، فيبقى إنشاء الفضولي بما هو إنشاء صحيحاً بمعنى قابلية لحوق
(1) المصدر السابق، ص177 _ 178.
إجازة المالك به في وقت متأخّر.
وثالثاً: لا إشكال في البيوع التي يتحقّق الفصل الطويل بين إيجابها وقبولها _ كالبيع عن طريق الرسائل والبرقيّات أو الإرسال من مكان بعيد _ في أنّه لو كان أحدهما نائماً أو مغمى عليه لدى إنشاء الآخر صحّ البيع، فما معنى اشتراط أن يقع كلّ من الإيجاب والقبول في حال تمامية شروط الإنشاء فيها معاً؟
فينبغي أن يكون المقصود _ الذي يکون كلاماً فنّيّاً _ أنّه لابدّ أن يلحق أحد الإنشاءين بالآخر قبل إلغاء ذاك الإنشاء شرعاً عن الأثر.
وبعد تصحيح التعبير بهذا الشكل يتّضح أنّ هذا الشرط مخصوص بجانب القبول فحسب دون جانب الإيجاب، أو قل: مخصوص بالإنشاء المتأخّر دون المتقدّم، فلو جاء الإنشاء المتأخّر في وقت سقط الإنشاء المتقدّم عن الأثر شرعاً بمثل موت أو جنون، فلا معنى لترتّب الأثر الشرعي على العقد، وهذا بخلاف ما إذا حصل الإنشاء الأوّل في حين لم يكن أيّ اعتبار للإنشاء الثاني، ثم لم يسقط ذاك الإنشاء الأوّل عن التأثير شرعاً إلى أن أصبح القابل أهلاً للقبول فأنشأ القبول، فلا مانع من شمول إطلاقات دليل العقد لهكذا عقد.
أحكام المقبوض بالبيع الفاسد
الحكم الأوّل: من قبض ما اشتراه بالعقد الفاسد كان ضامناً
قال الشيخ الأعظم رحمه الله: «لو قبض ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه وكان مضموناً عليه:
أمّا عدم الملك؛ فلأنݧّه مقتضى فرض الفساد.
وأمّا الضمان بمعنى كون تلفه عليه... فهو المعروف، وادّعى الشيخ في باب الرهن وفي موضع من البيع الإجماع عليه صريحاً، وتبعه في ذلك فقيه عصره في شرح القواعد.
وفي السرائر: أنّ البيع الفاسد يجري عند المحصّلين مجری الغصب في الضمان، وفي موضع آخر نسبه إلى أصحابنا...»(1).
ثم استدلّ الشيخ رحمه الله على الضمان بالنبويّ المشهور(2): «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه»(3). وبما ورد في الأمة المبتاعة إذا وجدت مسروقة بعد أن أولدها المشتري من أنّه: «يأخذ الجارية صاحبها ويأخذ الرجل ولده بالقيمة»(4) قال الشيخ رحمه الله ما معناه: إنّ ضمان الولد بالقيمة مع كونه نماءً لم يستوفه المشتري لا بعقد فاسد ولا بغيره لأنّه ولد حرّاً يستلزم ضمان المقبوض بالعقد الفاسد بطريق أولى(5).
أقول: أمّا النبوي فلا إشكال في سقوطه سنداً، وأمّا ما ورد في الأمة المبتاعة إذا وجدت مسروقة بعد أن أولدها المشتري من أنّه يأخذ الجارية صاحبها ويأخذ الرجل
(1) کتاب المکاسب، ص180.
(2) المصدر السابق، ص181.
(3) مستدرك الوسائل، ج17، ص88، الباب الأول من أبواب كتاب الغصب، ح4.
(4) وسائل الشيعة، ج21، ص88، الباب88 من أبواب نکاح العبيد والإماء، ح3.
(5) كتاب المكاسب، ج3، ص181
ولده بالقيمة فالكلام تارة يقع فيه من ناحية السند وأُخرى من ناحية الدلالة:
أمّا من ناحية السند فهي واردة بعدّة أسانيد:
الرواية الأُولى: ما رواه الشيخ بإسناده عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن جميل بن درّاج عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله عليه السلام «في رجل اشترى جارية فأولدها فوجدت الجارية مسروقة قال: يأخذ الجارية صاحبها ويأخذ الرجل ولده بقيمته»(1). وهذه الرواية عيبها السندي إرسالها.
والرواية الثانية: ما رواه الشيخ أيضاً بسنده عن الصفّار عن معاوية بن حكيم عن محمد بن أبي عمير عن جميل بن درّاج عن أبي عبدالله عليه السلام «في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم يجيء مستحقّ الجارية. قال: يأخذ الجارية المستحقّ ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد ويرجع على من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أُخذت منه»(2) فإن احتملنا تعدّد الرواية فهذه الرواية الثانية تامّة السند، وإن اطمئننّا بوحدة الروايتين لوحدة السند _ أعني: ابن أبي عمير وجميل _ ووحدة المضمون _ وإن كانت هناك إضافة في الثانية _ أصبحت الرواية مضطربة السند خصوصاً أنّ النقل الأوّل رواه الكليني أيضاً بنفس الإرسال.
والرواية الثالثة: صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله عليه السلام في ذيلها: «...فإن اشترى رجل جارية وجاء رجل فاستحقّها وقد ولدت من المشتري ردّ الجارية عليه وكان له ولدها بقيمته»(3). وهذه الرواية لا عيب في سندها.
وكأنّ السبب في اقتصار الشيخ في الاستشهاد بروايات الجارية على روايات ضمان قيمة الولد وتركه الإشارة إلى روايات ضمان قيمة لبنها أو خدمتها اعتقاده أنّ ضمان
(1) وسائل الشيعة، ج21، ص204، الباب 88 من أبواب نكاح العبيد والإماء، ح3.
(2) المصدر السابق، ص205، ح5.
(3) المصدر السابق، ص171، الباب57 من أبواب نکاح العبيد والإماء، ح1.
قيمة الولد ليس للإتلاف؛ لأنّه وُلِد تالفاً باعتبار حرّيّته، أمّا ضمان اللبن أو الخدمة فقد يكون للإتلاف.
ويرد عليه: أنّ السبب في تخيّل عدم الضمان إنّما هو تخيّل أنّ من أقبض ماله بعقد فاسد فقد أهدر كرامة ماله فلا يضمنه القابض، وأنت ترى أنّه لو كان المالك هو الذي أهدر كرامة ماله فالضمان ينتفي حتّى بلحاظ الاتلاف، وعليه فلو صار القرار على الاستشهاد للضمان بروايات ضمان قيمة الولد أمكن الاستشهاد أيضاً بروايات ضمان ما أتلفه من لبنها أو خدمتها فتتّسع روايات الجارية التي يمكن الاستشهاد بها لضمان المقبوض بالعقد الفاسد إلى روايتين أُخريين:
الأُولى: رواية زرارة: قال: «قلت لأبي عبدالله عليه السلام رجل اشترى جارية من سوق المسلمين فخرج بها إلى أرضه فولدت منه أولاداً ثم إنّ أباها يزعم أنّها له. وأقام علی ذلك البينة، قال: يقبض ولده ويدفع إليه الجارية ويعوّضه في قيمة ما أصاب من لبنها وخدمتها»(1).
قوله: «ثم إنّ أباها يزعم أنّها له» هكذا ورد في الوسائل والتهذيب(2)، وأظنّ أنّ الأصحّ ما ورد في الاستبصار: «ثم أتاها من يزعم أنّها له»(3)، وقد أوّل الشيخ الطوسي في الاستبصار عبارة: «يقبض ولده» بمعنى: يقبضه بالقيمة.
وعلى كلّ حال فهذه الرواية لا يخلو سندها من ضعف، فإنّ سندها ما يلي: «الشيخ بإسناده عن الصفّار عن يعقوب بن يزيد عن صفوان بن يحيى عن سليم الطربال أو عمّن رواه عن سليم عن حريز عن زرارة» وسليم الطربال لم تثبت وثاقته إلّا على تقدير اتّحاده مع سليم الفرّاء الذي شهد النجاشي بتوثيقه، ولا أرى دليلاً على هذا الاتّحاد.
(1) وسائل الشيعة، ج21، ص204، الباب88 من أبواب نكاح العبيد والإماء، ح4.
(2) تهذيب الأحکام، ج7، ص83، الباب6 من کتاب التجارات، ح71.
(3) الاستبصار، ج3، ص85، الباب57 من کتاب البيوع، ح5.
والثانية: رواية أُخرى تامّة السند، وهي ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد عن أبي عبدالله الفرّاء عن حريز عن زرارة قال: «قلت لأبي جعفر(عليه السلام): الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم يجيء الرجل فيقيم البيّنة على أنّها جاريته لم تبع ولم توهب، فقال: يردّ إليه جاريته ويعوّضه بما انتفع. قال: كأنّ معناه قيمة الولد»(1)، وأبو عبدالله الفرّاء وإن كان لم يرد بشأنه توثيق لكنّه ممّن روى عنه ابن أبي عمير فيحكم بوثاقته.
وأمّا تفسير جملة: «ويعوّضه بما انتفع» بمعنى دفع قيمة الولد فهذا من قِبل أحد الرواة الواقعين في سلسلة سند الحديث ولا حجّية له، وتفسيرها بمعنى الانتفاع باللبن أو الخدمة أولى أو يحتمل ذلك على أقلّ تقدير.
وأمّا من ناحية الدلالة فأساساً استشهاد الشيخ رحمه الله بروايات الجارية المسروقة من الغرائب؛ فإنّ نكتة تخيّل عدم ضمان المقبوض بالعقد الفاسد هي تخيّل أنّ المالك هو الذي أهدر حرمة مال نفسه، فجعل روايات الضمان في الأمة المسروقة ردّاً على نفي ضمان المقبوض بالعقد الفاسد غريب؛ لأنّ الضمان في باب الجارية المسروقة لا يكون ردّاً على ذلك؛ لوضوح أنّه لا هدر لحرمة المال من قِبل المالك في باب السرقة، فما معنى التعدّي من مورد تلك الروايات إلى المقام؟! وهذه نكتة واردة في كلمات السيّد الخوئي رحمه الله(2).
نعم، الصحيح أنّ ضمان المقبوض بالعقد الفاسد لا يحتاج إلى نصّ؛ لأنّ الصحيح أنّ المالك لم يهدر في إقباضه بالعقد الفاسد حرمة مال نفسه؛ لأنّه قد أقبضه مبنيّاً على المعاوضة بالمسمّى(3)، وحتّى لو فرضنا علم المالك بفساد العقد قلنا رغم
(1) وسائل الشيعة، ج21، ص204، الباب88 من أبواب نكاح العبيد والإماء، ح2.
(2) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله) ، ج66، ص233.
(3) راجع المصدر السابق.
ذلك: أنّه لم يهدر المالك حرمة ماله؛ لأنّه إنّما أقبضه بعنوان المعاوضة بالمسمّى، وعلمه ببطلان ذلك لا ينافي ذلك(1). فإذا لم يكن المالك مُهدراً لحرمة ماله فالارتكاز العقلائي قائم على قاعدة اليد، فنحن نقول بالضمان لا برواية على اليد الساقطة سنداً، بل بالارتكاز العقلائي.
نعم، لو فرضنا أنّ المالك كان عالماً بفساد العقد والقابض كان جاهلاً بفساده وقبضه بتغرير من المالك ثم تلف في يده أو أتلفه بأكل أو غيره فهذا يدخل في قاعدة رجوع المغرور إلى من غرّه فلو كان المثل أكثر من المسمّى لم يضمن الزيادة، كما أنّه لو كان المسمّى أكثر من المثل لم يضمن أيضاً الزيادة في المسمّى؛ لأنّ ضمان المسمّى كان بالعقد وقد ظهر فساده، فهذا الجاهل المغرور من قِبل المالك ليس عليه دائماً إلّا أقلّ القيمتين من المثل والمسمّى، وهذا بحث خارج عن أصل قاعدة ما يضمن، والمهمّ أنّ أصل الضمان ثابت في المقام بحكم ارتكازية قاعدة اليد بعد أن كان المالك لم يُهدر احترام ماله.
ثم إنّ الشيخ الأعظم بعد أن أوضح ثبوت الضمان في قبض المبيع بالبيع الفاسد ذكر أنّ هذا من جزئيّات القاعدة المعروفة: «كلّ عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، وما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده»(2).
أقول: وبسرد البحث إلى هنا اتّضح خير دليل على هذه القاعدة وهو: أنّ العقد إن كان يضمن بصحيحه إذاً فالعاقد لم يهدر _ بتسليمه للمال _ حرمة ماله، فلو تبيّن بطلان العقد يكون القابض ضامناً على طبق القاعدة العقلائية التي تحكم _ في غير موارد هدر المالك حرمة ماله _ بأنّ اليد موجبة لضمانه، بخلاف ما إذا لم يكن الصحيح فيه عوض مالي كما في الهبة غير المعوّضة فإنّه عندئذ يكون المالك هو الذي أهدر حرمة ماله فلم يبق ما يوجب ضمان اليد عقلائيّاً.
(1) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله) ، ج66، ص240.
(2) کتاب المكاسب، ج3، ص182.
نعم، يبقى الكلام في أنّه هل يوجد نصّ يمكن إحلاله محلّ الارتكاز العقلائي الحاكم بضمان اليد حتّى تتمّ قاعدة اليد روائيّاً كما هي تامّة عقلائيّاً، أو لا؟
والنصوص التي يمكن أن تفترض حلّها محل الارتكاز العقلائي لضمان اليد عديدة:
منها: ما مضى من النبويّ المشهور: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»(1) وقد قلنا: إنّ عدم السند له أسقطه عن قابلية التمسّك به.
ومنها: ما ورد في التوقيع الشريف: «...فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه فكيف يحلّ ذلك في مالنا...»(2).
وفيه: أنّه لو لم يضمّ إليه الارتكاز العقلائي الحاكم بضمان اليد في أخذ مال من
(1) مستدرك الوسائل، ج17، ص88، الباب الأوّل من أبواب كتاب الغصب، ح4.
(2) وسائل الشيعة، ج9، ص540، الباب3 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، ح7. وعيب سند الحديث هو عدم ورود التوثيق بشأن مشايخ الصدوق الأربعة الذين روى الصدوق عنهم هذه الرواية، وهم محمد ابن أحمد السناني وعلي بن أحمد بن محمد الدقّاق والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المؤدّب وعلي ابن عبدالله الورّاق، فإنّهم رووا جميعاً هذا الحديث عن أبي الحسين محمد بن جعفر الأسدي في أجوبة مسائله التي وردت عليه من صاحب الدار (عجل الله تعالى فرجه الشريف) على يد الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري(قدس سره).
ولكن هذا الإشكال محلول عندنا بعدم احتمال توافق أربعة من مشايخ الصدوق على كذب من هذا القبيل.ولو لم نقتنع بهذا الجواب كفانا أيضاً صحيح زيد الشحّام عن أبي عبدالله(عليه السلام) عن رسول الله(صل الله عليه وآله): «من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، فإنّه لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفسه»، وسائل الشيعة، ج5، ص120، الباب3 من أبواب مكان المصلّي، ح1. ومثله موثّق سماعة.وتؤيّد هذه الروايات مرسلة عوالي اللآلي عنه(صل الله عليه وآله): «المسلم أخو المسلم لا يحلّ ماله إلّا عن طيب نفس منه»، عوالي اللئالي، ج3، ص473، باب الغصب، ح1. ومرسلة الدعائم عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «...ولا يجوز أخذ مال المسلم بغير طيب نفس منه». دعائم الإسلام، ج2، ص59، فصل ذکر الأقضية في البيوع من کتاب البيوع والأحکام فيها، ح159.دون وجه الحِلّ فهو لا يدلّ إلّا على الحرمة التكليفية دون الضمان.
ومنها: ما رواه الكليني عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيّوب عن عبدالله بن بكير عن أبي بصير عن أبي جعفر(عليه السلام): «قال: قال رسول الله(صل الله عليه وآله): سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وأكل لحمه معصية وحرمة ماله كحرمة دمه»(1). هذا فيما إذا فسّرنا الحرمة بالاحترام بمعنى يشمل الضمان، لا بمعنى الحرمة التكليفية، وإلّا لم تزد هذه الرواية على الرواية السابقة.
ومنها: ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن الحلبي ومحمد بن مسلم عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته هل تجوز شهادة أهل ملّة من غير أهل ملّتهم؟ قال: نعم، إذا لم يوجد من أهل ملّتهم جازت شهادة غيرهم، إنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد»(2).
وواضح أنّ التمسّك بـ «لا يصلح ذهاب حقّ أحد» لإثبات الحقّ تمسّكٌ بالكبرى لإثبات الصغرى، ولو أنّنا فرضنا العلم بالصغرى وهو حقّ الضمان في المقام فلا معنى للتمسّك بهذه الرواية.
ومنها: قاعدة نفي الضرر. والاستدلال بها في المقام للضمان يتوقّف على أحد أمرين:
الأمر الأوّل: أن نفترض أوّلاً أنّ الارتكاز العقلائي يقتضي الضمان، ثم نقول عندئذٍ: إنّ عدم إمضاء هذا الارتكاز العقلائي من قِبل الشريعة يعتبر ضرراً على المالك، ونفترض أيضاً أنّ نفي الضرر يشمل إثبات الحكم لدى كون نفيه ضرراً.
(1) الکافي،ج2، ص359، باب السباب من کتاب الإيمان والکفر، ح2؛ وسائل الشيعة، ج12، ص297، الباب 158 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح3. وهذا تامّ سنداً وورد نظيره بسند غير تامّ في وصيّة رسول الله(صل الله عليه وآله) لأبي ذر في وسائل الشيعة، ج12، ص281، الباب152 من أبواب أحکام العشرة في السفر والحضر، ح9.
(2) الکافي،ج7، ص4، باب الإشهاد علی الوصيّة من کتاب الوصايا، ح2.
والأمر الثاني: أن نفترض الكلام في خصوص ما إذا كان الضرر مستنداً إلى القابض كما في مورد الإتلاف مثلاً ولم يكن مستنداً إلى البائع أو إلى كليهما، ونفترض أن «لا ضرر» يعني لزوم التدارك من قِبل من أوجد الضرر.
والوجه الأوّل أشمل من الوجه الثاني؛ لأنّه لا يختصّ بخصوص ما إذا كان الضرر مستنداً إلى القابض، فالوجه الأوّل هو المهمّ في المقام.
والكلام بقدر ما يرجع إلى تفسير قاعدة لا ضرر موكول إلى بحث الأُصول أو بحث القواعد الفقهية.
والارتكاز العقلائي مسلّم في المقام، وهو في الحقيقة ارتكاز لقاعدة اليد، وذلك يغنينا عن الحاجة إلى قاعدة لا ضرر، فلا يهمّنا كثيراً تماميّتها وعدم تماميّتها في المقام.
وقد اتّضح بکلّ ما ذكرناه أنّ تمام الروايات التي سردناها ليست بوحدها دليلاً على قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، وإنّما هناك نقطة مركزية وقاسم مشترك بين كلّ أدلّة القاعدة، وهي أنّ المالك لم يهدر احترام مال نفسه.
وتبيّن أيضاً أنّ عكس القاعدة لو تمّ فإنّما يتمّ في حدود صدق إهدار المالك احترام مال نفسه بإقدامه على إقباض المال مجّاناً ومن غير عوض، وذلك كما في الهبة المجّانية لو كانت باطلة، كالهبة _ إذا كانت بمعنى عقد التمليك المجّاني _ باللغة الفارسية مع فرض شرط العربية، أو التمليك المجّاني للصبيّ مع فرض شرط بلوغ القابل، أو العارية غير المضمونة في صحيحها كما في عارية غير الذهب والفضّة أو غير مشروطة الضمان، فلو بطلت عاريته لعدم بلوغ المستعير مثلاً فقد يقال بتمامية قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده»، ولو صحّ هذا الكلام فلابدّ أن يشترط فيه علم المُعير بكون العارية غير مضمونة أو _ على الأقل _ قصده لعدم الضمان، وإلّا لم يصدر منه إهدارٌ لاحترام ماله. وكذا الحال في عقد الرهن والمضاربة والوكالة ونحو ذلك.
وقد يشكّك في صحّة عكس القاعدة؛ وذلك بأن يقال: إنّ قاعدة «ما يضمن» كان معناها أنّ المالك الذي أقبض ماله على أساس ضمان المسمّى لم يُهدر حرمة ماله، وأنّ من لم يهدر حرمة ماله فماله مضمون له بقاعدة اليد أو بأيّ دليل آخر، أمّا الذي أقبض ماله لا على أساس ضمان فهل هذا يعني إهدار حرمة ماله بقول مطلق أو يعني إهدار حرمة ماله إهداراً مقيّداً بما كان يتخيّله من صحّة المعاملة، وفرض تخيّله لتحقّق القيد خارجاً لا يعني الإطلاق، فبعد ما يطّلع على عدم تحقّق القيد أي على عدم صحّة المعاملة قد يقال: إنّ له أن يداعي بضمان ماله.
والخلاصة: أنّ مجرّد تخيّله لضمان المسمّى كان كافياً لعدم الإهدار، ولكن مجرّد تخيّله لعدم الضمان الشرعي ليس كافياً لإطلاق الإهدار.
وعليه فلكي نرى هل هناك دليل على عكس القاعدة أيضاً أو لا، نضطرّ إلى استئناف بحث جديد؛ لأنّ أصل القاعدة بالشكل الذي انتهينا إليه لا يستلزم عكسها.
وهنا نحن نبحث وجوهاً لإثبات عكس القاعدة كالتالي:
الوجه الأوّل: ما رواه الشيخ الأنصاري في المكاسب(1) عن الشيخ الطوسي في المبسوط، وهو أنّ ما لا يضمن بصحيحه فلا يضمن بفاسده بطريق أولى.
ووضّح الشيخ الأنصاري هذا الوجه بما يلي: أنّ الصحيح من العقد إذا لم يقتض الضمان مع إمضاء الشارع له، فالفاسد الذي هو بمنزلة العدم لا يؤثّر في الضمان؛ لأنّ أثر الضمان إمّا من الإقدام على الضمان والمفروض عدمه وإلّا لضمن بصحيحه، وإمّا من حكم الشارع بالضمان بواسطة هذه المعاملة الفاسدة والمفروض أنّها لا تؤثّر شيئاً.
ووجه الأولوية: أنّ الصحيح إذا كان مفيداً للضمان أمكن أن يقال: إنّ الضمان من مقتضيات الصحيح فلا يجري في الفاسد؛ لكونه لغواً غير مؤثّر، والإقدام كان على ضمان المسمّى والشارع لم يمضه فيرتفع أصل الضمان، والمفروض أنّ أصل الصحيح
(1) کتاب المکاسب، ج3، ص196 _ 197.
لا يفيد الضمان فكيف بفاسده؟!
وناقش الشيخ الأنصاري في هذا الوجه أو في الأولوية بإمكان أن يقال: إنّ الضمان كان على مقتضى القاعدة ولكن الذي رفعه نفس العقد الصحيح، فصحّة الرهن والإجارة مثلاً أوجبت تسلّط المرتهن والمستأجر على العين شرعاً فأوجبت رفع ضمان العين، بخلاف الفاسد الذي لا يوجب تسلّطاً لهما على العين فلا أولوية.
وهنا يكون ظاهر عبارة الشيخ الأنصاري أنّ هذا خدش في الأولوية لا في أصل الوجه فيصبح بصدد تصحيح أصل الوجه بالبيان التالي. ولكنّنا نرى هذا تشويشاً في التعبير، وأنّ الأولى جعل هذا سبباً في الانتقال إلى ذكر وجه ثان لإثبات عكس القاعدة وبالبيان التالي:
الوجه الثاني: ما قاله الشيخ الأنصاري رحمه الله، وهو ما دلّ على أنّ من لم يضمّنه المالك لا يضمّن، سواء ملّكه إيّاه بغير عوض أو سلّطه على الانتفاع به أو استأمنه عليه لحفظه أو دفعه إليه لاستيفاء حقّه أو العمل فيه بلا أُجرة أو بأُجرة أو غير ذلك.
أمّا دليل عدم الضمان في غير التمليك بلا عوض _ أعني الهبة _ فهو الدليل المخصّص لقاعدة الضمان، وهو ما دلّ على أنّ من استأمنه المالك على ملكه غير ضامن، بل ليس لك أن تتّهمه.
وأمّا دليل عدم الضمان في الهبة الفاسدة فهو الأولوية من خروج صورة الاستئمان عن الضمان، فإنّ استئمان المالك لغيره على ملكه إذا اقتضى عدم ضمانه له اقتضى التسليط المطلق عليه مجّاناً عدم ضمانه بطريق أُولى(1).
يبقى الكلام في أنّه ما هي الروايات التي يشير إليها بقوله: «ما دلّ على أنّ من استأمنه المالك على ملكه غير ضامن، بل ليس لك أن تتّهمه»(2)؟ ولعلّه يشير رحمه الله إلى عدد من روايات الباب4 من الوديعة.(3)
(1) المصدر السابق، ص197 _ 198.
(2) المصدر السابق، ص198.
(3) وسائل الشيعة، ج19، ص79، الباب4 من کتاب الوديعة.
فإليك صحيحة الحلبي، وهي الرواية الأُولى من الباب، وصحيحة مسعدة بن زياد وهي الرواية الأخيرة من الباب:
الرواية الأُولى من الباب: محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حمّاد عن الحلبي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان»(1).
والرواية الأخيرة من الباب: عبدالله بن جعفر في قرب الإسناد عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد عن أبيه(عليهما السلام): «أنّ رسول الله(صل الله عليه وآله) قال: ليس لك أن تتّهم من قد ائتمنته، ولا تأتمن الخائن وقد جرّبته»(2).
وقد أورد السيّد الخوئي رحمه الله _ على ما في التنقيح _ على هذا الوجه: بأنّ ما في ذيل كلامه _ يعني كلام الشيخ الأنصاري _ «من أنّ ما دلّ على أنّ من استأمنه المالك على ملكه غير ضامن له بل ليس لك أن تتّهمه مخصّص لعموم على اليد، فيا ليت قد عيّن مورده، فإنّه غير معلوم الرواية»(3).
وكلام السيّد الخوئي رحمه الله وجيه، فإنّ معنى الروايتين أنّ من جُعل أميناً لا يتّهم بالخيانة الموجبة للضمان ما لم تثبت خيانته، أمّا أنّه متى يضمن حتّى مع فرض عدم الخيانة ومتى لا يضمن حتّى مع فرض بطلان العقد الذي تمّ في ضمنه الائتمان فأمر أجنبي عن مفاد الروايتين.
الوجه الثالث: ما أفاده السيّد الخوئي رحمه الله _ على ما في التنقيح _ من أنّ المدرك للضمان في أصل قاعدة «ما يضمن» كان عبارة عن السيرة العقلائية، وهي مختصّة بما يضمن بصحيحه، أي بما إذا لم يقدم المالك على بذل ماله مجّاناً أو أمانةً أو عاريةً، أمّا إذا كان الأمر كذلك كما فيما لا يضمن بصحيحه فمن الأساس لا دليل على
(1) وسائل الشيعة، ج19، ص79، الباب4 من کتاب الوديعة، ح1.
(2) المصدر السابق، ص81، ح10.
(3) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص248.
الضمان فيه، فصحّ أنّ ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده؛ لأنّ موارد العقود المجّانية خارجة تخصّصاً من موارد تلك السيرة العقلائية الموجبة للضمان(1).
أقول: إنّ هذا الوجه لا يشمل ما إذا كان عدم الضمان في الصحيح خالقاً لهذه المجّانية:
ومثال ذلك: الجُعل الذي يجعله الجاعل للسابق في المسابقة، فإنّ هذا الجُعل لا يضمنه أحد في المسابقة الصحيحة، ولكن قد يتّفق أنّه بعد السبق يندم الجاعل على جُعله فلا يدفعه إلى السابق مجّاناً، بل يدفعه إليه باعتقاد وجوب ذلك شرعاً أو يكون رضاه مقيّداً من الأساس بفرض صحّة المسابقة، فلو بطلت وعلم السابق ببطلانها مثلاً فلا إشكال في أنّ قاعدة اليد العقلائية تقتضي ضمان السابق للجُعل ووجوب إرجاعه أو إرجاع المثل أو القيمة إلى الجاعل.
ومثال آخر: لو لم يعلم المؤجر والمستأجر أو المعير والمستعير بأنّ العين المؤجرة أو المستعارة غير مضمونة ولكن الشريعة حكمت بكون يد المستأجر والمستعير أمانية وغير موجبة للضمان، ثم انكشف بطلان الإجارة أو العارية فلا ينبغي الإشكال في أنّ قاعدة اليد العقلائية تبقى مقتضية للضمان.
وهنا لا بأس بالتنبيه بلحاظ أصل قاعدة ما يضمن على أنّ معرفة حدودها الحقيقية تنهي بعض الأبحاث الواردة في الكتب عن النقوض. ونمثّل لذلك بمثالين:
1_ فمثلاً قد يقال: إنّ السبق في المسابقة الفاسدة ليس مضموناً على أحد في حين أنّه مضمون في المسابقة الصحيحة على من جعل جُعلاً للسابق، فهو ممّا يضمن بصحيحه ولكنّه لا يضمن بفاسده فيفترض أنّ هذا نقض على القاعدة.
في حين أنّه لا معنى لنقض من هذا القبيل؛ فإنّ المعنى المعقول للقاعدة كان عبارة أنّ مقتضي الضمان حينما يكون موجوداً ولم يكن المالك قد أهدر احترام ماله كان ماله
(1) المصدر السابق، ص241 _ 242 وص247 _ 248.
مضموناً، وهذا الأمر لا مجال له أساساً في باب المسابقة؛ إذ لا مقتضي أصلاً لضمان السبق على أحد عدا أصل إمضاء الشارع لجعل الجاعل، والذي هو مخصوص بالسبق الصحيح، بينما في باب البيع مثلاً لم يكن المقتضي لأصل الضمان منحصراً في إمضاء الشارع لصحّة البيع، بل كانت قاعدة اليد العقلائية مقتضية للضمان، فحينما لم يكن البائع قد أسقط حرمة مال نفسه تمّ له الضمان في البيع الفاسد.
2_ ومثال آخر: قد يقال: إنّه في النكاح الفاسد مع علم المرأة بالفساد يكون الاستمتاع بها غير مضمون؛ لأنّها بغيّ ولا مهر لبغيّ مع أنّ الاستمتاعات في النكاح الصحيح مضمونة؛ لأنّه في حكم العقود المعاوضية.
وإذا قلنا: إنّ المهر في النكاح الصحيح لم يكن كضمان للاستمتاعات، بل كان صداقاً في أصل عقد النكاح، فلنبدّل المثال بالعقد المنقطع بناء على أنّهنّ مستأجرات(1) فمهرها
(1) كما قد يستشهد لذلك بقوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾. (النساء: 24) فقد يقال: إنّ المقصود بالأجير هنا أُجرة التمتّع بالمرأة المنقطعة.
ولا إشكال في ظهور هذه الآية في متعة النساء على خلاف رأي السنّة الذين حرّمها لهم زعيمهم، وذلك بقرينة ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ﴾، ولكن كون المقصود بالأُجرة الأُجرة المعروفة في باب الإجارة لا الصداق المعروف في باب الزواج غير واضح؛ لأنّ كلمة أُجورهنّ مستعملة أيضاً في القرآن فيما هو منصرف إلى مورد النكاح الدائم وهو قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ (الأحزاب: 50)؛ إذ لا شكّ في انصراف الزوج إلى الزوجية الكاملة وهي الدائمة.
وبالمناسبة يوجد هناك بحث أجنبي عن المقام وهو أنّه هل النبي(صل الله عليه وآله) تمتّع فى حياته بالمنقطع أو لا؟ نحن لم نر في التاريخ ما يدلّ على ذلك، فإنّ الوارد في التاريخ قصّة مارية القبطية، وهي كانت مملوكة للنبي(صل الله عليه وآله) ولم تكن متعة، راجع بهذا الصدد تفسير كنز الدقائق، ج13، ص323 _ 326، فالمروي في روايات الباب هو أنّه(صل الله عليه وآله) حرّم على نفسه مارية أو حرّم على نفسه شراب عسل فعاتبه الله تعالى بقوله: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾(التحريم: 1)، وفرض عليه تحلّة اليمين (التحريم: 2)، ولكن وجدنا مع ذلك بعض روايات تفسيرية تصرّح بتمتّع رسول الله(صل الله عليه وآله) وهي: ←
يكون في مقابل حقّ الاستمتاع، فمباضعتها مضمونة لدى صحّة العقد المنقطع، في حين أنّه لو كان العقد المنقطع باطلاً وهي تعلم بذلك فهي بغيّ لا مهر لها.
وقد أجاب السيّد الخوئي رحمه الله على هذا المثال: تارة بأنّه يمكن الالتزام بتخصيص القاعدة بحكم الشريعة بأنّه لا مهر لبغيّ، وأُخرى بأنّه يمكن الالتزام بالتخصّص؛ لأنّ المهر في النكاح إنّما يجعل بإزاء نفس الزوجية دون الانتفاعات(1) على ما يستفاد من بعض النصوص من مضمون: معاذ الله أن يجعل للبضع أجراً(2)، ويشير رحمه الله بذلك إلى صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما(عليهما السلام): «أنّه سئل عن الرجل يبتاع الجارية
→
1_ ما رواه صاحب الوسائل عن رسالة المتعة للشيخ المفيد بعنوان: روى الفضل الشيباني بإسناده إلى الباقر(عليه السلام) «أنّ عبدالله بن عطاء المكّي سأله عن قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ﴾ (التحريم: 3). فقال: إنّ رسول الله(صل الله عليه وآله) تزوّج بالحرّة متعة فاطّلع عليه بعض نسائه فاتهمته بالفاحشة. فقال: إنّه لي حلال، إنّه نكاح بأجل فاكتميه، فأطلعت عليه بعض نسائه». (وسائل الشيعة، ج21، ص10، الباب الأوّل من أبواب المتعة، ح22).
ولم نعرف الفضل الشيباني ولا سنده.
2_ مرسلة الصدوق عن الصادق(عليه السلام) «إنّي لأكره للرجل أن يموت وقد بقيت عليه خلّة من خلال رسول الله(صل الله عليه وآله) لم يأتها. فقلت له: فهل تمتّع رسول الله(صل الله عليه وآله)؟ قال: نعم. وقرأ هذه الآية: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً﴾ _ إلى قوله _ : ﴿ثَيَّبَات وَأَبْكَاراً﴾ (التحريم: 3 _ 5)».(من لا يحضره الفقيه، ج3، ص467، باب المتعة من کتاب النکاح، ح4615).
وهاتان الروايتان غريبتان؛ لأنّهما خلاف التاريخ المشهور الذي يروي أنّ الرسول(صل الله عليه وآله) حرّم على نفسه في القصّة المعروفة مارية أو شراب العسل.
3_ صحيحة بكر بن محمد عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال:« سألته عن المتعة فقال: إنّي لأكره للرجل المسلم أن يخرج من الدنيا وقد بقيت عليه خلّة من خلال رسول الله(صل الله عليه وآله) لم يقضها». (وسائل الشيعة، ج21، ص13، الباب الثاني من أبواب المتعة، ح1)، وذلك بناء على تفسير الخلّة بالخصلة المعمول بها من قِبل صاحبها.
وعلى أيّ حال فأصل البحث لا علاقة له بما نحن فيه.
(1) ولم يشر(رحمه الله) إلى احتمال الفرق بين النكاح الدائم والمنقطع.
(2) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص247.
فيقع عليها ثم يجد بها عيباً بعد ذلك؟ قال: لا يردّها على صاحبها ولكن تقوّم ما بين العيب والصحّة فيردّ على المبتاع معاذ الله أن يجعل لها أجراً»(1).
أقول: كأنّه رحمه الله وجد مجالاً للنقض بناء على أنّ المهر أجر للبضع فأجاب إمّا بالتخصيص أو بالتخصّص لمنع كون المهر أجراً للبضع.
ولكنّنا نقول: فلنفترض أنّ المهر أجر للبضع ولكنّنا نقول: إنّ إيراد هذا النقض ناتج من أصل تكبير قاعدة ما يضمن أكثر من واقعها وحقيقتها، فهي ليست قاعدة منصوصاً عليها بالأساس لا في كتاب ولا في سنّة، وإنّما حقيقتها عبارة عن أنّ من كان تسليطه لأحد على ماله تسليطاً غير مجّاني لم يهدر حرمة ماله فالمال مضمون له، ولکن متی کان للاستمتاع بالبغيّ احترام حتّى نرى أنّها أهدرت حرمة مالها أو لا؟!
ولنحذف في المقام البحث الطويل العريض الوارد في بعض الكتب عن نقوض قاعدة ما لا يضمن، ومن أرادها فليراجع المطوّلات.
تبقى نقطة ينبغي الالتفات إليها، وهي أنّه قد يتّفق أنّ العقد الأصلي باطل وأنّه كان ذاك العقد الأصلي على تقدير صحّته رافعاً للضمان الذي يكون مقتضيه ثابتاً وهي القاعدة العقلائية، فلم تنطبق على ذاك العقد الأصلي قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده»، ولكن يوجد في المقام استئمان صحيح يرفع الضمان، فنصل إلى نتيجة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» عن هذا الطريق.
مثاله: ما لو آجر بيته من صبيّ عاقل أو أعاره منه واشترطنا في عقد الإجارة أو العارية بلوغ المستأجر أو المستعير وكانت الشريعة قد أسقطت ضمان العين في الإجارة الصحيحة أو العارية الصحيحة بتسليط المستأجر أو المستعير على العين ولدى البطلان انتفى هذا الرافع للضمان، ولكن صاحب البيت قد استأمن الصبيّ على البيت كي يقدر على الاستفادة منه، والقاعدة العقلائية ترى الاستئمان مسقطاً للضمان عند
(1) وسائل الشيعة، ج18، ص103، الباب4 من أبواب أحكام العيوب، ح4.
التلف حتّى لو كان المستأمن _ عنده صبيّاً _ فعن هذا الطريق نصل إلى نتيجة عدم الضمان في خصوص فرض التلف دون الإتلاف.
الحكم الثاني: وجوب ردّ ما قبضه بالبيع الفاسد إلى المالك فوراً
أفاد الشيخ الأنصاري رحمه الله: «إنّ من الأُمور المتفرّعة على عدم تملّك المقبوض بالبيع الفاسد وجوب ردّه فوراً إلى المالك»(1).
فهل هذا حكم مستأنف ولغو لا ينبغي بحثه؛ لأنّه لو وجب دفع العوض إلى البائع لدى تلف المبيع فكيف لا يجب دفع نفس المبيع إليه مع وجوده؟!
وبكلمة أُخرى: إنّ المشتري كان ضامناً لمثل المبيع أو قيمته للبائع سواء قرّرنا ذلك بلغة أنّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده أو قرّرناه باللغة البسيطة التي تقول: إنّ البائع لم يهدر احترام مال نفسه فماله محترم، وأيضاً سواء تلف المبيع أو أتلفه المشتري، وإذا كان لدى التلف ضامناً له فكيف لا يضمنه لدى الإتلاف؟! فلو صحّ كلّ هذا فكيف يحتمل عدم وجوب ردّ نفس المبيع إلى البائع مع وجوده؟!
إلّا أنّه بالإمكان الجواب على ذلك بأنّه لدى تلف المبيع أو إتلافه لا يتعيّن ملك البائع إلّا بتطبيق المثل أو القيمة على عين خارجية، وهذا التطبيق لا يتحقّق بمجرّد فرض التطبيق واعتباره على عين خارجية من قِبل المشتري فيما بينه وبين نفسه، وإنّما يتحقّق بالارتكاز العقلائي بتسليم تلك العين مثلاً أو قيمتها إلى البائع. أمّا مع وجود المبيع فملك البائع مشخّص خارجاً، والمقدار المسلّم وجوبه هو التخلية بينه وبين مالكه وهو البائع، أمّا وجوب الردّ فبحاجة إلى استئناف بحث جديد.
وهناك أثر آخر لهذا البحث يخرجه أيضاً عن اللغوية، وهو أنّنا لو اقتصرنا على البحث السابق من وجوب ردّ المثل أو القيمة لدى التلف أو الإتلاف إلى البائع وقلنا:
(1) کتاب المكاسب، ج3، ص199.
إن وجب ردّ العوض فكيف لا يجب ردّ نفس المبيع مع وجوده؟! ولم نستطع التعدّي من ذلك إلى مورد ما لا يضمن بصحيحه كالهبة؛ لأنّه لم يكن يجب في ذاك المورد ردّ العوض لدى التلف ولا الإتلاف؛ لأنّ الواهب قد أسقط احترام مال نفسه فإثبات وجوب الردّ لدى وجود العين الموهوبة بحاجة إلى استئناف بحث جديد، وبدونه يبقى احتمال أنّه لا يجب شيء عدا التخلية بين العين الموهوبة ومالكها.
وقد استشهد الشيخ رحمه الله(1) لوجوب الردّ في البيع الفاسد بحديثين:
الأوّل: حديث الإمام صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف): «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(2) بناء على أنّ الإمساك يعدّ تصرّفاً.
والثاني: صحيح زيد الشحّام(3) وموثّق سماعة(4) عن أبي عبدالله عليه السلام عن رسول الله(صل الله عليه وآله): «من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، فإنّه لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفسه»، فحتّى لو قلنا: إنّ الإمساك لا يعدّ تصرّفاً فعلى الأقل هو داخل تحت إطلاق «لا يحلّ مال امرئ مسلم»؛ لأنّه حرّم بإطلاقه جميع الأفعال المتعلّقة به التي منها كونه في يده.
ولا يتوهّم أنّ هذا كان بإذنه؛ لأنّه دفعه إليه باختياره، فإنّ هذا الدفع كان بعنوان تمليكه إيّاه بعوض، ولم يسلّم له العوض، والتمليك المجّاني لم يصدر منه.
واستشكل السيّد اليزدي رحمه الله في صورة علم الدافع بالفساد في حرمة التصرّف على ما نقله في التنقيح(5) عن حاشيته على المكاسب بوجود الإذن الضمني في التصرّف؛ فإنّ المالك في ضمن تمليكه قد أذن للقابض في التصرّف. ودعوى أنّ الإذن مقيّد
(1) کتاب المكاسب، ج3، ص199 _ 200.
(2) وسائل الشيعة، ج25، ص386، الباب الأوّل من کتاب الغصب، ح4.
(3) المصدر السابق، ج29، ص10، الباب الأوّل من أبواب القصاص، ح1.
(4) المصدر السابق، ج5، ص120، الباب3 من أبواب مكان المصلّي، ح1.
(5) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص249 _ 250