هل يجوز بيع المكيل بالوزن وبالعكس؟
لو فرضنا أنّ أحدهما أصبح طريقاً إلى فهم الآخر كما إذا كيل مقدار ممّا يكال بكيل وجُرّب مقدار ذلك بالوزن وقيس عليه الباقي بنفس الوزن بنحو لا يختلف إلّا بالمقدار القليل الذي يغتفر عرفاً ويتّفق حتّى في نفس الكيل فلا إشكال في ذلك يقيناً.
أمّا لو لم يكن الأمر كذلك وأُبدل المكيل بالتقدير بالوزن أصالةً أو بالعكس:
فهل يبطل البيع فيهما للرجوع إلى المجازفة وعدم معلومية المقدار؟
أو يصحّ فيهما بدعوى أنّ كلّاً من الكيل والوزن كافٍ في الخروج من المجازفة، وروايات شرط الكيل والوزن أكثرها وردت بلسان شرط الكيل، ولم ترد فيها رواية بلسان شرط الوزن إلّا رواية واحدة؟(1)
أو يصحّ تبديل الكيل بالوزن، ولا يصحّ العكس؟
اختار الشيخ الأنصاري رحمه الله الثالث مستدلّاً بأنّ بيع المكيل بالوزن ليس مجازفة؛ لأنّ الوزن أضبط من الكيل وأنّ الوزن هو الأصل للكيل وأنّ العدول إلى الكيل من باب الرخصة، أمّا ما تعارف عليه الوزن فلو أرجِع فيه إلى الكيل لزمت المجازفة يقيناً(2).
وأورد عليه السيّد الخوئي رحمه الله بأنّه وإن صحّ ما أفاده الشيخ رحمه الله من أنّ الأصل في التقدير هو الوزن، فإنّ هذا لا يمكن إنكاره؛ وذلك لاختلاف المكائيل في البلاد، وعدم رجوعها إلى شيء آخر غير الوزن بالأخرة، فالوزن هو الأصل؛ لرجوع الأوزان على اختلافها إلى شيء واحد وهو المثقال الذي هو أربعة وعشرون حمّصة، إلّا أنّ ذلك لا يوجب جواز بيع المكيل بالوزن؛ لأنّه حينما يكون عُرفٌ مّا متعوّداً على الكيل دون الوزن لم يكف الوزن في ذلك العرف للخروج عن الجزاف(3).
(1) وهي موثّقة سماعة: «سألته عن شراء الطعام وما يكال ويوزن هل يصلح شراؤه بغير كيل ولا وزن؟ فقال: أمّا أن تأتي رجلاً في طعام قد كيل ووزن تشتري منه مرابحة فلا بأس إن اشتريته منه ولم تكله ولم تزنه إذا كان المشتري الأوّل قد أخذه بكيل أو وزن وقلت له عند البيع: إنّي أُربحك كذا وكذا وقد رضيت بكيلك ووزنك فلا بأس». وسائل الشيعة، ج17، ص346، الباب 5 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح7.
(2) کتاب المكاسب، ج4، ص222 _ 224.
(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص373.
بیع الموزون بعنوان معلوم عند أحد المتبايعين دون الآخر
ثم إنّ الشيخ الأنصاري رحمه الله ذكر في المقام: «أنّه لو وقعت معاملة الموزون بعنوان معلوم عند أحد المتبايعين دون الآخر كالحقّة والرطل والوزنة باصطلاح أهل العراق الذي لا يعرفه غيرهم خصوصاً الأعاجم غير جائز؛ لأنّ مجرّد ذكر أحد هذه العنوانات عليه وجعله في الميزان ووضع صخرة مجهولة المقدار معلومة الاسم في مقابله لا يوجب للجاهل معرفة زائدة على ما يحصل بالمشاهدة»(1).
وأورد عليه السيّد الخوئي رحمه الله بأنّه لو قُرّر اشتراط العلم بتفاصيل المقادير لزم بطلان أكثر المعاملات أو جميعها، فنفس العراقيّين مثلاً لا يعرفون في الأعمّ الأغلب كم نسبة الحقّة أو الأوقية إلى المثقال وكم نسبة المثقال إلى الحمّصة، فلزم بطلان معاملتهم في الموزون فيما بينهم إطلاقاً، وإن قلنا بكفاية العلم بالمقادير في الجملة الحاصل بمعرفة وجود وزن تعوّد عليه العراقيّون اسمه الحقّة منضمّاً إلى مشاهدتهم بالعين الزبرة الموجودة في الميزان بهذا الاسم، فهذا ثابت حتّى للأعجمي الذي يدخل العراق ويشتري منهم بميزانهم الذي يسمّونه بالحقّة ويرى مقداره بالمشاهدة(2).
دور الزمان والمکان في ربوية المعاملة
ثم إنّه مضى منّا أنّ مقتضى القاعدة كفاية كلّ كيل أو وزن أو عدّ أو أيّ تقدير عرفي آخر للمقدار في كلّ زمان أو مكان بحسب العادة الرائجة في ذاك الزمان أو المكان.
وهنا أُريد أن أقول: إنّه هكذا الحال في حكم الربا المعاملي الذي يكون موضوعه المكيل والموزون، ففي هذا الحكم أيضاً نقول: إنّ المقياس قد يختلف من زمان إلى زمان أو من مكان إلى مكان، فنحكم على شكل القضايا الحقيقية المتعارفة في الفقه والروايات بأنّه متى ما صدق في زمان أو مكان على المتاع كونه مكيلاً أو موزوناً حرم
(1) کتاب المكاسب، ج4، ص224.
(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص375 _ 376.
فيه الربا المعاملي، ومتى ما لم يصدق ذلك لم يحرم فيه الربا المعاملي.
إلّا أنّ هناك نقطة فرق بين شرط الكيل أو الوزن في حرمة الربا المعاملي وشرط الکيل أو الوزن في صحّة بيع المبيع ينبغي إلفات النظر إليها، وهي أنّ الهيئة قد يكون لها الأثر في موضوع شرط الكيل والوزن بما هو شرط في صحّة البيع في المكيل والموزون، فمثلاً: الدينار والدرهم المتعارفان في عصر النصوص رغم أنّهما في مادّتهما موزونان ولكنّهما بهيئة الدينار والدرهم وسكّة السلطان يصبحان من المعدودات ولا يشترط في التعامل معهما الكيل والوزن، ولكن المقياس في موضوع حرمة الربا المعاملي إنّما هي مادّة الشيء مهما تغيّرت هيئتها؛ وذلك بدليل صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبدالله عليه السلام «...يا عمر قد أحلّ الله البيع وحرّم الربا، فاربح ولا تربه. قلت: وما الربا؟ قال: دراهم بدراهم مثلان بمثل»(1).
فأنت ترى أنّه عليه السلام حكم في الدراهم بدخول الربا المعاملي فيها مع أنّ الدراهم تعتبر بحسب ما عليه سكّة السلطان من المعدودات. والظاهر أنّ السبب في ذلك أنّ الدراهم في مادّتها وهي الفضّة تعتبر من الموزون، فلم تشفع هيئتها التي جعلتها من المعدود لجواز الربا فيها، في حين أنّ مقتضى إطلاقات شرط الكيل والوزن أو عدم الجزاف في صحّة البيع دخل مجموع المادّة والهيئة في الأمر.
جواز تصديق البائع في إخباره بالكيل والوزن
وقد نطقت بذلك الروايات من قبيل:
1_ معتبرة سماعة قال: «سألته عن شراء الطعام وما يكال ويوزن، هل يصلح شراؤه بغير كيل ولا وزن؟ فقال: أمّا أن تأتي رجلاً في طعام قد كيل ووزن تشتري منه مرابحة فلا بأس إن اشتريته منه ولم تكله ولم تزنه إذا كان المشتري الأوّل قد أخذه بكيل أو وزن
(1) وسائل الشيعة، ج17، ص447، الباب40 من أبواب آداب التجارة، ح1.
وقلت له عند البيع: إنّي أُربحك كذا وكذا وقد رضيت بكيلك ووزنك، فلا بأس»(1).
2_ صحيحة محمد بن حمران قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): اشترينا طعاماً فزعم صاحبه أنّه كاله فصدّقناه وأخذناه بكيله، فقال: لا بأس. فقلت: أيجوز أن أبيعه كما اشتريته بغير كيل؟ قال: لا، أمّا أنت فلا تبعه حتّى تكيله»(2).
3_ رواية أبي العطارد قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): أشتري الطعام فأضع في أوّله وأربح في آخره فأسأل صاحبي أن يحطّ عنّي في كلّ كرّ كذا وكذا؟ قال: هذا لا خير فيه، ولكن يحطّ عنك حمله. قلت: إن حطّ عنّي أكثر ممّا وضعت؟ قال: لا بأس به. قلت: فأُخرج الكرّ والكرّين، فيقول الرجل: أعطنيه بكيلك. قال: إذا ائتمنك فلا بأس»(3).
وصدر الحديث لا يخلو من غموض، وفسّره المجلسي رحمه الله في مرآة العقول، بجواز الاستحطاط من السعر بعد تمامية البيع لدى فرض وضع سعر خاسر للمشتري. وقال: المشهور كراهة الاستحطاط بعد تمامية البيع مطلقاً(4).
وعلى أيّ حال فمحلّ الشاهد في بحثنا إنّما هو ذيل الحديث، وهو واضح في المقصود.
إلّا أنّ عيب السند لهذا الحديث أنّه لا دليل على وثاقة أبي العطارد.
4_ مرسلة ابن بكير عن رجل من أصحابنا قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن
(1) وسائل الشيعة، ج17، ص346، الباب5 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح7.
(2) المصدر السابق، ص345، ح4، والسند ما يلي: الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن فضالة عن أبان عن محمد بن حمران، والمقصود بأبان: أبان بن عثمان الذي جعله الكشّي من الذين أجمعت العصابة على ما يصحّ منهم وتصديقهم لما يقولون وأقرّوا لهم بالفقه(رجال الکشي، ص375). وكلام الكشّي هذا كافٍ في توثيقه. ونزيد عليه أنّه قد روى عنه كلّ الثلاثة الذين شهد الشيخ بشأنهم أنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة. والشاهد على كونه هو المقصود في هذا السند هو رواية فضالة عنه.
(3) وسائل الشيعة، ج17، ص345، الباب5 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح6.
(4) مرآة العقول، ج19، ص181 _ 182.
الرجل يشتري الجصّ فيكيل بعضه يأخذ البقية بغير كيل؟ فقال: إمّا أن يأخذ كلّه بتصديقه، وإمّا أن يكيل كلّه»(1).
ولا تعارَض هذه الروايات بصحيحة الحلبي عن أبي عبدالله عليه السلام أنّه قال: «في رجل اشترى من رجل طعاماً عِدلاً بكيل معلوم وأنّ صاحبه قال للمشتري: ابتع منّي هذا العدل الآخر بغير كيل فإنّ فيه مثل ما في الآخر الذي ابتعت. قال: لا يصلح إلّا بكيل، وقال: وما كان من طعام سمّيت فيه كيلاً فإنّه لا يصلح مجازفةً، هذا ممّا يكره من بيع الطعام»(2) فإنّ ظاهر قوله: «ابتع منّي هذا العدل الآخر بغير كيل» إنّه لم يكن قد كال البائع العدل الآخر، وإنّما كان يحدس حدساً كونه مساوياً للعدل الأوّل، وحجّية نظر البائع وحدسه تحتاج إلى دليل، وهو مفقود في المقام، كما أفاده السيّد الخوئي رحمه الله في التنقيح(3).
ويؤيّد ذلك ذيل الحديث، وهو قوله: «وما كان من طعام سمّيت فيه كيلاً فإنّه لا يصلح مجازفة، هذا ممّا يكره من بيع الطعام»، فهذا المقطع إن كان جزءاً من نفس الرواية فتأييده للمقصود بل دلالته على المقصود _ أعني: أنّ رأي البائع إنّما كان عن حدس ومجازفة _ واضح لا غبار عليه، وإن كان من باب التجميع بين روايتين من قِبل الراوي فأيضاً لا يخلو عن تأييد.
موضوعية إخبار البائع أو طريقيته
بقي في المقام أن نرى أنّ جواز تصديق البائع في إخباره بالكيل والوزن هل يعني مجرّد موضوعية إخبار البائع بالكيل والوزن ولو عرفناه فاسقاً مشتهراً بالكذب في أقواله وأخباره ولا توجد أيّة كاشفية لكلامه عن الواقع أو إنّ المسألة تنظر إلى طريقية دعواه للكيل أو الوزن إلى ثبوت الكيل والوزن؟ وعلى الثاني هل يجب أن تكون
(1) وسائل الشيعة، ج17، ص344، الباب5 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح3.
(2) المصدر السابق، ص342، الباب4 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح2.
(3) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص366 و381.
كاشفية دعواه للكيل والوزن على مستوى كونه ثقة في كلامه، أو على مستوى حصول الاطمئنان من كلامه بالواقع، أو يكفي مجرّد الكاشفية الناقصة التي تحصل عادة من كلام من لم يكن كذّاباً أو مشتهراً بالكذب؟
لا إشكال في أنّ حمل الروايات الماضية على مجرّد موضوعية دعوى البائع أنّه قد كال ليس عرفيّاً، مضافاً إلى أنّ ما مضت الإشارة إليه في مستهلّ البحث عن شرط معلومية الكيل والوزن في المكيل والموزون من روايات ذلك تأبى عن التخصيص بحمل إخبار البائع على مجرّد الموضوعية.
نعم، يبقى الكلام على أنّ مجرّد الكاشفية المتعارفة لكلام البائع الاعتيادي هل هو كافٍ في صحّة الشراء منه، أو لابدّ من وثاقته أو من حصول الاطمئنان من كلامه؟ وقد اختار السيّد الخوئي رحمه الله الثاني(1).
والواقع أنّنا في فهم ذلك يجب أن نرجع إلى نفس روايات جواز الاكتفاء بإخبار البائع فنقول:
أمّا معتبرة سماعة: _ «سألته عن شراء الطعام وما يكال ويوزن هل يصلح شراؤه بغير كيل ولا وزن؟ فقال: أمّا أن تأتي رجلاً في طعام قد كيل أو وزن تشتري منه مرابحة فلا بأس إن اشتريته منه ولم تكله ولم تزنه إذا كان المشتري الأوّل قد أخذه بكيل أو وزن وقلت له عند البيع: إنّي أُربحك كذا وكذا وقد رضيت بكيلك ووزنك، فلا بأس»(2) _ فظاهرها إنّ دائرة الحكم بالصحّة فيها خاصّة بفرض إحراز أصل الكيل والوزن من قِبل البائع والاكتفاء في معرفة عدم الخطأ في كيله ووزنه بمجرّد احتمال عدم الخطأ، فيقول له: أشتري منك مرابحة وأرضى بكيلك ووزنك.
وأمّا صحيحة محمد بن حمران _: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): اشترينا طعاماً فزعم
(1) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص381.
(2) وسائل الشيعة، ج17، ص346، الباب5 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح7.
صاحبه أنّه كاله فصدّقناه وأخذناه بكيله، فقال: لا بأس. فقلت: أيجوز أن أبيعه كما اشتريته بغير كيل؟ قال: لا، أمّا أنت فلا تبعه حتّى تكيله»(1) _ فظاهرها كفاية مجرّد كاشفية احتمال الصدق الموجود في خبر الإنسان الاعتيادي.
ولو بقينا نحن وهاتين الروايتين لأخذنا بمفاد الرواية الثانية؛ لأنّ ضيق دائرة دلالة الأُولى ليس مقيّداً لسعة دائرة دلالة الثانية، فتبقى الثانية حجّة في دائرة دلالتها الأوسع.
وأمّا رواية أبي العطارد _ قلت: «...فأُخرج الكرّ والكرّين فيقول الرجل: أعطنيه بكيلك. قال: إذا ائتمنك فلا بأس»(2) _ فظاهرها شرط كون البائع أميناً عند المشتري، ولكن مضى أنّ الرواية ساقطة بنفس أبي العطارد؛ لعدم دليل على وثاقته.
وأمّا مرسلة ابن بكير _ عن رجل من أصحابنا قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الرجل يشتري الجصّ فيكيل بعضه يأخذ البقية بغير كيل. فقال: إمّا أن يأخذ كلّه بتصديقه، وإمّا أن يكيل كلّه»(3)_ فلعلّها تفسّر بمعنى أنّه إن عرف صدقه اكتفى بصدقه، وإن لم يعرف صدقه فلابدّ من كيل الجميع، ولكنّها على أيّ حال مرسلة.
فالذي يبدو لنا هو أنّ المقياس سعة دلالة صحيحة حمران، وإن كان الاحتياط بالاقتصار على فرض معرفة الصدق أمراً حسناً بأن لا يبقى إلّا مجرّد احتمال الخطأ.
فرعان في انكشاف مخالفة إخبار البائع عن المقدار
الفرع الأوّل: لو انكشف الخلاف بالنقيصة، فتبيّن أنّ المبيع هو أقلّ من المقدار الذي أخبر به البائع وزناً أو كيلاً.
وقد أفاد الشيخ الأنصاري رحمه الله ما نصّه: «يمكن أن يقال: إنّ مغايرة الموجود الخارجي
(1) وسائل الشيعة، ج17، ص345، الباب5 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح4.
(2) المصدر السابق، ح6.
(3) المصدر السابق، ص344، ح3.
لما هو عنوان العقد حقيقة مغايرة حقيقية لا تشبه مغايرة الفاقد للوصف لواجده؛ لاشتراكهما في أصل الحقيقة بخلاف الجزء والكل، فتأمّل فإنّ المتعيّن الصحّة والخيار»(1).
وحاصل المقصود هو أنّه لا إشكال في أنّ فقدان الوصف الذي لا يعتبر _ عرفاً _ مقوّماً لا يبطل البيع، وإنّما يوجب الخيار، ولكن يمكن أن يقال في المقام: إنّ اختلاف الجزء والكلّ يعتبر من الأُمور المقوّمة فيبطل البيع، ثم أفتى رحمه الله بأنّ المتعيّن الصحّة والخيار.
وما أفتى به رحمه الله هو الصحيح؛ لأنّ المبيع هي هذه العين الخارجية، وهي ثابتة على حالها بكلّ مقوّماتها فلا معنى لبطلان البيع وغاية الأمر ثبوت الخيار.
ولو فرض أنّ المبيع كان كلّيّاً وإنّ البائع سلّم الجزء ولم يسلّم الكلّ لثبت خيار تبعّض الصفقة، إلّا أنّ هذا خلاف ما هو المفروض في المقام.
والواقع أنّ الخيار في المقام هو خيار تخلّف الشرط، فإنّه اشترى هذا الطعام على أنّه مشتمل على كذا مقدار من الكيل أو الوزن وقد تبيّن خلافه.
وليس هذا الخيار عبارة عن خيار الغبن، فإنّ النسبة بين ما هو المفروض في بحثنا وبين الغبن عموماً من وجه، فقد يتّفق أنّه لم يکن مغبوناً؛ لموافقة السعر الذي عُيّن في مقابل المبيع لقيمته السوقية، بل قد يفترض كون المشتري رابحاً.
وقد تبيّن بما ذكرناه أنّه لو اختار المشتري إمضاء البيع استحقّ البائع تمام الثمن؛ لأنّ المفروض أنّ الثمن وقع على هذا الطعام الخارجي، ولم يكن في المقام تبعّض صفقة حتّى يرجع إلى المشتري جزء من الثمن.
هذا، وقد ورد في منية الطالب للشيخ موسى الخوانساري رحمه الله كتقرير لبحث الشيخ النائيني(قدس سره) القول برجوع مقدار من الثمن إلى المشتري بحجّة أنّ الأوصاف المتخلّفة إذا كانت خارجية _ ككتابة العبد ونحوها _ فتخلّفها لا يوجب إلّا الخيار بين الفسخ والإمضاء بتمام الثمن، وأمّا إذا كان الوصف عبارة عن المقدار فتخلّفه يوجب الخيار
(1) کتاب المكاسب، ج4، ص241 _ 242.
بين الفسخ والإمضاء بمقدار من الثمن؛ إذ لا وجه لإلحاق نقص المقدار بتخلّف وصف الكتابة، فإنّ وصف الكتابة لا يقع بإزائه جزء من الثمن، وإنّما يصير وجوده منشأً لزيادة قيمة الموصوف به، وأمّا المقدار فالثمن يوزّع عليه، فإذا بيع عشرة أمنان بعشرة دراهم فقد قوبل كلّ منًّ بدرهم، فإذا تبيّن نقص المبيع وكونه ثمانية فلا محيص إلّا من نقص درهمين، فله الإمضاء مع استرداد التفاوت، وله الفسخ لتخلّف وصف الانضمام الذي اشترط ضمناً(1).
ثم نقل الشيخ الخوانساري رحمه الله عن كتاب وسيلة النجاة لأُستاذه الشيخ النائيني(قدس سره): أنّه تارة يفترض أنّه يشتريه عشرة أمنان التي هي هذه الصبرة فعندئذٍ يكون تخلّفه موجباً للخيار مع التقسيط، وأُخرى يفترض أنّه يشتري هذه الصبرة الخارجية مقدّرةً بكونها عشرة أمنان فتخلّفه موجب للخيار بلا تقسيط؛ لأنّ حكمه حكم تخلّف الشرط والمبيع نفس العين الخارجية، وكذا الحال فيما لو اشترى عشرة أجرب التي هي هذه الأرض أو اشترى هذه القطعة المشاهدة مقدّرة بكونها عشرة أجرب، ففي الأوّل يتمّ التقسيط على عدد الأجرُب، وفي الثاني لا يكون حكمه إلّا حكم تخلّف الشرط والمبيع نفس العين الخارجية.
واعترض رحمه الله على كلام أُستاذه الوارد في وسيلة النجاة بأنّ اختلاف التعبير لا يغيّر الواقع وأنّ المقدار دائماً جزء المبيع سواء كان كيلاً أو وزناً أو عدداً أو ذراعاً، فالجزء هو جزء ودخيل في مصبّ المعاملة وإن جعل في مقام التعبير شرطاً وجعل عنوان المبيع نفس العين الخارجية، فعلى كلّ حال يقع الثمن بإزاء كلّ جزء جزء، فعدم وجود مقدار من المبيع يوجب استرداد مقدار من الثمن، وهذا بخلاف الأوصاف الخارجية كالكتابة ونحوها فهي وإن كانت دخيلة في عالم اللبّ في زيادة الثمن إلّا أنّ العوض لا يقع في مقام الإنشاء المعاملي إلّا بإزاء الموصوف.
(1) منية الطالب، ج2، ص375.
والخلاصة: أنّ المقدار أمر متوسط بين الصورة النوعية والمقوّمة وبين الأوصاف الخارجية، فمن جهة ملحق بالصورة النوعية المقوّمة فيستردّ من الثمن بمقدار الناقص، ومن جهة ملحق بالأوصاف فتخلّفه موجب للخيار، لا لبطلان أصل المعاملة(1).
أقول: الظاهر أنّ الصحيح هو ما نقله الشيخ الخوانساري رحمه الله عن وسيلة النجاة للشيخ النائيني رحمه الله، ففرق بين أن يجعل الثمن في مقابل أجزاء الأمنان فينبسط على الأجزاء ويتحقّق ما أشرنا إليه من تبعّض الصفقه، وبين أن يجعله في مقابل الصبرة الخارجية مشروطاً بكون المقدار كذا وكذا فلا ينبسط إلّا على الأجزاء الخارجية من الصبرة ولا يتحقّق إلّا خيار تخلّف الشرط.
الفرع الثاني: لو انكشف الخلاف بالزيادة، فتبيّن أنّ المبيع هو أكثر من المقدار الذي أخبر به البائع وزناً أو كيلاً.
فتارة تفترض أنّه قد باعه شخص هذه الصبرة معتقداً أنّه صاع مثلاً فتبيّن صاعاً ونصفاً فالثمن كلّه وقع في مقابل هذه الصبرة، ولا وجه لبطلان البيع، وللبائع أن يسترجع نصف الصاع؛ لأنّهما توافقا على مبايعة هذه الصبرة المتّصفة بوصف عدم الزيادة على الصاع وقد تخلّف الوصف لصالح المشتري، ولو كان الوصف المتخلّف لصالح المشتري عبارة عن وصف عدم الكتابة مثلاً كان ذلك مورثاً للخيار للبائع في أصل البيع؛ إذ لا سبيل له إلى استرجاع الوصف الذي يوجب قوّة السعر السوقي إلّا باسترجاع العين، ولكن في المقام يكون بإمكانه استرجاع الوصف منفصلاً عن استرجاع تمام العين؛ وذلك باسترجاع المقدار الزائد، أعني: نصف الصاع، فإن اختار عدم الاسترجاع كان ذلك رزقاً ساقه الله إلى المشتري، وإن اختار استرجاع الوصف بأخذ نصف الصاع تولّد للمشتري خيار فسخ البيع.
(1) منية الطالب، ج2، ص375 _ 376.
وأُخرى نفترض أنّه قد باعه صاعاً من هذه الصبرة معتقداً أنّ هذه الصبرة لا تشتمل على أكثر من صاع واحد فتبيّن أنّها تشتمل على صاع ونصف، فقد وقعت الشركة بين البائع والمشتري في هذه الصبرة، ولا إشكال في أنّ الشركة تعتبر نقصاً عرفاً، فللمشتري خيار الفسخ، وليس للبائع خيار الفسخ؛ لأنّه هو الذي أصبح منشأً لوقوع المشتري في مشكلة الشركة، وليس العكس.
أمّا ما ذكره الشيخ النائيني رحمه الله بحسب نقل منية الطالب فهو أنّه لو تبيّنت زيادة المقدار على الذي أخبر به البائع فلا وجه لثبوت الخيار للبائع؛ لأنّه وإن صار شريكاً مع المشتري بنحو الإشاعة، والشركة عيبٌ، إلّا أنّ هذا العيب لم يكن تحت الالتزام الضمني للمشتري، فتحقّقه لا يوجب الخيار للبائع، وإنّما الزيادة توجب الخيار للمشتري؛ لأنّ المبيع الذي انتقل إليه لو لم يكن مفروزاً فهو معيوب؛ لأنّه اشترط ضمناً كونه مفروزاً(1).
وقد أيّد السيّد الخوئي رحمه الله في التنقيح كلام أستاذه(2).
ولعلّ مقتضى الحمل على الصحّة حمل كلامهما على مثل فرض بيع الصاع من صبرة بتخيّل البائع أنّ هذه الصبرة تساوي الصاع لا أكثر.
کفاية المشاهدة عن معلومية العوضين
قال الشيخ الأنصاري رحمه الله:
«قال في الشرائع: يجوز بيع الثوب والأرض مع المشاهدة وإن لم يُمسحا، ولو مُسحاً كان أحوط؛ لتفاوت الغرض في ذلك وتعذّر إدراكه بالمشاهدة. وفي التذكرة: لو باع مختلف الأجزاء مع المشاهدة صحّ كالثوب والدار والغنم إجماعاً. وصرّح في التحرير
(1) المصدر السابق، ص376.
(2) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص386.
بجواز بيع قطيع الغنم وإن لم يعلم عددها»(1).
وبعد نقله رحمه الله لهذه الكلمات قال:«أقول: يشكل الحكم بالجواز في كثير من هذه الموارد؛ لثبوت الغرر غالباً مع جهل أذرع الثوب وعدد قطيع الغنم، والاعتماد في عددها على ما يحصل تخميناً بالمشاهدة عين المجازفة»(2).
أقول: نحن نحذف من الحساب مسألة الاستشهاد بنفي الغرر؛ لما مضى منّا من أنّ حديث نهي النبي(صل الله عليه وآله) عن بيع الغرر إن تمّ سنداً فأقوى محتملاته النهي عن بيع الخدعة، وهذا لا علاقة له ببطلان بيع الجزاف، فبيع الجزاف قد يقترن بالخداع وقد لا يقترن، كما أنّ بيع الخداع قد يقترن ببيع الجزاف وقد لا يقترن.
وعلى أيّ حال فنحن نقول: قد اتّضح بكامل التفصيل ممّا مضى اشتراط معلومية مقدار الثمن ومقدار المثمن وأنّ بيع الجزاف باطل. وأمّا تشخيص المصداق فراجع إلى العرف، فكلّ ما يخرج عرفاً بالمشاهدة عن الجزاف وعدم معلومية المقدار كفت فيه المشاهدة كما في الأراضي والدور، وكلّ ما لا يخرج عرفاً عن ذلك بالمشاهدة كما هو الحال كثيراً في بيع قطيع الغنم لم تكف فيه المشاهدة.
وقال السيّد الخوئي رحمه الله: «إذا اشترى داراً أو أرضاً بالمشاهدة وكانت بنظره كذا مقداراً ثم انكشف أنّها أقلّ من ذلك المقدار فلا خيار له، كما لا إشكال في صحّة بيعه؛ وذلك لأنّه إنّما اشتراها بالمشاهدة، ولم يشترط في عقد المعاملة أن تكون كذا مقدار. نعم، لو اشترط في ضمنها أن تكون كذا مقداراً وظهرت أقلّ منه فله خيار تخلّف الشرط، كما هو ظاهر»(3).
(1) کتاب المكاسب، ج4، ص245.
(2) المصدر السابق، ص246.
(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص386 _ 387.
حكم بيع بعض أجزاء الشيء
لو باع بعضاً من جملة متساوية الأجزاء كصاع من صبرة مجتمعة الصيعان أو متفرّقها أو ذراع من كرباس أو عبد من عبدين وشبه ذلك، فقد ذكر الشيخ الأنصاري رحمه الله لذلك صوراً ثلاثاً(1):
الصورة الأُولى: أن يريد بذلك البعض كسراً واقعيّاً من تلك الجملة مقدّراً بذلك العنوان، فير يد بالصاع مثلاً من صبرة متكوّنة من عشرة أصوع عُشرها ومن عبد من العبدين نصفهما. وأفاد رحمه الله: أنّه لا إشكال في صحّة ذلك، ولا في كون المبيع مشاعاً في تلك الجملة.
قال رحمه الله: ولكن قال في التذكرة: والأقرب أنّه لو قصد الإشاعة في عبد من عبدين أو شاة من شاتين بطل، بخلاف الذراع من الأرض.
وعلّق الشيخ الأنصاري رحمه الله على ذلك بقوله: «ولم يعلم وجه الفرق إلّا منع ظهور الكسر المشاع من لفظ العبد والشاة»(2).
يعني رحمه الله بذلك أنّه إن كان فرق بين مثال الذراع من الأرض وبين عبد من عبدين أو شاة من شاتين فإنّما هو فرق في التعبير اللفظي؛ وذلك بسبب انصراف عبد من عبدين أو شاة من شاتين عن نصف مجموع العبدين أو مجموع الشاتين.
أقول: إنّ بيع الكسر المشاع لا إشكال في صحّته فإنّه أمر عرفي وواقع لدى العقلاء ومشمول للإطلاقات(3) وأنّ هذا ينتج الشركة في فهم العرف.
ولكن ينبغي التدقيق في فهم حقيقة الحكم المستنتج من تلك الإطلاقات، فهل حقيقة ذلك ما يتبادر ابتداءً إلى الذهن من انتقال كسر مشاع إلى المشتري أو أنّه
(1) راجع کتاب المكاسب، ج4، ص247 _ 256.
(2) المصدر السابق، ص248.
(3) سواء ما كان منها بمثل: ﴿أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾ أم ما كان منها بمثل: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقوُدْ﴾.
بحاجة إلى توجيه معقول؟
الظاهر أنّ ما قد يتبادر إلى الذهن من انتقال كسر مشاع إلى المشتري أمر غير معقول؛ لأنّنا لو فرضنا ذلك فإمّا أن يُقصد بذاك الكسر المشاع _ كالنصف مثلاً _ عنوان معلّق على الهواء غير منطبق على ما في الخارج، أو يقصد به أمر منطبق على الخارج:
فإن قصد الأوّل فهذا يعني عدم انتقال شيء من العين الخارجية إلى المشتري، وهذا خلف ما قلناه من أنّه وقعت الشركة في الفهم العرفي العقلائي. نعم، هذا يناسب فكرة بيع الكلّي في المعيّن الراجعة إلى الاحتمال الثالث.
وإن قصد الثاني قلنا: ما هو الأمر الخارجي الذي انطبق عليه هذا النصف مثلاً؟ هل هو قسم معيّن ولو عند الله تعالى أو جزء لا على التعيين؟ فإن فرض الأوّل فلا إشكال في أنّ هذا التعيين يكون في الفهم العرفي بلا معيّن، وكأنّه يعتبره ترجيحاً بلا مرجّح، وإن فرض الثاني رجع ذلك إلى الفرد المردّد المستحيل، وهذا رجوع إلى الاحتمال الثاني الذي سيأتي إن شاء الله، والذي سنشير _ أيضاً فيما سيأتي _ إلى استحالته.
وعليه فلابدّ من توجيه الأمر إلى صيرورة كلّ الموجود الخارجي ملكاً للشخصين البائع والمشتري، أي: أنّ الشخصين وقعا طرفاً واحداً للملكية المعتبرة بين المالك والمملوك، وكأنّهما بمنزلة شخص واحد يمتلك شيئاً.
وهذا هو الحال في جميع موارد تصوير الشركة من قبيل باب الإرث أو باب إهداء شيء إلى شخصين.
الصورة الثانية: أن يريد بذلك البعض البعض المردّد بين ما يمكن صدقه عليه في المجموع، نظير تردّد الفرد المنتشر بين الأفراد، وهذا يتّضح في مثال ما لو كان صاعاً من الصيعان المتفرّقة.
ويقع الكلام في أنّه هل هذا قصد لأمر محال، أو لا؟
قد أفاد السيّد الخوئي رحمه الله: أنّ هذه الصورة في حدّ ذاتها غير معقولة؛ لأنّه إن أُريد بالفرد المنتشر الفرد غير المعيّن في الواقع الذي لا خصوصية له ولا تشخّص فيه بوجه، فهذا أمر لا يوجد في الخارج؛ لأنّ الفرد الموجود في الخارج لا معنى لعدم تشخّصه وتعيّنه؛ لأنّ الوجود عين التشخّص، ولا يوجد في الخارج فرد من دون خصوصية، فالمبيع أمر غير معقول فعلاً، كما أنّه لا يوجد إلى أبد الدهر دائماً، فالمعاملة باطلة حينئذٍ بلا إشكال. وإن أُريد منه الفرد غير المعيّن ابتداءً والمعيّن بعد ذلك واقعاً، كما إذا باع صاعاً أو عبداً يعيّنه بعد ذلك، فهذا الذي يعيّنه بعد ذلك أمر معيّن في علم الله وفي الواقع وإن كان مجهولاً عنده ابتداءً، فهذا أمر آخر وراء الفرد المنتشر الذي لا تعيّن له(1). ولقد أجاد رحمه الله فيما أفاد.
الصورة الثالثة: ما يسمّى ببيع الكلّي في المعيّن وعبّر الشيخ رحمه الله عن ذلك بأن يكون المبيع طبيعة كلّية منحصرة المصاديق في الأفراد المتصوّرة في تلك الجملة(2)، وقال رحمه الله: «الظاهر صحّة بيع الكلّي بهذا المعنى»(3).
وكلامه هذا مطابق لمقتضى القاعدة، ونحن نرى أنّ رواية الأطنان أيضاً تدلّ على ذلك كما أفاده السيّد الخوئي رحمه الله(4)، وتلك هي صحيحة بريد بن معاوية عن أبي عبدالله(عليه السلام): «في رجل اشترى من رجل عشرة آلاف طُنّ قصب في أنبار بعضه على بعض من أجمة واحدة، والأنبار فيه ثلاثون ألف طُنّ، فقال البائع: قد بعتك من هذا القصب عشرة آلاف طُنّ، فقال المشتري: قد قبلت واشتريت ورضيت فأعطاه من ثمنه ألف درهم ووكّل المشتري من يقبضه، فأصبحوا وقد وقع النار في
(1) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص390 وص392.
(2) کتاب المكاسب، ج4، ص253.
(3) المصدر السابق، ص255.
(4) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص391 _ 392.
القصب، فاحترق منه عشرون ألف طُنّ وبقي عشرة آلاف طُنّ فقال: العشرة آلاف طُنّ التي بقيت هي للمشتري، والعشرون التي احترقت من مال البائع»(1).
والرواية واضحة في إرادة بيع الكلّي في المعيّن دون بيع الكسر المشاع؛ إذ على الثاني يلزم الاشتراك، ويكون المترقّب أن يحكم الإمام عليه السلام بأنّ ما بقي لهما وما تلف تلف منهما، فالعرف يفهم من حكمه عليه السلام _ بأنّ العشرة آلاف طُنّ التي بقيت هي للمشتري وأنّ العشرين التي احترقت من مال البائع _ أنّ البيع كان على أساس بيع الكلّي في المعيّن، لا على أساس بيع الكسر المشاع.
بل لا يبعد القول بأنّ إرادة بيع الكسر المشاع هو الذي يكون بحاجة إلى القرينة، كأن يقول: بعتك ثلثاً من هذا القصب. أمّا لو قال: بعتك ألف طُنّ من هذا القصب فالمفهوم عرفاً من أوّل الأمر من هذه العبارة هو بيع الكلّي في المعيّن، ولذا ترى أنّ الإمام عليه السلام لم يستفسر عن مراد السائل ولم يفصّل في الحكم بأن يقول: لو قصدت كذا فالحكم كذا ولو قصدت كذا فالحكم كذا، وإنّما قال عليه السلام رأساً: «العشرة آلاف طُنّ التي بقيت هي للمشتري، والعشرون التي احترقت من مال البائع».
ثمرات بيع المشاع وبيع الکلّي في المعيّن
ثم إنّه رتّب الشيخ على بيع الكلّي في المعيّن في مقابل الإشاعة عدّة ثمرات:
الأُولى: أنّ تعيين الصاع الذي يعطى للمشتري يكون بيد البائع؛ لأنّ المفروض أنّ المشتري لم يملك إلّا الطبيعة المعرّاة عن التشخّص الخاصّ، فلا يستحقّ على البائع خصوصية، فإذا طالب بخصوصية زائدة على الطبيعة فقد طالب ما ليس حقاً له(2).
وهذا كلام صحيح لا إشكال فيه.
(1) وسائل الشيعة، ج17، ص365، الباب19 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث الوحيد في الباب.
(2) کتاب المكاسب، ج4، ص259.
أمّا لو باع حصّة معيّنة فقد أصبحا شريكين، ويكون التقسيم بينهما بيدهما معاً، كما هو الحال في جميع موارد الشركة.
والثانية: أنّه لو تلف بعض الجملة وبقي مصداق الطبيعة انحصر حقّ المشتري فيه؛ لأنّ كلّ فرد من أفراد الطبيعة وإن كان قابلاً لتمليكه بخصوصه للمشتري إلّا أنّ هذا يتوقّف على تعيين مالك المجموع وإقباضه، فكلّ ما تلف قبل إقباضه خرج عن قابلية تمليكه للمشتري، وهذا بخلاف المشاع فإنّ ملك المشتري فعلاً ثابت على سبيل الإشاعة من دون حاجة إلى اختيار وإقباض، فكلّ ما يتلف من المال فقد تلف من المشتري بنسبة حصّته(1).
والثالثة: أنّه لو فرضنا أنّ البائع بعد ما باع صاعاً من الجملة باع من شخص آخر صاعاً كلّياً آخر فالظاهر أنّه إذا بقي صاع واحد كان للأوّل؛ لأنّ الكلّي المبيع ثانياً إنّما هو سارٍ في مال البائع وهو ما عدا الصاع من الصبرة، فإذا تلف ما عدا الصاع فقد تلف جميع ما كان الكلّي فيه سارياً، فقد تلف المبيع الثاني قبل القبض، وهذا بخلاف ما لو قلنا بالإشاعة(2).
وأيّد ذلك الشيخ النائيني رحمه الله بحسب ما هو وارد في منية الطالب(3).
وأورد على ذلك السيّد الخوئي رحمه الله بأنّ المملوك للمشتري الأوّل لم يكن هو الصاع الباقي، ولم يقع البيع عليه، وإنّما البيع وقع على الكلّي في المعيّن، والذي ملكه المشتري هو ذاك الكلّي، وكذا الحال في البيع الثاني ولم يكن الكلّي معيّناً في البيع الأوّل في صاع بالخصوص حتّى في علم الله تعالى. نعم، الفرد الخارجي مطابق للمملوك لا عينه(4).
(1) المصدر السابق، ص260.
(2) المصدر السابق.
(3) منية الطالب، ج2، ص388.
(4) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص404.
وأفاد رحمه الله بأنّه ليس في المقام فرق بينهما _ يعني بين البيعين _ إلّا من حيث الزمان، والتقدّم والتأخّر في الزمان لا يوجب تعيين المشتري الأوّل كما هو ظاهر، فحال ذلك حال ما لو باع صاعين دفعة واحدة ثم تلفت الصبرة إلا بمقدار صاع(1).
ثم أفاد رحمه الله: أنّه يقع الكلام بعد ذلك في أنّ البائع هل يجب عليه أن يدفع الصاع الباقي للمشتري الأوّل حتّى يكون ذلك موجباً للتلف في البيع الثاني وانفساخ المعاملة، أو أنّه يتخيّر بين دفعه إلى الأوّل أو الثاني، أو أنّه لا هذا ولا ذاك بل لابدّ من تنصيفه وإعطائه نصفه لأحدهما ونصفه الآخر للآخر ؟(2)
ولم يهتمّ رحمه الله _ بقدر ما هو موجود في التنقيح _ ببيان وجه الاحتمال الأوّل، ووجهه هو تقدّم حقّ المشتري الأوّل.
وجواب هذا الوجه واضح؛ إذ لو كان لتقدّم المشتري الأوّل أثر لكان هو ما ذكره الشيخ رحمه الله من أنّه مَلَك الصاع الباقي، وقد تقدّم بطلان ذلك. فالأمر دائر بين الاحتمالين الأخيرين:
أحدهما: التخيير، ووجّهه رحمه الله بأنّه ربّما يقال: إنّ البائع قبل تلف الصبرة كان مخيّراً في أن يدفع الفرد الباقي إلى المشتري الأوّل وأن لا يدفعه إليه، وهذا التخيير لم يحدث ما يزيله.
وأجاب(قدس سره) على ذلك بأنّ هذا التخيير إنّما هو قبل التلف من جهة وجود صيعان وكان الاختيار في التعيين بيده وكان متمكّناً من أن يدفع هذا الفرد الباقي إليه أو أن يدفع إليه فرداً آخر، وبعد عروض التلف يرتفع هذا التمكّن؛ إذ لم يبق في البين إلّا صاع واحد، فلا موضوع للتخيير، ونسبة البيعين إليه على حدّ سواء، فلا موجب لترجيح أحدهما على الآخر، فيدور الأمر حينئذ بين الحكم بالانفساخ في كلا البيعين
(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص406.
(2) المصدر السابق.
وبين أن يدفع نصفه إلى أحدهما ونصفه الآخر إلى الآخر(1).
والثاني: أنّه لابدّ من التنصيف وإعطاء نصفه لأحدهما ونصفه الآخر للآخر، وقال رحمه الله: هذا هو الصحيح؛ لأنّ البيع الواحد ينحلّ إلى بيوع متعدّدة بحسب تعدّد أجزاء المبيع، فهو وإن باع صاعاً واحداً بدينار إلّا أنّه ينحلّ إلى بيع نصف الصاع بنصف دينار ونصفه الآخر بنصفه الآخر، وذلك في كلا البيعين، ولم يبق مجال لتمامية البيعين للمشتريين في كلا النصفين، كما لا موجب للترجيح بلا مرجّح، فلا محالة يتمّ كلّ واحد من البيعين في نصف الصاع(2).
أقول: قد يقال في المقام: يمكن ترجيح أحد المشتريين على الآخر في تمام الصاع، ويمكن التبعيض بينهما في الصاع الواحد، وكما أنّ ترجيح المشتري الثاني على الأوّل أو بالعكس ترجيح بلا مرجّح، كذلك التبعيض أيضاً احتمالٌ، وترجيحه على الاحتمالين الأوّلين يحتاج إلى مرجّح.
ومن هنا أقول تكميلاً أو توجيهاً لكلام السيّد الخوئي رحمه الله: إنّه ليست المسألة مسألة الحساب العقلي البحت، بل يدخل في الحساب الفهم العقلائي، والفهم العقلائي في مثل هذا الفرض لا يرى التنصيف ترجيحاً بلا مرجّح، فالمفهوم عقلائيّاً في المقام هو التنصيف القهري.
نعم، يبقى شيء في المقام، وهو ما أفاده السيّد الخوئي رحمه الله: من أنّه إذا كان المبيع ممّا يتعلّق فيه الغرض العقلائي بالهيئة الاجتماعية ثبت للمشتري الخيار؛ لأنّ الاجتماع حينئذٍ كوصف الصحّة من الأُمور المشروطة في البيع بحسب الارتكاز العقلائي، وأمّا إذا كان ممّا لا يتعلّق فيه الغرض العقلائي بالهيئة الاجتماعية كما في مثل الحبوبات والأدهان فلا يثبت للمشتري الخيار(3).
(1) راجع المصدر السابق، ص406 _ 407.
(2) المصدر السابق، ص407.
(3) المصدر السابق.
ثم إنّ هناك احتمالاً رابعاً غير الاحتمالات الثلاثة الماضية، وهو احتمال بطلان البيعين معاً بمعنى انفساخهما، وهذا الاحتمال في الوهلة الأُولى لا يُرى له توجيه، لما عرفت من انحلال كلّ من البيعين بعدد أجزاء المبيع، فإن لم يمكن تصحيحهما في الجميع فلا مانع من التبعيض والتنصيف.
إلّا أنّ السيّد الخوئي رحمه الله التفت إلى إمكان إيراد نقض على ذلك بمثل ما لو باع مال نفسه في زمان وباعه وكيله من شخص آخر في نفس ذلك الزمان فهنا يقال ببطلان كلا البيعين ولا يحكم بتنصيف المبيع بينهما، فلماذا يحكم في المقام بالتنصيف؟
وأجاب على ذلك بأنّ البيعين في هذا الفرض كانا واقعين على شخص المال، فالحكم بصحّة كلّ من البيعين في أيّ جزء من الأجزاء دون البيع الآخر ترجيح بلا مرجّح، وأمّا في المقام فالمبيعان كلّيان، ولم يكن مانع من صحّتهما معاً، ويبقى الانفساخ بقاعدة تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه، والتلف لم يتمّ إلّا بمقدار صاع، وهذا يعتبر تلفاً لنصف المبيع بالبيان الماضي(1).
هذا ما اقتصرنا عليه من البحث في مسألة شرط العلم بمقدار الثمن أو المثمن.
هناك أبحاث مفصّلة وموسّعة ذكرت في المقام نرجعكم فيها إلى المطوّلات من قبيل مكاسب الشيخ رحمه الله والتنقيح للسيّد الخوئي(قدس سره).
مدی کفاية الرؤية السابقة للعين
إذا شاهد عيناً في زمان سابق على العقد فهل يجوز شراؤها بالرؤية القديمة، أو لا؟
فصّل الشيخ الأنصاري رحمه الله(2) بين فرض مضيّ زمان اقتضت العادة تغيّرها عن صفاتها السابقة فأصبحت عيناً مجهولة الصفات عند المتبايعين، كجارية مضى عليها
(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص408.
(2) راجع کتاب المكاسب، ج4، ص271 _ 272.
بعد رؤيتها ما يوجب تغيّر جمالها وقواها، أو بيت مضى عليه بعد رؤيته سنون يقتضي عروض مقدار معتدّ به من الخراب أو تبدّل استحكامه أو نحو ذلك، فلا يجوز الاعتماد عندئذٍ على الرؤية السابقة، ويكون البيع باطلاً. نعم، لو أنّ البائع كان مطّلعاً على أوصاف المبيع الحالية، فوصفه للمشتري بذكر صفات تصحّح بيع الغائب صحّ البيع، وهذا غير الاعتماد على الرؤية القديمة.
وبين فرض كون المقدار الماضي من الزمان على وقت الرؤية مقداراً تقتضي العادة بقاءه على الأوصاف السابقة، فيجوز الاعتماد في الشراء على الرؤية السابقة، قال رحمه الله: لا خلاف في الصحّة في هذا الفرض إلّا من بعض الشافعية.
أمّا إذا كان المقدار الماضي من الزمان على زمان الرؤية مقداراً يحتمل فيه الأمران، أي تغيّر الأوصاف وعدم تغيّرها ففي هذا الفرض أشار الشيخ رحمه الله إلى وجهين لتصحيح البيع:
الأوّل: الاعتماد على أصالة عدم التغيّر وأفاد: أنّ الأصل من الطرق التي يتعارف التعويل عليها، فحاله حال إخبار البائع بالكيل والوزن. نعم، لو حصلت أمارة على تغيّر الأوصاف وأوجبت قوّة الظنّ بالتغيّر إلى حدّ لحق بالقسم الأوّل جاء فيه إشكال القسم الأوّل.
والثاني: ما تقدّمت الإشارة إليه في ذيل كلامه عن القسم الأوّل، وهو ما لو ذكر البائع للمشتري الأوصاف الحالية للمبيع؛ لأنّه لا ينقص عن الغائب الموصوف الذي يجوز بيعه بصفات لم يشاهد عليها.
وذكر رحمه الله أنّه لو أخبر البائع بعدم تبدّل الصفات رغم أنّ العادة تقتضي تبدّلها يمكن القول بالصحّة أيضاً إذا لم يفرض كون ذكر الصفات مع اقتضاء العادة عدمها لغواً.
وأفاد رحمه الله بشأن هذا الفرض أيضاً فيما لو أفتينا بالصحّة: أنّه خارج عن البيع بالرؤية القديمة.
أقول: إنّ ما أفاده الشيخ الأنصاري رحمه الله من الاعتماد على أصالة عدم التغيّر مستدلّاً
عليه بأنّ الأصل من الطرق التي يتعارف التعويل عليها، فهذا الاستدلال يناسب الإيمان في علم الأُصول بكون الاستصحاب حجّة بسبب كونه أصلاً يعتمد عليه العقلاء، في حين أنّ التحقيق الأُصولي لدى المحقّقين المتأخّرين لا يقتضي ذلك.
والشيخ النائيني رحمه الله كأنّه تعامل مع هذا الاستصحاب معاملة الاستصحاب التعبّدي الشرعي لا معاملة الاستصحاب العقلائي، فاستشكل في حجّيته في منية الطالب بأنّ الأثر لم يترتّب على الواقع، بل على إحراز الصفات سواء كانت في الواقع أو لم تكن؛ فإنّ ارتفاع الغرر من آثار العلم بوجود هذه الصفات، فاستصحاب بقاء الصفات لا أثر له حتّى يجري استصحابه(1).
وإنّما استظهرنا أنّه رحمه الله تعامل مع هذا الاستصحاب معاملة الاستصحاب التعبّدي الشرعي لا معاملة الأصل العقلائي؛ لوضوح أنّه لو كان أصلاً عقلائيّاً كان من الواضح أنّه يرفع الغرر مثلاً حتّى لو لم يكن يترتّب على مستصحبه أثر شرعي؛ لأنّ الأصل العقلائي يعتمد عليه فيما لو كان الأثر من لوازمه ولو لم يفرض ترتّب أثر على مصبّه.
وعلى أيّ حال فقد اعترض السيّد الخوئي رحمه الله على ما ورد في منية الطالب بأنّ هذا خلاف رأي الشيخ النائيني(قدس سره) في علم الأُصول؛ لأنّه آمن في علم الأُصول بقيام الأُصول مقام القطع الموضوعي الطريقي، فلا وجه لمنعه عن صحّة المعاملة في المقام بالاستصحاب، وإنّما هذا يناسب مسلك صاحب الكفاية من عدم قيام الأُصول والأمارات مقام القطع المأخوذ على وجه الطريقية.
ثم ذكر السيّد الخوئي رحمه الله وجهاً آخر لعدم حجّية الاستصحاب في المقام يراه تامّاً حتّى على مسلك عدم قيام الاستصحاب مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية، وهو: أنّ الأثر وهو صحّة المعاملة ليست مترتّبة على الواقع ولا على العلم به، وإنّما هي مترتّبة على عدم الغرر وانتفائه كما هو مقتضى قوله: نهى النبي عن بيع
(1) منية الطالب، ج2، ص396.
الغرر(1)، فالموضوع للصحّة هو عدم الغرر، أي: عدم احتمال الضرر، وأمّا العلم فلم يترتّب الصحّة عليه في شيء من الروايات وغيرها. نعم، عدم احتمال الضرر وانتفاء الغرر ملازم عقلاً للعلم بوجود الأوصاف، وعليه فاستصحاب بقاء الأوصاف على القول بقيامه مقام العلم لا يثبت انتفاء الغرر وعدم احتمال الخطر حتّى تترتّب عليه الصحّة إلّا بناء على القول بالأُصول المثبتة؛ لأنّ عدم احتمال الخطر الذي هو الموضوع للحكم بالصحّة ملازم للعلم بوجود الأوصاف عقلاً، وهذا هو الوجه في عدم جريان الاستصحاب في المقام(2).
أقول: أمّا مسألة التمسّك في المقام بنهي النبي(صل الله عليه وآله) عن بيع الغرر فقد مضى تعليقنا عليه بعد فرض تسليم سنده بأنّ أكبر الظنّ هو أنّ المقصود بالغرر الخدعة، والنسبة بينها وبين عدم معرفة الصفات عموم من وجه.
وكأنّ هذا الكلام من السيّد الخوئي رحمه الله مشيٌ على مسلك القوم، فإنّه يظهر بصريح من بعض عباراته أنّه شريك معنا في عدم الإيمان بحديث نهي النبي(صل الله عليه وآله) عن بيع الغرر لا سنداً ولا دلالة، كما ترى ذلك في تقریرات بحثه(3).
وأمّا قيام الأُصول مقام العلم الموضوعي الطريقي فنحن لم نؤمن به في علم الأُصول، وقلنا: إنّ نتيجة دليل الحجّية سواء في الأمارات أو الأُصول ليست إلّا التنجيز والتعذير(4).
نعم، قد يقال: إنّه توجد في روايات العمل بخبر الثقة رواية تدلّ على قيام خبر الثقة مقام القطع الموضوعي أو خصوص القطع الموضوعي الطريقي، وهي رواية أحمد بن إبراهيم المراغي قال: «ورد على القاسم بن العلاء [وذكر توقيعاً شريفاً يقول فيه]: فإنّه
(1) وسائل الشيعة، ج17، ص448، الباب40 من أبواب آداب التجارة، ح3.
(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص428.
(3) المصدر السابق، ص319 _ 320.
(4) مباحث الأصول، ج1 من القسم الثاني، ص304.
لا عذر لأحد من موالينا من التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا، قد عرفوا بأنّا نفاوضهم سرّنا ونحمله إيّاه إليهم»(1). فقد يقال: إنّ هذا يدلّ على حرمة إظهار الشكّ فيما يرويه الثقاة ووجوب ترتيب أثر العلم وعدم الشكّ، وهذا بإطلاقه يشمل كلا قسمي الأثر، أعني: الأثر العقلي وهو التنجيز والتعذير، والشرعي وهو أثر القطع الموضوعي.
ولكنّنا أوضحنا في علم الأُصول عدم تمامية هذا الحديث لإثبات المقصود سنداً ودلالةً(2).
وعلى أيّ حال فقد توضّح أنّ الاعتماد على أصالة عدم تغيّر الصفات لدى الشكّ في ذلك لا وجه له.
ثم إنّه لو اشترى العين اعتماداً على الرؤية القديمة في مورد يصحّ ذلك كما لو كان الزمان المنقضي من بعد الرؤية بمقدار لا يوجب عادة تغيّر الصفات وبعد ذلك ظهر المبيع كما كان فلا إشكال في صحّة البيع، وأمّا إذا ظهر التخلّف فلا أظنّنا بحاجة في معرفة الحكم إلى مزيد تفصيل ممّا وقع في كلماتهم في المقام، فالبيع صحيح؛ لأنّه يكفي في صحّته فرض صحّة البناء على الرؤية القديمة، وخيار تخلّف الشرط ثابت؛ لأنّ بقاء الأوصاف القديمة كان مشروطاً شرطاً ضمنيّاً.
وكذا الحال فيما لو اعتمد على توصيف البائع لأوصاف العين الحالية ثم تبيّن الخلاف.
الدليل علی اشتراط معرفة أوصاف المبيع
ثم إنّنا نعطف العنان في ختام هذا البحث إلى الحديث عن أنّه ما هي حاجتنا أساساً إلى معرفة صفات المبيع حتّى نبحث عن الاعتماد على الرؤية القديمة وعدمه؟
والذي يظهر من عبارة التنقيح للسيّد الخوئي رحمه الله أنّ الدليل على ذلك هو حديث:
(1) وسائل الشيعة، ج27، ص149، الباب11 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح40.
(2) مباحث الأصول، ج1 من القسم الثاني، ص329.
نهي النبي(صل الله عليه وآله) عن بيع الغرر(1).
وقد مضى نقاشنا في ذلك، وكأنّ السيّد الخوئي رحمه الله كما أشرنا آنفاً يكون هذا الكلام منه وفق مسلك القوم، وإلّا فهو شريك معنا في مناقشة حديث نهي النبي(صل الله عليه وآله) عن بيع الغرر سنداً ودلالةً.
نعم، لا يبعد أن يقال: إنّ أدلّة شرط معلومية المقدار تدلّ بالملازمة العرفية على شرط معلومية الأوصاف بالمقدار الذي يؤثّر على القيمة، فبهذا ثبت اشتراط معرفة أوصاف المبيع بالمقدار الدخيل في القيمة، بل قد يتّفق أن يكون الجزاف الناتج من عدم معرفة تلك الأوصاف أشدّ من الجزاف الناتج من عدم الكيل أو الوزن.
ويمكن تأييد ذلك بعدّة روايات:
الأُولى: رواية محمد بن العيص أو محمد بن الفيض غير التامّة سنداً (2) قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن رجل يشترى ما يذاق أ يذوقه قبل أن يشتري؟ قال: نعم، فليذقه، ولا يذوقنّ ما لا يشتري»(3).
ويمكن المناقشة في دلالة الرواية بأنّ السائل لعلّه احتمل حرمة الذوق؛ لأنّه لا زال في ملك البائع، فيكون قوله: «نعم فليذقه» لدفع توهّم الحظر لا للوجوب، وقد ورد في المكاسب وفي التنقيح حمل السؤال في هذه الرواية على السؤال عن الجواز، لا الوجوب(4).
الثانية: رواية عبدالأعلى بن أعيُن _ بسند فيه ابن سنان _ قال: «نُبّئتُ عن أبي جعفر عليه السلام أنّه كره شراء ما لم تره»(5). وفي نقل آخر: «نُبّئتُ عن أبي جعفر عليه السلام
(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص428.
(2) لم تثبت لدينا وثاقة الراوي المباشر ولا وثاقة الراوي عنه.
(3) تهذيب الأحکام، ج7، ص231، باب من الزيادات من کتاب التجارات، ح24.
(4) راجع کتاب المكاسب، ج4، ص289؛ وموسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص455.
(5) وسائل الشيعة، ج17، ص376، الباب25 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح2؛ وج18، ص33، الباب18 من أبواب الخيار، ح2