أقرّ بذلك وأمضاه فهي واحدة بائنة وهو خاطب من الخطّاب، وإن أنكر ذلك وأبى أن يمضيه فهي امرأته. قلت: فإن مات أو ماتت؟ قال: يوقف الميراث حتّى يدرك أيّهما بقي(1) ثم يحلف بالله ما دعاه إلى أخذ الميراث إلّا الرضا بالنكاح ويدفع إليه الميراث»(2)؛ فإنّ هذه الرواية واضحة في أنّ تزويج أبيه نافذ من غير إيقاف إلى ما بعد البلوغ في مقابل طلاق الولد للزوجة فإنّه يوقف إلى ما بعد البلوغ، في حين أنّ صحيحة أبي عبيدة واضحة في أنّ التمامية الكاملة للتزويج موقوفة على إدراكه وإجازته، ولا يمكن الجمع بينهما إلّا على تفسير الوليّين بالوليّين العرفيّين دون الشرعيّين.
2_ صحيحة عبيد بن زرارة عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن الصبي يزوّج الصبية هل يتوارثان؟ قال: إن كان أبواهما هما اللذان زوّجاهما فنعم. قلنا: يجوز طلاق الأب؟ قال: لا»(3). وليس في السند ما قد يتوقّف لأجله عدا القاسم بن عروة؛ إذ لم يرد بشأنه التوثيق، ولكن قد روى عنه ابن أبي عمير كثيراً، وهذا كافٍ في توثيقه.
فقد حكم عليه السلام في هذا الحديث بالتوارث من دون توقّف ذلك على أن يكبرا ويمضيا، في حين أنّ صحيحة أبي عبيدة حكمت بعدم التوارث إذا ماتا في الصغر أو قبل الإجازة، ولا يمكن الجمع بينهما إلّا بحمل الوليّين في صحيحة أبي عبيدة على الوليّين العرفيّين دون الأبوين.
3_ صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام «في الصبي يتزوّج الصبية يتوارثان؟ فقال: إذا كان أبواهما اللذان زوّجاهما فنعم. قلت: هل يجوز طلاق الأب قال: لا»(4).
(1) حبس ميراثها بسبب واحد وهو أنّها غير مدركة فلا تسلّط على مالها إلّا بعد الإدراك. وحبس ميراثه بسببين: أحدهما نفس ذاك السبب فلا يُسلّط على ماله إلّا بعد الإدراك، والثاني احتمال تنفيذه لطلاقها.
(2) وسائل الشيعة، ج26، ص221، الباب11 من أبواب ميراث الأزواج، ح4.
(3) المصدر السابق، ص220، ح3.
(4) وسائل الشيعة، ج20، ص292، الباب12 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، الحديث الوحيد في الباب.
وهذه حالها في الدلالة كالصحيحة الثانية.
فالنتيجة أنّ الاستشهاد بصحيحة أبي عبيدة على الكشف لا بأس به.
وهناك تفسير ثالث وسط بين التفسيرين الأوّلين لرواية أبي عبيدة، فإنّ كلمة «وليّان لهما» في صدر الرواية لا ينحصر تفسيرها بتفسيرين: إمّا بمعنى يشمل الأب أو بمعنى الوليّين العرفيّين غير الشرعيّين، حتّى تصحّ الشواهد التي عدّدناها لحمل الوليّين على العرفيّين غير الشرعيّين، بل هناك احتمال حمل الوليّين على الوليّين الشرعيّين غير الأب، وأن يكون هناك فرق في الحكم بين نكاح الأب للصغيرين ونكاح الولي الشرعي غير الأب أعني الوصيّ للأب أو القيّم أي الذي أقامه الإمام عليه السلام أو نائبه وليّاً على الصغير، فنكاح وصيّ الأب أو القيّم الذي أقامه الإمام أو نائبه جائز ماداما طفلين ويتوقّف بعد إدراكهما على إمضائه، ولكن نكاح الأب نافذ إلى الأخير، فهذا التفسير ينسجم مع التقابل الوارد بين صدر صحيحة أبي عبيدة وذيلها بين تزويج وليّين لهما وتزويج الأب، وينسجم مع ما في صدر الصحيحة من أنّه إن ماتا قبل أن يدركا فلا ميراث بينهما ولا مهر بحمل ذلك، على أنّ هذا أيضاً فرق في الحكم بين الوليّين الشرعيّين غير الأب وبين الأب، فموتهما يُبطل عقد غير الأب ولا يبقى إرث ولا مهر ولكن لا يبطل عقد الأب، وينسجم أيضاً مع الصحاح الثلاث التي ذكرناها أخيراً _ أعني صحيحة الحلبي وصحيحة عبيد بن زرارة وصحيحة محمد بن مسلم _ فإنّها جميعاً واردة في عقد الأب.
وامتياز هذا التفسير على التفسير الثاني هو أنّ التفسير الثاني كان يضطرّنا إلى حمل قوله في صدر صحيحة أبي عبيدة: «النكاح جائز» على معنى أنّه غير نافذ، في حين أنّه على التفسير الثالث يبقى على ظاهره، وهو صحّة النكاح ماداما غير مدركين.
وعلى التفسير الثالث يبطل أيضاً استدلال السيّد الخوئي رحمه الله بهذه الصحيحة على الكشف كما هو الحال في التفسير الأوّل؛ لأنّ ولاية الولي كانت شرعية فلم يكن النكاح فضوليّاً.
ولو فرض الإجمال والتردّد بين التفسير الثاني والتفسير الثالث أو بين التفسير الثاني والتفسير الأوّل كفى الإجمال في عدم تمامية الاستدلال بالصحيحة على الكشف.
بقي هنا شيء، وهو أنّنا لو حملنا صدر صحيحة أبي عبيدة على نكاح الفضولي بأن فسّرنا كلمة «وليّان لهما» على الأولياء العرفيّين غير الشرعيّين أو قلنا: إنّ إطلاقها يشمل الأولياء العرفيّين غير الشرعيّين فهل يستفاد من ذلك الكشف المنسجم مع كونه كشفاً حكميّاً أو تصبح الرواية دالّة على الكشف الحقيقي؟
للشيخ الأنصاري رحمه الله تقريب لاستفادة الكشف الحقيقي، حيث إنّه بعد أن أشار إلى أنّ صحيحة محمد بن قيس وإن دلّت على الكشف لكنّها تحتمل الكشف الحكمي ولا ظهور لها في الكشف الحقيقي، قال ما مفاده:
نعم، صحيحة أبي عبيدة الواردة في تزويج الصغيرين فضولاً الآمرة بعزل الميراث من الزوج المدرك الذي أجاز فمات للزوجة الغير المدركة حتّى تدرك وتحلف ظاهرةٌ في الكشف الحقيقي؛ إذ لولاه لكان المال قبل إجازة الزوجة منتقلاً إلى الورثة، فكان العزل مخالفاً لقاعدة «تسلّط الناس على أموالهم» فالحکم بالعزل منضمّاً إلی عموم «الناس مسلطون علی أموالهم» يفيد أنّ العزل يكون لاحتمال كون الزوجة غير المدركة وارثة في الواقع، فكأنّه احتياط في الأموال قد غلّبه الشارع على أصالة عدم الإجازة كعزل نصيب الحمل وجعله أكثر ما يحتمل، ونحن نعلم أنّها قبل الإجازة لا تكون وارثة لو لا الكشف الحقيقي(1).
أقول: لو فرضنا أنّ قاعدة سلطنة الناس على أموالهم قاعدة متصيّدة من الفقه فلا إطلاق فيها حتّى نثبت بها الكشف الحقيقي.
ولو فرضنا إثباتها بمرسلة عوالي اللآلي(2) ورد على ذلك عدم حجّيّتها.
(1) راجع کتاب المکاسب،ج3،ص409.
(2) عوالي اللئالي، ج3، ص208، باب التجارة، ح60.
ولو فرضنا إثباتها بمثل: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفس منه»(1) أو «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(2) فيكفي إيراداً على إثبات الكشف الحقيقي بصحيحة أبي عبيدة ما أوضحناه من ظهورها في غير النكاح الفضولي أو إجمالها على أقلّ تقدير.
ثم لو سلّمنا ورود صحيحة أبي عبيدة في الفضولي فعلى الكشف الحكمي يكون إعطاء الإرث لها تخصيصاً لقاعدة السلطنة، وعلى الكشف الحقيقي يكون موردها في الحكم بإعطاء الإرث لها خروجاً عن قاعدة السلطنة تخصّصاً، فإن آمنّا في موارد دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص بأصالة عدم التخصيص كان هذا شاهداً على الكشف الحقيقي، وإن لم نؤمن به لم يكن ذلك شاهداً على الكشف الحقيقي، وإن فصّلنا بين ما لو كان الدوران بين التخصيص والتخصّص بلحاظ المصداق الموضوعي فلا تجري أصالة عدم التخصيص، وما لو كان بلحاظ التخصيص الحكمي فتجري أصالة عدم التخصيص صحّ في المقام أيضاً الاستشهاد بصحيحة أبي عبيدة علی الکشف الحقيقي.
نكتفي في البحث عن الكشف والنقل بهذا المقدار ومن أراد التطويل أكثر من هذا فعليه بمراجعة المطوّلات.
الكلام في الردّ
لو أنّ المالك ردّ بيع الفضولي فهل هذا يرفع موضوع الإجازة؛ لأنّ بيع الفضولي قد بطل وانتهى أو لا؟
مضى منّا فيما سبق في فرع سبق منع المالك للفضولي عن البيع أنّ ردّ المالك لا مبرّر لافتراض إنهائه لعقد الفضولي، فلم يبق موضوع للإجازة، فإنّ هذا إنّما يكون
(1) المصدر السابق، ص473، باب الغصب، ح3.
(2) وسائل الشيعة، ج9، ص540، الباب3 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، ح7.
فيما لو كسر من اشترى من الفضولي قراره للشراء، كما لو اطّلع ذاك المشتري على أنّ البائع كان فضوليّاً فسحب قبوله للبيع قبل أن يتمّ البيع بإجازة المالك، فلم يبق عقدٌ حتّى يمكن تعقيبه بالإجازة؛ لأنّ المشتري قد أنهى قراره من نفسه، أمّا المالك الأصلي فلم يصدر قبل الإجازة منه قرار وإيجاب أو قبول حتّى تفترض استطاعته لسحب العقد وكسر القرار قبل فوات الأوان، والردّ المعقول في باب الفضولي من قِبل المالك بمعنى مجرّد إبراز الكراهة أو بمعنى كسر القرار بالفرض والاعتبار والإنشاء لا بالمعنى الحقيقي للكلمة لا يوجب عقلائيّاً عدم إمكان لحوق الإجازة، فلا يبقى في المقام إلّا دعوى التمسّك بالإجماع على مبطلية الردّ بالمعنى المعقول من المالك في باب الفضولي. ولكن لا إجماع تعبّدي كاشف عن رأي المعصوم في المقام أبداً.
هذا ما مضى منّا فيما سبق.
ونقول هنا: إنّه ينبغي البحث عن مطلبين:
المطلب الأوّل: أنّه في فرض سحب المشتري من الفضولي قراره وعقده ألا يمكن أن يقال بإمكان المالك الأصلي بناء على الكشف إجازة البيع فيتمّ البيع قبل سحب المشتري قراره ويلغو هذا السحب؟
والمطلب الثاني: أنّه في فرض عدم سحب المشتري من الفضولي عقده وقراره لو أصرّ المالك الأصلي على ردّ رافع لموضوع الإجازة فقد قبلنا أنّ هذا ليس بإمكانه الردّ القولي لما شرحناه من النكتة، ولكن أليس بإمكانه الردّ الفعلي بما ينهي موضوع الإجازة اللّاحقة بمثل استيلاد الأمة المانع عن بيعها أو أكل المال واستهلاكه الرافع لموضوع البيع؟
أمّا المطلب الأوّل: فهل نقول: إنّ سحب المشتري للقرار لم يبق شيئاً حتّى تلحقه الإجازة ونبحث في كشفها وعدم كشفها، أو نقول: أنّ الإجازة لم تُبق مجالاً لسحب المشتري قراره، فليس سحب المشتري قراره إلّا من قبيل الفسخ بعد تمامية البيع؟
الظاهر أنّ هذا يعتبر من ثمرات الكشف الحقيقي وعدمه، فلو قلنا بالنقل أو بالكشف
الحكمي فقد سبق سحبُ المشتري لقراره نفوذَ البيع فبطل البيع، ولو قلنا بالكشف الحقيقي فقد سبق نفوذُ البيع سحبَ المشتري لقراره فبطل سحبه. ويكون ما اختاره السيّد الخوئي رحمه الله _ من تقدّم المعتبر وتأخّر الاعتبار _ كشفاً حكميّاً وإن تحاشى هو عن تسميته بذلك لأجل عدم التنزيل وتخيّله لقوام الكشف الحكمي بالتنزيل.
وأمّا المطلب الثاني: فقد يقال: إنّ الأصيل وإن لم يكن بإمكانه ردّ البيع بنحو يسقط عدم إمكانية إمضائه بعد ذلك، لكن بإمكانه أن يُنهي محلّ إمكانية الإمضاء بمثل الاستيلاد المانع عن إمكانية البيع أو أكل المال واستهلاكه الرافع لموضوع البيع.
والواقع إنّ الحال يختلف هنا باختلاف القول بالكشف الحقيقي وعدمه:
فإن قلنا بالنقل أو بالكشف الحكمي _ ولو بالمعنى الذي أسماه السيّد الخوئي رحمه الله بتقدّم المعتبر وتأخّر الاعتبار وتخيّل أنّ هذا ليس كشفاً حكميّاً لعدم التنزيل _ فالاستيلاد أو الأكل والاستهلاك يرفع موضوع الإجازة.
وإن قلنا بالكشف الحقيقي وكان الأصيل يعلم أنّه سيجيز فاستيلاده إيّاها زنی وأكل المال كان أكلاً بالباطل.
وإن قلنا بالكشف الحقيقي وهو لم يكن يعلم أنّه سيجيز فوطؤه إيّاها كان وطءاً بشبهة، ولم يكشف عن بطلان البيع؛ لأنّ البيع وقع قبل الاستيلاد وأكله كان موجباً لضمانه؛ لأنّه انكشف أنّه كان أكلاً لمال الناس.
هذا، والذي ذكرناه بناء على الكشف الحقيقي من النتيجة مبنيّ طبعاً على الالتزام بالكشف الحقيقي في المورد، وإلّا لم تترتّب النتيجة؛ لعدم ثبوت موضوعها وهو الكشف الحقيقي، وعليه فلو كان إيماننا بالكشف الحقيقي بحكم تعبّدي _ من قبيل فرض فهم الكشف الحقيقي من صحيحة محمد بن قيس في موضوع بيع الابن وليدة أبيه بغير إذنه _ ولم يكن لذاك الحكم التعبّدي إطلاق للمقام فلا محالة ننتقل في مثل المقام إلى غير الكشف الحقيقي من كشف حكمي أو نقل.
هذا، ومن الواضح أنّ مثل صحيحة محمد بن قيس لا إطلاق لها لمثل المقام.
وإن شئت تفصيلاً أكثر من ذلك قلنا: إنّ البحث نحلّله إلى عدّة فروع:
الفرع الأوّل: ما مضى من موضوع استيلاد الأمة من قِبل المولى الأصلي بعد أن باعها الفضولي، وهنا يأتي التفصيل الماضي، وهو:
أنّه بناء على الكشف الحكمي أو النقل أو ما أسماه السيّد الخوئي رحمه الله بتقدّم المعتبر وتأخّر الاعتبار يكون الاستيلاد رافعاً لموضوع الإجازة.
وبناءً على الكشف الحقيقي مع فرض استفادته من نصّ تعبّدي _ كصحيحة محمد بن قيس أو صحيحة أبي عبيدة _ فالنصّ التعبّدي لا إطلاق له لمثل المقام فأيضاً يصبح الاستيلاد رافعاً لموضوع الإجازة.
وبناءً على الكشف الحقيقي وإثباته بمقتضى القاعدة يتمّ البيع قبل الاستيلاد فلا أثر للاستيلاد، فإن استولدها باعتبار أنّه لم يكن يعلم بأنّه سوف يجيز كان وطءاً بشبهة ويلحق به الولد.
وأفاد السيّد الخوئي رحمه الله: أنّه إذا استولد الأمة بعد البيع وقبل الإجازة تقع الإجازة لغواً؛ لأنّ من شرائط المعاملة أن لا يكون المبيع أُمّ ولد، وزمان الإجازة هو زمان البيع للمالك وبها تستند إليه المعاملة وتشمله العمومات؛ لأنّها خطاب إلى الملّاك، وقد فرضنا الأمة مستولدة حين البيع، فتقع الإجازة لغواً. إلّا أن يقال: إنّ الممنوع هو إنشاء البيع على أُمّ الولد، لا إسناد البيع المُنشأ سابقاً(1).
أقول: كأنّ استدراكه بقوله: «إلّا أن يقال...» محاولة لفرض تصحيح البيع رغم أنّها أُمّ ولد؛ لأنّ الذي وقع بعد الاستيلاد هو إسناد البيع المنشأ إلى نفسه، لا إنشاء البيع.
وهذا الاستدراك لو أراد أحد الإفتاء به فهو باطل، فإنّ البيع بعد الاستيلاد ولو بالإجازة المصحّحة للبيع السابق داخل في مطلقات المنع.
(1) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص65 _ 66.
وأمّا قوله قبل الاستدراك بلغويّة الإجازة؛ لأنّها أُمّ ولد فهو يتمّ على الكشف الحكمي والكشف الذي أسماه بتقدّم المعتبر وتأخّر الاعتبار والنقل وعلى الكشف الحقيقي الذي تفرض استفادته من نصّ تعبّدي لا إطلاق له، ولا يتمّ على الكشف الحقيقي المفروض على القاعدة؛ لأنّ البيع قد وقع صحيحاً قبل الاستيلاد.
الفرع الثاني: ما مضى من فرض استهلاك المبيع بمثل الأكل، ولا كلام لنا في هذا الفرع زائداً على ما مضى منّا، فلو قلنا بالنقل أو بالكشف الحكمي _ ولو بمعنى تقدّم المعتبر وتأخّر الاعتبار _ أو بالكشف الحقيقي بنصّ تعبّدي لا إطلاق له بطل البيع؛ لانتفاء الموضوع، ولو قلنا بالكشف الحقيقي على طبق القاعدة صحّ البيع وضمن للمشتري المثل أو القيمة؛ لأنّه تمّ البيع قبل استهلاكه، فإن كان استهلاكاً عمديّاً فهو له ضامن بلا إشكال، وإن كان استهلاكاً قهريّاً من دون تسبيبه رجعنا إلى قاعدة «تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه».
الفرع الثالث: ما لو زُوّجت المرأة فضولة ثم إنّ المرأة قبل الإجازة زوّجت نفسها من شخص آخر.
أفاد السيّد الخوئي رحمه الله: أنّ هذا نوع تصرّف ينافي العقد الفضولي لا محالة، فلا يُبقي مجالاً للإجازة المتأخّرة؛ إذ لا يمكن تزويج المرأة من زوجين في زمان واحد، ولا يمكن أن يقال: إنّ الإجازة المتأخّرة تكشف عن أنّ العقد الثاني وقع على زوجة الغير فهو باطل، فإنّه يقال في الجواب: بما أنّ المرأة كانت ذات اختيار قبل الإجازة فقد زوّجت نفسها من الثاني باختيارها فشملتها العمومات وصحّ ذلك العقد، وبعد ذلك لا يبقى مجال للإجازة المتأخّرة؛ فإنّها إنّما تصحّ من جهة أنّها تسند العقد الأوّل إلى من يعتبر استناده إليه، وبذلك كانت تشمله العمومات، ومع العقد الثاني كيف تكون الإجازة موجبة لإسناد العقد الأوّل إلى من يعتبر استناده إليه مع أنّها زوجة الغير، فهذا الاستناد لا يتحقّق مع العقد الثاني، فلا تشمله العمومات، كما أنّ الأدلّة الخاصّة
الواردة في صحّة الفضولي لا إطلاق لها تشمل المقام، ولا فرق فيما ذكرناه بين الكشف الحقيقي والحكمي(1).
أقول: لا بأس بأن يجعل وضوح هذا الحكم الفقهي أعني بطلان إجازتها للعقد الأوّل بعد أن زوّجت نفسها للثاني شاهداً على أنّ الکشف الحقيقي ليس مقتضى القاعدة، ولكن لا معنى لأن يقال: إنّه حتّى بناء على كون مقتضى القاعدة الكشف الحقيقي(2) فتزويجها لنفسها لم يُبق مورداً للكشف، لاختصاصه بمن يمكن استناد العقد الأوّل إليه، ولا يمكن استناد العقد الأوّل بمن زوّجت نفسها في وقت كان لها حقّ تزويج نفسها، فإنّ هذا يرد عليه أنّ استناد العقد الأوّل إليها يكشف عن أنّه لم يكن لها حقّ تزويج نفسها، فكيف يصبح إعمال هذا الحقّ مانعاً عن هذا الاستناد؟!
الفرع الرابع: ما إذا أعتق المالك عبده أو باع ماله ثم علم أنّ الفضولي قد باعه من شخص آخر فأجاز بيع الفضولي بعد العلم بالحال.
قال رحمه الله ما مفاده: أنّ هذا الفرع فرقه عن الفرع السابق أنّ تصرّف المرأة في الفرع السابق كان ينافي عقد الفضولي؛ لأنّه لا يمكن أن تكون للمرأة زوجان، في حين أنّ العتق أو البيع في هذا الفرع ليس منافياً لعقد الفضولي(3)؛ لأنّ بقاء العوضين ليس شرطاً في العقد، فلا يعتبر وجودهما حين استناد العقد إلى المالك، بل ينتقل إلى
(1) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص454 _ 455.
(2) نعم لو فرضنا أنّ الكشف الحقيقي استفدناه لا بمقتضى القاعدة بل بدليل تعبّدي _ كصحيحة محمد بن قيس _ صحّ أن يقال: إنّ ذاك الدليل التعبّدي لا إطلاق له لمثل المقام.
(3) لا يقصد(رحمه الله) بعدم التنافي عدم التنافي بين العتق والبيع من ناحية وبيع الفضولي من ناحية أُخرى بمعنى أنّه لو وقع بيع الفضولي بعد العتق أو البيع من قبل الأصيل أو مقارناً معه أمكن تصحيح بيع الفضولي بالإجازة، فإنّ التنافي بهذا المعنى واضح لا غبار عليه، وإنّما مقصوده عدم التنافي بينهما من ناحية وبين استناد العقد السابق عليهما إلى المالك بالإجازة من ناحية أُخرى؛ لإمكان الرجوع إلى البدل، وذيل عبارة التنقيح واضح في هذا المعنى وإن كان صدرها قد يوهم المعنى الأوّل.
البدل، وهذا بخلاف النكاح فإنّ كون المرأة خليّة معتبر حين استناد العقد إليها؛ إذ لا معنى للانتقال إلى البدل، وهذه الصورة هل يحكم فيها بصحّة الإجازة وبطلان البيع أو العتق أو يحكم ببطلان الإجازة وصحّة البيع والعتق؟
قال رحمه الله: ذكر شيخنا الأُستاذ _ يعني الشيخ النائيني(قدس سره) _ : إنّ الإجازة تلغى؛ لأنّ المالك يجوز له التصرّف في المال قبل الإجازة، وهذا التصرّف يُخرج المالك عن كونه مالكاً حين الإجازة، ومن البديهي أنّ المعتبر في كشف الإجازة عن سبق الملكية إنّما هو إجازة المالك دون الأجنبي. والسرّ فيما أفاده(قدس سره) _ يعني شيخه النائيني _ أنّ الإجازة عنده تتعلّق بالعين لا بالعقد، ومن الواضح أنّ البيع أو العتق أو غيرهما من التصرّفات الناقلة تخرج العين عن ملك المجيز، فلا يبقى مجال للإجازة لانتفاء متعلّقها وموضوعها.
قال رحمه الله:
وفيه: أنّ الإجازة كالفسخ والردّ تتعلّق بالعقد... فالمعتبر أن يكون المجيز مالكاً حين العقد لا حين الإجازة، وإلّا فلا تعقل الإجازة بناء على الكشف الحقيقي؛ لأنّ المفروض أنّ المشتري صار مالكاً للمال من حين المعاملة، فالمال ملك له حين الإجازة وخارج عن ملك المجيز فكيف تصحّ الإجازة منه، أفليس هذا إلّا لأجل أنّ المعتبر في الإجازة كون المجيز مالكاً للمال حين العقد؟!
قال رحمه الله: والتحقيق أنّه بناء على الكشف الحقيقي نلتزم بصحّة البيع والعتق وإلغاء الإجازة، لا لما ذكره شيخنا الأُستاذ(قدس سره)، بل لأنّ الالتزام بالكشف الحقيقي إمّا أنّه التزام بشيء مستحيل _ يعني بدعوى كون الإجازة شرطاً متأخّراً _ أو التزام بما هو على خلاف القاعدة _ يعني بدعوى شرطية التعقّب _ فإذا كان على خلاف القاعدة التزمنا فيه بالقدر المتيقّن، وهو ما إذا كانت الإجازة ممّن هو مالك لو لا الإجازة، في حين أنّ هذا المعتق أو البائع ليس مالكاً للمال لو لا الإجازة؛ لأنّه قد أعتقه أو باعه، وأمّا على الكشف الحكمي أو الكشف بالمعنى المختار من تقدّم المعتبر وتأخّر الاعتبار فنحكم
بصحّة الإجازة؛ لأنّ ذلك على طبق القاعدة لشمول العمومات أو المطلقات للمورد، وإطلاقها يقتضي صحّة الإجازة حتّى فيما إذا لم يكن المجيز مالكاً للعين حين الإجازة، فنحكم بصحّة الإجازة ونفوذها، ولكن بما أنّ التصرّفات الصادرة عن المالك كانت واقعة على ملكه فنحكم بصحّتها وانتقال حقّ المشتري إلى البدل من المثل أو القيمة، كما وقع نظيره فيما إذا فسخ من له الخيار وكان المبيع منتقلاً إلى الغير(1).
أقول: قد عرفت منّا فيما سبق من بياناتنا أنّ الكشف الحقيقي على أساس الشرط المتأخّر أمر ممكن ومعقول، وأنّ الكشف الحقيقي على أساس شرطية تعقّب الإجازة أيضاً أمر ممكن ومعقول، ومسألة (أنّ شرطية التعقّب على خلاف القاعدة فنلتزم فيها بالقدر المتيقّن) نغضّ النظر عنها؛ لأنّها لو كانت على خلاف القاعدة فأصلاً لا نقول بها، وإنّما نقول بها لو استظهرناها من القواعد، فلا يبقى إلّا أن نقول: إنّه بناء على الكشف الحكمي _ ولو بمعنى تقدّم المعتبر وتأخّر الاعتبار _ أو النقل يبطل البيع، لانتفاء موضوعه بخروج العين عن ملك المالك بعتق أو بيع، وبناء على الكشف الحقيقي بدليل تعبّدي _ لا إطلاق له _ أيضاً يبطل البيع؛ لأنّ المفروض أنّ الدليل التعبّدي لا إطلاق له وأنّ الإجازة تكون بحكم بيع متأخّر وقع على ما انعتق أو بيع، وبناء على الكشف الحقيقي على القاعدة يصحّ البيع الفضولي ويبطل العتق أو البيع الثاني.
ومن الطريف أنّ السيّد الخوئي رحمه الله تعرّض _ حسب كتاب التنقيح _ لنفس المسألة مرّة أُخری بعد ذلك بفاصل يسير، وانتهی إلى نتيجة مضادّة للنتيجة التي انتهى إليها في بحثه الأوّل.
فقد عرفت أنّه في بحثه الأوّل انتهى إلى نتيجة صحّة الإجازة ونفوذها، فينفذ بيع الفضولي للعبد وكذلك ينفذ عتق المالك للعبد أو بيعه إيّاه، وينتقل حقّ المشتري من الفضولي إلى البدل من المثل أو القيمة.
(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص455 _ 457.
ولكنّه رحمه الله ذكر في بحثه الثاني: «أنّ الصحيح هو الالتزام بصحّة الأفعال الصادرة من المالك وعدم تأثير الإجازة المتأخّرة حتّى على القول بالكشف فضلاً عن القول بالنقل، والوجه في ذلك أنّ تلك الأفعال قد صدرت من أهلها ووقعت في محلّها، فلا وجه للحكم ببطلانها على جميع المسالك في الإجازة.
أمّا على النقل والكشف الحكمي فلوضوح أنّ المال مِلكُه قبل الإجازة حقيقةً فقد تصرّف في ملك نفسه، فلماذا نحكم ببطلانها؟!
وأمّا على الكشف الحقيقي فلأنّ الإجازة إنّما تكشف عن الملكية حال العقد للمشتري فيما إذا صدرت ممّن له الإجازة وهو المالك حال الإجازة؛ لأنّ إجازة غير المالك لا يعقل أن تكون كاشفة عن الملكية المتقدّمة؛ إذ لا أثر لإجازة الجار أو الصديق ونحوهما، بل لابدّ في الإجازة الكاشفة من أن تصدر عن المالك لو لا الإجازة، وهذا مفقود في مفروض الكلام؛ لأنّ المفروض أنّه باع ملکه أو وهبه أو أعتقه قبل الإجازة، فهو غير مالك للمال لولا الإجازة أيضاً، وقد عرفت أنّ الإجازة إنّما تكشف عن الملكية فيما إذا صدرت عن المالك لولا الإجازة؛ والوجه في ذلك: أنّ الإجازة إنّما اعتبرت من أجل استناد العقد إلى المالك حتّى تشمله العمومات؛ لأنّها خطابات للملّاك... والمالك لم يبع قبل الإجازة حتّى تشمله العمومات، وإنّما يصدق عليه ذلك بالإجازة، فالإجازة من جهة استناد العقد إلى المالك، وهي إنّما تسند العقد إليه فيما إذا لم يسبقه استناد آخر إليه، ومع بيعه أو هبته قبل الإجازة واستناد ذلك إلى المالك سابقاً كيف يستند العقد السابق إليه بالإجازة؟! فهل يعقل بيع مال مرّتين؟! فإذا لم تصحّ الإجازة بعد هذه الأفعال فلماذا لا نحكم بصحّة هذه الأفعال والتصرّفات الواقعة قبلها؟! وتوهّم أنّ الإجازة توجب فساد التصرّفات السابقة باطل؛ لأنّ صحّة الإجازة متوقّفة على فساد تلك التصرّفات، فلو توقّف فسادها على صحّة الإجازة لكان دوراً ظاهراً.
فتحصّل: أنّ الحكم على جميع المسالك هو صحّة التصرّفات السابقة على الإجازة،
فتقع الإجازة لغواً، وهذا لا من جهة أنّ الإجازة تتعلّق بالعين ولابدّ أن تكون العين باقية حال الإجازة، بل من جهة أنّ الإجازة لا يبقى لها مجال بعد صحّة التصرّفات الصادرة من المالك وإن كانت الإجازة كالفسخ والإمضاء متعلّقة بالعقد.
هذا كلّه في التصرّفات الواقعة من المالك على المال الموجبة لتلف العين إمّا حقيقة كالأكل ونحوه وإمّا حكماً كالبيع والهبة والعتق ونحوها، وقد عرفت أنّها لا تبقي مجالاً للإجازة المتأخّرة؛ لصدورها من أهلها ووقوعها في محلّها، فلا محالة تقع الإجازة لغواً...»(1).
أقول: وأنت ترى التعارض بين ما انتهى رحمه الله إليه في البحث الأوّل من صحّة الإجازة وانتقال حقّ المشتري من الفضولي إلى البدل من مثل أو قيمة محتجّاً بأنّ المقياس هو مالكية المجيز للعين حين صدور البيع من الفضولي، وبين ما انتهی إليه في البحث الثاني من لغوية الإجازة محتجّاً بأنّ عقد الفضولي يستند إلى المالك حين الإجازة، فلابدّ أن تكون له حين الإجازة الملكية اللولائية، أي لولا الإجازة.
وتعليقنا على بحثه الثاني ما يلي:
الظاهر: هو التفصيل بين القول بالكشف الحقيقي وفقاً للقاعدة وغيره، فعلى الأوّل يكون المقياس هو ملكية المجيز للعين حين بيع الفضولي ويلغو العتق أو البيع الصادر من المالك بعد ذلك؛ لأنّ الإجازة تكشف عن أنّه لم يصدر من أهله ولم يقع في محلّه.
ودعوى أنّه كان من حقّه أن لا يجيز فكان من حقّه أن يعتق أو يبيع مغالطة من الكلام؛ لأنّ هذا حقّ تقديري، أي أنّه على تقدير أن لا يجيز فمن حقّه العتق أو البيع. لكن المقدّر عليه لم يقع.
وعلى الثاني يكون العتق أو البيع صادراً من أهله وواقعاً في محلّه وتلغو الإجازة.
(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص64 _ 65.
الكلام في المجيز
قال الشيخ الأنصاري رحمه الله: «يشترط في المجيز أن يكون حين الإجازة جائز التصرّف بالبلوغ والعقل والرشد... ولا فرق فيما ذكر بين القول بالكشف والنقل»(1).
وهذا الكلام واضح الصحّة؛ لأنّ الإجازة تصرّف بالنقل والانتقال ولو فرضنا كشفها حقيقة عن حصول الأثر من ذي قبل.
فلا يقال: إنّه بناء على الكشف الحقيقي قد حصل النقل والانتقال سابقاً، وهو كان في ذاك الزمان رشيداً، فإن أصبح سفيهاً أو مجنوناً بعد ذلك لم يضرّ.
فإنّه يقال: إنّ حصول النقل والانتقال سابقاً مستند إلى إجازته في حال جنونه أو سفهه إمّا على أساس الشرط المتأخّر أو على أساس شرطية التعقّب، فإنّه على الثاني أيضاً كان التعقّب الثابت حين بيع الفضولي منتزعاً من إجازته المتأخّرة، وهذا المقدار من الاستناد إلى الإجازة كافٍ عرفاً في عموم أو إطلاق الحجر عليه.
قال الشيخ الأنصاري رحمه الله: «لا يشترط في المجيز كونه جائز التصرّف حال العقد، سواء كان عدم جواز التصرّف لأجل عدم المقتضي أو للمانع، وعدم المقتضي قد يكون لأجل عدم كونه مالكاً ولا مأذوناً حال العقد وقد يكون لأجل كونه محجوراً عليه لسفه أو جنون أو غيرهما، والمانع كما لو باع الرهن بدون إذن المرتهن»(2).
أقول: والتعبير الأفضل أن يقال: إنّ النقص في العاقد تارة يفترض نقصاً في أصل المقتضي بأن لم يكن مالكاً ثم ملك وأجازه، وأُخرى يفترض نقصاً في الشروط بأن لم يكن بالغاً أو رشيداً ثم أجاز بعد البلوغ والرشد، وثالثة يفترض نقصاً بسبب المانع، كما لو كانت العين المبيعة مرهونة فباعها المالك رغم الرهن ثم فكّ الرهن فأجاز، فيقع البحث في فروع ثلاثة:
(1) کتاب المكاسب، ج3، ص431.
(2) المصدر السابق، ص434.
الفرع الأوّل: ما لو لم يكن البائع مالكاً ثم ملك وأجاز، وهذا ما بحثناه قبيل دخولنا في بحث الكشف والنقل، وانتهينا إلى نتيجة الصحّة، ولا جديد لنا مهمّ الآن حتّى نبحثه عدا نقطة واحدة، وهي أنّه بناء على الكشف هل يتمّ الكشف بلحاظ حين إيقاعه للعقد الفضولي أو بلحاظ حين امتلاكه، أي إنّه لو فرض بيعه فضولة للمال قبل أربعة أيّام ثم امتلاكه لذاك المال قبل يومين ثم إجازته لذاك البيع السابق الآن، فبناءً على الكشف هل يتمّ البيع بلحاظ ما قبل أربعة أيّام أو يتمّ بلحاظ ما قبل يومين؟
وإنّما لم نبحث هذه النقطة هناك باعتبار أنّنا لم نكن بادئين بأصل بحث الكشف والنقل. أمّا الآن فيناسب البحث عن هذه النقطة.
والصحيح أنّ الإجازة بناء على الكشف تكشف عن نفوذ المعاملة بلحاظ زمان الملك، لا بلحاظ زمان البيع الفضولي؛ والوجه في ذلك نكتة أبرزها الشيخ الأنصاري رحمه الله في مكاسبه: وهي: إنّ مقدار الكشف إنّما هو بمقدار إمكانية اعتبار المجيز صحّة العقد، أو قل: إنّ مقدار الكشف تابع لصحّة البيع من سائر النواحي غير إجازة هذا المجيز، بحيث لو كان قد أجاز سابقاً كان قد صدرت الإجازة من أهلها ووقعت في محلّها، أو قل: لو كان قد أوقع المجيز نفس العقد لكان قد صدر العقد من أهله ووقع في محلّه، فهذه الإجازة منه تحلّ محلّ صدور العقد منه سابقاً. ومن الواضح أنّ هذا المجيز لو كان قد أجاز قبل امتلاكه للمال أو باعه قبل ذلك لم يكن قد وقعت الإجازة أو البيع في محلّهما، ولم يكونا قد صدرا من أهلهما. والخلاصة: أنّ الكشف إنّما هو في مقابل النقل، لا بمعنى الملكية حال العقد، وهذا إنّما يتحقّق في المورد القابل، وهو يختلف باختلاف المقامات(1).
وقد أورد على ذلك السيّد الخوئي رحمه الله بإيرادين:
(1) راجع کتاب المكاسب، ج3، ص438 _ 439.
الإيراد الأوّل: أنّه ليس المفروض أنّ الفضولي قصد إدخال الثمن في ملك مالك العوض الآخر، فالمبادلة أو المعاوضة ما تحقّقت أصلاً، فإنّ معنى المبادلة أو المعاوضة إدخال كلّ من العوضين في جيب من أُخرج منه العوض الآخر، فلا بيع حقيقي حتّى تصحّح بالإجازة(1).
أقول: قد تقدّم منّا توضيح أنّ حقيقة البيع أو المبادلة غير متقوّمة بذلك، فمن اشترى أباه بهدف انعتاقه لا بهدف تملّكه فقد تمّ بذلك الشراء أو المبادلة حقيقةً(2).
الإيراد الثاني: أنّ الإجازة إذا خُصّت بزمان متأخّر عن زمان العقد لم تطابق الإجازة ما أوقعه الفضولي، فالواقع غير المجاز والمجاز غير الواقع، وإذا عمّت أوّل أزمنة وقوع البيع، فليس بإمكان المجيز ذلك؛ لأنّه لم يكن مالكاً في ذلك الوقت، فيلزم خروج المال من ملكه قبل دخوله فيه(3).
أقول: قد تقدّم منّا توضيح أنّ الإجازة يمكن أن تتعلّق بأصل المبادلة دون المبادلة في حينها، نظير أنّ القبول يتعلّق بأصل البيع المُنشأ بالإيجاب لا بالملكية من حين الإيجاب(4).
الفرع الثاني: ما لو كان البائع فاقداً للشرط حين العقد، كما لو لم يكن بالغاً أو رشيداً حين العقد ثم بلغ أو أصبح رشيداً فأجاز.
وقد أفاد الشيخ الأعظم رحمه الله: أنّ الأقوى صحّة الإجازة(5).
(1) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص19.
(2) تقدّم منّا ذلك قبل شروعنا في بحث الكشف والنقل في المقطع الذي دخلنا بعده مباشرةً في الحديث عن الكشف والنقل.
(3) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص21.
(4) مضى منّا ذلك في تثبيت الإيراد الأوّل من إيرادي الشيخ على المعنى المختار للسيّد الخوئي في الكشف اللذين ذكرهما الشيخ كاعتراض على دعوى الكشف الحقيقي على القاعدة.
(5) کتاب المكاسب، ج3، ص434
وهذا كلام لا غبار عليه؛ إذ لو كان فقده للملكية حال العقد غير مضرّ بإجازته المتأخّرة لكفاية حصول المقتضي متأخّراً فما ظنّك بتأخّر الشرط.
وفقده للملكية أصبح على الكشف الحقيقي مانعاً عن تمامية الكشف الحقيقي حين العقد؛ للزوم خروج المال عن ملكه قبل دخوله فيه، ولكن هذا المانع غير موجود في المقام، فعلى الكشف الحقيقي نكتشف خروج المال من ملكه قبل رشده أو بلوغه إمّا بالشرط المتأخّر أو بعنوان التعقّب.
ولو كان هناك وضوح فقهي في عدم جواز تصرّف المشتري فيما اشتراه من الفضولي قبل بلوغ مالكه أو رشده حتّى ولو علم بأنّه سيجيز بعد بلوغه ورشده كان هذا شاهداً على بطلان الكشف الحقيقي.
نعم، لو فرضنا أنّ فقده للشرط كان قد جعله مسلوب العبارة، كما لو كان مجنوناً إلى حدّ يعتبر مسلوب العبارة، أو كنّا نفتي بأنّ الصبي أو السفيه مسلوب العبارة فلا يمكن تمشية إنشائه حتّى بإجازة الولي مثلاً، فهنا من الواضح بطلان بيعه وعدم إمكان تصحيحه بإجازته بعد بلوغه أو رشده(1).
الفرع الثالث: ما لو كان النقص في بيع البائع عبارة عن وجود مانع عن نفوذ العقد كما لو كانت العين مرهونة ثم فكّها عن الرهن.
وقد أفاد الشيخ الأعظم رحمه الله: أنّ الأقوى صحّة الإجازة، بل عدم الحاجة إلى الإجازة، فبمجرّد فكّ الرهن يتمّ البيع(2).
وهذا كلام متين؛ لأنّ البيع قد وقع من نفس المالك، وكان المانع عن نفوذه أنّ المبيع متعلّق لحقّ الرهن، فإذا فُكّ عن الرهن لم يبق مانع عن نفوذ البيع.
نعم، لو قلنا بالحاجة إلى الإجازة فبناءً على الكشف الحقيقي لا نقول هنا بالكشف
(1) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص8 .
(2) راجع کتاب المكاسب، ج3، ص434.
من حين البيع؛ لأنّ العين كانت متعلّقة لحقّ المرتهن في حين البيع وكان حقّ الرهن مانعاً عن صحّة البيع، وإنّما نقول بالكشف من حين فكّ الرهن(1).
ولو فرضنا أنّ المرتهن هو الذي كان قد باع فضولةً العين المرهونة وحينما اطّلع الراهن على ذلك أجاز البيع فقد أفاد السيّد الخوئي رحمه الله: أنّ بيع المرتهن بنفسه إسقاط لحقّه فللمالك إجازة البيع وأخذ العوض(2).
أقول: هذا الكلام على إطلاقه غير صحيح؛ فإنّ في ذلك صورتين:
الصورة الأُولى: أن يقصد المرتهن ببيعه إسقاط حقّ الرهن فعندئذٍ أجاز المالك البيع.
والصورة الثانية: ما إذا قصد المرتهن البيع لنفسه مثلاً من دون قصد إسقاط حقّ الرهن.
أمّا في الصورة الأُولى: فأصل قدرة المرتهن على هذا الإسقاط من قبل نفسه لا دليل عليه. نعم، لو أجاز المالك البيع فهذا يعني أنّه أبطل الرهن بموافقة المرتهن، ولا شكّ في أنّ الراهن من حقّه إبطال الرهن بموافقة المرتهن، وينفذ البيع من حين الإجازة، ولا يتمّ الكشف هنا عن نفوذ البيع من حينه حتّى لو كنّا قائلين بالكشف؛ لأنّ حقّ الرهن كان باقياً إلى حين الإجازة وحائلاً عن نفوذ البيع قبل سقوط الحق.
وأمّا في الصورة الثانية وهي عدم قصد المرتهن إسقاط حقّ الرهن فعدم سقوط حقّه أوضح، فعندئذٍ لا يمكن تصحيح هذا البيع إلّا بمجموع عملين: أحدهما إجازة المالك. والآخر إمّا موافقة المرتهن على سقوط حقّ الرهن أو فكّ المالك للعين عن حقّ الرهن.
فإن اجتمعت إجازة المالك مع موافقة المرتهن على سقوط حقّ الرهن نفذ البيع من حين الإجازة، ولا مجال للكشف؛ لوجود الحائل عن صحّة البيع قبل ذلك، وهو حقّ الرهن.
(1) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص12.
(2) راجع المصدر السابق، ص9.
وإن فكّ المالك العين عن الرهن بأداء الدين ثم أجاز البيع أمكن الكشف _ على القول به _ إلى زمان فكّ الرهن لا قبله.
الكلام في العقد المُجاز
ذكر الشيخ الأنصاري رحمه الله ما يكون من مفاده ما يلي: يشترط في العقد المجاز كونه جامعاً لجميع الشروط المعتبرة في تأثيره عدا رضا المالك، سواء قلنا بالكشف أو النقل؛ إذ لا أقلّ من كون العقد جزء السبب للنقل والانتقال، فيعتبر اجتماع الشروط عنده... نعم، لو دلّ دليل على اعتبار شرط في ترتّب الأثر الشرعي على العقد لا في أصل الإنشاء أمكن القول بكفاية وجود ذاك الشرط حين الإجازة، ولعلّ من هذا القبيل: القدرة على التسليم وإسلام مشتري المُصحف والعبد المسلم(1).
وأصل صحّة ما أفاده رحمه الله واضح لا غبار عليه، فلو باع الفضولي الكلب المملوك للمجيز مثلاً فلا إشكال في فساد البيع وأنّ إجازة المالك لا تشفع لصحّته.
إلّا أنّ هناك مناقشات كثيرة في كثير من الأمثلة والفروع نضرب صفحاً عن شرحها والكلام فيها مراعاة للاختصار.
فمثلاً هل نفتي بشرط الإسلام في تسليط الشخص على المُصحف أو لا نؤمن بهذا الشرط، أو نقول: إنّ المحرّم تسليط الكافر خارجاً علی المُصحف وإن أمكن تملّكه إيّاه، فلو أسلم بعد ذلك ارتفع المانع أو نقول: إنّ العيب ليس في الإنشاء حتّى لا يمكن تصحيح البيع بالإجازة، وإنّما العيب في ترتّب الأثر وهو التملّك، فإذا أسلم الكافر بعد ذلك أمكنت إجازة البيع.
وكذلك في شراء الكافر للعبد المسلم قد يقال: إنّ مجرّد شرائه إيّاه لا يثبّت سبيلاً للكافر على المسلم قبل إجازة المالك حتّى يدخل في قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ
(1) راجع کتاب المكاسب، ج3، ص467.
لِلْكَافِرِيْنَ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ سَبِيْلَاً﴾(1) فلو أسلم الكافر قبل الإجازة ارتفع المانع(2).
وما إلى ذلك من المناقشات في الفروع، ومن أرادها فليطلبها من المطوّلات.
وإنّما الفرع الوحيد الذي نريد التعرّض له هو فرع ترتّب العقود الفضولية.
قال الشيخ الأنصاري رحمه الله: المُجاز إمّا العقد الواقع على نفس مال الغير، وإمّا العقد الواقع على عوضه، وعلى كلّ منهما إمّا أن يكون المجاز أوّل عقد وقع على المال أو عوضه أو آخره أو عقداً وقع بين سابق ولاحق واقعين على مورده(3) أو بدله أو بالاختلاف.
أقول: إنّ الصور التي أشار إليها الشيخ رحمه الله هنا اثنتا عشرة:
الأربعة الأُولى ما يلي:
1_ إجازة أوّل عقد وقع على ماله.
2_ إجازة آخر عقد وقع على ماله.
3_ إجازة أوّل عقد وقع على عوض المال.
4_ إجازة آخر عقد وقع على عوض المال.
والأربعة الثانية هي صور إجازة عقد المال الأصلي المتوسّط:
1_ بين عقدين وقعا على المال الأصلي.
2_ بين عقدين وقعا على العوض.
3_ بين عقدين وقع الأوّل على المال الأصلي والأخير على العوض.
4_ بين عقدين وقع الأوّل على العوض والأخير على المال الأصلي.
والأربعة الثالثة هي صور إجازة الواقع على العوض المتوسّط:
1_ بين عقدين وقعا على المال الأصلي.
(1) النساء: 141.
(2) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص48 _ 49.
(3) يعني مال المجيز.
2_ بين عقدين وقعا على العوض.
3_ بين عقدين وقع الأوّل على المال الأصلي والأخير على العوض.
4_ بين عقدين وقع الأوّل على العوض والأخير على المال الأصلي.
قال الشيخ الأنصاري رحمه الله: «ويجمع(1) الكلّ فيما إذا باع عبداً لمالك بفرس ثم باعه المشتري بكتاب ثم باعه الثالث بدينار وباع بائع الفرس بدرهم وباع الثالث الدينار بجارية وباع بائع الفرس الدرهم برغيف ثم بيع الدرهم بحمار وبيع الرغيف بعسل»(2).
أقول: أوّل عقد وقع على مال المجيز هو بيع الفضولي لعبد المجيز بفرس، وآخر عقد وقع على ماله بيعه بدينار. وأوّل عقد وقع على عوض ماله بيع الفرس بدرهم وكذلك بيع الدينار بجارية وآخر عقد وقع على عوض المال بيع الدرهم بحمار وكذلك بيع الرغيف بعسل، والعقود الأُخرى ليست أوّلية من هذا القبيل ولا آخرية من هذا القبيل، وإنّما هي وسطية فحسب.
ثم فرض الشيخ رحمه الله إجازة المالك الأصلي للعبد بيعه بكتاب وهو البيع الوسط من البيوع الثلاثة الواقعة على المورد أي على مال المجيز، ومن الواضح _ بناء على أصل الإيمان بنفوذ بيع الفضولي بالإجازة _ أنّه نفذ هذا البيع الوسط وبطل ما قبله أعني بيع العبد بفرس؛ لأنّ بائع العبد بفرس لم يكن مالكاً للعبد، ولم يبق مجال لتنفيذ المالك للعبد لهذا البيع؛ إذ لا يجتمع ذلك مع تنفيذه لبيع العبد بكتاب. وأوقع رحمه الله الكلام في بيع المالك الجديد للعبد بدينار وأفاد أنّه بناء على الكشف لا إشكال في صحّته؛ لأنّ المالك الثاني للعبد قد ملكه حين شرائه إيّاه، فلِمَ لا يصحّ بيعه بدينار؟!
ولكن يقع الكلام في صحّة هذا البيع وعدمه بناء على النقل، والعيب الموجود في هذا البيع بناء على النقل هو أنّ المالك الثاني للعبد قد باع العبد بدينار قبل أن يملكه،
(1) الأولى أن يقال: يجتمع.
(2) کتاب المكاسب، ج3،ص469.
فهو الآن بعد أن ملكه بحاجة إلى أن يجيز ذلك البيع حتّى يصحّ.
فبنى الشيخ رحمه الله المسألة على بحث سابق، وهو أنّنا هل نشترط في المجيز أن يكون مالكاً حين العقد أو لا؟ فإن كنّا قد اشترطنا ذلك بطل بيع العبد بدينار، وإلّا(1) فمن حقّ هذا البائع أن يجيز بيعه حتّى يصحّ البيع(2).
ثم أفاد رحمه الله ما نصّه: «وأمّا العقود الواقعة على عوض مال المجيز فالسابقة علی هذا العقد _ وهو بيع الفرس بالدرهم _ يتوقّف لزومها على إجازة المالك الأصلي للعوض وهو الفرس، واللاحقة له _ أعني بيع الدينار بجارية _ تلزم بلزوم هذا العقد»(3).
ومعنى هذه العبارة: أنّ بيع الفرس بدرهم لا يمكن تصحيحه بإجازة المالك الأصلي للعبد بيع الفضولي الثاني إيّاه بالكتاب؛ لأنّه قد بطل بيع العبد بفرس، فبالتالي خرج بيع الفرس بدرهم من تسلسل تتابع العقود. نعم، يبقى للمالك الأصلي للفرس أن يجيز بيع فرسه بدرهم، وهذا خروج عمّا نحن فيه.
وأمّا بيع الدينار بجارية فقد لزم بلزوم بيع العبد بكتاب؛ لأنّ المفروض أنّ المالك الأصلي للعبد قد نفّذ بيع عبده بالكتاب، فصار مشتري العبد بالكتاب مالكاً له، فصحّ للمولى الثاني بيع العبد بدينار، فملك الدينار، وبالتالي صحّ بيعه للدينار بجارية.
قال الشيخ رحمه الله: «وأمّا إجازة العقد الواقع على العوض _ أعني بيع الدرهم برغيف _ فهي ملزمة للعقود السابقة عليه سواء وقعت على نفس مال المالك _ أعني بيع العبد بفرس _ أو على عوضه وهو بيع الفرس بالدرهم وللعقود اللاحقة له إذا وقعت على المعوّض(4) وهو بيع الدرهم بالحمار، أمّا الواقعة على هذا البدل المجاز _ أعني بيع
(1) وهو المختار.
(2) کتاب المكاسب، ج3،ص469.
(3) المصدر السابق، ص470.
(4) العوض خ ل.
الرغيف بالعسل _ فحكمها حكم العقود الواقعة على المعوّض ابتداءً»(1).
وهذه مسألة ثانية بحثها الشيخ رحمه الله تحت فرع ترتّب العقود أو تتابع العقود، وهي أنّ المالك الأصلي للعبد انتخب للإجازة عقداً واقعاً على العوض وهو بيع الدرهم برغيف، فإنّ الدرهم كان عوضاً عن الفرس الذي كان عوضاً عن العبد، فقال: إنّ هذه الإجازة ملزمة للعقود السابقة عليه أيضاً، والعقود السابقة على بيع الدرهم برغيف عبارة عن بيع الفرس بدرهم وقبله بيع العبد بفرس، فلولا أنّه قد أجاز بيع عبده بفرس ثم أجاز بيع الفرس بدرهم لما وصلت النوبة إلى إجازته لبيع الدرهم برغيف، فهو قد أجاز كلّ هذه البيوع الثلاثة، وهذا يؤدّي أيضاً إلى نفوذ كلّ عقد ترتّب على هذا العقد إن كان واقعاً على الدرهم، وهو بيع الدرهم بحمار؛ لأنّ مشتري الدرهم برغيف قد ملك الدرهم، فِلمَ لا ينفذ بيعه للدرهم بالحمار؟!
وأمّا إن كان واقعاً على البدل المجاز _ وهو بيع الرغيف بالعسل _ فهذا واقع في سلسلة البيوع المتسلسلة على المعوّض الأصلي وهو العبد، وهي: بيع العبد بفرس، ثم بيع الفرس بدرهم ثم بيع الدرهم برغيف ثم بيع الرغيف بالعسل، وقد عرفت أنّ إجازة كلّ ما هو واقع في هذه السلسلة تنفيذٌ لما قبلها في نفس السلسلة حتّى تصل النوبة إلى تنفيذ ما انتخبه للإجازة، وليس تنفيذاً لما بعدها في تلك السلسلة.
ثم قال الشيخ رحمه الله: «وملخّص ما ذكرنا: أنّه لو ترتّبت عقود متعدّدة مترتّبة على مال المجيز فإن وقعت من أشخاص متعدّدة كان إجازة وسط منها فسخاً لما قبله وإجازة لما بعده على الكشف، وإن وقعت من شخص واحد انعكس الأمر»(2).
وهذا الكلام منه رحمه الله منحلّ إلى قسمين:
القسم الأوّل: أنّه لو ترتّبت عقود متعدّدة على مال المجيز من قِبل أشخاص
(1) کتاب المكاسب، ج3، ص470.
(2) المصدر السابق، ص470.
متعدّدين كانت إجازة وسط منها فسخاً لما قبله وإجازة لما بعده على الكشف. وهذا تكرار لما مضى منه من أنّه لو باع الفضولي عبد المالك بفرس ثم باعه المشتري بكتاب ثم الذي اشتراه بكتاب باعه بدينار وبعد أن اطّلع المالك الأصلي للعبد على ذلك أجاز الوسط أي بيعه بكتاب بطل الأوّل؛ إذ لم يبق مجال لإجازته للأوّل وهو بيعه بفرس، وحين بيعه بفرس كان المالك الأصلي هو المالك، فلم يبق له سبيل إلى تنفيذه، ولكن صحّ الثالث وهو بيعه بدينار؛ لأنّ مالك العبد في حين بيعه بدينار كان هو المالك الحقيقي له بناء على الكشف فلِمَ لا يصحّ بيعه إيّاه؟! ولو ترتّب ألف بيع على هذا البيع الصحيح صحّت جميعاً، ولو تقدّم ألف بيع على ذلك بطلت جميعاً.
فهذا تكرار لما سبق ولكن بإضفاء صياغة عامّة عليه.
والقسم الثاني: أنّه لو ترتّبت عقود متعدّدة على مال المجيز من قبل شخص واحد كانت إجازة الوسط منها مبطلة للمتأخّر ومصحّحة للمتقدّم.
وهذا أيضاً تكرار لما سبق منه، وهو أنّه لو باع الفضولي عبدي بفرس ثم باع الفرس بدرهم ثم باع الدرهم برغيف ثم باع الرغيف بعسل فإجازتي لبيع الدرهم برغيف إجازة لكلّ ما قبله؛ إذ لولا إجازتها لما وصلت النوبة إلى إجازتي لبيع الدرهم برغيف، ولكن لا علاقة لذلك ببيع الرغيف بعسل وبكلّ ما يفترض بعده؛ فإنّ إجازتي لبيع متوسّط من هذه البيوع إنّما تتوقّف على إجازتي للبيوع السابقة مهما بلغت حتّى أملك ما تمّ بيعه في هذا البيع المتوسّط، ولا تتوقّف على إجازتي للبيوع اللاحقة فهي باطلة وتبطل كلّ ما يترتّب عليها من البيوع.
فهذا أيضاً تكرار لما سبق، ولكن مع إضفاء صياغة عامّة عليه.
وإذا فسّرنا كلام الشيخ الأنصاري رحمه الله بهذا التفسير لم يرد عليه ما أورده في التنقيح، وهذا نصّه: «إنّ شيخنا الأنصاري(قدس سره) ذكر في المقام: أنّ العقود إذا وقعت من أشخاص متعدّدة كان إجازة الوسط منها فسخاً لما قبله وإجازةً لما بعده، وإن وقعت من شخص
واحد انعكس الأمر. وهذا من غرائب كلام الشيخ(قدس سره)؛ إذ لا يفرّق في صحّة العقود المتأخّرة أو بطلانها كون العقود صادرة من أشخاص متعدّدة أو من شخص واحد، فإذا فرضنا أنّ أحداً باع العبد بفرس وآخر باع الفرس بدرهم وشخصاً ثالثاً باع الدرهم برغيف وشخصاً رابعاً باع الرغيف بالعسل... فالحكم في ذلك... هو صحّة العقود المتقدّمة على بيع الدرهم برغيف فيما إذا تعلّقت الإجازة به (أي بيع الدرهم برغيف) مع أنّ العقود من أشخاص متعدّدة، كما أنّ الحال كذلك فيما إذا وقعت من شخص واحد، فالمناط إنّما هو بالملزومات واللوازم، فإذا أجاز المتوسّط صحّت ملزوماته ولوازمه مطلقاً كانت العقود صادرة من شخص واحد أو من أشخاص متعدّدة»(1).
أقول: الذي يبدو لي من ظاهر عبارة الشيخ الأنصاري رحمه الله أنّ مقصوده بفرض وقوع العقد من أشخاص متعدّدين كون تعدّد البيوع بترتّبها على نفس المبيع الواحد الذي هو للمالك الأصلي، كما لو باع الفضولي عبد المالك بفرس ثم باعه الذي اشتراه بكتاب ثم باعه الذي اشتراه بدينار، فهذه بيوع مترتّبة _ لا عرضية _ على مبيع واحد، وهو العبد الذي كان للمالك الأصلي. أمّا المثال الذي فرضه السيّد الخوئي رحمه الله من أنّ أحداً باع العبد بفرس وشخصاً آخر أجنبيّاً في هذا البيع والشراء باع الفرس بدرهم وأجنبيّاً آخر باع الدرهم برغيف وشخصاً رابعاً باع الرغيف بعسل فالبيوع في هذا المثال كما ترى عرضية ولا ترتّب بينها. نعم، إجازة مالك العبد الأصلي لبيع الدرهم برغيف تدلّ على إجازته للبيوع السابقة مترتّبةً كي تصل النوبة إلى إجازته لبيع الدرهم برغيف، ولكن أين هذا من فرضية الشيخ رحمه الله! وصحيحٌ أنّ الشيخ أراد إعطاء قاعدة عامّة في المقام، ولكن كان مقصوده إعطاء القاعدة العامّة في ذاك السياق، لا في هذا السياق، والله العالم.
(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص58 _ 59.