243

الكتاب، وجعل الكتاب معياراً لتمييز الأخبار الصحيحة عن الأخبار الكاذبة، على عكس ما يقوله الأخباريّون: من فرض أخبار الأئمّة أصلاً والكتاب فرعاً يفسّر بلحاظها. وقد ادّعي تواتر هذه الطائفة.

والإنصاف: أنّ هذه الطائفة من أقوى الأدلّة على حجّيّة ظواهر الكتاب الكريم، ولا يأتي هنا احتمالنا السابق في الطائفة الثانية؛ إذ المفروض في هذه الأخبار جعل القرآن مقياساً لصحّة الخبر وسقمه، فإذا فرض أنّ العبرة بالقرآن المفسّر بالخبر كان ذلك رجوعاً مرّة اُخرى إلى الخبر، فينتهي ذلك إلى جعل نفس الخبر مقياساً لصحّة الخبر وسقمه، وهذا ممّا لا معنى له ولا يحتمل. وهذا بخلاف باب الشروط، فهناك لا يكون تهافت في أن يكون مقياس صحّة الشروط وفسادها مخالفتها للقرآن المفسّر بالخبر وعدمها.

والحاصل: أنّ المتفاهم عرفاً من هذه الطائفة بشكل واضح لاخفاء عليه أنّ القرآن هو الأصل وأنّ الأخبار هي الفرع، وأنّ كلّ ما خالف الكتاب ـ سواء كانت مخالفة نصّيّة أو ظهوريّة ـ يجب طرحه ولا يجوز العمل به، بل هو ممّا لم يقولوه؛ لأنّهم تلامذة القرآن وأبناؤه، فلا يأمرون بشيء يخالف القرآن.

ولا يتوهّم اختصاص مفاد هذه الأخبار بالمخالفة النصّيّة، فإنّه:

أوّلاً: يصدق وجداناً عنوان المخالفة بالنسبة للظاهر كما يصدق بالنسبة للنصّ، فالأمر والنهي متخالفان، وإن أمكن تأويل أحدهما ببيان الرخصة في الفعل، والآخر ببيان الرخصة في الترك.

وثانياً: إنّ الذي يتتبّع هذه الأخبار يرى أنّ المقصود منها النظر إلى ما شاع وذاع وقتئذ من الكذب والافتراء والتزوير على الأئمّة(عليهم السلام) من قِبَل الكذّابين، وهؤلاء الكذّابون كانوا يكذبون عادة بما يخالف ظاهر القرآن لا بما يخالف نصّ القرآن؛ إذ لا يصدّق منه ما يخالف النصّ القطعيّ للقرآن الذي لا شائبة فيه.

244

إذن فهذه الروايات بحدّ ذاتها من أحسن الأدلّة على حجّيّة ظهور الكتاب، وإنّ الكتاب حجّة قبل الخبر لا حجّة بلحاظ الخبر.

نعم، هذه الطائفة تقع طرفاً للمعارضة مع الطائفة التي استدلّ بها الأخباريّون ـ لو تمّت ـ وتقدّم عليها إن صحّ ما ادّعي: من تواترها؛ وذلك لما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في بحث التعادل والتراجيح: من أنّ الخبر غير القطعيّ وإن كان حجّة في نفسه لا يعارض الخبر القطعيّ، كما لا يعارض القرآن(1).

الطائفة الرابعة: الأخبار التي جاء فيها الاستدلال من قِبَل الإمام(عليه السلام)بجملة من الآيات على جملة من الأحكام، فلو لم تكن ظواهر الكتاب الكريم حجّة فكيف يستدلّ بتلك الظواهر في قبال الآخرين؟!

والاستدلال بهذه الطائفة من الأخبار يتوقّف على أن نقول: إنّ مراد الإمام(عليه السلام)من الاستدلال بتلك الآيات على الحكم الشرعيّ هو الاحتجاج مع الطرف المقابل وإقناعه بإرجاعه إلى أصل مشترك بينه وبين الإمام(عليه السلام)، أمّا إذا قيل بأنّ من المحتمل كون ذلك تفسيراً من قِبَل الإمام(عليه السلام) للقرآن فلا يتمّ الاستدلال بهذه الأخبار، وهذا الاحتمال جار في أكثر روايات هذه الطائفة، نستثني منها رواية واحدة، وهي رواية عبد الأعلى مولى آل سام الذي سأل الإمام(عليه السلام) عن رجل انقطع ظفره فوضع عليه مرارة، فماذا يصنع بلحاظ المسح؟ قال(عليه السلام): هذا وأمثاله يعرف من كتاب الله ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج﴾ امسح على المرارة.


(1) وإن لم تتمّ دعوى التواتر كفى في تقديمها على روايات النهي عن التفسير بالرأي ـ لو تمّ دلالتها على مدّعى الأخباريّ ـ الأخصّيّة أو ما في حكمها، بناءً على عدم إمكان تخصيصها بما خالف نصّ الكتاب؛ لأنّ الكذّابين كانوا عادة لا يكذبون بما خالف نصّ الكتاب.

245

وتحقيق الكلام في هذه الرواية: أنّ ما فرض من هذا الحديث أنّه يعرف من كتاب الله إمّا أن يكون المقصود به هو مجرّد الأمر السلبيّ، وهو نفي وجوب المسح على البشرة، وإمّا الأمر الإيجابيّ أيضاً، وهو جعل البدل وهو المسح على المرارة:

فإن كان المقصود هو المسح على البدل ـ كما لعلّه هو ظاهر الرواية، ولهذا احتجّ على السائل بأنّه يعرف هذا من كتاب الله؛ إذ لو كان المراد هو معرفة الحكم السلبي لما تمّ هذا احتجاجاً على السائل، فإنّ السائل بحاجة إلى فهم الوظيفة الإيجابيّة ـ وجب إرجاع علم هذه الرواية إلى أهلها؛ لأنّ مثل هذا لايعرف من كتاب الله، فإنّ قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج﴾ ينفي الحكم الحرجيّ، ولا يشرّع ما هو البدل وما هي الوظيفة الاضطراريّة، فنفس الكتاب الكريم بقدر فهمنا نحن العوام لا يمكن أن نستنبط منه مثل هذا الحكم. نعم، الكتاب الكريم بواقعه الذي يفهمه الإمام(عليه السلام) لعلّه يستنبط منه هذا الحكم، فإن كان المقصود من الحكم الذي يعرف من كتاب الله هو البدل وجب أن يكون المراد من المعرفة معرفة الأئمّة(عليهم السلام).

وإن كان المقصود معرفة الحكم السلبيّ ـ وهو عدم وجوب المسح على البشرة ـ كان الحديث دالّاً على أنّ مثل هذا يعرفه الناس من الكتاب الكريم، فتكون هذه الرواية دالّة على حجّيّة ظواهر القرآن الكريم.

 

إنكار وجود الظهور في القرآن:

بقي الكلام في المسلك الآخر للأخباريّين، وهو دعوى عدم الظهور للكتاب الكريم. وهذه الدعوى لها وجهان: فتارةً يدّعى الإجمال الذاتيّ للقرآن، واُخرى يدّعى الإجمال العرضيّ له بلحاظ العلم الإجماليّ بالتخصيص والتقييد والتأويل ونحو ذلك.

246

أمّا الدعوى الاُولى ـ وهي دعوى الإجمال الذاتيّ ـ: فالإجمال الذاتيّ للقرآن يتصوّر من ناحيتين:

1 ـ دعوى أنّه إجمال وتعمّد مقصود من قِبَله تعالى لمصلحة في المقام رغم إمكان صبّ مطالبه في قوالب واضحة ومفهومة، ولنفرض أنّ تلك المصلحة ما اُشير إليها في بعض كلماتهم: من جعل الناس محتاجين إلى الإمام(عليه السلام)؛ إذ مع الوضوح يستغنون عن مراجعته(عليه السلام) مع أنّ نظام الاُمّة لا ينتظم ولا يتمّ إلّا بربطهم بالإمام(عليه السلام).

2 ـ دعوى أنّ طبع القضيّة كان يقتضي الإجمال، فإنّ القرآن الكريم هو كتاب الله، وكتاب كلّ شخص يناسب مقدار عظمة ذاك الشخص، فإذا فرض أنّ كتاب هندسة اُقليدس كان محلّ الإشكال والغموض والدقّة فما ظنّك بكتاب يؤلّفه مؤلّف هذا العالم على سعته وجبروته؟ فيجب أن يكون في أعلى مراتب الدقّة والشموخ النظريّ والفكريّ، ويجب أن يكون هذا الكتاب المعجز في جميع خصوصيّاته بالغاً حدّ الإعجاز في الدقّة، وعندئذ يصبح غير مفهوم لا محالة.

وكلتا هاتين الدعويين باطلتان:

أمّا دعوى الإجمال المتعمّد: فهو الذي يحكم العقل السليم ببطلانه بلا حاجة إلى استئناف بحث أو تأمّل في برهان؛ إذ لو أنّ شخصاً جاء إلى جماعة وادّعى لهم دعوى، ثُمّ تصدّى لبيان هذه الدعوى وإثباتها، فذكر بياناً لإثبات دعواه، وتعمّد في جعله غامضاً ومبهماً لا يفهمه أحد من اُولئك الذي ادّعى عليهم هذه الدعوى، لعدّ هذا الشخص ناقصاً غير ملتفت إلى مقتضيات الحال، فكيف ينسب مثل هذا إلى الله العليم الحكيم، ويدّعى أنّه تعمّد في إجمال القرآن الكريم الذي أنزله لهداية البشر وإثبات دعوى النبيّ(صلى الله عليه وآله)وإفهام الناس مع الاستدلال عليها بإعجاز القرآن؟!! فإنّ هذا خلف الفرض.

247

أمّا مسألة جعل الكتاب مبهماً وغامضاً كي تقع الحاجة إلى الإمام فلابدّ في المرتبة السابقة على ذلك من إثبات أصل النبوّة والرسالة كي يصبح الناس مستعدّين للرجوع إلى الإمام(عليه السلام) في مقام تفسير القرآن، والقرآن هو المتصدّي لإثبات أصل النبوّة والرسالة في المرتبة السابقة على الإمام، فلابدّ أن يكون واضحاً ومفهوماً في المرتبة السابقة على إثبات الإمام.

وأمّا دعوى الإجمال الذاتيّ الناشئ من طبع القضيّة: فأيضاً سخيفة غاية السخف:

أمّا أوّلاً: فلأنّ الكتاب تلحظ في مقام حصوله على أعلى درجات الكمال نكتة الغرض من ذلك الكتاب ومدى نجاحه في تحقيق الغرض، فإذا كتب شخص كتاباً في الهندسة فغرضه اكتشاف قوانين مطلقة لعالم الكون المادّيّ، فكلّما كان الكاتب أكثر دقّة وعمقاً في اكتشاف تلك القوانين، وأكثر قدرة على البرهنة عليها ودفع الشبهات عنها يكون أحسن وأكمل، وهذا ما يبعده عن فهم الناس الاعتياديّين، ولو فرض أنّه تعالى أنزل كتاباً بهذا الغرض للزم أن تكون دقّته فوق دقّة كتاب هندسة اُقليدس بما لا يتناهى من المراتب. أمّا لو فرض أنّ شخصاً ألّف كتاباً بقصد هداية البشر وتوجيههم إلى طريق الحقّ، وصنع الإنسان الصالح المؤمن السعيد في دنياه وآخرته، فعندئذ يقاس مقدار نجاح هذا الكاتب وكماله بمقدار حصول هذا الغرض وإحاطته بالجهات الدخيلة في ذلك، والقرآن بالغ في ذلك حدّ الإعجاز، ويتحدّى الناس بذلك حتّى يومنا هذا، وهذا يقتضي عكس ما ادّعيتم، فإنّ هذا الغرض لا يحصل ببيان الألغاز العلميّة والرموز الفنّيّة البعيدة عن فهم الناس؛ لأنّ هذه لا تخلق الناس الصالحين، بل لابدّ من ذكر تمام المؤثّرات الدخيلة في تغيير الإنسان روحيّاً وخلقيّاً وفكريّاً وعاطفيّاً وسائر النواحي الإنسانيّة، ولابدّ أن تكون المعاني واضحة ميسّرة، وملتقية مع عواطف الناس ومشاعرهم وأحاسيسهم، وقادرة على النفوذ إلى قلوب الناس كي تغيّر هذه القلوب وتخرجها من الظلمات

248

إلى النور. وهكذا كان الكتاب الكريم، ولذا كان المشركون يهتدون بسماع بضعآيات كانت تنفذ في قلوبهم وتنير بالإيمان عقولهم.

وأمّا ثانياً: فلأنّنا لا نتصوّر إعجازاً يؤدّي إلى هذا الغموض والإجمال في باب الأحكام الشرعيّة التي مرجعها إلى أنّ هذا حلال وهذا حرام؛ لأنّ الوجوب والحلّ والحرمة اُمور مفهومة لدى الناس، والإعجاز المتصوّر في الأحكام إنّما هو إعجاز بلحاظ ملاكات الأحكام الشرعيّة والمصالح والمفاسد التي يستند إليها الحكم الشرعيّ، ومن الواضح أنّ الإعجاز بلحاظ الملاكات لا دخل له بفهم نفس الأحكام الشرعيّة المبيّنة في القرآن الكريم.

وأمّا الدعوى الثانية ـ وهي دعوى الإجمال العرضيّ بلحاظ العلم الإجماليّ بابتلائه بورود التخصيصات والتقييدات والتأويل، ونحو ذلك من الاُمور ـ: فهي أيضاً ليست بشيء، وينقض ذلك بالسنّة الشريفة، فإنّ حالها حال الكتاب من حيث الابتلاء بالتخصيص والتقييد ونحوها. والصحيح أنّ هذا البيان غير تامّ، لا في القرآن ولا في السنّة؛ وذلك لما حقّقناه مفصّلاً في بحث العامّ والخاصّ: من أنّ هذا العلم الإجماليّ بالمخصّصات والمقيّدات، إنّما يقتضي وجوب الفحص عن المقيّد والمخصّص قبل العمل بالظهور، لا سقوط الظهور عن الحجّيّة رأساً، وتفصيل الحال سبق في بحث العامّ والخاصّ.

هذا تمام الكلام في تفصيل الأخباريّين بكلا معنييه بين ظهورات الكتاب وغيره، ومن المؤسف أن يوجد في علمائنا جماعة تنكر حجّيّة ظهور القرآن الكريم الذي هو كتاب الإسلام، وعزّنا وشرفنا، وعليه أساس ديننا، ولعمري أنّ تصوّر المطلب بتمام شؤونه وخصوصيّاته، يكفي في التصديق بوضوح بطلان القول بعدم حجّيّة ظهور الكتاب الكريم، بلا حاجة إلى استئناف بحث وبيان بيّنة وبرهان على المطلب.

وبه نختم الكلام عن المقام الأوّل من مقامي مبحث الظهور، وهو في البحث عن أصل كبرى حجّيّة الظهور.

249

 

وسائل إثبات الظهور

وأمّا المقام الثاني: فنتكلّم فيه ـ بعد الفراغ عن حجّيّة الظهور ـ في أنّ الظهور إذا شكّ في وجوده فما هو طريق تعيينه وإحرازه؟

وقبل أن ندخل في صلب البحث لابدّ من دفع توهّم مشهور في المقام قد يخطر في قبال عنوان هذه المسألة، وهو ما قد يقال: من أنّه لا معنى لطرح هذه المسألة بهذه الصياغة؛ لأنّ الظهور الذي هو موضوع للحجّيّة ليس أمراً غيبيّاً يشكّ فيه، وذلك بناءً على ما استقرّ به الرأي بين المحقّقين المتأخّرين: من أنّ أصالة الحقيقة ليست أصلاً تعبّديّاً، وإنّما هي بملاك الظهور الفعليّ للّفظ، والظهور الفعليّ للّفظ ليس له وعاء ووجود إلّا وعاء ذهن السامع وانسباق ذهنه إلى معنى معيّن من اللفظ، فهو بمنزلة الاُمور المعلومة بالعلم الحضوريّ، فإن كان للّفظ ظهور بالفعل في ذهنه، فلا يتصوّر شكّ من قِبَله في الظهور، وإلّا فلا ظهور جزماً، وإنّما يصحّ فرض الشكّ بناءً على حجّيّة أصالة الحقيقة من باب التعبّد، بأن يكون موضوع أصالة الحقيقة هو الوضع، والوضع يقع محلاًّ للشكّ، كما نشكّ في أنّ الصعيد ـ مثلاً ـ موضوع لأيّ معنىً من المعاني، وعلى هذا النزاع بين المتقدّمين والمتأخّرين بنيت مسألة احتمال قرينيّة المتّصل، فلو كانت العبرة في أصالة الحقيقة بالوضع، فقرينيّة المتّصل لا تنافي ثبوت الوضع، ومع ثبوت الوضع تجري أصالة الحقيقة مادمنا نحتمل إرادة الحقيقة، ولكن بما أنّ العبرة بالظهور الفعليّ لا بالوضع، فالاحتفاف بمحتمل القرينيّة لا يُبقي مجالاً للحجّيّة؛ لأنّه يُفني أصل الظهور، وبما أنّ الصحيح هو المبنى الثاني، فلا مجال لطرح هذه المسألة في المقام بعنوان الشكّ في الظهور، بل لابدّ من طرح عنوان آخر. هذا ما ينتزع من كلمات القوم من التوهّم بالنسبة لطرح هذه المسألة بعنوان الشكّ في الظهور.

250

وهذا يعني أنّه فرض أمر موضوع الحجّيّة مردّداً بين الوضع والظهور الفعليّ، وبما أنّنا لا نقول بأنّ موضوع الحجّيّة هو الوضع، وإلّا لزم جريان أصالة الحقيقة عند الشكّ في قرينيّة المتّصل، بينما لا نلتزم بذلك، إذن فلزم القول بأنّ موضوع الحجّيّة هو الظهور الفعليّ وهو أمر لا معنى للشكّ فيه.

والواقع: أنّ توهّم دوران الأمر بين هذين الشقّين أوجب كثيراً من التفريعات والمغالطات في كلمات الاُصوليّين المتأخّرين التي لم تكن موجودة في كلمات الاُصوليّين المتقدّمين، والصحيح أنّ موضوع الحجّيّة ليس أمره مردّداً بين الوضع والظهور الفعليّ بالمعنى الذي لا يمكن الشكّ فيه، بل هناك أمر ثالث نختار كونه موضوعاً للحجّيّة بإمكاننا أن نعبّر عنه بالظهور اللغويّ(1)، ومعه نستطيع أن نجمع بين إمكانيّة الشكّ في الظهور من ناحية، وبين عدم جريان أصالة الحقيقة عند الشكّ في قرينيّة المتّصل من ناحية اُخرى، ولا نقصد بالظهور اللغويّ ما نسب إلى المتقدّمين جعله موضوعاً للحجّيّة من المعنى المستفاد من حاقّ الوضع، كي يلزم من ذلك جريان أصالة الحقيقة عند الشكّ في قرينيّة المتّصل، بل نقصد به الدلالة التصديقيّة النهائيّة التي تتعيّن للكلام بلحاظ مجموع النظم والقوانين الموجودة لدى العرف لاقتناص المراد، وإن شئت فسمّ ذلك بلغة أهل العرف في مقابل اللغة الأصيلة، وأظنّ أن مقصود المتقدّمين كان هو هذا لا ما نسب إليهم، والظهور بهذا المعنى دائماً هو شيء واحد قد يعرفه شخص ويجهله شخص آخر، ومن المعقول وقوع الشكّ فيه، فإنّ هذا الظهور أمر واقعيّ لا يختلف من شخص لآخر ثابت بثبوت تلك اللغة العرفيّة وقوانينها ونظمها، فقوانين اللغة دائماً تقتضي معنىً معيّناً


(1) وهذا ما سمّـاه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في الحلقة الثالثة من حلقات كتابه (دروس في علم الاُصول) بالظهور الموضوعيّ، وسمّى الظهور الفعليّ هناك بالظهور الذاتيّ.

251

أو أحد معاني متعدّدة عند الإجمال من دون أن يختلف الحال باختلاف الأشخاص، أمّا الظهور الفعليّ بالمعنى الذي لا يمكن الشكّ فيه فيختلف من شخص لآخر في أبناء اللغة الواحدة، فإنّه عبارة عمّا ينسبق إليه ذهن السامع ووعاء ذهنه، ومن المعلوم أنّ ذهن السامع ليس وعاءً فارغاً، بل هو وعاء مليء مشحون بمختلف الخصوصيّات السابقة والعوامل المؤثّرة من المحاورات، والتعايشات، والتفكيرات، ومقدار الاطّلاع على استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى أو ذاك، وما إلى ذلك من اُمور، وهذه كلّها اُمور تختلف من شخص لآخر، فالظهور الفعليّ شأنه شأن الماء الذي يجري في أوعية مختلفة فيكتسب ألوانها، فالظهور الفعليّ لكلّ كلام هو نتيجة اللغة زائداً المؤثّرات الشخصيّة.

والدليل على كون موضوع الحجّيّة هو الظهور اللغويّ بالمعنى الذي شرحناه، هو: أنّ حجّيّة الظهور بالسيرة العقلائيّة إنّما هي باعتبار ما له من الكشف عن المراد، وهذا الكشف يكون باعتبار مقتضى الغلبة بحسب طبع المتكلّم الناشئة عن حساب الاحتمالات، ومن المعلوم أنّ المتكلّم إنّما يحاول بمقتضى طبعه وبحسب الغالب أن يجعل مراده منطبقاً على الظهور اللغويّ لكلامه لا على الظهور الفعليّ الذي يختلف من سامع لآخر، فالظهور الفعليّ يعبّر عن لغة شخصيّة لكلّ شخص، والظهور اللغويّ يعبّر عن لغة مشتركة، ومن الواضح أنّ المتكلّم يحاول الكلام باللغة المشتركة لا بلغة شخص من أشخاص السامعين، إذن فموضوع الحجّيّة هو الظهور اللغويّ لا الظهور الفعليّ، نعم قد يكون الظهور الفعليّ أمارة بوجه من الوجوه على الظهور اللغويّ كما سيأتي بيانه إن شاء الله، وهذا غير فرض كون موضوع الحجّيّة ابتداءً هو الظهور الفعليّ.

والظهور اللغويّ بالمعنى الذي عرفت يكون احتمال قرينيّة المتّصل مضرّاً بالتمسّك به؛ لأنّ الظهور اللغويّ يعني الدلالة التصديقيّة النهائيّة المقتنصة من

252

مجموع قوانين اللغة، واحتمال قرينيّة المتّصل يساوق احتمال عدم كون مقتضى قوانين اللغة إرادة المعنى الفلانيّ، فكما أنّ احتمال قرينيّة المتّصل ينافي الحجّيّة بناءً على مبنى المشهور: من كون موضوع الحجّيّة هو الظهور الفعليّ، كذلك ينافيها بناءً على مبنانا: من كون موضوع الحجّيّة هو الظهور اللغويّ، على فرق بين المبنيين، وهو: أنّه على مبنى المشهور يقطع بعدم الظهور عند احتمال قرينيّة المتّصل؛ إذ ترى وجداناً عدم انسباق المعنى الفلانيّ إلى الذهن؛ لمنع وجود محتمل القرينيّة عن هذا الانسباق، وعلى مبنانا لا يساوق احتمال قرينيّة المتّصل القطع بعدم الظهور، بل يساوق الشكّ في الظهور؛ إذ على تقدير عدم قرينيّته في الواقع يكون الظهور اللغويّ محفوظاً في المقام، وعلى أيّ حال، فالكلام يسقط عن الحجّيّة؛ إذ لا فرق في ذلك بين فرض القطع بعدم الظهور وفرض الشكّ في ذلك.

والفرق بين هذين المبنيين قد يؤدّي بنا إلى بعض ثمرات عمليّة، كما لو قال المولى: (يجب إكرام كلّ عالم ولا يجب إكرام زيد)، وتردّد المقصود بـ (زيد) بين زيد العالم وزيد الجاهل، وقال أيضاً: (يجب إكرام كلّ شاعر ولا يجب إكرام عمرو)، وتردّد المقصود بـ (عمرو) بين عمرو الشاعر وعمرو غير الشاعر، فدار أمر الدليلين في هذين الكلامين بين التخصيص والتخصّص، ولنفرض أنّنا علمنا إجمالاً بأنّ أحدهما تخصيص والآخر تخصّص(1)، وعندئذ إن قلنا بمسلك المشهور: من أنّ موضوع الحجّيّة هو الظهور الفعليّ، فهنا لم تتمّ حجّة على وجوب إكرام زيد العالم ولا عمرو الشاعر؛ لعدم الظهور الفعليّ لكلّ من الكلامين وجداناً؛


(1) وفرضنا أيضاً أنّ التخصيص هنا يوجب المجاز؛ لأنّ قوله: لايجب إكرام فلان، لم يكن بصيغة قيد المدخول، كالوصف أو الاستثناء، كي يقال: إنّ العموم إنّما هو لشمول أفراد المدخول مثلاً.

253

لاحتفافه بما يصلح للقرينيّة، فنرجع في كليهما إلى البراءة عن وجوب الإكرام، وإن قلنا بمسلكنا: من أنّ العبرة بالظهور اللغويّ، فنحن نعلم إجمالاً بثبوت الظهور اللغويّ في أحدهما لغرض عدم إرادة التخصيص من ذيله، فيتشكّل عندنا علم إجماليّ بقيام الحجّة على وجوب إكرام أحدهما، فيجب العمل بمقتضى قوانين العلم الإجماليّ.

وهذا المثال بنفسه دليل على صحّة مسلكنا؛ إذ لا يشكّ أحد في أنّ العقلاء في مثل هذا المورد يطبّقون قوانين العلم الإجماليّ ولا يرجعون إلى أصالة البراءة، وهذا دليل على أنّ موضوع الحجّيّة عندهم إذن هو الظهور اللغويّ لا الظهور الفعليّ.

والآن نبدأ ببحث الطرق التي ذكرت لإثبات الظهور:

 

1 ـ التبادر:

الطريق الأوّل: هو التبادر، فيقال: إنّ تبادر معنى من اللفظ إلى الذهن ـ لو كان من حاقّ اللفظ وغير مستند إلى القرينة ـ علامة الوضع والحقيقة؛ لأنّ التبادر له علّتان لا غير: الوضع والقرينة، فإذا انتفى الثاني انحصر الأمر في الأوّل، وكشف التبادر عن الوضع كشف المعلول عن علّته.

وعلّق على هذا الكلام في كلمات المحقّقين بتعليقات ثلاث:

التعليق الأوّل: أنّنا لا يهمّنا استكشاف الوضع اللغويّ، فإنّ مناط الحجّيّة هو الظهور الفعليّ لا الظهور اللغويّ.

وهذا التعليق فرغنا سابقاً عن تحقيق حاله، وظهر أنّ مناط الحجّيّة هو الظهور اللغويّ بالمعنى الذي عرفت.

التعليق الثاني: ما هو مذكور في الكفاية من لزوم الدور؛ لأنّ التبادر معلول للعلم بالوضع، فكيف يوجب العلم بالوضع؟!

254

وأجابوا عن هذا الإشكال بطريقين كما هو موجود في الكفاية وغيره من الكتب المرسومة:

الأوّل: أنّ العلم التفصيليّ بالوضع يتوقّف على التبادر، والتبادر يتوقّف على العلم الإجماليّ الارتكازيّ. ومقصودهم بالتفصيل والإجمال هنا التفات النفس إلى المعلوم وعدم التفاتها إليه رغم وجوده في حاقّ النفس، وليس المقصود من عدم الالتفات النسيان، فإنّ النسيان يوجب زوال العلم، بل المقصود عدم توجّه النفس إليه بالفعل. مثلاً كلّنا نعلم معنى (التمر) ولكن قبل إلقاء هذه الكلمة لم تكن متوجّهاً توجّهاً خاصّاً إلى علمك بمعنى (التمر)، فقد كان علمك به إجماليّاً ارتكازيّاً والآن أصبح علماً تفصيليّاً.

والثاني: الفرق بين العالم والمستعلم، بأن نفرض أنّ التبادر عند العالم علامة لدى الجاهل، فلو أنّ شخصاً من خارج أبناء اللسان ـ مثلاً ـ دخل مجلسهم ورآهم أنّ كلمة (التمر) توجب تبادر المعنى الفلانيّ إلى أذهانهم، عرف أنّ كلمة (التمر) موضوعة لذاك المعنى.

التعليق الثالث: أنّ التبادر إنّما يكون علامة على الحقيقة فيما إذا اُحرز عدم القرينة، أمّا إذا شكّ في وجود القرينة وعدمها فلا يكون التبادر علامة الوضع؛ إذ لا يدلّ معلول له علّتان على إحدى العلّتين بالخصوص، ولا يمكن نفي القرينة بأصالة عدم القرينة كي يثبت انحصار الأمر بالوضع؛ لأنّ أصالة عدم القرينة ـ على ما قالوا ـ تجري في موارد الشكّ في المراد لا الشكّ في الاستناد.

أقول: إنّ بين التعليق الثاني والثالث شيئاً من التدافع؛ إذ في التعليق الثاني فرض أنّ التبادر مرتّب على العلم بالوضع لا على نفس الوضع، بينما التعليق الثالث إنّما ينسجم مع فرض ترتّب التبادر على نفس الوضع حتّى يعقل الشكّ في أنّ هذا التبادر هل هو مستند إلى الوضع، أو لا يوجد وضع في المقام وأنّ التبادر

255

نشأ من القرينة، أمّا إذا فرض التبادر مترتّباً على العلم بالوضع فلا معنى لهذا الشكّ؛ إذ لا معنى لأن يشكّ أحد في أنّه هل يعلم بالوضع أو لا، فإنّ العلم الإجماليّ الارتكازيّ بعد الالتفات إليه ينقلب إلى التفصيل، وإلّا لم يكن علماً بل كان أمراً منسيّاً خارجاً عن خزانة النفس(1). والصحيح ـ كما ستعرف إن شاء الله ـ هو منحى التعليق الثالث وليس منحى التعليق الثاني.

وعلى أيّ حال، فلنبحث الآن عمّا هو التحقيق في هذين التعليقين:

أمّا التعليق الثاني ـ وهو إشكال الدور ـ: فهو مبنيّ ـ كما عرفت ـ على تسليم أنّ التبادر يترتّب على العلم بالوضع لا على نفس الوضع، وهذا إنّما يتمّ لو قصرنا النظر في تعلّم اللغة على طريقة الدراسة على يد القواميس، أو على الاُستاذ ونحو ذلك، فيقال مثلاً: ما لم يعلّمه الاُستاذ المعنى الحقيقيّ للكلمة لا يتبادر لديه المعنى من اللفظ، ولكن طريق تعلّم اللغة ليس منحصراً بذلك، بل هناك طريق آخر، وهي الطريقة الحياتيّة في تعلّم اللغة، وهي طريقة تعلّم اللغة بالتعايش في وسط أبناء تلك اللغة، وهي الطريقة التي يمرّ بها كلّ إنسان في حالة طفولته، فهو يولد في بيئة معيّنة تسودها لغة من اللغات، وتتكوّن لديه بالتدريج تبادرات معيّنة، فحينما يسمع كلمة (الماء) ـ مثلاً ـ يتبادر في ذهنه المعنى المعترف به في ذلك المحيط، وهذا التبادر لا يخلق في ذهنه نتيجة للعلم بالوضع؛ إذ هو لا يتعقّل حتّى الآن معنى الوضع ومعنى الدلالة والمدلوليّة ونحو ذلك، وليس حال هذا الطفل حال الرجل الكبير الفيلسوف الذي يدخل بلداً ويصبح بصدد التتبّع عن استعمالات كلمة


(1) كأنّ إشكال التدافع ينظر إلى فرض الجواب الأوّل من جوابي إشكال الدور، وهو التمييز بين العلم التفصيليّ والارتكازيّ؛ إذ لو انحصر جوابهم بالجواب الثاني ـ وهو التمييز بين العالم والمستعلم ـ لما كان هناك تدافع بين التعليقين.

256

(الماء) من قبل أبناء اللسان، فإذا رأى تبادر معنىً لهم من هذه الكلمة جعل ذلك دليلاً على الوضع.

فهذا الطفل رغم عدم تصوّره للوضع فضلاً عن علمه به، قد تكوّن لديه التبادر، ولم يكن التبادر لديه معلولاً لعلم ثابت له في الرتبة السابقة عليه بالوضع، وبعد هذا حينما يكبر الطفل ويعرف أنّ هناك لغة ولفظاً ومعنىً ووضعاً يستنتج من نفس التبادر الموجود لديه أنّ كلمة (الماء) موضوعة للمعنى الفلانيّ، فقد مرّ كلّ واحد منّا بدور استنتاج الأوضاع من التبادرات، حتّى اُولئك المشكلون بالدور قد مرّوا بهذه المرحلة واستخدموا هذه العلامة من دون أن يقعوا في الدور. هذا مثال وجدانيّ لتوضيح الفكرة.

وأمّا حقيقة الفكرة في المقام فلا يسعنا تفصيل الكلام فيها هنا، فإنّ هذه الفكرة مستقاة من مباني وتحقيقات في بحث الوضع، وكان ينبغي جعل بحث الوضع مقدّمة لبحث الظواهر، ولكنّنا مادمنا نبحث وفق المنهج الرسميّ المتعارف لبحث الاُصول، فقد حصل الفصل بين بحث الوضع وبحث الظواهر، وعلى أيّ حال فنحن نذكر المدّعى هنا بنحو الإجمال ونستنتج منه النتيجة المقصودة:

إنّ في بحث الوضع مشكلة عويصة جدّاً، وهي: كيف نفسّر علاقة اللفظ بالمعنى؟ وهذه العلاقة أمر حقيقيّ لا مجرّد اعتبار أو خيال؛ بدليل أنّ تصوّر أحدهما يخلق حقيقة تصوّر الآخر في الذهن، فهناك علّيّة ومعلوليّة حقيقيّة بين الأمرين، أعني: تصوّر اللفظ، وتصوّر المعنى، وليست علّيّة ومعلوليّة اعتباريّة فرضيّة، من قبيل أن تعتبر النار علّة للبرودة بينما لا تترتّب البرودة على النار مهما كرّرنا الاعتبار؛ لأنّ العلّيّة هنا لم توجد حقيقة وإنّما وجدت اعتباراً، بخلافها في محلّ الكلام، وإلّا لكان حال تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى حال النار والبرودة.

إذن فكيف نفسّر هذه العلاقة بين اللفظ والمعنى؟ هل هي علاقة ذاتيّة كما يتوهّم

257

البعض، أو تخلق بالجعل وتنشأ بالإنشاء كما عليه جملة من الناس، أو تحصل بالتعهّد كما عليه بعض آخر، أو أنّها شيء آخر غير هذه الاُمور؟

كلّ ما اُفيد في الاُصول الرسميّ من التفصيلات لكيفيّة تكوّن هذه العلاقة قد أوضحنا في بحث الوضع أنّها لا تصلح لتفسير هذه العلاقة، وبيّنّا هناك حقيقة هذه العلاقة وكيفيّة تكوّنها، ولا يسع المجال للتفصيل ولكنّنا نشير إلى أنّه كما توجد في باب التصديق واسطة بين الحدّ الأصغر والحدّ الأكبر ـ وهي ما تسمّى بالحدّ الأوسط ـ تؤدّي إلى الجزم بثبوت أحدهما للآخر، كذلك في باب التصوّر نتصوّر موضوعين بينهما واسطة ورابطة، وهي رابطة القرن الأكيد تجعل الذهن ينتقل من تصوّر أحدهما إلى تصوّر الآخر، أي: أنّ بينهما حدّ أوسط تصوّريّ أدّى إلى هذه النتيجة، مثلاً نفترض أنّ شخصاً سافر إلى البصرة مرّة واحدة في حياته، وسرق في هذه السفرة جميع أمواله ومتاعه ثُمّ رجع إلى محلّه، فهنا يوجد موضوعان: أحدهما: السفر إلى البصرة، والآخر: السرقة، وقد ارتبطا برابط القرن الأكيد بين التصوّرين في الذهن، وبعد هذا مادامت هذه الرابطة قائمة في عالم النفس متى ما سمع هذا الشخص حديثاً عن البصرة تذكّر السرقة، ونفس هذه الرابطة التي هي أمر عامّ في كثير من الموارد نتصوّرها في باب الوضع ونقول: إنّ وظيفة الوضع هي إحداث هذه الرابطة بين اللفظ والمعنى، لا جعل الملازمة؛ لأنّ الملازمة غير قابلة للجعل، وإذا حدثت هذه الرابطة فمادامت قائمة ينتقل الذهن من اللفظ إلى المعنى انتقالاً تصوّريّاً، أمّا كيف تتمّ هذه العمليّة وما هو كنهها؟ فذا موكول إلى بحث الوضع. ثُمّ الواضع إذا وضع اللفظ للمعنى دون أن يخبر أحداً بحسب الخارج، لم ينتقل ذهن السامع من هذا اللفظ إلى المعنى؛ لأنّ الرابطة لم توجد في ذهنه، والانتقال من أحد الحدّين إلى الآخر فرع وجود الرابطة في ذهن المنتقل، إلّا أنّ تكوّن هذه الرابطة في الذهن ليس منشؤه منحصراً في العلم بالوضع، بل هنا منشأ

258

آخر لتكوّن هذه الرابطة في الذهن، وهو الوقوف على استعمالات كثيرة، فالطفل حينما يسمع كثيراً كلمة (الحليب) مقترناً ذلك برؤية الحليب تتكوّن في ذهنه هذه الرابطة بين اللفظ والمعنى، فكثرة استعمال اللفظ أمامه في هذا المعنى مطلقاً وفي جميع الأحوال تقوم مقام العلم بالوضع وتحدث في ذهنه نفس الرابطة قبل أن يعلم شيئاً عن الوضع، وبعد هذا يستدلّ بهذه العلاقة على الحقيقة.

أمّا أنّه كيف يفرّق بين الحقيقة والمجاز مع وجود هذه العلاقة في المجاز أيضاً؟ فطريق الفرق بينهما هو: أنّ هذه الرابطة في باب الحقيقة رابطة مطلقة، وفي باب المجاز رابطة مقيّدة بشروط معيّنة، والرابطة المطلقة نتيجة للاستعمال المطّرد، والاستعمال المطّرد نتيجة للوضع، وحينما لا يكون الاستعمال مطّرداً لا تتولّد رابطة مطلقة، ولا يكون الاستعمال حقيقة بل هو مجاز.

وقد تحصّل: أنّ التبادر لا يتوقّف على العلم بالوضع حتّى يلزم من الاستدلال به على الوضع الدور، وإذا اتّضح أنّ التبادر لا يتوقّف على العلم بالوضع انفتح المجال للدخول في التعليق الثالث، فنقول:

وأمّا التعليق الثالث ـ وهو فرض الشكّ في استناد التبادر إلى القرينة وعدمه ـ: فنحن نفسّره بالطريق الفنّيّ بأن نقول: إنّ هذا الطفل الذي تعلّم اللغة على الطريقة الحياتيّة قد يشكّ في أنّ هذه الرابطة بين اللفظ والمعنى هل هي رابطة مطلقة، أو رابطة مقيّدة بشروط معيّنة ومكتنفات خاصّة للكلام، وعندئذ تكون طريقة معرفة المطلب بتغيير الأحوال حالاً بعد حال، فإذا رأى ـ مثلاً ـ عشرين مورداً مختلف الأحوال كلّها مشتركة في وجود هذا التبادر وهذه الرابطة، عرف بحساب الاحتمالات أنّ هذه رابطة مطلقة، كما هو الحال في اكتشاف العلّيّة في باب التجربة في الاُمور الخارجيّة. وهذه العلاميّة للتبادر علاميّة حقيقيّة تكوينيّة قائمة على أساس قوانين حساب الاحتمالات غير محتاجة إلى جعل جاعل أو تعبّد

259

متعبّد ثابت من قِبَل العقلاء، أو الشارع، أو إمضاء الشارع، أو غير ذلك.

وهناك علاميّة اُخرى للتبادر تعبّديّة، وتوضيح ذلك: أنّ السامع لو سمع من المولى قوله مثلاً: (ائتني بأسد يعيش في الحديقة) وتبادر إلى ذهنه من كلمة (الأسد) الحيوان المفترس، فهذا ظهور فعليّ في طلب الحيوان المفترس، وهو الذي قال عنه الاُصوليّون المتأخّرون: إنّه هو موضوع الحجّيّة، ونحن بيّنّا أنّ موضوع الحجّيّة هو الظهور اللغويّ لا الظهور الفعليّ، ولا يهمّنا الآن أنّ هذا التبادر هل نتج عن الوضع، أو نتج عن القرينة، وأنّ هذا المعنى هل هو معنى حقيقيّ، أو مجازيّ؟ وإنّما يهمّنا أن نرى أنّ هذا الظهور الفعليّ هل هو مطابق للظهور اللغويّ، أي: لما يقتضيه نظام اللغة بالمعنى الواسع الشامل للقرائن والمناسبات العامّة، أو لا؟ فإن كان هذا الظهور الفعليّ ناتجاً عن نظام اللغة، إذن هو يكشف عن مراد المولى، فهو حجّة لنا سواء كان حقيقة أو مجازاً، وإن كان قد تدخّلت في تكوّن هذا الظهور في ذهننا إضافة إلى نظام اللغة خصوصيّات اُخرى نفسيّة لا تمت إلى نظام اللغة بصلة، إذن هذا الظهور لا يكشف عن مراد المولى، مثلاً نفترض أنّنا ذهبنا بالأمس إلى حديقة الحيوانات فتبادر إلى ذهننا من هذا الكلام الحديقة التي رأيناها، فإذا جاء هذا الاحتمال، وهو احتمال تدخّل خصوصيّات اُخرى غير نظام اللغة فيما تكوّن لدينا من ظهور ناتجة عن ثقافتنا الخاصّة أو بيئاتنا الخاصّة أو نحو ذلك، فعندئذ قد يتّفق إمكان طرد هذا الاحتمال بعرض الكلام على ناس آخرين من ثقافات وبيئات مختلفة، فإن فهموا منها معنىً معيّناً واحداً كان احتمال أن لا يكون هو المعنى اللغويّ وأن يكون فهم جميع هؤلاء ناشئاً من خصوصيّاتهم الشخصيّة مستبعداً بحساب الاحتمالات.

وقد لا تتاح للإنسان فرصة علاج من هذا القبيل، ولكن العقلاء بنوا على العلاميّة التعبّديّة للتبادر، فإنّ بناء العقلاء قائم على التعبّد بإحراز الظهور اللغويّ

260

عن طريق الظهور الفعليّ، والشارع أمضى ذلك، فما هو الحجّة أوّلاً في نظر العقلاء لإثبات مراد المتكلّم هو الظهور اللغويّ؛ لأنّه الكاشف عن المراد، ولكن الطريق للوصول إلى الظهور اللغويّ في نظر العقلاء هو الظهور الفعليّ، فمن الطبيعيّ أنّ كلّ واحد منّا يعيش ظروفه الخاصّة وخصوصيّاته المعيّنة، ويحتمل الفرق بين الظهور اللغويّ والظهور الفعليّ، فجعل الظهور الفعليّ أمارة على الظهور اللغويّ. ولعلّ الوجه في جعله أمارة تعبّديّة من قِبَل العقلاء: أنّ احتمال الفرق بين الظهور الفعليّ والظهور اللغويّ في نظرهم موهون جدّاً ولو لأجل عدم تنبّههم إلى تمام الخصوصيّات التي يحتمل أن يكون لها دخل في تكوين الظهور الفعليّ، وعدم التفاتهم إلى أنّ الخصوصيّات الشخصيّة لها تأثير مفصّل في ذلك(1).

 

2 ـ قول اللغويّ:

الطريق الثاني لإثبات الظهور: هو قول اللغويّ. يظهر من الكفاية وغيرها من الكتب الرسميّة أنّ الإفتاء بحجّيّة قول اللغويّ كان مشهوراً حتّى ادّعي عليه الإجماعات في ألسنتهم، وجعل الإجماع ـ مثلاً ـ أحد الأدلّة على حجّيّته، إلّا أنّه لدى المتأخّرين انقلب القول عن الحجّيّة إلى القول بعدمها.

وخلاصة ما يظهر من كلامهم بهذا الصدد: إنّ التمسّك بقول اللغويّ تارةً يكون


(1) ومن هنا قد يمكن إثبات الحقيقة والمعنى الموضوع له بالتبادر إثباتاً تعبّديّاً، وذلك فيما لو افترضنا أنّ التبادر كان ثابتاً، ولم نكن نحتمل استناده إلى القرينة ولكنّنا كنّا نحتمل استناده إلى شؤون شخصيّة لنا لا تمت إلى نظم اللغة بصلة، أو إلى عدم استيعابنا لتمام النكات اللغويّة وأساليب المحاورة، فعندئذ ننفي ذلك بالأماريّة العقلائيّة للظهور الفعليّ، وتثبت بذلك الحقيقة بعد أن كان المفروض القطع بعدم استناد التبادر إلى القرينة.

261

لأجل إثبات موارد استعمال اللفظ، واُخرى يكون لتشخيص المعنى الحقيقيّ للكلام، ولا تتمّ حجّيّة قول اللغويّ في شيء من المقامين:

أمّا في المقام الأوّل ـ وهو إثبات موارد الاستعمال ـ: فالذي يستفاد من مجموع الكتب الرسميّة للمحقّقين الإشكال على ذلك بوجهين:

أحدهما: ما يستظهر من عبارة المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)(1)، وهو: أنّ مجرّد معرفة موارد الاستعمال لا يفيد الفقيه، وإنّما الذي يفيده هو تمييز الظاهر منها من غير الظاهر، أي: تمييز الحقيقة عن المجاز كي تترتّب على ذلك حجّيّة الظهور فيعمل به.

والثاني: ما يستفاد من كلمات المحقّقين المتأخّرين، وهو: أنّنا لو قلنا بحجّيّة قول اللغويّ فإنّما هو على أساس سيرة العقلاء القائمة على الرجوع إلى أهل الخبرة، وهذا هو الدليل المهمّ الذي استند إليه المتقدّمون من علماء الاُصول للقول بحجّيّة قول اللغويّ، بينما هذا لا يتمّ في المقام، فإنّ حجّيّة قول أهل الخبرة عقلائيّاً إنّما تكون في الخبرات الحدسيّة كخبرة الطبيب والمهندس والفقيه، أمّا في الخبرات الحسّيّة ـ من قبيل موت زيد وحياة عمرو ـ فلا يعتمد على الإخبار عن ذلك إلّا بلحاظ الشهادة، فيعتبر فيه ما يعتبر في الشاهد: من العدالة والتعدّد بناءً على عدم قبول خبر الواحد في الشبهات الموضوعيّة، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ إخبار اللغويّ عن موارد الاستعمال إخبار عن حسّ، أو ما يقرب من الحسّ، وليس إخباراً حدسيّاً.

وأمّا في المقام الثاني ـ وهو إثبات المعنى الحقيقيّ الموضوع له الكلام في قبال المعنى المجازيّ ـ: فالمتحصّل من كلماتهم هنا أيضاً وجهان في بيان عدم جواز الرجوع إلى قول اللغويّ:

أحدهما: أنّ أهل اللغة ليسوا من ناحية تعيين المعنى الحقيقيّ وتمييزه عن


(1) في تعليقته على الرسائل.

262

المعنى المجازيّ من أهل الخبرة؛ بدليل أنّهم لم يتصدّوا لتحقيق هذا المطلب فيكتبهم وبياناتهم، ولو كانوا من أهل الخبرة في ذلك لسجّلوا نتائج خبراتهم في بحوثهم.

والثاني: أنّ أهل اللغة لا يمكنهم أن يكونوا من أهل الخبرة في تمييز المعاني الحقيقيّة عن المجازيّة؛ إذ لا توجد لديهم الوسائل التي تمكّنهم من هذه الخبرة؛ إذ ليست لديهم وسيلة عدا الاستماع إلى موارد الاستعمال وتجميعها، ومن المعلوم أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة.

أقول: التحقيق عدم إمكان المساعدة على أكثر هذه الكلمات:

أمّا عدم ترتّب الأثر على نقل اللغويّ لمورد الاستعمال لأنّ الذي يهمّنا هو الظهور ومعرفة الحقيقة، فيرد عليه: إنّنا لو قلنا بحجّيّة قول اللغويّ في ذلك لترتّب عليه الأثر في الاستنباط من النصوص الشرعيّة في فروض عديدة:

أحدها: أن نفرض أنّنا عرفنا أنّ اللفظ الفلانيّ لم يستعمل إلّا في المعنى الواحد الفلانيّ ولكن التردّد كان في حدود ذلك المعنى المستعمل فيه، كما لو عرفنا أنّ لفظ (الصعيد) لم يستعمل إلّا في معنى واحد محدود بحدود خاصّة، وهو المعنى الحقيقيّ الظاهر منه، وشككنا في أنّ هذا المعنى الواحد هل هو عبارة عن التراب، أو مطلق ما على وجه الأرض؟ فنأخذ بقول اللغويّ الناقل للمعنى المستعمل فيه، وهذا ليس من الرجوع إلى قول اللغويّ في تشخيص الحقيقة.

ثانيها: أن نعرف أنّ لهذا اللفظ معنى ولا نعرف أنّ له عدّة معاني شكّ في الحقيقة منها من المجاز، واللغويّ قد نقل لنا: أنّ هذا اللفظ لم يستعمل إلّا في المعنى الفلانيّ، فلابدّ أن يكون هو المراد من النصّ، ومن البعيد جدّاً أن يكون له معنيان وموردان للاستعمال ومع هذا يخفى أحدهما على اللغويّ.

263

ثالثها: ما لو أحرزنا أنّ هذا اللفظ لم يرد به بعض معانيه كما لو قال لنا اللغويّ: إنّ موارد استعمال اللفظ الفلانيّ ثلاثة وشخّصها لنا، ونحن قد حصلنا على قرينة بلحاظ نصّنا الشرعيّ تدلّ على أنّ المعنى الأوّل والثاني غير مقصودين من هذا النصّ، فيتعيّن حمله على المعنى الثالث، وليس هذا من تشخيص الحقيقة عن المجاز، بل من باب تعيين موارد الاستعمال.

وأمّا القول بأنّ إخبار اللغويّ عن موارد الاستعمال إخبار عن حسّ وليس إخباراً عن حدس كي يشمله بناء العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة، فيرد عليه:

أوّلاً: أنّه في كثير من الموارد يكون تعيين موارد الاستعمال قائماً على أساس الحدس، فإنّ تعيين أصل المعنى المستعمل فيه اللفظ قد يكون قريباً من الحسّ، إلّا أنّ تعيين حدود المعنى وقيوده وإطلاقه وضيقه ممّا لابدّ فيه من استعمال الحدس في كثير من الأوقات، فإنّ اللغويين كانوا يتتبّعون كلمات العرب واستعمالاتهم في جزئيّات الموارد، فيجمعونها وينتزعون منها بعد إلغاء الخصوصيّات التي يمتاز بها فرد من أفراد مورد الاستعمال عن آخر جامعاً، كي يعرفوا أنّ هذا هو المعنى المستعمل فيه، وعمليّة انتزاع هذا الجامع عمليّة حدسيّة واجتهاديّة وليست حسّيّة.

وثانياً: أنّ بناء العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة منضمّـاً إلى عدم حجّيّة خبر الواحد في موضوعات من قبيل موت زيد وحياة عمرو ـ لو قلنا به ـ لا يعني اختصاص الحجّيّة العقلائيّة لقول أهل الخبرة بالخبرة الحدسيّة، بأن يكون الحدس أولى بالاعتماد عليه من الحسّ، فلو قال: رأيت بعيني، لم يقبل منه، ولو قال: إنّي اُعمل نظراً واجتهاداً يكون في معرض الخطأ والصواب، وأضفت أشياء من عندي من الحدس والتخمين، قبل منه، فإنّ مثل هذا الأمر غير محتمل بشأن العقلاء، والحدسيّة توجب الضعف لا القوّة، وفرض كون ما يوجب الضعف دخيلاً في الحجّيّة وما يوجب القوّة مانعاً عن الحجّيّة مطلب غير مناسب لارتكاز العقلاء الذين يكون جعل الحجّيّة عندهم بملاك الكشف والطريقيّة.

264

والذي دعا هؤلاء العلماء إلى مثل هذا التفصيل هو استثناء باب الشهادة بناءً على عدم حجّيّة خبر الواحد في القضايا الجزئيّة من قبيل حياة زيد وموت عمرو، فتخيّل أنّ الميزان الفاصل في السيرة العقلائيّة إنّما هو كون الخبرة حسّيّة أو حدسيّة، بينما ليس الأمر كذلك.

وإنّما الميزان الفاصل هو كون جهة الإخبار مربوطة بمطلب حياتي عامّ يحتاج استيعابه وتفهّم خصوصيّاته إلى تفرّغ وتخصّص، فبمقتضى قانون العمل بين الناس خصّص لكلّ مطلب من هذا القبيل جماعة يتّبعون في مقام تحصيل قضاياه على أساس الخبرة الحدسيّة أو الحسّيّة، حيث إنّه لو صار البناء على أنّ كلّ إنسان لا يبني موقفه إلّا على أساس الخبرات التي يحصّلها ويعمل بصحّتها بنفسه، ككيفيّة معالجته لمريضه، أو بنائه لداره، أو ما شابه ذلك لتوقّفت الحياة، ولا يسع عمر الإنسان للتفرّغ لتحصيل كلّ هذه العلوم خصوصاً الإنسان الميدانيّ الذي يشتغل في الميادين الحياتيّة، فلهذه النكتة فرضت في القضايا العامّة التي ترتبط بالحياة ارتباطاً عامّاً فكرة التخصّص والرجوع إلى المتخصّصين. وهذا بخلاف الجهات الجزئيّة كموت زيد وحياته ووجوده في الدار ونحو ذلك من القضايا الجزئيّة والاُمور المحسوسة، فهذه أدوار يمكن طيّها لكلّ إنسان بمجرّد أن يتصدّى للاطّلاع عليها وترتيب الآثار عليها في الخارج، وليست من الاُمور التي تكون بحاجة إلى التفرّغ والتخصّص. فالتفصيل في السيرة العقلائيّة إنّما هو بين القضايا العامّة والجزئيّة لا بين الحدس والحسّ، ففي القضايا العامّة التي هي بحاجة إلى التخصّص يكتفي العقلاء بكلام أهل الخبرة سواء كان على أساس الحدس أو الحسّ، وفي غيرها لا يكتفي العقلاء بكلام من يخبر عن الحدس، وأمّا المخبر عن الحسّ فلو قلنا بعدم كفاية الخبر الواحد في الموضوعات فلابدّ في قبول شهادته من شرائط البيّنة.

ومن المعلوم: أنّ اللغة من القضايا العامّة التي تحتاج إلى التفرّغ والتخصّص للذهاب إلى القبائل العربيّة الأصيلة في لسانها وبياناتها، وتتبّع موارد استعمالاتها

265

والالتفات إلى نكات تعبيراتها ثُمّ تبليغ ذلك إلى الآخرين، فالسيرة العقلائيّة في الرجوع إلى أهل الخبرة وهم اللغويّون في المقام تامّة.

أمّا القول بأنّ أهل اللغة ليسوا من أهل الخبرة بتمييز المعاني الحقيقة عن المجازيّة؛ بدليل عدم تصدّيهم لتحقيق هذا المطلب في كتبهم وبياناتهم، ولو كانوا من أهل الخبرة لسجّلوا نتائج خبرتهم في بحوثهم، فهذا إشكال إثباتيّ في المقام، وتحقيقه يكون بالرجوع إلى حال أهل اللغة، لأجل أن يرى أنّ خبرتهم صرفوها في المقام الأوّل فقط، أو صرفوها في المقام الثاني أيضاً، وليس إشكالاً علميّاً كي نقيّمه علميّاً في المقام.

وأمّا القول بأنّ أهل اللغة لا يمكن أن يكونوا من أهل الخبرة بالحقيقة والمجاز؛ لأنّ مستندهم الاستعمال، والاستعمال أعمّ من الحقيقة. فهذا إشكال فنّيّ، وجوابه: أنّه ليس الأمر كذلك، فإنّ تتبّع موارد الاستعمال في جملة من الموارد قد يستخدم مع إعمال النظر والحدس في تعيين المعنى الحقيقيّ في قبال المعنى المجازيّ.

فمثلاً لو فرض أنّ اللغويّين تتبّعوا موارد استعمال كلمة (أسد) في الرجل الشجاع وفي الحيوان المفترس، ورأوا أنّ استعمالها في الحيوان المفترس أقدم تأريخيّاً من استعمالها في الرجل الشجاع، ورأوا بالتتبّع والفحص أنّه في كلّ مورد استعملت كلمة (الأسد) في الرجل الشجاع عطفت عليها كلمة اُخرى تدلّ على إرادة هذا المعنى، ورأوا أنّ كلمة (أسد) حينما تستعمل بمعنى الرجل الشجاع يقصد بها المبالغة في الشجاعة، فهذه القرائن قد تؤدّي إلى القطع بأنّ كلمة (أسد) موضوعة للحيوان المفترس، وأنّ الرجل الشجاع معنىً تبعيّ ومجازيّ لها(1).


(1) وكذلك بإمكانه كشف الحقيقة عن طريق التبادر لدى أبناء اللغة، أو التبادر عنده بعد تدرّبه على موارد الاستعمالات بشكل يثق عادة بأنّه لا تخفى عليه نكات الاستعمال.

266

نعم، هل أنّ أهل اللغة يستعملون هذه الضمائم والحسابات، أو لا؟ هذا يحتاج إلى تتبّع شأنهم كما قلناه.

والمتحصّل من الكلام: أنّ قول اللغويّ حجّة فيما يكون خبيراً فيه(1).

 


(1) وممّا قد يستدلّ به على حجّيّة قول اللغويّ هو الإجماع أوّلاً، وانسداد باب العلم باللغة ثانياً. وقد نقل عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في الدورة التي لم أحضرها في هذا القسم من البحث الجواب على كلا الوجهين بمايلي:

أمّا الإجماع فإن قصد به الإجماع العمليّ، أي: إطباقهم على الأخذ بقول اللغويّ، فهذا كما يلائم التعبّد كذلك يلائم حصول الاطمئنان، وإن قصد به الإجماع الفتوائيّ فالمحصّل منه غير ثابت، والمنقول منه غير حجّة، وعلى تقدير الثبوت يحتمل أن يكون مدركيّاً.

وأمّا الانسداد بدعوى: انسداد باب العلم باللغة إلّا بالرجوع إلى أهل اللغة، وهو لا يورث إلّا الظنّ، فالظن حجّة، فالجواب:

أوّلاً: أنّ دليل الانسداد يتوقّف على حصول العلم الإجماليّ، وعدم إمكان الامتثال القطعيّ لاستلزام الحرج، فتصل النوبة إلى الامتثال الظنّيّ، وفي المقام وإن كنّا نعلم إجمالاً بصدق بعض إخبارات أهل اللغة حينما يخبر عن ظهور الكلمات لكن من الواضح أنّ هذا لا يعني ثبوت علم إجماليّ لنا بالتكليف الإلزاميّ؛ إذ قد تكون تلك الظواهر التي صدق اللغويّ في الإخبار عنها مقتضية للحكم الترخيصيّ دون الإلزاميّ.

وثانياً: لا يلزم من الاحتياط والأخذ بشهادات اللغويّين العسر والحرج، فلا تصل النوبة إلى الامتثال الظنّيّ.

وثالثاً: لو سلّمنا بثبوت العلم الإجماليّ وعدم إمكان الموافقة القطعيّة، لا تصل النوبة إلى العمل بالظنّ إذا كان هناك عموم أو إطلاق فوقانيّ مفروغ عن ظهوره؛ إذ إنّ وجود دليل فوقانيّ من هذا القبيل يستوجب عدم انسداد باب العلميّ وإن كان باب العلم مسدوداً، وهذا يعني أنّ دليل الانسداد في باب شهادات اللغويّين لو تمّ في نفسه لايفيدنا في مقام تخصيص

267


عموم مفروغ عن ظهوره في العموم، أو تقييد إطلاق مفروغ عن ظهوره في الإطلاق.

اللّهمّ إلّا أن يدّعى وجود علم إجماليّ بوجود مخصّصات ومقيّدات لبعض ما ثبت ظهورها في العموم أو الإطلاق، وانسداد باب العمل بالعلم في ذلك أيضاً. لكن هذه الدعوى لا مبرّر لها.

وأيضاً نقل المقرّر عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ما يلي:

وقد أشكل في الكفاية وغيرها على دليل الانسداد في المقام بإشكالين:

الأوّل: ما في الكفاية من أنّ الانسداد الكبير بلحاظ مجموع الأحكام إذا تمّت أركانه أنتج حجّيّة الظنّ بالحكم الشرعيّ سواء أكان ناشئاً عن قول اللغويّ أو لا، وإن لم تتمّ أركانه وكان باب العلم أو العلميّ مفتوحاً في كثير من الموارد فالانسداد بلحاظ اللغة لا ينتج شيئاً. ولم يوضّح في الكفاية أنّه لو لم يتمّ الانسداد الكبير فهذا الانسداد الصغير لماذا لا ينتج شيئاً، فلابدّ من أن يرجع ذلك إلى أحد إشكالاتنا الثلاثة.

الثاني: أنّه لو تمّ دليل الانسداد في باب اللغة أنتج حجّيّة الظنّ باللغة سواء استند إلى قول اللغويّ أو إلى غير ذلك من الأمارات، بينما المدّعى حجّيّة خصوص قول اللغويّ، ولهذا يعمل بالظنّ الحاصل من شهادة اللغويّ، ولا يعمل بالظنّ الناشئ من أمارات اُخرى، وهذا يكون نقضاً عليهم.

ولكن بإمكان المستدلّ أن يتخلّص من هذا النقض بدعوى أنّ العلم الإجماليّ في المقام الذي هو المدار في دليل الانسداد ليس هو العلم الإجماليّ باللغة(1)، بل هو العلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لا إشكال في وجود العلم الإجماليّ باللغة، فلعلّ المقصود دعوى انحلال العلم الكبير بالعلم الصغير في دائرة شهادات أهل اللغة.