المولفات

المؤلفات > مباحث الاُصول، القسم الثاني - الجزء الثاني

255

نشأ من القرينة، أمّا إذا فرض التبادر مترتّباً على العلم بالوضع فلا معنى لهذا الشكّ؛ إذ لا معنى لأن يشكّ أحد في أنّه هل يعلم بالوضع أو لا، فإنّ العلم الإجماليّ الارتكازيّ بعد الالتفات إليه ينقلب إلى التفصيل، وإلّا لم يكن علماً بل كان أمراً منسيّاً خارجاً عن خزانة النفس(1). والصحيح ـ كما ستعرف إن شاء الله ـ هو منحى التعليق الثالث وليس منحى التعليق الثاني.

وعلى أيّ حال، فلنبحث الآن عمّا هو التحقيق في هذين التعليقين:

أمّا التعليق الثاني ـ وهو إشكال الدور ـ: فهو مبنيّ ـ كما عرفت ـ على تسليم أنّ التبادر يترتّب على العلم بالوضع لا على نفس الوضع، وهذا إنّما يتمّ لو قصرنا النظر في تعلّم اللغة على طريقة الدراسة على يد القواميس، أو على الاُستاذ ونحو ذلك، فيقال مثلاً: ما لم يعلّمه الاُستاذ المعنى الحقيقيّ للكلمة لا يتبادر لديه المعنى من اللفظ، ولكن طريق تعلّم اللغة ليس منحصراً بذلك، بل هناك طريق آخر، وهي الطريقة الحياتيّة في تعلّم اللغة، وهي طريقة تعلّم اللغة بالتعايش في وسط أبناء تلك اللغة، وهي الطريقة التي يمرّ بها كلّ إنسان في حالة طفولته، فهو يولد في بيئة معيّنة تسودها لغة من اللغات، وتتكوّن لديه بالتدريج تبادرات معيّنة، فحينما يسمع كلمة (الماء) ـ مثلاً ـ يتبادر في ذهنه المعنى المعترف به في ذلك المحيط، وهذا التبادر لا يخلق في ذهنه نتيجة للعلم بالوضع؛ إذ هو لا يتعقّل حتّى الآن معنى الوضع ومعنى الدلالة والمدلوليّة ونحو ذلك، وليس حال هذا الطفل حال الرجل الكبير الفيلسوف الذي يدخل بلداً ويصبح بصدد التتبّع عن استعمالات كلمة


(1) كأنّ إشكال التدافع ينظر إلى فرض الجواب الأوّل من جوابي إشكال الدور، وهو التمييز بين العلم التفصيليّ والارتكازيّ؛ إذ لو انحصر جوابهم بالجواب الثاني ـ وهو التمييز بين العالم والمستعلم ـ لما كان هناك تدافع بين التعليقين.