19

 

الإشكال من ناحية العقل النظريّ:

أمّا القسم الأوّل: فقد عرفت أنّ له تقريبين: أحدهما: لزوم اجتماع الضدّين أو المثلين. والثاني: لزوم نقض الغرض. وقد ذكر في مقام الجواب عن هذا القسم وجوه. ولا أقصد بذلك أنّهم أرادوا الجواب عن كلا الإشكالين؛ إذ لم يذكر كلا الإشكالين بهذا الشكل في كلام كلّ من تعرّض للإشكال والجواب، وإنّما المقصود: أنّهم دفعوا إشكال استحالة الجمع بين الحكمين من وجهة العقل النظريّ ولو في الجملة بأحد وجوه:

الوجه الأوّل: منع كون الحكم الظاهريّ حكماً تكليفيّاً كي ينافي الحكم الواقعيّ، وإنّما هو عبارة عن جعل الطريقيّة، أو جعل المنجّزيّة، أو جعل الحجّيّة، أو غير ذلك، على اختلاف تعبيراتهم وتقريباتهم لذلك. فذكر المحقّق النائينيّ(رحمه الله)جعل الطريقيّة(1)، وذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)جعل المنجّزيّة(2)، ونحن جعلنا الجميع جواباً واحداً باعتبار ما عرفته: من الجامع بينها.

والواقع: إنّ هذا الوجه لا يدفع شيئاً من الإشكالين:

أمّا إشكال نقض الغرض، فلأ نّ الحكم الظاهريّ بأيّ لسان كان إن لم تترتّب عليه صيرورة المكلّف في سعة من ناحية مخالفة الحكم الواقعيّ كان هذا خُلفاً، وكان الحكم الظاهريّ لغواً، ولم يكن منتجاً للأثر المقصود والنتيجة المطلوبة من الأحكام الظاهريّة. وإن ترتّبت عليه هذه السعة لزم نقض الغرض؛ لأنّ المكلّف يترك الواقع المطلوب اعتماداً على هذه السعة الثابتة له من قبل المولى.


(1) في الأمارات أو فيها وفي الاُصول المحرزة أيضاً بمعنى من المعاني.

(2) واستثنى في كفايته من هذا الجواب مثل أصالة الإباحة.

20

وأمّا إشكال اجتماع الضدّين، فلأنّ الإشكال لم يكن متمركزاً في نفس صياغة الحكمين التكليفين وكيفيّة الجعل والاعتبار، كي يقال: إنّ الحكم الظاهريّ ليس حكماً تكليفيّاً وإنّما هو حكم وضعيّ وجعل للطريقيّة أو لغيرها من الاُمور الاعتباريّة. وإنّما التضادّ متمركز في مبادئ هذه الاعتبارات: من المصالح والمفاسد وما في نفس المولى: من الحبّ والبغض، ولا تؤثّر في حساب ذلك صيغة الجعل والاعتبار. فما أفادوه في المقام: من بيان أقسام جعل الحكم الظاهريّ: من جعل الطريقيّة والمنجّزيّة والحجّيّة وغير ذلك، غير مرتبط بالمقام أصلاً، وإن أثّر ذلك في تصعيد مستوى علم الاُصول على أساس ما ترتّبت عليه من ثمار في مقامين:

أحدهما: في تقديم أحد الأدلّة على غيره في مقام التعارض وعدمه؛ إذ التعارض مربوط بباب اللفظ والتعبير وتؤثّر فيه الصياغات. ويأتي الكلام في ذلك إن شاء الله.

والثاني: فيما مضى من بحث قيام الأمارات مقام العلم وقد مضى تفصيله.

الوجه الثاني: إنّ مبادئ الحكمين ليست مرتكزة على مورد واحد حتّى تقع المنافاة. فمبادئ الحكم الواقعيّ ثابتة في المتعلّق، ومبادئ الحكم الظاهريّ ثابتة في نفس الحكم.

ويرد عليه: إنّ مبادئ الحكم الظاهريّ لو كانت ثابتة في نفس الحكم ـ بأن لم يكن وراء إيجاد الحكم غرض للمولى يحصل بالإتيان بمتعلّقه ـ لم يحكم العقل بلزوم اتّباع هذا الحكم أصلاً، وبتعبير آخر: قد مضى منّا أنّ المحرّكيّة العرضيّة للحكم بواسطة حكم العقل متمّمة للمحرّكيّة الذاتيّة، ومع فرض عدم تعلّق غرض للمولى وراء إصدار الحكم بالإتيان بمتعلّقه ليست للحكم محرّكيّة ذاتيّة للعبد بملاك حبّ العبد لإنجاز أغراض المولى؛ إذ المولى وصل إلى أغراضه بإيجاد الحكم ولا يريد شيئاً آخر.

21

وإن شئت فقل: إنّ غاية ما يتصوّر في العبد من دافع الامتثال وحالة الطواعية والخضوع للأوامر أن يكون العبد بمنزلة جوارح المولى، وكما أنّ جوارح المولى لا تتحرّك نحو المتعلّق إذا لم يكن غرض فيه كذلك حال العبد المطيع.

ولو أمكن الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ بهذا الوجه لأمكن الجمع بين حكمين واقعيّين به أيضاً حينما لا يتنجّز كلاهما كي ينتهي الأمر إلى التضادّ من حيث التنجّز، فلو ورد (أكرم العلماء) وورد (لاتكرم الفسّاق) ففي مادّة الاجتماع إن لم يتنجّز كلاهما بحصول القطع بعلم زيد وبفسقه مثلاً، أمكن الجمع بينهما بافتراض أنّ الملاك في أحدهما في المتعلّق وفي الآخر في نفس الحكم.

هذا. ونحن لا ننكر أنّه كثيراً مّا يكون ملاك الحكم في نفس الحكم دون متعلّقه، لكن لا بمعنى أن لا يكون هناك غرض للمولى وراء الحكم، بل بمعنى أنّ الإتيان بالمتعلّق بعنوانه الأوّليّ ليس مطلوباً، وإنّما المطلوب هو امتثال حكم المولى، فيحكم المولى بالمتعلّق كي يمتثله العبد، فتتحقّق هذه المصلحة خارجاً. ولعلّ هذه المصلحة هي الملحوظة في جلّ العبادات أو كلّها.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في المقام بغضّ النظر عن الجواب الأوّل، ونحن نذكر هنا ما يستنبط عادة من عبارته مع تحقيق الحال في ذلك، تاركين الكلام عن محتملات مقصوده وتحقيق بعض عبائره وخصوصيّات كلامه.

فنقول: إنّ ما يفسّر به عادة كلامه هو أنّ للحكم مرتبة الإنشاء، وهي عبارة عن الحكم الذي يكون مشتركاً بين العالم والجاهل، ومرتبة الفعليّة، وهي التي تكمن فيها مبادئ الحكم، فالمنافاة إنّما تقع بين الحكمين لو فرضا معاً فعليّين، بينما الحكم الفعليّ بشأن المكلّف في موارد وجود الحكم الظاهريّ إنّما هو الحكم الظاهريّ، وأمّا الحكم الواقعيّ فهو إنشائيّ، فلا منافاة بينهما.

وليس الحكم الواقعيّ إنشائيّاً صرفاً كي يقال: إنّ لازم ذلك إذن هو عدم تنجّز

22

الحكم الواقعيّ حتّى بالعلم؛ إذ لا قيمة للعلم بصرف الإنشاء والاعتبار، بينما لا إشكال في تنجّزه بالعلم، وإنّما المقصود بإنشائيّة الحكم الواقعيّ هو عدم فعليّته من ناحية الشكّ فقط، أي: أنّ كلّ الاُمور الدخيلة في فعليّة الحكم ثابتة عدا العلم بهذا الإنشاء، فالعلم به هو أحد الاُمور الدخيلة في فعليّة الحكم، وهو منتف بحسب الفرض. فالحكم الواقعيّ فعليّ من غير ناحية الشكّ، ويكون العلم به موضوعاً للفعليّة الكاملة، فإذا علم به وجب عليه امتثاله، وإذا لم يعلم به جاء الحكم الظاهريّ وكان هو الفعليّ بشأنه، ولا ينافيه الحكم الواقعيّ؛ لأنّه ليس فعليّاً من جميع الجهات.

وأورد المحقّق النائينيّ(رحمه الله) على هذا الوجه بأنّ التفكيك بين مرتبة الإنشاء والفعليّة في المقام غير معقول، فمرتبة الإنشاء عبارة عن مرتبة الجعل والاعتبار الثابتة بمجرّد إصدار الحكم، كقوله تعالى: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾، ومرتبة الفعليّة إنّما تتحقّق بتحقّق الموضوع وهو الاستطاعة في مثال الحجّ مثلاً، وهذه هي فعليّة المجعول والمعتبر. والخلاصة: إنّ الحكم بنحو القضيّة الحقيقيّة ما لم يوجد موضوعه خارجاً يكون في مرحلة الإنشاء والجعل، فإذا انطبق خارجاً على موضوعه صار فعليّاً، وإذا وقع الشكّ في حكم من الأحكام، فإن فرض العلم وعدم الشكّ جزءاً لموضوع هذا الحكم، إذن فهذا الإنسان الشاكّ خارج عن موضوع هذا الحكم، ولا يوجد بشأنه حكم فعليّ ولا إنشائيّ. وإن فرض عدم كون ذلك جزءاً للموضوع إذن الحكم بشأنه فعليّ، فالتفكيك بين المرتبتين بلحاظ ما نحن بصدده أمر غير معقول.

وهذا الإيراد من المحقّق النائينيّ(رحمه الله) على المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) خلط بين مصطلحات المحقّق الخراسانيّ ومصطلحات المحقّق النائيني، وتحميل لمصطلحات المحقّق النائينيّ(رحمه الله)على عبارة المحقّق الخراسانيّ.

فليس مقصود المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من مرتبتي الإنشاء والفعليّة هما مرتبتا

23

الجعل والمجعول بالمعنى المعروف عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) كي يرد عليه هذا الإشكال، بل مقصوده هو التفكيك بين مدلولين تصديقيّين للكلام.

توضيحه: إنّ لصيغة (افعل) مثلاً دلالة تصوّريّة، وهي دلالته على النسبة الطلبيّة ـ مثلاً ـ بحسب عالم التصوّر، ودلالة تصديقيّة نهائيّة، وهي دلالته على وجود مبادئ الحكم في النفس، ودلالة تصديقيّة اُخرى متوسّطة بين الدلالتين، وهي على مذاق المشهور ـ ومنهم المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) ـ إيجاديّة، وبهذا يميّزون الإنشائيّات عن الإخبار، فصيغة (افعل) مثلاً توجد الطلب في الخارج، وعلى مذاق آخر ليست إيجاديّة وإنّما هي دلالة على اعتبار نفسانيّ أوجده المولى في نفسه، وهو اعتبار الفعل في ذمّة المكلّف مثلاً، ومن وراء هذا ما مضى: من المدلول التصديقيّ النهائيّ وهو المبادئ. وهاتان الدلالتان التصديقيّتان قد تكونان تامّتين، وقد توجد قرينة على انتفاء الدلالة التصديقيّة النهائيّة. والحكم المشتمل على كلا المدلولين يصطلح عليه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) بالحكم الفعليّ. والحكم المنسلخ عن المدلول النهائيّ يصطلح عليه بالحكم الإنشائيّ. ومقتضى إطلاق دليل الحكم وإن كان هو ثبوت كلا المدلولين في ظرف الشكّ، لكنّ جعل الحكم الظاهريّ في ظرف الشكّ بعد فرض استحالة الجمع بينه وبين حكم فعليّ آخر قرينة على عدم إرادة المدلول التصديقيّ النهائيّ(1)، لكن لا مطلقاً كي يكون الحكم الواقعيّ إنشائيّاً


(1) يشبه حلّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) للإشكال ـ أو يرجع إليه ـ الحلّ الذي كان يتبنّاه اُستاذنا المرحوم آية الله الشاهروديّ(رحمه الله): من التفصيل بين الجانب الوضعيّ للتكليف، وهو انشغال الذمّة، والجانب التكليفيّ له، وهو المطالبة بالأداء، فالأوّل هو المشترك بين العالم والجاهل، والثاني هو المختصّ بالعالم. وكان يعبّر(رحمه الله)أحياناً بأنّ الجمع بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ ـ يعني التكليفيّين ـ مستحيل.

24

صرفاً ولا يتنجّز بحصول العلم، بل بمقدار وجود الحكم الظاهريّ؛ إذ في الزائد على ذلك لا قرينة على عدم إرادة المدلول التصديقيّ النهائيّ، والضرورة تتقدّر بقدرها. كما أنّه إنّما يرفع اليد عن المدلول التصديقيّ النهائيّ ـ وهو ثبوت مبادئ الحكم في نفس المولى ـ بمقدار الإلزام دون أصل الرجحان؛ لعدم منافاته مع الحكم الظاهريّ، فأصل الرجحان ثابت، ومن هنا يتمّ حسن الاحتياط في ظرف الشكّ. هذا. والحكم الإنشائيّ هو المشترك بين العالم والجاهل والذي به ترتفع مشكلة التصويب.

وأورد المحقّق العراقي(قدس سره) على المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): أنّ لازم ما ذكره عدم تكفّل الخطابات الواقعيّة إلّا لذاك الحكم الإنشائيّ دون المدلول التصديقيّ النهائيّ مطلقاً، أي: حتّى في ظرف العلم؛ وذلك لأنّ الحكم الفعليّ وهو المدلول التصديقيّ النهائيّ مشروط بالعلم ـ على الفرض ـ والعلم الدخيل فيه هو العلم بالخطاب لا العلم بنفسه؛ إذ العلم بشيء يستحيل أن يكون موضوعاً لنفس ذلك الشيء، فيكون المدلول التصديقيّ في طول العلم بالخطاب الذي هو في طول الخطاب، فيستحيل دلالة الخطاب عليه؛ إذ لا تعقل دلالته على ما في طوله.

والجواب: إنّ الخطاب بعد فرض التقييد بالحكم الظاهريّ يدلّ على فعليّة الحكم على تقدير العلم بالخطاب، أي: يدلّ على قضيّة شرطيّة، وهي: أنّه لو علم المكلّف بالخطاب لأصبح الحكم بشأنه فعليّاً، فإذا تحقّق الشرط تحقّق الجزاء،وهذا غير افتراض دلالة الخطاب ابتداءً على فعليّة الجزاء كي يرد عليه: أنّ الجزاء في طول العلم بالخطاب فكيف يدلّ عليه الخطاب؟!

فهذا خلط بين دلالة الخطاب على الفعليّة التنجيزيّة ودلالته على الفعليّة على تقدير، فإذا علمنا نحن بتحقّق التقدير علمنا بتحقّق الفعليّة.

وقد اتّضح أنّ الإشكالين اللذين اُوردا على المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) غير واردين عليه.

25

نعم، الكلام في أنّ ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) هل هو دفع للإشكال، أو التزام به؟(1).

ويختلف ذلك باختلاف الاعتقاد بمقدار بطلان التصويب واشتراك الحكم بين العالم والجاهل الذي هو أساس الإشكال في الحكم الظاهريّ: فإن قلنا بأنّ المقدار المسلّم اشتراكه بين العالم والجاهل إنّما هو هذا الحكم الإنشائيّ الذي هو اعتبار نفسانيّ أو إيجاد للطلب مثلاً، فلا يبقى إشكال في الحكم الظاهريّ(2). وإن قلنا بأنّ المشترك بينهما هو لُبّ الحكم وهو المدلول التصديقيّ النهائيّ، فكلام المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) التزام بالإشكال وإنكار لوجود هذا القدر المشترك، وليس دفعاً للإشكال.

هذا بغضّ النظر عن أنّ هذا الاعتبار النفسانيّ أو الأمر الذي يوجد بالإنشاء غير ثابت في باب الأحكام على الإطلاق؛ إذ لو بيّن الحكم بغير الإنشاء لم يتحقّق ذلك. أمّا بناءً على كون ذلك عبارة عن أمر يوجد بالإنشاء كما هو مبنى المحقّق


(1) وعلى تقدير أن يكون دفعاً للإشكال وصحيحاً، فهو وإن كان في نفسه جواباً صحيحاً ويكفي لإبطال شبهة الاستحالة، ولكن بما أنّه يشتمل على رفع اليد عن ظهور الخطاب في الفعليّة لا ينبغي أن يصار إليه ما أمكن حلّ الإشكال مع التحفّظ على الظهور، كما سترى إن شاء الله.

(2) لو كان دليلنا على بطلان التصويب هو الاستحالة العقليّة كان حلّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) كافياً لعلاج مشكلة التصويب، كيف لا ويكفي للعلاج ما هو أقلّ من فرض الاشتراك في ذاك الاعتبار النفسانيّ أو الأمر الإيجاديّ؛ إذ يكفي في رفع استحالة توقّف الشيء على العلم به أخذ العلم بالجعل في متعلّق المجعول بالمصطلح الميرزائيّ، على تحقيق مضى في بحث القطع. ولو كان دليلنا على بطلانه الإجماع فالإجماع إن كان فهو على لبّ الحكم وواقعه، لا على الاشتراك في صيغة جوفاء.

26

الخراسانيّ(رحمه الله)، فواضح؛ لفرض عدم الإنشاء. وأمّا بناءً على كونه اعتباراً نفسانيّاً، فلأنّ ثبوته لغو صرف؛ لأ نّا لا نحتمل وجود ملاك في نفسه، وفي باب الإنشاء كان يوجد هذا الاعتبار تحفّظاً على الجهة اللغويّة؛ إذ المفروض أنّ الإنشاء موضوع لإبراز ذلك، أمّا مع انتفاء الإنشاء فلا وجه لإيجاد هذا الاعتبار أصلاً(1).

الوجه الرابع: ما نسب إلى المحقّق العراقي(رحمه الله)، وهو التبعيض في مبادئ الحكم. توضيحه: إنّه كما أنّ الشيء المركّب من أجزاء قد تتبعّض فيه مبادئ الحكم: من الملاك والإرادة، فيكون الملاك والإرادة متعلّقين به من جهة الجزء الأوّل مثلاً، أو قل: إنّ الملاك والإرادة متعلّقان بالجزء الأوّل لا بكلّ المركّب، كذلك يمكن افتراض جهات عديدة للوجود بعدد مقدّماته وتبعّض المبادئ بلحاظها، فقد تتعلّق إرادة المولى بذاك الوجود بقدر المقدّمة الفلانيّة دون سائر المقدّمات، فمن مقدّمات حصول واجب مّا من العبد إبراز المولى طلبه لذلك بالخطاب الواقعيّ، ومنها إيصال الحكم إلى العبد بجعل الاحتياط أو غيره، فلذاك الواجب جهتان من الوجود باعتبار هاتين المقدّمتين، فمن الممكن أن تتعلّق إرادة المولى بخصوص الجهة الاولى من جهتي وجوده، وهذا إنّما يستدعي إبراز المولى طلبه بالخطاب الواقعيّ وقد فعل، أمّا إيصال ذلك إلى العبد فالمفروض عدم تعلّق إرادة المولى بجهة وجود الواجب من ناحيته، فلا محذور في عدم تصدّي المولى لإيجاد هذه


(1) لا نكتة لوضع الإنشاء لإبراز ذاك الاعتبار دون إبراز مبادئ الحكم رأساً إلّا افتراض أنّ هذا طبع عقلائيّ واُسلوب يعتمدونه لتنظيم أحكامهم وصياغتها في صيغة عقلائيّة. ولو صحّ هذا الكلام فالإخبار عن الحكم سيكون إخباراً عن هذا الاعتبار. نعم، لو كان دليلنا على افتراض إنشاء شيء وراء الحبّ والبغض كون الإنشاء إيجاداً ولا يمكن إيجاد الحبّ والبغض بالإنشاء، فهذا الدليل لايرد في الإخبار. فهذا الإشكال وارد على المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) مبنائيّاً.

27

المقدّمة بل تصدّيه لخلافها وجعل أصالة البراءة مثلاً.

أقول: إنّ تعدّد الجهات يتصوّر في طرف الوجود بلحاظ الأجزاء؛ لانبساط وجوده على الأجزاء، ولكن لا يتصوّر بلحاظ المقدّمات إلّا في طرف العدم دون طرف الوجود؛ لأنّ الشيء لاتتعدّد جهة وجوده بتعدّد مقدّماته وأجزاء علّته، وإنّما التعدّد ثابت في ناحية العدم، فإنّه يشترط في وجود الشيء وجود مجموع أجزاء علّته، ولكن يكفي في عدمه عدم واحد منها، فعدم أيّ جزء من أجزاء العلّة باب من أبواب عدم المعلول.

فلكي يرجع هذا الوجه إلى وجه معقول نسبيّاً ينبغي أن يكون المراد منه: افتراض أنّ إرادة المولى تعلّقت بسدّ باب عدم الشيء من ناحية خاصّة دون سدّ باقي أبواب عدمه، فأحد أبواب عدم الواجب كان هو عدم إبراز المولى لإرادته بالخطاب الواقعيّ، وقد سدّه، أمّا الباب الآخر وهو عدم إيصال الحكم إلى العبد بجعل الاحتياط مثلاً، فلم يسدّه؛ لعدم تعلّق إرادته بسدّ كلّ الأبواب، بل تعلّقت إرادته بما ينافي سدّ هذا الباب ويبقيه مفتوحاً على مصراعيه بجعل أصالة البراءة مثلاً.

فلو اُرجع هذا الوجه إلى البيان الذي بيّنّاه، فجوابه الفنّيّ أن يقال: إنّه إذا فرض تعلّق إرادة المولى بسدّ باب عدم صلاة الجمعة ـ مثلاً ـ من ناحية عدم إبرازه لإرادتها، فقد فرضت في المرتبة السابقة على إرادة سدّ باب العدم إرادة اُخرى متعلّقة بوجود الصلاة، فيقع الكلام في هذه الإرادة المتعلّقة بوجود الصلاة، فإن اُرجعت هذه الإرادة أيضاً إلى إرادة سدّ باب عدم صلاة الجمعة من ناحية عدم إبراز إرادة الصلاة، فقد فرضنا مرّة اُخرى في المرتبة السابقة إرادة متعلّقة بوجود الصلاة، وهكذا إلى أن يتسلسل أو نستقرّ على إرادة متعلّقة بوجود الصلاة، وإذا استقررنا على إرادة متعلّقة بوجود الصلاة وقعت المنافاة بين الحكم الواقعيّ

28

والظاهريّ بلحاظ هذه الإرادة(1).

نعم، لو فرض سلخ ذاك الإبراز رأساً عن مبادئ الحكم: من الملاك والإرادة، رجع هذا إلى الوجه الثالث، وضمّ بقيّة الخصوصيّات إليه من قبيل ضمّ الحجر إلى جنب الإنسان.

الوجه الخامس: ما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في مقالاته، وهو مبتن على القول بالطريقيّة، لا بمعنى جعل الطريقيّة الذي يقول به المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في قبال جعل المنجّزيّة مثلاً، بل بمعنى كون مبادئ الأحكام الظاهريّة هي نفس مبادئ الأحكام الواقعيّة، وأنّها شرّعت للحفاظ على الأحكام الواقعيّة، في قبال السببيّة بمعنى كون قيام الأمارة ـ مثلاً ـ محدثاً لملاك آخر في مقابل ملاك الواقع. وفرض طريقيّة الحكم الظاهريّ بهذا المعنى يساوق فرض عدم الإشكال من ناحية تضادّ الحكمين؛ إذ التضادّ بينهما كان من ناحية المبدأين، والمفروض عدم وجود مبدأ مستقلّ للحكم الظاهريّ في قبال مبادئ الواقع.

نعم، يبقى إشكال نقض الغرض، حيث يؤدّي الحكم الظاهريّ أحياناً إلى ترك الواجب مثلاً، بينما المفروض تعلّق الغرض اللزوميّ للمولى به في الواقع، وهذا نقض للغرض. وقد تصدّى المحقّق العراقيّ(رحمه الله)لدفع هذا الإشكال بجواب يقوم على أساس مقدّمة، وتلك المقدّمة هي: أنّ مقدّمات الواجب على قسمين:

القسم الأوّل: ما يكون مقدّمة لنفس الفعل بما هو بغضّ النظر عن إرادة المولى،


(1) بل حتّى لو تكلّمنا في مقدّمات اُخرى غير إبراز إرادة العمل قلنا: إنّ سدّ أيّ باب من أبواب العدم المنفتح من جهة مقدّمة أو جزء علّة ليس إلّا مقدّمة من مقدّمات وجود المعلول لا عينه أو جزءه كما هو واضح، ومعه يستحيل أن تكون إرادته عين إرادة المعلول أو جزءها، فإنّ معروضي الإرادتين إذا تباينا فلابدّ من تباين العارضين وهما الإرادتان، فإرادة سدّ باب من أبواب العدم بإيجاد المقدّمة أو جزء العلّة إنّما هي معلولة لإرادة المعلول ومترشّحة منها لا عينها، فالتنافي بلحاظ إرادة المعلول قائم على حاله.

29

كطيّ المسافة الذي هو مقدّمة للحجّ مثلاً، بلاربط لذلك بتعلّق إرادة المولى بالحجّ وعدمه.

والقسم الثاني: ما يكون مقدّمة للفعل في طول تعلّق إرادة المولى بالفعل، وهذه المقدّمة تارةً تكون راجعة إلى المولى، كإبراز المولى إرادته بالخطاب، فهو مقدّمة لصدور الفعل من العبد؛ إذ به يتنجّز الحكم على العبد، ويتحرّك بذلك نحو الفعل. وليس هذا الإبراز مقدّمة للفعل بما هو فعل، بل هو مقدّمة له في طول تعلّق إرادة المولى به؛ إذ إنّما يكون ذاك الإبراز مقدّمة بما هو كاشف عن الإرادة المولويّة، والكاشف يكون في طول المنكشف. واُخرى تكون راجعة إلى العبد، كإرادة العبد للفعل، فإنّها من المقدّمات التي تكون في طول إرادة المولى؛ إذ هي التي توجب انقداح الداعي والإرادة في نفس العبد. هذه هي المقدّمة.

وبعد ذلك نقول: إنّ إرادة الفعل إنّما تكون محرّكة نحو مقدّمات الفعل التي ليست في طول الإرادة، ولا تحرّك نحو المقدّمات التي هي في طولها؛ لاستحالة محرّكيّة الشيء نحو ما يكون في طوله. وعلى هذا الأساس يقول المحقّق العراقي(رحمه الله): إنّه تستثنى في وجوب المقدّمة من تمام المقدّمات إرادة الفعل، فهي لا تتّصف بالوجوب المقدّميّ؛ لكونها في طول إرادة المولى. هذا بلحاظ المقدّمات الراجعة إلى العبد.

وكذلك الكلام بلحاظ ما يرجع إلى المولى، فإبراز المولى إرادته بالخطاب لا يعقل تحرّك المولى نحوه بنفس إرادة الفعل؛ لكونه في طولها، وإنّما يكون تحرّكه نحوه بإرادة اُخرى في عرض تلك الإرادة، وهذه الإرادة الثانية تختلف باختلاف شدّة ملاك الفعل وضعفه، فقد يكون ملاك الفعل قويّاً إلى حدّ تتعلّق إرادة المولى بسدّ كلّ أبواب العدم الراجعة إلى نفسه، فيبرز إرادته للفعل ويوصلها إلى العبد بأيّ نحو أمكن من الخطاب الواقعيّ، وجعل وجوب الاحتياط، وعنوان صدّق العادل،

30

ولا تنقض اليقين بالشكّ، وغير ذلك، وقد لا يكون الفعل بهذه الدرجة من الأهمّيّة، فلا تتعلّق إرادة المولى بإبراز إرادته للفعل إلّا بمقدار الإبراز الذي يتحقّق بنفس الخطاب الواقعيّ مثلاً، وأمّا إبرازها بمثل جعل وجوب الاحتياط كي لا يتّفق في الخارج ترك المأمور به من ناحية عدم الوصول إلى العبد، فلم تتعلّق إرادة المولى به. بل قد تتعلّق إرادته بخلافه، ولا تنافي بين هذه الإرادة وإرادة الفعل، ولا بينها وبين إرادة الإبراز: أمّا الأوّل: فلأنّ المفروض أنّ إرادة الفعل لا تحرّك نحو الإبراز كي تنافيها إرادة خلافه. وأمّا الثاني: فلأنّ المفروض ضيق دائرة إرادة المولى للإبراز، وعدم شمولها لمثل جعل الاحتياط، فلا تنافي إرادة خلاف ذلك.

هذا ما يستفاد من مقالات المحقّق العراقي(رحمه الله).

ويرد عليه:

أوّلاً: منع كون مقدّمة الفعل من طرف المولى ـ أعني: إبراز المولى لإرادته ـ في طول الإرادة (والمقصود كون مقدّميّته في طول الإرادة)، فإنّ مقدّميّته له تكون باعتبار كاشفيّته، ودخل الكاشفيّة في ذلك يكون باعتبار كون الانكشاف موضوعاً لحكم العقل بالتنجّز، وقد مرّ في بحث التجرّي أنّ ما هو الموضوع لحكم العقل بالتنجّز هو جامع الانكشاف لا خصوص الانكشاف المطابق للواقع، وجامع الانكشاف ليس في طول الواقع، فمقدّميّة هذا الإبراز ليست في طول الواقع، وهو الإرادة الموجودة في نفس المولى، وهو ما يسمّى بالمنكشف بالعرض، وإنّما هو في طول المنكشف بالذات، وهو عنوان إرادة المولى الموجود في نفس المنكشف له.

وثانياً: أ نّا لو سلّمنا ـ مثلاً ـ أنّ الإبراز مقدّمة للفعل بماله من الانكشاف المطابق للواقع، قلنا: وقع هنا خلط بين كون ذات المقدّمة في طول الإرادة، وكون مقدّميّتها في طولها.

بيان ذلك: أنّ ما هو في طول إرادة المولى إنّما هو وجود ذات إبراز الإرادة،

31

وأمّا مقدّميّة هذا الإبراز للفعل ـ بمعنى توقّف الفعل عليه في لوح الواقع بحيث لا يوجد في الخارج الفعل لو لم يوجد الإبراز المطابق للواقع مثلاً ـ فهي ثابتة سواء تحقّقت الإرادة من المولى أو لا، فما هو في طول إرادة المولى إنّما هو وجود الانكشاف لا مقدّميّة الانكشاف، فحال هذه المقدّمة هي حال سائر مقدّمات الفعل التي تحرّك إرادة الفعل نحوها؛ وذلك لأنّ نكتة المحرّكيّة نحو المقدّمة هي مقدّميّتها لاوجودها. كيف لا؟! ووجود الشيء إنّما يكون موجباً لانتهاء أمد التحرّك نحو إيجاده وانتفائه لا موجباً لوجوده(1).

 


(1) وثالثاً: هب أنّ مقدّميّة شيء كانت في طول إرادة المولى، فلماذا يكون هذا سبباً لعدم تحريك تلك الإرادة نحو تلك المقدّمة؟ علماً بأنّ تحريك تلك الإرادة تكون بمعنى خلقها لإرادة ثانية تتعلّق بالمقدّمة، لا بمعنى تعلّقها هي بالمقدّمة كي يستحيل تعلّقها بما في طولها، فمثلاً لو كانت إرادة المولى لكون العبد على السطح سبباً لمقدّميّة وضع الدرج للكون على السطح، فلولا إرادة المولى لذلك لكان العبد قادراً على الكون على السطح بلاحاجة إلى الدرج، ولكن إرادة المولى لكون العبد على السطح خلقت هذه المقدّميّة، أفلا يشتاق المولى عندئذ إلى وضع الدرج، رغم علمه بأنّ مطلوبه قد توقّف لأيّ سبب من الأسباب على وضعه؟

إلّا أنّ الذي أفهمه من كلام المحقّق العراقي(رحمه الله) في مقالاته هو غير ما فهمه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)من كلامه، فليس المفهوم من كلامه(رحمه الله)افتراض أنّ المقدّمة التي تكون مقدّميّتها في طول إرادة المولى لا تترشّح إليها الإرادة، كما أنّه لم يذكر هنا شيئاً عن عدم الوجوب المقدّميّ لإرادة المكلّف للفعل الواجب (على أنّ مقدّميّتها ليست في طول إرادة المولى، وإنّما هي ذاتها في طول إرادة المولى).

وإنّما الذي أفهمه من كلامه(رحمه الله) هو: أنّ الخطاب إنّما يدلّ على فعليّة الحكم وإرادة المولى له ولمقدّماته بقدر المقدّمات التي ليس وجودها في طول الخطاب، أمّا المقدّمة

32


التي يكون وجودها في طول الخطاب، من قبيل وصول الخطاب إلى العبد وحصول العلم به للمكلّف، فالخطاب لا يدلّ على لزوم حفظها وحفظ متعلّق الحكم من ناحيتها. إذن فالخطاب لا يدلّ على وجوب تحصيل العلم به على المكلّف في صورة ما إذا كان المكلّف قادراً على تحصيل العلم، فضلاً عمّا لو لم يكن قادراً عليه؛ إذ حينئذ لا يكون للعبد محرّك في هذه المرتبة إلّا بإحداث خطاب آخر شامل لمرتبة الجهل بالخطاب الأوّل كالأمر بالاحتياط، وهذا غير لازم على المولى، فله تفويت هذه المقدّمة والاقتصار على أصل الخطاب الأوّل.

وهذا الكلام راجع إلى ما يقرب من الوجه الرابع الذي مضى عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) أنّه نسب إلى المحقّق العراقي، من دون تأويله بما مضى عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): من مسألة التبعيض وتقطيع الإرادة على أبواب العدم، بل المقصود هو تبعيض فعليّة الحكم بلحاظ جهات الوجود. أمّا الإشكال عليه بأنّ الوجود لا تتعدّد جهاته بتعدّد المقدّمات لعدم انبساط الوجود إلّا على الأجزاء، فقد يقال: إنّه غير وارد على المحقّق العراقي، فإننا لو تكلّمنا في مجموع المقدّمات التي تكون كلّ واحدة منها جزء علّة، ولابدّ من اجتماعها كي يحصل ذوالمقدّمة، وافترضنا التبعيض في تعلّق الإرادة بتلك المقدّمات بمعنى تصدّي المولى لإيجاد بعضها دون بعض رغم عدم انتهاء ذلك إلى تحقّق ذي المقدّمة لفقدان بعض أجزاء علّته، لورد عليه هذا الإشكال، ولكن المقصود ليس هو هذا، وإنّما المقصود أنّ الخطاب مقدّمة لتحقّق الفعل قد تنتهي إلى الفعل لاقترانها صدفة بالمقدّمات الاُخرى كالعلم به، وإرادة المولى للفعل ـ بقدر ما دلّ عليه الخطاب ـ لم تثبت بأكثر من أنّ يهتمّ المولى به بقدر إصدار الخطاب برجاء أن ينتهي صدفةً إلى صدور الفعل، أمّا تعلّقها به بمستوى يوجب تحريك المولى نحو إيجاب تحصيل العلم، أو إيجاب الاحتياط، أو ما

33


شابه ذلك، فلم يدلّ عليه الخطاب كي ينافي الحكم الظاهريّ، وإن شئت فعبّر عن ذلك بأنّ إرادة المولى للفعل كانت بمستوى يدعوه إلى سدّ بعض أبواب العدم لا جميعها.

ولعلّ الذي جعل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) يفسّر عبارة المحقّق العراقي(رحمه الله) بالتفسير الذي مضى، هو ما جاء في عبارته: من تحديد مقدار دلالة الخطاب بحفظ مرامه بمقدار استعداد خطابه، وهو ليس إلّا حفظ المقصود بجميع مقدّماته المحفوظة في الرتبة السابقة عن خطابه، بلا شمول الخطاب بمضمونه للإرادة على حفظ مرامه من قبل المقدّمات المتأخّرة عن الخطاب ولو بمثل تطبيق العبد خطاب مولاه على المورد مقدّمة لحركته ... . بينما هذا النصّ لا ينظر إلى المقدّمات التي تكون مقدّميّتها في طول الخطاب، وإنّما ينظر إلى المقدّمات التي تكون بذاتها وليدة للخطاب كالعلم بالخطاب. ولعلّ قوله: (ولو بمثل تطبيق العبد خطاب مولاه على المورد مقدّمة لحركته) هو الذي فهم منه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)استثناء إرادة الفعل من الوجوب المقدّميّ، بينما الظاهر أنّ مقصوده بالتطبيق تحصيل العلم، كما يشهد له قوله بعد هذا النصّ مباشرة: «وحينئذ يخرج مثل هذه المقدّمات عن حيطة فعليّة الخطاب بمضمونه، فلا بأس حينئذ من ترخيص المولى على تفويت مرامه ولو بترخيصه على ترك تطبيق خطابه على المورد بتحصيل علمه بخطابه، فضلاً عن صورة عدم تمكّن العبد عن التطبيق». نعم، من الصحيح أن تستثنى إرادة الفعل من الوجوب المقدّميّ من باب أنّها غير اختياريّة، وأنّها تتولّد في النفس من إرادة المولى قهراً.

وعلى أيّ حال، فيرد على كلام المحقّق العراقي(رحمه الله): أنّ تصدّي المولى لتحقيق المقدّمة الثانية بإيجاب الاحتياط ـ كما تصدّى لتحقيق المقدّمة الاُولى مثلاً ـ لو كان يستدعي منه صرف نشاط إضافيّ يتعبه مثلاً، فقد يقال: إنّ إرادة المولى للفعل لم تكن بمستوى يحرّك المولى نحو تحقيق كلتا المقدّمتين، وإنّما كانت بمستوى يحرّك المولى


34


نحو تحقيق المقدّمة الاُولى برجاء حصول باقي المقدّمات صدفة، إذن فعدم تصدّيه لتحقيق المقدّمة الثانية، لا ينافي تعلّق إرادته الإلزاميّة بذي المقدّمة، ولكن هذا لا يحلّ مشكلة المنافاة بين الترخيص في ترك الفعل عند الشكّ، وتعلّق الإرادة الإلزاميّة بالفعل، ففرق بين افتراض أنّ المولى رغم تعلّق إرادته الإلزاميّة بالفعل لا يوجب الاحتياط عند الشكّ، فيبقى العبد وما يحكم به عقله: من البراءة العقليّة، فقد يترك الفعل اعتماداً على البراءة العقليّة، وقد لا يتركه؛ لعدم إيمانه بالبراءة العقليّة، أو لعدم رغبته في الاعتماد عملاً على البراءة العقليّة، وافتراض أنّ المولى رغم تعلّق إرادته الإلزاميّة بالفعل يرخّص في ترك الفعل عند الشكّ، ممّا قد يؤدّي إلى ترك العبد للفعل حتّى إذا لم يكن يؤمن بالبراءة العقليّة، أو لم يكن يرغب في الاعتماد عملاً على البراءة العقليّة لكن لا مانع لديه من الاعتماد على ترخيص الشارع نفسه، فالإشكال هو: أنّ هذا الترخيص نقض للغرض.

هذا. وجاء في ذيل عبارته(رحمه الله)التفكيك بين فعليّة الشوق وفعليّة الإرادة، فذكر ما يستفاد منه: أنّ المصلحة أوجبت الحبّ والاشتياق، ولكنّها لم توجب فعليّة الإرادة في مرتبة الجهل بالخطاب مادام المولى لم يوجب الاحتياط. وجعل هذا نكتة لإثبات أنّ الأصل في الأحكام الظاهريّة هو الطريقيّة لا السببيّة؛ إذ على السببيّة يلزم افتراض رفع اليد عن اقتضاء المصلحة للإرادة بجميع مبادئها حتّى عن مقام الحبّ والاشتياق، كي لا يلزم التضادّ بحسب المبادئ.

أقول: لا يتوهّم أنّ افتراض التفكيك بين عالم الشوق وعالم الإرادة قد حلّ الإشكال، فإنّ الشوق إن كان أكيداً فهو الإرادة، وإن لم يكن أكيداً فهذا هو إشكال التصويب. وهذا هو معنى عدم الجمع بين الحكم الظاهريّ والحكم الواقعيّ.

والخلاصة: أنّ هذا الوجه لم يوضّح لنا كيف يكون الشوق الأكيد فعليّاً بالنسبة

35


للواجب، وفي نفس الوقت يرخّص المولى بالترك بمثل جعل البراءة، إلّا إذا فرض حقيقة أنّ لوجود الفعل عدّة جهات بعدد المقدّمات، وأنّ إرادة المولى أو شوقه تعلّقت ببعض جهات الوجود لا جميعها، كما يتصوّر ذلك في باب الأجزاء. وهذا هو الذي يرد عليه إشكال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): من الفرق بين باب الأجزاء وباب المقدّمات، فتعدّد الجهات والتبعيض في الإرادة إنّما يتصوّر في باب الأجزاء لانبساط الوجود عليها، أمّا في باب المقدّمات فلا ينبسط الوجود عليها، كي يعقل التبعيض بهذا الشكل.

وإن شئت قلت: إنّه ينبغي أن يكون كلام المحقّق العراقي(رحمه الله) ناظراً إمّا إلى تقطّع الإرادة المتعلّقة بالفعل بلحاظ تعدّد المقدّمات، أو إلى اختلاف درجات الإرادة الإلزاميّة، فبعضها يدعو المولى إلى إيجاد المقدّمة الاُولى مثلاً فحسب، وبعضها يدعوه إلى إيجاد كلتا المقدّمتين، أو إلى تبعيض الإرادة باختلاف الحالات بمعنى عدم فعليّة الإرادة في مرتبة الجهل بالحكم.

والأوّل يرد عليه: ما مضى عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من عدم انبساط وجود الشيء على مقدّماته، كي يتصوّر التقطيع والتبعيض في الإرادة.

والثاني يرد عليه: أنّ هذا إن تمّ فإنّما يبرّر عدم حفظ المولى للمقدّمة الثانية، ولكن لا يبرّر تصدّيه للترخيص في الخلاف.

والثالث يرد عليه: أنّ هذا هو عين العجز عن الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ.

لايقال: إنّنا نختار الثاني ونقول: إنّ البراءة الشرعيّة إخبار عن عدم جعل الاحتياط، لا ترخيص في الخلاف، والتأمين إنّما يتمّ بالبراءة العقليّة.

فإنّه يقال: إنّ مفاد البراءة الشرعيّة هو الترخيص في الخلاف، ولذا يتمسّك بها حتّى لو لم نقل بالبراءة العقليّة، ولذا مَن رأى عدم جريان البراءة العقليّة في الأقلّ والأكثر

36

الوجه السادس: هو الكلام الموروث من العلمين: الميرزا الشيرازيّ الكبير والشيخ الأعظم(قدس سرهما) من أنّ الحكم الظاهريّ يكون في طول الحكم الواقعيّ، وهما في مرتبتين فلا تنافي بينهما(1).

وهذا الوجه قد فسّر بتفسيرين: أحدهما على يد المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)، والآخر على يد المحقّق النائينيّ(رحمه الله):

أمّا التفسير الأوّل: فهو أنّ الحكم الظاهريّ يكون في طول الشكّ في الحكم الواقعيّ؛ إذ هو موضوع للحكم الظاهريّ، والشكّ في الشيء يكون في طول الشيء، فيكون الحكم الظاهريّ متأخّراً عن الحكم الواقعيّ برتبتين، فلا تبقى منافاة بينهما.

وأجاب المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) عن ذلك بأنّ الحكم الظاهريّ وإن لم يكن يصعد إلى درجة الحكم الواقعيّ لكن الحكم الواقعيّ ينزل إلى درجة الحكم


الارتباطيّين، ورأى أنّ العلم الإجماليّ الموجود فيه لا يمنع عن البراءة الشرعيّة، أجرى البراءة الشرعيّة في ذلك. على أنّ دليل الترخيص قد يكون أمارة لا مجرّد أصل البراءة، كي يتوهّم رجوعه إلى الإخبار عن عدم جعل إيجاب الاحتياط.

(1) حلّ الإشكال بتعدّد الرتبة نسبه المشكينيّ ـ في تعليقته على الكفاية ـ إلى السيّد محمّد الإصفهانيّ(رحمه الله)، ونسبه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ـ على ما في أجود التقريرات ـ إلى العلاّمة الشيرازيّ(رحمه الله).

أمّا الشيخ الأعظم(رحمه الله) فلم أرَ له هذا الكلام في رسائله. نعم، ذكر في أوّل بحث البراءة الطوليّة: تعدّد الرتبة بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ، لكن لا كجمع بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ، بل كنكتة لتقديم الدليل الذي يثبت الواقع على الأصل الذي موضوعه الشكّ في الواقع.

37

الظاهريّ، ويكون منحفظاً معه، فيجتمعان في مرتبة واحدة.

وهذا الجواب لا يرجع إلى محصّل؛ إذ بعد فرض أنّه اُخذ في موضوع الحكم الظاهريّ ما هو في طول الحكم الواقعيّ لا يعقل اجتماعهما في رتبة واحدة، بل دائماً يوجدان في رتبتين طوليّتين لا يصعد هذا إلى تلك المرتبة، ولا ينزل ذاك إلى هذه المرتبة.

والصحيح في الجواب عن هذا الوجه أمران:

الأوّل: أنّ التأخّر الذي يمكن توهّمه للشكّ في الشيء عن نفس ذلك الشيء هو التأخّر الطبعيّ، والتحقيق عدم تأخّر الشكّ في الشيء عن ذلك الشيء بالتأخّر الطبعيّ، فإنّ ميزان التأخّر الطبعيّ هو: أن يكون الشيء بحيث مهما انعدم ذاك انعدم هذا، دون العكس، لا من باب كون الأوّل لازماً للثاني، مثاله: تأخّر الاثنين عن الواحد وتأخّر المعلول عن جزء العلّة. وهذه النكتة كما ترى غير موجودة فيما نحن فيه، فإنّه قد يشكّ في الشيء بدون أن يكون ذلك الشيء موجوداً(1).

الثاني: أنّا لو سلّمنا تعدّد الرتبة فهو لا يفيد شيئاً في المقام، فإنّ مشكلة التضادّ لا ترتفع بتعدّد الرتبة، ولذا لو اُخذت الحرمة ـ مثلاً ـ موضوعاً للوجوب، وجعل وجوب شيء مشروطاً بحرمته، لم ترتفع مشكلة التضادّ بين الوجوب والحرمة، كما هو واضح بالوجدان، كما أنّ مشكلة نقض الغرض لا ترتفع بذلك؛ إذ لو كان في الفعل غرض لزوميّ، وكان الحكم الظاهريّ المتأخّر عن الحكم الواقعيّ عبارة عن الإباحة مثلاً، فإن لم تترتّب على هذه الإباحة التوسعة على المكلّف، بأن لا يكون


(1) نعم، الشكّ في الشيء لا ينفكّ عن المشكوك بالذات، وبالإمكان أن يقال بتأخّره عن المشكوك بالذات تأخّر العارض عن معروضه، لكن لا ينبغي أن يوجب هذا توهّم تأخّر الشكّ عن المشكوك بالعرض الذي هو المفيد في المقام.

38

له مانع شرعيّ عن الترك، فهذا خلف المفروض في الحكم الظاهريّ، ومستلزم للغويّة الحكم الظاهريّ. وإن ترتّب عليه ذلك كان هذا لا محالة نقضاً للغرض، فإنّ تأثير ذلك في ترك العبد للواجب وتفويت الغرض المترتّب عليه غير مربوط بفرض اتّحاد رتبة الحكم وتعدّدها.

وأمّا التفسير الثاني: فهو ما ذكره المحقّق النائينيّ(قدس سره) بعد نقله للتفسير الأوّل وإيراده عليه بما مضى عن المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من الإيراد، حيث أفاد: أنّ هذا الكلام قد اُسيء فهمه وليس معناه ما ذُكر. وإنّما معناه شيء آخر، فذكر(قدس سره)كلاماً يكون بحسب ما في التقرير معقّداً، ومشوّشاً بتشويش كثير، والذي يتحصّل منه: أنّ الحكم الظاهريّ يكون في طول الحكم الواقعيّ بمعنى أنّ الحكم الواقعيّ هو الذي يقتضي الحكم الظاهريّ ويكون سبباً لوجوده، وبدونه لا يعقل تحقّق الحكم الظاهريّ. وعلى هذا فيستحيل كون الحكم الظاهريّ دافعاً للحكم الواقعيّ ومانعاً عنه وموجباً لانتفائه؛ إذ الشيء لا يكون مانعاً عمّا يتوقّف عليه، وإلّا لزم من وجوده عدمه.

هذا حاصل ما يستفاد من عبارة التقرير وإن لم يكن لها صورة فنّيّة بهذا المقدار(1).

 


(1) الذي أستفيده من عبارة التقريرين هو: أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) مؤمن بأنّ تعدّد الرتب يرفع مشكلة التنافي، ويورد على التفسير الأوّل لتعدّد الرتب في المقام ـ وهو كون الحكم الظاهريّ في طول الشكّ، والشكّ في طول الحكم الواقعيّ ـ بمنع الصغرى؛ لأنّ الحكم الواقعيّ موجود في رتبة الحكم الظاهريّ وإن لم يكن الحكم الظاهريّ موجوداً في تمام رتب الحكم الواقعيّ. وحينئذ أصبح بصدد بيان تعدّد الرتب في المقام بمعنى آخر، وهو: أنّ الحكم الظاهريّ بيان للوظيفة تجاه الحكم الواقعيّ والموقف من الحكم الواقعيّ، وهذا هو تفسير الطوليّة في المقام بينهما، وهذا هو معنى قوله(رحمه الله): «إنّ الشكّ اُخذ في

39

ويرد عليه: أنّه لا ثمرة في افتراض كون الحكم الظاهريّ في طول الحكم الواقعيّ ومتوقّفاً عليه أصلاً؛ إذ لو سلّم التضادّ بين الحكمين بقطع النظر عن هذا التوقّف لم يمكن رفع الإشكال بدعوى التوقّف؛ إذ غاية ما يقتضيه التوقّف هي: أنّ الحكم الظاهريّ لا يصير مانعاً عن الحكم الواقعيّ، لكن الحكم الواقعيّ يصير مانعاً عن الحكم الظاهريّ. وبعبارة اُخرى نقول: إنّ كون أحد الضدّين موجباً لوجود الضدّ الآخر مستحيل؛ لاستلزامه اجتماع الضدّين، فلابدّ من دفع التضادّ قبل دعوى التوقّف والطوليّة، ومع دفع التضادّ في الرتبة السابقة على ذلك لا تبقى ثمرة لتسليم هذه الطوليّة أو عدمه.

 


موضوع الحكم الظاهريّ لا بما هو صفة من الصفات وحالة من حالات المكلّف، بل بما هو موجب لتحيّر المكلّف من حيث العمل».

والحاصل: أنّ البراءة والاحتياط هما في مرتبة قبح العقاب بلا بيان، أي: أنّهما يحقّقان تنجيز الحكم الواقعيّ أو التعذير عنه، وليسا في رتبة نفس الحكم الواقعيّ، إذن لا تنافي بينهما وبين الحكم الواقعيّ. هذا مضافاً إلى ما له(رحمه الله) من بيان آخر لنفي التنافي بالنسبة لأصالة الاحتياط، وهو: أنّها إن وافقت الواقع فهي عين الواقع، وإن خالفت الواقع فليست إلّا خيالاً باطلاً.

ويرد عليه: أنّ الطوليّة حتّى بهذا المعنى لا علاقة لها برفع التنافي، ولا تستوجب عدم كون الحكم الظاهريّ نقضاً للغرض، وعدم كون البراءة العقليّة نقضاً للغرض ناتج من أنّها ليست عملاً للشارع حتّى يقال: إنّ الشارع نقض غرضه، وإنّما هو حكم للعقل. وأمّا البراءة الشرعيّة فهي فعل الشارع، ولم نعرف حتّى الآن كيف لا تكون نقضاً للغرض، ولا علاقة للطوليّة بهذا المعنى بنفي كونها نقضاً للغرض، كما أنّ كون أصالة الاحتياط عند المخالفة خيالاً باطلاً ممنوع.

40

 

المختار في المسألة:

بقي الكلام فيما هو المختار في دفع إشكال التنافي بين الحكمين بحسب العقل النظريّ، فنقول: تارةً نتكلّم بناءً على طريقيّة الأحكام الظاهريّة، واُخرى بناءً على سببيّتها وكون الأمارة سبباً لحدوث المصلحة، فهنا مقامان من الكلام:

المقام الأوّل: في دفع الإشكال بناءً على طريقيّة الأحكام الظاهريّة، ومعنى طريقيّتها أنّه ليست لها مبادئ وراء مبادئ الأحكام الواقعيّة، ويتّضح ذلك مشروحاً من ثنايا الكلام. ويظهر ارتفاع الإشكال بذكر مقدّمات ثلاث:

المقدّمة الاُولى: أنّ عدم تعيّن متعلّق الغرض لا يوجب توسعة دائرة الغرض، وإنّما يوجب توسعة دائرة المحرّكيّة بلا فرق في ذلك بين الغرض التكوينيّ والتشريعيّ. مثلاً لو تعلّق الغرض التكوينيّ للشخص بإكرام العالم، وتردّد العالم بين جماعة كلّهم جهلاء ما عدا واحد منهم، فهذا الشخص قد يكون مهتـمّاً بإكرام العالم إلى درجة تبعثه نحو إكرام كلّ هؤلاء حفاظاً على إكرام العالم، ولكن هذا لا يعني توسعة دائرة غرضه، فغرضه لا زال متعلّقاً بإكرام العالم، أمّا إكرام الجاهل فلا غرض له فيه، وتردّد العالم بين جماعة لا يوجب سراية حبّه إلى إكرام باقي الأشخاص الذين هم في الواقع جهلاء ولا يحبّ إكرامهم لا حبّاً نفسيّاً ولا حبّاً مقدّميّاً، أمّا الأوّل فلأنّ ملاك الحبّ النفسيّ للإكرام عنده إنّما هو العلم، ولم يسر العلم إلى الجهلاء حتّى يحبّ إكرامهم. وأمّا الثاني فلأنّ إكرام الجاهل ليس مقدّمة لإكرام العالم. فإكرامه لتمام هؤلاء الجماعة ليس من باب توسعة الغرض، وإنّما هو من باب محرّكيّة نفس ذلك الغرض إلى إكرام الجميع، فكما أنّ ذاك الغرض يحرّكه نحو إكرام من يقطع بعالميّته، وهذا التحريك يكون بواسطة القطع، كذلك يحرّكه ـ لشدّة اهتمامه به ـ نحو إكرام من يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليه، وهذا

41

التحريك يكون بواسطة ذاك الاحتمال. هذا في مثال الغرض التكوينيّ.

وقس عليه الغرض التشريعيّ، فإنّ تعلّق غرض المولى بإكرام عبده للعالم، وتردّد العالم لدى العبد بين جماعة، فقد يأمره المولى ـ لشدّة اهتمامه بغرضه ـ بإكرام الجميع، وهذا لا يعني توسعة دائرة الغرض، بل يعني توسعة دائرة المحرّكيّة، وإنّما الفرق أنّ الغرض هنا تشريعيّ وهناك تكوينيّ، فكان التحرّك هناك إلى إكرام الجميع مباشرة، وهنا إلى تشريع وجوب الاحتياط والأمر بإكرام الجميع. ولتوهّم وقوع التوسعة في دائرة الغرض منشآن:

الأوّل: توهّم أنّ إكرام الجهلاء أصبح مقدّمة لإكرام العالم الذي وقع بينهم. ولكن نقول كما مضى: إنّ إكرام الجاهل لم يصبح مقدّمة لإكرام العالم، وإنّما أصبح مقدّمة لحصول العلم بإكرام العالم.

والثاني: أنّ توسعة دائرة الغرض مقدّمة لوصول المولى إلى غرضه من إكرام العالم؛ إذ بذلك يجب على العبد إكرام كلّ الجماعة، فيحصل ضمناً إكرام العالم، ولولا ذلك لم يتنجّز على العبد شيء، فيترك الإكرام، وبالتالي يخسر المولى غرضه.

وفيه: أنّ توسعة غرض المولى ليست اختياريّة للمولى حتّى يوسّعها مقدّمة لحصول إكرام العالم، وإنّما الحبّ أمر قهريّ يحصل من ملاك ومصلحة يراها المحبّ في المتعلّق. وقد حقّقنا فيما مضى: أنّ حصول الحبّ بملاك ومصلحة يراها المحبّ في نفس الحبّ محال.

هذا مضافاً إلى أنّ هذه التوسعة بلا موجب، فإنّه يكفي في تحرّك العبد إبراز المولى شدّة اهتمامه بإكرام العالم بحيث لا يرضى بفواته حتّى في هذه الحال، فتتحقّق بذلك المحرّكيّة العقليّة نحو إكرام الجميع.

وهذا هو الفرق في النتيجة بين القول بكون الحكم الظاهريّ من باب إبراز شدّة

42

الاهتمام وناشئاً من نفس ملاكات الواقع، والقول بكون الحكم الظاهريّ ناشئاً من ملاك في نفس الحكم، فإنّه على الثاني لا يوجب التحريك؛ لما مضى: من أنّ المحرّكيّة العرضيّة تابعة للمحرّكيّة الذاتيّة، وإذا كان الملاك في نفس الحكم فقد وصل المولى إلى غرضه بنفس الحكم، ولا يبقى شيء يوجب التحرّك الذاتيّ للعبد المخلص نحو الامتثال، وفرض الإخلاص على العبد غير المخلص بالعقل العمليّ، والإنذار بالنار والتبشير بالجنّة لا يزيد على الإخلاص الحقيقيّ، وإنّما هو مكمّل للإخلاص الحقيقيّ ومتمّم لنقصانه، فإذا لم يكن الإخلاص الحقيقيّ في العبد المخلص حقيقة محرّكاً نحو شيء فلا يتحرّك بفرض الإخلاص عليه والمحرّكيّة العرضيّة، بينما على الأوّل ـ أعني: كون الحكم الظاهريّ مبرزاً لاهتمام المولى بغرضه الواقعيّ ـ تكون المحرّكيّة الذاتيّة في العبد المخلص موجودة؛ إذ لو عرف العبد باهتمام المولى بغرضه حتّى في ظرف الشكّ يتحرّك بإخلاصه نحو الاحتياط، فالمحرّكيّة العرضيّة أيضاً موجودة للحكم الظاهريّ.

المقدّمة الثانية: أنّ التزاحم على ثلاثة أقسام:

الأوّل: تزاحم الملاكين في موضوع واحد، كما إذا كانت في فعل مّا مصلحة ومفسدة، فلا محالة يقع بينهما الكسر والانكسار، ويكون الحبّ أو البغض الفعليّ على طبق الأهمّ، ولا يبقى للآخر إلّا الحبّ أو البغض الشأنيّ، أي: لولا ابتلائه بالمعارض لكان موجباً للحبّ أو البغض، فإنّ اجتماع الحبّ والبغض على شيء واحد مستحيل، وهذا يسبّب تعارض دليلين يكشف كلّ منهما عن ملاك يزاحم ملاك الآخر في موضوعه. وهذا القسم من التزاحم لا يختصّ بالحكمين الإلزاميّين، فقد يجتمع في شيء واحد ملاك للحرمة ـ مثلاً ـ مع ملاك للإباحة ويقع بينهما الكسر والانكسار.

الثاني: تزاحم مبادئ الحكم في موضوعين بلحاظ عالم الامتثال لضيق قدرة

43

المكلّف، كما في مثال إزالة النجاسة عن المسجد والصلاة مع ضيق الوقت. وفي هذا القسم أيضاً يقدّم ما هو الأهمّ، لكن لا يوجب تقديمه سقوط مبدئ الحكم بالنسبة للآخر عن الفعليّة. وفي هذا القسم لا يعقل التزاحم بين الحكم الإلزاميّ والحكم الترخيصيّ؛ إذ لا امتثال للحكم الترخيصيّ. وهذا القسم هو التزاحم المصطلح عند المحقّق النائينيّ(رحمه الله).

الثالث: تزاحم الحكمين بلحاظ عالم المحرّكيّة، كما لو وجب إكرام العالم وحرم إكرام الجاهل، وتردّد العالم والجاهل بين مجموعة بعضهم عالم وبعضهم جاهل، فيقع التزاحم بلحاظ الأفراد لا في التأثير في تحقّق الحبّ والبغض الفعليّين؛ إذ هما على موضوعين لا على موضوع واحد، ولا بين المبادئ بلحاظ عالم الامتثال؛ إذ المكلّف قادر على امتثال كليهما، بل يقع التزاحم في عالم المحرّكيّة. وهنا أيضاً يقدّم الأهمّ، فيجعل المولى الحكم الظاهريّ على طبق ما هو الأهمّ الذي لا يرضى المولى بفواته حتّى في هذه الحال. وتقديم الأهمّ في هذا القسم أيضاً لا يوجب سقوط مبادئ الآخر عن الفعليّة، فإنّ تقديم أحد المتزاحمين إنّما يوجب سقوط الآخر عمّا تزاحما فيه وهي المحرّكيّة في المقام لا المبادئ.

المقدّمة الثالثة: أنّ مبدأ الإباحة قد يقبل التزاحم بالمعنى الثالث بينه وبين مبدأ الأحكام الإلزاميّة، فإنّ الإباحة تارةً تنشأ من عدم مبادئ الوجوب والحرمة، واُخرى تنشأ من تعلّق المبادئ بمشي المكلّف بحسب مقتضى طبعه بقطع النظر عن الإيجاب والتحريم المولويّين، والتزاحم بين مبادئ الإلزام ومبادئ الإباحة في القسم الأوّل غير معقول؛ لعدم المزاحمة بين المقتضي واللا اقتضاء. ولكنّه في القسم الثاني معقول، كما لو اقتضى ملاك لوجوب إكرام العالم وملاك آخر لجري المكلّف على مقتضى طبعه في إكرام الجاهل، ووقع الاشتباه بينهما، فيجعل المولى