128

مقتضى الأصل اللفظيّ:

المقام الأوّل: وهو مقتضى الأصل اللفظيّ في ذلك.

فقد ذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ: أنّ مقتضى القاعدة هو عدم السقوط؛ لأنّ الشكّ ليس شكّاً في سعة دائرة الواجب وضيقه، بل في سعة دائرة الوجوب وضيقه؛ إذ لو فرض: أنّ الوجوب كان يسقط بفعل الغير، فليس معنى هذا: أنّ دائرة الواجب أعمّ من فعله وفعل غيره؛ لأنّ فعل الغير ليس داخلاً في قدرة المكلّف، وإنّما معنى ذلك: أنّ وجوب الفعل عليه مشروط بعدم فعل الغير، فإذا شكّ في ذلك كان مقتضى الإطلاق بحكم مقدّمات الحكمة عدم تقيّد الوجوب بهذا الشرط(1).

ويرد عليه: أوّلاً: أنّ فعل الغير وإن لم يكن تحت قدرته إذا لم يكن فعلاً تسبيبيّاً للمكلّف، ولكن إذا كان فعلاً تسبيبيّاً له كان داخلاً تحت قدرته بالواسطة، حيث إنّه يقدر عليه بالتسبيب إليه: إمّا بالإيجاب والإلجاء في الأفعال التي يتصوّر فيها ذلك، وإمّا بقدح الداعي في نفس الفاعل حينما يكون قادراً على ذلك، فتكون هذه الحصّة من فعل الغير ـ أعني: الفعل التسبيبيّ ـ مقدورة له، ولذا يمكن الأمر بها مباشرة بأن يأمره المولى مثلاً بصلاة ابنه، فيعقل تعلّق الأمر بالجامع بين فعله وفعل غيره التسبيبيّ له.

وثانياً: أنّنا لو فرضنا أنّ فعل الغير لم يكن مقدوراً له، فالسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ قد ذكر في المسألة الثانية: أنّه يعقل تعلّق التكليف بالجامع بين فعل الشخص الصادر منه بالاختيار وفعله غير الاختياريّ؛ لأنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور(2)، فكذلك نقول نحن هنا، فإنّ نسبة فعل الغير والفعل غير الاختياريّ



(1) راجع محاضرات الفيّاض، ج 2، ص 142 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

(2) المصدر السابق، ص 149. والوارد في المحاضرات مشتمل على الالتفات إلى إمكان فرضيّة التهافت بين ما قاله في المسألة الاُولى: من استحالة شمول إطلاق المادّة

129

إلى قدرة المكلّف على حدّ سواء، فهنا أيضاً نقول: إنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور داخل تحت القدرة ولو في ضمن فعله، إذن فتحصّل: أنّ السقوط يمكن أن يكون بسبب سعة دائرة الواجب وشمولها لفعل الغير مطلقاً، أو التسبيبيّ على الأقلّ، وعليه فلو كان مقتضى إطلاق المادّة هو الجامع بين فعله وفعل غيره، لكان مقتضى القاعدة هو السقوط بفعل الغير، وإن كان مقتضى ظهورها هي الحصّة المباشريّة فحينئذ مقتضى إطلاق الصيغة ثبوت الوجوب حتّى مع فعل الغير، فلابدّ من صرف عنان الكلام إلى أنّ المادّة هل لها إطلاق لفعل الغير، أو لا؟

فنقول: يوجد(1) عندنا أمران: أحدهما: استناد الفعل إلى المكلّف، والآخر:



لفعل الغير وما قاله في المسألة الثانية: من شمول إطلاق المادّة للحصّة الصادرة بلا اختيار. وأجاب عن هذا التهافت بأنّ الوجه في عدم الشمول في المسألة الثانية إنّما هو عدم مقدوريّة تلك الحصّة، والجواب عليه هو: أنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور، والمفروض تعلّق التكليف بالجامع لا بخصوص الحصّة غير المقدورة. وأمّا في المسألة الاُولى فأصل اعتبار الجامع بين فعل الشخص وفعل الغير في الذمّة أمر غير معقول.

أقول: ـ مضافاً إلى أنّ هذا الفرق لا نفهم له وجهاً متحصّلاً ـ إنّ هذا في الحقيقة عدول عمّا ذكره أوّلاً في وجه عدم معقوليّة تكليف الشخص بالجامع بين فعله وفعل غيره؛ فإنّ المذكور عنه هناك في نفس الكتاب موضوع عدم القدرة.

(1) يمكن صياغة المطلب بصياغة اُخرى وهي: أنّ فعل الغير لو لم يكن بتسبيب من المأمور فلا إشكال في أنّ إطلاق المادّة لا يشمله.

وأمّا لو كان بتسبيب من المأمور:

فلو كان الفعل عرضاً لمحلّ آخر غير نفس المأمور كما في «اغسل المسجد» فمقتضى إطلاق المادّة كفاية التسبيب، فلو سبّب المأمور غسل المسجد بفعل شخص آخر صدق العمل بقوله: «اغسل المسجد».

130

كون هذا المستند إليه صادراً منه بالمباشرة لا بالتسبيب.

أمّا الأوّل، فلا إشكال في كونه مستفاداً من المادّة؛ فإنّ المستفاد من قوله: «صلِّ» و«اغسل» ونحوه هو دفعه إلى الفعل بنحو يكون مستنداً إليه، فلو قال: «اغسل يا زيد»، ثُمّ غسل عمرو من غير تسبيب إلى ذلك من قبل زيد، لم يصدق على ذلك تحقّق مفاد «اغسل»؛ لأنّ النسبة الصدوريّة ملحوظة في الأمر كما هي ملحوظة في فعل الماضي، لكن مع إلباسها في الأمر ثوب النسبة الإرساليّة فوقها، إذن فلا تشمل المادّة الفعل الأجنبيّ للغير.

وأمّا الثاني، ففيه تفصيل؛ فإنّ المادّة قد تكون نسبتها إلى زيد مثلاً نسبة الفعل إلى الفاعل فقط لا العرض إلى محلّه، كما لو أمر زيداً بغسل المسجد، فإنّ الغسل عرض للمسجد لا لزيد، وقد تكون نسبتها إليه نسبة العرض إلى محلّه أيضاً كــ «اشرب الماء»، ففي القسم



نعم، لو كان الفعل عرضاً يعرض على نفس المأمور كما في مثل «صلّ» أو «اشرب الماء» فقد لا يتحقّق الفرد التسبيبيّ بالتسبّب إلى فعل شخص آخر؛ لأنّه لو سبّب أن يصلّي عمرو أو يشرب عمرو لم يصبح المأمور محلاًّ لعروض الصلاة أو الشرب.

نعم، قد يتّفق في بعض الأمثلة إمكانيّة التسبيب أيضاً كما في مثال «اشرب الماء»، فإنّه لو أجبر عمرواً مثلاً على أن يشرّب المأمور الماء فقد أصبح عروض الشرب على نفس المأمور أيضاً محفوظاً، فانحفظت كلتا النسبتين: نسبة الفعل إلى الفاعل بالتسبيب، ونسبة عروض الشرب على نفس المأمور، فهذا يدخل في إطلاق المادّة لوجدان الفعل لكلتا النسبتين.

فتحصّل: أنّ الفعل الأجنبيّ المحض غير مشمول لإطلاق المادّة ومقتضى القاعدة عدم سقوط الواجب به، والفعل التسبيبيّ يفصّل فيه بين ما لو كانت للمادّة بحسب مدلولها العرفيّ نسبة صدوريّة فحسب إلى المأمور فيتمّ إطلاقها، أو كانت لها بالقياس إلى المأمور نسبتان: نسبة صدوريّة ونسبة العروض على المحلّ فقد لا يتمّ كما في مثال «صلّ» وقد يمكن أن يتمّ كما في مثال «اشرب الماء».

131

الأوّل مقتضى الإطلاق هو الشمول للحصّة المباشريّة والتسبيبيّة(1)؛ إذ غاية ما يقتضيه قوله: «اغسل المسجد» هي النسبة الصدوريّة، وهي محفوظة في كلتا الحصّتين: المباشريّة والتسبيبيّة، فيكون ذلك صادقاً فيما لو لم يغسل المسجد بنفسه مباشرة لكنّه سبّب إلى غسله.

وأمّا في القسم الثاني كما لو قال: «صلِّ»، أو قال: «اشرب الماء»، فهو لا يصدق على الفرد التسبيبيّ، أعني: أن يتسبّب إلى أن يصلّي عمرو، أو يشرب عمرو مثلاً (لا إلى أن يُشرِبه عمرو)؛ لأنّ للصلاة أو الشرب نسبتين إلى زيد: إحداهما: نسبة الفعل إلى فاعله، وهذه محفوظة في المقام، والاُخرى: نسبة العرض إلى محلّه، وهذه غير محفوظة في المقام، فلا يصدق أنّه صلّى أو شرب الماء. نعم، لو فرض أنّ زيداً أجبر عمرواً على أن يشرّبه، فهذا مصداق للمادّة؛ لوجدانه لكلتا النسبتين.

فتحصّل: أنّ الفعل الأجنبيّ المحض غير مشمول للمادّة، ومقتضى القاعدة عدم السقوط، والفعل التسبيبيّ يفصّل فيه بين ما لو كانت للمادّة بحسب مدلولها العرفيّ نسبة صدوريّة إلى الفاعل فقط، أو كانت لها كلتا النسبتين إليه.



(1) لا يخفى: أنّ الشمول للحصّة التسبّبيّة لدى فرض توسّط إرادة فاعل مختار لا يخلو عن منع؛ لأنّ نسبة الفعل إلى الفاعل المسبِّب ـ بالكسر ـ غير صادقة هنا، وإنّما الصادق نسبة التسبيب إليه. نعم، قد نفهم بمناسبات الحكم والموضوع الشمول، كما في مثال الأمر بغسل المسجد، حيث يفهم بمناسبات الحكم والموضوع أنّ الهدف طهارة المسجد، وقد حصلت بتطهير شخص آخر، بل وكذا لو حصل بسبب آخر قهريّ، فلو نزل المطر وطهّر المسجد لكفى ذلك، إلّا أنّ هذا خارج عن محلّ البحث.

وقد تقول: إنّ نسبة الفعل إلى الفاعل بمعنى الصدور المباشر ندخله في نسبة العرض إلى محلّه، ونقصد بنسبة الفعل إلى الفاعل المقدار المحفوظ في النسبة التسبيبيّة.

ولكن لو قلت كذلك، إذن لقلنا: إنّ هيئة الأمر دائماً تدلّ على نسبة الفعل إلى الفاعل بمعنى نسبة العرض ومحلّه. فعلى كلّ حال يكون الحقّ: أنّ هيئة الأمر تدلّ على ضرورة المباشرة.

132

مقتضى الأصل العمليّ:

وأمّا المقام الثاني: وهو مقتضى الأصل العمليّ في ذلك، فالمعروف أنّه لابدّ من الاحتياط، ويقرّب ذلك بوجهين:

1 ـ إجراء استصحاب بقاء الوجوب بعد أن فعل الغير.

2 ـ إنّه مع قطع النظر عن جريان الاستصحاب، أو منع جريانه في الشبهات الحكميّة توجد عندنا أصالة الاشتغال؛ لأنّ أصل توجّه التكليف يقينيّ، ويكون الشكّ في السقوط، فيكون مجرىً لأصالة الاشتغال، والاشتغال اليقينيّ يستدعي البراءة اليقينيّة.

وتحقيق الكلام في المقام: أنّ الشكّ تارةً يكون شكّاً في السقوط بفعل الغير، بمعنى احتمال كون فعل الغير مصداقاً للواجب بناءً على ما ذكرنا من تعقّل تعلّق التكليف بالجامع بين فعله وفعل غيره، خصوصاً التسبيبيّ منه، فيعقل أن يكون مرجع الشكّ في المقام إلى الشكّ في دائرة الفعل الواجب، ودوران أمر الواجب بين الوسيع والضيّق، فالجامع معلوم الوجوب والخصوصيّة مشكوكة الوجوب، وعندئذ تجري البراءة على ما هو المقرّر في بحث دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر.

واُخرى يفرض: أنّنا علمنا بوجه من الوجوه بأنّ الواجب هو عبارة عن الفعل المباشر، وكان الشكّ في تقييد الوجوب، وأنّه هل يختصّ بما إذا لم يأتِ به الغير، أو لا؟ وعندئذ فهنا تفصيل؛ وذلك لأنّ تقيّد الوجوب بعدم إتيان الغير يتصوّر بنحوين:

الأوّل: أن يكون الوجوب متقيّداً بعدم إتيان الغير ولو بشكل متأخّر، بحيث لو أتى الغير بالفعل ولو بعد عدّة أيّام كشف عن عدم الوجوب من أوّل الأمر، وقد أتى به الغير ولو متأخّراً.

وفي هذا القسم لا معنى لجريان استصحاب الوجوب، ولا لأصالة الاشتغال؛ لشكّنا في تحقّق الوجوب من أوّل الأمر، فلا يقين بالوجوب والاشتغال حتّى

133

يستصحب الوجوب، أو يقال: إنّ الاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ،فالمورد إنّما هو مجرىً لأصالة البراءة.

الثاني: أن يكون الوجوب مشروطاً بعدم إتيان الغير بنحو الشرط المقارن، فالوجوب في كلّ ساعة مشروط بعدم إتيان الغير في تلك الساعة، أي: أنّ فعل الغير يكون مسقطاً للوجوب من حينه، لا كاشفاً عن عدم الوجوب من أصله.

وحينئذ، فإن قبلنا جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة ـ كما هو الصحيح ـ جرى، وإن منعناه أو قطعنا النظر عنه، فهل تجري البراءة أو أصالة الاشتغال؟ فيه تفصيل.

وتوضيح ذلك: أنّ احتمال مسقطيّة فعل الغير يكون لأحد وجوه ثلاثة:

1 ـ احتمال كون فعل الغير مستوفياً للغرض المولويّ، فيسقط به التكليف لحصول الملاك.

وهذا الاحتمال يستلزم ثبوتاً كون الوجوب مقيّداً من أوّل الأمر بعدم إتيان الغير ولو بنحو الفرد المتأخّر حينما لم يمكن التكليف بالجامع بين فعل نفسه وفعل غيره، فهذا داخل في الفرض السابق، دون هذا الفرض، وهو فرض الشرط المقارن، وقد عرفت أنّه تجري فيه البراءة.

2 ـ احتمال كون فعل الغير موجباً لسقوط رغبة المولى، لا من باب حصول الملاك، بل من باب أنّه يخرج الملاك عن كونه محبوباً للمولى، وهذا طبعاً غير وارد في الشرعيّات عادة. وعلى أيّ حال، فالحكم فيه هو البراءة، سواء فرض ذلك بنحو كفاية الفرد المتأخّر أو فرض بنحو الشرط المقارن.

أمّا إذا فرض بنحو كفاية الفرد المتأخّر، فقد مضى حاله، وعرفت أنّه تجري البراءة؛ لأنّ الشكّ في أصل الوجوب ابتداءً، وإن فرض بنحو الشرط المقارن، فالوجوب ابتداءً وإن كان ثابتاً ـ والمفروض عدم استصحابه ـ لكن الشكّ الآن في أصل المحبوبيّة والغرض، لا في تحقّقه أو في القدرة على إيجاده.

134

3 ـ احتمال كون فعل الغير معذِّراً لحصول الغرض وموجباً لامتناعه، فيسقط الخطاب للعجز عن تحصيل الغرض، وعندئذ قد يتصوّر أنّ هذا مجرىً للاشتغال؛ إذ مع فرض العلم بعدم حصول الملاك بفعل الغير، واحتمال كون فعل الغير معجّزاً عن تحصيله، واحتمال عدم كونه معجّزاً عنه يُدخل ذلك في باب الشكّ في القدرة، وهو مجرىً للاشتغال، إلّا أنّ الصحيح هنا أيضاً جريان البراءة، إلّا في فرض غير موجود في الفقه.

وتوضيح ذلك: أنّه على تقدير كون فعل الغير مفوّتاً للغرض، فهذا تفويت مأذون فيه من قبل المولى فعليّاً، ببرهان: أنّ المولى لم يوجب الإسراع في العمل قبل أن يأتي به الغير، فهو الذي جوّز له التأجيل وإن عُلم بأنّه سوف يأتي به الغير، إذن فحينما أتى به الغير يشكّ هذا العبد: أنّه لو ترك الفعل، فهل يكون هذا تفويتاً للملاك غير مأذون فيه، أو لا يكون هذا تفويتاً للملاك؛ وذلك لعدم فوت الملاك بفعل الغير، أو لم يصدر منه إلّا تفويت ماذون فيه؛ لأنّه قد فات الملاك بتأخيره إلى أن فعل الغير، وكان تأخيره مأذوناً فيه، فهذا شكّ في أصل الإذن والمنع وهو مورد للبراءة(1).

نعم، لو فرضنا الالتزام فقهيّاً بأنّه على تقدير مفوّتيّة فعل الغير يجب عليه البدار وهو فرض غير موجود في الفقه، جرت أصالة الاشتغال؛ إذ هو يعلم بعدم رضا المولى بتفويت الغرض، ويشكّ في قدرته الآن على تحصيل الغرض.

وقد تحصّل بهذا البيان: أنّه في الموارد المتعارفة في الفقه دائماً تجري البراءة لولا استصحاب الوجوب، ولا مجال لما ذكروه من أصالة الاشتغال.



(1) لا يخفى: أنّ هذا أيضاً مرجعه إلى كفاية الفرد المتأخّر؛ لأنّ الأمر الوجوبيّ بشيء ما لأجل الملاك المأذون في تفويته لا معنىً له، إذن فما دام الملاك على تقدير فعل الغير ولو متأخّراً جائز التفويت فأصل الأمر بذي الملاك مقيّد بعدم فعل الغير ولو متأخّراً، فالمورد هو مورد البراءة حتّى بناءً على قبول الاستصحاب في الشبهات الحكميّة؛ لأنّ الشكّ بعد فعل الغير في الوجوب أصبح شكّاً سارياً.

135

التوصّليّ بمعنى ما يسقط بالفعل غير الاختياريّ

من نفس المكلّف

المسألة الثانية: لو شكّ في سقوط الواجب بالحصّة غير الاختياريّة من فعله، فهل الأصل يقتضي السقوط أو عدمه؟

والكلام فيها أيضاً يقع في مقامين:

الأصل اللفظيّ:

المقام الأوّل: في تأسيس الأصل اللفظيّ، فنقول: لو ثبت بقرينة كون المادّة في «اغسل» مثلاً مقيّدة بالحصّة الاختياريّة، أمكن الرجوع إلى إطلاق الهيئة لإثبات أنّ وجوب هذه الحصّة ثابت، سواء أتى بالحصّة غير الاختياريّة أو لا، فمقتضى إطلاق الهيئة عدم سقوط التكليف بغير الاختياريّ. وإذا فرض ثبوت الإطلاق للمادّة للجامع بين الحصّتين، ثبت الإجزاء والسقوط بالحصّة غير الاختياريّة؛ لأنّها مصداق للواجب، ولا مجال للتمسّك بإطلاق الهيئة لإثبات بقاء الوجوب؛ لأنّ الوجوب الذي هو مفاد الهيئة لا معنى لأن يكون له أثر حتّى مع وجود متعلّقه خارجاً حتّى يرجع إلى إطلاق الهيئة، ومن هنا ينصبّ الكلام على تشخيص إمكان التمسّك بإطلاق المادّة وعدمه، فإن أمكن التمسّك بإطلاقها ثبت الإجزاء، وإن فرضت المادّة مقيّدة، انفتح الباب للتمسّك بإطلاق الهيئة بعد ذلك.

وعليه نقول: إنّه قد استشكل في التمسّك بإطلاق المادّة ـ بعد وضوح: أنّ المادّة بطبعها الأوّليّ مطلقة؛ إذ هي موضوعة من الناحية اللغويّة للجامع بين

136

الحصّتين دون خصوص الاختياريّة ـ بعدّة إشكالات:

الإشكال الأوّل: ما ذكره المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، وهو: أنّ الأمر إنّما هو بداعي الباعثيّة والمحرّكيّة، فبقرينة استحالة التحريك نحو غير المقدور يلتزم بأنّ المحرّك إليها هي خصوص الحصّة الاختياريّة المقدورة(1).

وهذا الإشكال بهذا التقريب جوابه الصحيح: أنّ الجامع بين الحصّة المقدورة والحصّة غير المقدورة مقدور، وقوله: «اغسل» مثلاً يرجع إلى طلب واحد وتحريك واحد نحو الجامع بنحو صرف الوجود، لا إلى طلبات متعدّدة بعدد أفراد الغسل، بحيث يكون للاختياريّ وجوب ولغير الاختياريّ أيضاً وجوب. نعم، لو أرجعنا في بحث التخيير العقليّ والشرعيّ الأمر بصرف الوجود دائماً إلى التخيير الشرعيّ بمعنى أوامر متعدّدة بالأفراد، كلّ واحد منها مشروط بترك الباقي، لزم الإشكال في المقام، لكن الصحيح: أنّ الأمر بصرف الوجود لا يرجع إلى أوامر متعدّدة مشروطة.

إلّا أنّ السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ كان يشكل على كلام المحقّق النائينيّ (رحمه الله)بوجهين آخرين(2):

الوجه الأوّل: أنّ هذا الكلام مبنيّ على مبنى وضع صيغة الأمر للنسبة البعثيّة، فيقال: إنّ البعث يجب أن يكون نحو أمر مقدور، ولكن على ما حقّقناه من وضع الأمر لاعتبار الفعل على ذمّة المكلّف فلا محذور في اعتبار فعل غير مقدور في



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 102 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 143 ـ 144 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) إضافة إلى ما عرفته من الجواب، فإنّه وارد في المحاضرات، ج 1، ص 149 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

137

ذمّته؛ إذ ليس فيه جنبة بعث وتحريك، والعقل يحكم بلزوم الامتثال على القادر دون العاجز(1).

ويرد عليه: أنّ من الواضح: أنّ نظر المحقّق النائينيّ (رحمه الله) ليس إلى المدلول الوضعيّ التصوّريّ لصيغة الأمر الذي قال عنه المشهور: إنّه النسبة البعثيّة، وأنكره السيّد الاُستاذ رأساً، وقال: إنّ الأمر وضع ابتداءً للمدلول التصديقيّ، وإنّما نظره إلى المدلول التصديقيّ للأمر الذي هو ـ على أيّ حال ـ مطعّم بالتحريك والدفع، سواء كان المدلول التصديقيّ عبارة عن الطلب أو كان عبارة عن اعتبار الفعل في ذمّة المكلّف، فإنّه لا يحمل هذا الاعتبار على مجرّد لقلقة اللسان، بل يحمل على الاعتبار بداعي الدفع والتحريك، والتحريك يجب أن يكون نحو أمر مقدور.

الوجه الثاني: كأنّه نقض على المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، حيث إنّه ذكر في بحث التزاحم: أنّ المهمّ وإن لم يبقَ له أمر عند تزاحمه مع الأهمّ بناءً على بطلان الترتّب، لكنّنا نحرز بقاء ملاكه بإطلاق الدليل؛ حيث إنّ المادّة كان لها محمولان: الوجوب والملاك، وقد سقط الأوّل يقيناً، ولكن لم يثبت سقوط الثاني، فيبقى إطلاقها بلحاظ الثاني ثابتاً على حاله. فيقول السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ: إنّ هذا الكلام يسري إلى المقام، فمادّة الغسل مثلاً في «اغسل» كان لها محمولان: الوجوب وهو لا يشمل الحصّة غير الاختياريّة حسب الفرض، والملاك وهو يحتمل ثبوته في الحصّة غير الاختياريّة، فيتمسّك بإطلاقها



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 101، تحت الخطّ بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ.

138

للحصّة غير الاختياريّة بلحاظ الملاك(1).

أقول: إنّ للمحقّق النائينيّ (رحمه الله) أن يجيب على هذا النقض بأحد جوابين، وطبعاً ليس المقصود تحميل هذين الجوابين على المحقّق النائينيّ (رحمه الله)وإنّما المقصود بيان الأمر الواقع، وأنّ هناك فرقاً بين ما ادّعاه المحقّق النائينيّ في المقام وبين باب التزاحم من وجهين، سواء التزم بهما المحقّق النائينيّ أو لا.

الأوّل: أن يقال: إنّ إطلاق المادّة بلحاظ الملاك في المقام يعارض إطلاق الهيئة؛ إذ لو كان الملاك ثابتاً في الحصّة غير الاختياريّة للزم تقيّد وجوب الحصّة الاختياريّة بما إذا لم تصدر منه الحصّة غير الاختياريّة؛ لأنّه بصدورها يحصل المطلوب، فيتعارض الإطلاقان ويتساقطان، وتنتهي النوبة إلى الأصل العمليّ، ولا يمكن إثبات سقوط التكليف بالأصل اللفظيّ. وهذا بخلاف باب التزاحم، فإنّ المهمّ حينما صار مزاحماً للأهمّ وفرض عدم إمكان الترتّب، فإطلاق المادّة يقتضي بقاء الملاك، وإطلاق الهيئة ساقط يقيناً؛ للقطع بعدم الوجوب حسب الفرض.

أمّا هنا فنحتمل بقاء إطلاق الهيئة لعدم القطع بسقوط التكليف عند تحقّق الحصّة غير الاختياريّة، وهذا الإطلاق معارض لإطلاق المادّة كما عرفت.

الثاني: أن يقال: إنّ المادّة وإن وقعت موضوعاً لمحمولين: الوجوب والملاك، لكن موضوعيّتها للملاك في طول موضوعيّتها للوجوب، بمعنى: أنّ «افعل» يدلّ بالمطابقة على الوجوب، وبالالتزام على الملاك، ولا إشكال عند الجميع في أنّ الدلالة الالتزاميّة تابعة للمطابقيّة وجوداً، بمعنى: أنّ وجودها



(1) المصدر السابق.

139

فرع وجود المطابقيّة. نعم، وقع النزاع بينهم في أنّ الدلالة الالتزاميّة هل تتبع المطابقيّة في الحجّيّة أيضاً، أو لا؟ والأثر العمليّ يظهر فيما لو كان الظهور المطابقيّ موجوداً ولكنّه سقط عن الحجّيّة لحصول القطع بخلافه مثلاً. ومختار المحقّق النائينيّ والمحقّق العراقيّ ـ رحمهما الله ـ والمشهور بين هذه الطبقة هو عدم التبعيّة في الحجّيّة.

وحينئذ نقول: إنّ كلتا الدلالتين في باب التزاحم موجودتان في الأمر بالمهمّ، إلّا أنّ الخطاب بالأهمّ كشف عن بطلان المدلول المطابقيّ، فيجوز التمسّك بمدلوله الالتزاميّ على مبنى المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، بينما فيما نحن فيه لم ينعقد الظهور المطابقيّ؛ لأنّ المدّعى للمحقّق النائينيّ أنّ الكاشف عن عدم الوجوب في المقام قرينة متّصلة على التقييد، وهي عدم إمكان التحريك نحو الحصّة غير الاختياريّة، والأمر يدلّ على داعي التحريك، وهو لا يناسب الأمر غير الاختياريّ بالبداهة، فإذا كانت هذه قرينة متّصلة على عدم شمول الوجوب للحصّة غير الاختياريّة، فأصل الدلالة المطابقيّة ساقطة لا حجّيّتها، ولا إشكال في أنّ الدلالة الالتزاميّة تابعة للمطابقيّة في الوجود، فهي تسقط أيضاً في المقام.

إذن فالصحيح في الجواب على كلام المحقّق النائينيّ (رحمه الله): أنّه لا موجب لتقييد إطلاق المادّة لإمكان التحريك نحو الجامع بين الحصّة الاختياريّة وغير الاختياريّة.

الإشكال الثاني: ما ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في المقام من أنّ الإطلاق يستحيل في مبنى المحقّق النائينيّ (رحمه الله) إذا استحال التقييد؛ لأنّ الإطلاق هو عدم التقييد فيما من شأنه أن يقيّد، وبناءً عليه نقول في المقام: إنّ تقييد الوجوب

140

بالحصّة غير الاختياريّة غير معقول، إذن فلا يعقل الإطلاق أيضاً (1).

وهذا الكلام لم يكن يناسب السيّد الاُستاذ، فإنّ الإطلاق المطلوب في المقام إنّما هو الإطلاق في مقابل التقييد بالحصّة الاختياريّة، فإنّ إطلاق الطبيعة لحصّة عبارة عن عدم تقييدها بما يقابل تلك الحصّة، لا عدم تقييدها بتلك الحصّة، مثلاً لو قال المولى: «أكرم العالم» فانطباق العالم على العالم الهاشميّ ينشأ من عدم تقييده بغير الهاشميّ، وانطباقه على غير الهاشميّ ينشأ من عدم تقييده بالهاشميّ، وفي المقام أيضاً إطلاق المادّة للحصّة غير الاختياريّة ـ وهو المقصود ـ ينشأ من عدم التقييد بالحصّة الاختياريّة، والتقييد بالحصّة الاختياريّة معقول، فالإطلاق المطلوب أيضاً معقول، فكأنّ الإشكال نشأ من تخيّل: أنّ الإطلاق المطلوب يكون في مقابل التقييد بالحصّة غير الاختياريّة، بينما ليس الأمر كذلك.

الإشكال الثالث: إشكال اللغويّة، حيث يقال: إنّه أيّ أثر لإطلاق المادّة للحصّة غير الاختياريّة بعد عدم إمكان الانبعاث نحوها؟!

وهذا الكلام يمكن أن يقال في مقابله عدّة أشياء:

منها: ما ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ:(2) من أنّ فائدة هذا الإطلاق أنّه لو فرض صدفة وقوع الحصّة غير الاختياريّة منه، ثبت ببركة إطلاق المادّة الإجزاء والسقوط(3). هذا.



(1) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 1، ص 150 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

(2) نفس المصدر، ص 149.

(3) ومنها: أنّ الإطلاق ليست له مؤونة زائدة حتّى يأتي فيه إشكال اللغويّة.

ومنها: أنّه إن كان الإطلاق لا أثر زائد له، فالتقييد أيضاً كذلك، فتخيّر المولى في التقييد أو الإطلاق، فلنفترض أنّه أطلق.

141

وقد تحصّل: أنّ مقتضى إطلاق المادّة هو الشمول للحصّة غير الاختياريّة، فمقتضى الأصل اللفظيّ هو الإجزاء. هذا.

وقد يقال: إنّنا لو لم نقبل بعدم تماميّة إطلاق المادّة المقتضي للسقوط فمن حسن الحظّ أنّ إطلاق الهيئة أيضاً ليس تامّاً حتّى يقتضي عدم السقوط ويُبلينا بعد حصول الحصّة غير الاختياريّة بلزوم الإعادة بإتيان الحصّة الاختياريّة؛ وذلك لأنّ إطلاق المادّة لم يقيّد بمقيّد بديهيّ كالمتّصل حتّى يتمّ إطلاق الهيئة، وإنّما قيّد بمقيّد منفصل وهو برهان عقليّ نظريّ ليس واضحاً بالبداهة حتّى يهدم ظهور المادّة في الإطلاق، كي يصبح ظهور الهيئة موجباً للإعادة بمقتضى إطلاق الوجوب لما بعد تحقّق الحصّة غير الاختياريّة، والبرهان النظريّ يعدّ مقيّداً منفصلاً عن المادّة، فيبقى ظهور المادّة في الإطلاق هادماً لظهور الهيئة فلا يبقى دليل على لزوم الإعادة، غاية الأمر أنّه سقطت حجّيّة إطلاق المادّة بمقيّد منفصل وهذا لا يوجب انعقاد إطلاق الهيئة.

وهذا كلام دقيق يستفاد من بعض تحقيقات المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ المدّعى لهؤلاء القائلين بسقوط إطلاق المادّة كالمحقّق النائينيّ (رحمه الله) هو: أنّ المقيّد برهان عقليّ، وهو قرينة كالمتّصل، وهي كون المولى في مقام الباعثيّة والمحرّكيّة مع بداهة استحالة التحريك نحو غير المقدور، وليس برهاناً نظريّاً يعرف بالدقّة والتأمّل حتّى يعتبر قرينة منفصلة.



(1) راجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 207 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، تحت الخطّ، نقلاً عن تقرير الشيخ الآمليّ (رحمه الله) لدروس الشيخ العراقيّ (رحمه الله).

142

وثانياً: النقض بسائر الموارد، من قبيل ما لو قال: «صلِّ»، ثُمّ قيّد بعد ذلك المادّة باشتراط الطهارة واستقبال القبلة وغير ذلك، بناءً على عدم دخول هذه القيود في نفس المسمّى، ثُمّ فعل ما كان فاقداً لأحد هذه الشروط، فشكّ في سقوط الواجب بذلك، أفلا يتمسّك صاحب هذا الوجه بإطلاق الهيئة لإثبات بقاء الوجوب؟

وثالثاً: أنّ دعوى كون إطلاق المادّة مقيّداً لإطلاق الهيئة غير صحيحة من أساسها؛ فإنّ الشيء الواجب لا تسقط فعليّة وجوبه بالإتيان به، وإنّما تسقط فاعليّة وجوبه بذلك، فقوله مثلاً: «صلِّ» يحرّك عقلاً نحو صرف الوجود، فإذا وجد صرف الوجود فلا معنى بعد ذلك لتحريكه نحوه، وهذا معناه: سقوطه عن الفاعليّة والتأثير، لا سقوط فعليّة الوجوب، وتفصيل ذلك في محلّه من بحث الترتّب.

ورابعاً: لو سلّمنا أنّ إطلاق الهيئة يكون مفاده مقيّداً، لكن من قال بأنّه مقيّد بعدم وقوع المادّة بعنوانها، بأن يكون وجوب الصلاة في «صلِّ» مقيّداً بعدم الإتيان بالصلاة، ووجوب الغسل في «اغسل» مقيّداً بعدم الغسل وهكذا؟ بل هناك قيد عقليّ واحد للكلّ، وهو قيد عدم الامتثال ولو ببرهان استحالة بقاء الوجوب بعد امتثاله، وإطلاق المادّة يوجب تحقّق الامتثال بالحصّة غير الاختياريّة، فيسقط الوجوب. وأمّا إذا قيّد إطلاقها ـ ولو بمنفصل ـ بالحصّة الاختياريّة، فلا يحصل الامتثال بالحصّة غير الاختياريّة، فيبقى الوجوب، فالقيد قيد واحد لا يزيد ولا ينقص وهو عدم الامتثال، وقد فرض عدم الامتثال(1).



(1) وبكلمة اُخرى أدقّ: إنّ قيد كلّ أمر ليس هو عدم الإتيان بالمتعلّق المفهوم من الكلام بقيوده المتّصلة فحسب، بل هو عدم الإتيان بما هو متعلّق الأمر واقعاً، فإنّ هذا هو الذي دلّ عليه المقيّد العقليّ ـ لو فرض ـ القائل بأنّ الأمر يسقط بامتثاله.

143

وعلى أيّ حال، فقد اتّضح: أنّ مقتضى الأصل اللفظيّ هو السقوط؛ لأنّ إطلاق المادّة معقول، ومقتضى إطلاقها تعلّق الوجوب بالجامع بين الحصّتين.

الأصل العمليّ:

المقام الثاني: في الأصل العمليّ، وتحقيقه هو نفس التحقيق في المسألة الاُولى، فلو لم يعلم بتعلّق الوجوب بخصوص الحصّة الاختياريّة، جرت البراءة عن الخصوصيّة، ولو علم بذلك وشكّ في تقيّد الوجوب بعدم وقوع غير الاختياريّة بنحو كفاية الفرد المتأخّر، جرت البراءة، أو بنحو الشرط المقارن، جرى الاستصحاب إن قلنا بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، وإلّا جرت البراءة في الفروض الفقهيّة وفق التفصيل الذي مضى في المسألة الاُولى.

144

التوصّليّ بمعنى ما يسقط بالفعل المحرّم

المسألة الثالثة: في احتمال كفاية الحصّة المحرّمة. والكلام في ذلك أيضاً يقع في مقامين:

الأصل اللفظيّ:

المقام الأوّل: في الأصل اللفظيّ، فلو فرضت الحرمة متعلّقة بنفس العنوان الواجب، كما لو وجب الغسل بعنوانه المطلق، وحرم الغسل بعنوانه المقيّد بماء دجلة مثلاً، فلا إشكال في أنّ إطلاق المادّة لا يشمل هذه الحصّة حتّى بناءً على جواز اجتماع الأمر والنهي؛ إذ من يقول بالجواز يقول في عنوانين متباينين، لا في مثل المقام، وعندئذ فلو أتى بالحصّة المحرّمة وشكّ في بقاء الوجوب، تمسّك بإطلاق الهيئة.

وأمّا إذا كانت الحصّة المحرّمة لها عنوان آخر كعنوان الغصب، فقد دخل في بحث اجتماع الأمر والنهي. فإن قلنا بالامتناع، لم يشمل إطلاق المادّة الحصّة المحرّمة، فالنتيجة أيضاً هي التمسّك بإطلاق الهيئة، وإن قلنا بالجواز، فهل يمكن التمسّك بإطلاق المادّة، أو لا؟

بنى في ذلك المحقّق النائينيّ (رحمه الله)(1) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(2) على ماهو ظاهر كلماته في هذه المسألة على أنّه: هل يشترط في الواجب أن يكون له



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 144 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ص 102 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 100 و102 بحسب الطبعة الماضية، تحت الخطّ، وراجع أيضاً المحاضرات للفيّاض، ج 2، ص 150 ـ 151 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

145

حسن فاعليّ مضافاً إلى الحسن الفعليّ، أو لا؟ فعلى الأوّل لا يعقل وقوع الغسل بالمغصوب مصداقاً للوجوب؛ فإنّه وإن كان الحرام والواجب موجوداً بوجودين بناءً على جواز الاجتماع، لكنّهما موجودان بفاعليّة واحدة وبإيجاد واحد، فليس له حسن فاعليّ، وعلى الثاني لا بأس بإطلاق المادّة، إلّا أنّ المحقّق النائينيّ (رحمه الله)اشترط الحسن الفاعليّ، والسيّد الاُستاذ أنكره.

والصحيح: أنّه بناءً على جواز الاجتماع لا بأس بالتمسّك بإطلاق المادّة حتّى بناءً على اشتراط الحسن الفاعليّ؛ وذلك لأنّ القائل بجواز الاجتماع إن قال بذلك على أساس دعوى تعدّد الوجود، فما يكون متعدّداً وجوداً يكون متعدّداً إيجاداً، أو فاعليّةً لا محالة، فيثبت الحسن الفاعليّ(1)، وإن اعترف بوحدة الوجود، ولكن فرض أنّ هذا الوجود الواحد اجتمع فيه الحسن والقبح، والوجوب والحرمة، إذن فلتكن الفاعليّة الواحدة أيضاً مجمعاً للحسن والقبح في وقت واحد، فأيضاً يثبت الحسن الفاعليّ.

الأصل العمليّ:

المقام الثاني: في تأسيس الأصل العمليّ.

والشكّ هنا يرجع إلى الشكّ في الأقلّ والأكثر، سواء قيل بامتناع اجتماع الأمر والنهي أو جوازه. أمّا على الجواز فواضح؛ لأنّه يعلم بتعلّق الوجوب بالجامع بين الحصّتين، ولا يعلم بتقيّده بخصوص الحصّة المحلّلة، فتجري البراءة. وأمّا على الامتناع فقد يقال: إنّ الشكّ لا يكون في الأقلّ والأكثر، بل في المسقط؛ لأنّ تعلّق الوجوب بالجامع مستحيل، غاية الأمر: أنّه يشكّ في أنّ هذا الوجوب: هل هو مقيّد بعدم الإتيان بالحصّة المحرّمة، أو لا؟ فيكون شكّاً في المسقط بالمعنى الذي



(1) أشار السيّد الخوئيّ (رحمه الله) أيضاً إلى هذه النكتة بحسب ما ورد في المحاضرات، ج 2، ص 154 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

146

كان في المسألة الاُولى والثانية، ويجري فيه ما مضى في المسألة الاُولى والثانية في فرض الشكّ في المسقط.

ولكن التحقيق: أن يقال: إنّ امتناع الاجتماع وإطلاق المادّة إن كان ناظراً إلى مرحلة الثبوت واستحالة الاجتماع وشمول الإطلاق في عالم الجعل والتشريع للحصّة المحرّمة، كان الشكّ في المسقط، وسعة الوجوب وضيقه، فكلّ يرجع إلى ما اختاره في الشكّ في المسقط في المسألتين السابقتين. وأمّا إن كان ناظراً إلى مرحلة الإثبات، أي: قبل بإمكان تعلّق الوجوب بالجامع بين الحصّتين، إلّا أنّه لم يتمّ الإطلاق اللفظيّ عليه، فعندئذ ننتهي إلى الأصل العمليّ، ونقول: لعلّ المولى أوجب الجامع بلا قيد، فيكون الشكّ في الأقلّ والأكثر.

وتحقيق ثبوتيّة المحذور وإثباتيّته يأتي ـ إن شاء الله ـ في بحث الاجتماع، لكن ملخّص الكلام في ذلك: أنّه حينما يكون الأمر بنحو مطلق الوجود كــ «أكرم العالم»،فلا إشكال في استحالة الاجتماع؛ إذ الوجوب انحلاليّ، ولو حرم فرد ووجب، لزم اجتماع الضدّين؛ للتضادّ بين الوجوب والحرمة. وأمّا إذا كان بنحو صرف الوجود، فلا يوجد محذور من ناحية التضادّ؛ إذ الوجوب قائم بصرف الطبيعة، ولا يسري إلى الأفراد كما برهن عليه في بحث الاجتماع، فإذا ثبتت الحرمة على الفرد، لم يجتمع الوجوب والحرمة على موضوع واحد، ويبقى محذور إثباتيّ وهو أن يقال: إنّ الدليل الدالّ على إيجاب الجامع بنحو صرف الوجود يدلّ بالدلالة الالتزاميّة العرفيّة لا العقليّة على الترخيص في تطبيق الجامع على تمام أفراده، وهذا ينافي الحرمة، وهذه الدلالة الالتزاميّة العرفيّة المدّعاة إثباتاً لا تمنع عن الشكّ ثبوتاً في تعلّق الوجوب بالجامع أو الحصّة، فيكون الشكّ بين الأقلّ والأكثر، وتجري البراءة.

نعم، من قال بالامتناع بتوهّم محذور ثبوتيّ، وهو التضادّ كالمحقّق الخراسانيّ (رحمه الله)، لا الإثباتيّ فقط يرجع الشكّ على مبناه إلى الشكّ في المسقط، ويكون الكلام فيه هو الكلام في الشكّ في المسقط في المسألتين السابقتين.

147

التعبّديّ والتوصّليّ بمعنى اعتبار قصد

القربة وعدمه

المسألة الرابعة: فيما هو مقتضى الأصل اللفظيّ والعمليّ في الواجب التعبّديّ والتوصّليّ، بمعنى: ما يعتبر في مقام الفراغ عن عهدته قصد القربة، وما لا يعتبر فيه ذلك.

وقبل الدخول في البحث عن ذلك ينبغي أن نعرف بالتفصيل حدود الفارق بين التعبّديّ والتوصّليّ بهذا المعنى، وبهذا الصدد تذكر وجوه عديدة لتصوير الفرق بينهما يجمعها ما ذكرناه من اعتبار قصد القربة في الخروج عن عهدته وعدمه، فهذا المعنى الإجماليّ محفوظ على كلّ حال، ولكن يتكلّم في تفصيل ذلك وتحديده:

الوجه الأوّل للفرق بين التعبّديّ والتوصّليّ

الوجه الأوّل: أنّ التعبّديّ ما كان الأمر فيه متعلّقاً بالفعل مع قصد القربة، والتوصّليّ ما لم يؤخذ قصد القربة في متعلّقه.

وفي تحقيق حال هذا الوجه وقع كلام، حيث ذهب مشهور المحقّقين المتأخّرين إلى استحالة أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر. والكلام في ذلك يقع في مقامين:

الأوّل: في قصد القربة بمعنى قصد نفس هذا الأمر.

والثاني: في سائر القصود القربيّة كقصد الملاك.

أخذ قصد القربة بمعنى قصد الامتثال:

أمّا المقام الأوّل: ففي تحقيق حال قصد امتثال نفس هذا الأمر، وأنّه هل يمكن أخذه في متعلّق الأمر، أو لا؟

148

المعروف بين المحقّقين عدم إمكانه، وقد برهن على ذلك بعدّة بيانات لا حاجة إلى استعراض تمامها؛ لأنّ جملة منها: إمّا تكرار، أو لا تستحقّ التعرّض، فنتعرّض إلى جملة من البيانات التي تتحصّل من كلماتهم في المقام:

الأوّل: ما يظهر من عبارة الكفاية(1)، حيث يقول: ما لا يكاد يتأتّى إلّا من قبل الأمر لا يمكن أن يؤخذ في متعلّق الأمر. وحاصل هذا البيان لزوم الدور والتهافت؛ لأنّ قصد امتثال الأمر ـ بحسب طبعه ـ متأخّر رتبة عن الأمر؛ إذ لا يعقل وجوده إلّا بعد فرض أمر، فلو كان مأخوذاً في متعلّقه، للزم كونه بلحاظ آخر أسبق رتبة من الأمر؛ لأنّ متعلّق الأمر أسبق رتبة من الأمر، وهذه الأسبقيّة ثابتة على كلّ حال وإن كان هناك اختلاف في تفسيرها وتكييفها؛ فإنّه إن قيل بأنّ الأمر مع متعلّقه موجودان بوجودين، كان تأخّره عنه تأخّراً وجوديّاً بلحاظ الرتبة من باب تأخّر العارض عن معروضه؛ لأنّ نسبة الأمر حينئذ إلى متعلّقه نسبة العرض إلى محلّه مثلاً، وإن قيل: إنّ الأمر مع متعلّقه، وكذلك الإرادة مع متعلّقها، والحبّ مع متعلّقه ونحو ذلك موجودان بوجود واحد في اُفق نفس الآمر، أو المريد والمحبّ، إذن فالأمر ليس متأخّراً عن متعلّقه بالوجود رتبةً، لكنّه متأخّر عنه بالطبع على حدّ تأخّر زيد عن الإنسان بالطبع، فمع أنّ زيداً والإنسان موجودان بوجود واحد تكون الإنسانيّة متقدّمة على زيد بالطبع؛ فإنّ الميزان في التقدّم بالطبع أنّه كلّما كان للمتأخّر وجود فللمتقدّم وجود، دون العكس، فكلّما كان لزيد وجود كان للإنسانيّة وجود، بينما يمكن فرض وجود الإنسانيّة في ضمن غير زيد. وفي المقام كلّما كان للأمر بالصلاة مثلاً وجود، فللصلاة وجود في اُفق نفس الآمر، دون العكس؛ إذ قد يتصوّر الصلاة ولا يأمر بها.



(1) ج 1، ص 109 بحسب طبعة المشكينيّ.

149

وعلى أيّ حال، فسواء قيل بالسبق الوجوديّ أو بالسبق الطبعيّ فالمتعلّق أسبق ـ على أيّ حال ـ من الأمر، فلزم كونه متأخّراً ومتقدّماً، وهذا محال.

وهذا الإشكال بهذا البيان واضح الاندفاع؛ إذ يكفي في دفعه قبل أن نتعرّق أكثر فأكثر في البحث أن يقال: إنّ المتأخّر غير المتقدّم؛ فإنّ قصد امتثال الأمر يتوقّف بوجوده الخارجيّ على الأمر، والأمر يتوقّف على الوجود الذهنيّ لقصد امتثال الأمر في اُفق ذهن الحاكم، فلا يمكن تتميم الاستحالة بمثل هذا البيان.

الثاني: أن يقال: إنّ قصد امتثال الأمر إذا اُخذ في متعلّق الأمر، لزم الدور؛ إذ كلّ أمر مشروط بالقدرة على متعلّقه، فهو متأخّر عن القدرة على متعلّقه تأخّر المشروط عن شرطه؛ لاستحالة التكليف بغير المقدور، فلو فرض: أنّه اُخذ في متعلّقه، كان الأمر بالصلاة مثلاً المقيّدة بقصد الامتثال مشروطاً بالقدرة على الصلاة بقصد الامتثال، والمكلّف لا يقدر على ذلك إلّا بعد الأمر، فهذه القدرة متوقّفة على الأمر؛ لأنّها تنشأ منه، فقد توقّف كلّ منهما على الآخر، فلزم الدور.

وهذا البيان قد يكون أحسن من السابق، ولكن مع ذلك لا يرجع إلى محصّل؛ وذلك لأنّنا نسلّم الآن قبل أن نتعرّق أكثر فأكثر أنّ القدرة على قصد امتثال الأمر متوقّفة على الأمر، لكن لا نسلّم أنّ الأمر يتوقّف على القدرة؛ فإنّ دليل اشتراط القدرة هو العقل الحاكم باستحالة التكليف بغير المقدور، والعقل لا يحكم بذلك إذا كان نفس التكليف والأمر موجداً للقدرة، فلو فرض: أنّ أمر المولى للمشلول يوجد تكويناً استيناسه بحيث يبرأ من الشلل، فلا بأس بأن يقول له: «قم»، ولا يكون الأمر أمراً إحراجيّاً للعبد، فالميزان في اشتراط التكليف بالقدرة إنّما هو عدم الإحراجيّة من قبل الأمر، ويكفي في عدم الإحراج نشوء القدرة من الأمر، وبهذا يرتفع الدور؛ لأنّ القدرة متأخّرة عن الأمر تأخّر المعلول عن علّته مثلاً، لكن الأمر ليس متأخّراً عن القدرة تأخّر المشروط عن شرطه، وإنّما هو متأخّر عن

150

إمكان حصول القدرة بالأمر وقت العمل، أي: عن قضيّة شرطيّة، وهي: أنّه لو أمر، لكان قادراً وقت العمل، وهذا مطلب واقعيّ ثابت قبل الأمر.

وهذا الذي ذكرناه غير ما يقال: من أنّ الأمر يشترط فيه القدرة وقت العمل، فإنّ هذا لا يدفع إشكال الدور؛ لأنّه إن فرض الأمر مشروطاً بالقدرة في وقت العمل، قلنا: إنّ القدرة في وقت العمل أيضاً مشروطة بالأمر، وهذا دور، وإنّما الجواب هو أن نقول: إنّ الأمر ليس متوقّفاً ولا مشروطاً بالقدرة، لا حينه ولا وقت العمل، بل مشروط بإمكان القدرة بالمعنى الذي عرفت، وبرهان الاشتراط إنّما هو حكم العقل، والعقل لا يأبى عن تكليف العاجز إذا كان نفس التكليف موجباً لزوال العجز.

الثالث: أن يقال: إنّ الأمر إذا تعلّق بالفعل بقصد امتثال الأمر، أصبح المكلّف عاجزاً عن الفعل بقصد الامتثال، فيكون أمراً بغير المقدور؛ وذلك لأنّ ذات الفعل غير متعلّق للأمر، فكيف يستطيع أن يأتي به بقصد الأمر، وإنّما الأمر تعلّق بمجموع الفعل وقصد الامتثال بنحو التركيب أو التقييد.

وهناك جواب مشهور عن هذا الإشكال، وهو: أنّ ذات الفعل وإن لم يكن متعلّقاً للأمر الاستقلاليّ، لكنّه قد نال أمراً ضمنيّاً وحصّةً من الأمر بلحاظه جزءاً من المجموع المأمور به، حيث إنّ الأمر الاستقلاليّ الواحد ينحلّ إلى أوامر ضمنيّة بعدد الأجزاء والقيود، فيصحّ أن يؤتى به بقصد امتثال ذلك الأمر الضمنيّ، وفي سائر الموارد لا يمكن قصد امتثال أمر ضمنيّ مستقلاًّ في جزء من الأجزاء، لكن في خصوص المقام يمكن ذلك؛ لكون نفس هذا القصد محقّقاً للجزء أو القيد الآخر(1)، فيتمّ العمل.



(1) وبكلمة اُخرى: إنّ الأمر إذا تعلّق بشيء مركّب، وكان الإنسان له داع آخر إلى أحد جزئيه، فقد يدعوه ذلك الأمر إلى الجزء الآخر ولو فرض عدم داعويّته إلى الكلّ،

151

ويمكن أن يعترض على هذا الجواب بإشكالين:

الإشكال الأوّل: أنّ هذا الجواب مبنيّ على القول بأنّ الأمر الاستقلاليّ الواحد المتعلّق بالمقيّد أو المركّب ينحلّ إلى حصص وقطع ضمنيّة، من قبيل انحلال البياض على الورقة بتقطّع الورقة مثلاً، لكن هذا الانحلال غير صحيح؛ لأنّ المقيّد أو المركّب لا يكون متعلّقاً لأمر استقلاليّ واحد، إلّا إذا لبس ثوب الوحدة ولو في عالم الذهن والاعتبار، واُفق ثبوت الحكم وعروضه؛ إذ لو كان في ذلك الاُفق متعدّداً لم يعقل عروض حكم واحد عليه، وإذا لبس ثوب الوحدة في ذلك الاُفق بوجه من الوجوه، فلا معنى لانحلال ذلك الحكم الواحد.

وفيه: أنّ القائل بالانحلال لا يقول بتعدّد حصص الوجوب بلحاظ اُفق الاعتبار والصورة الذهنيّة، بل بلحاظ محكيّها. وتوضيحه: أنّ الصورة الذهنيّة التي فرضت واحدة إنّما صارت معروضة للحكم بلحاظ فنائها في الخارج، بداهة: أنّ المولى لا يوجب علينا صورته الذهنيّة بما هي، فالمولى إنّما يوجب تلك الصورة باعتباره يراها كأنّها العمل الخارجيّ، وبهذا النظر يُرى ـ لا محالة ـ أنّ لها قطعاً وأجزاء، فهي وإن فرض عروض ثوب الوحدة عليها في عالم الذهن والاعتبار، فاستطاعت أن تقبل حكماً واحداً، ولكن في نفس الوقت إنّما أوجبها المولى



فمثلاً لو كان مطلوب المولى هو أن يسافر العبد إلى الهند ويفعل فعلاً معيّناً في الهند، فقد لا يكون هذا محرّكاً للعبد إلى السفر إلى الهند والإتيان بالفعل المعيّن، لكن لو صار له بوجه من الوجوه داع للرواح إلى الهند، فقد يدعوه الأمر المتعلّق بالمجموع المركّب من الرواح للهند والفعل المعيّن إلى أن يفعل ذلك الفعل، وليس معنى داعويّة الأمر الضمنيّ ـ في الحقيقة ـ إلّا داعويّة الأمر الاستقلاليّ إلى جزء من أجزاء الواجب.

152

بلحاظ أنّها تُرى كأنّها العمل المركّب الخارجيّ، فهي بلحاظ المحكيّ والمكشوف متعدّدة، وحيث إنّها كانت معروضة للوجوب بلحاظ المكشوف فبهذا اللحاظ ينبسط الوجوب، ويتعدّد وينحلّ بانحلال معروضه تبعاً، ولهذا يسمّى بالانحلال لا بالتعدّد، حيث إنّه لا يتعدّد حقيقةً، وإنّما ينحلّ بلحاظ المعروض بالعرض.

الإشكال الثاني: أنّ هذا الأمر الضمنيّ الذي يقصد امتثاله، والذي فرض أنّه متعلّق بذات الصلاة مثلاً: هل هو متعلّق بالصلاة المطلقة، أو متعلّق بالصلاة المقيّدة، أو متعلّق بالصلاة المهملة؟

أمّا الأوّل فهو غير معقول؛ لأنّ الواجب الضمنيّ إذا كانت هي الصلاة المطلقة، كان معنى ذلك تحقّق الواجب الضمنيّ في ضمن غير المجموع؛ لأنّ المطلق ينطبق على الجزء الموجود لا في ضمن المجموع، وهذا خلف قانون الارتباط بين الواجبات الضمنيّة.

وأمّا الثاني فهو يعني: أنّ ذات الصلاة إذن لا أمر لها كي يُقصد، إلّا أن يحلّ الأمر مرّة اُخرى بدعوى: أنّ متعلّقه وهو الضمنيّ المقيّد ينحلّ ـ بحسب الحقيقة ـ إلى تقيّد وذات المقيّد، فأصبح مركّباً، فأيضاً له أمران: أمر ضمنيّ بالتقيّد وأمر ضمنيّ بذات المقيّد، فننقل الكلام إلى الأمر المتعلّق بذات المقيّد، لنرى: هل تعلّق بذات المقيّد المطلق، أو بذات المقيّد المقيّد بالتقيّد، وهكذا، فيلزم التسلسل.

وأمّا الثالث وهو فرض تعلّق الأمر الضمنيّ بالصلاة المهملة، فهو لا يرد عليه عدم معقوليّة الإهمال في عالم الثبوت على أساس أنّ المولى لا يعقل أن لا يعرف ماذا صنع، فهو: إمّا يريد المطلق، أو يريد المقيّد، فإنّ الجواب على ذلك هنا هو: أنّه ليس المراد هو الإهمال بلحاظ الواقع كلّيّةً، فإنّ المولى لم يهمل بحسب الواقع إذا ضمّ إلى هذا الوجوب الضمنيّ الوجوب الضمنيّ للجزء الآخر مثلاً. وبكلمة اُخرى: إنّ الوجوب النفسيّ الاستقلاليّ مقيّد لا محالة؛ إذ اُخذ فيه كلّ القيود والأجزاء،