209

 

طروّ الاضطرار بعد العلم بالتكليف

الأمر الثالث: إذا طرأ الاضطرار بعد العلم بالتكليف، فإنْ كان اضطراراً إلى المعيّن، فلا إشكال في أنـّه يرفع التكليف على تقدير كونه في ذاك الطرف، وقد مضى أنّ العلم الإجماليّ ـ عندئذ ـ باق على تنجيزه للطرف الآخر؛ لأنـّه يعلم إجمالاً بثبوت التكليف إمّا في الطرف الأوّل قبل الاضطرار، أو في الطرف الثاني حتّى بعد الاضطرار.

وأمـّا إذا كان اضطراراً إلى غير المعيّن، فقد عرفت أنّ الترخيص الثابت بلحاظ الاضطرار إلى غير المعيّن لا ينافي أصل التكليف الواقعي أصلاً، بل ولا إطلاقه، خلافاً لما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) من منافاته للتكليف الواقعيّ، وأنـّه بالاضطرار ينتفي التكليف رأساً، ثمّ بعد ارتكاب أحد الطرفين يحتمل عود التكليف؛ لكونه في الطرف الآخر مع زوال الاضطرار.

والمقصود هنا أنْ نرى أنـّه على تقدير التنزّل وتسليم منافاته لأصل التكليف الواقعي، هل يتشكّل هنا ـ أيضاً ـ علم إجمالي منجِّز نظير العلم الإجماليّ بالتكليف فيما إذا كان الاضطرار إلى المعيّن، أو لا يكون حال الاضطرار إلى غير المعيّن هو حال الاضطرار إلى المعيّن في ذلك؟

والتحقيق: هو التفصيل في المقام بينما إذا علم من أوّل الأمر بأنـّه بعد حصول الاضطرار سوف يرفع اضطراره بأحد الطرفين المعيّن عنده الآن وبينما إذا لم يعلم أنـّه هل سوف يدفع اضطراره بهذا أو بذاك.

ففي القسم الأوّل لا يجوز له ارتكاب الفرد الآخر بعد رفع الاضطرار بالفرد الأوّل؛ لأنـّه كان يعلم إجمالاً بأنـّه إمـّا يحرم عليه الفرد الأوّل قبل الاضطرار، أو يحرم عليه الفرد الثاني بعد رفع الاضطرار.

وفي القسم الثاني يجوز له ارتكاب الفرد الآخر بعد رفع الاضطرار بالفرد الأوّل؛ لأنـّه لم يكن له من أوّل الأمر مثل هذا العلم الإجماليّ، وإنـّما كان يعلم إجمالاً بحرمة أحد الفردين قبل الاضطرار، وكان يشكّ أنّ الحرمة على كلّ واحد من التقديرين، أي: سواء كانت في هذا أو في ذاك هل هي حرمة مختصّة بما قبل الاضطرار، أو ثابتة بعد رفع الاضطرار أيضاً، وهذا تردّدٌ بين الأقلّ والأكثر، فيأخذ

210

بالأقلّ ويجري الأصل في الزائد، وهي الحرمة بعد رفع الاضطرار.

نعم، بعد أن رفع الاضطرار بأحدهما يعلم إجمالاً بأنـّه إمـّا أن يكون الآن الفرد الآخر حراماً عليه، أو أنّ الفرد الذي ارتكبه فعلاً كان قبل الاضطرار حراماً عليه، وهذا العلم غير منجِّز؛ لمضيّ أحد أطرافه، ويجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض.

إنْ قلت: إنـّه من أوّل الأمر كان بالإمكان أنْ يشير إلى الفرد المعيّن في الواقع الذي سوف يرفع الاضطرارية، ويقول: إنـّي أعلم إجمالاً بأنـّه إمـّا ذاك الفرد حرام عليّ الآن، أو الفرد الآخر حرام عليّ بعد رفع الاضطرار.

قلت: إنّ الأصل النافي لحرمة الفرد الآخر بعد رفع الاضطرار ليس معارضاً للترخيص في المخالفة القطعيّة (1) للفرد الأوّل الآن؛ لأنّ الترخيص في المخالفة القطعيّة للفرد الأوّل الآن يكون عبارة عن الترخيص في كلا الفردين الآن؛ إذ ذاك الفرد الذي سوف يرفع اضطراره به عنوان إجمالي، لا يعلم أنـّه هل هو هذا أو ذاك، ومن المعلوم أنّ هذا الترخيص في نفسه مبتلىً بالمحذور العقليّ أو العقلائيّ؛ لكونه ترخيصاً في المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم، فلا يصبح طرفاً للمعارضة مع الأصل النافي لحرمة الفرد الآخر بعد رفع الاضطرار.

نعم، بناءً على علّيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة يكون العلم الإجماليّ المذكور في (إنْ قلت) منجّزاً، إلّا إذا قبلنا بانحلال هذا العلم الإجماليّ بتنجّز أحد طرفيه، وهو الفرد الأوّل بعلمه الإجمالي بلحاظ الآن الأوّل بحرمة أحد الطرفين.

 


(1) أمـّا الترخيص في واقع الفرد الأوّل المجهول عندي فلا أثر له.

ولعلّ الأولى في مقام الجواب الاكتفاء بهذا؛ لأنّ دليل البراءة إنـّما يدلّ على الترخيص في واقع المخالفة للفرد، لا في المخالفة القطعيّة للفرد.

211

 

 

 

خروج بعض الأطراف عن الابتلاء

 

التنبيه العاشر: في فرض خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء قبل العلم أو مقارناً له، لا بمعنى الخروج عن تحت القدرة نهائيّاً الذي ظهر حاله في ذيل تنبيه الاضطرار، بل بمعنى كون عدم الارتكاب من قبل المكلّف مضموناً بحسب الطبع الأوّليّ للمطلب، وبقطع النظر عن جهات اُخرى بما فيها الجهات المولويّة، وذلك يكون لأحد أمرين:

الأوّل: أنْ يوجد في قدرة العبد عليه خفاء ناشىء من صعوبته الناشئة من كثرة مقدّماته الطويلة العسرة، فكأنـّه يتراءى للنظر العرفيّ أنـّه غيرُ قادر عليه، فالرجل العادي الذي يزارع مثلاً يتراءى أنـّه غير قادر على نيل الحكومة، والاُمور المرتبطة بمقاماتها رغم أنـّه قد يكون عقلاً قادراً على ذلك.

والثاني: أنْ يفترض عدم الخفاء في القدرة عليه، لكنّه ممّا يتنفّر الإنسان منه بطبعه، وذلك من قبيل أكل الخبائث.

وتختلف كلمات الأصحاب في ظهورها في إرادة أيّ قسم من هذين القسمين، فالمحقّق العراقيّ (رحمه الله) يريد من الخروج عن محلّ الابتلاء القسم الأوّل (1) . ولكنّ كلمات المحقق النائيني (قدس سره) (2) وفاقاً لكلمات الشيخ الأعظم (رحمه الله) (3) تلائم التعميم، وإرادة جامع الخروج عن محلّ الابتلاء بكلا قسميه.

والأصحاب ربطوا هذا البحث بمسألة اُخرى، وهي: أنـّه هل يكون التكليف مشروطاً بالدخول في محلّ الابتلاء، أو لا؟ فمَنْ قال باشتراطه بذلك اختار في المقام


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 92. ونهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص338 و 349.

(2) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 22. وأمـّا أجود التقريرات: ج 2، ص 255 ـ 256 فصريح في تخصيص المسألة بعدم القدرة العاديّة.

(3) راجع الرسائل: ص 251 حسب الطبعة المشتملة على تعليق رحمة الله.

212

عدم التنجيز، ومَنْ قال بعدم اشتراطه بذلك اختار هنا التنجيز، ومن هنا تركّز البحث والنقاش في أنّ التكليف هل يكون مشروطاً بالدخول في محلّ الابتلاء، أو لا؟ فالمشهور اختاروا عدم التنجيز؛ لاشتراط التكليف عندهم بذلك، والسيّد الاُستاذ أنكر اشتراط التكليف بذلك، فأثبت التنجيز في المقام(1) .

والصحيح أنـّه لا علاقة بين المسألتين، وأنّ التنجيز في المقام يدور وجوداً وعدماً مدار نكتة اُخرى، فعلى بعض التقادير يكون العلم الإجماليّ منجّزاً، سواء قلنا باشتراط التكليف بالدخول في محلّ الابتلاء أو لا، وعلى بعض التقادير لا يكون منجّزاً مطلقاً، والمختار هو عدم التنجيز، وعدم اشتراط التكليف بالدخول في محلّ الابتلاء، فالمشهور أصابوا في القول بعدم التنجيز، ولكنّهم أخطأوا في القول باشتراط التكليف بالدخول في محلّ الابتلاء، وجعل ذلك مدركاً للقول بعدم التنجيز، الأمر الذي أدّى بالسيّد الاُستاذ إلى القول بالتنجيز في المقام، حيث رأى عدم اشتراط التكليف بالدخول في محلّ الابتلاء.

وتفصيل الكلام في ذلك: أنّ دخل وصف الدخول في محلّ الابتلاء يتصوّر فى مقامات أربعة:

الأوّل: الملاك.

والثاني: الخطاب بعد فرض الفراغ عن عدم دخله في الملاك.

والثالث: التنجيز بوقوعه طرفاً للعلم الإجماليّ، أو بتعلّق العلم التفصيليّ به بعد فرض الفراغ عن عدم دخله في الملاك والخطاب، أو في خصوص الملاك.

والرابع: المورديّة للأصل المؤمّن الشرعيّ بعد فرض الفراغ عن ثبوت الملاك والخطاب أو الملاك وحده مع قابلية التنجيز عقلاً. فإنْ قلنا بمورديّة هذا الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء للأصل المؤمّن الشرعيّ كان الأصل في الطرف الآخر الداخل في محلّ الابتلاء مبتلىً بالمعارض، فيتساقط الأصلان ويتمّ التنجيز، وإلّا جرى الأصل المؤمّن في الطرف الداخل في محلّ الابتلاء بلا معارض.

أمـّا المقام الأوّل: فالصحيح أنّ وصف الدخول في محلّ الابتلاء يستحيل دخله في الملاك، وليس من قبيل وصف القدرة الذي يمكن عقلاً دخله في الملاك بان ينتفي الملاك عند عدم القدرة، وضرورة صدور الفعل، أو استحالته. والفرق


(1) راجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 395 ـ 396. والدراسات: ج 3، ص 254 ـ 255.

213

بينهما أنّ القدرة تحصّص الفعل(1) المتحقق من العبد إلى حصتين: الحصّة الناشئة بلا قدرة، كحركة يد المشلول القهرية، والحصة الناشئة عن القدرة كحركة يد الانسان السالم الاختيارية، فمن المعقول أنْ تكون الحصةُ الاُولى ذات مفسدة، دون الحصة الثانية. وأمـّا وصف الدخول في محلّ الابتلاء فلا يحصّص فعل العبد إلى حصتين، حتى يفرض أنّ إحداهما مشتملة على المفسدة، والاُخرى غير مشتملة عليها، إذ فرض تحقق الفعل مساوق لفرض دخوله في محلّ الابتلاء، لأنّ خروجه عنه عبارة عن عدم ترقّب وقوعه من العبد، وفرض وقوعه مساوق لفرض ترقب وقوعه بتحمل الصعاب، أو بعدم تنفر النفس من الخبائث مثلا، أو باجبار النفس على الاقدام على ما تتنفر منه، ونحو ذلك(2).

 


(1) قد تقول: إنّ القدرة أو عدمها ـ بمعنى ضرورة صدور الفعل ـ هي التي تحصّص الفعل إلى حصّتين: حصّة تصدر عن اختيار، وحصّة تصدر بلا اختيار. أمّا القدرة في مقابل العجز عن الفعل، واستحالة صدور الفعل، فلا تحصّص الفعل إلى حصّتين، فبناءً على استحالة دخل الدخول في محلّ الابتلاء في الملاك يستحيل أيضاً دخل العجز التكويني عن الفعل في الملاك.

والجواب: أنّ ذات القدرة، التي ليس لها إلّا معنى واحد ـ وهي السلطنة على الفعل والترك معاً ـ تحصص الفعل بوجودها وعدمها إلى حصتين: فعل مقترن بالقدرة، وفعل مقترن بعدمها، ومعنى دخل القدرة في الملاك: انّ حاجة المولى لا تتقوّم بخصوص الترك مثلاً، بل تتقوّم بالجامع بين عدم القدرة والترك، فمع فرض حصول عدم القدرة ترتفع الحاجة إلى الترك، فعدم القدرة وإن كان قد يتجسّد في العجز عن الفعل وضرورة الترك، لكنّ معنى دخل القدرة في الملاك: أنّ المولى لم يكن بحاجة إلى هذا الترك ما دامت القدرة مفقودة، لأنّ عدم القدرة أشبع حاجة المولى، فلو كان ينتفي الترك فرضاً رغم عدم القدرة لم يكن يضرّ ذلك بالمولى شيئاً، وفرض انتفاء التركِ لا يساوق فرض القدرة، إذ أنّ انتفاء الترك له مصداقان: فقد يتجسّد بالفعل عن قدرة، وقد يتجسّد بالفعل لا عن قدرة، وهذا بخلاف الخروج عن محلّ الابتلاء، مع ثبوت القدرة، فإنّ انتفاء الترك هنا مساوق للدخول في محلّ الابتلاء، فلا يمكن أنْ يقال: إنّ الخروج عن محلّ الابتلاء أشبع حاجة المولى، إلّا بمعنى أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء ضمن الترك للمولى، أمّا اشباعه لحاجة المولى، بمعنى أنـّه لا يهمه صدور الفعل، وانتفاء الترك، فلا معنى له، لأنّ صدور الفعل أو انتفاء الترك يستبطن في احشائه عدم الخروج عن محلّ الابتلاء.

(2)قد تقول: إنّ هذا الكلام إنّما يأتي فيما إذا فرضت المفسدة في الفعل، فعندئذ لايعقل كون الدخول في محلّ الابتلاء دخيلاً في الملاك، لأنّه لايحصص الفعل إلى حصتين، أمّا إذا افترضت المصلحة في الترك، فمن الواضح أنّ دخول الفعل في محلّ الابتلاء يحصص الترك إلى حصتين:

214

وأما المقام الثاني ـ هو دخل وصف الدخول في محلّ الابتلاء في الخطاب وعدمه فالواقع أنّ هذا غير مربوط بغرض الاُصولي أصلاً؛ لأنّ ما يستهدفه الاُصوليّ من هذا البحث إنْ كان هو كشف الملاك وعدمه، حيث إنّ الخطاب لو ثبت كشفَ عن الملاك، وإلّا فلا دليل على الملاك، فهذا لا موقع له بعد ما عرفنا في المقام الأوّل من استحالة دخل هذا الوصف في الملاك، فالملاك ثابت على كلّ حال، وإنْ كان هو بيان عدم قابلية الخارج عن محل الابتلاء للتنجّز، لأنّ العلم بالملاك وحده لا يوجب التنجيز، ويشترط في التنجيز ثبوت الخطاب، ورد عليه: إنّ هذا إنـّما يتمّ حينما يكون انتفاء الخطاب من باب قصور الملاك عن تحريك المولى نحو الخطاب، فإنّ المطلوب من العبد عقلاً، والمنجَّز عليه ليس هو الاهتمام العملي باغراض المولى، أكثر من اهتمام المولى نفسه بانجاز مقاصده عن طريق الخطاب والتشريع، أمـّا إذا كان انتفاء الخطاب لمانع خارجي، كعدم القدرة على التكلّم أو استهجان الخطاب، كما يُدّعى فيما نحن فيه، في حين أنّ الملاك في ذاته لا قصور فيه، فهنا يحكم العقل


حصة ناشئة عن اختيار الترك، رغم سهولة الفعل على العبد، وحصة مقترنة بصعوبة الفعل على العبد، ويمكن افتراض اختصاص المصلحة بخصوص الحصة الاُولى.

والجواب: أنّه إنْ قُصد بافتراض اختصاص المصلحة بخصوص الترك المقترن بسهولة الفعل كون هذا القيد من قبيل قيد الواجب، بحيث يجب على العبد أنْ يسعى في سبيل إدخال ماهو خارج عن محلّ ابتلائه في محلّ ابتلائه، ثم يتركه، فهذا أمر معقول، ولكنْ ليس هذا هو المفروض في المقام.

أما إذا فرض أنّه ليس المطلوب إدخاله في محلّ الابتلاء، وأنّ المصلحة إنّما هي في جامع الترك، فلا يعقل افتراض كون الدخول في محلّ الابتلاء دخيلاً في الملاك؛ لأنّ هذا يعني أنّ حاجة المولى ليست في خصوص الترك، بل في الجامع بين الخروج عن محلّ الابتلاء والترك، فالخروج عن محلّ الابتلاء أشبع حاجة المولى، فلا يهمّه ـ عندئذ ـ التركُ أو إنهاء الترك.

وهذا ـ كما ترى ـ لامعنى له؛ فإنّ الخروج عن محلّ الابتلاء إنّما يشبع حاجة المولى بمعنى ضمانة للترك، لابمعنى كونه بديلاً عن الترك، بحيث لايغيظ المولى كسر الترك، فإنّ كسر الترك يتضمّن في احشائه معنى الدخول في محلّ الابتلاء، وإنْ شئت فقل: إنّ اختصاص المصلحة بخصوص الترك المقترن بدخول الفعل في محلّ الابتلاء، إنْ كان بمعنى وجوب إدخاله في محلّ الابتلاء فهو خلف المفروض، وإنْ كان بمعنى تضييق في الوجوب، لافي الواجب، فهذا التضييق لابُدّ أنْ يؤدّي إلى تحصيص في الضد العام المبغوض أيضاً؛ لأنّ تضييق الوجوب يضيّق ـ لامحالة ـ حرمة الضدّ العامّ، والضدّ العامّ للترك ـ وهو الفعل ـ لايقبل التحصيص إلى حصتين، بالدخول في محلّ الابتلاء والخروج عنه كما عرفت.

215

بوجوب الامتثال. إذن فدخل وصف الدخول في محلّ الابتلاء في الخطاب وعدمه غير مرتبط بغرض الاُصولي أصلاً.

نعم، يبقى أن نتكلّم في هذا الأمر في ذاته، وهذا ما سنبحثه بعد الانتهاء عن المقامات الأربعة.

وأمـّا المقام الثالث: وهو دخل وصف الدخول في محلّ الابتلاء في قبوله للتنجز وعدمه ـ فالصحيح أنّ دخله في ذلك محال، بمثل ما مضى من برهان استحالة دخله في الملاك، بيان ذلك: أنّ التنجّز معناه حكم العقل باستحقاق العبد للعقاب على المخالفة، والوجه في هذا الحكم هو دخول تلك المخالفة في دائرة حقّ المولى المقتضي لتركها، فإذا كان الشيء محصّصاً للمخالفة كالعلم، أمكن أنْ يقال: إنّ هذه الحصّة من المخالفة يكون من حقّ المولى تركها، والحصة الاُخرى لا يكون من حقّ المولى تركها، فيقال: إنّ المخالفة المقترنة بالعلم داخلة في دائرة حقّ المولويّة الموجب للترك، ولكنّ المخالفة غير المقترنة بالعلم ليست داخلة في تلك الدائرة، وفيما نحن فيه لا توجد لدينا حصّتان من المخالفة إحداهما المخالفة مع الدخول في محلّ الابتلاء، والاُخرى المخالفة مع الخروج عن محلّ الابتلاء، حتّى يقال: إنّ ما يستحق المولى تركه إنـّما هو القسم الأوّل لا الثاني.

وأمـّا المقام الرابع: وهو كون الدخول في محلّ الابتلاء دخيلاً في مورديّة الشيء للأصل المؤمّن الشرعي وعدمه ـ فالصحيح هو دخله في ذلك، وانصراف أدلّة الاُصول عمّا هو خارج عن محلّ الابتلاء، وذلك بارتكاز العقلاء.

توضيح ذلك: أنّ الذي يفهم عرفاً من أدلّة الأحكام الظاهريّة هو ما مضى منّا من أنـّها تكون في مقام بيان شدّة الاهتمام وعدمها بالأغراض الواقعيّة لدى تزاحم الأغرض الإلزاميّة والترخيصيّة، أعني: مصلحة كون المكلّف في سعة وحرّية فى تصرفه، ففي مورد لا يتعقّل العرف التزاحم تنصرف عنه أدلّة الاُصول، ولهذا قلنا: إنّ أدلّة الاُصول لا يدلّ شيء منها على إجراء الأصل في تمام أطراف العلم الإجمالي؛ لأنّ العرف لا يتعقّل قابلية الغرض الترخيصي لمزاحمة الغرض الإلزامي المعلوم بالإجمال، فلا نجري الأصل في أطراف العلم الإجمالي بالرغم من أنـّنا لا نرى استحالة الترخيص في تمام أطراف العلم الإجماليّ، ونقول فيما نحن فيه أيضاً: إنّ دليل الأصل لا يشمل الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء؛ لأنـّه لا يتعقّل العرف تزاحم الغرض الإلزامي والغرض الترخيصي فيه، فالتزاحم وإنْ كان معقولاً في المقام بحسب التدقيق العقلي بين الغرضين؛ إذْ لو رخّص المولى فى شرب الإناء المحتمل

216

نجاسته، الذي هو في آخر الصين، ويكون العبد قادراً عقلاً على تحصيله، فهو بالدقّة العقليّة قد فتح باباً لتفويت الغرض اللزومي، وإن أوجب الاحتياط بالنسبة له، فهو بالدقّة العقليّة ضيّق على العبد، لكنّ هذا التزاحم الدقّي العقلي غير مفهوم عند العرف، فالعرف يرى أنّ الغرض الإلزامي في نفسه مضمون الحصول، وانّ مصلحة كون العبد في سعة لا تفوت بعدم الترخيص في ارتكاب هذا الإناء، ولا يحصل من ذلك أيُّ ضيق على العبد، ومن هنا يصبح دليل الأصل منصرفاً عن الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء(1) فيجري الأصل في الطرف الآخر


(1) قد تقول: إنّ تخصيص الترخيص في المخالفة بفرض كون المخالفة داخلة في محلّ الابتلاء غير معقول؛ لأنّ الدخول في محلّ الابتلاء لا يحصّص المخالفة إلى حصّتين كي يرخّص في أحداهما، وهذا سنخ ما قاله اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) من أنّ شرطيّة الدخول في محلّ الابتلاء في تنجيز حرمة المخالفة غير معقول؛ لأنـّه لا يحصّص المخالفة إلى حصّتين، أو أنّ دخله في وجود الملاك في الفعل غير معقول؛ لأنـّه لا يحصّص الفعل إلى حصّتين.

والجواب عن ذلك هو: أنّ متعلّق التنجيز هو ذات المخالفة، ولا يمكن فرض ضيق فيه إلّا بضيق متعلّقه، فلا يمكن فرض اختصاص التنجيز بصورة الدخول في محلّ الابتلاء، إلّا بتحصيص المخالفة، وكذلك متعلّق الملاك يفترض ذات الفعل، ولا يمكن فرض ضيق فيه إلّا بضيق متعلّقه، فلا يتعقّل فرض اختصاصه بصورة الدخول في محلّ الابتلاء، إلّا بتحصيص الفعل. وأمّا الترخيص الشرعي فهو أمر يكون قوامه بجعل الشارع، وهو أمر اختياري للشارع، وتخصيصه بفرض الدخول في محلّ الابتلاء لا يتوقّف على تحصيص الفعل أو المخالفة؛ لإمكان تضييق الجعل مباشرة من دون تقييد المتعلّق، وذلك بأنْ يجعل الترخيص مشروطاً بالدخول في محلّ الابتلاء، لا أنْ يجعل الترخيص مخصوصاً بالحصّة الداخلة في محلّ الابتلاء. نعم، حينما يكون المتعلّق قابلاً للتحصيص فتضييق الجعل يؤدّي لا محالة إلى تحصيص المتعلّق، فلو قيّد الجعل وجوب الصلاة بزوال الشمس أصبح الواجب ـ لا محالة ـ هي تلك الصلاة المقترنة بتحقّق زوال الشمس، لكنّ المفروض فيما نحن فيه أنّ المتعلّق غير قابل للتحصيص. وبكلمة اُخرى: أنّ الترخيص لم يكن نابعاً من ضعف في ذات الملاك الإلزامي الموجود في المتعلّق، كي يقال: إنّ ذلك لا يعقّل إلّا في فرض تحصّص المتعلّق إلى حصّتين، حتى يمكن تصوير ضعف الملاك في إحداهما، وإنـّما كان نابعاً من التزاحم الحفظي بين الملاكين، فانصرف إلى ما إذا كان هذا التزاحم ملحوظاً عرفاً، وهو في فرض الدخول في محلّ الابتلاء.

وقد تقول: لا شكّ في أنـّه لو أراد شرب ما كان خارجاً عن محلّ ابتلائه جاز له ذلك، بقطع النظر عن الأصل المعارض، وذلك لأنّ إرادته لذلك تساوق دخوله في محلّ ابتلائه، وهذا يعني

217


أنّ الترخيص ثابت له بالفعل وقبل الإرادة، لأنّ الترخيص كسائر الأحكام التكليفية لا يعقل تقييده بالإرادة، فإنّ الأحكام إنـّما جعلت لكي تكون موجّهة للإرادة، ولا معنى لتخصيصها بالإرادة.

والجواب: أنـّه ليس المفروض تخصيص الترخيص بالإرادة، وإنـّما المفروض اختصاصه بذاك الجوّ النفسي الذي يترقّب فيه حصول الإرادة، فيأتي حكم الشرع في فرض ذاك الجوّ، لكي يوجّه الإرادة بالمنع أو الترخيص، فيقول: إنْ دخل في محلّ ابتلائك جاز لك فعله، أو حرم عليك فعله، ولا عيب في تصوير الحكم بهذا الشكل.

وقد تقول: لئن فرضنا انصراف دليل الأصل عن الفرد الخارج عن محلّ الابتلاء لزم القول بانصراف دليل الأمارة أيضاً عنه؛ لأنّ حُجّية الأمارة ـ أيضاً ـ كحجّية الأصل قائمة على أساس التزاحم الحفظي، فهل تلتزمون بذلك؟ وإذا تعارضت بيّنة الطهارة في الإناء الخارج عن محلّ الابتلاء مع بيّنة الطهارة في الإناء الداخل في محلّ الابتلاء لدى العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما، فهل تقولون بحجّيّة البيّنة الثانية بلا معارض؟!

والجواب: أنـّه لا بأس بالالتزام بعدم حجّيّة البيّنة الاُولى في مدلولها المطابقي بنفس النكتة التي قلنا بعدم حُجّيّة الأصل في الخارج عن محلّ الابتلاء، ولكن إذا دلّت بالالتزام على نجاسة الإناء الآخر أصبحت طرفاً للمعارضة مع بيّنة طهارة ذاك الإناء على أساس التكاذب، وتساقطتا.

ولا يأتي هنا إشكال تبعية الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة، فإنّ هذا الإشكال إنـّما يكون فيما إذا كان عدم الحجّيّة بلحاظ نقص فيه، كالابتلاء بالمعارض مثلاً، لا بلحاظ عدم وجود أثر في المتعلّق، فلو دلّت الأمارة على أنّ عدد السماوات سبع، وكان ذلك ملازماً لحكم شرعي، فهي حُجّة في إثبات الحكم الشرعي، وإن لم تكن حجّة في إثبات عدد السماوات، لعدم الأثر.

نعم، لو لم تتم هذه الدلالة الالتزامية لكون العلم الإجمالي قائماً على أساس حساب الاحتمالات، مع فرض عدم إخلال مقدار الكشف الفعلي لأمارة الطهارة بذاك الحساب المولّد للعلم الإجمالي، فلا بأس بالقول بحجّيّة البيّنة القائمة على طهارة الإناء الداخل في محلّ الابتلاء.

هذا غاية ما أمكننا توجيه كلام اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) به في المقام، من القول باختصاص الترخيص بفرض الدخول في محلّ الابتلاء.

ولكنّ الإنصاف أنّ اختصاص الترخيص بفرض الدخول في محلّ الابتلاء مع عدم تحصّص المخالفة ـ بواسطة الدخول في محلّ الابتلاء، والخروج عنه ـ إلى حصّتين غير معقول، وما مضى منّا من فرض تضييق الجعل، رغم عدم تحصّص المتعلّق لا معنى له، فإنّ تضييق الجعل لا يتصوّر إلّا بأحد معنيين:

218


الأوّل ـ تخصيصه بحصّة خاصّة من المتعلّق، وهذا رجوع إلى فرض تحصّص المتعلّق، وهو خُلْفٌ.

والثاني ـ ترك الجعل لدى الخروج عن محلّ الابتلاء، وإيجاده لدى الدخول في محلّ الابتلاء، وهذا أمر معقول، فالجعل رغم أنـّه لم يتضيّق بلحاظ مساحة معروضه، لكنّه تضيّق بالتقطيع الزمني، فهو غير موجود في زمان الخروج عن محلّ الابتلاء، وموجود في زمان الدخول في محلّ الابتلاء. لكن هذا خلف تماميّة الشريعة والجعول منذ زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالجعل بهذا المعنى ثابت قبل وجودنا، وقبل دخول الاُمور في محلّ الابتلاء.

ولو مشينا على مصطلح الجعل والمجعول، ومبنى التفكيك بينهما، قلنا: إنّ تضييق المجعول لا يُعقل إلّا بأخذ قيد في متعلّقه، وهو خلف فرض عدم تحصّص المتعلّق، وتضييق الجعل مع عدم تقييد المجعول لا يعقل إلّا بمعنى ترك الجعل في فترة من الزمن، والمفروض ثبوت الجعل منذ تماميّة الشريعة.

وإلى هنا ننتهي إلى نتيجة: أنّ الأصلين يتعارضان ويتساقطان، رغم خروج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء.

ولكنّ الصحيح ـ رغم كلّ ما ذكرناه ـ جريان الأصل في الطرف الداخل في محلّ الابتلاء، بناءً على أنّ تساقط الأصلين إنـّما هو لأجل الارتكاز العقلائي، لا لأجل محذور عقلي في الجمع بينهما.

وتوضيح ذلك: أنّ الجمع بين الترخيصين لا يضرّ في الفهم العرفي بالغرض الإلزامي للمولى بأكثر من فرض اختصاص الترخيص ببعض الأطراف، أي أنّ الجمع بين الترخيصين لا يؤدّي إلى معرّضيّة الغرض الإلزامي للفوت القطعي؛ لأنـّه من المضمون عدم ارتكاب المخالفة في الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء.

فإلى هنا نصل إلى أنـّه لا مانع لدى العرف والعقلاء من إجراء كلا الأصلين مشروطاً بخروج الإناء الأبيض مثلاً عن محلّ الابتلاء، إلّا أنـّنا نقول: إنّ مشروطيّة الترخيص في الإناء الأسود مثلاً بخروج الإناء الأبيض عن محلّ الابتلاء أمرٌ معقولٌ، ولكنّ مشروطيّة الترخيص في الإناء الأبيض بخروجه عن محل الابتلاء غير معقول؛ لأنّ خروجه عن محلّ الابتلاء لا يحصّص شربه إلى حصّتين كما عرفت، وإن كان يحصّص شرب الإناء الآخر إلى حصّتين: حصة مقارنة بخروج الأبيض عن محلّ الابتلاء، وحصة مقارنة بدخوله في محلّ الابتلاء. فالنتيجة هي: أنّ الترخيص في الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء يسقط، وفي الطرف الداخل في محلّ الابتلاء يبقى على حاله.

وبكلمة اُخرى: أنّ الترخيص في الإناء الأسود مشروطاً بخروج الأبيض عن محلّ الابتلاء

219

بلا معارض (1).

 


لا معارض له؛ لأنـّه حتّى لو فرض جريان الأصل في الإناء الأبيض تلزمُ من الجمع بينهما مخالفة الارتكاز؛ لمضمونيّة عدم حصول المخالفة القطعيّة، على أساس مشروطيّة الأصل في الإناء الأسود بخروج الأبيض عن محلّ الابتلاء، ولكنّ الترخيص في الإناء الأبيض غير جار، لا مطلقاً ولا مشروطاً بخروجه عن محلّ الابتلاء. أمّا الثاني؛ فلعدم معقولية هذا الشرط؛ لعدم التحصيص. وأمـّا الأوّل؛ فلأنّ الترخيص المطلق في الإناء الأبيض يعارض الترخيص المطلق في الإناء الأسود. نعم، الترخيص في الإناء الابيض أيضاً جار مشروطاً بخروج الأسود عن محلّ الابتلاء.

والخلاصة: أنّ الترخيص في كلٍّ منهما جار مشروطاً بخروج الآخر عن محلّ الابتلاء، وهذا أمرٌ معقول؛ لأنّ خروج أحدهما عن محلّ الابتلاء وعدمه يحصّص شرب الآخر إلى حصتين: حصّة مقارنة لخروج الأوّل عن محلّ الابتلاء، وحصّة مقارنة لعدم خروجه. وهذان الترخيصان المشروطان لا يؤدّيان إلى معرّضيّة الغرض الإلزامي للفوت القطعي، كي يصطدما بالارتكاز المانع عن ذلك.

ولا يرد على هذا ما سبق إيراده على شبهة المحقّق العراقي، وهي شبهة التنجيز القائلة بأنـّه لو قيّد إطلاق الأصل في كلّ من الطرفين بفرض ترك الآخر لم تلزم مخالفة قطعيّة، حيث سبق الإيراد على ذلك بأنّ هذا يؤدّي بحسب المدلول التصديقي الجدّي إلى الترخيص في الجامع، لا إلى ترخيصين مشروطين، وهذه مؤونة زائدة، ففي المقام ليس الأمر كذلك، وإنـّما هما ترخيصان مشروطان .

(1) وقد اتّضح بهذا العرض أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء يستحيل تأثيره على الملاك، وكذلك يستحيل تأثيره على التنجيز العقلي، ولكنّه يؤثّر ـ حسب رأي اُستاذنا الشهيد ـ على الدخول في إطلاق التأمين الشرعي.

وأمـّا الخروج عن تحت القدرة، فقد عرفت إمكان تأثيره على الملاك، كما أنّ بالإمكان عدم تأثيره عليه.

فلو فرض عدم تأثيره على الملاك، بأن كان الملاك ثابتاً حتى مع العجز، فهل يؤثّر على التنجيز، أو لا؟

التحقيق في ذلك: أنّ عدم القدرة إنْ كان بمعنى العجز عن الامتثال، فمن البديهي تأثيره على التنجيز، فالملاك الذي يعجز العبد عن تحقيقه لا يتنجّز عليه، وكذلك الخطاب الصادر من مولىً جاهل بعجز العبد لا يتنجّز على العبد العاجز عن العمل به، والعجز عن الامتثال يحصّص المخالفة إلى حصّتين: وهي الحصّة المقارنة للاضطرار، والحصّة المقارنة للاختيار، والثانية هي التي تدخل تحت دائرة حقّ المولوية دون الاُولى.

220


وإن كان بمعنى العجز عن المعصية لم يعقل تاثيره على التنجيز؛ لأنّ القبيح لا يسقط قبحه بالعجز عنه، فضرب اليتيم قبيح ولو عجزنا عنه، ومخالفةُ الملاكِ الملزم، أو الخطاب الذي صدر من مولى كان جاهلاً بعجز العبد عن المخالفة قبيحةٌ، حتّى مع عجزنا عنها.

وبكلمة اُخرى: أنّ تأثير عدم القدرة في فرض العجز عن الامتثال على التنجيز كان بمعنى خروج حصّة خاصّة من المخالفة، وهي المخالفة الاضطرارية، من دائرة مولويّة المولى، فالمخالفة الاختيارية هي الداخلة فحسب في دائرة مولويّة المولى، دون الاضطراريّة، ولا توجد حصّة ثالثة يفسّر بخروجها عن دائرة المولويّة تأثير عدم القدرة في التنجيز في فرض العجز عن المعصية، فإنّ العاجز عن المعصية لا يتصوّر صدور مخالفة عنه، كي يقال: إنّ تلك المخالفة خرجت عن دائرة حقّ المولويّة.

وبكلمة ثالثة: أنّ هناك فرقاً كبيراً بين تأثير العجز عن المخالفة على الملاك، وتأثيره على التنجيز، بعد فرض ثبوت الملاك، فالأوّل معقولٌ، والثاني غير معقول. والفرق بينهما هو: أنّ العجز عن المخالفة وإنْ لم يخلق حصّة ثالثة للمخالفة غير الاختيارية والاضطرارية، لكنّ معنى تأثيره على الملاك أنّ نفس عدم القدرة كان مشبعاً لحاجة المولى، لا من باب صيرورة عدم المخالفة مضموناً، بل من باب أنّ حاجة المولى كانت متعلّقة بالجامع بين عدم القدرة والفعل، فإذا تحقق عدم القدرة اشبعت حاجة المولى، فانتفى الملاك، ولم يكن فرض الفعل يستبطن في أحشائه فرض القدرة؛ لإمكان تصوّر الفعل الاضطراري، وأمّا في باب التنجيز فليس الكلام في حاجة قد تشبع بنفس عدم القدرة، فلا يبقى معنى لتأثير عدم القدرة لدى العجز عن المخالفة في رفع التنجيز، عدا فرض حصّة ثالثة للمخالفة تخرج عن دائرة مولوية المولى، ولا توجد حصّة ثالثة للمخالفة.

فإنْ قلت: إنّ التنجيز ينتفي بالعجز عن المعصية؛ لأنّ التنجيز عبارة عن انشغال عهدة المكلف عقلاً بشيء، وحينما يكون المكلّف منساقاً إلى الموافقة من دون اختياره، لا معنى لانشغال عهدته بشيء.

قلت: إنْ قصد بانشغال العهدة مُجرّد أمر اعتباريّ ووهميّ، فلا قيمة له. وإنْ قصد به ثبوت حقّ المولويّة، فالعجزُ عن مخالفة الحقّ لا يخرج شيئاً عن دائرة حقّ المولويّة، لعدم خلق حصّة ثالثة للمخالفة. أو قل: إنّ العجز عن القبيح لا ينهي قبح القبيح.

ثم إنّ العجز عن المعصية حينما لا يؤثّر على الملاك، ولا على التنجيز لا إشكال في أنـّه يؤثّر على انحلال العلم الإجمالي انحلالاً حكميّاً، فإنّ خروج أحد الطرفين عن قدرة الارتكاب نهائيّاً، يوجب جريان الأصل في الطرف الآخر بنحو ما عرفت في الخروج عن محلّ الابتلاء، سواء آمنّا بما قاله اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) من أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء يوجب انصراف دليل

221

وأظنّ أنّ هذه النكتة كانت موجودة ارتكازاً أو إجمالاً في اذهان العلماء (قدس الله اسرارهم ) ورأوا بارتكازهم العرفيّ أنّ دليل الأصل شامل للجانب الداخل في محلّ الابتلاء من العلم الإجمالي، وأنـّه لا يعارضه الأصل في الطرف الآخر، أي: أنّ دليل الأصل لا يشمل ذات الطرف الآخر، إلّا أنـّهم لمّا حاولوا أنْ يفلسفوا الموقف ربطوا ذلك بمسألة كون التكليف مشروطاً بالدخول في محلّ الابتلاء وعدمه؛ إذ رأوا أنـّه مع فرض ثبوت التكليف حتّى في مورد الخروج عن محلّ الابتلاء يكون الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء أيضاً مورداً للتكليف، وموضوع الأصل عبارة عن احتمال التكليف وعدمه، وهذا الموضوع ثابت في المقام، فيتعارض الأصلان ويتساقطان، فصاروا بصدد بيان عدم ثبوت التكليف في موارد الخروج عن محلّ الابتلاء توجيهاً لعدم جريان الأصل في ذلك الطرف.

ونحن نجعل هذا الإجماع من قبلهم إلّا نادراً ـ من قبيل ما ذهب إليه السيّد الاُستاذ ـ مؤيّداً لما بيّناه، من الارتكاز العقلائي، فكأنـّه ناشىء من ارتكاز شمول دليل الأصل للطرف الداخل في محلّ الابتلاء، دون الطرف الآخر، ووقع الاشتباه في تفلسف المطلب.

وقد ظهر بما نقّحناه: أنـّه على تقدير قصر النظر على الاُصول العقليّة لا وجه لانحلال العلم الإجماليّ، ويكون حاله حال سائر العلوم الإجماليّة، وعلى تقدير الالتفات إلى الاُصول الشرعيّة ننتهي إلى الانحلال الحكمي، لاختصاص المؤمّن الشرعي بالطرف الداخل في محلّ الابتلاء.

بقي علينا ما وعدناه من البحث في اشتراط التكليف بالدخول في محلّ الابتلاء وعدمه، فنقول: ـ

إنّ بعض كلماتهم في مقام بيان وجه اشتراط التكليف بالدخول في محلّ


الترخيص من الخارج عن محلّ الابتلاء لضئالة التزاحم الموجود بين الغرضين، أو آمنّا بما قلناه من أنّ الترخيص فى الطرف الداخل في محلّ الابتلاء، بشرط خروج الطرف الآخر عن محلّ الابتلاء، لا يعارضه شيء؛ لضمان عدم المخالفة القطعيّة، فإنْ آمنّا بالثاني فهو يأتي في مورد العجز حرفاً بحرف. وإنْ آمنّا بالأوّل فهو يأتي في مورد العجز بأوضحَ منه في مورد الخروج عن محلّ الابتلاء؛ إذ في مورد الخروج عن محلّ الابتلاء، كان يقال: إنّ التزاحم الضئيل العقليّ الموجود لا يراه العرف لضئالته، فينصرف إطلاق دليل الترخيص عن مورده، في حين أنـّه في مورد العجز الكامل لا يوجد تزاحم، حتى بالمستوى الضئيل العقليّ.

222

الابتلاء يرجع بعد التحليل إلى الحديث عن ذات الخطاب بما هو كلام، وعبارة صادرة عن مولىً مقيّد بالآداب العرفية، والالتزامات العقلائيّة، من قبيل ما يقال: إنّ المولى إذا ذهب إلى شخص من الناس المستضعفين وقال له: لا تظلم الناس بجباية الضرائب بغير الوجه الشرعيّ، فالعقلاء يستهجنون هذا الكلام منه، ويستهزئون به، بسبب هذا الكلام(1) .

وهذا ـ كما ترى ـ يرجع إلى إشكال في نفس الخطاب بما هو عبارة صادرة من المتكلّم الملتزم بالجهات العرفية والعقلائية، ولذا ترى أنّ هذا الاستهجان ثابت ـ ولو بشكل أخفّ ـ فيما لو وجّه الخطاب إلى ذلك الانسان الضعيف، مشروطاً بشرط الدخول في محلّ الابتلاء، بأنْ قال: إذا أصبحت سلطاناً فلا تظلمْ الناسَ بجباية الضرائب، وذلك بوجود نفس نكتة الاستهجان فيه، بالرغم من كونه تكليفاً مشرطاً بالدخول في محلّ الابتلاء.

ولهذا ترى أيضاً أنّ هذا الاستهجان غير ثابت في الخطاب إذا كان بالعموم والإطلاق وإن شمل هذا الشخص، بأنْ يقول: لا يجوز أنْ يظلم أحدٌ أحداً بجباية الضرائب بغير وجه شرعيّ.

والخلاصة: أنّ هذا الإشكال قشريّ غير راجع إلى مدلول الخطاب، وينبغي غضّ النظر عنه، وعطف عنان الكلام إلى أنـّه هل يوجد وجه لاشتراط مدلول الخطاب بالدخول في محلّ الابتلاء، أو لا؟

فنقول: إنّ من المداليل التصديقية للخطاب ثبوت مبادىء الحكم من الملاك والحب والبغض، وقد ظهرت في المقام الأوّل استحالة دخل وصف الدخول في محلّ الابتلاء فيه، فهل يوجد هنا مدلول تصديقي آخر للخطاب كي يرى أنـّه هل هو مشروط بالدخول في محلّ الابتلاء، أو غير مشروط، أو لا يوجد شيء من هذا القبيل؟ الصحيح: أنّ هذا يختلف باختلاف المورد، والغالب في الأدلّة اللفظية وجود مدلول زائد على المبادىء، فليست الخطابات من قبيل مجرّد الأخبار عن ثبوت المبادىء، بل تدلّ على شيء آخر، وهو كون المولى في مقام التحريك المولوي، وخلق الباعث المولوي لمن تمّت بشأنه تلك المبادىء؛ ولذا نقول بعدم شمول الخطاب للعاجز، ومن هنا نقول بعدم معلوميّة ثبوت الملاك بشأن العاجز؛ لانتفاء


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 92، ونهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 338 ـ 339، وفوائد الاُصول: ج 4، ص 17 و 18.

223

الكاشف عنه، وهو الخطاب(1)، وعندئذ نقول: إنـّه توجد في كلماتهم (قدّس الله أسرارهم) في مقام بيان اشتراط التكليف بالدخول في محلّ الابتلاء ما يمكن حمله بالتحليل على هذا المدلول للخطاب، وذلك من قبيل ما يقال من اشكال اللغوية، فيقال مثلاً: إنّ المقصود من تحريك المولى للعبد هو أنْ يتحرك العبد نحو تحصيل المبادىء، فإذا كان تحرّكه نحو ذلك مضموناً بحسب طبع المطلب أصبح ذلك لغواً، وبلا فائدة، فهو عبث، والعبث لا يصدر من المولى؛ لقبحه مثلاً، فالإشكال هنا ليس عبارة عن القبح العقلائي، كما في التقريب الأوّل، بل هو عبارة عن المحذور العقلي بلحاظ لغويّة نفس مدلول الخطاب(2) .

والتحقيق: أنّ هذا التقريب غيرُ تامٍّ، فإنـّه لو اُريدت مجاراة هذا الطرز من التفكير، والمشي معه، للزم أنْ يقال بشرائط كثيرة في التكليف، دون خصوص شرط الدخول في محلّ الابتلاء، وذلك كأنْ يقال: إنـّما يحرم القتل على من بيده آلة القتل، لأنـّه ما لم تكن بيده آلة من آلات القتل يكون عدم القتل مضموناً، فيكفي في ردع الناس عن القتل تحريمه على من بيده آلة من آلاته، ويكون تحريمه على من ليست بيده لغواً وعبثاً؛ لأنّ القتل لا يكون إلّا بعد أخذها بيده مثلاً.

والواقع: أنّ هذا الطرز من التفكير ليس بصحيح لوجهين: ـ

الأوّل: أنّ هذا لو تمّ فإنـّما يتمّ في الخطاب الجزئي، كتوجيه الخطاب إلى شخص هذا المستضعف بقوله: لا تظلمْ الناس بجباية الصدقات؛ إذ هذا صرف جهد، وإيجاد فعل من دون فائدة وأثر، وهو لغوٌ وعبث، أمـّا لو كان ذلك بنحو الحكم العامّ، كما لو قال: يحرم الظلم بجباية الضرائب، فلا مورد فيه لهذا الإشكال، فإنّ إطلاق الكلام ليس مؤونة زائدة، وفعلاً زائداً صدر من المولى، حتى يقال: إنـّه لغوٌ وعبثٌ، لعدم ترتّب فائدة عليه.

والثاني: أنّ الغرض من التكاليف ـ كما نبّه عليه السيّد الاُستاد (3) في المقام ـ


(1) إنْ كان الملاك عبارة عن مصلحة فيما عجز عنه، لا عن مفسدة في نقيضه، استحال زوال الملاك بالعجز؛ لأنّ العجز عن شيء لا يحصّص ذلك الشيء إلى حصّتين، كي يفترض اختصاص الملاك بإحدى الحصتين.

(2) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 251، وراجع الكفاية: ج 2، ص 218 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق المشكيني.

(3) راجع الدراسات ج 3 ص 254، ومصباح الاُصول ج 2 ص 295 ـ 296.

224

ليس خصوص تحريك العبد نحو تحصيل المبادىء، بل يوجد هنا غرض آخر أيضاً، وهو أنْ يتمكّن العبد من التقرّب إلى مولاه، بكون عمله بداعي أمر المولى وطلبه، فتكمل بذلك روحيّاته ومعنويّاته، وقد ثبت في الفقه أنـّه تكفي في قصد القربة المحرّكيّة التامّة للداعي الإلهي في نفسه وإنْ انضمّ إليه صدفة داع آخر غير الرياء، فأصبح بالفعل كلّ منهما جزء العلة، وقد ورد في وصيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر: ( ليكن لك في كل شي نيّة حتّى في النوم والأكل )(1)

ويوجد في الكلمات تقريب آخر أيضاً في المقام، يذكر لبيان اشتراط التكليف بالدخول في محل الابتلاء (2) عن إشكال تحصيل الحاصل المحال عقلاً، لأنّ تحريك المولى للعبد الذي هو روح الحكم، مع فرض تحرّك العبد في نفسه، عبارة عن تحصيل الحاصل المحال.

ويرد عليه: ـ مضافاً إلى ما عرفته في الجواب الثاني من جوابي التقريب السابق، من عدم انحصار الغرض في مجرّد التحريك نحو تحصيل الملاك(3) ـ أنّ


(1) راجع البحار: ج77، ص82 0

(2) راجع الكفاية: ج2، ص 218 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني، أو نهاية الافكار: ج2، ص 252 0

(3)ينبغي أن يكون مقصود مَنْ يعترض بإشكال لزوم تحصيل الحاصل: أنّ خلق الداعي في نفس العبد الذي يكون المورد خارجاً عن محلّ ابتلائه محال؛ لأنّ تكوّن الداعي في نفسه بسبب التكليف تحصيل للحاصل، لا أن يكون مقصوده أنّ تكوّن داعي التحريك للعبد في نفس المولى تحصيل للحاصل، فهذا الإشكال ينبغي أن يختلف عن إشكال اللغويّة في أنّ إشكال اللغويّة كان ينصبّ ابتداءً على الداعي المتكوّن في نفس المولى لتحريك العبد، فيقال: هذا عبارة عن داعي العبث واللغو؛ لأنّ تحرّك العبد مضمون، وعندئذ كان من المعقول أنْ يجاب عنه بأنـّه قد لا يكون الداعي المتكوّن في نفس المولى عبارة عن داعي تحريك العبد، بل يكون عبارة عن داعي تمكين العبد من قصد القربة، أمّا إشكال تحصيل الحاصل، فينبغي أنْ ينصبّ أوّلاً على تكوّن الداعي في نفس العبد، فيقال: إنّ الداعي موجود في نفسه بطبعه، وداعويّة التكليف له تعني تحصيل الحاصل، فإذا استحالت داعويّة التكليف للعبد استحال تكوّن داعي التحريك في نفس المولى، فإذا كان هذا هو المقصود فهذا ـ كما ترى ـ لا يمكن الجواب عنه بأنّ المولى قد لا يقصد تحريك العبد، وإنـّما يقصد تمكينه من قصد القربة؛ إذ لو كانت داعويّة التكليف للعبد تحصيلاً للحاصل ومحالاً استحال تمكين العبد من قصد القربة، فإنّ قصد القربة يعني محرّكيّة

225

تحصيل الحاصل عبارة عن تحصيل أمر في طول حصوله، وهو المحال، والأمر فيما نحن فيه ليس كذلك، وإنـّما هو تحصيل في عرض تحصيل آخر، فيصبح كلّ منهما بالفعل جزءاً للعلّة، فالعبد يوجد له محرّك إلى ترك جباية الضرائب في نفسه، والمولى يوجد محرّكاً آخر لذلك في عرض المحرّك الأوّل، وهو تكليفه بذلك، ولا علاقة لهذا بباب تحصيل الحاصل.

هذا تمام الكلام في أصل مسألة الخروج عن محلّ الابتلاء. ولنكمل هذا البحث بذكر اُمور: ـ

 

الخروج عن الابتلاء في موارد الايجاب

 

الأمر الأوّل: أنّ المحقّق العراقي (رحمه الله) ذكر: أنّ التكليف التحريمي مشروط بعدم كون الفعل أجنبيّاً عن المكلّف، وفسّر الأجنبيّة ـ كما مضتِ الإشارةُ إليه ـ بكون الفعل متوقّفاً على مقدّمات طويلة وصعبة، بحيث يعدّ الفعل عرفاً وعادة خارجاً عن تحت القدرة، وذكر: أنـّه كما يشترط في التحريم عدم كون الفعل أجنبياً عن المكلّف، كذلك يشترط في الإيجاب عدم كون الفعل أجنبياً عن المكلّف، فكما لا يصحّ أنْ يقال للفقير المستضعف لا تأخذ الضرائب من الناس، كذلك لا يصحّ أمره بأخذ


التكليف وداعويّته، والمفروض استحالتها، والجواب ينحصر ببيان أنّ هذا ليس تحصيلاً للحاصل؛ لأنـّه تحصيل في عرض تحصيل آخر، وليس تحصيلاً في طول الحصول.

هذا كلّه إذا قلنا: إنّ الحكم عبارة عن داعي البعث والتصدّي له، أو قل: إرادة الفعل إرادة تشريعيّة، أمـّا إذا قلنا: إنّ الحكم بنفسه بعث كما يقوله المحقّق الأصفهانيّ (رحمه الله)(1): فينصبّ الإشكال ابتداءً على نفس الحكم، فيقال: إنـّه تحصيل للحاصل، ولكن عندئذ ـ أيضاً ـ لا يمكن الجواب عنه بأنّ هدف المولى تمكين العبد من قصد القربة، فإنّ أصل البعث يجب أنْ يصبح ممكناً حتّى يقال بعد ذلك: إنّ الهدف من هذا البعث هو تمكين العبد من قصد القربة، في حين أن صاحب الإشكال يقول: إنّ أصل البعث غير ممكن؛ لأنـّه تحصيل للحاصل، فينحصر ـ أيضاً ـ جوابه في القول بأنّ هذا تحصيل في عرض تحصيل آخر، وليس تحصيلاً في طول الحصول، كي يكون مستحيلاً.


(1) راجع نهاية الدراية: ج 2، ص 42 ـ 43.

226

الضرائب منهم، وكما يقبح الأوّل ويستهجن كذلك الحال في الثاني(1).

أقول: تارةً يفترض أنـّه حيث كان الفعل متوقّفاً على مقدّمات طويلة وصعبة، يحصل للإنسان الجزم بعدم قدرته على إحدى المقدّمات في ظرفها إجمالاً، فهذا ينبغي أنْ يفترض خارجاً عمّا نحن فيه، لأنـّه في الحقيقة رجوع إلى عدم القدرة العقليّة، غاية الأمر أنّ حصول القطع بعدم القدرة يكون هنا بملاك حساب الاحتمالات، فقد يحصل لأحد مثل هذا العلم الإجمالي بلحاظ كثرة المقدّمات وصعوبتها، وعندئذ يقطع بعدم القدرة عقلاً على الفعل، وسقوط التكليف بهذا السبب، واُخرى يفترض أنّ جميع المقدّمات على كثرتها وصعوبتها داخلة تحت القدرة عقلاً، بحيث لو عمل العبد في سبيل تحصيلها، حصل على المطلوب في نهاية الشوط، فهنا لا نسلّم عدم صحّة ايجاب ذلك عليه، فإنّ صحّة ذلك وعدمها تدور مدار مولويّة المولى في مثل هذا العمل، وثبوت حقّ الطاعة له على عبده، فإنْ فرض ثبوت حقّ الطاعة له على العبد حتّى في العمل المتوقّف على مقدّمات كثيرة بعيدة وصعبة، ما دام قادراً عليها، كما هو ثابت للمولى الحقيقي ـ جلّ شأنه ـ فله أنْ يأمر بذلك، وهو يأمر بذلك في فرض شدّة الاهتمام بالفرض، كما أمر نبيّنا (صلى الله عليه وآله)بنشر الدين، وفتح العالم، بالمقدار الذي صدر منه (صلى الله عليه وآله)، مع أنـّه في بداية الأمر لو تصوّر أحدٌ شخصاً اُمّيّاً، في جزيرة العرب يفكر في فتح العالم، وإذلال كسرى وقيصر، لاستهزأ به، وإنْ فرض عدم ثبوت مثل هذا الحقّ له لم يصحّ مثل هذا التكليف، من باب عدم المولويّة رغم القدرة، لا من باب عدم القدرة، وهذا هو الحال في المولويّات العرفيّة، فالأب مثلاً له مولويّة وحقّ الطاعة على الإبن في أمره بسقيه الماء، لكن ليست له المولويّة وحقّ الطاعة في عمل موقوف على مثل هذه المقدّمات الصعبة البعيدة المدى، فلا يصحّ منه أنْ يأمر ابنه بذلك، إلّا من باب الإرشاد والنصح، فلعلّ ملاحظة حال المولويّات العرفيّة أوجبت تخيل القبح والاستهجان على الإطلاق

 

الشكّ في الخروج عن الابتلاء

الأمر الثاني: إذا شكّ في بعض الأطراف في خروجه عن محلّ الابتلاء أو


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 339.

227

دخوله فيه، فهل العلم الإجماليّ يكون منجّزاً للطرف المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء، أو لا ـ بعد البناء على عدم التنجيز في فرض القطع بالخروج عن محلّ الابتلاء ـ؟ .

الصحيح: أنّ الأمر يختلفُ باختلافِ المباني في وجه سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز بخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء:

 

على المبنى المختار

فإن بنينا على المبنى المختار: من أنّ الوجه في جريان الأصل في الطرف الداخل في محلّ الابتلاء، هو سقوط الأصل في الطرف الآخر بالارتكاز ـ بالتقريب الذي عرفت ـ، فالصحيح هنا هو التفصيل بين عدّة فروض للشكّ في الخروج عن محلّ الابتلاء، فإنّ الشكّ في ذلك يمكن افتراضه بعدّة أنحاء: ـ

الأوّل: أنْ يكون الشكّ على أساس الشبهة المصداقيّة، كما لو شككنا في أنّ هذا الإناء هل هو موجود في مكان قريب يسهل تناوله، أو هو موجود في الصين ويصعب تناوله، بحيث يتمّ الانصراف العادي عنه، وفي هذا القسم يجري الأصل في الإناء المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء بلا معارض، لأنّ الأصل في الإناء الآخر غيرُ جار؛ لابتلاء الإطلاق فيه باحتمال القرينة المتّصلة، وهي الارتكاز؛ لأنّ ذاك الإناء لو كان خارجاً عن محلّ الابتلاء فهو خارج عن إطلاق دليل الأصل بالارتكاز، فما دمنا نحتمل خروجه عن محلّ الابتلاء إذن نحتمل خروجه عن الإطلاق بالقرينة الارتكازية كالمتّصل، واحتمال القرينة المتّصلة لا ينفى بالأصل، فإذا سقط هذا الأصل باحتمال القرينة المتّصلة جرى الأصل في الطرف الداخل في محلّ الابتلاء بلا معارض.

الثاني: أنْ يكون الشكّ مفهوميّاً، بمعنى أنّ ثبوت الارتكاز ونكتته وإنْ كان واضحاً لدى العرف وجوداً أو عدماً، ولكنّنا شككنا فيما هو فهم العرف في المقام، فلم نعرف أنّ هذا المقدار من البعد عن معرضيّة التناول هل يكفي في انتفاء فرض التزاحم بين الأغراض اللزوميّة والترخيصيّة لدى العرف، فيوجب ذلك عندهم انصراف دليل الأصل عن المورد أو لا ؟ وهذا يعني أنـّنا إذن نحتمل أنّ العرف يرى التعارض بين الأصلين في المقام ثابتاً، وبالتالي يرى دليل الأصل مُجملاً(1)، ومع


(1) هذا فيما إذا كان دليلُ الأصلين واحداً، أمّا إذا كان دليل أحد الأصلين غير الآخر، فلا

228

احتمال الإجمال لا معنى للتمسّك بإلاطلاق، إذن لا يجري الأصل ـ عندئذ ـ في الطرف الداخل في محلّ الابتلاء.

الثالث: أنْ يكون الشكّ مفهوميّاً أيضاً، ولكن لا بمعنى شكّنا في فهم العرف، بل بمعنى شكّ العرف نفسه في الارتكاز ونكتته، وذلك بأنْ يشكّ العرف في ثبوت التزاحم وعدمه في المقام بين الأغراض اللزوميّة والترخيصيّة، على أساس أنّ ذلك أمر مشكك في الخفاء والجلاء، فقد ينتهي في الخفاء إلى شكّ العرف في ذلك على حدّ شكّه فيما هو من أوضح المفاهيم العرفيّة من قبيل الماء، فالمعنى العرفي للماء وإن كان له تعيّن واقعي، ولكن نفس العرف حينما ينظر في درجة من درجات اختلاط الماء مع التراب بالنسبة إلى مفهوم الماء يشكّ في أنـّه هل ينطبق على هذا المصداق أو لا؟ فإنْ كان الشكّ في الارتكاز من هذا القبيل جرى الأصل في الطرف المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء؛ لعدم ابتلائه بالمعارض؛ لأنّ احتمال العرف للارتكاز في الطرف الآخر يمنعه عن التمسّك بإلاطلاق فيه على أساس أنّ احتمال القرينة المتّصلة يبطل الإطلاق ولا يُنفى بالأصل(1) .

الرابع: أنْ يشكّ العرف في نكتة الارتكاز وهي التزاحم، بمعنى أنّ العرف يرى تزاحماً في المقام بين الأغراض ـ ولو ضئيلاً ـ وليس شاكّاً في أصل صدق التزاحم، كما هو الحال في القسم السابق، ولكنّه يحتمل على أساس ضئآلة التزاحم أنّ المولى لا يرى هذا تزاحماً، ولا يلحظه، أي أنْ تكون نسبة المولى إلى هذا التزاحم الضئيل، كنسبة العرف إلى ما هو أضأل من هذا من التزاحم الموجود في مورد القطع بالخروج عن محلّ الابتلاء، والذي لا يلحظه العرف ولا يراه.

وفي هذا القسم لا يجري الأصل في الطرف المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء؛ لابتلائه بالمعارض، وهو الأصل في الطرف الآخر؛ لعدم انصراف الإطلاق عنه؛ لأنّ الشكّ ليس في أصل الارتكاز العرفي، بل الارتكاز الموجب للانصراف منتف عند العرف، غاية ما هناك أنّ العرف احتمل وجود نكتة الارتكاز لدى المولى، وهذا الاحتمال لايمنع عن التمسّك بالإطلاق.

 


يأتي فيه هذا الكلام؛ لعدم الإجمال عند انفصال المعارض.

(1) وإنْ شئت فقل: إنّ هذا داخل في احتمال قرينيّة المتّصل، على أساس أنّ هذا المستوى من البعد عن معرضيّة التناول حالة مكتنفة بالكلام صالحة للقرينيّة، ولئن شككنا في أنـّه هل يجوز نفي احتمال القرينة المتّصلة بالأصل أو لا، فلا خلاف بينهم في عدم جواز نفي احتمال قرينيّة المتّصل، أو صلاحيّته للقرينيّة بالأصل.

229

قد تقول: لا ينبغي التفريق بين القسم الأوّل والقسم الثاني من هذه الأقسام الأربعة في الحكم، فإمّا أنْ نقول بجريان الأصل في الطرف المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء في كلا القسمين، أي: سواء كانت الشبهة مصداقية أو كانت الشبهة مفهومية، بمعنى شكّنا في أنّ العرف هل يرى تزاحماً وارتكازاً لانصراف الإطلاق بالنسبة للفرد الآخر، أو لا ؟ ففي كلا القسمين يكون احتمال وجود المعارض للأصل الجاري في الفرد المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء ثابتاً، أمّا في الشبهة المصداقية، فلأنـّه على تقدير دخول الفرد الآخر ـ أيضاً ـ في محلّ الابتلاء يكون الإطلاق بالنسبة له تامّاً، ويكون معارضاً لإطلاق الأصل للفرد المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء، والمفروض أنـّنا نحتمل دخوله في محلّ الابتلاء، وأمـّا في الشبهة المفهومية بالمعنى الذي عرفت، فلأنـّه على تقدير جزم العرف بعدم الارتكاز يكون الإطلاق أيضاً ثابتاً في الفرد الذي شككنا في دخوله في محلّ الابتلاء، فيتعارض الأصلان، والمفروض أنـّنا نحتمل جزم العرف بعدم الارتكاز.

وعندئذ، فإنْ قلنا بأنّ احتمال المعارض المتّصل كاحتمال القرينة المتّصلة لا ينفى بالأصل، فلا بدّ من القول بسقوط الأصل في كلا القسمين، وإنْ قلنا بأنّ احتمال المعارض المتّصل ينفى بالأصل، وليس كاحتمال القرينة المتّصلة، فلا بدّ من إجراء الأصل في الفرد المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء في كلا القسمين، فلا مبرّر للتفصيل بينهما.

ولنا عن هذا الإشكال جوابان: ـ

الجواب الأوّل: أنـّنا لا نرى أنّ احتمال وجود المعارض المتّصل كاحتمال القرينة المتّصلة يبطل التمسّك بالظهور مطلقاً، ولا نرى أنـّه لا يبطل التمسّك بالظهور مطلقاً، بل نفصّل بين مورد الشبهة المفهوميّة والشبهة المصداقيّة، ففي مورد الشبهة المصداقية يُتمسّك بالعموم أو الإطلاق، ولكنْ في الشبهة المفهومية يكون حاله فيها حال احتمال القرينة المتّصلة، ويكون مضّراً بالظهور، فبهذا يثبت الفرق بين القسم الأوّل والقسم الثاني، ففي القسم الأوّل لمّا كانت الشبهة مصداقية جاز لنا التمسّك بالإطلاق لإثبات الترخيص الشرعي في الإناء المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء، وفي القسم الثاني لمّا كانت الشبهة مفهومية، بمعنى شكّنا نحن فيما هو المفهوم لدى العرف، لم يمكن التمسّك بالإطلاق، ولا نفي احتمال المعارض بالأصل.

نعم، في القسم الثالث حينما كان الشكّ المفهومي شكّاً للعرف نفسه كان هذا ملحقاً بالقطع بعدم المعارض، فنحن نقصد هنا بالشبهة المفهوميّة ـ التي لا يمكن

230

التمسّك فيها بالعموم أو الإطلاق ـ خصوص القسم الثاني دون الثالث.

أمـّا ما هو السرّ في التفصيل بين الشبهة المصداقية والمفهومية بإمكان التمسّك بالإطلاق في الاُولى دون الثانية، فهذا ما يتضح بالبيان التالي: ـ

إنّ مقتضى الطبيعة الأصليّة عقلائيّاً في المتكلّم هو أنـّه إنْ لم يرد معنىً من المعاني فهو يختار أحد اُمور ثلاثة: ـ

1 ـ أنْ يسكت عنه، ولا يتكلّم بكلام له ظهور أوّلي في ذلك.

2 ـ أنْ يتكلّم بكلام له ظهور أوّلي في ذلك، ولكنّه ينصب قرينة على خلافه، ويبطل بذلك الظهور.

3 ـ أنْ يتكلّم بكلام له ظهور أوّلي في ذلك، من دون أنْ ينصب القرينة على الخلاف، ولكنّه ينصب ـ على الأقلّ ـ معارضاً لذلك الظهور، كي يفني الظهور بذلك.

فإنْ لم يفعل شيئاً من هذه الاُمور الثلاثة، وتكلّم بكلام ظاهر في معنى، فعدم إرادته لذلك المعنى يعني مخالفته للطبع العقلائي، فيحمل كلامه على كون ظاهره مراداً له.

وهذه الاُمور الثلاثة ليست في عرض واحد، بل الأوّل والثاني منها أوفق بالطبع العقلائي من الثالث، فإنّ مقتضى الطبع العقلائي لدى عدم إرادة معنىً من المعاني هو السكوت عن ذلك المعنى، أو الإتيان بالقرينة على الخلاف، وأمـّا الاكتفاء بالإتيان المعارض فهو انحراف عن الطبع العقلائي، وإن كان ترك القرينة والمعارض معاً أقوى انحرافاً عنه.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ الشكّ في المعارض المتّصل يكون على ثلاثة أقسام: ـ

القسم الأوّل: ما يكون من قبيل الشكّ في اكتناف الكلام بمعارض لم نسمعه أو سمعنا همهمة منه، فاحتملنا كونه نصباً للمعارض.

وفي هذا القسم يُتمسّك بالظهور الأوّلي للكلام، وينفى احتمال المعارض المتّصل بالأصل، ولا يكون حاله حال احتمال القرينة المتّصلة، وذلك لما عرفت من أنّ الاقتصار على نصب المعارض لدى عدم إرادة المعنى الأوّل، وإنْ كان خيراً من السكوت في الطبع العقلائي، لكنّه في نفسه انحراف عن الطبع العقلائي، لأنّ الطبع العقلائي يقتضي السكوت عن ذاك المعنى، أو نصب القرينة على الخلاف، وبما أنـّه لم يفعل شيئاً من هذين الأمرين كان الظهور الأوّلي لكلامه حُجّة لنا، وكان احتمال المعارض المتّصل منفيّاً بالأصل العقلائي، وهذا بخلاف احتمال القرينة المتّصلة، فهو لا ينفى بأصل عقلائي، لأنّ عدم إرادة المعنى مع نصب القرينة على خلاف ذاك

231

المعنى ليس على خلاف الطبع العقلائي.

القسم الثاني: ما يكون الشكّ فيه من قبيل الشكّ المفهومي، كما لو فرضنا فيما نحن فيه الشكّ في دخول أحد الإناءين في محلّ الابتلاء بنحو الشبهة المفهوميّة، بمعنى شكّنا في فهم العرف في مدى ما يكفي من البُعد عن معرضيّة التناول لصدق الخروج عن محلّ الابتلاء، أو لعدم تصوير التزاحم بين الأغراض.

وهنا الصحيح: أنّ احتمال المعارض المتّصل ملحق باحتمال القرينة المتّصلة، ولا يمكن فيه التمسّك بالعامّ؛ لعدم إمكان نفي المعارض بالأصل؛ وذلك لأنّ نفي المعارض هنا يعني نفي دخول ذاك الإناء في محلّ الابتلاء في نظام العرف، وإثبات ذلك بالتمسّك بالظهورات والاُصول العقلائية اللفظية غير ممكن؛ لأنّ القانون العامّ في التمسّك بتلك الاُصول والظهورات يقتضي أنـّه مهما كانت جهة الشكّ مربوطة بنطاق آخر غير نطاق نفس إرادة المتكلّم، كنطاق اللغة أو العرف لم يتمسّك فيه بالظهور، ولهذا لا يتمسّك باصالة الحقيقة في موارد الشكّ في الاستناد رغم أنّ ظاهر الحال هناك أيضاً كون الاستعمال حقيقياً، لا مجازياً.

القسم الثالث: ما يكون الشكّ فيه من قبيل الشبهة المصداقيّة، كما لو فرضنا فيما نحن فيه الشكّ في دخول أحد الإناءين في محلّ الابتلاء بنحو الشبهة المصداقية، كما لو لم نعلم أنّ هذا الإناء: هل هو قريب منّا، أو هو واقع في الصين وخارج عن معرضيّة التناول بالنسبة لنا ؟ وفرضنا أنّ الارتكاز العرفي قائم على المناقضة بين الحكم الواقعي والترخيصين، ولو فرض عدم وصول أحدهما إلى العرف، فهنا وإن كان أحد الترخيصين مشكوكاً فيه؛ للشكّ في الدخول في محلّ الابتلاء، لكن على تقدير ثبوته واقعاً يعارض الترخيص الآخر، فالشكّ في ذلك شكّ في المعارض المتّصل.

والصحيح هنا: جواز التمسّك بالعامّ والأخذ بالظهور الأوّلي للكلام في الإناء المعلوم الدخول في محلّ الابتلاء؛ وذلك لا لنكتة التمسّك بأصالة عدم المعارض، لكي يرد عليها ما ورد في القسم السابق من أنّ منشأ الشكّ مربوط بنطاق آخر، وهو هنا نطاق وضع الإناء المشكوك دخوله في محلّ الابتلاء، بل لنكتة اُخرى وهي أنـّه حتّى لو كان الإناء المشكوك داخلاً واقعاً في محلّ الابتلاء، فالظهور الأوّلي الحاكم بالترخيص في الإناء الآخر لم يجعل المولى له معارضاً ظاهر المعارضة؛ لأنّ الكلام ليس له ظهور في رفع الشبهة المصداقيّة.

نعم، على تقدير كون ذاك الإناء داخلاً في محلّ الابتلاء يكون للكلام ظهور

232

في الترخيص فيه، وهذا الظهور يكون معارضاً، لكن هذه المعارضة مخفيّة حتّى على نفس المولى بما هو مولى، لأنّ المولى ليس المفروض فيه ـ بقطع النظر عن علم الغيب ـ أنْ يكون مطّلعاً على حال المصداق، وهذا بخلاف الشبهة المفهوميّة التي يكون الشكّ فيها شكّاً لنا، لا للعرف، فإنّ المولى هناك على تقدير المعارضة قد نصب معارضاً واضح المعارضة، ومن الواضح: أنّ الطبع العقلائي الذي يتطلّب نصب المعارض ـ على أقلّ تقدير ـ لدى عدم إرادة المعنى الذي كان للكلام ظهور أوّليّ فيه لا يكتفي بمعارض مخفيّ المعارضة حتّى على نفس المولى، وإنـّما المقصود بذلك نصب معارض يعلم المتكلّم نفسه بمعارضته، وما دام المعارض في مورد الشبهة المصداقيّة غير معلوم المعارضة حتّى لدى المتكلّم، فلنا أنْ نأخذ بالإطلاق في الإناء المعلوم الدخول في محلّ الابتلاء، وليس ارتكاز المناقضة بين الواقع والأصلين قرينة على خروج هذا الإناء عن إطلاق دليل الأصل، حتّى يدخل ذلك في احتمال القرينة المتّصلة، وإنـّما هو قرينة على عدم إرادة الأصلين معاً، فيقع التعارض بين الأصلين، فهو داخل في احتمال المعارض، وحيث إنـّه لا يحتمل معارض نصبه المولى، وهو عالم به بما هو مولىً، إذن يؤخذ بظاهر الكلام في الإناء الداخل يقيناً تحت الابتلاء، ويثبت بذلك أنّ الأصل في الطرف الآخر مقيّد بفرض العلم بالدخول في محلّ الابتلاء، فإنـّه وإنْ كان دخل العلم بالموضوع في الحكم خلاف الإطلاق، لكنّ ظاهر حال المولى حينما يفرض بنحو القضيّة الحقيقيّة العلم بدخول أحد الطرفين في محلّ الابتلاء والشكّ في الآخر أنّ الإطلاق بالنسبة للأوّل مراد له، وبالنسبة للثاني ليس مراداً له؛ لأنـّه إن لم يرد الثاني فعلى الأقلّ اعتمد على جعل المعارض، وهو الأصل في الأوّل، ولكن إنْ لم يرد الأوّل لم يعتمد حتى على جعل المعارض؛ لأنّ فرض الشكّ في الدخول في محلّ الابتلاء مساوق لفرض شكّ نفس المتكلّم في ذلك، المساوق لفرض شكّه هو في جعل المعارض(1) .

 


(1) قلت لاُستاذنا الشهيد (رضوان الله عليه): إنّ بالإمكان التمثيل بمثال عرفيّ واضح يجسّد لنا عدم الفرق بين الشبهة المفهومية للمعارض المتّصل والشبهة المصداقية له في عدم جواز التمسّك بالعامّ، فلا يبقى ـ عندئذ ـ شيء عدا التفتيش عن النكتة الفنّيّة لذلك، وذلك المثال عبارة عمّا إذا قال المولى: «اكرم العلماءَ، ولا تكرم الفساقَ»، فقوله: «لا تكرم الفسّاق» معارض متّصل لعموم قوله: «اكرم العلماء»، وليس قرينة متّصلة؛ لأنـّه ليس أخصّ من الأوّل، وإنـّما النسبة بينهما عموم من وجه، فإذا شككنا في فسق عالم من العلماء نجد أنـّه ليس من الصحيح

233

الجواب الثاني: أنّ مختارنا في الشبهة المفهوميّة للمعارض المتّصل هو عدم جواز التمسّك بالعامّ، وأنّ حال احتمال المعارض المتّصل هو حال احتمال القرينة المتّصلة، كما وضّحنا ذلك في الجواب الأوّل.

فإن لم نفرّق في الأمر بين الشبهة المفهومية للمعارض المتّصل والشبهة المصداقية له، وألحقنا الشبهة المصداقية بالشبهة المفهومية في عدم جواز التمسّك فيها بالعامّ تنزّلاً عن الجواب الأوّل، كان لدينا في المقام جواب آخر وهو: أنّنا حتّى الآن فرضنا ارتكاز المناقضة عرفاً بين الحكم الواقعي والأصلين، حتّى إذا فرض عدم وصول أحدهما إلى العرف، لكنّنا نقول الآن: إنّ ارتكاز المناقضة إنّما يكون بين الحكم الواقعي والترخيص الشامل الواصل شموله إلى العرف بما هو عرف لكلّ الأطراف، فإذا كان أحد الترخيصين غير واصل إلى العرف بما هو عرف، فمجرّد وجوده الواقعي منضمّاً إلى الترخيص الآخر الواصل لا يناقض عرفاً الحكم الواقعي، فلا بأس إذن بالتمسّك بإطلاق دليل الأصل في كلّ واحد من الطرفين لإثبات


لدى الفهم العرفي التمسّك فيه بعموم (اكرم العلماء)، من دون فرق بين فرض الشبهة مفهوميّة، بأنْ كان مرتكباً للصغيرة، وشككنا في شمول مفهوم الفاسق لمن يرتكب الصغيرة، وفرضها مصداقية بأنْ شككنا في اقترافه للذنب وعدمه. فوعدني الاُستاذ الشهيد (رحمه الله) بالتفكير في ذلك إنْ سنحت له الفرصة، ثمّ لم يذكر لي شيئاً حول هذا الموضوع.

أقول: واقع المطلب هو أنـّه إذا كان العامّ بنحو القضية الحقيقية، لم يبقَ فرقٌ في عدم جواز التمسّك به بين الشبهة المفهومية لمعارضه المتّصل، والشبهة المصداقية؛ وذلك لأنـّه صحيح أنّ المولى لا يعلم في فرض الشبهة المصداقيّة بنصبه للمعارض، لكنّه في نفس الوقت ـ أيضاً ـ لا يعلم بأنّه هل أراد العموم في الفرد المشكوك، أو لا؟ إذ لو لم يكن ذاك الفرد مصداقاً للمعارض، فقد أراد العموم، وإن كان مصداقاً له، لم يرد العموم، وهو يعلم أنـّه إن لم يرد العموم، فقد نصب المعارض، فلا يرد أنـّه كيف اعتمد في المقام لإسقاط الظهور على نصب المعارض مع جهله هو بنصب المعارض، فإنّنا نقول: إنـّه يعلم بأنـّه على تقدير عدم إرادته للظهور قد نصب المعارض، ففي مثال (اكرم العلماء، ولا تكرم الفسّاق)، وإنْ لم يكن يعلم في العالم المشكوك فسقه بنحو الشبهة المصداقية بنصب المعارض، لكنّه يعلم بأنّه لو لم يكن مراداً من العموم؛ لكونه فاسقاً، فقد نصب المعارض، وفيما نحن فيه وإنْ لم يكن يعلم بنصب المعارض، وهو الأصل في الطرف المشكوك دخوله في محلّ الابتلاء بنحو الشبهة المصداقية، لكنّه يعلم بأنّ الأصل في الطرف المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء لو لم يكن مراداً؛ لكون الفرد الآخر داخلاً في محلّ الابتلاء، فقد نصب المعارض.