4_ رواية محمد بن مسلم بسند فيه سند الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضال عن سندي بن محمد: سمعت أبا جعفر يقول: «الفيء والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة الدماء وقوم صولحوا وأعطوا بأيديهم...»(1).
ولو فرضنا ورود رواية دلّت على أنّه يمكن جعل الأرض بالصلح للكفّار يجب حملها على مسألة الأحقّية لا الملك جمعاً بينها وبين روايتي: «الأرض كلّها لنا»(2) الآبي سياقهما عن التخصيص، فكأنّ هذا الطرز من التفكير لدى السيّد الخوئي رحمه الله نشأ من حمله لجملة «الأرض كلّها لنا» على المعنى العرفانيّ القائل بأنّ الدنيا كلّها للإمام(عليه السلام).
الأرض المفتوحة عنوة
بقي الكلام في الأراضي المفتوحة عنوةً.
وقد أفاد الشيخ الأنصاري رحمه الله: «أنّها كسائر ما لا ينقل من الغنيمة كالنخل والأشجار والبنيان للمسلمين كافّة إجماعاً على ما حكاه غير واحد كالخلاف والتذكرة وغيرهما...»(3).
وأفاد السيّد الخوئي رحمه الله: «أمّا الأراضي التي أُخذت منه بالقهر والغلبة فهي ملك للمسلمين فتوىً ونصّاً... وهي التي تسمّى بالأراضي المفتوحة عنوة»(4).
دلالة الأخبار
وبعض النصوص ما يلي:
1_ ما رواه الشيخ بإسناده عن الصفّار عن أيّوب بن نوح عن صفوان بن يحيى عن أبي بردة بن رجا(5) قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): كيف ترى في شراء أرض الخراج؟
(1) المصدر السابق، ص532، ح20.
(2) المصدر السابق، ص524، ح4.
(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص247.
(4) وسائل الشيعة، ج9، ص523، الباب الأوّل من أبواب الأنفال وما یختص بالإمام، ح1.
(5) المصدر السابق، ص524، ح4
(6) المصدر السابق، ص527، ح10.
قال: ومن يبيع ذلك وهي أرض المسلمين؟ قال: قلت: يبيعها الذي هي في يده. قال: ويصنع بخراج المسلمين ماذا؟ ثم قال: لا بأس اشترى حقّه منها ويحوّل حقّ المسلمين عليه، ولعلّه يكون أقوى عليها وأملأ بخراجهم منه»(1).
2_ صحيحة محمد الحلبي «سُئل أبو عبدالله عليه السلام عن السواد ما منزلته؟ فقال: هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم ولمن لم يخلق بعد»(2).
3_ ما رواه الشيخ بسنده عن الحسين بن سعيد عن الحسن بن محبوب عن خالد ابن جرير(3) عن أبي الربيع الشامي(4) عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «لا تشتر من أرض السواد شيئاً إلّا من كانت له ذمّة، فإنّما هو فيء للمسلمين»(5)، وروی الصدوق بإسناده عن أبي الربيع الشامي نحوه(6).
تعارض الروايات والجمع بینها
والمشكلة التي نواجهها في المقام هي أنّنا كيف نستطيع الجمع بين هذه الروايات وروايتي: «الأرض كلّها لنا» أعني: روايتي «أبي سيّار والكابلي» الماضيتين، فإن كانت الأرض كلّها لهم(عليهم السلام) فكيف فرضت الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين؟!
ويمكن الجمع بينهما بأحد وجوه:
الوجه الأوّل: أن نرجع إلى ما أفاده السيّد الخوئي رحمه الله من إرجاع «الأرض كلّها لنا»
(1) تهذيب الأحکام، ج4، ص146، باب الزیادات من کتاب الزکاة، ح28؛ الاستبصار، ج3، ص109، باب حکم أرض الخراج من کتاب البیوع، ح4.
(2) وسائل الشيعة، ج17، ص369، الباب21 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح4.
(3) «خالد بن جرير» روى الكشّي عن العيّاشي عن علي بن الحسن أنّه كان من بجيلة وكان صالحاً. رجال الکشي، ص346.
(4) قد روى البزنطي (علل الشرائع، ج1، ص84، الباب77، ح7) عن أبي الربيع والظاهر أنّه الشامي.
(5) وسائل الشيعة، ج17، ص369، الباب21 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح5
(6) تهذیب الأحکام، ج7، ص147، باب أحکام الأرضين من کتاب التجارات، ح2.
إلى معنى ما لا نشكّ فيه من أنّ الأرض والسماء وجميع ما خلق الله لهم سلام الله عليهم أجمعين(1)، لا على معنى الأنفال. فلعلّ هذا أحد الأُمور التي دعت السيّد الخوئي إلى تفسير «الأرض كلّها لنا» بذاك التفسير.
إلّا أنّ المشكلة الموجودة في هذا الوجه ما مضت الإشارة إليه من أنّ روايتي: «الأرض كلّها لنا» فرّعت أداء الطسق أو الخراج على أنّ الأرض كلّها لهم، وهذا يقتضي أنّ المقصود من ذلك هو أنّ الأرض كلّها من الأنفال.
الوجه الثاني: أن نجعل أحاديث كون الأرض المفتوحة عنوةً للمسلمين تخصيصاً لحديثي: «الأرض كلّها لنا» مع افتراض تباين كلّي بين معنى «الأرض كلّها لنا» ومعنى «كون الأرض المفتوحة عنوة ملكاً للمسلمين».
إلّا أنّ مشكلة هذا الوجه هي أنّ لسان حديثي: «الأرض كلّها لنا» آبٍ عن هكذا تخصيص.
هذا هو نسبة روايات كون الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين إلى روايتي: «الأرض كلّها لنا».
وهناك تعارض آخر بين روايات كون الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين وأدلّة أنّ الموات للإمام؛ وذلك بالعموم من وجه، فربّ أرض تكون مفتوحة عنوة وهي موات، وربّ أرض تكون مواتاً وليست مفتوحة عنوة، وربّ أرض تكون مفتوحة عنوة وليست مواتاً، فهذا التعارض أيضاً بحاجة إلى علاج.
الوجه الثالث: أن يقال: لا تهافت صارخ بين روايات كون المفتوحة عنوة للمسلمين وروايات كون الأرض كلّها للإمام أو روايات كون الموات للإمام، فإنّ هناك روايات تدلّ على أنّ مالكية الإمام بما هو إمام مع ملك المسلمين أمران متقاربان وأنّ أحدهما يكاد أن يكون عين الآخر، وذلك من قبيل:
(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص231.
1_ صحيحة أبي ولّاد الحنّاط الواردة في الكافي(1) بسند تام إلى أبي ولّاد قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن رجل مسلم قتل رجلاً مسلماً، فلم يكن للمقتول أولياء من المسلمين إلّا أولياء من أهل الذمّة من قرابته. فقال: على الإمام أن يعرض على قرابته من أهل بيته الإسلام، فمن أسلم منهم فهو وليّه، يدفع القاتل إليه، فإن شاء قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية، فإن لم يسلم أحد كان الإمام وليّ أمره، فإن شاء قتل، وإن شاء أخذ الدية، فجعلها في بيت مال المسلمين؛ لأنّ جناية المقتول كانت على الإمام، فكذلك تكون ديته لإمام المسلمين. قلت: فإن عفا عنه الإمام؟ قال: فقال: إنّما هو حقّ جميع المسلمين، وإنّما على الإمام أن يقتل أو يأخذ الدية، وليس له أن يعفو». ورواه الصدوق بإسناده عن الحسن بن محبوب(2)، ورواه في العلل عن أبيه عن سعد عن أحمد وعبدالله ابني محمد بن عيسى عن الحسن بن محبوب مثله، إلّا أنّه أسقط في العلل حكم العفو من الإمام(3). وروی محمد بن الحسن(4) بإسناده عن الحسن بن محبوب مثله(5).
وأيضاً روى الشيخ بإسناده عن الحسن بن محبوب عن أبي ولّاد قال: قال أبو عبدالله(عليه السلام): «في الرجل يُقتل وليس له وليّ إلّا الإمام: إنّه ليس للإمام أن يعفو، وله أن يقتل أو يأخذ الدية فيجعلها في بيت مال المسلمين؛ لأنّ جناية المقتول كانت على الإمام وكذلك تكون ديته لإمام المسلمين»(6).
ولا شكّ أنّ ميراث من لا وارث له من الأنفال ويكون للإمام، فما معنى حكمه عليه السلام
(1) الکافي، ج7، ص359، الباب9 من کتاب التجارات، ح1.
(2) من لا يحضره الفقيه، ج4، ص107، باب القود ومبلغ الدية من کتاب الديات، ح5204.
(3) علل الشرائع، ج2، ص581، باب نوادر العلل، ح15.
(4) تهذيب الأحکام، ج10، ص178، باب القضاء في اختلاف الأولياء من کتاب الدیات، ح15.
(5) وسائل الشيعة، ج29، ص124 _ 125، الباب60 من أبواب القصاص في النفس، ح1
(6) تهذيب الأحکام، ج10، ص178، باب القضاء في اختلاف الأولياء من کتاب الدیات، ح11.
بأخذ الدية وجعلها في بيت مال المسلمين وأنّه ليس له أن يعفو؛ لأنّه حقّ جميع المسلمين؟! أفلا يعني هذا أنّ مفهوم مال الإمام ومفهوم مال المسلمين مفهوم واحد أو متقاربان؟!
2_ روى الصدوق(1) بسنده عن الحسن بن محبوب عن مالك بن عطية(2) عن سليمان بن خالد(3) عن أبي عبدالله: «في رجل مسلم قتل وله أب نصرانيّ لمن تكون ديته؟ قال: تؤخذ فتجعل في بيت مال المسلمين؛ لأنّ جنايته على بيت مال المسلمين». ورواه الشيخ بإسناده عن الحسن بن محبوب مثله إلّا أنّه قال: «تؤخذ ديته»(4).
ونحن لا نشكّ أنّ ميراث من لا وارث له من الأنفال وللإمام(عليه السلام)، فما معنى ربط ذلك ببيت مال المسلمين؟! أفلا يعني ذلك تماثل ملك الإمام وملك المسلمين أو تقاربهما؟!
3_ روى الشيخ بسنده عن الحسن بن محمد بن سماعة عن محمد بن زياد(5) عن معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سمعته يقول: من أعتق سائبة(6) فليتوال من شاء، وعلى من والى جريرته وله ميراثه، فإن سكت حتّى يموت أُخذ ميراثه فجعل في بيت مال المسلمين إذا لم يكن له وليّ»(7).
(1) من لا يحضره الفقيه، ج4، ص333، باب میراث من لا وارث له من کتاب الفرائض والمواريث، ح5716.
(2) ثقة.
(3) قال النجاشي: «كان قارئاً فقيهاً وجهاً»، رجال النجاشي، ص183. وأيضاً روى عنه الأزدي والبجلي.
(4) وسائل الشيعة، ج26، ص253، الباب4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، ح5، ورواه أيضاً في ص257، الباب7 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة عن الشيخ فقط دون الصدوق، ح1.
(5) الظاهر أنّه محمد بن زياد بن عيسى وقد روى عنه صفوان بن يحيى
(6) السائبة هو العبد يعتق ولا يكون لمعتقه عليه ولاء فليس له ميراثه ولا يضمن جريرته.
(7) تهذيب الأحکام، ج9، ص394، باب من الزیادت من کتاب الفرائض والمواريث، ح13.
وقد حمل الشيخ الحرّرحمه الله هذه الرواية في مقابل الروايات التي جعلت مال السائبة للإمام ومن الأنفال(1)على عدّة محامل حيث قال رحمه الله: «هذا محمول على أنّ المراد ببيت مال المسلمين بيت مال الإمام(عليه السلام)؛ لأنّه متكفّل بأحوالهم، أو على التقية لموافقته للعامّة، أو على التفضّل من الإمام عليه السلام والإذن في إعطائه للمحتاجين من المسلمين»(2).
والحمل الأوّل بناء على فرض التناقض الصارخ بين عنوان مال الإمام وعنوان مال المسلمين جمع تبرّعي.
والحمل الثالث أيضاً جمع تبرّعي.
أمّا الحمل على التقية سواء لهذه الرواية أو لباقي الروايات التي أشرنا إليها فيرد عليه ما ذكره الشيخ المنتظري من أنّ «الحمل على التقية ممّا لا وجه له بعد وضوح طريق الجمع بين التعبيرات المختلفة»(3).
وخلاصة الكلام في المقام: أنّ مقتضى صحيحتي أبي سيّار(4) والكابلي(5) أنّ رقبة الأرض كاملةً للإمام(عليه السلام)، وكذلك مقتضى روايات «كلّ أرض خربة» أنّ كلّ خراب أو موات للإمام، ومقتضى إطلاق ذلك أنّ له عليه السلام بما هو إمام أن يتصرّف فيها وفقاً لمصالح الإسلام ولو بصرفها في شأن شخص خاص من الأُمّة، ولكن خرجت من هذا الإطلاق في الحكم _ لا من عموم «الأرض كلّها لنا» ولا من عموم «كلّ أرض خربة» _ الأراضي المفتوحة عنوة العامرة أو الخربة فيجب صرفها فيما يراه صلاحاً للمجتمع الإسلامي كمجتمع أو الأُمّة بوصفها الاجتماعي لا لشخص خاص(6).
(1) كالرواية الأُولی والثامنة والحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة من وسائل الشيعة، ج26، ص246 و249 و250 و251، الباب3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة.
(2) المصدر السابق، ج26، ص249، الباب3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة، ذيل الرواية التاسعة.
(3) دراسات في ولاية الفقيه، ج4، ص21.
(4) وسائل الشيعة، ج9، ص548، الباب4 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، ح12.
(5) المصدر السابق، ج25، ص414، الباب3 من کتاب إحياء الموات، ح2
(6) راجع دراسات في ولاية الفقيه، ج4، ص22.
وكذلك نقول في ميراث من لا وارث له: إنّه باقٍ تحت عنوان الأنفال، ولم يخرج منه بتخصيص أو تقييد، ولكنّه خرج عن إطلاق حكم الأنفال الذي هو عبارة عن صرفها في مصارف الإسلام ولو بصرفها في شأن شخص خاص ووجب صرفه فيما يكون صلاحاً للمجتمع الإسلامي كمجتمع، فلو رأى الإمام مثلاً أنّ مصلحة الإسلام محفوظة في إعفاء القاتل عن الدية لم يصحّ له عليه السلام ذلك، بل عليه أن يجمع مثل هذه الأموال لمصالح المجتمع الإسلامي.
ونتيجة البحث ببيان ساذج وبسيط هي: أنّ الإسلام توجد فيه _ كأيّة حكومة من الحكومات _ ضرائب عامّة على الأموال وهي الخمس والزكاة، وبعد ذلك توجد الأنفال وهي للإمام من دون أن يكون راجعاً إلى عنوان الضرائب، ومعنى كونها للإمام بمعنى عامّ أنّ الإمام بما هو إمام هو الوليّ الذي يتصرّف فيها، وهذا المعنى العامّ لا ينافي عود ملكية بعض الأُمور كالأراضي المفتوحة عنوة للمسلمين، فيبقى وليّ التصرّف هو الإمام لكن يجب عليه أن يلحظ أحكام رجوع تلك الأُمور إلى ملك المسلمين.
مسائل أربع:
وفي نهاية البحث نشير إلى عدد من المسائل:
هل يجوز إحیاء الأراضي المفتوحة التي عرض لها الخراب؟
المسألة الأُولى:(1) أنّ الأراضي التي كانت محياة حين الفتح لو عرض لها الخراب هل يجوز في زمن الغيبة إحياؤها وتملّكها بالإحياء بناء على إفادة الإحياء الملكية أو تثبت الأحقّية بالإحياء بناء على أنّ الإحياء يوجب الأحقّية لا الملك، أو لا؟
والهدف من شرح ذلك إبطال احتمال جرى على قلم الشيخ رحمه الله وإن كان هذا الاحتمال ليس هو الذي اختاره الشيخ وهو: جواز الإحياء، لعموم أدلّة الإحياء،
(1) تعرّض السيّد الخوئي(رحمه الله) لهذه المسألة في التنقيح، موسوعة الإمام الخوئي، ج37، ص250 _ 251.
وخصوص رواية سليمان بن خالد(1).
أمّا ما اختاره الشيخ أو قوّاه فهو عدم جواز ذلك إلّا بإذن الحاكم الذي هو نائب الإمام(عليه السلام).
وقد أورد السيّد الخوئي رحمه الله على الدليل الأوّل وهو دليل الإحياء أنّ أدلّة الإحياء منصرفة عمّا يكون ملكاً لأحد المسلمين، والمفتوحة عنوة تكون ملكاً للمسلمين، وخروجها عن ملكهم يحتاج إلى دليل، وعلى الدليل الثاني وهو رواية سليمان بن خالد بأنّها أدلّ على خلاف المقصود؛ لأنّ السائل فيها قال: «فإن كان يعرف صاحبها؟» فأجاب الإمام عليه السلام بقوله: «فليؤدّ إليه حقّه»، فبمقتضى هذه الرواية لابدّ من ردّ الأرض إلى ملك المسلمين.
عدم جواز تملّك تراب الأرض المفتوحة عنوة
المسألة الثانية: لا يجوز تملّك شيء من تراب الأرض المفتوحة عنوة بصنع كوز منه أو آجر أو نحو ذلك مثلاً، ولا بيعه؛ لأنّ هذه الأرض ملك للمسلمين بجميع أجزائها. نعم، لو فُصل التراب عن تلك الأرض باقتضاء تعميرها كما لو حُفر بئر أو سرداب وألقي ترابه إلى الخارج فإنّه عندئذٍ لا يعدّ من الأرض، بل يعدّ من منافعها، فيجوز تملّكه بالحيازة كسائر المباحات الأوّلية، وقد أشار إلى ذلك السيّد الخوئي رحمه الله في التنقيح(2).
ونحو ذلك أخشاب الأشجار وأوراقها، فحينما تُفصل وتصبح كالعدم بالنسبة للأشجار جاز لشخص ما أن يأتي ويتملّكها بالحيازة.
(1) راجع کتاب المكاسب، ج4، ص27. أمّا رواية سليمان بن خالد فهي صحيحته الواردة في الوسائل، ج25، ص415، الباب3 من کتاب إحياء الموات، ح3: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يأتي الأرض الخربة فيستخرجها ويجري أنهارها ويعمرها ويزرعها ماذا عليه؟ قال: الصدقة، قلت: فإن كان يعرف صاحبها؟ قال: فليؤدّ إليه حقّه»، وروى في الوسائل في ذيل هذا الحديث صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله(عليه السلام) مثله.
(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص248.
عدم خروج الأرض المفتوحة عنوة بخرابها عن ملك المسلمين
المسألة الثالثة: لو خربت الأرض المحياة من المفتوحة عنوة لم تخرج بالخراب عن ملك المسلمين.
وتدلّ على ذلك صحيحة محمد الحلبي: «سئل أبو عبدالله عليه السلام عن السواد ما منزلته؟ قال: هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم ولمن يدخل في الإسلام بعد الیوم ولمن لم يخلق بعدُ فقلت: الشراء من الدهاقين؟ قال: لا يصلح إلّا أن يشتري منهم على أن يصيّرها للمسلمين، فإذا شاء وليّ الأمر أن يأخذها أخذها، قلت: فإن أخذها منه؟ قال: يردّ عليه رأس ماله، وله ما أكل من غلّتها بما عمل»(1).
ووجه الاستدلال بهذه الصحيحة صراحتها في أنّ أرض السواد تبقى أرضاً خراجية لجميع المسلمين لمن هو اليوم ولمن لم يدخل في الإسلام بعد اليوم ولمن لم يخلق بعد، في حين أنّه من الواضح أنّ أرض السواد قد يعرض عليها الخراب في المستقبل بالأنحاء المختلفة من الخراب.
ويمكن دعم الصحيحة بمطلقات روايات الخراج الشاملة بإطلاقها لما بعد فرض الخراب، من قبيل:
1_ رواية أبي الربيع الشامي عن أبي عبدالله عليه السلام «قال: لا تشتر من أرض السواد شيئاً (وفي الفقيه: لا يشتري من أراضي أهل السواد شيئاً)(2) إلّا من كانت له ذمّة، فإنّما هي فيء للمسلمين»(3).
وسند الشيخ إلى هذه الرواية عبارة عن إسناده عن الحسين بن سعيد عن الحسن بن محبوب عن خالد بن جرير عن أبي الربيع الشامي عن أبي عبدالله(عليه السلام).
(1) وسائل الشيعة، ج17، ، ص369، الباب21 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح4.
(2) من لا يحضره الفقيه، ج3، 240، باب إحیاء الموات والأرضين من کتاب المعيشة، ح3879.
(3) وسائل الشيعة، ج17، ص369، الباب21 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح5.
وخالد بن جرير قد روى الكشّي عن العيّاشي عن علي بن الحسن أنّه كان من بجيلة وكان صالحاً. وأبو الربيع الشامي لا نصّ على توثيقه إلّا أنّه روى البزنطي عن أبي الربيع _ والظاهر أنّه الشامي _ في علل الشرايع(1).
2_ رواية أبي بردة بن رجا قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): كيف ترى في شراء أرض الخراج؟ قال: ومن يبيع ذلك؟ هي أرض المسلمين. قال: قلت: يبيعها الذي هو في يده؟ قال: ويصنع بخراج المسلمين ماذا؟ ثم قال: لا بأس اشترى حقّه منها ويحوّل حقّ المسلمين عليه، ولعلّه يكون أقوى عليها وأملأ بخراجهم منه»(2)، ولا توثيق لأبي بردة بن رجا، ولكنّه يكفيه أنّ الراوي عنه هذه الرواية هو صفوان بن يحيى، فسند الحديث تام.
هل المفتوحة عنوة تشمل الأراضي الموات التي تسيطر علیها الحکومة الکافرة؟
المسألة الرابعة: هل المفتوحة عنوة التي هي للمسلمين عبارة عمّا كان بأيدي الكفّار فأُخذ بالسيف أو تشمل حتّى الموات الواسعة التي ليست بأيدي الكفّار ولكنّها تحت سيطرة الحكومة الكافرة بما هي حكومة ففتحها المسلمون بالسيف فهي للمسلمين؟
لم أجد إطلاقاً في روايات كون المفتوحة عنوة للمسلمين يشمل المساحات الميتة التي لم تكن بيد الكفّار أنفسهم ولكن كانت تحت سيطرة الحكومة الكافرة كحكومة.
فمثلاً: صحيحة أبي بردة بن رجا تقول: كيف ترى في شراء أرض الخراج؟ قال: «ومن يبيع ذلك؟ هي أرض المسلمين...» أمّا ما هو مصداق أرض الخراج التي هي ملك للمسلمين؟ فلم تبيّن حدودها.
(1) علل الشرائع، ج1، ص84، الباب77، ح7.
(2) وسائل الشيعة، ج15، ص155، الباب71 من أبواب جهاد العدوّ وما یناسبه، ح1.
وصحيحة محمد الحلبي(1) وكذلك صحيحة أبي الربيع الشامي(2) جعلتا العنوان «أرض السواد» ويُقصد به سواد العراق، وكلمة السواد لا تشمل لغةً بياض الأرض القاحلة الخارجة عن سيطرة نفس الأشخاص، وقد قال العلّامة في المنتهى:
«أرض السواد هي الأرض المغنومة من الفرس التي فتحها عمر بن الخطّاب، وهي سواد العراق، وحدّه في العرض من منقطع الجبال بحلوان إلى طرف القادسية المتّصل بعذيب من أرض العرب، ومن تخوم الموصل طولاً إلى ساحل البحر ببلاد عبّادان من شرق دجلة، فأمّا الغربي الذي يليه البصرة فإنّما هو إسلامي مثل شطّ عثمان بن أبي العاص وما والاها كانت سباخاً ومواتاً فأحياها عثمان بن أبي العاص. وسمّيت هذه الأرض سواداً؛ لأنّ الجيش لمّا خرجوا من البادية ورأوا هذه الأرض والتفاف شجرها سمّوها السواد لذلك. وهذه الأرض فتحت عنوة، فتحها عمر بن الخطّاب...»(3).
وعليه فالظاهر هو التفصيل بين الأراضي الموات المختصرة التي تقع صدفة ضمن الأرض المفتوحة عنوة فهي للمسلمين، والأراضي الموات التي كانت خارجة من أيدي الكفّار، وإنّما كانت تحت سيطرة الحكومة الكافرة فهي للإمام.
(1) وسائل الشيعة، ج17، ص369، الباب21 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح4.
(2) المصدر السابق، ح5.
(3) نقلنا ذلك عن كتاب الشيخ المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه، ج3، ص187 _ 188. نقلاً عن منتهى المطلب، ج14، ص270.
الشرط الثاني: کون الملك طلقاً
الثاني من شروط العوضين: كونه طلقاً.
قال الشيخ رحمه الله: «...وفرّعوا عليه عدم جواز بيع الوقف إلّا فيما استثني، ولا الرهن إلّا بإذن المرتهن أو إجازته، ولا أُمّ الولد إلّا في المواضع المستثناة»(1).
المقصود بهذا الشرط
«والمراد بـ «الطلق» تمام السلطنة على الملك بحيث يكون للمالك أن يفعل بملكه ما شاء، ويكون مطلق العنان في ذلك. لكن هذا المعنى في الحقيقة راجع إلى كون الملك ممّا يستقلّ المالك بنقله، ويكون نقله ماضياً فيه؛ لعدم تعلّق حقّ به مانع عن نقله بدون إذن ذي الحقّ، فمرجعه إلى أنّ من شرط البيع أن يكون متعلّقه ممّا يصحّ للمالك بيعه مستقلّاً. وهذا ممّا لا محصّل له، فالظاهر أنّ هذا العنوان ليس في نفسه شرطاً ليتفرّع عليه عدم جواز بيع الوقف والمرهون وأُمّ الولد، بل الشرط في الحقيقة انتفاء كلّ من تلك الحقوق الخاصّة وغيرها ممّا ثبت منعه عن تصرّف المالك كالنذر والخيار ونحوهما، وهذا المعنى منتزع من انتفاء تلك الحقوق. فمعنى «الطلق»: أن يكون
(1) کتاب المكاسب، ج4، ص29.
المالك مطلق العنان في نقله غير محبوس عليه لأحد الحقوق التي ثبت منعها للمالك عن التصرّف في ملكه، فالتعبير بهذا المفهوم المنتزع تمهيد لذكر الحقوق المانعة عن التصرّف لا تأسيس لشرط ليكون ما بعده فروعاً، بل الأمر في الفرعية والأصالة بالعكس»(1). انتهى كلام الشيخ رحمه الله.
وأورد عليه الشيخ النائيني رحمه الله _ على ما ورد في منية الطالب _ بأنّ مقصود الأساطين من هذا الشرط اعتبار أمر آخر في العوضين مضافاً إلى أصل الملكية _ وهو كون المالك تام السلطنة، وعدم كونه محجوراً عن التصرّف، إمّا لقصور في المقتضي كالوقف الخاصّ، فإنّ الموقوف عليه في هذا الوقف وإن كان مالكاً للعين الموقوفة _ على ما هو الحقّ كما اختاره المشهور _ إلّا أنّه لا يصحّ بيعه لها؛ لأنّ البيع المؤقّت لا يصحّ في الشرع، وإمّا لوجود مانع كالرهانة والجناية والاستيلاد، فلا يرد عليهم ما أفاده المصنّف _ يعني الشيخ _ من أنّ مرجع هذا الشرط إلى أنّه يشترط في البيع مثلاً أن يكون متعلّقه ممّا يصحّ للمالك بيعه مستقلّاً وهذا لا محصّل له؛ لأنّه عبارة أُخرى عن أنّه يشترط في المبيع صحّة بيعه، فالظاهر أنّ هذا العنوان ليس في نفسه شرطاً ليتفرّع عليه عدم جواز بيع الوقف والمرهون وأمُّ الولد، وإنّما عبّر بهذا المفهوم المنتزع تمهيداً لذكر الحقوق المانعة عن التصرّف... وقد عرفت أنّ الأمر بالعكس، وأنّ الطلقية شرط، وعدم جواز بيع الوقف ونحوه فرع له؛ لأنّ الطلقية عبارة عن عدم قصور السلطنة يتفرّع عليه عدم جواز بيع الوقف ونحوه(2).
وردّ على ذلك السيّد الخوئي رحمه الله بأنّ نفس الطلقية إن هي إلّا أمراً انتزاعيّاً منتزعاً من الموارد الخاصّة التي ثبت فيها المنع عن البيع، فكلّ ملك يجوز بيعه إلّا حينما يمنعنا الشارع عن بيعه(3).
(1) کتاب المكاسب، ج4، ص29 _ 30.
(2) منية الطالب، ج2، ص273 _ 274.
(3) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص253.
بيع الوقف
وعلى أيّ حال فأصل أنّ الوقف لا يباع ولا يوهب من مسلّمات الفقه، ومن المرتكزات في السيرة العرفية العقلائية والمتشرّعية. ولكن هذا ليس إلّا دليلاً لبّيّاً لا نستطيع التمسّك به في موارد احتمال الاستثناءات، فعلينا أن نفحص عن وجه آخر ينفعنا لدى الشكّ في الاستثناء، وهو منحصر بأحد وجهين:
الدليل علی عدم جواز بیع الوقف
الوجه الأوّل: أن يقال: إنّ الموقوف عليه الذي يريد بيعه لا يجوز له ذلك؛ لأنّه مناف لحقّ الموقوف عليهم الآخرين؛ أمّا في الوقف العامّ فالأمر واضح، فإنّ هذا تضييع لحقّ العموم، وأمّا في الوقف الخاصّ كالوقف على الولد وعقبه فكذلك، فإنّ هذا تضييع لحقّ الأعقاب.
والوجه الثاني: هو الفحص عن روايات تدلّ على المنع عن البيع والنقل، فلو ثبت فيها إطلاق نفعنا في موارد الشكّ في الاستثناء.
وهناك عدّة من النصوص قد يستدلّ بها على ذلك من قبيل:
1_ ما رواه الصدوق(1) بإسناده عن محمد بن الحسن الصفّار: «أنّه كتب إلى أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام في الوقف وما روي فيه عن آبائه(عليهم السلام) فوقّع(عليه السلام): الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها إن شاءالله»(2)، ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن الحسن الصفّار مثله(3).
2_ ما رواه الكليني(4) عن محمد بن يحيى، قال: «كتب بعض أصحابنا إلى
(1) من لا يحضره الفقيه، ج4، ص237، باب الوقف والصدقة والنحل من کتاب الوصيّة، ح5567.
(2) وسائل الشيعة، ج19، ص175، الباب2 من کتاب الوقوف والصدقات، ح1.
(3) تهذيب الأحکام، ج9، ص129، باب الوقوف والصدقات من کتاب الوقوف والصدقات، ح2.
(4) الکافي، ج7، ص37، باب ما يجوز من الوقف والصدقة و... من کتاب الوصايا، ح34.
أبي محمد عليه السلام في الوقوف وما روي فيها، فوقّع(عليه السلام): الوقوف على حسب ما يقفها أهلها إن شاءالله»(1).
3_ ما رواه الشيخ(2) بإسناده عن محمد بن الحسن الصفّار، قال: «كتبت إلى أبي محمد عليه السلام أسأله عن الوقف الذي يصحّ كيف هو؟ فقد روي: أنّ الوقف إذا كان غير مؤقّت فهو باطل مردود على الورثة، وإذا كان مؤقّتاً فهو صحيح ممضّى. قال قوم: إنّ المؤقّت هو الذي يذكر فيه: أنّه وقف على فلان وعقبه، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وقال آخرون: هذا مؤقّت إذا ذكر أنّه لفلان وعقبه ما بقوا ولم يذكر في آخره: للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والذي هو غير مؤقّت أن يقول: هذا وقف ولم يذكر أحداً فما الذي يصحّ من ذلك؟ وما الذي يبطل؟ فوقّع(عليه السلام): الوقوف بحسب ما يوقفها إن شاءالله»(3).
ومحلّ الاستشهاد المشترك بين هذه الروايات الثلاث قوله(عليه السلام): «الوقوف حسب ما يقفها» أو «يوقفها أهلها» أو قوله عليه السلام في الرواية الثالثة: «الوقوف بحسب ما يوقفها».
وأفاد السيّد الخوئي رحمه الله أن «يَقِفها» أصحّ من «يوقفها»؛ لأنّ الوقف يستعمل متعدّياً أيضاً (4).
ووجه الاستدلال بذلك هو أنّه إذا كان الوقوف حسب ما يقفها أهلها إذاً فما لم يستثن الواقف حالة خاصّة للبيع لا يجوز بيع العين الموقوفة.
وللرواية الأخيرة وجه آخر للدلالة على المقصود، وتوضيحه:
(1) الکافي، ج7، ص176، باب ما يجوز من الوقف والصدقة و... من کتاب الوصايا، ح2.
(2) تهذيب الأحکام، ج9، ص132، باب الوقوف والصدقات من کتاب الوقوف والصدقات، ح9؛ الاستبصار، ج4، ص100، باب من وقف وقفا ولم یذکر الموقوف عليه من کتاب الوقوف والصدقات، ح2.
(3) وسائل الشيعة، ج19، ص192، الباب7 من کتاب الوقوف والصدقات، ح2.
(4) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص253.
أنّ محمد بن الحسن الصفّار رحمه الله كان المرتكز في ذهنه أنّ الوقف يجب أن يكون للتأبيد، فقال ما مفاده: «روي لنا أنّ الوقف إذا كان غير مؤقّت فهو باطل مردود على الورثة»، والظاهر أنّه رحمه الله كان قد فهم من المؤقّت ما فيه نوع من التأبيد أي: أُبّد في الوقت، ومن غير المؤقّت ما لم يؤبّد فيه في الوقت، وكان شكّه في طريقة التأبيد وعدمه، ولهذا تراه فسّر التأبيد وعدم التأبيد بأُسلوبين:
الأوّل: ما قاله قوم: إنّ المؤقّت هو الذي يذكر فيه أنّه وقف على فلان وعقبه، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث قوم الله الأرض ومن عليها.
والثاني: ما قاله قوم آخرون وهو أنّه يكفي للتأبيد أو قل: للتوقيت أن يذكر لفلان وعقبه ما بقوا ولو لم يذكر تتمّة الكلام أعني: قوله: «فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها»، أمّا غير المؤقّت أو قل: غير الدائم فهو الذي لم يذكر فيه أحداً واكتفى بقوله: «هذا وقف» فلم يثبّت فيه تأبيداً حتّى بمقدار فلان وعقبه، ولا يفهم من مجرّد: «هذا وقف» أنّه وقف على مَن؟ وأنّ الموقوف عليه له دوام ولو بمقدار فلان وعقبه أو لا؟ فأجاب الإمام عليه السلام بقوله: «الوقوف بحسب ما يوقفها» فهو عليه السلام أمضى ضمناً بعدم الردع مرتكز الصفّار رحمه الله في اشتراط الدوام، وأرجع نمط الدوام إلى ما يقفها الواقف، ومن الواضح أنّ بيع الوقف يخالف الدوام.
إلّا أنّ هناك فهماً آخر لهذا الحديث، وهو تردّد الصفّار في معنى التوقيت الذي بلغته رواية باشتراطه في الوقف هل هو الدوام، أي: يقال فيه: إنّه وقف على فلان وعقبه فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أو هو تعيين الموقوف عليه. وهذا _ كما ترى _ مطلب أجنبيّ عمّا نحن فيه، فليس حال هذه الرواية إلّا حال باقي روايات: «الوقوف حسب ما يقفها أهلها».
4_ رواية أبي علي بن راشد، وقد رواها محمد بن يعقوب عن محمد بن جعفر الرزّاز عن محمد بن عيسى عن أبي علي بن راشد قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام قلت: جعلت فداك اشتريت أرضاً إلى جانب ضيعتي بألفي درهم، فلمّا وفّرت المال خُبّرت أنّ الأرض وقف، فقال: لا يجوز شراء الوقوف، ولا تدخل الغلّة في مالك، ادفعها إلى من أُوقفت عليه قلت: لا أعرف لها ربّاً. قال: تصدّق بغلّتها»(1)، ورواها الصدوق بإسناده عن محمد بن عيسى. ودلالة الحديث واضحة.
إلّا أنّ في سند الكليني وقع محمد بن جعفر الرزّاز(2)، ولا دليل على وثاقته.
ولكن من حسن الحظّ أنّ الصدوق رحمه الله روى نفس الرواية في الفقيه بسنده عن محمد ابن عيسى(3) وقد قال رحمه الله في مشيخة الفقيه: «وما كان فيه عن محمد بن عيسى فقد رويته عن أبي؟رض؟ عن سعد بن عبدالله عن محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني ورويته عن محمد بن الحسن؟رض؟ عن محمد بن الحسن الصفّار عن محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني»(4). وكلا السندين تامّان.
5_ الروايات الواردة عن الأئمّة(عليهم السلام) الذين وصفوا صدقاتهم التي كانت عبارة عن الوقف بالصدقة التي لا تباع ولا توهب من قبيل:
1_ صحيحة أيّوب بن عطية قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: «قسم رسول الله(صل الله عليه وآله) الفيء، فأصاب عليّاً عليه السلام أرض فاحتفر فيها عيناً، فخرج منها ماء ينبع في السماء كهيئة عنق البعير، فسمّاها عين ينبع فجاء البشير يبشّره، فقال: بشّر الوارث بشّر الوارث،
(1) الکافي، ج7، ص176، باب ما يجوز من الوقف والصدقة و... من کتاب الوصايا، ح2.
(2) تهذيب الأحکام، ج9، ص132، باب الوقوف والصدقات من کتاب الوقوف والصدقات، ح9؛ الاستبصار، ج4، ص100، باب من وقف وقفا ولم یذکر الموقوف عليه من کتاب الوقوف والصدقات، ح2.
(3) وسائل الشيعة، ج19، ص192، الباب7 من کتاب الوقوف والصدقات، ح2.
(4) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص253.
هي صدقة بتّاً بتلاً في حجيج بيت الله وعابر سبيله، لا تباع ولا توهب ولا تورث، فمن باعها أو وهبها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً»(1).
2_ معتبرة عجلان أبي صالح قال: «أملى أبو عبدالله(عليه السلام): بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما تصدّق به فلان بن فلان وهو حيّ سويّ بداره التي في بني فلان بحدودها صدقة لا تباع ولا توهب حتّى يرثها وارث السماوات والأرض، وأنّه قد أسكن صدقته هذه فلاناً وعقبه، فإذا انقرضوا فهي على ذي الحاجة من المسلمين»(2).
3_ ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن محمد بن عاصم(3) عن الأسود بن أبي الأسود الدؤلي(4) عن ربعي بن عبدالله عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «تصدّق أميرالمؤمنين عليه السلام بدار له في المدينة في بني زريق، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدّق به علي بن أبي طالب وهو حيّ سويّ تصدّق بداره التي في بني زريق صدقة لا تباع ولا توهب حتّى يرثها الله الذي يرث السماوات والأرض، وأسكن هذه الصدقة خالاته ما عشن وعاش عقبهنّ فإذا انقرضوا فهي لذي الحاجة من المسلمين»(5). وسند الحديث وإن كان فيه الأسود بن أبي الأسود الدؤلي، ولا دليل على وثاقته، ولكن من
(1) وسائل الشيعة، ج19، ص186، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح2.
(2) المصدر السابق، ح3. وعجلان أبو صالح وثّقه علي بن الحسن بن علي بن فضّال. وروى الشيخ الحرّ في ذيل هذه الرواية نفس الرواية عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله عن أبي عبدالله(عليه السلام) إلّا أنّ في سندها أحمد بن عديس ولا توثيق له.
(3) روى عنه ابن أبي عمير.
(4) لا دليل على وثاقته.
(5) وسائل الشيعة، ج19، ص187، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح4؛ تهذيب الأحکام، باب الوقوف والصدقات من کتاب الوقوف والصدقات، ج9، ص131، ح7؛ الاستبصار، ج4، ص98، باب أنّه لا يجوز بیع الوقف من کتاب الوقوف والصدقات، ح4
حسن الحظّ أنّ الصدوق روى بإسناد له عن ربعي بن عبدالله نحوه(1).
4_ صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج قال: «أوصى أبو الحسن عليه السلام بهذه الصدقة: هذا ما تصدّق به موسى بن جعفر... تصدّق موسى بن جعفر بصدقته هذه وهو صحيح صدقة حبساً بتّاً بتلاً مبتوتةً لا رجعة فيها ولا ردّ ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، لا يحلّ لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيعها ولا يبتاعها ولا يهبها ولا ينحلها...»(2).
ووجه الاستدلال بهذه الروايات هو ما استظهره الشيخ الأنصاري رحمه الله(3) والسيّد الخوئي رحمه الله(4) من أنّ توصيف الصدقة بلا تباع ولا توهب تعيين لنوع الصدقة، لا تحديد مُلزِمٌ من قِبل الواقف في كيفية التعامل مع هذا الفرد من الصدقة الذي قام به(عليه السلام)، فيصبح معنى هذه الأحاديث أنّ الصدقة نوعان: نوع يجوز بيعه وهبته ونقله كالزكاة فإنّ المستحقّ الذي ملكها يتصرّف بها ما يهويه من التصرّفات في مؤونته، ونوع آخر تأبيديّ متوقّف لا يُنقل ولا يباع ولا يوهب وهو الوقف. وبكلمة أُخرى: إنّ الوصف وصف للنوع لا للشخص.
أمّا الوجه في هذا الاستظهار فلعلّ عمدته أمران:
الأمر الأوّل: أنّ الوارد في هذه الروايات ذكر مفعول مطلق للصدقة كقوله: «صدقةً لا تباع ولا توهب» والمفعول المطلق شأنه تعيين نوع الفعل، فمعنى الكلام: أنّ صدقتنا هذه من النوع الذي لا يباع ولا يوهب وهو الوقف، بخلاف مثل الزكاة.
(1) من لا یحضره الفقيه، ج4، ص248، باب الوقف والصدقة والنحل... من کتاب الوصيّة، ح5588. والاختلاف الجزئي في العبارة بين نسخة الشيخ التي كتبناها في المتن ونسخة الصدوق ليس اختلافاً مغيّراً للمعنى.
(2) وسائل الشيعة، ج19، ص202، الباب10 من کتاب الوقوف والصدقات، ح4.
(3) کتاب المكاسب، ج4، ص34 _ 35.
(4) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص254 _ 255.
ويرد على هذا الوجه أنّ المفعول المطلق وإن كان يدلّ على تنويع العمل وتعيين نوع الفعل، ولكن التنويع لا ينحصر شكله بتقسيم الصدقة إلى وقف وغير وقف، بل يمكن أيضاً تنويعه بتحصيصه إلى حصّتين: حصّة قيّدها الواقف بعدم البيع والنقل، وحصّة لم يقيّدها الواقف بذلك، فلعلّ الأُولى هي التي لا يجوز بيعها ونقلها، والثانية يجوز بيعها ونقلها.
والأمر الثاني: أنّ المرتكز العرفي والمتشرّعي هو أنّ الوقف في أصله إيقاف لا يباع ولا يوهب، وهذا يوجب انصراف التوصيف إلى التنويع، في مقابل غير الوقف كالزكاة ممّا يباع أو يوهب. وذاك الارتكاز العرفي أو المتشرّعي لو خلّي وحده لم يكن ينفعنا في التمسّك به في موارد الشكّ في الاستثناء؛ لأنّه ليس إلّا دليلاً لبّيّاً، ولكن هذا التنويع اللفظي من قبلهم(عليهم السلام) يحقّق لنا إطلاقاً نستفيد منه في موارد الشكّ.
وقد أورد السيّد الإمام رحمه الله على استظهار الشيخ(قدس سره) لكون الوصف صفة للنوع لا للشخص بوجوه أذكر هنا أحدها، وهو أنّ النسبة بين الوقف والصدقة ليست هي العموم والخصوص المطلق بأن تكون الصدقة على قسمين قسم يباع ويوهب كالزكاة، وقسم لا يباع ولا يوهب وهو الوقف، بل النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه، لاعتبار قصد القربة في الصدقات وقفاً كانت أو غيرها كالزكاة والصدقات المندوبة، وعدم اعتباره في الوقوف حتّى الوقوف العامّة، فلو وقف على أولاده أو على الفقراء بلا قصد القربة صحّ.
فلا يمكن إثبات عدم جواز بيع الوقوف مطلقاً بتلك الروايات لو فرض أنّها دالّة على المطلوب، فلعلّ الوقف حينما يكون صدقة بسبب قصد القربة فيه لا يجوز بيعه ونقله، وحينما لا يكون صدقة لعدم قصد القربة فيه يجوز بيعه ونقله.
واحتمال إلغاء الخصوصية غير مسموع؛ لأنّ للصدقات خصوصيّات ليست
لغيرها، فلعلّ الوقوف إذا كانت من قبيل الصدقات لا يجوز بيعها ونقلها، وإذا لم تكن من قبيل الصدقات بأن لم تكن بقصد القربة يجوز بيعها ونقلها(1).
وعلى أيّ حال فلا إشكال في تمامية دلالة بعض الروايات الماضية على المقصود.
بقي الكلام في موارد الاستثناء:
ولنُشِرْ مقدّمةً لذلك إلى أنّ الكلام إنّما هو في موارد جواز البيع أو النقل قبل انتهاء أمد الوقف، أمّا لو كان الوقف من المنقطع الآخر وانتهى أمده فلا إشكال في أنّه يرجع بذلك إلى الواقف أو ورثته، ويصبح ملكاً طلقاً يجوز بيعه.
مثاله: ما لو كان البيت وقفاً لفلان وعقبه ومات فلان وانقطع عقبه فالبيت يرجع إلى الواقف أو ورثته.
ومثاله الآخر: ما لو أوقف البيت على زيد من دون عقبه ومات زيد فالبيت يرجع إلى الوقف أو ورثته.
وهذا غير الحبس، فإنّ الحبس يعني أنّ العين لا تخرج من ملك الواقف وإن كانت تحبس منافعه لمشروع مّا مدّة بقاء ذاك المشروع.
فإن قلت: إن الوقف المنقطع الآخر إن قبلناه في الوقف الذي يعتبر عرفاً أبديّاً وإن كان قد ينقطع صدفة، من قبيل الوقف على زيد وعقبه ثم ينقطع عقبه صدفة، لا نقبله في مثل الوقف على زيد من دون عقبه ممّا لا يوجد له دوام ولو عرفاً، كالوقف على زيد وعقبه؛ وذلك لأنّ وقفاً كهذا يكون خلاف الارتكاز العرفي والمتشرّعي الحاكم بأبدية الوقف.
قلنا: إنّ الارتكاز العرفي أو المتشرّعي إنّما يحكم بعدم تحديد الوقت بمثل عشر سنين مثلاً أو عشرين سنة لا على أنّ الموقوف عليه يجب أن يكون ممّا له دوام في البقاء، فشرط دوام الموقوف عليه ننفيه بإطلاق: «الوقوف حسب ما يقفها أهلها».
(1) كتاب البيع (للسيّد الإمام(رحمه الله))، ج3، ص146 _ 147.
وقد يدّعی وجود دليل لفظي يدلّ حتّى على صحّة الوقف المحدّد بالسنين، والنصّ عبارة عن صحيحة علي بن مهزيار، قال: «قلت له: روى بعض مواليك عن آبائك(عليهم السلام) أنّ كلّ وقف إلى وقت معلوم فهو واجب على الورثة، وكلّ وقف إلى غير وقت جهلٌ مجهول فهو باطل مردود على الورثة. وأنت أعلم بقول آبائك(عليهم السلام). فكتب(عليه السلام): هكذا هو عندي»(1).
وهذا يعني: أنّ الوقف لو كان إلى عدّة سنين ومات الواقف قبل تمامية السنين كان على الورثة أن يلتزموا بصحّة الوقف مادام الوقت باقياً.
وتحقيق صحّة أو عدم صحّة هذا الكلام موكول إلى كتاب الوقف.
وعلى أيّ حال فالمهمّ أنّ الوقف المنقطع الآخر بأيّ مورد قبلناه فبالانقطاع يخرج عن مصبّ بحثنا، ويعود ملكاً طلقاً، وإنّما الکلام في غير المنقطع الآخر وفيه قبل الانقطاع.
موارد جواز بیع الوقف
والآن نريد البحث عن موارد الاستثناء، وهي عديدة:
منها: ما لو خربت العين الموقوفة بحيث لا يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها فتصل النوبة إلى التبديل ببيع هذه العين وشراء ما ينتفع به.
مثاله: الحيوان المذبوح والجذع البالي والحصير المخرّق.
والدليل على ذلك أنّ وقف الواقف شمل العين والمالية، فمقتضى قاعدة: «إنّ الوقوف حسب ما يقفها أهلها» أن تبقى الماليّة على الوقفية لنفس الجهة، فتباع العين وتبدّل بعين أُخرى بقدر الإمكان.
ومنها: وقوع اختلاف شديد بين الموقوف عليهم بنحو يحتمل أداؤه إلى تلف النفوس والأموال، فيسوغ البيع ولو لم يشترط الواقف ذلك.
(1) وسائل الشيعة، ج19، ص192، الباب7 من کتاب الوقوف والصدقات، ح1.
والدليل على ذلك مكاتبة علي بن مهزيار قال: «وكتبت إليه: إنّ الرجل ذكر أنّ بين من وقف عليهم هذه الضيعة اختلافاً شديداً وأنّه ليس يأمنوا أن يتفاقم ذلك بينهم بعده، فإن كان ترى أن يبيع هذا الوقف ويدفع إلى كلّ إنسان منهم ما وقف له من ذلك أمرته. فكتب إليه بخطّه: وأعلمه أنّ رأيي له إن كان قد علم الاختلاف ما بين أصحاب الوقف أن يبيع الوقف أمثل، فإنّه ربّما جاء في الاختلاف تلف الأموال والنفوس»(1).
ونقل صاحب الوسائل في ذيل هذه الرواية عن الصدوق رحمه الله قوله: «وقف كان عليهم دون من بعدهم، ولو كان عليهم وعلى أولادهم ومِن بعد على فقراء المسلمين لم يجز بيعه أبداً»(2).
أقول: هذا اجتهاد من قِبل الصدوق(قدس سره)، والمهمّ نفس الرواية، فهل أنّ مفادها خاص بما إذا كان الوقف وقفاً على الأحياء حين الوقف فحسب أو يشمل _ على الأقلّ _ فرض الوقف عليهم وعلى أعقابهم؟
قد يقال: إنّ التعبير في صيغة السؤال: «إنّ الرجل ذكر أنّ بين من وقف عليهم هذه الضيعة اختلافاً شديداً» يعطي معنى أنّ الموقوف عليهم هم الأحياء فحسب.
أمّا ما ورد في الجواب من قوله: «فإنّه ربّما جاء في الاختلاف تلف الأموال والنفوس» فصيغته صيغة بيان ملاك الحكم، لا صيغة إعطاء موضوع الحكم بذكر العلّة المعمّمة للحكم.
ويمكن الجواب على ذلك بأحد وجهين:
(1) وسائل الشيعة، ج19، ص188، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح6.
(2) نقله الشيخ الحرّ في ذيل تلك الرواية في المصدر السابق، ص189. وكلام الصدوق موجود في من لا یحضره الفقيه، ج4، ص240، باب عدم جواز بیع الوقف وحکم ما لو وقع بین الموقوف علیهم اختلاف... من کتاب الوقوف والصدقات،ح5574.
الوجه الأوّل: إنّ يقال: إنّ غلبة ذكر الأعقاب فيما هو المألوف يوجب الإطلاق في صيغة السؤال لفرض كون الوقف وقفاً على الأحياء والأعقاب، فليس السؤال مختصّاً بفرض الوقف على الأحياء فحسب، والنتيجة أنّ الإطلاق يتمّ في الجواب أيضاً.
الوجه الثاني: أن يقال: إنّ تلك الغلبة التي أشرنا إليها في الوجه الأوّل تخلق _ على الأقلّ _ إجمالاً في السؤال، وهذا يخلق في الجواب الإطلاق بملاك ترك الاستفصال إن آمنّا في علم الأُصول بالإطلاق بملاك ترك الاستفصال، أو يخلق في الجواب ظهوراً في كون قوله: «فإنّه ربّما جاء في الاختلاف تلف الأموال والنفوس» بياناً لموضوع الحكم ومقياسه، لا مجرّد بيان ملاك الحكم وحكمته.
ومنها: ما إذا اشترط الواقف بيعه عند حدوث أمر من قلّة المنفعة أو كثرة الخراج أو كون بيعه أنفع أو لاختلاف بين أرباب الوقف أو احتياجهم إلى عوضه أو نحو ذلك.
والدليل على ذلك قاعدة: «إنّ الوقوف حسب ما يقفها أهلها».
ومنها: ما إذا طرأ ما يستوجب أن يؤدّي بقاؤه إلى الخراب المسقط له عن المنفعة المعتدّ بها عرفاً.
والدليل على ذلك: أنّ الوقفية شملت العين والمالية، ومقتضى أنّ الوقوف حسب ما يقفها أهلها حفظهما معاً، وهذا ما لا يمكن، فمقتضى تلك القاعدة الحفاظ على أحدهما، فيجوز بيع العين قبل خرابها حفاظاً على المالية، لكن ذلك في آخر أزمنة إمكان بقائها.
قيل ومنها: «ما لو لاحظ الواقف في قوام الوقف عنواناً خاصّاً في العين الموقوفة، مثل كونها بستاناً أو داراً أو حمّاماً، فيزول ذاك العنوان، فإنّه يجوز البيع حينئذٍ وإن كانت الفائدة باقية بحالها أو أكثر»(1).
(1) منهاج الصالحين (للسيّد الحكيم(رحمه الله))، ج2، ص35.
ولكن أفاد أُستاذنا الشهيد الصدر رحمه الله: أنّ هذا ليس من مستثنيات بيع الوقف؛ لأنّه بزوال العنوان الخاصّ في العين الموقوفة المأخوذ في قوام الوقف يبطل الوقف، ويصبح ملكاً طلقاً، فلا يكون من موارد جواز بيع الوقف(1).
هذا إجمال الكلام في مستثنيات حرمة بيع الوقف ونقله.
تنبيهات تتعلّق ببيع الوقف
ويتجلّى الأمر إن شاء الله ضمن بيان تنبيهات هامّة على أُمور ينبغي التعرّض لها:
التنبيه الأوّل: هل جواز البيع يعني بطلان الوقف بالفعل أو يعني جواز إبطاله؟
أفاد صاحب الجواهر رحمه الله: «الذي يقوى في النظر بعد إمعانه أنّ الوقف مادام وقفاً لا يجوز بيعه، بل لعلّ جواز بيعه مع كونه وقفاً من المتضاد. نعم، إذا بطل الوقف اتّجه حينئذٍ جواز البيع، والظاهر تحقّق البطلان فيما لو خرب الوقف على وجه تنحصر منفعته المعتدّ بها منه في إتلافه كالحصير والجذع ونحوهما ممّا لا منفعة معتدّ بها فيه إلّا بإحراقه مثلاً وكالحيوان بعد ذبحه مثلاً وغير ذلك. ووجه البطلان حينئذٍ فقدان شرط الصحّة في الابتداء المراعی في الاستدامة بحسب الظاهر، وهو كون العين ينتفع بها مع بقائها...»(2).
وأفاد الشيخ الأنصاري رحمه الله معلَّقاً على كلام صاحب الجواهر: «وقد سبقه إلى ذلك بعض الأساطين [يعني كاشف الغطاء] في شرحه على القواعد(3) حيث استدلّ على المنع عن بيع الوقف بعد النصّ والإجماع، بل الضرورة بأنّ البيع وأضرابه ينافي حقيقة الوقف لأخذ الدوام فيه، وأنّ نفي المعاوضات مأخوذ فيه ابتداءً»(4).
(1) منهاج الصالحين (للسيّد الحكيم(رحمه الله))، ج2، ص35، تحت الخطّ.
(2) جواهر الکلام، ج22، ص358.
(3) خرّجه محقّق الطبعة المشار إليها للمكاسب من شرح القواعد مخطوط، الورقة: 85.
(4) کتاب المكاسب، ج4، ص36.