331

وقد أورد الشيخ الأنصاري رحمه الله في فهم مراد صاحب الجواهر احتمالين:

أحدهما: كون مقصوده ببطلان الوقف انتفاء بعض آثاره، وهو جواز البيع.

وثانيهما: كون مقصوده انتفاء أصل الوقف، وقال رحمه الله: هذا هو ظاهر كلامه حيث جعل المنع عن البيع من مقوّمات مفهوم الوقف(1).

وأورد الشيخ على صاحب الجواهر بناء على التفسير الأوّل لكلامه، أي إرادة بطلان بعض آثار الوقف، وهو جواز البيع المسبّب عن سقوط حقّ الموقوف عليهم عن شخص العين _ كما لو جعلنا الثمن للبائع وللبُطون مثلاً _ أو عنها وعن بدلها _ كما لو قلنا بكون الثمن للبطن الذي يبيع فالبطون المتأخّرة انحرمت من العين ومن البدل _ بأنّ هذا لا محصّل له فضلاً عن أن يحتاج إلى نظر فضلاً عن إمعانه(2).

وفسّر السيّد الخوئي رحمه الله كلام الشيخ الأنصاري إذ قال: «فهذا لا محصّل له...» بأنّ اشتراط صحّة الوقف _ أي صحّته في بعض الآثار وهو عدم جواز البيع _ بعدم طروّ الجواز مرجعه إلى اشتراط جواز البيع بجواز البيع؛ فإنّ نفي عدم جواز البيع يعني جواز البيع؛ لأنّ نفي النفي إثبات، وهذا طبعاً لا محصّل له(3).

أمّا بناء على التفسير الثاني لكلام صاحب الجواهر وهو كون المقصود بطلان الوقف بمجرّد جواز بيعه فقد أورد الشيخ الأنصاري عليه بأنّ جواز البيع لا ينافي بقاء الوقف إلى أن يباع، فالوقف يبطل بنفس البيع لا بجوازه، فمعنى جواز بيع العين الموقوفة جواز إبطال وقفها إلى بدل أو لا إلى بدل، ولا يعني بطلان الوقف؛ لأنّ المنع عن البيع حكم شرعي مترتّب على الوقف، وليس مقوّماً لمفهوم الوقف، وتقوّم مفهوم الوقف بعدم جواز البيع خلاف الإجماع؛ إذ لم يقل أحد ممّن أجاز بيع الوقف في بعض


(1) المصدر السابق، ص37.

(2) المصدر السابق.

(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص258.

332

الموارد ببطلان الوقف وخروج الموقوف عن ملك الموقوف عليه إلى ملك الواقف(1).

واستشهد الشيخ رحمه الله على كلامه هذا بشاهدين:

الشاهد الأوّل: أنّ مدلول صيغة الوقف وإن أُخذ فيه الدوام والمنع عن المعاوضة عليه إلّا أنّه قد يعرض ما يجوّز مخالفة هذا الإنشاء، كما أنّ مقتضى العقد الجائز كالهبة تمليك المتّهِب المقتضي لتسلّطه المنافي لجواز انتزاعه من يده، ومع ذلك يجوز مخالفته وقطع سلطنته عنه، ثم أمر رحمه الله بالتأمّل(2).

وحاصل هذا الشاهد: أنّ مخالفة الحكم الشرعي لما أنشأه المُنشئ ليست غريبة، كما وقع ذلك في باب الهبة الجائزة مع أنّ الواهب أنشأ التمليك الكامل.

والشاهد الثاني: أنّه لا إشكال لدى طروّ مجوّز البيع في أنّه لو لم يتّفق البيع إلى أن انتفى ذاك المجوّز وانتفت الضرورة الداعية إلى البيع كان الوقف باقياً على حاله وكان جواز البيع منتهياً، ولذا صرّح في جامع المقاصد بعدم جواز رهن الوقف وإن بلغ حدّاً يجوز بيعه معلَّلاً باحتمال طروّ اليسار للموقوف عليهم عند إرادة بيعه في دَين المرتهن(3).

والشيخ النائيني رحمه الله رغم دعمه للشيخ الأنصاري في أصل ما أفاد لم يقبل الشاهد الأوّل من هذين الشاهدين على ما ورد في منية الطالب حيث قال ما مضمونه: لو وجّهنا كلام صاحب الجواهر وكاشف الغطاء بأنّ حقيقة الوقف أُخذ في مفهومها الدوام فكلّ مورد قيل بصحّة بيعه يجب أن يقال ببطلان الوقف أوّلاً حتّى يصحّ بيعه لم يرد عليهما النقض بجواز الرجوع في الهبة؛ للفرق الواضح بين الهبة والوقف، فإنّ الهبة ليس من مقتضاها إلّا تمليك المتهب، لا الدوام وعدم الرجوع، بخلاف الوقف فإنّ مقتضاه وقوف العين على حالها، فينافيه بيعها(4).


(1) کتاب المكاسب، ج4، ص36 _ 37.

(2) المصدر السابق، ص36.

(3) المصدر السابق، ص37.

(4) منية الطالب، ج2، ص279.

333

ولكنّه رحمه الله آمن بالشاهد الثاني حيث قال(قدس سره): «إنّ من موارد جواز بيعه شدّة حاجة أربابه، ولا شبهة أنّه لو ارتفعت ضرورتهم قبل البيع يبقى الوقف على حاله، ولا يمكن أن يبطل الوقف بطروّ الضرورة ويعود بارتفاعها؛ لأنّه لا دليل على عوده بعد بطلانه»(1).

أمّا السيّد الخوئي رحمه الله فقد أفاد في المقام(2): أنّ الذي ينبغي أن يقال هو: أنّه إن كان المراد من بطلان الوقف بطلان أصل الوقف وخروج العين عن كونها وقفاً ودخولها في ملك واقفها فهو مقطوع العدم كما ذكره الشيخ(قدس سره)، ولا موجب لهذا أيضاً، ولا يلتزم به كاشف الغطاء وصاحب الجواهر؟قهما؟ أيضاً.

وإن كان المراد منه أنّه بعد ما طرأ عليه مسوّغات البيع يكون ملكاً طلقاً للموقوف عليهم ولهم التصرّف كيف ما شاؤوا كتصرّف الملّاك في أموالهم وأملاكهم فهذا لا دليل عليه، ولا موجب له أيضاً، مضافاً إلى أنّه لم يلتزم به أحد.

وإن كان المراد منه بطلان الوقف من جهة البيع فقط لا من جميع الجهات بأن لا تكون هبته ولا إجارته ولا غير ذلك من التصرّفات الموقوفة على الملك غير البيع جائزة. وبعبارة أُخرى: أنّ ما أنشأه الواقف هو السكون من جميع الجهات حتّى من جهة البيع، لكن لا يكون دليل الإمضاء شاملاً للوقف من جهة المنع عن بيعه، فهو كلام متين ويستحقّ إمعان النظر؛ لأنّ شمول الإمضاء حتّى بهذا المقدار ينافي جواز بيعه عند طروّ مسوّغات البيع، فإن كان هذا هو مراد كاشف الغطاء وصاحب الجواهر فهو متين(3).

قال رحمه الله: إنّ النزاع بين الشيخ ومن تبعه وبين كاشف الغطاء وصاحب الجواهر إن


(1) المصدر السابق.

(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص259 _ 260.

(3) وقول الشيخ: إنّ هذا لا محصّل له بعد فرض تفسيره بما فسّر به السيّد الخوئي من رجوع ذلك إلى اشتراط جواز البيع بجواز البيع يكون كلاماً غريباً في غاية الغرابة.

334

هو إلّا نزاعاً علميّاً(1) لا ثمرة له، بداهة أنّ كاشف الغطاء وصاحب الجواهر من ناحية والشيخ ومن تبعه من ناحية أُخرى كلّهم معترفون بعدم خروج العين عن الوقفية بمجرّد طروّ مسوّغات البيع حتّى في صورة ارتفاع العذر وارتفاع المسوّغ، بل ينادون بصوت واحد ببقاء الوقف على حاله في صورة عدم اتّفاق البيع وارتفاع المسوّغ.

قال رحمه الله: «ولكن ذهب بعض الأكابر(2) إلى جواز البيع بعد طروّ المسوّغ حتّى بعد الارتفاع، سواء قلنا ببطلان الوقف بطروّ المسوّغ أو قلنا بعدمه، أمّا في الصورة الأُولى فظاهر، وأمّا في الصورة الثانية فالمورد يكون من موارد الرجوع إلى استصحاب حكم المخصّص؛ بداهة أنّه بعد طروّ المسوّغ علمنا بجواز بيع الوقف وخروجه عن تحت عموم عدم جواز بيع الوقف، ثم شككنا بعد ارتفاع المسوّغ هل بقي في حالة جواز بيعه أو أنّه لا يجوز لشمول العموم له، وحينئذٍ نتمسّك باستصحاب حكم المخصّص، ونحكم بجوازه»(3).

ثم أورد السيّد الخوئي رحمه الله على ما نقله من كلام بعض الأكابر بأنّ الحقّ عدم جواز البيع بعد زوال مسوّغ البيع، أمّا بناء على عدم بطلان الوقف فظاهر لكون المورد من موارد التمسّك بالعامّ دون المخصّص؛ وذلك لأنّ عموم عدم جواز بيع الوقف كان شاملاً لما قبل طروّ المسوّغ ولحالة طروّ المسوّغ ولما بعد زوال المسوّغ، ثم علمنا بخروج حالة وجود المسوّغ عن تحت عموم عدم الجواز، فيبقى الباقي من المتقدّم على طروّ المجوّز والمتأخّر عنه تحت العامّ؛ إذ لا فرق بين الأفراد الطولية والأفراد العرضية في كونها مشمولة لعموم العامّ.


(1) يمكن أن يقال: إنّ النزاع بينهم لفظي لا إنّ النزاع بينهم علمي، إلّا إذا حمل كلام أحد الطرفين على خروج الوقف عن الوقفية بطروّ المسوّغ ورجوعِه إليها بعد زوال المسوّغ، وحمل كلام الطرف الآخر على عدم خروجه عن الوقفية إلّا بفعلية البيع قبل زوال المسوّغ، فيكون ذلك نزاعاً علميّاً لا لفظيّاً.

(2) مراده الشيخ الإيرواني في حاشيته على المكاسب، ج1، ص179.

(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص260.

335

وأمّا بناء على بطلان الوقف فلأنّنا لو قلنا ببطلان الوقف ولم نقصد بذلك عدم إمضاء الشارع لهذا المقدار من الوقف، أي: جهة المنع عن بيعه في حالة وجود المسوّغ، بل قصدنا رجوع الوقف إلى ملك الواقف أو صيرورته ملكاً طلقاً للموقوف عليهم قلنا: إنّه حتّى هنا لا يصحّ التمسّك بحكم المخصّص أو استصحابه، بل لابدّ من التمسّك بعموم أدلّة الإمضاء؛ لأنّ ما أنشأه الواقف هو حبس العين وسكونها إلى الأبد، ومقتضى عموم دليل الإمضاء كونه ممضى كذلك، وقد خرجنا عنه في حالة وجود المسوّغ، وأمّا بعده أو قبله فنتمسّك بدليل الإمضاء. نعم، العموم هذه المرّة مجموعي متكفّل لحكم واحد مستمرّ، ولكن لا فرق في الحكم بحجّية العموم _ في غير المقطع الذي ثبت خروجه منه _ بين كونه استقلاليّاً أو مجموعيّاً.

فما ذكروه وادّعوا عليه عدم الخلاف من بقاء الشيء على وقفيّته إذا لم يبع بعد عروض المجوّز حتّى زال هو مقتضى القاعدة(1)، انتهى كلام السيّد الخوئي رحمه الله مع حذف مقطع منه كان ينبغي حذفه(2).

أقول: لو فرضنا بطلان الوقف مدّة حالة وجود المسوّغ بمعنى رجوعه إلى وقف الواقف أو صيرورته ملكاً طلقاً للموقوف عليهم فكون المرجع بعد ارتفاع المسوّغ وقبل البيع إلى عموم العامّ أو استصحاب حكم المخصّص هو مصداق للنزاع المعروف في علم الأُصول، فكأنّ الشيخ الإيرواني رحمه الله بنى في تلك المسألة على الرجوع إلى استصحاب حكم المخصّص، بينما بنى السيّد الخوئي(قدس سره) على الرجوع إلى عموم العامّ.

التنبيه الثاني: نريد في هذا التنبيه التوسّع في البحث العلمي عن الاستثناء الأوّل من استثناءات من عدم جواز بيع الوقف، وهو ما لو خربت العين الموقوفة بحيث لا يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها كالحيوان المذبوح والجذع البالي والحصير المخرّق.


(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص260 _ 261.

(2) وهو مقطع من ص261 ولعلّه من خطأ المقرّر وإن شئته فراجع الكتاب.

336

وقد أفاد السيّد الخوئي رحمه الله في المقام: أنّ موضوع البحث ينبغي أن يكون أوسع من هذا، فلا يخصّص البحث بفرض الخراب المسقط للعين عن الانتفاع بها إلّا بالبيع، بل يجعل موضوع البحث كلّ ما لم يمكن الانتفاع به المنفعة المطلوبة إلّا بالبيع حتّى لو لم يكن ذلك بسبب الخراب.

ومثّل لذلك بما لو فرضنا أنّ شخصاً وقف داراً جديدة في بلد لذرّية طبقةً بعد طبقة وجيلاً بعد جيل إلى أن يرث الله الأرض، وفرضنا أنّ أهل تلك القرية قد تفرّقوا ولم يمكن الانتفاع من تلك الدار لا بالسكنى ولا بالإجارة؛ لأنّ المفروض تفرّق أهل القرية، ولكن يمكن الانتفاع ببيعها للزرع مثلاً وتبديلها بدار أُخرى في غير هذا المكان(1).

ولعلّ مقصوده رحمه الله فرض عدم إمكان استفادة نفس الموقوف عليهم من أرض الدار بالزرع، وإلّا فأيّ فرق بين استفادتهم من أُجرة الأرض أو استفادتهم من زرع الأرض؟!

أو لعلّ مقصوده رحمه الله فرض توقّف زرع الأرض على هدم البنيان، فلو جاز هدم البنيان للاستفادة من الأرض التي هي داخلة ضمناً في الوقف جاز أيضاً بيع الدار وتبديلها للاستفادة من المالية التي هي داخلة ضمناً في الوقف.

وعلى أيّ حال فقد أدار السيّد الخوئي رحمه الله البحث أوّلاً حول نفي الموانع عن البيع في المقام، وثانياً حول إثبات مقتضي البيع في المقام. ونحن نتّبع أثره إن شاء الله:

أمّا الموانع عن البيع فلعلّ من الواضح انتفاءها في المقام:

فإن كان المانع هو الإجماع فمن الواضح أنّه لا إجماع على حرمة بيع الوقف حينما لا يمكن الانتفاع به من دون بيع إن لم يكن الإجماع على العكس، ولا أقلّ من كون جواز البيع عندئذٍ من المشهور المعروف.


(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص269 _ 270. وقد أعاد بيان رأيه(رحمه الله) في الموضوع فيما إذا فرضنا ابتعاد الموقوف عليهم من العين بحيث لا يتمكّنون من الانتفاع بها بوجه من الوجوه في ص284.

337

وإن كان المانع تعلّق حقّ الموقوف عليهم الآخرين فبيعه يضيّع حقّهم فمن الواضح أنّ المفروض سقوط العين من دون بيع عن الانتفاع، فكيف يمنع ذلك عن البيع؟!

وأمّا روايات «الوقوف حسب ما يقفها أهلها»(1) فمن الواضح اختصاصها بفرض إمكان التصرّف بها حسب ما وقفها أهلها، وانصرافها عن غير هذا الفرض.

وأمّا رواية أبي علي بن راشد: «لا يجوز شراء الوقوف»(2) فلنفس الانصراف الذي أشرنا إليه في المانع السابق.

وقل نفس الشيء عن روايات «صدقة لا تباع ولا توهب»(3).

وأمّا إثبات مقتضي البيع في المقام فلذلك تقريبان:

التقريب الأوّل: تقريب يمكن أن يستفاد من كلام الشيخ رحمه الله مع تعديل منّا وتجريده عن خصوصيّات موجودة في كلامه(4) وهو أنّ الأمر دائر بين تعطيل الوقف حتّى يتلف بنفسه وبين انتفاع البطن الموجود بالإتلاف وبين تبديله بما يبقى وينتفع به الكلّ:

والأوّل: غير محتمل فقهيّاً؛ لكونه تضييعاً وتبذيراً لا يكون مراداً لله تعالى يقيناً.

والثاني: مناف لحقّ سائر البطون، على أنّه لو جاز انتفاع البطن الموجود بالإتلاف جاز بيعه أيضاً؛ إذ لا فرق بين إتلافه ونقله.

والثالث: هو المطلوب(5).


(1) مضت في أوائل شروعنا في بحث بيع الوقف.

(2) وسائل الشيعة، ج19، ص185، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح1.

(1) مضت قبل بدئنا ببحث موارد الاستثناء.

(2) راجع كلامه في المكاسب، ج4، ص62.

(3) وإن شئت نصّ كلام الشيخ(رحمه الله) فهو ما يلي:

«والحاصل أنّ الأمر دائر بين تعطيله حتّى يتلف بنفسه وبين انتفاع البطن الموجود به بالإتلاف وبين تبديله بما يبقى وينتفع به الکلّ: ←

338

والتقريب الثاني: ما هو مستفاد من كلام السيّد الخوئي رحمه الله وهو أنّ الواقف بعد التفاته إلى أنّ العين الموقوفة غير قابلة للبقاء إلى الأبد لا مناص له من أن يقف العين بشخصها مادامت باقية وبماليّتها ولو في ضمن عين أُخرى وليست العين حينئذٍ محبوسة فيجوز تبديلها.

وقد فرض السيّد الخوئي رحمه الله رجوع أحد التقريبين إلى الآخر(1).

ولكن يبدو لنا أنّ التفكيك بينهما كما صنعناه أكثر فنّيّاً.

ولو لم يلتفت الواقف صريحاً إلى عدم بقاء الدوام للعين، فارتكاز احتمال ذلك في الذهن على سبيل الإجمال كافٍ في تحليل كلام الواقف إلى وقف العين ووقف ماليّته.

وحاصل الكلام: أنّ هناك طريقتين للتوصّل إلى المطلوب في المقام من جواز البيع والتبديل.

إحداهما: تحليل مقصود الواقف من صيغة الوقف التي أجراها، ومن ثمَّ الوصول إلى الحكم الشرعي المُمضي لما أنشأه الواقف. وهذا ما يستفاد من كلام السيّد الخوئي رحمه الله.


والأوّل: تضييعٌ منافٍ لحقّ الله وحقّ الواقف وحقّ الموقوف عليه، وبه يندفع استصحاب المنع، مضافاً إلى كون المنع السابق في ضمن وجوب العمل بمقتضى الوقف، وهو انتفاع جميع البطون بعينه، وقد ارتفع قطعاً، فلا يبقى ما كان في ضمنه.وأمّا الثاني: فمع منافاته لحقّ سائر البطون يستلزم جواز بيع البطن الأوّل؛ إذ لا فرق بين إتلافه ونقله.والثالث: هو المطلوب.نعم، يمكن أن يقال: إذا كان الوقف ممّا لا يبقى بحسب استعداده العادي إلى آخر البطون، فلا وجه لمراعاتهم بتبديله بما يبقى لهم، فينتهي ملكه إلى من أدرك آخر أزمنة بقائه، فتأمّل.وكيف كان فمع فرض ثبوت الحقّ للبطون اللاحقة فلا وجه لترخيص البطون الموجودة في إتلافه».کتاب المكاسب، ج4، ص62 _ 63.

(1) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص272 _ 273.

339

والثانية: أنّنا حتّى لو فرضنا إجمال إنشاء الواقف أو حياديّته تجاه فرضين نأخذ بتحليل الأدلّة الشرعية للأحكام ولسان الشريعة في المقام كي نصل إلى المقصود. وهذا ما يستفاد من ظاهر عبارة الشيخ الأنصاري رحمه الله.

وبغضّ النظر عن بعض تعديلات لكلام أحد العلَمين وعدمه وأيضاً مع غضّ النظر عن أنّ الشيخ هل أفتى وفق طريقته التي اقترحها، أو لا؟ يكون المهمّ عندنا أنّ توحيد الطريقتين ممّا لا ينبغي، فلابدّ من الالتفات إلى جوهرين من الكلام معقولين سواء اخترناهما أو اخترنا أحدهما:

فتارة نقول: إنّ الواقف أنشأ وقف العين وتسبيل المنفعة وأنشأ ضمناً وقف المالية وتسبيل منفعتها، والإنشاء الثاني مقصود له بالاستقلال وإن كان بحسب تعبيره ضمنيّاً. وأُخرى نقول: إنّ الواقف لم ينشئ إلّا وقف العين، ولم يكن له نظر استقلالي إلى وقف المالية، وليست المالية إلّا جزءاً تحليليّاً للعين، ولكن لسان الشريعة يوصلنا بالتدقيق والتعمّق إلى النتيجة المطلوبة. فلا تغفل.

فروع مترتّبة علی جواز بيع الوقف

وبقي الكلام بعد ذلك في عدّة فروع:

الفرع الأوّل: هل يكون البدل مثل المبدل في كونه وقفاً أو يصير ملكاً طلقاً للبطن الموجود؟ من الواضح أنّ قانون المبادلة يقتضي أن يكون البدل أيضاً وقفاً على نحو المبدل؛ لأنّ الثمن يقوم مقام المثمن، فكما كان المثمن ملكاً غير طلق للبطون الموجودة يكون البدل أيضاً كذلك، فنحن إمّا أن نقول: إنّ الوقف بالخراب خرج عن كونه وقفاً، ولازم ذلك رجوعه إلى ملك الواقف أو وارثه، ولا تصل النوبة أصلاً إلى بيع الموقوف عليهم بأنفسهم أو بإذن وليّ الوقف للعين، وإمّا أن نقول بأنّه بالخراب لم يخرج عن الوقفية، فيكون بدل الوقف وقفاً لا محالة.

340

ولا فرق في الوصول إلى هذه النتيجة بين أن نستكشف جواز البيع بالطريقة الأُولى المقترحة من قِبل الشيخ الأنصاري وهو مجرّد التدقيق في لسان الشريعة، أو نستكشف جواز البيع بالطريقة الثانية المقترحة من قِبل السيّد الخوئي رحمه الله من تحليل مراد الواقف إلى وقف العين ووقف المالية ثم الوصول إلى الحكم الشرعي:

أمّا على الثاني فالأمر واضح؛ فإنّ المالية قد وقفها الواقف، وانتقالها من أيّ عين إلى أُخرى لا تؤثّر في وقفيّتها شيئاً.

وأمّا على الأوّل فلأنّ حكم الشريعة قد تعلّق بالتبديل، وليس معناه إلّا قيام الثمن مقام المثمن.

الفرع الثاني: هل إنّ حكم البدل مثل المبدل في عدم جواز بيعه إلّا بطروّ المجوّز وعروض المسوّغ، أو أنّه ليس كذلك بل يجوز بيعه لو رأى من بيده الاختيار من الناظر والمتولّي أو الحاكم مصلحة في بيعه وتبديله إلى شيء آخر؟

أفاد السيّد الخوئي رحمه الله ما حاصله: أنّ الظاهر هو الثاني؛ لأنّ عدم جواز البيع في المبدل كان خاصّاً بالمبدل؛ لأنّ الوقف تحبيس للعين وتسبيل للمنفعة، أمّا المحبوس الآخر فكان هو المالية، والمالية محفوظة في جميع أنحاء البدل.

ومن هنا ظهر أنّه لا مانع من تبديل العين الموقوفة في صورة عروض المسوّغ وجواز البيع بما لا يمكن أن يتعلّق به الوقف مثل الدنانير والدراهم التي لا يمكن الانتفاع بها إلّا بإعدام موضوعها ثم تبديلها بما ينتفع به، لأنّ تحبيس الدينار والدرهم وتسبيل منفعتهما غير ممكن(1).

أقول: أمّا المطلب الثاني وهو عدم إمكان وقف المالية ابتداءً _ لأنّها ليست متجسّدة في عين تحبس كالدينار والدرهم وتسبل منفعتها _ فقابل للمناقشة؛ وذلك


(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص275 _ 276.

341

لأنّه وإن كان الوقف المألوف في زمن النصوص كان بشكل حبس العين وتسبيل المنفعة دون حبس المالية وتسبيل منفعتها لكن قد يخطر بالبال التمسّك بإطلاق روايات الصدقة الجارية(1) ببيان أنّ عنوان الصدقة الجارية صادق على وقف المالية، وحبس المالية على عمل خيريّ أمر معقول وعقلائي، كحبسها على الاتّجار بها وتسبيل منفعتها على تعازي الإمام الحسين عليه السلام مثلاً أو أيّ مشروع خيريّ آخر، وانحصار مصداقها في زمن النصوص في تحبيس عين معيّنة لا يوجب انصرافها إلى ذلك.

وبهذا البيان نصحّح أمثال الصناديق الخيرية أو تمليك مال لحركة أو حزب أو ما شابه ذلك إن كان أمراً خيريّاً يتمشّی فيه قصد القربة.

إلّا أنّ فهم هذا الإطلاق من روايات الصدقة الجارية يتوقّف على أن لا نحتمل كون انحصار مصداق الصدقة الجارية وقتئذٍ في مرتكز المتشرّعة في الوقف الذي لا يبدّل ولا يباع ولا يوهب صالحاً للقرينية الموجبة لانصراف إطلاق عنوان الصدقة الجارية إلى ذلك، أمّا إذا احتملنا ذلك فقد بطل الإطلاق. ولعلّ السبب في انصراف الصدقة الجارية وقتئذٍ عن وقف المالية الصرفة ابتداءً كصدقة جارية في الارتكاز العرفي والمتشرّعي عدم تعقّل ذلك في ذاك الزمان ضمن الاقتصاد المغلق الذي لم يكن يتحمّل الزمان والمكان غير ذلك.

ولكن حلّ هذا الإشكال عبارة عن الرجوع إلى صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج الصريحة في جواز شرط الواقف حقّ البيع والتبديل، فيرجع واقع المطلب إلى التصدّق بالمالية، أو قل: وقف المالية القابلة للتجسيد في الأعيان المختلفة.

فراجع هذا الحديث وهو حديث مفصّل، وقد ورد فيه قوله(عليه السلام): «... وإن كان دار الحسن غير دار الصدقة فبدا له أن يبيعها، فليبعها إن شاء لا حرج عليه فيه، وإن باع فإنّه يقسّمها ثلاثة أثلاث، فيجعل ثلثاً في سبيل الله، ويجعل ثلثاً في بني هاشم


(1) راجع وسائل الشيعة، ج19، الباب الأوّل من کتاب الوقوف والصدقات، ص171 _ 175.

342

وبني المطّلب، ويجعل ثلثاً في آل أبي طالب...»(1)، فإن استظهرنا من هذا الكلام تبديل العين الموقوفة بعين أُخرى بأن يشتري بثمن الأُولى الثانية فهذا يكون ما أسميناه بوقف المالية. وإن استظهرنا من هذا الكلام بيع الوقف وصرف ثمنه على الموقوف عليهم قلنا: إذاً فصحّة شرط جواز البيع للتبديل أولى من شرط جواز البيع للصرف والاستهلاك، فإذا جاز هذا جاز ذاك، وذلك راجع _ كما قلنا _ إلى وقف وتمليك المالية؛ للتبدّل في تجسّدها من عين إلى عين.

وأيضاً ورد في نفس الحديث قبل هذا المقطع قوله: «فإن أراد ]يعني الحسن(عليه السلام)[ أن يبيع نصيباً من المال فيقضي به الدين فليفعل إن شاء لا حرج عليه فيه، وإن شاء جعله شِروى الملك ]يعني مثل الملك[ وإنّ ولد علي وأموالهم إلى الحسن بن علي» وهذا أيضاً إمّا راجع إلى وقف المالية أو إلى ما تكون صحّة وقف المالية أولى منه.

نعم، كلّ هذا بحسب مورد الرواية يختصّ بفرض الوقف بقصد القربة، ولكن يمكن التعدّي _ بعدم الاحتمال العرفي للفرق _ إلى الوقف الذي لا يكون بقصد القربة، أو قل: إلى مطلق تمليك المالية وتحبيسها وتسبيل ثمرتها.

وأمّا المطلب الأوّل _ وهو أنّه في وقف العين بعد طروّ المجوّز للتبديل وتبديلها بعين أُخرى لا يحكم بضرورة عدم تبديل العين الثانية، فلو رأى المتولّي أو الحاكم تبديلها بعين ثالثة جاز ذلك _ فهذا يتمّ على مسلك السيّد الخوئي رحمه الله من أنّ مجوّز التبديل كان عبارة عن أنّ الواقف قد وقف العين والمالية. فوقفه للعين إنّما كان يقتضي الحفاظ على العين مدّة الإمكان، وقد انتفت تلك المدّة، أمّا وقفه للمالية فلا يقتضي إلّا الحفاظ على المالية ولو في ضمن عدّة بدائل من الأعيان، فلا مانع من تبديل بعد تبديل لو رأى المتولّي أو الحاكم ذلك.


(1) وسائل الشيعة، ج19،ص199_ 200، الباب10 من کتاب الوقوف والصدقات، ح3.

343

أمّا لو بنينا على المسلك الآخر وهو أنّ الفهم العرفي للدليل الشرعي اقتضى التبديل من دون تحليل فعل الواقف إلى وقف العين ووقف المالية بالاستقلال فهذا الوجه لا ينتج التبديل مرّة أُخرى إلّا إذا تكرّر المجوّز، وإلّا فيبقی احتمال أنّ البدل حلّ محلّ المبدل في تعلّق حقّ البطون المتأخّرة به ما لم يتكرّر المجوّز(1).

ولو آمنّا بكلا المسلكين كفى إيماننا بمسلك السيّد الخوئي رحمه الله في جواز التبديل للعين بعين أُخرى عدّة مرّات لو رأى المتولّي أو الحاكم ذلك.

الفرع الثالث: هل يعتبر بعد البيع شراء المماثل للوقف، أو لا؟

إن كان دليلنا على جواز البيع مجرّد الفهم من الدليل الشرعي من دون افتراض انحلال وقف الواقف إلى وقف العين ووقف المالية فلم نعرف دليلاً على اعتبار شراء المماثل.

وإن كنّا نعتقد أنّ وقف الواقف منحلّ إلى وقف العين ووقف المالية فالمقياس أيضاً ليس عنوان شراء المماثل، وإنّما المقياس عنوان الاحتفاظ بما وقفت عليه المالية بقدر الإمكان؛ بحكم أنّ الوقوف حسب ما يقفها أهلها.

الفرع الرابع: أنّ المباشر للبيع هل هو المتولّي أو الموقوف عليهم الموجودون أو الحاكم أو البطون الموجودة مع الحاكم؟

أفاد الشيخ الأنصاري رحمه الله: «إنّ المتولّي للبيع هو البطن الموجودة بضميمة الحاكم القيّم من قبل سائر البطون، ويحتمل أن يكون هذا إلى الناظر إن كان؛ لأنّه المنصوب لمعظم الأُمور الراجعة إلى الوقف، إلّا أن يقال بعدم انصراف وظيفته المجعولة من قِبل الواقف إلى التصرّف في نفس العين»(2).


(1) وتوضيح ذلك: أنّ احتمال تعلّق حقّ البطون المتأخّرة بعين البدل يجعلنا لا نجزم بصحّة البيع الثاني والأصل في المعاملات الفساد. وهذا بخلاف ما لو آمنّا بمسلك السيّد الخوئي(رحمه الله) الذي ينتج أنّ حقّ البطون المتأخّرة تعلّقت بالمالية لا بعين البدل.

(2) کتاب المكاسب، ج4، ص69.

344

وأفاد السيّد الخوئي رحمه الله: أنّ المتولّي المنصوب من قِبل الواقف لدى الوقف إن كان قد جعله متولّياً حتّى لمثل هذا البيع بأن سلب سلطنة الموقوف عليهم عن الوقف من هذه الجهة وجعل سلطنة ذلك للمتولّي فلا إشكال في أنّ المباشر للبيع هو المتولّي.

أمّا لو لم يكن الواقف قد نصب متولّياً أو كان قد نصبه لإصلاح الوقف فحسب لا لبيعه لدى حصول المجوّز للبيع فالمباشر للبيع هو البطن الموجود من الموقوف عليهم المالك فعلاً للوقف؛ لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم، ولا وجه لأن يكون منوطاً بنظر الحاكم أيضاً.

الّلهم إلّا أن يقال: إنّ انضمام الحاكم إلى البطون الموجودة المالكة يكون من جهة كونه وليّاً للبطون المتأخّرة. ولكن هذا المعنى ممنوع:

أمّا أوّلاً: فلأنّه قد يفترض بعض البطون المتأخّرة موجودين فعلاً من الطبقة الثانية أو الثالثة أيضاً وإن لم يكونوا مالكين فعلاً للوقف مادام البطن الأوّل موجوداً، أفهل يكون الحاكم الشرعي حاكماً على البطون الموجودين؟!

وأمّا ثانياً: فلأنّ الوقف ملك للطبقة الأُولى ماداموا موجودين، ولا نتعقّل الملكية الشأنية الجارية على لسان الشيخ الأنصاري رحمه الله لغيرهم من المعدومين والموجودين(1).

نعم، جعل الواقف لهم الملكية التقديرية، بمعنى أنّهم يملكون الوقف لو انقرض البطن السابق، ولا أثر للملكية التقديرية، وإلّا فجميع الورّاث في العالم يملكون مال مورّثهم على تقدير موته، أفهل يمنع ذلك المورّث من بيع ماله؟!

فتحصّل: أنّه لا وجه لاعتبار انضمام الحاكم على جميع التقادير أصلاً.

أقول: إنّ هذا الكلام من أوّله إلى آخره لا يمكن المساعدة عليه، وأطرف ما فيه ما ذكره أخيراً من النقض بإرث الوارث الذي لا يمنع المورّث عن بيع ماله أو استهلاكه.


(1) کتاب المكاسب، ج4، ص63.

345

فإنّ الواقف قد أنشأ ملكية كلّ البطون بطناً بعد بطن منذ البدء، والشريعة أمضت ذلك، وهذا يعني أنّ البطن المعدوم يكون محكوماً من الآن بآثار ملكيّته في حينه وكذلك البطن المتأخّر الموجود في زمان البطن الأوّل محكوم من الآن بآثار ملكيّته في حين موت البطن الأوّل، أو قل: إنّ اعتبار الملكية في المقطع الزماني المتأخّر ثابت من الآن، ولا يصغى _ في زماننا الحاضر الذي اتّضح فيه معنى الملكية وأنّها ليست إلّا أمراً اعتباريّاً _ إلى القول بأنّ المعدوم لا يملك أو أنّ البطن المتأخّر لا يملك(1).

والخلاصة: أنّ تعلّق الحقّ المانع عن بيع السابق نافذ المفعول من الآن، وإن شئت فسمّ هذا بالملكية الشأنية إلّا أنّهم لا يستطيعون الآن الترخيص في البيع، فيأتي دور حاكم الشرع، فلا أقلّ من الاحتياط بإذن حاكم الشرع إن لم نفت صريحاً بذلك.

الفرع الخامس: لو كان الواقف قد جعل ناظراً على الوقف ثم طرأ المجوّز للتبديل فأُبدِل الوقف بعین أُخرى فهل يبقى الناظر ناظراً على بدل الوقف أو تسقط نظارته، فبالنسبة للبدل يكون حاله حال ما إذا لم يكن الواقف قد عيّن ناظراً للوقف؟

أفاد الشيخ الأنصاري رحمه الله في المقام: «الظاهر سقوط نظارته عن بدل الوقف. ويحتمل بقاؤه؛ لتعلّق حقّه بالعين الموقوفة، فيتعلّق ببدلها»(2).

أقول: أمّا الوجه الذي ذكره للاحتمال الثاني فيبدو أنّه ضعيف عند الشيخ رحمه الله؛ إذ قال: «الظاهر سقوط نظارته عن بدل الوقف» ووجه ضعفه واضح؛ لأنّ معنى


(1) وقد أفاد السيّد الخوئي(رحمه الله) عدم استحالة كون المعدوم مالكاً، وإنّما قال بعدم مالكيّته في المقام من جهة عدم شمول إنشاء الواقف وتمليكه لهم مع وجود البطن الموجود، كما صرّح(رحمه الله) بذلك في التنقيح، موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص282، ولكنّي لا أدري لماذا يفترض(رحمه الله) _ بعد إمكان مالكية المعدوم _ أنّ الواقف الذي جعل ما وقفه للبطون بطناً بعد بطن أنّه لم ينشئ ولم يعتبر ملكيّتهم المتأخّرة من الآن، بمعنى تقدّم الاعتبار وتأخّر المعتبر؟

(2) کتاب المكاسب، ج4، ص69.

346

البدلية إنّما هو تعلّق الحقّ الذي كان على المبدل للموقوف عليهم على البدل، لا تعلّق كلّ أحكام المبدل على البدل.

وأمّا ما استظهره الشيخ من سقوط حقّ نظارة الناظر عن البدل فقد أفاد السيّد الخوئي رحمه الله بشأنه ما يلي: الظاهر أنّ هذا لا يحتاج إلى بحث، بل هو دائر مدار جعل الواقف في تعيينه الناظر؛ لأنّه تارة يجعل شخصاً ناظراً لنفس العين الموقوفة لأجل خصوصية فيها بحيث لو باع الدار مثلاً واشترى بثمنها شيئاً آخر غير الدار لم يجعله ناظراً على البدل، كما إذا كان الوقف داراً وجعل لها ناظراً من المعمارين من جهة أنّه أعرف بمصلحة الدار، فلو فرضنا بيعها بمجوّز واشترى بثمنها شيئاً آخر ليس للمعمار فيه شأن أصلاً، وعندئذٍ لا مانع من القول بسقوط نظارته عن البدل. وأُخرى يجعله ناظراً على الإطلاق أعمّ من نفس العين الموقوفة وبدلها درءاً لوقوع المخاصمة والمشاجرة بين الموقوف عليهم في كلّ طبقة مثلاً، فالمناط في هذا المقام كيفية جعل النظارة من قبل الواقف(1).

الفرع السادس: ما ذكره الشيخ(قدس سره) بقوله: «لو لم يمكن شراء بدله ولم يكن الثمن ممّا ينتفع به مع بقاء عينه _ كالنقدين _ فلا يجوز دفعه إلى البطن الموجود؛ لما عرفت من كونه کالمبيع مشتركاً بين جميع البطون، وحينئذٍ فيوضع عند أمين حتّى يتمكّن من شراء ما ينتفع به ولو مع الخيار إلى مدّة، ولو طلب ذلك البطن الموجود فلا يبعد وجوب إجابته، ولا يعطّل الثمن حتّى يوجد ما يشتری به من غير خيار. نعم، لو رضي الموجود بالاتّجار به وكانت المصلحة في التجارة جاز مع المصلحة إلى أن يوجد البدل، والربح تابع للأصل، ولا يملكه الموجودون؛ لأنّه جزء من المبيع، وليس كالنماء الحقيقي»(2).


(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ص279.

(2) کتاب المكاسب، ج4، ص69 _ 70.

347

وقد قطّع السيّد الخوئي رحمه الله البحث في هذا المقطع من كلام الشيخ إلى عدّة جهات من البحث:

الجهة الأُولى: في أصل جواز إبدال الوقف بما لا يمكن وقفه مثل الدنانير والدراهم. قال رحمه الله: وربّما يقال بعدم جواز ذلك؛ لأنّ البدل لابدّ وأن يكون مثل المبدل في كونه تحبيساً للعين وتسبيلاً للمنفعة...(1).

وعلّق على ذلك السيّد الخوئي رحمه الله بقوله:

«أوّلاً: أنّ ما ذكره(قدس سره) من مقالة عدم إمكان هذا المعنى في مثل الدنانير وإن كان متيناً إلّا أنّه لا مانع من جعل البدل ديناراً مقدّمة لأن يشتري به ما يكون قابلاً للوقف. وبعبارة أُخرى: أنّه لمّا كان الغالب كون الثمن من الدنانير والدراهم فلا مانع من تبديل الوقف إلى الدينار مثلاً ليوصل به إلى اشتراء ما يمكن وقفه والانتفاع به مع بقاء عينه.

وثانياً: أنّه لا مانع من وقف نفس الدينار والدرهم لا ابتداءً بل في مرحلة التبديل بعد ملاحظة ما ذكرناه آنفاً(2) من جواز بيع البدل ولو بلا عروض المجوّز»(3).

أقول: إنّ التعليق الذي لدينا على هذا الكلام هو ما وضّحناه في الفرع الثاني من أنّ وقف المالية أمر ممكن، إلّا أنّ هذا لا يمانع عن التعليقين اللذين علّق السيّد الخوئي رحمه الله على كلام الشيخ الإيرواني.

الجهة الثانية: في شراء ما ينتفع به مع الخيار.

قال رحمه الله: أصل جواز ذلك لا إشكال فيه رغم خيار البائع، ولا ينافيه التأبيد المشروط في الوقف، كيف وقد أجزنا بيع البدل من دون طروّ المجوّز من جديد. نعم،


(1) والقائل هو الشيخ الإيرواني في حاشيته على المكاسب 2:459

(2) إشارة إلى ما نقلناه عنه(رحمه الله) آنفاً فيما ذكرناه بعنوان الفرع الثاني.

(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص280 _ 281.

348

ما ذكره الشيخ من تقييد وجوب الشراء بصورة المطالبة من قِبل البطن الموجود غير صحيح، بل يجب هذا الشراء سواء طلب البطن الموجود أو لا؛ لأنّ تعطيل الوقف وعدم تبديله إلى شيء يمكن الانتفاع به ولو في زمان يعدّ تضييعاً للوقف، وهذا المعنى مخالف لإنشاء الواقف وغرضه؛ بداهة أنّ غرضه من الوقف انتفاع البطون من نفس العين الموقوفة عند الإمكان ومن بدلها مع عدمه، فعليه لابدّ من تبديل الدنانير مثلاً إلى شيء خياري يمكن الانتفاع منه مع بقاء عينه ولو كان بزمان قليل مثلاً؛ لأنّ تعطيل هذا تضييع للوقف ومنافٍ لـ «الوقوف على حسب ما يقفها أهلها» من حيث تحبيس العين وتسبيل المنفعة(1).

أقول: من الواضح أنّ تحبيس العين وتسبيل المنفعة أو «الوقوف حسب ما يقفها أهلها» لا يعني ضرورة إجبار الموقوف عليه على الاستفادة، وإنّما يعني تمكينه من الاستفادة، فإن كان البطن الموجود راضياً بعدم الاستفادة وكان متمكّناً من الاستفادة بتبديل الدينار ببيع خياري متى ما أراد كفى ذلك في تحقّق ما أنشأه الواقف أو ما كان غرضاً له، فلعلّ هذا هو مراد الشيخ من تقييد وجوب الشراء بصورة المطالبة.

نعم، لو فرضنا احتمال أنّه لو لم يتمّ الآن التبديل بما يمكن الانتفاع به فسيأتي زمان يريد البطن الاستفادة ولكنّه يعجز عندئذٍ من التبديل والاستفادة، صحّ تعليق السيّد الخوئي رحمه الله على كلام الشيخ إن كان إطلاق كلام الشيخ لهذا الفرض مقصوداً له.

الجهة الثالثة: فيما ذكره الشيخ رحمه الله من وجوب جعل الثمن عند أمين من دون أن يعطی إلى البطن الموجود؛ لأجل كونه مشتركاً بين الموجودين منهم والمعدومين.

أفاد السيّد الخوئي رحمه الله: أنّ ما قاله الشيخ رحمه الله في المقام في غير محلّه، بل لابدّ من إعطائه وجعله عند البطن الموجود؛ لكونه ملكاً لهم، غاية الأمر أنّها ملكية خاصّة، أي: التي لا تباع ولا تورث، فلا وجه لجعله عند أمين والمعدومون ليسوا بمالكين


(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص281.

349

فعلاً، ولا حقّ لهم في ذلك، لا من باب استحالة كون المعدوم مالكاً، بل من جهة عدم شمول إنشاء الواقف وتمليكه لهم مع وجود البطن الموجود. نعم، إنّ المعدومين يكونون مالكين بعد انقراض البطن الموجود وبقاء العين الموقوفة...(1).

أقول: قد مضى منّا(2) أنّ الواقف قد أنشأ ملك البطون المتأخرّة، لا بمعنى إنشاء ملكيّتهم في ظرف الآن بأن يكون ظرف الآن هو ظرف ملكيّتهم الفعلية، بل بمعنى إنشاء ملكيّتهم المتأخّرة على أساس تقدّم الاعتبار وتأخّر المعتبر، وقلنا: إن شئت فسمّ هذا بالملكية الشأنية.

نعم، لا بأس بجعله تحت يد البطن الأوّل إن كان أميناً بوصفه أميناً، لا بوصفه المالك الوحيد.

الجهة الرابعة: في اتّجار الموجودين بثمن الوقف.

أفاد السيّد الخوئي رحمه الله: أنّ الظاهر جوازه؛ لأنّه ملكهم، والربح يكون تابعاً للعين؛ لأنّه جزء البدل، وليس من قبيل المنافع، بل من قبيل اتّساع الوقف، فإذا اشترى بالثمن صوفاً مثلاً صار هو بدل الوقف، فإذا بيع بثمن أعلى صار مجموع الثمن بدل الوقف، ولا وجه لعود الربح إلى البطن الموجود، فهو نظير تبديل الدار الموقوفة الضيّقة بدار واسعة، فإنّ الدار الواسعة حينئذٍ بأجمعها تكون وقفاً(3).

أقول: إنّ أصل ما أفتى به رحمه الله صحيح، لكن لا لأنّه ملكهم وحدهم، بل عرفت أنّ الواقف اعتبر الوقف ملكاً للمعدومين أيضاً على أساس تقدّم الاعتبار على المعتبر، وإذاً فلابدّ من إذن الولي الشرعي بلحاظ البطون المتأخّرة ولو بأن يكون هو الحاكم.

الفرع السابع: قال الشيخ رحمه الله: «لا فرق في جميع ما ذكرنا من جواز البيع مع خراب


(1) المصدر السابق، ص282.

(2) في الفرع الرابع.

(3) المصدر السابق.

350

الوقف بين عروض الخراب لكلّه أو بعضه، فيباع البعض المخروب ويجعل بدله ما يكون وقفاً، ولو كان صرف ثمنه في باقيه بحيث يوجب زيادة منفعته جاز مع رضا الكلّ؛ لما عرفت من كون الثمن ملكاً للبطون، فلهم التصرّف فيه على ظنّ المصلحة. ومنه يعلم جواز صرفه في وقف آخر عليهم على نحو هذا الوقف، فيجوز صرف ثمن ملك مخروب في تعمير وقف آخر عليهم»(1).

أقول: وليكن ذلك بضمّ إجازة الولي بلحاظ البطون الذين لم تصل النوبة لهم.

وكلام السيّد الخوئي رحمه الله(2) يقارب كلام الشيخ أو يطابقه.

الفرع الثامن: إذا احتاج الوقف إلى صرف المنفعة الموجودة التي هي ملك طلق للموجودين من البطون في تعمير الوقف، بحیث لو لم تصرف فيه لا يمکن انتفاع البطن اللاحق من الوقف، هل يجب صرفها في عمارة الوقف حفظاً للوقف عن خروجه عن قابلية انتفاع البطون اللاحقة به، أو لا؟

أفاد السيّد الخوئي رحمه الله: أنّه لو اشترط الواقف ضمن الوقف إخراج مؤونة الوقف وما يحتاج إليه من جهة العمارة من منافع الوقف قبل القسمة وجب ذلك، وإلّا لم يجب على الموجودين أن يصرفوا المنافع الموجودة في تعمير الوقف لأجل حفظ الوقف عن خروجه عن قابلية الانتفاع به بالنسبة إلى البطون اللاحقة؛ لأنّ المنفعة ملك طلق للموجودين، فلهم أن ينتفعوا من الوقف ماداموا موجودين، ولا وجه لوجوب صرف الإنسان مال نفسه في حفظ مال شخص آخر.

نعم، لو كان الخراب مستنداً إلى الأُمور الجزئية، كما إذا سقط الميزاب من سطح الدار أو حصل ثقب في سقفها بحيث لو لم يعمّر ذلك لخربت الدار بنزول المطر ولم ينتفع منها الموجودون أيضاً فحينئذٍ لا مانع من دعوى الارتكاز العرفي ضمن صيغة الوقف


(1) کتاب المكاسب، ج4، ص70.

(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)،‌ج37، ص282.

351

في استتثناء المصارف من المنافع قبل تقسيمها على البطون الموجودة(1).

وعبارة التنقيح متأرجحة بين كون منشأ الارتكاز والانصراف كون المصارف جزئية، أو كونها لابدّ منها حتّى لأجل البطن الموجود فعلاً.

وعلى أيّ حال فمتى ما كان الارتكاز يتمّ كلام السيّد الخوئي رحمه الله؛ لأنّ الارتكاز راجع إلى شرط الواقف ضمن الوقف.

الفرع التاسع: لو خرب بعض الوقف وخرج عن الانتفاع وبقي بعضه محتاجاً إلى عمارة لا يمكن بدونها انتفاع البطون اللاحقة، فهل يصرف ثمن المخروب إلى عمارة الباقي وإن لم يرض البطن الموجود وأراد تبديله بما ينتفع هو به الآن، أو لا؟

أفاد السيّد الخوئي رحمه الله: أنّ هذا حاله حال الفرع السابق من أنّه مع شرط الواقف ضمن الوقف حفظ الباقي بثمن المخروب يجب ذلك، وبدونه يعمل بما يريده البطن الموجود(2).

أقول: أنّ ملك البطون المتأخّرة للمخروب وللباقي ثابت على شكل تقدّم الاعتبار وتأخّر المعتبر، فلابدّ من العمل برأي الوليّ ولو كان هو الحاكم إمّا فتوىً أو احتياطاً.

الفرع العاشر: ما إذا فرضنا أنّ الوقف ممّا يمكن الانتفاع به فعلاً إلّا أنّه لو لم يُبَع فعلاً يسقط عن الانتفاع بعد مدّة قليلة بالمرّة ولا يشتريه شخص آخر في ذلك الظرف، كما إذا فرضنا أنّه يهدمه السلطان بعد شهر بفتح الشارع.

وقد أفاد السيّد الخوئي رحمه الله: أنّه لا إشكال في جواز بيعه؛ لأنّ تعطيله يؤدّي إلى تضييع الوقف وإعدام موضوعه. ثم أمر رحمه الله في التنقيح بالتأمّل(3)، ولعلّ الأمر بالتأمّل من المقرّر لا من السيّد الخوئي.


(1) المصدر السابق، ص283 _ 284.

(2) المصدر السابق، ص284.

(3) المصدر السابق، ص284 _ 285.

352

أقول: إنّ هذا مرجعه إلى ما مضى منّا في المورد الرابع من موارد جواز بيع العين الموقوفة لدى استعراضنا الإجمالي لموارد جواز البيع.

وحاصل الكلام: إنّه إمّا أن يحلّل إنشاء الواقف إلى وقف العين ووقف المالية أيضاً بالاستقلال، أو يستفاد من الأدلّة الشرعية مباشرة جواز البيع، ولا إشكال في أنّ هذا الجواز لا يكون إلّا لأجل شراء البديل.

التنبيه الثالث: ذكر الشيخ الأنصاري رحمه الله صورتين من الصور التي قد يقال فيهما بكونهما من مستثنيات عدم جواز بيع الوقف:

إحداهما: «أن يخرب بحيث يسقط عن الانتفاع المعتدّ به، بحيث يصدق عرفاً أنّه لا منفعة فيه»(1). والأُخرى: «أن يخرب بحيث يقلّ منفعته لكن لا إلى حدّ يلحق بالمعدوم»(2).

ويظهر منه رحمه الله التفصيل بين الصورتين، فألحق الأُولى بصورة انتفاء المنفعة كاملة وقال: «مجرّد حبس العين وإمساكه... لو وجب الوفاء به لمنع عن البيع في الصورة الأُولى ]يعني صورة انعدام المنفعة كاملة كالحيوان المذبوح والجذع البالي والحصير الخَلِقَ[»(3)، وقوّى في الثانية المنع عن البيع(4).

التنبيه الرابع: قد يُنسَب إلى الشيخ المفيد: أنّ من موارد بيع الوقف ما إذا كان أنفع وأعود للموقف عليه.

ونصّ عبارة الشيخ المفيد في المقنعة ما يلي: «الوقوف في الأصل صدقات لا يجوز


(1) راجع کتاب المكاسب، ج4، ص71 وما بعدها.

(2) المصدر السابق، ص76 وما بعدها.

(3) المصدر السابق، ص73.

(4) المصدر السابق، ص76 و77.

353

الرجوع فيها إلّا أن يُحدث الموقوف عليهم ما يمنع الشرع من معونتهم والتقرّب إلى الله بصلتهم أو يكون تغيير الشرط في الموقوف أدرّ عليهم وأنفع لهم من تركه على حاله، وإذا أخرج الواقف الوقف عن يده إلى من وقف عليه لم يجز له الرجوع في شيء منه ولا تغيير شرائطه ولا نقله عن وجوهه وسُبله. ومتى اشترط الواقف في الوقف أنّه متى احتاج إليه في حياته _ لفقر _ كان له بيعه وصرف ثمنه في مصالحه جاز له فعل ذلك، وليس لأرباب الوقف بعد وفاة الواقف أن يتصرّفوا فيه ببيع أو هبة أو يغيّروا شيئاً من شروطه إلّا أن يخرب الوقف ولا يوجد من يراعيه بعمارة من سلطان أو غيره أو يحصل بحيث لا يجدي نفعاً لهم، فلهم حينئذٍ بيعه والانتفاع بثمنه، وكذلك إن حصلت لهم ضرورة إلى ثمنه كان لهم حلّه، ولا يجوز ذلك مع عدم ما ذكرناه من الأسباب والضرورات»(1) انتهى كلامه رحمه الله.

وهذا واضح في أنّ مقصوده رحمه الله بيعه وأكل ثمنه إن كان أدرّ عليهم وأنفع لا تبديله بعين أُخرى، وخصّ ذلك بما قبل خروج الموقوف من يد الواقف إلى يد الموقوف عليهم أو موته، إذاً فلعلّه رحمه الله ناظر إلى فرض أنّ الوقف لا يتمّ قبل الخروج من يد الواقف، فأصل نظره رحمه الله إلى الاستثناء غير واضح.

وقال الشيخ رحمه الله ما مفاده: إنّ العلّامة ذكر في التحرير: أنّ قول المفيد بجواز الرجوع في الوقف إذا أحدث الموقوف عليهم ما يمنع الشرع من معونتهم والتقرّب إلى الله بصلتهم أو يكون تغيير الشرط في الموقوف أدرّ عليهم وأنفع لهم من تركه على حاله متأوّل(2).

وعلّق الشيخ رحمه الله على ذلك بقوله: «ولعلّه من شدّة مخالفته للقواعد لم يرتض بظاهره للمفيد»(3).


(1) المقنعة، ص652 _ 653.

(2) کتاب المكاسب، ج4، ص45.

(3) المصدر السابق، ص45.

354

وقال الشيخ رحمه الله: إنّ زيادة النفع والدرّ تلحظ بالنسبة للبطن الموجود لو قيل بأكله للثمن، وتلحظ بالنسبة لجميع البطون لو قيل بوجوب شراء بدل الوقف بثمنه(1).

ثم أفاد رحمه الله: والأقوى المنع مطلقاً وفاقاً للأكثر، بل الكلّ بناء على ما تقدّم من عدم دلالة قول المفيد للاستثناء، وعلى تقدير دلالته فقد ذكر العلّامة في التحرير أنّ كلام المفيد متأوّل. وكيف كان فلا إشكال في المنع، لوجود مقتضي المنع وهو وجوب العمل على طبق إنشاء الواقف وقوله(عليه السلام): «لا يجوز شراء الوقف»(2) وغير ذلك(3)، وعدم ما يصلح للمنع، عدا رواية ابن محبوب عن علي بن رئاب عن جعفر بن حنّان(4) قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن رجل وقف غلّة له على قرابته من أبيه وقرابته من أُمّه وأوصى لرجل ولعقبه ليس بينه وبينه قرابة بثلاثمائة درهم في كلّ سنة ويقسم الباقي على قرابته من أبيه وقرابته من أُمّه فقال(عليه السلام): جائز للّذي أوصى له بذلك. قلت: أرأيت إن لم يخرج من غلّة تلك الأرض التي وقفها إلّا خمسمائة درهم؟ فقال: أليس في وصيّته أن يعطی الذي أوصى له من الغلّة ثلاثمائة درهم ويقسّم الباقي على قرابته من أبيه وقرابته من أُمّه؟ قلت: نعم. قال: ليس لقرابته أن يأخذوا من الغلّة شيئاً حتّى يوفّوا الموصى له ثلاثمائة درهم، ثم لهم ما يبقى بعد ذلك. قلت: أرأيت إن مات الذي أوصى له؟ قال: إن مات كانت الثلاثمائة درهم لورثته يتوارثونها ما بقي أحد منهم فأما إذا انقطع ورثته فلم يبق منهم أحد كانت الثلاثمائة درهم لقرابة الميّت يردّ ما يخرج من الوقف ثم يقسّم بينهم يتوارثون ذلك ما بقوا وبقيت الغلّة. قلت: فللورثة من قرابة الميّت أن يبيعوا الأرض إذا احتاجوا ولم يكفهم ما يخرج من


(1) المقنعة، ص78.

(2) إشارة إلى رواية أبي علي بن راشد الواردة في الوسائل، ج19، ص185، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح1.

(3) يعني باقي أدلّة المنع.

(4) أو جعفر بن حيّان.

355

الغلّة؟ قال: نعم إذا رضوا كلّهم وكان البيع خيراً لهم باعوا»(1).

والخبر المروي عن الاحتجاج: أنّ الحميري كتب إلى صاحب الزمان(عليه السلام): أنّه روي عن الصادق عليه السلام خبر مأثور: «...إذا كان الوقف على قوم بأعيانهم وأعقابهم فاجتمع أهل الوقف على بيعه وكان ذلك أصلح لهم أن يبيعوه فهل يجوز أن يشتری من بعضهم إن لم يجتمعوا كلّهم على البيع أم لا يجوز إلّا أن يجتمعوا كلّهم على ذلك؟ وعن الوقف الذي لا يجوز بيعه؟ فأجاب(عليه السلام): إذا كان الوقف على إمام المسلمين فلا يجوز بيعه، وإن كان على قوم من المسلمين فليجمع كلّ قوم ما يقدرون على بيعه مجتمعين ومتفرّقين إن شاء الله...»(2).

قال الشيخ الأنصاري رحمه الله: ويؤيّد المطلب _ أي: بيع كلّ قوم ما يقدرون على بيعه مجتمعين ومتفرّقين _ صدر رواية علي بن مهزيار في بيع حصّة ضيعة الإمام عليه السلام من الوقف(3).

ويقصد بذلك ما ورد في الوسائل بسند تام عن علي بن مهزيار قال: «كتبت إلى أبي جعفر الثاني(عليه السلام): إنّ فلاناً ابتاع ضيعة فأوقفها وجعل لك في الوقف الخمس ويسأل عن رأيك في بيع حصّتك من الأرض أو تقويمها على نفسه بما اشتراها أو يدعها موقفة، فكتب إليّ: أعلم فلاناً أنّي آمره أن يبيع حقّي من الضيعة وإيصال ثمن ذلك إليّ، وأنّ ذلك رأيي إن شاء الله أو يقوّمها على نفسه إن كان ذلك أوفق له»(4).


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص190، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح8.

(2) الاحتجاج، ج2، ص490؛ وانظر وسائل الشيعة، ج19، ص191، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح9.

(3) کتاب المکاسب،‌ج4، ص78 _ 81.

(4) وسائل الشيعة،‌ ج19، ص188، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح5. ويمكن حمل هذا على أنّه لم يكن هذا الخمس وقفاً أو حبساً، بل كان خمساً أو تمليكاً مجّانيّاً، فلعلّ قوله: «جعل لك في ←