من قِبل الأب أنّ أصل ولاية الوصيّ كانت مسلّمة ومرتكزة عندهم، فلكي ينفسح المجال للسؤال عن كيفية التصرّف في أموالهم وأنّه مَنِ الذي يشرف على ذلك؟ يفترضون في موضوع سؤالهم عدم وصيّ للأب.
وعلى أيّ حال فالظاهر أنّ أصل نفوذ وصاية وصيّ الأب على الأطفال وأموالهم في حدود لحاظ المصلحة من مسلّمات الفقه أو ضروريّاته، وكأنّه لهذا السبب لم يتعرّض الشيخ الأنصاري ولا شرّاح كتابه والمعلّقون عليه لهذا البحث، ولكن كان لابدّ لنا من الرجوع إلى هذه الروايات لكي نرى هل يوجد لدينا إطلاق لأكثر من دائرة لحاظ المصلحة أو لا، وقد اتّضح عدم وجود إطلاق من هذا القبيل.
الثالث من أولياء العقد لدى فقدان الوليّين الأوّلين: عدول المؤمنين
وقد يستدلّ على ذلك بعدّة روايات:
منها: صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: «مات رجل من أصحابنا ولم يوص، فرفع أمره إلى قاضي الكوفة، فصيّر عبدالحميد القيّم بماله، وكان الرجل خلّف ورثة صغاراً ومتاعاً وجواري، فباع عبدالحميد المتاع، فلمّا أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهنّ؛ إذ لم يكن الميّت صيّر إليه وصيّته وكان قيامه فيها بأمر القاضي؛ لأنّهنّ فروج. قال: فذكرت ذلك لأبي جعفر عليه السلام وقلت له: يموت الرجل من أصحابنا ولا يوصي إلى أحد ويخلّف جواري فيقيم القاضي رجلاً منّا فيبيعهنّ أو قال: يقوم بذلك رجل منّا فيضعف قلبه؛ لأنّهنّ فروج، فما ترى في ذلك؟ قال: فقال: إذا كان القيّم به مثلك ومثل عبدالحميد فلا بأس»(1).
وحاصل البحث عن هذه الرواية: أنّ قوله(عليه السلام): «إذا كان القيّم به مثلك ومثل عبدالحميد فلا بأس» لم يرد فيه التصريح بأنّ المقصود المثلية في أيّ شيء، فالمفروض
(1) وسائل الشيعة، ج17، ص363، الباب16 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح2.
أن نأخذ في ذلك بالقدر المتيقّن؛ لأنّ الولاية أساساً خلاف الأصل، وعليه فلابدّ من الاقتصار على من تجتمع فيه صفتان: التشيّع بالنسبة للعوائل الشيعية، والعدالة التي هي أخصّ من الوثاقة في تصرّفه وفق المصلحة، أمّا شرط الفقاهة فالمناسبات العرفية في هذا المستوى من دائرة الولاية تصرف الكلام عنه.
ومنها: صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري قال: «سألت الرضا عليه السلام عن رجل مات بغير وصيّة وترك أولاداً ذكراناً وغلماناً صغاراً وترك جواري ومماليك، هل يستقيم أن تباع الجواري؟ قال: نعم، وعن الرجل يموت بغير وصيّة وله ولد صغار وكبار أيحلّ شراء شيء من خدمه ومتاعه من غير أن يتولّى القاضي بيع ذلك. فإن تولّاه قاض قد تراضوا به ولم يستعمله الخليفة أيطيب الشراء منه أم لا؟ فقال: إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع فلا بأس إذا رضي الورثة في البيع وقام عدل في ذلك»(1).
وهذه الرواية ظاهرة في شرط العدالة وكفايتها.
ومنها: صحيحة علي بن رئاب قال: «سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن رجل بيني وبينه قرابة مات وترك أولاداً صغاراً وترك مماليك غلماناً وجواري ولم يوص، فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية فيتّخذها أُمّ ولد؟ وما ترى في بيعهم؟ قال: فقال: إن كان لهم وليّ يقوم بأمرهم باع عليهم ونظر لهم، وكان مأجوراً فيهم. قلت: فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية فيتّخذها أُمّ ولد؟ فقال: لا بأس بذلك إذا باع عليهم القيّم لهم الناظر فيما يصلحهم، فليس لهم أن يرجعوا فيما صنع القيّم لهم الناظر فيما يصلحهم»(2).
وهذا الحديث ظاهر في كفاية الوثوق بعمل القيّم ونظره فيما يصلحهم بلا حاجة إلى شرط العدالة.
(1) وسائل الشيعة، ج17، ص362، الباب16 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح1.
(2) المصدر السابق، ص361، الباب15 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث الوحيد في الباب؛ وج19، ص422، الباب88 من کتاب الوصايا، ح1.
وأفاد السيّد الخوئي رحمه الله: أنّ هذه الرواية لا تعارض ما دلّ على شرط العدالة؛ وذلك لأنّها إنّما دلّت على وجوب عمل القيّم أو الولي بالنظر فيما يصلحهم، أمّا ما هي شرائط تلك القيمومة أو الولاية؟ فليست الرواية بصدد بيانها، فيحتمل في ذلك شرط العدالة(1).
أقول: المفروض في موضوع الحكم بجعل الولاية في هذه الروايات على الأطفال وأموالهم للعدول أو الثقات فقدان الولي حتّى من الدرجة الثانية وهي الوصاية، وهذا يعني أنّ عنوان الولي أو القيّم المأخوذ في موضوع هذه الروايات ظاهر في الولي العرفي أو القيّم العرفي؛ إذ لولا هذا الجعل فلا ولاية أو قيمومية شرعية للناس الاعتياديّين، فلكي يكون من هو ولي أو قيّم بالفعل شرعيّاً يشترط أن يكون ناظراً فيما يصلحهم، لا أنّ الموضوع هو الولي أو القيّم الشرعي حتّى يقال: ليس الحديث بصدد بيان شرائط موضوع نفسه.
فللحديث إطلاق لمطلق من يوثق بتصرّفه، أو قل: لمطلق الناظر فيما يصلحهم.
نعم، النتيجة بعد فرض التعارض بين هذا الحديث وحديث إسماعيل بن سعد الأشعري: «وقام عدل في ذلك» هي أنّ الاحتياط يقتضي الاقتصار على القدر المتيقّن، وهو العدل.
ومنها: موثّقة سماعة قال: «سألته عن رجل مات وله بنون وبنات صغار وكبار من غير وصيّة وله خدم ومماليك وعُقَد(2) كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال: إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كلّه فلا بأس»(3)، وهذا أيضاً ظاهره كفاية الوثاقة.
ولكن أفاد السيّد الخوئي رحمه الله في التنقيح «أنّ هذه الرواية غير منافية لاشتراط
(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص180.
(2) عُقَد: جمع عقدة فسّر بالضيعة والمكان الكثير الشجر.
(3) وسائل الشيعة، ج19، ص422، الباب8 من کتاب الوصايا، ح2.
العدالة في القيّم بوجه، وذلك لأنّ الثقة أخصّ من العدالة، ومعناها من يؤمن به في جميع أفعاله وأخلاقه ودينه، ومنه ثقة الإسلام لقب الكليني(قدس سره)، وأمّا إطلاق الثقة في اصطلاح الرجاليّين على من لا يكذب في الحديث فقط وإن كان فاسقاً في حدّ نفسه أو كان كافراً مثلاً فهو اصطلاح خاصّ للرجاليّين، وإنّما اصطلحوا بذلك لأنّه مشغلتهم، حيث إنّ شغلهم التفتيش عن صدق الرواة وكذبهم في الخبر، وأمّا الثقة على نحو الإطلاق كما وقع في الحديث فهي عبارة عمّن يؤمن به في جميع الأُمور على نحو الإطلاق، وهو أرقى من العدالة وأخصّ منها، كما لا يخفى»(1).
أقول: لا إشكال في أنّ لقب «ثقة الإسلام» للكليني رحمه الله يعطي معنى الوثاقة في كلّ شيء ممّا هو أرقى من العدالة _ كما أفاده السيّد الخوئي رحمه الله _ ولكن أين هذا من قوله في هذه الرواية: «إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كلّه فلا بأس» إذ من الواضح أنّ كلمة الثقة هنا لا تعطي معنى أكثر من كونه ثقة في المقاسمة.
وعلى أيّ حال فلا إشكال في أنّ مقتضى الاحتياط اختيار العدل دون مطلق الموثوق.
ولكن لا يبعد كون الأقوى كفاية الوثوق بناء على ما نقّحناه في علم الأُصول من عدم الإيمان بمفهوم القضية الشرطية على مستوى السلب الكلّي وأنّه لا يثبت بها أكثر من السلب الجزئي، فما دلّ على شرط العدالة يأتي فيه احتمال أنّه إنّما ذكر العَدل بنكتة أنّ من عُرفت عدالته وثقوا بأمانته في البيع والشراء، بخلاف من كان فاسقاً. إذاً فالدليل الدالّ على كفاية الوثاقة يكون أقوى دلالة من دليل شرط العدالة.
(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص180 _ 181.
ولاية الفقيه
بقي الكلام فيما تعرّضوا له في المقام من مسألة ولاية الفقيه.
وولاية الفقيه يمكن أن تطرح على عدّة مستويات:
المستوى الأوّل: مستوى ولاية عدول المؤمنين أو ثقاتهم في العقود. وهذا ممّا لا نشكّ فيه بعد أن أثبتنا أنّ الثالث من أولياء العقد هم عدول المؤمنين أو ثقاتهم، فإنّنا نقصد في مصطلحنا الفقهي بالفقيه الجامع للشرائط: الفقيه الثقة العدل، ولا نحتمل أنّ فقاهته تُنقصه شيئاً.
المستوى الثاني: مستوى إمكانه لعزل الأولياء السابقين أعني: الأب والجدّ والوصيّ وعدول المؤمنين رغم وجدانهم لشرائط الولاية. وهذا خلاف إطلاق أدلّة ولاية أُولئك الأولياء، فهو بحاجة إلى فرض دليل أقوى من تلك الإطلاقات بحيث يُقدّم عليها.
المستوى الثالث: مستوى ﴿النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِيْنَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾(1). وهذا هو الذي قصدناه ممّا قلناه في المستوى الثاني من أنّه بحاجة إلى فرض دليل أقوى من إطلاقات أدلّة أولياء العقود.
والواقع أنّنا لو فسّرنا الآية المباركة بمعنى أنّ النبي بما هو نبي يوحى إليه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، أي: أنّ الآية تعني أنّ أحكام الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وليس امتياز النبي إلّا أنّه توحى إليه تلك الأحكام، فمن الواضح أنّ هذا لا علاقة له بالحدّ من إطلاق أدلّة ولاية الآباء والأجداد والأوصياء والعدول بواسطة الفقيه.
ولو فسّرناها بمعنى أنّ النبي بما هو شخص أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأنّ نبوّته حيثية تعليلية لذلك، فيكون معنى الآية: أنّ من حقّ النبي(صل الله عليه وآله) أن يضحّي بمصالح المؤمنين في سبيل مصالحه الشخصية، فمن واضحات الفقه أنّ هذا لا يكون لغير
(1) الأحزاب: 6.
المعصومين الذين سوف لن يفعلوا ذلك، أي: سوف لن يضحّوا بمصلحة أحد من الأُمّة في سبيل مصالحهم الشخصية رغم إعطائهم هذا الحقّ، ومن واضحات الفقه أنّ هذا المقام ليس للفقهاء، فلا ترانا بحاجة إلى بحث فيه.
المستوى الرابع: مستوى الولاية على إدارة الحكومة الإسلامية. وهذا خروج عمّا نحن فيه، وهذا ما بحثناه في عدد من كُتبنا المطبوعة سابقاً أوّلها كتابنا «أساس الحكومة الإسلامية» وآخرها كتابنا «ولاية الأمر في عصر الغيبة».
ورغم خروج ذلك عن بحثنا الأصلي نبدأ إن شاء الله ببحث ذلك بشكل مضغوط نزولاً على رغبة بعض فضلاء البحث.
أدلّة ولاية الفقيه
فنقول _ بحول الله وقوّته _:
إنّنا نذكر في المقام من أدلّة ولاية الفقيه على مستوى إدارة الحكومة والدولة وجوهاً خمسة محيلين التفاصيل على الكتب المفصّلة:
الدليل الأوّل: على مبدأ ولاية الفقيه لإقامة الدولة وإدارتها هو مبدأ الأُمور الحسبية؛ بتقريب أنّ مقام استلام السلطة وإدارتها مقام لا نشكّ في أنّه مع الإمكان لا ترضى الشريعة بفواته، ولا يمكن ذلك إلّا برئيس يرأسها، والقدر المتيقّن من ذلك الفقيه الجامع للشرائط، وبما أنّ مقتضى الأصل عدم ولاية أحد على أحد فلابدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن.
وهذا دليل تامّ لا عيب فيه ولا نقص ما عدا شيء جزئي، وهو أنّ المصالح غير الضرورية لا تجوّز للسلطان على هذا الأساس إعمال الولاية ضدّ أصحاب الحقوق الأوّلية، فمثلاً مصلحة فتح بعض الشوارع أو بعض الإصلاحات الزراعية أو تقسيم الأراضي وما شابه ذلك على خلاف رضا الملّاك الأصليّين إنّما يجوز بمقدار ما وصل
الأمر فيها إلى حدّ الضرورة واللابدّية التي نقطع معها بعدم رضا الشارع بفوات ذلك، أمّا لو أمكن إرضاؤهم ولو ببذل المال غير المجحف بوضع الدولة أو كانت المصلحة كمالية بحتة يصحّ غضّ النظر عنها لدى عدم رضا الملّاك فلا تثبت الولاية على إرغامهم لما تريده الدولة.
الدليل الثاني: آيات الاستخلاف.
إنّ آيات الاستخلاف في القرآن على قسمين:
القسم الأوّل: ما قد يدّعى احتمال حملها على استخلاف فئة لفئة أُخرى بمعنى تبدّل الأُولى بالثانية بسبب ورودها ضمن سياق فئة هالكة وفئة أُخرى حالّة محلّ الأُولى، كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوْا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيَّنݧݧݧَاتِ وَمَا كَانُوْا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فݭِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُوْنَ﴾(1).
وقوله تعالى: ﴿َكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فݭݭِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنٰاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوْا بِآيَاتِنَا فَاْنْظُرْ کَيْفَ کَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذِرِينْ﴾(2).
وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوْا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوْحٍ﴾(3).
وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوْا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ﴾(4).
فقد يقول قائل: إنّه يحتمل حمل هذه الآيات على استخلاف فئة مكان فئة دون استخلاف الله تعالى.
والقسم الثاني: الآيات الواضحة في إرادة استخلاف الله في الأرض بسبب عدم
(1) يونس: 13 _ 14.
(2) يونس: 73.
(3) الأعراف: 69.
(4) الأعراف: 74.
وجود سياق من هذا القبيل، فبطبيعة الحال يكون ظاهر كلام مالك الملوك وخالق السماوات والأرض جلّ وعلا حينما يذكر استخلاف البشر هو استخلافه عن نفسه في الأرض؛ لأنّ تقدير فئة أُخرى هالكة بحاجة إلى مؤونة زائدة. وذلك من قبيل قوله تعالى:
1_ ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنَّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيْفَةً﴾(1).
2_ ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأَرْضِ﴾(2).
3_ ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فݭݭِي الاَْرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾(3).
4_ ﴿وَأَنْفِقُوُا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُّسْتَخْلَفِيْنَ فِيهِ﴾(4).
5_ ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الاَْرْضِ﴾(5).
وعدّ الآية الأُولى من هذه الآيات ضمن آيات الخلافة الإلهية موقوف على استظهار أنّ المقصود بـ ﴿جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ هو خلافة البشر لا خلافة شخص آدم(عليه السلام)، ولو بقرينة تخوّف الملائكة الذي هو تخوّف من جنس البشر، لا من شخص آدم(عليه السلام).
فظاهر الخلافة في هذه الآيات هو الخلافة عن الله في مُلكه في الأرض، من قبيل قوله تعالى: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَْرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقَّ﴾(6) الواضح في إرادة الخلافة عن الله بقرينة تفريع الحكم بالحقّ عليها، إلّا أنّ المقصود في هذه الآية هي الخلافة الشخصية لداود عليه السلام والمقصود في تلك الآيات هي الخلافة النوعية لجنس البشرية.
فإذا ثبتت بهذه الآيات أنّ البشرية خليفة الله تعالى في أرضه وهذا يعني أنّ الله
(1) البقرة: 30.
(2) الأنعام: 165.
(3) فاطر: 39.
(4) الحديد: 7.
(5) النمل: 62
(6) ص: 26.
جعل إجراء ما له من الحاكمية على وجه الأرض بيد البشرية من أحكام تكليفية ووضعية فكلّ يعمل بالجزء الذي يرتبط به، ومنها الحكومة العادلة بما يُفهم عرفاً من الصلاحيّات للحكومة العادلة، ورئيس الحكومة لا يكون طبعاً إلّا من يكون واجداً لصفات معيّنة، وبما أنّ حكومة أحد على أحد خلاف الأصل فلابدّ في ذلك من الاقتصار على القدر المتيقّن، ومن جملة الصفات المحتمل دخلها في الحاكم في الحكومة الإسلامية مع فقدان المعصوم هي الفقاهة، فلابدّ من الاقتصار على ذلك.
وهذا الطريق فرقه عن الطريق الأوّل أعني مبدأ الأُمور الحسبية أنّ النقص الجزئي الذي أشرنا إليه في ذاك الطريق غير موجود فيه، فهذا الوجه يعطي تماماً آثار إثبات ولاية الفقيه بنصّ خاص.
الدليل الثالث: كالدليل الثاني ما عدا أنّه تبدّل آيات الاستخلاف بآية عرض الأمانة: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾(1).
فممّا لا شكّ فيه أنّ المفهوم من هذه الأمانة هي أمانة الإيمان والتكليف بما لها من الشعَب المختلفة التكليفية والوضعية، فهذه أمانة بيد جنس الإنسان، وعلى كلّ أحد أن يطبّق المقدار المرتبط به، ومنها الحكم العادل بين الناس، وبما أنّ الأصل يقتضي عدم حكم أحد على أحد، فلابدّ في شخص الحاكم الإسلامي من الاقتصار على القدر المتيقّن، ولا شكّ في أنّ من الصفات المحتمل دخلها في شخص الحاكم الإسلامي لدى فقدان المعصوم هي الفقاهة. وهذا الوجه أيضاً يعطي تماماً آثار إثبات ولاية الفقيه بنصّ خاص.
الدليل الرابع: الأوامر المتوجّهة إلى المجتمع من قبيل الأوامر بإجراء الحدود أو الأوامر بتوحيد الكلمة والاعتصام بحبل الله وعدم التفرّق وما إلى ذلك من الأُمور التي يتوقّف أمثالها عادةً على فرض وجود الحكومة والاستعانة بها، فيفهم عرفاً من ذلك أنّنا مأمورون ب
(1) الأحزاب: 72.
بإقامة الحكومة التي تحقّق هذه الأُمور إن لم تكن معيّنة من قِبل الله تعالى، وبالالتفاف حولها ووضعها في محلّها إن كانت معيّنة من قِبل الله تعالى كما في ولاية المعصوم.
إلّا أنّ هذا الوجه لا يزيد في النتيجة على وجه التمسّك بالحسبة، أي أنّه لا ينتج لنا إطلاقاً لفظيّاً نتمسّك به لإثبات ولاية الدولة في أوامرها في الشؤون الكمالية التي لم يكن من الضروري إصدارها.
الدليل الخامس: ما تذكر من النصوص الخاصّة على مبدأ ولاية الفقيه. ونحن نقتصر هنا على بحث رواية واحدة محيلين للبحث عن باقي الروايات إلى الكتب المفصّلة.
وتلك الرواية هي التوقيع المروي عن إسحاق بن يعقوب قال: «سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان(عليه السلام): أمّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك إلى أن قال: وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله...»(1).
سند الحديث:
سند الحديث إلى الكليني يشبه أن يكون قطعيّاً؛ لأنّ الشيخ رحمه الله يرويه عن جماعة فيهم المفيد(2) عن جماعة فيهم جعفر بن محمد بن قولويه وأبو غالب الزراري عن الكليني، ورواه أيضاً الصدوق عن محمد بن محمد بن عصام عن الكليني.
(1) وسائل الشيعة، ج27، ص140، الباب11 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح9؛ وكمال الدين وتمام النعمة، ج2، 483، باب التوقيعات الواردة عن القائم(عليه السلام) التوقيع الرابع؛ كتاب الغيبة للحجة، ص290. ويؤسفني أنّه في الحال الحاضر لا يحضرني كتاب الغيبة للشيخ الطوسي، ولكن الشيخ الحرّ روى الرواية في الوسائل عن الشيخ في كتاب الغيبة عن جماعة عن جعفر بن محمد بن قولويه وأبي غالب الزراري وغيرهما كلّهم عن محمد بن يعقوب. الغيیة، ج1، ص290.
(2) بدليل قول الشيخ في الفهرست، ص135، في ترجمة محمد بن يعقوب الكليني: أخبرنا بجميع كتبه ورواياته الشيخ المفيد أبو عبدالله محمد بن محمد بن النعمان عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه عنه.
وعيب السند عبارة عن الراوي المباشر وهو إسحاق بن يعقوب الذي لم يترجم في كتب الرجال، ولكنّه شخص حدّث الكليني بورود توقيع عليه من صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وافتراء توقيع على الإمام _ في ظرف غيبة الإمام وفي ظرف تكون للتوقيع قيمته الخاصة وقدسيّتُه في النفوس بحيث لا يرد إلّا للثقات الخواصّ _ لا يكون إلّا من قِبل خبيث رذل، فهذا الشخص أمره دائر بين أن يكون في منتهى درجات الوثوق أو يكون من الخبثاء السفلة، ولا يحتمل عادة كونه متوسّطاً بين الأمرين، ولو كان الثاني هو الواقع لما أمكن عادة خفاء ذلك على الكليني مع ما هو عليه من ضبط ودقّة بحيث يحتمل صدقه في نقل ورود التوقيع، سيّما وأنّه معاصر للغيبة الصغرى ولعصر التوقيعات، فإنّ الكليني رحمه الله مات في سنة ثلاثمائة وتسع وعشرين وهو سنة موت النائب الرابع عليّ بن محمد السمري، وعلى نقل آخر مات في سنة ثلاثمائة وثمان وعشرين، أي: في السنة السابقة على سنة موت النائب الرابع.
ولك أن تُبرز أُسلوباً آخر لتصحيح الحديث، وهو أنّ كذب إسحاق بن يعقوب لو فرض، فإمّا أن يفرض في أصل التوقيع أو في بعض خصوصيّاته، فإن فرض في أصل التوقيع فهو ممّا لا يخفى على مثل الكليني الدقيق في ضبط الأحاديث المعاصر للتوقيعات، ولا أقلّ من أنّه كان يرتاب في صحّة هذا النقل إلى حدّ کان يردعه عن أن يرويه، وإن فرض في بعض خصوصيّاته فالتحريف في بعض خصوصيّات التوقيع بعد ثبوت صدق أصل التوقيع لو احتمل بشأن الخواصّ الذين لم يكن تصدر التواقيع إلّا إليهم إنّما يكون لأحد سببين: إمّا لمصلحة شخصية كبيرة في هذا التحريف دعت الراوي إلى تحريفه، وإمّا لتساهل في النقل بعد عدم الضبط الدقيق، والأوّل لا يتصوّر في المقام؛ لعدم تصوّر أيّ مصلحة شخصية في التحريف فيما نحن فيه لهذا الراوي، والثاني إن كان يحتمل في النقول الشفهية لا يحتمل عادة في التوقيعات المروية عن الإمام صاحب الزمان في عصر يعتزّ بالتوقيع فيه ويحتفظ به.
ثم هل يتصوّر بشأن الكليني لو كان يرتاب في التوقيع أن يروي الرواية من دون أن يطالب مدّعي التوقيع بإبراز التوقيع له؟! أو يحتمل بشأنه رحمه الله أنّه لم يكن يعرف خطّ الإمام صاحب الزمان وهو معاصر لجميع توقيعات أيّام الغيبة؟!
دلالة الحديث:
وأمّا دلالة الحديث فعمدة ما يمكن أن يذكر كمناقشة في دلالته أمران:
الأوّل: أنّ اللام في قوله: «أمّا الحوادث الواقعة» لم يثبت أن يكون لام جنس، فمن المحتمل أن يكون لام عهد إشارة إلى حوادث ذكرها إسحاق بن يعقوب للإمام في كتابه الذي أرسله إليه، وعلى هذا التقدير فقوله: «ارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم» يكون إرجاعاً إليهم في تلك الحوادث المعهودة بين السائل وبين الإمام عليه السلام ونحن لا نعلمها، ولا نستطيع أن نتمسّك بإطلاقها لإثبات الولاية المطلقة للفقيه في جميع الحوادث، فإذا أصبحت كلمة «الحوادث» مجملة _ لاحتمال عهدية اللام _ أصبحت أيضاً صالحة للقرينية _ أو قل: محتملة القرينية _ لإبطال إطلاق قوله: «حجّتي عليكم»، فيحتمل أن يكون معنى ذلك: «أنّهم حجّتي عليكم في تلك الحوادث».
والجواب: أنّه حتّى لو احتملنا كون اللام للعهد إلى حوادث معيّنة فقرينة المقام تُحكم إطلاق قوله: «فإنّهم حجّتي عليكم»، فلا تصبح كلمة الحوادث صالحة للقرينية ضدّ إطلاق تلك الجملة، والقرينة المقامية التي تُحكم إطلاق تلك الجملة عبارة عن غيبته(عليه السلام)، فهذا من قبيل ما لو أراد أحد سفراً يطول عشرات السنين وينقطع تمام الانقطاع عن جميع أمواله وممتلكاته فسأله شخص عن حال بيت من بيوته وأنّه لو أراد أحد استئجاره فإلى من يراجع بشأن ذلك؟ فأجابه بقوله: «راجع فلاناً فإنّه وكيلي» فالمفهوم من ذلك عرفاً أنّ التعليل بكون فلان وكيلي كان تعميماً للأمر من حال ذاك البيت إلى حال جميع ممتلكاته وأمواله، ولا يصلح اختصاص السؤال بجزئية من جزئيّات تلك الأموال للقرينية على اختصاص الوكالة بتلك الجزئية.
هذا مضافاً إلى أنّ حمل اللام على العهد إلى حوادث معيّنة ابتلى بها صدفةً إسحاق بن يعقوب بعيد غاية البعد؛ لأنّه لو كان الأمر كذلك لكان يرجعه الإمام عليه السلام إلى شخص معيّن لا إلى عنوان الرواة على شكل القضية الحقيقية.
والثاني: أنّ كلمة «رواة حديثنا» تصرف الكلام إلى أنّ الرجوع إنّما هو إلى الرواة بما هم رواة، وذلك من قبيل الأمر بالرجوع إلى الأطبّاء مثلاً، فإنّه يفهم من ذلك الرجوع إليهم بما هم أطبّاء للاستفادة من اختصاصهم وأخذ الأدوية منهم، ولا يفهم منه ولاية الأطباء، فالمفهوم من الأمر بالرجوع إلى الرواة إنّما هو الأمر بأخذ الرواية عنهم، فيدلّ على حجّية خبر الواحد أو الأخذ بفتاواهم المستنبطة من الروايات، فيدلّ على جواز التقليد. أمّا الأحكام الولائية فهي مخلوقة لنفس الحاكم، وليست مستنبطة من الروايات حتّى يفهم من هذا التعبير الرجوع فيها إلى الرواة، فالحديث أجنبي عن الأحكام الولائية نهائيّاً، فليس هذا إلّا من قبيل الإرجاع إلى اللابن في أخذ اللبن أو إلى التمّار في أخذ التمر أو إلى الصيدليّات في أخذ الدواء.
والجواب: أنّنا بعد أن أوضحنا في الردّ على الإشكال الأوّل أنّ الإرجاع إلى رواة الحديث كان مطلقاً ولم يكن مختصّاً بحوادث معيّنة نقول: إنّه من الواضح أنّ حجّية خبر الواحد أو الفتوى لا تكفي لحلّ مشكلة كلّ الحوادث التي يُرجع بها إلى الإمام(عليه السلام)، وإنّما الذي يفي بحلّ كلّ المشاكل التي يُرجع بها إلى الإمام هو إعطاء الحجّية من قِبل الإمام لنقل الرواية وللفتوى وللحكم الولائي الذي يكون بيد الإمام(عليه السلام)، فليس هذا مَثَله مثل الرجوع إلى اللابن الذي لا يكون إلّا لأخذ اللبن أو التمّار الذي لا يكون إلّا لأخذ التمر أو الطبيب الذي لا يكون إلّا لأخذ الطبّ أو الصيدلي الذي لا يكون إلّا لأخذ الدواء، فمقتضى إطلاق الكلام أنّ الإمام عليه السلام قد أرجع إسحاق بن يعقوب لحلّ كلّ المشاكل التي يكون بيد الإمام حلّها إلى الرواة، وليس إرجاعه إليهم لأخذ الرواية _ مثلاً _ وافياً بالغرض، وهذا بخلاف ما لو احتجنا إلى اللبن
مثلاً فلجأنا إلى زيد بتخيّل كونه مالكاً للّبن ومستعدّاً لبذله فأرجَعَنا إلى اللابن(1).
بل إنّنا نريد أن نقول: إنّ المدلول المطابقي لقوله(عليه السلام): «حجّتي عليكم» ليست هي حجّية خبر الواحد أو حجّية الفتوى _ وإن كانتا تُفهمان بالملازمة أو الأولوية العرفيّتين، وإنّما المدلول المطابقي لذلك هو الوكالة في ما له عليه السلام من منصب الولاية؛ لأنّ حجّية الرواية أو الفتوى كانت مجعولة ابتداءً من الله تعالى في الشريعة. فيصبح الراوي أو إفتاؤه حجّة من قِبل الله في عرض حجّية البيّنة في الموضوعات مثلاً، وليس هذا حجّة نقل من قِبل الإمام أو توكيلاً من قِبله، ولولا التوكيل من قِبله في الولاية لم يصبح الراوي حجّة للإمام(2).
نعم، هذا الحديث لا يدلّ على أنّ الفقيه العارف بالروايات أولى بالمؤمنين من أنفسهم بمعنى حقّ تقديم مصالحه الشخصية على مصالح الناس، فإنّه بغضّ النظر عن قيام الضرورة الفقهية على عدم وجود هكذا ولاية للفقيه نقول: إنّ هذا الحديث إنّما أرجَعَ الأُمّة في مشاكلهم إلى الرواة _ أو بتعبيرنا: إلى الفقهاء _ وليس من مشاكلهم عدم أولوية الفقيه بهم من أنفسهم.
وقفة مع الأُستاذ الشهيد رحمه الله:
إنّ المواضيع التي يمكن أن يمارس وليّ الأمر فيها صلاحيّته تنقسم إلى قسمين:
القسم الأوّل: موارد تعيين الموضوع الخارجي البحت كي يتمّ تحديد الموقف بتبع ما تمّ من تشخيص الموضوع، من قبيل معرفة أنّ مصلحة المجتمع الإسلامي اليوم هل تقتضي الجهاد بالسلاح أو التقية والسكوت، أو معرفة أنّ هلال ذي الحجّة أو شهر رمضان أو العيد ثابت أو لا كي يتمّ تحديد الموقف من حجّ أو صيام أو إفطار، أو
(1) هذا الجواب الأوّل غير موجود في كتابنا: «ولاية الأمر في عصر الغيبة».
(2) هذا الجواب الثاني يختلف شيئاً ما عن الجواب الوارد في كتابنا: ولاية الأمر في عصر الغيبة، ص125، وما ثبّتناه هنا أحكم ممّا ورد في ذاك الكتاب.
معرفة موضوع الحدّ الشرعي من زنا أو شرب الخمر كي يتمّ تحديد الحدّ الذي يجب أن يجري.... وما إلى ذلك ممّا يرجع إلى تشخيص المواضيع بحتاً.
والقسم الثاني: موارد ملء منطقة الفراغ التي تركت من قبل الشريعة لوليّ الأمر لاختلاف الموقف منها باختلاف الزمان والمكان والظروف، كفرض الزكاة على غير الأعيان الزكوية التسع كما صدر عن إمامنا أميرالمؤمنين عليه السلام بالنسبة للخيل(1)، وكالمنع عن الاحتكار الوارد في عهد الإمام عليّ عليه السلام إلى مالك الأشتر(2) وما إلى ذلك.
وأفاد أُستاذنا الشهيد رحمه الله أنّ الوليّ يملأ الفراغ بوضع عناصر متحرّكة، ويكون وضعه للعناصر المتحرّكة بمؤشّرات ثابتة ضمن الكتاب والسنّة من قبيل:
أ_ اتّجاه التشريع نحو استئصال الكسب الذي لا يقوم على أساس العمل.
ب_ الهدف المنصوص لحكم ثابت كقوله تعالى: ﴿كَيݧݧْ لَا يَكُوْنَ دُوْلَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾(3).
ج_ القيم الاجتماعية التي أكّد الإسلام على الاهتمام بها كالمساواة والأُخوّة والعدالة والقسط ونحو ذلك.
د_ اتّجاه العناصر المتحرّكة على يد النبي أو الوصيّ، من قبيل ما ورد من أنّ النبي(صل الله عليه وآله) منع في فترة معيّنة من إجارة الأرض، ففي رواية: أنّ النبي(صل الله عليه وآله) قال: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليُزرِعها أخاه، ولا يكرها بثلث ولا ربع ولا بطعام مسمّى»(4)، وفي رواية أُخرى أنّه قال: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه»(5)، وفي رواية عن جابر بن عبدالله أنّ النبي(صل الله عليه وآله) قال: «من كانت له أرض
(1) وسائل الشيعة، ج9، ص77، الباب16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة وما تستحبّ فيه، ح1.
(2) نهج البلاغة، ص426.
(3) الحشر: 7.
(4) كنز العمّال، ج15، ص531، ح42054.
(5) سنن ابن ماجة 2، ج2، ح2452
فليزرعها، فإن لم يستطع... فليمنحها أخاه المسلم، ولا يؤاجرها»(1).
ومن قبيل ما جاء في النصوص من أنّ النبي(صل الله عليه وآله) نهى عن منع فضل الماء والكلاء، فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «قضى رسول الله(صل الله عليه وآله) بين أهل المدينة في مشارب النخل... أنّه لا يمنع فضل ماء وكلاء»(2).
هـ _ الأهداف التي حدّدت لوليّ الأمر، ومثال ذلك: أنّه جاء في الحديث عن الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام): «کان على الوالي أن يمونهم من عنده بقدر سعتهم حتّى يستغنوا»(3). راجع لمعرفة تفصيل ما أفاده أُستاذنا كتاب: «الإسلام يقود الحياة»(4).
فإذا اتّضح لك هذا الانقسام لموارد ما يمكن أن تدّعی فيه ولاية الوليّ إلى تعيين الموضوع الخارجي البحت وموارد ملأ منطقة الفراغ بوضع العناصر المتحرّكة عن طريق النظر في المؤشّرات الثابتة الواردة في الكتاب والسنّة قلنا: إنّ أُستاذنا الشهيد رحمه الله أفاد: أنّ قول الإمام صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف): «...أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا...»(5) ظاهر في الإرجاع إلى الرواة بما هم رواة، أي: أنّ هذا النصّ يدلّ على أنّهم المرجع في كلّ الحوادث الواقعة بالقدر الذي يتّصل بضمان تطبيق الشريعة على الحياة؛ لأنّ الرجوع إليهم بما هم رواة أحاديثهم وحملة الشريعة
(1) وسائل الشيعة، ج9، ص77، الباب16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة وما تستحبّ فيه، ح1.
(2) نهج البلاغة، ص426.
(3) الحشر: 7.
(4) كنز العمّال، ج15، ص531، ح42054.
(5) سنن ابن ماجة 2، ج2، ح2452
يعطيهم الولاية بمعنى القيمومة على تطبيق الشريعة وحقّ الإشراف الكامل من هذه الزاوية(1).
ويقصد رحمه الله بهذا الكلام أنّ الرواية لا تدلّ على الولاية في الموضوعات؛ لأنّه لا علاقة لها بالرواة بما هم رواة، وإنّما الذي يرتبط بهم هو ملء منطقة الفراغ بوضع العناصر المتحرّكة؛ لأنّ وضعها موقوف على معرفة المؤشّرات الثابتة في الكتاب والسنّة، وهذا ممّا لا يستنبطه إلّا من كان فقيهاً راوياً للأحاديث.
وفرق كلامه رحمه الله على ما مضى من الإشكال الثاني على الاستدلال بهذا الحديث للولاية _ من أنّ الإرجاع إلى الرواة يكون من قبيل الإرجاع إلى اللابن والتامِر، فليس ذلك إلّا بمعنى الإرجاع لأخذ الرواية أو لأخذ الرواية والفتوى لا لأخذ الأحكام التي هو يجعلها _ هو أنّ ذاك الإشكال كان المقصود به إنكار دلالة الحديث على الولاية نهائيّاً، في حين أنّ المقصود بهذا الكلام تحديد الولاية بدائرة ملء منطقة الفراغ بجعل العناصر المتحرّكة الذي هو أيضاً بحاجة إلى نوع من الاستنباط من الأدلّة الشرعية؛ لأنّه متوقّف على فهم تلك المؤشّرات التي مضت الإشارة إليها، وهي لا تفهم إلّا بالاستنباط من تلك الأدلّة.
فما أجبنا به على ذاك الإشكال _ من أنّ حجّية نقل الرواية والفتوى إنّما هي من قِبل الله مباشرة لا من قِبل الإمام فلا يصدق عنوان «حجّتي عليكم» _ لا يأتي هنا.
ولكن يرد عليه جوابنا الآخر الذي شرحناه فيما مضى وكان هو بحسب الترتيب الماضي جوابنا الأوّل على الإشكال الثاني على دلالة الحديث، حيث أوضحنا أنّ الإمام عليه السلام كان بمقتضى إطلاق الكلام بصدد حلّ كلّ المشاكل التي يكون حلّها بيد الإمام، وهذا لا يكون إلّا بإعطاء مطلق الولاية بيد الفقهاء العدول الكفوئين.
(1) راجع الإسلام يقود الحياة، ص24.
هل يمكن إثبات هلال الحجّ والصيام والفطر بحكم الفقيه؟
ورد عن الصدوق بإسناده عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام «قال: إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً أمر الإمام بالإفطار ذلك اليوم إذا كانا شهدا قبل زوال الشمس، وإن شهدا بعد زوال الشمس أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم وأخّر الصلاة إلى الغد فيصلّي بهم»(1)، ورواه الكليني عن محمد بن يحيى عن محمد بن أحمد عن محمد بن عيسى عن يوسف بن عقيل عن محمد بن قيس(2).
فإن فسّرنا الإمام بمعنى الوليّ الشرعي ثبت الهلال بحكم الوليّ الفقيه سواء آمنّا بولايته عن طريق الحسبة أو عن طريق أدلّة وجوب إقامة الحكومة الإسلامية أو عن طريق توقيع إسحاق بن يعقوب.
وإن فسّرنا الإمام بالإمام المعصوم ثبت الهلال بحكم الوليّ الفقيه بناء على نيابته المطلقة عن المعصوم في ولايته سواء ثبتت بنصّ خاص كالتوقيع أو بآيات الاستخلاف أو بآية عرض الأمانة، ولكن لا يثبت الهلال عن طريق الحسبة. هذا تمام ما أردنا بيانه هنا في مبدأ ولاية الفقيه ونحيل التفاصيل إلى الكتب المطوّلة.
(1) من لا يحضره الفقيه، ج2، ص168، باب ما يجب علی الناس... من کتاب الصوم، ح2037.
(2) الکافي، ج4، ص169، باب ما يجب علی الناس إذا صحّ عندهم الرؤية يوم الفطر...، ح1.
بيع العبد المسلم من الکافر
اشتهر القول ببطلان بيع العبد المسلم من الكافر.
أدلّة القول ببطلان البيع
وقد يستدلّ على ذلك:
أوّلاً: بدعوى تسالم الفقهاء من أصحابنا وإجماعهم على عدم جواز نقله إلى الكافر.
وثانياً: برواية حمّاد بن عيسى التي رواها الشيخ في النهاية(1) مرسلاً عن حمّاد بن عيسى ورواها الكليني(2) عن محمد بن يحيى رفعه إلى حمّاد بن عيسى ورواها الشيخ في التهذيب(3) بسنده إلى محمد بن يحيى رفعه إلى حمّاد بن عيسى عن أبي عبدالله عليه السلام «أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أُتي بعبد لذميّ قد أسلم فقال: اذهبوا فبيعوه من المسلمين، وادفعوا ثمنه إلى صاحبه، ولا تقرّوه عنده».
وثالثاً: برواية: «الإسلام يعلو، ولا يعلى عليه»(4). وهي مرسلة للصدوق رحمه الله.
ورابعاً: بقوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلَاݦݨݨݨً﴾(5).
مناقشة الأدلّة
أمّا الوجه الأوّل: وهو دعوى تسالم الفقهاء من أصحابنا وإجماعهم على عدم جواز نقل العبد المسلم من الكافر فإن كان المقصود بذلك الحرمة التكليفية فلا يبعد أن يكون ذلك إجماعاً محصّلاً، ولكن ذلك لا يدلّ على المقصود من بطلان بيعه من الكافر.
(1) النهاية، ص349.
(2) الکافي، ج7، ص432، باب النوادر من کتاب القضايا والأحکام، ح19.
(3) تهذيب الأحکام، ج6، ص287، باب من الزیادات في القضايا والأحکام من کتاب القضایا والأحکام، ح2.
(4) من لا يحضره الفقيه، ج4، ص334، باب میراث أهل الملل من کتاب الفرائض والمواریث، ح5719.
(5) النساء: 141
وإن كان المقصود به البطلان والحرمة الوضعية فليس هذا إلّا إجماعاً منقولاً مع وجود بعض المخالفين على ما رواه الشيخ الأنصاري رحمه الله(1) عن تذكرة العلّامة عن بعض علمائنا.
وأمّا الوجه الثاني: وهو رواية حمّاد بن عيسى فقد عرفت أنّها مرفوعة، ولا حجّية لسندها.
على أنّها لو تمّت فهي لم تدلّ على أكثر من حرمة تمليكه للكافر؛ إذ لا أكثر من أنّها أمرت ببيعه من المسلمين ودفع ثمنه إيّاه، ولم تدلّ على خروجه من ملك الكافر قهراً حتّى تدلّ بالملازمة على عدم صحّة دخوله في ملك الكافر بالبيع.
وأمّا الوجه الثالث: وهو الاستدلال بمرسلة الصدوق: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه». فقد أورد السيّد الخوئي رحمه الله في التنقيح(2) بأنّه مضافاً إلى ضعف السند إنّما يدلّ على أنّ الإسلام يعلو على غيره لوضوح برهانه واستقامة طريقه، لا أنّ المسلمين يعلون على غيرهم.
وأمّا الوجه الرابع: وهو الاستدلال بقوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلَاݨݨݨݨً﴾ فتمام الآية ما يلي: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُوْنَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مَّنَ اللّٰهِ قَالُوْا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيْبٌ قَالُوْا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مَّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّٰهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلَاݨݨݨݨݨً﴾(3).
ولا علاقة للآية المباركة بنفي السبيل للكفّار على المؤمنين بعنوان حكم شرعي بمثل نفي الملكية، فإنّ قوله تعالى: ﴿فَاللّٰهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ...﴾
(1) کتاب المكاسب، ج3، ص581.
(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص201.
(3) النساء: 141.
واضح في النظر إلى عالم الآخرة، وقد أشار إلى ذلك شيخنا الأنصاري رحمه الله(1)، وليس هناك إلّا نفي السبيل التكويني، وذاك اليوم ليس يوم تشريع.
نعم، لو كانت الآية ناظرة إلى دار الدنيا أمكن حمل نفي السبيل على نفي السبيل التشريعي بقرينة وقوع السبيل التكويني للكفّار على المؤمنين في الدنيا كثيراً.
وأفاد السيّد الخوئي في التنقيح رحمه الله في المقام إشكالاً آخر، وهو «أنّ عنوان السبيل لا يصدق على مجرّد إنشاء البيع والملكية الاعتبارية من دون استيلاء خارجي»(2).
أقول: لعلّ الأولى تبديل عبارة «إنشاء البيع والملكية الاعتبارية» بعبارة «الملكية الاعتبارية»، ولعلّه هو المقصود له رحمه الله في المقام، فالمعنى: أنّ الآية لا تدلّ على أكثر من حجر الكافر عن التصرّف في العبد المسلم.
وللشيخ الأعظم رحمه الله مناقشات أُخرى في الاستدلال بالآية غير الإشارة إلى قوله تعالى: ﴿فَاللّٰهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، راجعها في كتابه(3).
وهنا نقتصر نحن على نقل واحدة منها، وهي أنّ سياق الآية: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ...﴾ آبٍ عن التخصيص، فإنّه بيان لكون الجعل شيئاً لم يكن ولن يكون وأنّ نفي الجعل ناشٍ عن احترام المؤمن الذي لا يقيّد بحال دون حال، ونحن نعلم أنّ ملكية الكافر للمؤمن واقعة في طرف الاستدامة كما لو أسلم عبده غاية ما هناك وجوب أن يباع عليه وفي كثير من الفروع في الابتداء.
وفسّر السيّد الخوئي رحمه الله قول الشيخ رحمه الله: «وفي كثير من الفروع في الابتداء» بما نصّه في التنقيح ما يلي:
«وذلك لكثرة الموارد التي جاز بيع العبد المسلم من الكافر وتملّك الكافر له ولو آناً ما،
(1) کتاب المكاسب، ج3، ص584.
(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص197.
(3) کتاب المكاسب، ج3، ص584 _ 586.
فمنها ما إذا كان العبد ممّن ينعتق على الكافر كما إذا كان ولده أو أباه، ومنها ما إذا مات الكافر وانتقلت تركته إلى وارثه الكافر ومن جملتها العبد المسلم وغير ذلك من الموارد»(1).
أقول: لا ينبغي جعل الملكية آناً ما في مثل موارد الانعتاق نقضاً على عدم صحّة ملك الكافر للمسلم وموجباً لإبطال دلالة الآية بسبب كونها آبيةً عن التخصيص، فإنّنا لو قلنا: إنّ الملكية آناً ما ليست إلّا ملكية تقديرية لا حقيقية فمن الواضح أنّها لم تناف عدم صحّة ملكية الكافر للمسلم، ولو قلنا أنّها ملكية غير مستقرّة استطراقاً إلى الانعتاق فهذا لا يعتبر سبيلاً للكافر على المسلم يقيناً، فلا تشمله الآية المباركة.
والشيخ نفسه رحمه الله عقد بحثاً في مكاسبه حول ما عُدّ من مستثنيات عدم جواز تملّك الكافر للعبد المسلم:
أوّلها: ما إذا كان الشراء مستعقباً للانعتاق واقعاً بأن يكون ممّن ينعتق على الكافر قهراً كالأقارب(2)، وأفاد رحمه الله: أنّ الوجه في ذلك واضح... فإنّ مجرّد الملكية غير المستقرّة لا يعدّ سبيلاً، بل لم تعتبر الملكية إلّا مقدّمة للانعتاق.
ثانيها: ما إذا كان الشراء مستعقباً للانعتاق ظاهراً ككافر أقرّ بحرّية مسلم ثم اشتراه. هذا هو المثال الذي ذكره الشيخ الأنصاري لاستعقاب الشراء للحرّية(3).
ولكنّ السيّد الخوئي رحمه الله قسّم ذلك إلى قسمين ومثّل لكلّ قسم بمثال حيث أفاد: أنّ فرض الانعتاق ظاهريّاً يكون كما لو أقرّ الكافر بأنّ العبد من أقربائه(4) أو أنّه حرّ ونحن لا نعلم صدقه، فهو على قسمين: وذلك لأنّ الشراء على فرض صدق المعترف
(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص197.
(2) أي: الأقارب الذين ينعتقون.
(3) کتاب المكاسب، ج3، ص592 _ 600.
(4) يعني من الأقرباء الذين ينفقون على الشخص.
في اعترافه ربّما يكون في حدّ نفسه صحيحاً وموجباً للانعتاق(1)، وأُخرى يكون باطلاً وغير موجب للانعتاق(2)، والأوّل كما في المثال الأوّل والثاني كما في المثال الثاني(3).
وأفاد رحمه الله في القسم الأوّل: أنّه لا إشكال في صحّة البيع حينئذٍ؛ لأنّ المانع من صحّته ليس إلّا استلزامه السبيل على المسلم، وهو منتف؛ لأنّ المُقرّ مأخوذ بإقراره، وقد اعترف بأنّه ينعتق عليه قهراً، فلا سبيل والبيع صحيح(4).
وأمّا القسم الثاني وهو ما لو أقرّ الكافر بحرّية عبد مسلم وأراد مولى العبد الذي لا يعلم بصدق الكافر أو كذبه أن يبيع عبده من ذاك الكافر فقد أفاد الشيخ الأنصاري(قدس سره) أنّه: «يشكل بالعلم بفساد البيع على تقديري الصدق والكذب؛ لثبوت الخلل إمّا في المبيع لكونه حرّاً أو في المشتري لكونه كافراً، فلا يتصوّر صورة صحيحة لشراء من أقرّ بانعتاقه»(5).
وهذا الإشكال يمكن تفسيره بأحد تفسيرين:
الأوّل: أنّه يتولّد من هذا العلم الإجمالي علم تفصيلي بفساد البيع؛ إذ لو كان حرّاً فسد بيعه، ولو كان عبداً فسد بيعه من الكافر. ولعلّ هذا التفسير هو الظاهر من عبارة الشيخ الأنصاري التي نقلناها.
والثاني: أنّنا لو لم نفت بفساد بيع العبد المسلم من الكافر فلا شكّ أنّنا نفتي بحرمته، فلديه علم إجمالي إمّا بفساد البيع لكونه حرّاً أو بحرمته لكون المشتري كافراً.
ثم قال الشيخ الأنصاري رحمه الله: «إلّا أن نمنع اعتبار مثل هذا العلم الإجمالي. فتأمّل»(6).
(1) الموجود في الطبعة التي أشرنا إليها: «للانتقال» وهو غلط، والصحيح: «للانعتاق».
(1) الموجود في الطبعة التي أشرنا إليها: «للانتقال» وهو غلط، والصحيح: «للانعتاق».
(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص207.
(3) المصدر السابق.
(4) کتاب المكاسب، ج3، ص593 _ 594.
(5) المصدر السابق، ص594
وقد فسّر السيّد الخوئي رحمه الله _ على ما في التنقيح _ عبارة الشيخ: «إلّا أن نمنع اعتبار مثل هذا العلم الإجمالي» بأنّ الظاهر أنّه أشار بذلك إلى تفصيل صاحب الحدائق في تنجيز العلم الإجمالي، حيث ذكر أنّه إنّما يوجب التنجيز فيما إذا كان الحكم في كلّ واحد من الطرفين من سنخ واحد وكان لهما جامع حقيقي، وذلك كالعلم بنجاسة هذا الكأس أو ذاك الكأس؛ فإنّ الجامع بينهما وهو النجس مأمور بالاجتناب عنه على أيّ تقدير، وأمّا إذا كان الحكم فيهما من سنخين ولم يكن بينهما جامع حقيقي كما إذا كان العلم الإجمالي متعلّقاً بنجاسة الكأس الشرقي أو بغصبية الكأس الغربي فلا يكون العلم الإجمالي منجّزاً؛ لأنّ الجامع أمر انتزاعي، ولا جامع حقيقي بينهما، وليس شيء منهما معلوماً تفصيلاً، بل كلّ واحد منهما محتمل، وإن كان الشيخ الأنصاري رحمه الله قد أبطل هذا التفصيل في فرائده(1).
وأمّا أمر الشيخ رحمه الله بالتأمّل فقد أفاد السيّد الخوئي رحمه الله أنّه يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ العلم الإجمالي في المقام قد تولّد منه العلم التفصيلي ببطلان المعاملة؛ لأنّا نعلم أنّ بيع هذا العبد باطل إمّا لأنّه حرّ وإمّا لحرمة بيعه من الكافر، وما ذكره صاحب الحدائق من التفصيل لو صحّ فإنّما يصحّ فيما إذا كان هناك طرفان، وأمّا إذا كان الطرف واحداً فلا محالة يتولّد العلم التفصيلي ببطلان المعاملة(2).
وأمّا ما ينبغي أن يقال في المقام فهو ما أفاده الشيخ النائيني رحمه الله _ على ما ورد في منية الطالب(3) _ من أنّ علمنا الإجمالي هنا لا يخلق مشكلة؛ لأنّه لو كان هذا العبد غير متحرّر في علم الله لكذب الكافر فيما ادّعاه، فلا الآية الكريمة _ بناء على تمامية
(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص207 _ 208.
(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص208. وقد وقع السهو من المقرّر أو من القلم أو من الطبّاع في ترك إرجاع هذا المقطع إلى تفسير الأمر بالتأمّل.
(3) منية الطالب، ج2، ص252.
الاستدلال بها _ تمنعنا عن بيعه إيݧّاه؛ إذ لا يخلق هذا البيع سبيلاً للكافر على هذا العبد؛ لأنّه يؤخذ بإقراره فلا يستطيع السيطرة عليه، ولا رواية وجوب بيع العبد المسلم الذي يملكه الكافر _ الدالݧّة بالملازمة على المنع عن بيع العبد المسلم إيݧّاه _ تشمله؛ لأنّ نفي هذا النمط من البيع إيݧّاه غير الموجب لهيمنة الكافر عليه ليس من لوازم وجوب بيعه من المسلمين.
وثالثها: ما لو قال الكافر للمسلم: أعتق عبدك عنّي بكذا فأعتقه.
وهذا كالقسم الأوّل أعني: شراء الأقارب الذين ينعتقون بالشراء أو أوضح من ذلك؛ فإنّنا لو قلنا بحصول الملكية التقديرية أو الملكية الآنية الاستطرادية إلى الانعتاق فكالأوّل، ولو قلنا بأنّه لا توجد ملكية لا التقديرية ولا الآنية الاستطراقية فأوضح، بل على حدّ تعبير السيّد الخوئي رحمه الله(1) ليس هذا أصلاً من المستثنيات؛ لأنّه لا ملكية أصلاً، من قبيل من أعتق عبده عن ميّت، وهذا لا ينافي ضمان الكافر لقيمة العبد للمسلم؛ لأنّه نظير ما لو أمرنا الحلّاق بحلق رأسنا فنضمن له قيمة الحلق؛ لأنّ الأمر بعمل محترم يستلزم ضمانه بقيمته.
ورابعها: ما لو اشترط البائع على المشتري الكافر عتق العبد بعد الانتقال إليه.
وقد أفاد الشيخ رحمه الله بعد فرض الملكية سبيلاً: أنّ استثناء ذلك لا يخلو من نظر؛ فإنّ ملكيته قبل الإعتاق سبيل وعلوّ، بل التحقيق أنّه لا فرق بين هذا وبين إجباره على بيعه في عدم انتفاء السبيل بمجرّد ذلك، فالملك المستقرّ ولو بالقابلية كمشروط العتق سبيل(2).
تملّك الکافر المسلم قهراً
ثم انتقل الشيخ رحمه الله من بعد هذا البحث إلى البحث عن حكم التملّك القهري للكافر، ومثاله: ما لو ورثه الكافر من كافر أُجبر على البيع، فمات قبله. وقد أفاد
(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص209.
(2) کتاب المكاسب، ج3، ص594.