270

ومن الطبيعي أنّ الرجل المسافر إلى الحرم لا يبقى سنة في مكّة، فظاهر قوله: «يرجع إلى بلده فيتصدّق...» الاكتفاء بالتعريف أقلّ من سنة. وقد يقال: إنّ التعريف سنة إنّما هو لأجل التملّك أو ما يشبه التملّك، أمّا التصدّق فيكفي في جوازه أن يعرّف اللقطة ثم يتصدّق، فأكثر روايات التعريف تراها مذيّلة بالتملّك أو جعل اللقطة في عرض ماله.

ولكن قد مضت رواية إبراهيم بن عمر(1)، وهي تدل في لقطة الحرم على التعريف سنة ثم التصدّق.

ولا يبعد كون رواية علي بن أبي حمزة ناظرة إلى حالة الاضطرار؛ لأنّ هذا المسافر لا يتمكّن عادةً من البقاء سنة في الحرم. ومن المحتمل _ بقرينة قوله(علیه السلام): «يرجع إلى بلده» رغم أنّ السائل لم يكن قد فرض كون الملتقط مسافراً _ أنّ الرواية صدرت في زمن زيارة بيت الله، وكانت ناظرة إلى ظرف من هذا القبيل، وفي هذا الظرف حينما يرجع الملتقط إلى بلاده يكون أكثر الزوّار الآخرين أيضاً راجعين إلى بلادهم، وحينئذٍ يتعذّر التعريف ويحصل اليأس عن حصول المالك الذي هو في أغلب الظنّ أيضاً من الزوّار.

٥_ ما عن محمد بن قيس عن أبي جعفر(علیه السلام)قال: «قضى علي(علیه السلام)في رجل وجد ورقاً في خربة: أن يعرّفها، فإن وجد من يعرفها وإلا تمتّع بها»(2). وسند الحديث تام.

وقد يقال: إنّه وإن لم يقيّد التعريف هنا بسنة، لكنّه مطلق فنقيّده بالمقيّدات.

ولكن الظاهر أنّ أصل التعريف هنا يمكن حمله على الاستحباب؛ وذلك لعدم وجوب التعريف رأساً في ما يوجد في خربة باد أهلها، كما ورد بسند تام عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام)، قال: «سألته عن الدار يوجد فيها الورق، فقال: إن كانت معمورة فيها أهلها فهي لهم، وإن كانت خربة قد جلا عنها أهلها فالذي وجد المال أحقّ به»(3).

 


(1) وسائل الشيعة، ج13، ص260، الباب۲۸ من أبواب مقدّمات الطواف، ح٤.

(2) المصدر السابق، ج25، ص448، الباب5 من كتاب اللقطة، ح٥.

(3) المصدر السابق، ص447، ح۱.

271

وورد أيضاً بسند تام عن محمد بن مسلم عن أحدهما(علیه السلام)، قال: «سألته عن اللقطة، قال: لا ترفعوها، فإن ابتليت فعرّفها سنة، فإن جاء طالبها وإلا فاجعلها في عرض مالك؛ يجري عليها ما يجري على مالك إلى أن يجيء لها طالب. قال: وسألته عن الورق يوجد في دار، فقال: إن كانت الدار معمورة فهي لأهلها، فإن كانت خربة فأنت أحقّ بما وجدت»(1).

فكأنّ كون المال في مكان خراب جلا أهله أمارة على جلاء ملّاكه، ويجوز في هذه الحالة تملّكه؛ إمّا لأجل احتمال هلاك ملّاكه، أو لأجل عدم إمكانية التعريف على أساس سعة دائرة الجهالة، وسنعود إن شاء الله إلى البحث عن ذلك.

٦_ ما عن داود بن أبي يزيد _ بسند تام _ عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: «قال رجل: إنّي قد أصبت مالاً وإنّي قد خفت فيه على نفسي، ولو أصبت صاحبه دفعته إليه وتخلّصت منه، قال: فقال أبو عبدالله(علیه السلام): والله أن لو أصبته كنت تدفعه إليه قال: أي والله، قال: فأنا، والله ما له صاحب غيري. قال: فاستحلفه أن يدفعه إلى من يأمره، قال: فحلف، فقال: فاذهب فاقسمه في إخوانك ولك الأمن ممّا خفت منه، قال: فقسمته بين إخواني»(2). فقد يقال: إنّ ترك استفصاله(علیه السلام)عن كون ما أصابه لقطة أم لا وأنّه يمكن تعريفه أم لا وأنّه عرّفه سنة أم لا، دليلٌ على عدم وجوب التعريف في اللقطة.

ولكن قد يقال: إنّ هذا لا يتجاوز أن يكون إطلاقاً _ بملاك ترك الاستفصال _ لا يقاوم أدلّة وجوب التعريف سنة. بل قد يقال: إنّه(علیه السلام)أعمل هنا ولايته التي هو بها أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ بقرينة قوله: «والله ما له صاحب غيري»، فالرواية أجنبية عن المقام.

وقد يقال في مقابل ذلك: لعلّ الرواية تدل على أنّ اللقطة أو مجهول المالك يرجع

 


(1) تهذيب الأحكام، ج6، ص390، باب اللقطة والضالة، ح5.

(2) وسائل الشيعة، ج25، ص450، الباب7 من كتاب اللقطة، ح۱.

272

إلى الإمام، فما في باقي الروايات من الأمر بالتصدّق أو التملّك يحمل على أنّ الإمام الذي هو صاحب اللقطة أو مجهول المالك سمح بالتصدّق أو التملّك.

۷_ روايات تملّك ما في بطن الدابّة إن لم يعرفها البائع، وقد جاء في الوسائل بهذا الصدد حديثان تامّان سنداً(1).

ولكن هذا كما ترى ليس من اللقطة، ولا نجزم بعدم الفرق؛ فلعلّ من يلتقط مال الناس يجب عليه نتيجةً لالتقاطه لمال الناس تعريفه سنة، أمّا من جاءه المال في جوف دابّة اشتراها جاز له تملّكه لو لم يعرفه البائع، كما ويحتمل أن يكون عدم التعريف هنا لأجل عدم إمكانيّته على أساس سعة دائرة الجهالة، وسنعود إلى البحث عن هذه الروايات إن شاء الله.

۸_ ما عن أبي بصير عن أبي جعفر(علیه السلام)قال: «من وجد شيئاً فهو له، فليتمتّع به حتّى يأتيه طالبه، فإذا جاء طالبه ردّه إليه»(2). إلا أنّ سند الحديث ضعيف.

۹_ رواية إسحاق بن عمّار قال: «سألت أبا إبراهيم(علیه السلام)عن رجل نزل في بعض بيوت مكّة، فوجد فيه نحواً من سبعين درهماً مدفونة، فلم تزل معه ولم يذكرها حتّى قدم الكوفة، كيف يصنع؟ قال: يسأل عنها أهل المنزل لعلّهم يعرفونها. قلت: فإن لم يعرفوها؟ قال: يتصدّق بها»(3). وهي تامّة سنداً.

إلا أنّ هذا الحديث أيضاً يبدو أنّه أجنبيّ عن المقام، فهذا المال إن لم يعرفه أهل المنزل عدّ كنزاً، وهذا الحديث حاله حال أحاديث الكنز، إلا أنّ هذا الحديث حكم بالتصدّق، بينما غالبية أحاديث الكنز حكمت بإعطاء الخمس ويعني ذلك تملّك الباقي. وعلى أيّ حال فأحاديث الكنز أجنبية عن المقام؛ لاحتمال الفرق إمّا على

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص452، الباب9 من كتاب اللقطة، كلا حديثي الباب.

(2) المصدر السابق، ص447، الباب4 من كتاب اللقطة، ح۲.

(3) المصدر السابق، ص448، ح3.

273

أساس أنّ احتمال هلاك ملّاكه قويّ، وإمّا لعدم إمكانية التعريف بالكنز عادةً لسعة دائرة الجهالة، وسنعود إلى البحث عن ذلك إن شاء الله.

۱٠_ رواية فضيل بن غزوان رواها الشيخ _ بسند غير تام لنا _ عن فضيل بن غزوان قال: «كنت عند أبي عبدالله(علیه السلام)فقال له الطيّار: إنّ ابني حمزة وجد ديناراً في الطواف قد انسحق كتابته؟ قال: هو له»(1).

ورواه الكليني بسند تام عن فضيل بن غزوان، إلا أنّه قال: «فقال له الطيّار: إنّي وجدت ديناراً ...»(2).

إلا أنّ من المحتمل إنّه كان هذا السؤال في أيّام الحجّ وكان قد وجد الدينار في طواف الناس المجتمعين من شتّى أنحاء البلاد فلم يكن يمكن التعريف على أساس سعة دائرة الجهالة، وسنعود إلى البحث عن ذلك إن شاء الله.

وأمّا مرسلة الصدوق هذا: «فإن وجدت في الحرم ديناراً مطلساً فهو لك لا تعرّفه»(3) فلا قيمة لها سنداً، ولعلّ الصدوق يشير إلى نفس رواية ابن غزوان.

حکم ما دون الدرهم

وقد يستثنى من وجوب التعريف ما دون الدرهم، ولكن الظاهر أنّه لا دليل على الاستثناء بعنوان ما دون الدرهم إلا حديث مرسل جاء فيه: «وما كان دون الدرهم فلا يعرَّف»(4).

 


(1) تهذيب الأحكام، ج6، ص394، باب اللقطة والضالة،‌ح27.

(2) الكافي، ج4، ص239، باب لقطة الحرم من كتاب الحجّ، ح3.

(3) وسائل الشيعة، ج25، ص443، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۹، من لا يحضره الفقيه، ج3، ص297، باب القطة والضالة من کتاب المعيشة، ح4064.

(4) المصدر السابق، ص446، الباب4 من كتاب اللقطة، ح1.

274

نعم، ورد الاستثناء في حديث تام السند بعنوان المحقّرات التي لا طالب لها عادةً، وهو: ما عن حريز عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «لا بأس بلقطة العصى والشظاظ والوتد والحبل والعقال وأشباهه، قال: وقال أبو جعفر(علیه السلام): ليس لهذا طالب»(1)، فهذا كما ترى يدل على جواز تملّك المحقّرات التي لا طالب لها عادةً بلا حاجة إلى التعريف.

وقد يعارض ذلك بما عن عبدالرحمان بن أبي عبدالله _ بسند تام ظاهراً _ قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام)عن النعلين والإداوة والسوط يجده الرجل في الطريق ينتفع به؟ قال: لا يمسّه»(2).

ورواه أيضاً داود بن أبي يزيد عن أبي عبدالله(علیه السلام)بسند تام، فعلى الأقلّ بعض ما جاء في هذه الرواية يكون من قبيل تلك المحقّرات، فمثلاً ما الفرق بين السوط الذي جاء في هذه الرواية والعصى الذي جاء في تلك الرواية؟! ولكن لا يخفى أنّ النهي القابل للحمل على الكراهة لا يقاوم دليل الجواز.

حکم التقاط المحقرات من الحرم

وهل يجوز التقاط المحقّرات من الحرم أو لا؟

مقتضى إطلاق رواية حريز هو الجواز، ولكن تعارضه إطلاقات لقطة الحرم، كرواية حريز الأُخرى الماضيةالواردة في الحرم، وفيها: «ولا تحلّ لقطتها إلا لمنشد»(1)، ومع فرض التساقط يكون مقتضى الأصل العملي عدم جواز الالتقاط بلا تعريف ما لم يطمأنّ برضا المالك، ومقتضى العام الفوقاني أيضاً هو التعريف، وهو بعض المطلقات الآمرة بالتعريف لو لم نقل بأنّ تذيّلها بالملك يمنع عن شمولها لمحقّرات الحرم، فإنّه بعد أن

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص456، الباب12 من كتاب اللقطة، ح1.

(2) المصدر السابق، ص456، ح۲.

(3) المصدر السابق، ج12، ص557، الباب۸۸ من أبواب تروك الإحرام، ح۱.

275

خرجت لقطة الحرم بشكل عام عن إطلاقها بما دل على عدم جواز امتلاكها ليس عرفيّاً التمسّك بإطلاقها في خصوص محقّرات الحرم.

وقد تُقدّم رواية حريز الواردة في الحرم على رواية حريز الواردة في المحقّرات؛ إمّا بدعوى الحكومة باعتبارها ناظرة إلى احترام الحرم، فكأنّها تقول: إنّ اللقطة حتّى التي يجوز التقاطها في غير الحرم لغير المنشد لا تحلّ في الحرم، إلا أنّ هذه الدعوى غير واضحة الصحّة.

أو بدعوى أنّه يمكن أن نخرج من رواية الحرم المحقّرات التي يجوز التقاطها لغير المنشد؛ إذ لا تبقى حينئذٍ ميزة للحرم بينما الرواية بصدد بيان ميزة الحرمة، وهذه الدعوى أيضاً غير واضحة الصحّة؛ إذ لا أقلّ من فرض كون الميزة هي اشتداد الحرمة.

وقد تُقدّم رواية حريز الواردة في المحقّرات على رواية حريز الواردة في لقطة الحرم؛ وذلك إمّا لأنّ رواية حريز الواردة في لقطة الحرم من الواضح أنّ المقصود بها كون الحرم مأمناً لمال الناس، فلا يجوز التقاط ما ضاع منهم بلا رضاهم، بينما رواية حريز الواردة في المحقّرات تفترض ولو تعبّداً رضا المالك حيث تقول: «وقال أبو جعفر (علیه السلام): ليس لهذا طالب»، فكأنّها تفرض غلبة رضا المالك أمارة على رضاه، وإمّا لأنّ قوله: «لا بأس بلقطة العصى...» إلى الحرمات الموجودة للقطة من تحريم الالتقاط أو الأكل أو ترك التعريف ويحلّلها جميعاً، فهي حاكمة بملاك النظر.

اللقطة التي لا يمکن تعريفها

بقي الكلام في اللقطة التي لا يمكن تعريفها، فهل يجوز تملّكها أو لا؟

قد يستفاد من عدّة من الروايات أنّ حكمها التصدّق، وهي كما يلي:

۱_ يونس بن عبدالرحمان قال: «سئل أبو الحسن الرضا(علیه السلام)وأنا حاضر _ إلى أن قال:_ فقال رفيق كان لنا بمكّة، فرحل منها إلى منزله ورحلنا إلى منازلنا، فلمّا أن صرنا في الطريق أصبنا بعض متاعه معنا، فإيّ شيء نصنع به؟ قال: تحملونه حتّى تحملوه

276

إلى الكوفة. قال: لسنا نعرفه ولا نعرف بلده ولا نعرف كيف نصنع؟ قال: إذا كان كذا فبعه وتصدّق بثمنه. قال له: على من جعلت فداك؟ قال: على أهل الولاية»(1). وسند الحديث تام.

وفي مورد الحديث يكون الملتقط قد رأى المالك قبلاً، ولعلّه لو رآه بعد هذا لعرفه، لكن هذه الخصوصية ملغاة عرفاً.

وأيضاً مورد الحديث خارج عن الالتقاط بالمعنى المقصود، فإنّه هو ما يلتقط المال متعمّداً، وإنّما صار المال في ضمن أمتعته من دون تعمّده هو، ولكن لا يبعد إلغاء هذه الخصوصية عرفاً أيضاً.

وواضح في مورد الحديث عدم إمكانية التعريف على أساس سعة دائرة الجهالة حيث لا يعرف بلد المالك، والمتاع أُخذ من بعض منازل السفر، ولا يدرى في أيّ بلد صاحبه، ولم يؤخذ من بلد معيّن حتّى يعرّف في ذلك البلد.

۲_ زرارة قال: «سألت أبا جعفر (علیه السلام)عن اللقطة، فأراني خاتماً في يده من فضّة قال: إنّ هذا ممّا جاء به السيل، وأنا اُريد أن أتصدّق به»(2). وسند الحديث تام.

وهذا أيضاً واضح في عدم إمكانية التعريف لسعة دائرة الجهالة والغموض؛ لأنّه ممّا جاء به السيل.

۳_ ما مضى من رواية إسحاق بن عمّار(3) الآمرة بالتصدّق بالدراهم التي وجدها مدفونة في بعض بيوت مكة، والظاهر دخول ذلك في الكنز الذي تكون دائرة جهالة مالكه واسعة.

٤_ ما مضى من حديث علي بن أبي حمزة في دينار وجده في الحرم، قال(علیه السلام):

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص456، الباب12 من كتاب اللقطة، ح1.

(2) المصدر السابق، ص456، ح۲.

(3) المصدر السابق، ج12، ص557، الباب۸۸ من أبواب تروك الإحرام، ح۱.

277

«يعرّفه، قلت: فإنّه قد عرّفه فلم يجد له باغياً؟ قال: يرجع إلى بلده فيتصدّق به على أهل بيت من المسلمين، فإن جاء طالبه فهو له ضامن»(1)، حيث استظهرنا من هذا الحديث التصدّق قبل التعريف سنة؛ لأنّ المسافر إلى الحرم لا يبقى عادةً في الحرم سنة، وقلنا: لعلّ الحديث ناظر إلى حالة الاضطرار وعدم التمكّن من التعريف سنة باعتبار عدم تمكّنه من البقاء سنة في الحرم. إلا أنّنا لا يمكننا أن نجزم بكون الأمر بالتصدّق في هذا الحديث مستنداً إلى عدم إمكانية التعريف؛ لأنّ في مورده سبباً آخر لوجوب التصدّق وحرمة الأكل وهو كون اللقطة لقطة الحرم، وكذلك الحال في الحديث الثالث.

فالعمدة في المقام الحديثان الأوّلان، ولنا حولهما عدّة أبحاث:

البحث الأوّل: إنّ هاتين الروايتين مخصوصتان بصورة عدم إمكانية التعريف وقد أمرت بالتصدّق سيما أُولاهما، وروايات التملّك الماضية مخصوصة بصورة إمكانية التعريف وقد أمرت بالتعريف ثم حكمت بالتملّك، إذاً فلا تعارض بينهما.

ولو أنّ تلك الروايات لم تكن آمرة بالتعريف ولم تكن مختصّة بصورة إمكانية التعريف، ووقع التعارض بينها وبين هاتين الروايتين، لم يكن من الجمع العرفي أن نقول بأنّ وجوب التصدّق مخصوص بصورة عدم إمكانية التعريف، والتملّك مخصوص بصورة إمكانيّته؛ إذ بعد أن لم يكن التملّك متقيّداً بالتعريف لا يحتمل العرف فرقاً تعبّديّاً بين فرض إمكانية التعريف وعدم إمكانيّته، وحتّى لو كانت روايات التملّك خاصّة مورداً بصورة إمكان التعريف نتعدّى منها إلى صورة عدم إمكانه ما دام التعريف غير واجب، إذاً فالجمع العرفي بينهما إنّما هو القول بالتخيير بين التملّك والتصدّق بناءً على كون الملكية اختيارية، أو استحباب التصدّق مع حصول الملك بناءً على كون الملكية قهرية، إذاً فالمهمّ في إفتائنا بعدم جواز التملّك

 


(1) المصدر السابق، ص463، الباب۱۷ من كتاب اللقطة، ح1.

278

والأكل في لقطة لم يمكن تعريفها هو قصور روايات التملّك عن شمولها، وحينئذٍ حتّى لو لم تدل هاتان الروايتان على تعيّن التصدّق وبالتالي على عدم جواز التملّك لكنّا نكتفي بأصالة عدم الملكية.

نعم تفيدنا هاتان الروايتان في أمرين:

أحدهما: الحكم بجواز التقاط ما لا يمكن تعريفه.

وقد يقال: إنّ الرواية الأُولى لا تدل على ذلك؛ لأنّ الالتقاط في موردها قد حصل بلا اختيار حيث بقي متاع رفيقه في ضمن أمتعته، وهو لا يدري فأخذه معها.

والثاني: الحكم بوجوب الصدقة في مقابل حفظ المال أمانة، أمّا في مقابل الأكل والتملّك فهي وإن كانت تفيد ذلك ولكن عرفت أنّه لولاها أيضاً كنّا نقول _ بمقتضى الأصل _ بعدم جواز الأكل والتملّك(1).

وقد يقال: إنّ الرواية الأُولى تفيد ذلك، أمّا الثانية فليس فيها أمر بالتصدّق، وإنّما قال(علیه السلام): «أنا أُريد أن أتصدّق به»، فإنّما دلّت على جواز التصدّق لا وجوبه.

البحث الثاني: إنّ هاتين الروايتين إنّما وردتا في فرض عدم إمكانية التعريف بسبب سعة دائرة الجهالة، وقد حكمتا بتعيّن التصدّق، وظاهرهما نفي الملكية ونفي جواز الإبقاء أمانةً.

ولكن عدم إمكانية التعريف قد تنشأ من أسباب أُخرى من قبيل:

۱_ قصور في حال الملتقط يمنعه عن التعريف رغم قابلية اللقطة للتعريف، وقد عرفت احتمال حمل رواية علي بن أبي حمزة الماضية(2)على ذلك، ولكن عرفت أنّها واردة في لقطة الحرم؛ ولذا لم نستطع أن نستفيد منها حكماً بالنسبة لخصوصية عدم إمكان التعريف.

 


(1) طبعاً كلّ هذا بغضّ النظر عن المعارض الدالّ على التملّك في صورة عدم إمكانية التعريف والذي سنبحثه إن شاء الله في البحث الثالث.

(2) وسائل الشيعة، ج25، ص463، الباب۱۷ من كتاب اللقطة، ح1.

279

۲_ قصور في حال اللقطة من حيث عدم قابليّتها للبقاء، وقد ورد في ذلك حديث عن السكوني عن أبي عبدالله(علیه السلام): «إنّ أمير المؤمنين(علیه السلام)سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنّها وبيضها وفيها سكّين؟ فقال أمير المؤمنين: يقوّم ما فيها ثم يؤكل؛ لأنّه يفسد وليس له بقاء، فإن جاء طالبها غرموا له الثمن. فقيل: يا أمير المؤمنين(علیه السلام)، لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسي؟ فقال: هم في سعة حتّى يعلموا»(1). فهذه الرواية دلّت على جواز الأكل لا على عدم جوازه، إلا أنّها ضعيفة سنداً.

ونحوها مرسلة الصدوق عن الصادق(علیه السلام): «وإن وجدت طعاماً في مفازة فقوّمه على نفسك لصاحبه ثم كله، فإن جاء صاحبه فردّ عليه القيمة»(2).

۳_ قصور في حال اللقطة من حيث عدم اشتمالها على علامة تجعلها قابلة للتعريف لو لم نقل بأنّ هذا يرجع في الحقيقة إلى سعة دائرة الجهل بالمالك، غاية ما هناك أنّ بعض درجات السعة التي لا تكفي في العجز عن التعريف في ما يسمّى ذا علامة قد تكفي في ذلك في ما يقال عنه إنّه بلا علامة كالدينار والدرهم مثلاً، ففي الدائرة الضيّقة يكون الدينار والدرهم أيضاً قابلين للتعريف ومُعدّين ممّا له علامة كما مضى في ما سبق في بعض الروايات الأمر بتعريفهما، فقد مضى في حديث علي ابن أبي حمزة(3) الآمر بتعريف الدينار، ومضى في حديث علي بن جعفر(4) الآمر بتعريف الدرهم، على بعض نسخه.

وعلى أيّ حال فأحاديث التصدّق الماضية إنّما وردت في فرض العجز عن

 


(1) المصدر السابق، ص468، الباب۲۳ من كتاب اللقطة، ح۱.

(2) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص297، باب اللقطة والضالة من کتاب المعيشة، ح4064.

(3) وسائل الشيعة، ج25، ص463، الباب۱۷ من كتاب اللقطة، ح1.

(4) المصدر السابق، ص445، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۱۳.

280

التعريف على أساس سعة دائرة الجهالة، فهل نتعدّى من ذلك إلى سائر أسباب العجز عن التعريف أو لا؟

لا يبعد التعدّي وإلغاء خصوصية المورد عرفاً.

البحث الثالث: توجد عدّة روايات وردت في فرض العجز عن التعريف على أساس سعة دائرة الجهالة دلّت على التملّك، فهي تعارض الأحاديث السابقة الدالّة على التصدّق.

والكلام حول ذلك يقع في ثلاثة أمور:

الأمر الأول: لو تمّت دلالة هذه الروايات على الملك فالظاهر أنّ مقتضى الجمع بينها وبين ما عرفته من أحاديث التصدّق هو القول بالتخيير بين التملّك والتصدّق، وحمل التصدّق على الاستحباب.

الأمر الثاني: إنّنا في أحاديث التصدّق قلنا بالتعدّي من موردها، وهو العجز عن التعريف الناشئ من سعة دائرة الجهالة إلى العجز الناشئ من سائر الأسباب، ولكن التعدّي في مسألة التملّك مشكل، فالعرف يحتمل دخالة سعة الجهالة بمالك مّا في جواز تملّك أمواله، ففرق بين التصدّق بمال الغير الذي هو عبارة عن صرف ماله في مصرف الخير وبين أكله وتملّكه، فلو قلنا في الأول بتعدّي العرف من فرض سعة دائرة الجهالة إلى سائر فروض العجز عن معرفة المالك لا نقول بذلك في الثاني.

الأمر الثالث: هل روايات التملّك تامّة الدلالة حقاً على التملّك في خصوص ما نحن فيه، وهو فرض العجز عن تعريف اللقطة لسعة دائرة الجهالة بمالكها أو لا؟ وتلك الروايات كما يلي:

۱_ روايات تملّك ما في بطن الدابّة، وقد نقل صاحب الوسائل بهذا الصدد روايتين تامّتي السند:

إحداهما: ما عن عبدالله بن جعفر بسند الكليني(رحمه الله) قال: «كتبت إلى الرجل

281

أسأله عن رجل اشترى جزوراً أو بقرة للأضاحي، فلمّا ذبحها وجد في جوفها صرّة فيها دراهم أو دنانير أو جوهرة لمن يكون ذلك؟ فوقّع(علیه السلام): عرّفها البائع، فإن لم يكن يعرفها فالشيء لك رزقك الله إياه»(1).

والثانية: ما عن عبدالله بن جعفر أيضاً بسند الصدوق(رحمه الله) قال: «سألته في كتاب عن رجل اشترى جزوراً أو بقرة أو شاة أو غيرها للأضاحي أو غيرها، فلمّا ذبحها وجد في جوفها صرّة فيها دراهم أو دنانير أو جواهر أو غير ذلك من المنافع، لمن يكون ذلك؟ وكيف يعمل به؟ فوقّع(علیه السلام): عرّفها البائع، فإن لم يعرفها فالشيء لك»(2). وكأنّهما رواية واحدة.

بناءً على أنّ كون المال في بطن الدابّة وهي تساق من البلاد إلى البلاد ولا يعلم متى أكلته، يوجب سعة دائرة الجهالة بحيث لا يمكن التعريف، خصوصاً إذا كان اشتراها في الحج للاضحية مع كثرة المسافرين إلى الحج، إذاً فالروايتان تدلّان على جواز التملّك عند عدم إمكانية التعريف لسعة دائرة الجهالة.

إلا أنّ المشکلة الموجودة في هذا الاستدلال هي دعوى احتمال الفرق بين مورد الروايتين ومورد اللقطة حيث إنّ المشتري لم يلتقط المال، وإنّما انساق المال إليه صدفة وقهراً بشرائه للدابّة، فلعلّ هذا يوجب الفرق.

هذا، وتشبه هذه الروايات روايات وجدان المال في جوف السمكة _ وقد عقد لها باباً في الوسائل(3) _ فقد يتمسّك بها أيضاً لإثبات جواز تملّك ما لا يمكن تعريفه.

إلا أنّها _ مضافاً إلى المشکلة الماضية في روايات الدابة _ ضعيفة سنداً، على أنّه من المحتمل أنّ ما في بطنها من لؤلؤة أو جوهرة أو درّة لم يكن ملك أحد، وإنّما كان من معطيات البحر ابتداء.

 


(1) الكافي، ج9، ص730، باب اللقطة والضالة من كتاب المعيشة، ح9.

(2) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص296، باب اللقطة والضالة من كتاب المعيشة، ح4062.

(3) وسائل الشيعة، ج25، ص453، الباب۱٠ من كتاب اللقطة.

282

۲_ روايات تملّك ما يُلتقط من الأرض الخربة _ وقد أوردها صاحب الوسائل في بعض أبواب اللقطة(1) _ بناءً على أنّ خراب الدار وجلاء الأهل يوسّع من دائرة الجهالة بحيث لا يمكن التعريف.

إلا أنّ الإشکال الموجود فيها هو دعوى أنّ خراب الدار وجلاء الأهل يجعلنا نحتمل أنّ ملّاك المال قد بادوا وهلكوا، فلا يثبت جواز التملّك إلا في هذه الدائرة؛ لاحتمال الخصوصية لها.

وقد يجاب عن ذلك بأنّ المالك الأول إذا كان قد هلك فعادة يوجد له ورّاث، وفرضية عدم الوارث ما عدا الإمام مثلاً فرضية نادرة.

إلا أن يقال: إنّ في زمان الإمام(علیه السلام)كان يكثر الموالي الذين لا وارث لهم عدا مولاهم أو الإمام مثلاً.

وقد يجاب على ذلك: بأنّ الرواية لم ترد بنحو القضية الخارجية حتّى تختص بظروف ذلك الزمان.

وقد يقال: إنّ احتمال هلاك الأهل وسعة دائرة الورّاث جدّاً بحيث لا يكون لأيّ واحد منهم إلا جزء يسير من المال لا يعتنى به محتمل الدخل في الحكم، فلا نستطيع التعدّي من هذه الدائرة.

۳_ أخبار الكنز الظاهرة في التملّك سواء ما كان منها حاكماً بإخراج الخمس فإنّ هذا ظاهر في تملّك الباقي، أو ما كان منها نافياً للزكاة فهذا أيضاً ظاهر في التملّك. وهذه الروايات موجودة في الوسائل، كتاب الخمس(2).

والرواية الأخيرة موجودة أيضاً في كتاب اللقطة(3).

 


(1) الكافي، ج9، ص730، باب اللقطة والضالة من كتاب المعيشة، ح9.

(2) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص296، باب اللقطة والضالة من كتاب المعيشة، ح4062.

(3) وسائل الشيعة، ج25، ص453، الباب۱٠ من كتاب اللقطة.

283

ولعلّ مقتضى الجمع بينها وبين الرواية الآمرة بالتصدّق، وهي رواية إسحاق بن عمّار الماضية هو حمل التصدّق على الاستحباب(1).

وقد يقال: نحن نحتمل الخصوصية في مورد الرواية؛ لأنّها واردة في الدراهم المدفونة بمكة، فلعلّ الكنز المدفون بالحرم حكمه التصدّق لا التملّك، بخلاف الكنز في خارج الحرم، فليكن الكنز حاله حال اللقطة في اختلاف حكم ما يوجد في الحرم ممّا يوجد في خارج الحرم حيث يتملّك الثاني ويتصدّق بالأول.

وعلى أيّ حال فتقريب التمسّك بروايات الكنز هو أنّ مال الكنز تكون دائرة جهالة ملاكه واسعة عادة، وقد ثبت فيه جواز التملّك، ولا خصوصية عرفاً للكنز، فيتعدّى إلى غيره.

إلا أنّ الإشكال الموجود في ذلك هو إشكال الرواية السابقة، وهو إبراز احتمال خصوصية في احتمال بَيْد الملّاك، فإنّ الكنز يحتمل فيه عادة ذلك.

ثم إنّه في أيّ مورد قلنا بالتملّك من دون تعريف لا يبعد القول بوجوب الخمس فيه إذا كان ممّا لو كان كنزاً لوجب فيه الخمس بدعوى إلغاء خصوصية الكنزية عرفاً.

٤_ ما مضى عن فضيل بن غزوان قال: كنت عند أبي عبدالله(علیه السلام)«فقال له الطيار: إنّ إبني حمزة وجد ديناراً في الطواف قد انسحق كتابته. قال: هو له»(2).

وهذه الرواية من ناحية تعارض روايات التعريف؛ فإنّ الدينار والدرهم بشكلهما السابق وفي المجتمع الصغير لذاك اليوم كانا يعدّان ممّا يقبل التعريف، ولهذا ورد في الدينار الأمر بالتعريف كما في رواية علي بن أبي حمزة الماضية، وكذلك ورد في الدرهم الأمر بالتعريف كما في رواية علي بن جعفر الماضية على بعض نسخها.

 


(1) المصدر السابق، ح3.

(2) المصدر السابق، ح4.

284

وأمّا انسحاق كتابة الدينار فلا يجعله غير صالح للتعريف، بل يصبح بذلك أصلح للتعريف؛ لكون انسحاق الكتابة بنفسه علامة.

ومن ناحية أُخرى تعارض ما دلّ على عدم جواز تملّك لقطة الحرم كما مضى في رواية إبراهيم بن عمر عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «اللقطة لقطتان: لقطة الحرم وتعرّف سنة، فإن وجدت صاحبها وإلا تصدّقت بها. ولقطة غيرها تعرّف سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فهي كسبيل مالك»(1).

وبالإمكان أن يقال: إنّ المفروض في مورد رواية فضيل بن غزوان أنّ الدينار وجده في الطواف في مثل أيام الحج، وعندئذٍ تتسع دائرة الجهالة إلى حدّ يصبح الدينار عرفاً غير قابل للتعريف.

إذاً فالرواية دليل على جواز تملّك اللقطة عند عدم إمكانية تعريفها على أساس سعة دائرة الجهالة. ولا تعارض لا روايات التعريف؛ لأنّ المفروض في موردها عدم إمكانية التعريف، ولا رواية عدم تملّك لقطة الحرم؛ لأنّها حكمت بالتعريف ثم التصدّق. وهذا يعني أنّها واردة في مورد إمكانية التعريف، بينما هذه الرواية واردة في مورد عدم إمكانية التعريف.

وقد يقال: إنّ كلمة «في الطواف» في رواية فضيل بن غزوان لا تدل على أنّ القضية كانت في أيام الحج مثلاً؛ لأنّ الطواف مشروع طول السنة.

إذاً فمقتضى إطلاق رواية ابن غزوان _ ولو بملاك ترك الاستفصال _ عدم اختصاص جواز التملّك بصورة سعة دائرة الجهالة وعدم إمكانية التعريف.

وقد يجاب على ذلك بأنّ من المحتمل وجود ما يصلح للقرينية الصارفة للإطلاق؛ وذلك بأن يكون السؤال والجواب صادراً في أيّام الحجّ، ويقصد بالطواف

 


(1) وسائل الشيعة، ج13، ص260، الباب۲۸ من مقدمات الطواف، ح4.

285

طواف أيّام الحجّ، وفي زحام أيّام الحجّ تتسع دائرة الجهالة إلى حدّ لا يمكن عادة تعريف الدينار، وواضح أنّ السؤال كان بنحو القضية الخارجية لا الحقيقية، أي: إنّه لم يقل: «من وجد ديناراً في الطواف فما هو حكمه؟»، وإنّما قال: «إنّي وجدت ديناراً في الطواف...»، فلا يمكننا أن نتعدّى من مورد الطواف في أيّام الحجّ إلی الطواف في مطلق الأيّام؛ لاحتمال الخصوصية، ولا يمكننا أن نتمسّك بالإطلاق بملاك ترك الاستفصال؛ لأنّ كون السؤال في أيّام الحجّ صالح لصرف قوله «في الطواف» إلی طواف تلك الأيّام. وهذه قرينة تكون الغفلة عن إدراجها في نقل الرواية طبيعية، فلا يمكن نفيها بأصالة عدم الغفلة، إذاً فلا إطلاق في الرواية لصورة إمكانية التعريف.

وقد يقال: إنّ رواية فضيل بن غزوان حتّى لو حملت على فرض عدم إمكانية التعريف تعارض رواية «لا تحلّ لقطتها إلا لمنشد»(1) الماضية، حيث دلّت على حرمة التقاط لقطة الحرم لغير المنشد. وهذا حكم شامل للّقطة التي يجوز التقاطها بلا تعريف في غير الحرم حتماً، وإلا فأيّة خصوصية للحرم؟!

والجواب:

أولاً: إنّ من المحتمل كون رواية «لا تحلّ لقطتها إلا لمنشد» تعني: أنّ الالتقاط في غير الحرم لغير المنشد ليس حراماً وإن حرم عدم الانشاد، أو تعني: اشتداد الحرمة في الحرم.

وثانياً: إذا كانت الرواية تعني: حرمة التقاط ما كان يجوز التقاطه في غير الحرم بلا تعريف، فإطلاقها لغير ما يقبل التعريف غير واضح؛ فإنّ قوله «إلا لمنشد» صالح للقرينية على اختصاصها بما يمكن فيه الإنشاد.

فلعلّ المصداق الوحيد لما يجوز التقاطه بلا تعريف في غير الحرم ولا يجوز في الحرم هو المحقّرات.

 


(1) المصدر السابق، ج12، ص557، الباب۸۸ من أبواب تروك الإحرام، ح۱.

286

قد يقال: إنّ رواية «لا تحلّ لقطتها إلا لمنشد» تعارض المجموع المركّب من رواية فضيل ابن غزوان ورواية جواز التقاط المحقّرات؛ لأنّه ليس لها طالب، وبما أنّ الثاني حاكم على رواية «لا تحلّ لقطتها إلا لمنشد» لأنّه يثبت رضا المالك، فيرتفع موضوع الحرمة. إذاً فالتعارض يستحكم بين رواية فضيل بن غزوان ورواية «لا تحلّ لقطتها إلا لمنشد».

فالمهم هو الجواب الأول.

إذاً فلا يثبت التعارض بين هذه الرواية والروايات الآمرة بالتعريف.

هذا، وقد يقال: إنّه بعد أن أصبحت هذه الرواية مجملة، أي: لا ندري هل هي تنفي وجوب التعريف وتجوّز التملّك بلا تعريف حتّى في ما يمكن تعريفه، أو تنفي وجوب التصدّق وتجوّز التملّك في ما لا يمكن تعريفه إذاً نعلم إجمالاً بأنّ هذه الرواية إمّا تعارض روايات التعريف في ما يمكن تعريفه، أو تعارض خصوص روايات التصدّق في ما لا يمكن تعريفه، فإمّا إنّ روايات التصدّق في ما لا يمكن تعريفه محمولة على الاستحباب، وإمّا إنّ روايات التعريف في ما يمكن تعريفه محمولة على الاستحباب إن قبلت هذا الحمل، أو مبتلاة بالتعارض والتساقط إن لم تقبل هذا الحمل.

وهذا العلم الإجمالي يؤدّي بنا إلی العلم التفصيلي بحمل روايات التصدّق في ما لا يمكن تعريفه على الاستحباب؛ لأنّ رواية فضيل بن غزوان إن حملت على فرض عدم إمكانية التعريف فقد دلّت على جواز التملّك في هذا الفرض، فدليل التصدّق يحمل على الاستحباب، وإن حملت على عدم وجوب التعريف وجواز التملّك مطلقاً فلا يمكن إخراج فرض عدم إمكانية التعريف عن الحكم المذكور فيها؛ إذ لا يحتمل جواز التملّك بلا تعريف عند إمكانية التعريف وعدم جوازه عند عدم إمكانية التعريف.

إذاً فروايات التصدّق في فرض عدم إمكانية التعريف محمولة على الاستحباب على كلّ حال، فتبقى روايات التعريف في فرض إمكانية التعريف غير ثابتة الابتلاء بالمعارض، فيجب الأخذ بها.

287

هذا. والصحيح: إنّ رواية فضيل بن غزوان على تقدير حملها على نفي وجوب التعريف وجواز التملّك بلا تعريف مطلقاً ساقطة عن الحجّية بمخالفتها للمسلّم الفقهي؛ فإنّ وجوب التعريف في ما يمكن تعريفه مقطوع به فقهياً، وبما أنّها هي مجملة لا ندري هل تنظر إلى هذا المعنى الباطل فقهياً أو تنظر إلی جواز التملّك في خصوص ما لا يمكن تعريفه، تصبح ساقطة عن الحجّية وغير قابلة لمعارضة روايات التصدّق في فرض عدم إمكان التعريف كي توجب حملها على الاستحباب؛ وذلك لأنّها على تقدير عدم ورودها في خصوص طواف لا يمكن التعريف في لقطته لسعة دائرة الجهالة لا تقبل التخصيص بخصوص ذلك، وهي بإطلاقها غير قابلة للحجّية. إذاً فهي غير ثابتة الحجّية.

فإن قلت: إنّنا نضمّ القطع الفقهي ببطلان المعنى الأوّل إلی دليل حجّية خبر الثقة ونستنتج من ذلك ضرورة حمل رواية غزوان على المعنى الثاني كي تبقى على الحجّية.

قلت: إنّ التمسك بدليل حجّية خبر الثقة هنا تمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ فإنّ دليل حجّية خبر الثقة مفاده هو حجّية مفاد الخبر، لا تعيين حقيقة الخبر، والمفروض إنّ حال الخبر هنا مردّد بين أن يكون مكتنفاً بقرينة توجب صرفه إلی مثل طواف الحجّ وهذا قابل للحجّية، وبين ما كان ظاهراً في الإطلاق وهذا غير قابل للحجّية، فكيف يمكن التمسك بدليل حجّية خبر الثقة لإثبات الحجّية في المقام؟!(1)

نعم لو كان الخبر يهدف النقل بعين الألفاظ أمكن أن يقال: إنّ دليل حجّية الخبر أثبتت ورود هذه الألفاظ، ونضمّ ذلك إلى قطعنا الفقهي ببطلان المعنى الأوّل، فيثبت المعنى الثاني.

 


(1) ولا يخفى أنّنا قد أبطلنا هذه الشبهة من الأساس في بحث الأصول. إذاً فمقتضى الفنّ هو أن يعترف بتمامية دلالة رواية فضيل بن غزوان على جواز التملّك عند عدم قبول اللقطة للتعريف وحمل روايات التصدّق على الاستحباب.

اللهم إلا أن يقال _ بناءً على ما سيأتي إن شاء الله من أنّ المال المجهول المالك راجع إلى الإمام _ إنّ ما في رواية فضيل بن غزوان إذن شخص من قبل الإمام له بالتملّك خاص بمورده.

288

٥_ ما ورد من جواز تملّك مال من مات أو فقد ولا يعرف له وارث، من قبيل ما ورد عن هشام بن سالم بسند تام قال: «سأل حفص الأعور أبا عبدالله(علیه السلام)وأنا عنده جالس قال: إنّه كان لأبي أجير كان يقوم في رحاه وله عندنا دراهم وليس له وارث، فقال أبو عبدالله(علیه السلام): تدفع إلى المساكين ثم قال: رأيك فيها، ثم أعاد عليه المسألة فقال له مثل ذلك، فأعاد عليه المسألة ثالثة، فقال أبو عبدالله(علیه السلام): تطلب له وارثاً، فإن وجدت له وارثاً وإلا فهو كسبيل مالك، ثم قال: ما عسى أن تصنع بها، ثم قال: توصي بها، فإن جاء لها طالب وإلا فهي كسبيل مالك»(1).

وعنه بسند تام قال: «سأل حفص الأعور أبا عبدالله(علیه السلام)وأنا حاضر، فقال: كان لأبي أجير وكان له عنده شيء فهلك الأجير فلم يدع وارثاً ولا قرابة، وقد ضقت بذلك، كيف أصنع؟ قال: رأيك المساكين رأيك المساكين، فقلت: إنّي ضقت بذلك ذرعاً قال: هو كسبيل مالك، فإن جاء طالب أعطيته»(2). ولعلّهما رواية واحدة.

وعنه بسند تام قال: «سأل خطّاب الأعور أبا إبراهيم(علیه السلام)وأنا جالس فقال: إنّه كان عند أبي أجير يعمل عنده بالأُجرة ففقدناه وبقي من أجره شيء ولا يعرف له وارث، قال: فاطلبوه قال: قد طلبناه فلم نجده قال: فقال: مساكين _ وحرّك يده _ قال فأعاد عليه قال: اطلب واجهد، فإن قدرت عليه وإلا فهو كسبيل مالك حتّى يجيء له طالب، فإن حدث بك حدث فأوص به إن جاء لها طالب أن يدفع إليه»(3).

إلا أنّ هذه الروايات لو فرضت دلالتها على جواز تملّك مجهول المالك فلا تدل على جواز تملّك اللقطة؛ فإنّها غير واردة في اللقطة، واحتمال الخصوصية موجود، فلعلّ

 


(1) وسائل الشيعة، ج26، ص254، الباب4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، ح۷.

(2) المصدر السابق، ص301، الباب6 من أبواب ميراث الخنثى وما أشبه، ح۱٠.

(3) المصدر السابق، ص296، ح۱.

289

نفس الالتقاط يثقّل التكليف على الملتقط.

على أنّها لا تدل على جواز تملّك مجهول المالك أيضاً على الإطلاق؛ فإنّها واردة في من لا وارث له أو لا يعرف له وارث، واحتمال الفرق طبعاً موجود.

هذا. ومن لا وارث له فماله للإمام أو لبيت مال المسلمين كما في روايات أُخرى، فلعلّ الإمام(علیه السلام)في مورد هذه الروايات تبرّع بحقّه الجزمي لو كان لا وارث له، أو الاحتمالي لو كان لا يعرف له وارث.

٦_ ما جاء في رواية علي بن مهزيار في شرح الفوائد التي يجب فيها الخمس في كلّ عام «... ومثل مال يؤخذ ولا يعرف له صاحب ...»(1). وسند الحديث تام.

فهذا يدل على تملّك المال الذي لا يعرف له صاحب.

إلا أنّه لا يبعد أن يكون المقصود ممّا لا يعرف له صاحب ما لا يعلم أن يكون له مالك أصلاً، بأن كان ممّا باد أهله مثلاً، لا ما كان مالكه مجهولاً أو كان لقطة.

على أنّه لا يمكن إدراج مجهول المالك أو اللقطة في هذا الحديث بالإطلاق ومقدّمات الحكمة؛ لأنّ النصّ ليس بصدد بيان حكم هذا المال كي يتمّ الإطلاق بلحاظه، وإنّما هو بصدد بيان الفوائد التي فيها الخمس، فذكر أنّ إحدى تلك الفوائد ما أُخذ ممّا لم يعرف له صاحب، أمّا إنّ هذه الفائدة والملكية متى تتحقق فليس بصدد بيان ذلك كي يتمّ الإطلاق.

الحكم الثالث: التملّك أو التصدّق أو الاحتفاظ بها أو تسليمها إلى وليّ الأمر

أ _ تملك اللقطة:

أمّا التملّك فقد يستفاد من عدّة أنماط من الروايات:

۱_ ما جاء فيه الأمر بجعل اللقطة بعد التعريف في عرض ماله، من قبيل ما مضى

 


(1) المصدر السابق، ج9، ص501، الباب8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، ح٥.

290

من رواية محمد بن مسلم عن أحدهما(علیه السلام): «... فإن جاء طالبها وإلا فاجعلها في عرض ملك يجري عليها ما يجري على مالك إلى أن يجيء لها طالب»(1).

ورواية علي بن جعفر الماضية: «... يعرّفها سنة، فإن لم يعرف صاحبها حفظها في عرض ماله حتّى يجيء طالبها ...»(2).

ورواية محمد بن مسلم الماضية: «... فإن جاء طالبها وإلا فاجعلها في عرض مالك يجري عليها ما يجري على مالك حتّى يجيء لها طالب، فإن لم يجئ لها طالب فأوصِ بها في وصيّتك»(3).

وهذا النمط من الروايات يحتمل أن يكون المأذون فيها هو التصّرف في المال بشكل التصرّف في العارية، فمثلاً ليس هذا إذناً في أكل المال أو بيعه، ويؤكّد ذلك قوله: «حتّى يجيء طالبها» أو «إلى أن يجيء طالبها»، وقوله في بعض نسخ الرواية الثانية: «حفظها في عرض ماله»، وقوله في الرواية الثالثة: «أوصِ بها في وصيّتك».

۲_ ما جاء فيه التعبير بأنّها كسبيل ماله أو نحو ذلك، من قبيل ما مضى من رواية الحلبي: «فإن جاء لها طالب وإلا فهي كسبيل ماله»(4)، وما مضى من رواية علي ابن جعفر: «يعرّفها سنة، ثم هي كسائر ماله»(5)، ورواية داود بن سرحان _ غير التامّة سنداً _ عن أبي عبدالله(علیه السلام)أنّه قال في اللقطة: «يعرّفها سنة ثم هي كسائر ماله»(6)، ورواية إبراهيم بن عمر الماضية: «... وإلا فهي كسبيل مالك»(7)، ورواية يعقوب بن

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص442، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۳.

(2) المصدر السابق، ص445، ح13.

(3) المصدر السابق، ص444، ح10.

(4) تهذيب الأحكام، ج٦، ص389، باب اللقطة والضالة، ح۱۱٦۳.

(5) وسائل الشيعة، ج25، ص444، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۱۲.

(6) المصدر السابق، ص444، ح۱۱.

(7) المصدر السابق، ج13، ص260، الباب۲۸ من أبواب مقدمات الطواف، ح٤.

291

شعيب الماضية: «... ثم هي كسبيل ماله»(1).

وهذا النمط من الروايات أوسع دلالةً من النمط الأوّل؛ إذ لو كانت اللقطة سبيلها سبيلی مالي أو هي كسائر مالي إذاً يجوز أكلها وبيعها، إلا أنّه ليس أيضاً واضحاً في الملكية، فيمكن أن يكون من قبيل الإباحة في التصرّف، والأثر العملي يظهر في إرجاع النماء إلى المالك لو ظهر بعد ذلك، فعلى الإباحة ترجع النماء إليه كما ترجع العين، وعلى الملكية لا دليل على رجوع النماء.

۳_ ما ظاهره الملكية ولكن لم يعلم أنّها ملكية قهرية أو تتبع نيّة الملتقط، أي: يجوز له أن يتملّك كما مضى من رواية حنان: «... فإن وجدت صاحبها وإلا فأنت أحقّ بها وقال: هي كسبيل مالك وقال: خيّره إذا جاءك بعد سنة بين أجرها وبين أن تغرمها له إذا كنت أكلتها»(2).

ورواه الصدوق _ بسنده التام _ عن حنان بن سدير «إلى قوله: فأنت أحقّ بها وزاد: يعني: لقطة غير الحرم»(3) (4)، ورواه الحميري أيضاً بسند تام، «إلا أنّه قال: فأنت أملك بها»(5).

٤_ ما جاء فيه الحكم بدخول المال في الإرث للورثة وأنّه لهم، وهو ما مضى عن أبي خديجة عن أبي عبدالله(علیه السلام): «... فإنّه ينبغي أن يعرّفها سنة في مجمع، فإن جاء طالبها دفعها إليه، وإلا كانت في ماله، فإن مات كانت ميراثاً لولده ولمن ورثه، فإن لم يجئ لها طالب كانت في أموالهم هي لهم، فإن جاء طالبها بعدُ دفعوها إليه»(6). وهذا ظاهر في الملكية القهرية.

 


(1) وسائل الشيعة، ج13، ص259، الباب۲۸ من أبواب مقدمات الطواف، ح1.

(2) المصدر السابق، ج25، ص442، الباب2 من كتاب اللقطة، ح٥.

(3) الظاهر أنّ هذا التفسير إمّا من نفس الصدوق أو من حنان بن سدير.

(4) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص295، باب اللقطة والضالة من كتاب المعيشة، ح4058.

(5) المصدر السابق.

(6) وسائل الشيعة، ج25، ص465، الباب۲٠ من كتاب اللقطة، ح۱.

292

وقد يقال: إنّ مجموع ما دل على الملكية القهرية كالرواية الأخيرة، وما دل على الضمان بعد الملك _ على تقدير ما لو جاء المالك وكنت قد أكلتها ولم يختر المالك أجرها كما قبل الأخيرة _ يقع طرفاً للمعارضة مع رواية صفوان الجمّال التامّة ببعض أسانيدها: أنّه سمع أبا عبدالله(علیه السلام)يقول: «من وجد ضالّة فلم يعرّفها ثم وجدت عنده، فإنّها لربّها أو مثلها عن مال الذي كتمها»(1). فقد دل هذا الحديث _ بما له من مفهوم على نحو القضية الجزئية _ على أنّه لو عرّفها فقد لا يكون ضامناً لها لربّها، بينما لو قلنا بالملكية القهرية وأنّه يترتّب على ملكها ضمانها إذاً لا موضع لهذا المفهوم ولو بنحو القضية الجزئية. وهذا إذا حملنا الضالّة في هذا الحديث على مطلق اللقطة واضح.

وأمّا إذا حملناها على خصوص الحيوان فقد يقال: إنّ من المحتمل أن يختلف حكم الحيوان عن غيره، ففي غير الحيوان يحصل الملك القهري وبالتالي الضمان، وأمّا في الحيوان فلا يحصل الملك قهراً، وإذا لم يحصل الملك كان بإمكان الملتقط أن يحفظه أمانةً من دون أن يستملكه ولا أن يتصرّف فيه كعارية، وحينئذٍ لا يضمن إلا إذا ترك التعريف.

ولكنّه لا يبعد أن يقال: إنّ التفكيك بين الحيوان وغيره في هذا الحكم ليس عرفيّاً.

وتوضيح ذلك: أنّ الحيوان إن كان من القسم الذي لا يجوز التقاطه إذاً يكون الملتقط ضامناً على كلّ حال، سواء عرّف أو لم يعرّف. وإن كان من القسم الجائز التقاطه فالتفكيك بينه وبين غيره في حصول الملك قهراً في غير الحيوان وعدمه في الحيوان غير عرفي، خصوصاً مع فرض جواز التصرّف فيه، كما يفهم من قوله: «هي لك أو لأخيك أو للذئب» وقوله: «فكلها وأنت ضامن».

إذاً فترجع المعارضة بالتباين على حالها بين دليل الملكية منضمّاً إلى دليل

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص460، الباب14 من كتاب اللقطة، ح۱.

293

الضمان على تقدير الملك وبين هذا الحديث الدالّ بمفهومه الجزئي على عدم الضمان عند التعريف؛ إذ لا يبقى حينئذٍ موضع لهذا المفهوم.

هذا. وعلاج التعارض يكون بحمل النمط الرابع على الملكية الاختيارية أو حلّية التصرّف، وحمل الإرث فيه على الإرث على تقدير التملّك أو على انتقال المال إلى الوارث بالنحو الذي كان للموروث من حلّية التصرّف له أو جواز تملّكه.

هذا. ولكن التحقيق عدم المعارضة في المقام رأساً؛ وذلك لإمكان افتراض أنّ موضع هذا المفهوم هو ما لو تلفت الضالّة في أثناء السنة، فلو لم يعرّفها كان ضامناً، ولو عرّفها لم يضمن؛ لأنّه أمين والمال بعدُ لم يدخل في ملكه؛ لأنّ الملكية إنّما تكون بعد تمام التعريف سنة كاملة، فلا موجب للضمان. فتصبح هذه الرواية من قبيل رواية مضت عن الحسين بن زيد عن جعفر عن أبيه(علیه السلام)قال: كان أمير المؤمنين(علیه السلام)يقول «في الضالّة يجدها الرجل فينوي أن يأخذ لها جعلاً فتنفق، قال: هو ضامن، فإن لم ينوِ أن يأخذ لها جعلاً ونفقت فلا ضمان عليه»(1)، فهذا الحديث _ غير التام سنداً _ لا يعارض النمط الرابع بناءً على أنّ ظاهره النظر إلى زمان التعريف الذي يأخذ عليه جعلاً أو لا يأخذ.

وهناك رواية أُخرى قد تجعل معارضة لما دل على الملك سواء الملك القهري أو الاختياري، وهي ما عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(علیه السلام)، قال: «سألته عن اللقطة إذا كانت جارية هل يحلّ فرجها لمن التقطها؟ قال: لا، إنّما يحلّ له بيعها بما أنفق عليها»(2). والسند تام.

فقد يقال: إنّ عدم حلّ الفرج لا ينسجم عرفاً مع الملك، فيدلّ هذا الحديث دلالة عرفية على عدم الملك، فاستثناء التصرّف في الفرج من حلّية التصرّف معقول عرفاً، ولكنّ استثناءه من الملك غير عرفي، وإذا ضممنا ذلك إلى دعوى عدم الفرق عرفاً

 


(1) المصدر السابق، ص464، الباب۱۹ من كتاب اللقطة، ح۱.

(2) المصدر السابق، ص443، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۸.

294

بين الحيوان وغيره في حصول الملك وعدمه كانت الرواية دالّة على عدم ملكية اللقطة، إذاً لابدّ من حمل النمط الثالث والرابع على حلّية التصرّف المطلق بناءً على إمكان انفكاكه عرفاً عن الملكية.

ولعلّه يمكن الجواب على هذه الرواية بأنّ الجارية من ذلك القسم من الحيوان الذي يمكنه أن يحفظ نفسه، فلا يجوز التقاطها، وبالتالي نحتمل الفرق بينها وبين غيرها في أنّها لا تُملك بالالتقاط؛ ولهذا لم يحلّ فرجها، بل لعلّه لا يجوز أيّ تصرّف آخر فيها كعارية ما دام أصل التقاطها لم يكن شرعيّاً.

وقد يردّ هذا الجواب: بأنّ النكتة العرفيّة للفرق بين الحيوان وغيره في عدم جواز التقاط الحيوان عندما يمكنه حفظ نفسه وجواز التقاط غير الحيوان هي أنّ الحيوان له حظّ من قوّة الإرادة، والشارع لم يجوّز قهر إرادة الحيوان إلا لمالكه أو لمن هو مأذون من قبل مالكه دون الملتقط، كما جاءت الإشارة إلى ذلك في قوله في حديث هشام ابن سالم الماضي: «لا تهجه»(1)، أمّا الجارية فباعتبارها عاقلة بالإمكان التقاطها برضاها بل برغبتها بلا أيّ تهييج، وعندئذٍ لا تدخل في القسم المحرّم التقاطه، ونفس سكوت هذه الرواية عن المنع عن التقاطها ثم السماح ببيعها في مقابل مصاريفها شاهد على جواز الالتقاط.

نعم، يمكن الجواب على هذه الرواية: بأنّ احتمال الخصوصية في الجارية بعدم حصول الملكية فيها موجود، فلعلّ هذا يكون من باب سدّ أحد أبواب تملّك الإنسان للإنسان، ومع عدم الملكية لم يحلّ فرجها، ولولا ما صرفه عليها من مال لم يجز أيضاً بيعها كي يكون سدّاً آخر لباب تملّك الإنسان، وإنّما حلّ له بيعها بما أنفق عليها.

 


(1) المصدر السابق، ج25، ص457، الباب13 من كتاب اللقطة، ح1.