260

أحکام اللقطة

أمّا ما نذكره من أحكام اللقطة:

الحکم الأول: حکم الالتقاط تکليفاً

فأوّلاً _ هل يجوز الالتقاط أو لا؟

قد ورد في الروايات النهي عن الالتقاط، من قبيل ما عن مسعدة بن زياد عن الصادق عن أبيه(علیهما السلام) أنّ عليّاً(علیه السلام)قال: «إيّاكم واللقطة؛ فإنّها ضالّة المؤمن، وهي حريق من حريق جهنّم»(1). وسند الحديث تام.

وما عن محمد بن مسلم عن أحدهما(علیهما السلام)، قال: «سألته عن اللقطة، قال: لا ترفعوها، فإن ابتليت فعرّفها سنة، فإن جاء طالبها وإلا فاجعلها في عرض مالك يجري عليها ما يجري على مالك إلى أن يجيء لها طالب»(2). وسند الحديث تام.

وما عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام)قال: «سألته عن اللقطة؟ قال: لا ترفعها، فإن ابتليت بها فعرّفها سنة، فإن جاء طالبها وإلا فاجعلها في عرض مالك يجري عليها ما يجري على مالك حتّى يجيء لها طالب، فإن لم يجئ لها طالب فأوصِ بها في وصيّتك»(3). وسند الحديث تام.

وما عن الحسين بن أبي العلا قال: «ذكرنا لأبي عبدالله(علیه السلام)اللقطة، فقال لا تعرّض لها؛ فإنّ الناس لو تركوها لجاء صاحبها حتّى يأخذها»(4). وسند الحديث تام.

وقد يقال: إنّ النواهي الواردة عن التقاط اللقطة تحمل على الكراهة؛ وذلك للأخبار التي بيّنت أحكام اللقطة من مثل التعريف مع سكوتها عن النهي عن الالتقاط، بينما

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص440، الباب الأول من كتاب اللقطة، ح8.

(2) المصدر السابق، ص442، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۳.

(3) المصدر السابق، ص444، ح10.

(4) المصدر السابق، ص439، الباب الأول من كتاب اللقطة، ح2.

261

لو كان حراماً كان ينبغي النهي، من قبيل رواية علي بن جعفر(علیه السلام)قال: «...وسألته عن الرجل يصيب درهماً أو ثوباً أو دابّة كيف يصنع؟ قال: يعرّفها سنة، فإن لم يعرف حفظها في عرض ماله حتّى يجيء طالبها فيعطيها إيّاه، وإن مات أوصى بها، وهو لها ضامن»(1). وسند الحديث تام.

وقد يُستشکل في ذلك بأنّ هذا السكوت قد لا يقاوم النهي الوارد، ولكن هناك ما تكون دلالته على جواز الالتقاط أقوى من هذا السكوت:

فأوّلاً: الروايات التي اقترن السكوت فيها بما هو ظاهر في التملّك أو شبه التملّك بعد التعريف، من قبيل رواية حنان قال: «سأل رجل أبا عبدالله(علیه السلام)_ وأنا أسمع _ عن اللقطة، فقال: تعرّفها سنة، فإن وجدت صاحبها وإلا فأنت أحقّ بها وقال: هي كسبيل مالك. وقال: خيّره إذا جاءك بعد سنة بين أجرها وبين أن تغرمها له إذا كنت أكلتها»(2). فإذا ضممنا السكوت وما ظاهره التملّك أو شبه التملّك إلى استغراب التجويز في التملّك عرفاً مع فرض ارتكابه الحرام في أصل الالتقاط تقوى الدلالة العرفيّة على جواز الالتقاط.

ورواية الحلبي التامّة سنداً عن أبي عبدالله(علیه السلام)«في اللقطة يجدها الرجل الفقير، أهو فيها بمنزلة الغنيّ؟ قال: نعم. واللقطة يجدها الرجل ويأخذها؟ قال: يعرّفها سنة، فإن جاء لها طالب وإلا فهي كسبيل ماله. وكان علي بن الحسين(علیه السلام)يقول لأهله: لا تمسّوها»(3).

 


(1) من لا يحضره الفقيه، ج۳، ص292، باب اللقطة والضالة من کتاب المعيشة، ح4049؛ تهذيب الأحكام، ج ٦، ص397، باب اللقطة والضالة، ح38؛ وسائل الشيعة، ج25، ص444، الباب2 من كتاب اللقطة، ح13، مع بعض الفوارق اللفظية.

(2) وسائل الشيعة، ج25، ص442، الباب2 من كتاب اللقطة، ح5.

(3) تهذيب الأحكام، ج٦، ص389، باب اللقطة والضالة، ح3، وقد قطّعه صاحب الوسائل على الأبواب، وسائل الشيعة، ج25، ص441، الباب الأول من كتاب اللقطة، ح1، الباب2، ح1، وص461، الباب16، ح1، وفي الأخير لم يذكر المتن وإنّما ذكر رواية علي بن جعفر، وقال: إنّ رواية الحلبي نحوه.

262

فترى هنا يسكت عن النهي، ويحكم(علیه السلام)بأنّه كسبيل ماله بعد التعريف، ثم يذكر النهي بلسان لا يستفاد منه أكثر من الكراهة، حيث ينسب النهي إلى علي بن الحسين(علیه السلام)في مقام نصحه لأهله.

وتشبه هذه الرواية رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(علیهما السلام) قال: «سألته عن اللقطة يصيبها الرجل؟ قال: يعرّفها سنة، ثم هي كسائر ماله...»(1). وسند الحديث تام.

وثانياً: قد ورد نهي المملوك عن الالتقاط معلّلاً بأنّه لا يملك من نفسه شيء، وأنّه لابدّ من التعريف سنة، فالمملوك الذي لا يستطيع القيام بهذه الوظيفة لا ينبغي له أن يلتقط، وهذا كما ترى يدل على جواز الالتقاط لمن يستطيع التعريف، والحديث الوارد بهذا الصدد هو ما رواه أبو خديجة(2)عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: «سأله ذريح عن المملوك يأخذ اللقطة؟ فقال: وما للمملوك واللقطة؟! والمملوك لا يملك من نفسه شيئاً، فلا يعرض لها المملوك فإنّه ينبغي ينبغي أن يعرّفها سنة في مجمع، فإن جاء طالبها دفعها إليه، وإلا كانت في ماله، فإن مات كانت ميراثاً لولده ولمن ورثه، فإن

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص444، الباب2 من كتاب اللقطة، ح12.

(2) المقصود منه هنا سالم بن مكرم لا سالم بن سلمة؛ بقرينة رواية الوشاء عن أحمد بن عائذ عنه، وسالم ابن مكرم قد ذكر بحقّه النجاشي أنّه «ثقة ثقة»(رجال النجاشي، ص188)، ولكن قال الشيخ: «سالم بن مكرم يكنى أبا خديجة، ومكرم يكنى أبا سلمة، ضعيف...»(فهرست الطوسي، ص226)، إلا أنّ هذا التضعيف ليس بحجّة؛ لأنّ الشيخ تخيّل أنّ أباه يكنى أبا سلمة، فلعلّه اشتبهه بسالم بن أبي سلمة الذي قال عنه النجاشي: «حديثه ليس بالنقي، وإن كنّا لا نعرف منه إلا خيراً». (رجال النجاشي، ص190).

وأمّا سالم بن مكرم فهو المكنّى بأبي سلمة لا أبوه، كما جاء في سند بعض الروايات تكنيته بذلك، وكنّاه النجاشي(رجال النجاشي، ص189) والبرقي(رجال البرقي، ص32) بذلك، ونقل النجاشي(رجال النجاشي، ص188)، والكشّي(رجال الكشي، ص352) أنّ أبا عبدالله(علیه السلام)كنّاه بأبي سلمة بعد أن كان مكنّى بأبي خديجة.

263

لم يجئ لها طالب كانت في أموالهم هي لهم، فإن جاء طالبها بعدُ دفعوها إليه»(1). وسند الحديث تام إن لم نناقش في أبي خديجة.

وثالثاً: قد ورد في لقطة الحرم التي تمتاز بنهي خاص عن الالتقاط _ أي: إنّ الأمر فيها أشدّ _ الترخيص بالالتقاط لمن يعرّف، فقد ورد عن فضيل بن يسار قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام)عن الرجل يجد اللقطة في الحرم، قال: لا يمسّها، وأمّا أنت فلا بأس لأنّك تعرّفها»(2).وسند الحديث ضعيف.

وأيضاً ورد عن الفضيل بن يسار قال: «سألت أبا جعفر(علیه السلام)عن لقطة الحرم، فقال: لا تمسّ أبداً حتّى يجيء صاحبها فيأخذها. قلت: فإن كان مالاً كثيراً، قال: فإن لم يأخذها إلا مثلك فليعرّفها»(3). وسند الحديث تام.

وقد ورد عن حريز بسند تام عن أبي عبدالله(علیه السلام)_ في حديث _ قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه و آله): ألا إنّ الله قد حرّم مكّة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة؛ لا ينفّر صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا تحلّ لقطتها إلا لمنشد، فقال العبّاس: يا رسول الله، إلا الإذخر فإنّه للقبر والبيوت، فقال رسول الله(صلى الله عليه و آله): إلا الإذخر»(4).

فقوله: «لا تحلّ لقطتها» يدل على اشتداد النهي عن التقاط اللقطة في الحرم لغير المنشد؛ أي لغير المعرّف. وموضوع الكلام وإن كان هو مكّة ولكن المقصود منه كلّ الحرم؛ بقرينة كلامه عن تحريم الله مكّة، ونحن نعلم أنّ التحريم لكلّ الحرم، وتخصيص الحرم بالنهي عن الالتقاط إمّا يعني أنّ الالتقاط في غير الحرم لغير المنشد

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص465، الباب20 من كتاب اللقطة، ح1.

(2) المصدر السابق، ج13، ص261، الباب۲۸ من أبواب مقدمات الطواف، ح٥.

(3) المصدر السابق، ص260، ح۲.

(4) المصدر السابق، ج 12، ص557، الباب۸۸ من أبواب تروك الإحرام، ح۱.

264

ليس حراماً وإن حرم عدم الإنشاد، أو يعني اشتداد الحرمة في الحرم، أو يعني ثبوت الحرمة حتّى على اللقطة التي يجوز التقاطها لغير المنشد في غير الحرم، وهي المحقّرات.

وعلى أيّ حال فقوله: «إلا لمنشد» يدل على جواز الالتقاط في الحرم لمن يعرّف، فكيف بغير الحرم؟! هذا.

بل بالإمكان القول بأنّ التقاط اللقطة ليس فقط غير مشتمل على الحرمة لمن يعرّف، بل غير مشتمل على الكراهة أيضاً بالمعنى المصطلح، وإنّما النهي الوارد عن التقاطها إرشاد إلى صعوبة التكليف المترتّب عليها أو إلى التخوّف عن الوقوع في الحرام من قبلها، كما يشهد لذلك تعليل النهي عن الالتقاط في ما مضى من رواية مسعدة بن زياد بأنّها حريق من حريق جهنّم، ويشهد لذلك أيضاً ما عرفته من روايات لقطة الحرم المخصّصة للنهي بغير من هو مثل فضيل بن يسار الذي يكون من المضمون قيامه بالتعريف.

يبقى أنّ هذا الشاهد الثاني ينافي التفصيل _ الوارد في حديث يعقوب بن شعيب _ بين لقطة الحرم ولقطة غير الحرم، فإذا كان النهي _ حتّى في لقطة الحرم بالنسبة لمن يعرّف _ إرشاداً إلى صعوبة العمل بالتكليف أو التخوّف من الوقوع في الحرام فما معنى التفصيل الوارد في حديث يعقوب بن شعيب بين لقطة الحرم أو عنوان آخر يشبه عنوان الحرم، وغيرها؟ فقد روى يعقوب بن شعيب قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام)عن اللقطة ونحن يومئذٍ بمنى، فقال: أمّا بأرضنا هذه فلا يصلح، وأمّا عندكم فإنّ صاحبها الذي يجدها يعرّفها سنة في كلّ مجمع، ثم هي كسبيل ماله»(1). فهذه الرواية التامّة السند دلّت على جواز الالتقاط في غير الحرم مثلاً ونهت عن الالتقاط في الحرم مثلاً، فلو كان النهي إرشاديّاً من هذا القبيل فما معنى هذا التفصيل؟!

 


(1) وسائل الشيعة، ج13، ص260، الباب2۸ من أبواب مقدمات الطواف، ح۱.

265

وقد يقال: يكفي في التفصيل اشتداد النهي في لقطة الحرم سواء أكان نهياً كراهتيّاً أو إرشاداً إلى عدم الابتلاء بالحرام أو مشقّة التكليف المترتّب على الالتقاط، فقد تكون حرمة الأكل مثلاً في لقطة الحرم أشدّ، أو يكون التكليف المترتّب على التقاط لقطة الحرم أشقّ، حيث يجوز الأكل بعد التعريف في لقطة غير الحرم ولا يجوز ذلك في لقطة الحرم، فلابدّ من التصدّق مثلاً كما يشهد لذلك ما عن إبراهيم بن عمر بسند تام عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «اللقطة لقطتان: لقطة الحرم وتعرّف سنة؛ فإن وجدت صاحبها وإلا تصدّقت بها، ولقطة غيرها تعرّف سنة؛ فإن جاء صاحبها وإلا فهي كسبيل مالك»(1).

بقي أنّ وجود القرينة في بعض روايات النهي على عدم كونه نهياً كراهتيّاً بالمعنى المصطلح للكراهة وكونه إرشاداً إلى صعوبة التكليف أو خوف الوقوع في الحرام، لا يوجب حمل النهي الوارد في رواية أُخرى أيضاً على ذلك، من قبيل ما مضى من رواية الحسين بن أبي العلا قال: «ذكرنا لأبي عبدالله(علیه السلام)اللقطة، فقال: لا تعرّض لها؛ فإنّ الناس لو تركوها لجاء صاحبها حتّى يأخذها»(2). بل التعليل في هذه الرواية يشهد لثبوت الكراهة بنكتة أنّ الناس لو تركوها لجاء صاحبها حتّى يأخذها، وهذا غير مسألة صعوبة التكليف أو التخوّف من الوقوع في الحرام، فالظاهر كراهة التقاط اللقطة وخاصّة في الحرم، أو عنوان آخر يقرب من عنوان الحرم.

وقد ظهر إلى الآن: جواز التقاط اللقطة حتّى في الحرم رغم بعض النواهي عن الالتقاط مطلقاً، أو في الحرم، أو عنوان يقرب من عنوان الحرم، كقوله: «أمّا بأرضنا هذه فلا يصلح».

يبقى الكلام في أنّ جواز الالتقاط هل يختصّ بغير الحيوان أو يشمل الحيوان؟

 


(1) الكافي، ج8، ص144، باب لقطة الحرم من كتاب الحج، ح1.

(2) وسائل الشيعة، ج25، ص439، الباب الأول من كتاب اللقطة، ح۲.

266

يبدو من بعض الروايات التفصيل في الحيوان بين ما يخاف عليه التلف، وما يحمي نفسه ولا يخاف عليه التلف، ففي الأوّل يجوز الالتقاط على كراهية، وفي الثاني لا يجوز.

فعن هشام بن سالم عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «جاء رجل إلى النبيّ(صلى الله عليه و آله) فقال: يا رسول الله(صلى الله عليه و آله) إنّي وجدت شاة، فقال رسول الله(صلى الله عليه و آله): هي لك أو لأخيك أو للذئب، فقال: يا رسول الله(صلى الله عليه و آله): إنّي وجدت بعيراً، فقال: معه حذاؤه وسقاؤه؛ حذاؤه خفّه، وسقاؤه كرشه، فلا تهجه»(1). وسند الحديث تام.

وعن معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «سأل رجل رسول الله(صلى الله عليه و آله) عن الشاة الضالّة بالفلاة، فقال للسائل: هي لك أو لأخيك أو للذئب، قال: وما أُحبّ أن أمسّها. وسئل عن البعير الضالّ، فقال للسائل: ما لك وله؟! خفّه حذاؤه، وكرشه سقاؤه؛ خلِّ عنه»(2). وسند الحديث تام.

وعن علي بن جعفر _ بسند تام _ عن أخيه موسى بن جعفر(علیهما السلام)، قال: «سألته عن رجل أصاب شاة في الصحراء هل تحلّ له؟ قال: قال رسول الله(صلى الله عليه و آله): هي لك أو لأخيك أو للذئب؛ فخذها وعرّفها حيث أصبتها، فإن عرفت فردّها إلى صاحبها، وإن لم تعرف فكلها وأنت ضامن لها؛ إن جاء صاحبها يطلبها أن تردّ عليه ثمنها»(3).

والكراهية في ما لا يحمي نفسه استفدناها من الحديث الثاني من هذه الأحاديث الثلاثة.

هذا. واحتمال الفرق بين الحيوان وغيره _ بأن يجوز التقاط ما لا روح فيه ولا يجوز التقاط ذي النفس أو يكره _ موجود عرفاً؛ فإنّ ذا النفس يتميّز بنكتة عرفية قد توجب اختصاصها بحكم من هذا القبيل، وكأنّه أُشير إلى هذه النكتة في الحديث الأوّل من

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص457، الباب13 من كتاب اللقطة، ح1.

(2) المصدر السابق، ص459، ح٥.

(3) مسائل علي بن جعفر، ص104، ح5؛ وسائل الشيعة، ج25، ص459، الباب13 من كتاب اللقطة، ح۷، إلا أنّه جاء في الوسائل:«...إن جاء صاحبها يطلب ثمنها أن تردها علیه».

267

هذه الأحاديث الثلاثة بقوله: «لا تهجه».

يبقى الكلام في أنّ روايات لقطة الحيوان واردة في الحيوان الذي وجد في الصحراء إمّا صريحاً وإمّا بقرينة ذكر الذئب في قوله: «هي لك أو لأخيك أو للذئب»، فهل نتعدّى منها إلى ما إذا وجد في داخل البلد، أو لا؟

والجواب: إنّ المذكور في هذه الروايات حكمان:

أحدهما: عدم جواز الالتقاط في الحيوان الذي يحفظ نفسه، ولئن لم يجز الالتقاط فيه في الصحراء فالعرف لا يحتمل تخفيف الحكم في البلد بأن يجوز الالتقاط فيه.

والثاني: جواز الالتقاط ولو على كراهية في الحيوان الذي لا يحفظ نفسه، وهذا من المحتمل اختصاصه بمورد خوف الهلاك عليه من مثل الذئب كما هو الحال في الصحراء. لكن يمكن استفادة جواز التقاطه في البلد من بعض إطلاقات روايات جواز التقاط اللقطة الماضية، فراجع.

هذا. ولا يبعد أن يقال: إنّ المستفاد من روايات الحيوان الواردة في لقطة الصحراء أنّ المقياس هو خوف التلف من مثل الذئب أو العطش، فلو وجدت الشاة في البلد وكان عليها خوف التلف من العطش في الأيّام القريبة لولا الالتقاط جاز الالتقاط، وإلا فلا.

الحكم الثاني: التعريف سنة إن كان ممّا يمكن تعريفه

وقد دلّ على ذلك بعض الروايات، من قبيل: رواية حنان الماضية(1)، ورواية الحلبي(2) ورواية محمد بن مسلم(3) ورواية إبراهيم بن عمر(4) ورواية أبي خديجة(5)

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص442، الباب2 من كتاب اللقطة، ح٥.

(2) تهذيب الأحكام، ج٦، ص389، باب اللقطة والضالة، ح3.

(3) وسائل الشيعة، ج25، ص442، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۳، وص44، ح10.

(4) المصدر السابق، ج13، ص260، الباب۲۸ من أبواب مقدّمات الطواف، ح٤.

(5) المصدر السابق، ج25، ص465، الباب۲٠ من كتاب اللقطة، ح۱.

268

ورواية علي بن جعفر(1)، ورواية علي بن جعفر _ التامّة ببعض أسانيدها _ عن أخيه موسى بن جعفر(علیه السلام): «وسألته عن الرجل يصيب اللقطة دراهم(2) أو ثوباً أو دابّة، كيف يصنع؟ قال: يعرّفها سنة، فإن لم يعرف صاحبها(3) حفظها في عرض ماله حتّى يجيء طالبها فيعطيها إيّاه، وإن مات أوصى بها، فإن أصابها شيء(4) فهو ضامن»(5).

والرواية الأخيرة صريحة في سريان حكم التعريف إلى لقطة الحيوان، وأمّا ما قبلها فبالإطلاق تشمل لقطة الحيوان، إلا إذا قلنا باختصاص ما فيها من امتلاك اللقطة بعد التعريف أو جعلها في عرض ماله بغير الحيوان، وقلنا إنّ ذلك يضرّ باستفادة الإطلاق ممّا فيها من الحكم بالتعريف، وحينئذٍ قد يتعدّى إلى الحيوان بعدم احتمال الفرق. إلا أن يقال: نحتمل كون وجوب التعريف جاء بنكتة جواز التملّك الخاص بغير الحيوان. وعلى أيّ حال فتكفينا الرواية الأخيرة في التعدّي إلى الحيوان.

وقد تعارض هذه الروايات الدالّة على وجوب التعريف سنة بعدّة روايات:

۱_ ما عن أبان بن تغلب قال: «أصبت يوماً ثلاثين ديناراً، فسألت أبا عبدالله(علیه السلام)عن ذلك، فقال: أين أصبته؟ قال: قلت له: كنت منصرفاً إلى منزلي فأصبتها، قال:

 


(1) وسائل الشيعة، ج26، ص444، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۱۲.

(2) في تهذيب الأحکام، ج6، ص397، باب اللقطة والضالة، ح38، ومن لا يحضره الفقيه، ج3، ص292، باب اللقطة والضالة من کتاب المعیشة: «درهماً».

(3) هكذا جاء في الوسائل: الباب2 من كتاب اللقطة نقلاً عن قرب الإسناد، ولكن كلمة «صاحبها» غير موجودة في الفقيه، ج ۳، ص291، ح ٤٠٤۹، ولا في التهذيب، ج٦، ص397، ح38. وفي الأوّل: «جعلها في عرض ماله».

(4) في التهذيب والفقيه لا توجد عبارة «فإن أصابها شيء»، وإنّما الموجود: «وهو لها ضامن». وصاحب الوسائل نقل الحديث في الباب ۲٠ من كتاب اللقطة وفقاً لما في التهذيب.

(5) وسائل الشيعة، ج25، ص445، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۱۳. وص466، الباب۲٠ من كتاب اللقطة، ح۲. وقد جاء في الموضع الثاني «درهماً» بدل «دراهم».

269

فقال: صر إلى المكان الذي أصبت فيه فعرّفه، فإن جاء طالبه بعد ثلاثة أيّام فأعطه إيّاه، وإلا تصدّق به»(1). ولكنّه ضعيف سنداً.

۲_ ما عن ابن أبي يعفور قال: قال أبو عبدالله(علیه السلام): «جاء رجل من المدينة فسألني عن رجل أصاب شاة، فأمرته أن يحبسها عنده ثلاثة أيّام ويسأل عن صاحبها، فإن جاء صاحبها وإلا باعها وتصدّق بثمنها»(2). وهذا أيضاً سنده ضعيف، وهو خاص بالحيوان، ولو تمّ في الحيوان فقد يأتي احتمال الخصوصية فيه؛ باعتبار أنّ إبقاءه سنة يستوجب الإنفاق عليه.

۳_ ما عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(علیهما السلام)، قال: «سألته عن رجل أصاب شاة في الصحراء، هل تحلّ له؟ قال: قال رسول الله(صلى الله عليه و آله): هي لك أو لأخيك أو للذئب، فخذها وعرّفها حيث أصبتها، فإن عرفت فردّها إلى صاحبها، وإن لم تعرف فكلها وأنت ضامن لها إن جاء صاحبها يطلبها أن تردّ عليه ثمنها»(3)، حيث لم يذكر وجوب كون مقدار التعريف سنة، وسند الحديث تام، وبالإمكان أن يقال إنّه مطلق يقيّد بما دلّ على وجوب التعريف سنة.

٤_ ما عن علي بن أبي حمزة عن العبد الصالح موسى بن جعفر(علیه السلام)، قال: «سألته عن رجل وجد ديناراً في الحرم فأخذه، قال: بئس ما صنع! ما كان ينبغي له أن يأخذه، قال: قلت: قد ابتلي بذلك؟ قال: يعرّفه. قلت: فإنّه قد عرّفه فلم يجد له باغياً؟ فقال: يرجع إلى بلده فيتصدّق به على أهل بيت من المسلمين، فإن جاء طالبه فهو له ضامن»(4). وسند الحديث تام.

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص443، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۷.

(2) المصدر السابق، ص459، الباب۱۳ من كتاب اللقطة، ح٦.

(3) مسائل علي بن جعفر ومستدركاتها، ص105؛ وسائل الشيعة، ج25، ص460، الباب۱۳ من كتاب اللقطة، ح7، مع اختلاف.

(4) وسائل الشيعة، ج25، ص463، الباب۱۷ من كتاب اللقطة، ح۲، وذكره بسند آخر تام أيضاً في ج13، ص260، الباب۲۸ من أبواب مقدمات الطواف، ح۳.

270

ومن الطبيعي أنّ الرجل المسافر إلى الحرم لا يبقى سنة في مكّة، فظاهر قوله: «يرجع إلى بلده فيتصدّق...» الاكتفاء بالتعريف أقلّ من سنة. وقد يقال: إنّ التعريف سنة إنّما هو لأجل التملّك أو ما يشبه التملّك، أمّا التصدّق فيكفي في جوازه أن يعرّف اللقطة ثم يتصدّق، فأكثر روايات التعريف تراها مذيّلة بالتملّك أو جعل اللقطة في عرض ماله.

ولكن قد مضت رواية إبراهيم بن عمر(1)، وهي تدل في لقطة الحرم على التعريف سنة ثم التصدّق.

ولا يبعد كون رواية علي بن أبي حمزة ناظرة إلى حالة الاضطرار؛ لأنّ هذا المسافر لا يتمكّن عادةً من البقاء سنة في الحرم. ومن المحتمل _ بقرينة قوله(علیه السلام): «يرجع إلى بلده» رغم أنّ السائل لم يكن قد فرض كون الملتقط مسافراً _ أنّ الرواية صدرت في زمن زيارة بيت الله، وكانت ناظرة إلى ظرف من هذا القبيل، وفي هذا الظرف حينما يرجع الملتقط إلى بلاده يكون أكثر الزوّار الآخرين أيضاً راجعين إلى بلادهم، وحينئذٍ يتعذّر التعريف ويحصل اليأس عن حصول المالك الذي هو في أغلب الظنّ أيضاً من الزوّار.

٥_ ما عن محمد بن قيس عن أبي جعفر(علیه السلام)قال: «قضى علي(علیه السلام)في رجل وجد ورقاً في خربة: أن يعرّفها، فإن وجد من يعرفها وإلا تمتّع بها»(2). وسند الحديث تام.

وقد يقال: إنّه وإن لم يقيّد التعريف هنا بسنة، لكنّه مطلق فنقيّده بالمقيّدات.

ولكن الظاهر أنّ أصل التعريف هنا يمكن حمله على الاستحباب؛ وذلك لعدم وجوب التعريف رأساً في ما يوجد في خربة باد أهلها، كما ورد بسند تام عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام)، قال: «سألته عن الدار يوجد فيها الورق، فقال: إن كانت معمورة فيها أهلها فهي لهم، وإن كانت خربة قد جلا عنها أهلها فالذي وجد المال أحقّ به»(3).

 


(1) وسائل الشيعة، ج13، ص260، الباب۲۸ من أبواب مقدّمات الطواف، ح٤.

(2) المصدر السابق، ج25، ص448، الباب5 من كتاب اللقطة، ح٥.

(3) المصدر السابق، ص447، ح۱.

271

وورد أيضاً بسند تام عن محمد بن مسلم عن أحدهما(علیه السلام)، قال: «سألته عن اللقطة، قال: لا ترفعوها، فإن ابتليت فعرّفها سنة، فإن جاء طالبها وإلا فاجعلها في عرض مالك؛ يجري عليها ما يجري على مالك إلى أن يجيء لها طالب. قال: وسألته عن الورق يوجد في دار، فقال: إن كانت الدار معمورة فهي لأهلها، فإن كانت خربة فأنت أحقّ بما وجدت»(1).

فكأنّ كون المال في مكان خراب جلا أهله أمارة على جلاء ملّاكه، ويجوز في هذه الحالة تملّكه؛ إمّا لأجل احتمال هلاك ملّاكه، أو لأجل عدم إمكانية التعريف على أساس سعة دائرة الجهالة، وسنعود إن شاء الله إلى البحث عن ذلك.

٦_ ما عن داود بن أبي يزيد _ بسند تام _ عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: «قال رجل: إنّي قد أصبت مالاً وإنّي قد خفت فيه على نفسي، ولو أصبت صاحبه دفعته إليه وتخلّصت منه، قال: فقال أبو عبدالله(علیه السلام): والله أن لو أصبته كنت تدفعه إليه قال: أي والله، قال: فأنا، والله ما له صاحب غيري. قال: فاستحلفه أن يدفعه إلى من يأمره، قال: فحلف، فقال: فاذهب فاقسمه في إخوانك ولك الأمن ممّا خفت منه، قال: فقسمته بين إخواني»(2). فقد يقال: إنّ ترك استفصاله(علیه السلام)عن كون ما أصابه لقطة أم لا وأنّه يمكن تعريفه أم لا وأنّه عرّفه سنة أم لا، دليلٌ على عدم وجوب التعريف في اللقطة.

ولكن قد يقال: إنّ هذا لا يتجاوز أن يكون إطلاقاً _ بملاك ترك الاستفصال _ لا يقاوم أدلّة وجوب التعريف سنة. بل قد يقال: إنّه(علیه السلام)أعمل هنا ولايته التي هو بها أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ بقرينة قوله: «والله ما له صاحب غيري»، فالرواية أجنبية عن المقام.

وقد يقال في مقابل ذلك: لعلّ الرواية تدل على أنّ اللقطة أو مجهول المالك يرجع

 


(1) تهذيب الأحكام، ج6، ص390، باب اللقطة والضالة، ح5.

(2) وسائل الشيعة، ج25، ص450، الباب7 من كتاب اللقطة، ح۱.

272

إلى الإمام، فما في باقي الروايات من الأمر بالتصدّق أو التملّك يحمل على أنّ الإمام الذي هو صاحب اللقطة أو مجهول المالك سمح بالتصدّق أو التملّك.

۷_ روايات تملّك ما في بطن الدابّة إن لم يعرفها البائع، وقد جاء في الوسائل بهذا الصدد حديثان تامّان سنداً(1).

ولكن هذا كما ترى ليس من اللقطة، ولا نجزم بعدم الفرق؛ فلعلّ من يلتقط مال الناس يجب عليه نتيجةً لالتقاطه لمال الناس تعريفه سنة، أمّا من جاءه المال في جوف دابّة اشتراها جاز له تملّكه لو لم يعرفه البائع، كما ويحتمل أن يكون عدم التعريف هنا لأجل عدم إمكانيّته على أساس سعة دائرة الجهالة، وسنعود إلى البحث عن هذه الروايات إن شاء الله.

۸_ ما عن أبي بصير عن أبي جعفر(علیه السلام)قال: «من وجد شيئاً فهو له، فليتمتّع به حتّى يأتيه طالبه، فإذا جاء طالبه ردّه إليه»(2). إلا أنّ سند الحديث ضعيف.

۹_ رواية إسحاق بن عمّار قال: «سألت أبا إبراهيم(علیه السلام)عن رجل نزل في بعض بيوت مكّة، فوجد فيه نحواً من سبعين درهماً مدفونة، فلم تزل معه ولم يذكرها حتّى قدم الكوفة، كيف يصنع؟ قال: يسأل عنها أهل المنزل لعلّهم يعرفونها. قلت: فإن لم يعرفوها؟ قال: يتصدّق بها»(3). وهي تامّة سنداً.

إلا أنّ هذا الحديث أيضاً يبدو أنّه أجنبيّ عن المقام، فهذا المال إن لم يعرفه أهل المنزل عدّ كنزاً، وهذا الحديث حاله حال أحاديث الكنز، إلا أنّ هذا الحديث حكم بالتصدّق، بينما غالبية أحاديث الكنز حكمت بإعطاء الخمس ويعني ذلك تملّك الباقي. وعلى أيّ حال فأحاديث الكنز أجنبية عن المقام؛ لاحتمال الفرق إمّا على

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص452، الباب9 من كتاب اللقطة، كلا حديثي الباب.

(2) المصدر السابق، ص447، الباب4 من كتاب اللقطة، ح۲.

(3) المصدر السابق، ص448، ح3.

273

أساس أنّ احتمال هلاك ملّاكه قويّ، وإمّا لعدم إمكانية التعريف بالكنز عادةً لسعة دائرة الجهالة، وسنعود إلى البحث عن ذلك إن شاء الله.

۱٠_ رواية فضيل بن غزوان رواها الشيخ _ بسند غير تام لنا _ عن فضيل بن غزوان قال: «كنت عند أبي عبدالله(علیه السلام)فقال له الطيّار: إنّ ابني حمزة وجد ديناراً في الطواف قد انسحق كتابته؟ قال: هو له»(1).

ورواه الكليني بسند تام عن فضيل بن غزوان، إلا أنّه قال: «فقال له الطيّار: إنّي وجدت ديناراً ...»(2).

إلا أنّ من المحتمل إنّه كان هذا السؤال في أيّام الحجّ وكان قد وجد الدينار في طواف الناس المجتمعين من شتّى أنحاء البلاد فلم يكن يمكن التعريف على أساس سعة دائرة الجهالة، وسنعود إلى البحث عن ذلك إن شاء الله.

وأمّا مرسلة الصدوق هذا: «فإن وجدت في الحرم ديناراً مطلساً فهو لك لا تعرّفه»(3) فلا قيمة لها سنداً، ولعلّ الصدوق يشير إلى نفس رواية ابن غزوان.

حکم ما دون الدرهم

وقد يستثنى من وجوب التعريف ما دون الدرهم، ولكن الظاهر أنّه لا دليل على الاستثناء بعنوان ما دون الدرهم إلا حديث مرسل جاء فيه: «وما كان دون الدرهم فلا يعرَّف»(4).

 


(1) تهذيب الأحكام، ج6، ص394، باب اللقطة والضالة،‌ح27.

(2) الكافي، ج4، ص239، باب لقطة الحرم من كتاب الحجّ، ح3.

(3) وسائل الشيعة، ج25، ص443، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۹، من لا يحضره الفقيه، ج3، ص297، باب القطة والضالة من کتاب المعيشة، ح4064.

(4) المصدر السابق، ص446، الباب4 من كتاب اللقطة، ح1.

274

نعم، ورد الاستثناء في حديث تام السند بعنوان المحقّرات التي لا طالب لها عادةً، وهو: ما عن حريز عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «لا بأس بلقطة العصى والشظاظ والوتد والحبل والعقال وأشباهه، قال: وقال أبو جعفر(علیه السلام): ليس لهذا طالب»(1)، فهذا كما ترى يدل على جواز تملّك المحقّرات التي لا طالب لها عادةً بلا حاجة إلى التعريف.

وقد يعارض ذلك بما عن عبدالرحمان بن أبي عبدالله _ بسند تام ظاهراً _ قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام)عن النعلين والإداوة والسوط يجده الرجل في الطريق ينتفع به؟ قال: لا يمسّه»(2).

ورواه أيضاً داود بن أبي يزيد عن أبي عبدالله(علیه السلام)بسند تام، فعلى الأقلّ بعض ما جاء في هذه الرواية يكون من قبيل تلك المحقّرات، فمثلاً ما الفرق بين السوط الذي جاء في هذه الرواية والعصى الذي جاء في تلك الرواية؟! ولكن لا يخفى أنّ النهي القابل للحمل على الكراهة لا يقاوم دليل الجواز.

حکم التقاط المحقرات من الحرم

وهل يجوز التقاط المحقّرات من الحرم أو لا؟

مقتضى إطلاق رواية حريز هو الجواز، ولكن تعارضه إطلاقات لقطة الحرم، كرواية حريز الأُخرى الماضيةالواردة في الحرم، وفيها: «ولا تحلّ لقطتها إلا لمنشد»(1)، ومع فرض التساقط يكون مقتضى الأصل العملي عدم جواز الالتقاط بلا تعريف ما لم يطمأنّ برضا المالك، ومقتضى العام الفوقاني أيضاً هو التعريف، وهو بعض المطلقات الآمرة بالتعريف لو لم نقل بأنّ تذيّلها بالملك يمنع عن شمولها لمحقّرات الحرم، فإنّه بعد أن

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص456، الباب12 من كتاب اللقطة، ح1.

(2) المصدر السابق، ص456، ح۲.

(3) المصدر السابق، ج12، ص557، الباب۸۸ من أبواب تروك الإحرام، ح۱.

275

خرجت لقطة الحرم بشكل عام عن إطلاقها بما دل على عدم جواز امتلاكها ليس عرفيّاً التمسّك بإطلاقها في خصوص محقّرات الحرم.

وقد تُقدّم رواية حريز الواردة في الحرم على رواية حريز الواردة في المحقّرات؛ إمّا بدعوى الحكومة باعتبارها ناظرة إلى احترام الحرم، فكأنّها تقول: إنّ اللقطة حتّى التي يجوز التقاطها في غير الحرم لغير المنشد لا تحلّ في الحرم، إلا أنّ هذه الدعوى غير واضحة الصحّة.

أو بدعوى أنّه يمكن أن نخرج من رواية الحرم المحقّرات التي يجوز التقاطها لغير المنشد؛ إذ لا تبقى حينئذٍ ميزة للحرم بينما الرواية بصدد بيان ميزة الحرمة، وهذه الدعوى أيضاً غير واضحة الصحّة؛ إذ لا أقلّ من فرض كون الميزة هي اشتداد الحرمة.

وقد تُقدّم رواية حريز الواردة في المحقّرات على رواية حريز الواردة في لقطة الحرم؛ وذلك إمّا لأنّ رواية حريز الواردة في لقطة الحرم من الواضح أنّ المقصود بها كون الحرم مأمناً لمال الناس، فلا يجوز التقاط ما ضاع منهم بلا رضاهم، بينما رواية حريز الواردة في المحقّرات تفترض ولو تعبّداً رضا المالك حيث تقول: «وقال أبو جعفر (علیه السلام): ليس لهذا طالب»، فكأنّها تفرض غلبة رضا المالك أمارة على رضاه، وإمّا لأنّ قوله: «لا بأس بلقطة العصى...» إلى الحرمات الموجودة للقطة من تحريم الالتقاط أو الأكل أو ترك التعريف ويحلّلها جميعاً، فهي حاكمة بملاك النظر.

اللقطة التي لا يمکن تعريفها

بقي الكلام في اللقطة التي لا يمكن تعريفها، فهل يجوز تملّكها أو لا؟

قد يستفاد من عدّة من الروايات أنّ حكمها التصدّق، وهي كما يلي:

۱_ يونس بن عبدالرحمان قال: «سئل أبو الحسن الرضا(علیه السلام)وأنا حاضر _ إلى أن قال:_ فقال رفيق كان لنا بمكّة، فرحل منها إلى منزله ورحلنا إلى منازلنا، فلمّا أن صرنا في الطريق أصبنا بعض متاعه معنا، فإيّ شيء نصنع به؟ قال: تحملونه حتّى تحملوه

276

إلى الكوفة. قال: لسنا نعرفه ولا نعرف بلده ولا نعرف كيف نصنع؟ قال: إذا كان كذا فبعه وتصدّق بثمنه. قال له: على من جعلت فداك؟ قال: على أهل الولاية»(1). وسند الحديث تام.

وفي مورد الحديث يكون الملتقط قد رأى المالك قبلاً، ولعلّه لو رآه بعد هذا لعرفه، لكن هذه الخصوصية ملغاة عرفاً.

وأيضاً مورد الحديث خارج عن الالتقاط بالمعنى المقصود، فإنّه هو ما يلتقط المال متعمّداً، وإنّما صار المال في ضمن أمتعته من دون تعمّده هو، ولكن لا يبعد إلغاء هذه الخصوصية عرفاً أيضاً.

وواضح في مورد الحديث عدم إمكانية التعريف على أساس سعة دائرة الجهالة حيث لا يعرف بلد المالك، والمتاع أُخذ من بعض منازل السفر، ولا يدرى في أيّ بلد صاحبه، ولم يؤخذ من بلد معيّن حتّى يعرّف في ذلك البلد.

۲_ زرارة قال: «سألت أبا جعفر (علیه السلام)عن اللقطة، فأراني خاتماً في يده من فضّة قال: إنّ هذا ممّا جاء به السيل، وأنا اُريد أن أتصدّق به»(2). وسند الحديث تام.

وهذا أيضاً واضح في عدم إمكانية التعريف لسعة دائرة الجهالة والغموض؛ لأنّه ممّا جاء به السيل.

۳_ ما مضى من رواية إسحاق بن عمّار(3) الآمرة بالتصدّق بالدراهم التي وجدها مدفونة في بعض بيوت مكة، والظاهر دخول ذلك في الكنز الذي تكون دائرة جهالة مالكه واسعة.

٤_ ما مضى من حديث علي بن أبي حمزة في دينار وجده في الحرم، قال(علیه السلام):

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص456، الباب12 من كتاب اللقطة، ح1.

(2) المصدر السابق، ص456، ح۲.

(3) المصدر السابق، ج12، ص557، الباب۸۸ من أبواب تروك الإحرام، ح۱.

277

«يعرّفه، قلت: فإنّه قد عرّفه فلم يجد له باغياً؟ قال: يرجع إلى بلده فيتصدّق به على أهل بيت من المسلمين، فإن جاء طالبه فهو له ضامن»(1)، حيث استظهرنا من هذا الحديث التصدّق قبل التعريف سنة؛ لأنّ المسافر إلى الحرم لا يبقى عادةً في الحرم سنة، وقلنا: لعلّ الحديث ناظر إلى حالة الاضطرار وعدم التمكّن من التعريف سنة باعتبار عدم تمكّنه من البقاء سنة في الحرم. إلا أنّنا لا يمكننا أن نجزم بكون الأمر بالتصدّق في هذا الحديث مستنداً إلى عدم إمكانية التعريف؛ لأنّ في مورده سبباً آخر لوجوب التصدّق وحرمة الأكل وهو كون اللقطة لقطة الحرم، وكذلك الحال في الحديث الثالث.

فالعمدة في المقام الحديثان الأوّلان، ولنا حولهما عدّة أبحاث:

البحث الأوّل: إنّ هاتين الروايتين مخصوصتان بصورة عدم إمكانية التعريف وقد أمرت بالتصدّق سيما أُولاهما، وروايات التملّك الماضية مخصوصة بصورة إمكانية التعريف وقد أمرت بالتعريف ثم حكمت بالتملّك، إذاً فلا تعارض بينهما.

ولو أنّ تلك الروايات لم تكن آمرة بالتعريف ولم تكن مختصّة بصورة إمكانية التعريف، ووقع التعارض بينها وبين هاتين الروايتين، لم يكن من الجمع العرفي أن نقول بأنّ وجوب التصدّق مخصوص بصورة عدم إمكانية التعريف، والتملّك مخصوص بصورة إمكانيّته؛ إذ بعد أن لم يكن التملّك متقيّداً بالتعريف لا يحتمل العرف فرقاً تعبّديّاً بين فرض إمكانية التعريف وعدم إمكانيّته، وحتّى لو كانت روايات التملّك خاصّة مورداً بصورة إمكان التعريف نتعدّى منها إلى صورة عدم إمكانه ما دام التعريف غير واجب، إذاً فالجمع العرفي بينهما إنّما هو القول بالتخيير بين التملّك والتصدّق بناءً على كون الملكية اختيارية، أو استحباب التصدّق مع حصول الملك بناءً على كون الملكية قهرية، إذاً فالمهمّ في إفتائنا بعدم جواز التملّك

 


(1) المصدر السابق، ص463، الباب۱۷ من كتاب اللقطة، ح1.

278

والأكل في لقطة لم يمكن تعريفها هو قصور روايات التملّك عن شمولها، وحينئذٍ حتّى لو لم تدل هاتان الروايتان على تعيّن التصدّق وبالتالي على عدم جواز التملّك لكنّا نكتفي بأصالة عدم الملكية.

نعم تفيدنا هاتان الروايتان في أمرين:

أحدهما: الحكم بجواز التقاط ما لا يمكن تعريفه.

وقد يقال: إنّ الرواية الأُولى لا تدل على ذلك؛ لأنّ الالتقاط في موردها قد حصل بلا اختيار حيث بقي متاع رفيقه في ضمن أمتعته، وهو لا يدري فأخذه معها.

والثاني: الحكم بوجوب الصدقة في مقابل حفظ المال أمانة، أمّا في مقابل الأكل والتملّك فهي وإن كانت تفيد ذلك ولكن عرفت أنّه لولاها أيضاً كنّا نقول _ بمقتضى الأصل _ بعدم جواز الأكل والتملّك(1).

وقد يقال: إنّ الرواية الأُولى تفيد ذلك، أمّا الثانية فليس فيها أمر بالتصدّق، وإنّما قال(علیه السلام): «أنا أُريد أن أتصدّق به»، فإنّما دلّت على جواز التصدّق لا وجوبه.

البحث الثاني: إنّ هاتين الروايتين إنّما وردتا في فرض عدم إمكانية التعريف بسبب سعة دائرة الجهالة، وقد حكمتا بتعيّن التصدّق، وظاهرهما نفي الملكية ونفي جواز الإبقاء أمانةً.

ولكن عدم إمكانية التعريف قد تنشأ من أسباب أُخرى من قبيل:

۱_ قصور في حال الملتقط يمنعه عن التعريف رغم قابلية اللقطة للتعريف، وقد عرفت احتمال حمل رواية علي بن أبي حمزة الماضية(2)على ذلك، ولكن عرفت أنّها واردة في لقطة الحرم؛ ولذا لم نستطع أن نستفيد منها حكماً بالنسبة لخصوصية عدم إمكان التعريف.

 


(1) طبعاً كلّ هذا بغضّ النظر عن المعارض الدالّ على التملّك في صورة عدم إمكانية التعريف والذي سنبحثه إن شاء الله في البحث الثالث.

(2) وسائل الشيعة، ج25، ص463، الباب۱۷ من كتاب اللقطة، ح1.

279

۲_ قصور في حال اللقطة من حيث عدم قابليّتها للبقاء، وقد ورد في ذلك حديث عن السكوني عن أبي عبدالله(علیه السلام): «إنّ أمير المؤمنين(علیه السلام)سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنّها وبيضها وفيها سكّين؟ فقال أمير المؤمنين: يقوّم ما فيها ثم يؤكل؛ لأنّه يفسد وليس له بقاء، فإن جاء طالبها غرموا له الثمن. فقيل: يا أمير المؤمنين(علیه السلام)، لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسي؟ فقال: هم في سعة حتّى يعلموا»(1). فهذه الرواية دلّت على جواز الأكل لا على عدم جوازه، إلا أنّها ضعيفة سنداً.

ونحوها مرسلة الصدوق عن الصادق(علیه السلام): «وإن وجدت طعاماً في مفازة فقوّمه على نفسك لصاحبه ثم كله، فإن جاء صاحبه فردّ عليه القيمة»(2).

۳_ قصور في حال اللقطة من حيث عدم اشتمالها على علامة تجعلها قابلة للتعريف لو لم نقل بأنّ هذا يرجع في الحقيقة إلى سعة دائرة الجهل بالمالك، غاية ما هناك أنّ بعض درجات السعة التي لا تكفي في العجز عن التعريف في ما يسمّى ذا علامة قد تكفي في ذلك في ما يقال عنه إنّه بلا علامة كالدينار والدرهم مثلاً، ففي الدائرة الضيّقة يكون الدينار والدرهم أيضاً قابلين للتعريف ومُعدّين ممّا له علامة كما مضى في ما سبق في بعض الروايات الأمر بتعريفهما، فقد مضى في حديث علي ابن أبي حمزة(3) الآمر بتعريف الدينار، ومضى في حديث علي بن جعفر(4) الآمر بتعريف الدرهم، على بعض نسخه.

وعلى أيّ حال فأحاديث التصدّق الماضية إنّما وردت في فرض العجز عن

 


(1) المصدر السابق، ص468، الباب۲۳ من كتاب اللقطة، ح۱.

(2) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص297، باب اللقطة والضالة من کتاب المعيشة، ح4064.

(3) وسائل الشيعة، ج25، ص463، الباب۱۷ من كتاب اللقطة، ح1.

(4) المصدر السابق، ص445، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۱۳.

280

التعريف على أساس سعة دائرة الجهالة، فهل نتعدّى من ذلك إلى سائر أسباب العجز عن التعريف أو لا؟

لا يبعد التعدّي وإلغاء خصوصية المورد عرفاً.

البحث الثالث: توجد عدّة روايات وردت في فرض العجز عن التعريف على أساس سعة دائرة الجهالة دلّت على التملّك، فهي تعارض الأحاديث السابقة الدالّة على التصدّق.

والكلام حول ذلك يقع في ثلاثة أمور:

الأمر الأول: لو تمّت دلالة هذه الروايات على الملك فالظاهر أنّ مقتضى الجمع بينها وبين ما عرفته من أحاديث التصدّق هو القول بالتخيير بين التملّك والتصدّق، وحمل التصدّق على الاستحباب.

الأمر الثاني: إنّنا في أحاديث التصدّق قلنا بالتعدّي من موردها، وهو العجز عن التعريف الناشئ من سعة دائرة الجهالة إلى العجز الناشئ من سائر الأسباب، ولكن التعدّي في مسألة التملّك مشكل، فالعرف يحتمل دخالة سعة الجهالة بمالك مّا في جواز تملّك أمواله، ففرق بين التصدّق بمال الغير الذي هو عبارة عن صرف ماله في مصرف الخير وبين أكله وتملّكه، فلو قلنا في الأول بتعدّي العرف من فرض سعة دائرة الجهالة إلى سائر فروض العجز عن معرفة المالك لا نقول بذلك في الثاني.

الأمر الثالث: هل روايات التملّك تامّة الدلالة حقاً على التملّك في خصوص ما نحن فيه، وهو فرض العجز عن تعريف اللقطة لسعة دائرة الجهالة بمالكها أو لا؟ وتلك الروايات كما يلي:

۱_ روايات تملّك ما في بطن الدابّة، وقد نقل صاحب الوسائل بهذا الصدد روايتين تامّتي السند:

إحداهما: ما عن عبدالله بن جعفر بسند الكليني(رحمه الله) قال: «كتبت إلى الرجل

281

أسأله عن رجل اشترى جزوراً أو بقرة للأضاحي، فلمّا ذبحها وجد في جوفها صرّة فيها دراهم أو دنانير أو جوهرة لمن يكون ذلك؟ فوقّع(علیه السلام): عرّفها البائع، فإن لم يكن يعرفها فالشيء لك رزقك الله إياه»(1).

والثانية: ما عن عبدالله بن جعفر أيضاً بسند الصدوق(رحمه الله) قال: «سألته في كتاب عن رجل اشترى جزوراً أو بقرة أو شاة أو غيرها للأضاحي أو غيرها، فلمّا ذبحها وجد في جوفها صرّة فيها دراهم أو دنانير أو جواهر أو غير ذلك من المنافع، لمن يكون ذلك؟ وكيف يعمل به؟ فوقّع(علیه السلام): عرّفها البائع، فإن لم يعرفها فالشيء لك»(2). وكأنّهما رواية واحدة.

بناءً على أنّ كون المال في بطن الدابّة وهي تساق من البلاد إلى البلاد ولا يعلم متى أكلته، يوجب سعة دائرة الجهالة بحيث لا يمكن التعريف، خصوصاً إذا كان اشتراها في الحج للاضحية مع كثرة المسافرين إلى الحج، إذاً فالروايتان تدلّان على جواز التملّك عند عدم إمكانية التعريف لسعة دائرة الجهالة.

إلا أنّ المشکلة الموجودة في هذا الاستدلال هي دعوى احتمال الفرق بين مورد الروايتين ومورد اللقطة حيث إنّ المشتري لم يلتقط المال، وإنّما انساق المال إليه صدفة وقهراً بشرائه للدابّة، فلعلّ هذا يوجب الفرق.

هذا، وتشبه هذه الروايات روايات وجدان المال في جوف السمكة _ وقد عقد لها باباً في الوسائل(3) _ فقد يتمسّك بها أيضاً لإثبات جواز تملّك ما لا يمكن تعريفه.

إلا أنّها _ مضافاً إلى المشکلة الماضية في روايات الدابة _ ضعيفة سنداً، على أنّه من المحتمل أنّ ما في بطنها من لؤلؤة أو جوهرة أو درّة لم يكن ملك أحد، وإنّما كان من معطيات البحر ابتداء.

 


(1) الكافي، ج9، ص730، باب اللقطة والضالة من كتاب المعيشة، ح9.

(2) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص296، باب اللقطة والضالة من كتاب المعيشة، ح4062.

(3) وسائل الشيعة، ج25، ص453، الباب۱٠ من كتاب اللقطة.

282

۲_ روايات تملّك ما يُلتقط من الأرض الخربة _ وقد أوردها صاحب الوسائل في بعض أبواب اللقطة(1) _ بناءً على أنّ خراب الدار وجلاء الأهل يوسّع من دائرة الجهالة بحيث لا يمكن التعريف.

إلا أنّ الإشکال الموجود فيها هو دعوى أنّ خراب الدار وجلاء الأهل يجعلنا نحتمل أنّ ملّاك المال قد بادوا وهلكوا، فلا يثبت جواز التملّك إلا في هذه الدائرة؛ لاحتمال الخصوصية لها.

وقد يجاب عن ذلك بأنّ المالك الأول إذا كان قد هلك فعادة يوجد له ورّاث، وفرضية عدم الوارث ما عدا الإمام مثلاً فرضية نادرة.

إلا أن يقال: إنّ في زمان الإمام(علیه السلام)كان يكثر الموالي الذين لا وارث لهم عدا مولاهم أو الإمام مثلاً.

وقد يجاب على ذلك: بأنّ الرواية لم ترد بنحو القضية الخارجية حتّى تختص بظروف ذلك الزمان.

وقد يقال: إنّ احتمال هلاك الأهل وسعة دائرة الورّاث جدّاً بحيث لا يكون لأيّ واحد منهم إلا جزء يسير من المال لا يعتنى به محتمل الدخل في الحكم، فلا نستطيع التعدّي من هذه الدائرة.

۳_ أخبار الكنز الظاهرة في التملّك سواء ما كان منها حاكماً بإخراج الخمس فإنّ هذا ظاهر في تملّك الباقي، أو ما كان منها نافياً للزكاة فهذا أيضاً ظاهر في التملّك. وهذه الروايات موجودة في الوسائل، كتاب الخمس(2).

والرواية الأخيرة موجودة أيضاً في كتاب اللقطة(3).

 


(1) الكافي، ج9، ص730، باب اللقطة والضالة من كتاب المعيشة، ح9.

(2) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص296، باب اللقطة والضالة من كتاب المعيشة، ح4062.

(3) وسائل الشيعة، ج25، ص453، الباب۱٠ من كتاب اللقطة.

283

ولعلّ مقتضى الجمع بينها وبين الرواية الآمرة بالتصدّق، وهي رواية إسحاق بن عمّار الماضية هو حمل التصدّق على الاستحباب(1).

وقد يقال: نحن نحتمل الخصوصية في مورد الرواية؛ لأنّها واردة في الدراهم المدفونة بمكة، فلعلّ الكنز المدفون بالحرم حكمه التصدّق لا التملّك، بخلاف الكنز في خارج الحرم، فليكن الكنز حاله حال اللقطة في اختلاف حكم ما يوجد في الحرم ممّا يوجد في خارج الحرم حيث يتملّك الثاني ويتصدّق بالأول.

وعلى أيّ حال فتقريب التمسّك بروايات الكنز هو أنّ مال الكنز تكون دائرة جهالة ملاكه واسعة عادة، وقد ثبت فيه جواز التملّك، ولا خصوصية عرفاً للكنز، فيتعدّى إلى غيره.

إلا أنّ الإشكال الموجود في ذلك هو إشكال الرواية السابقة، وهو إبراز احتمال خصوصية في احتمال بَيْد الملّاك، فإنّ الكنز يحتمل فيه عادة ذلك.

ثم إنّه في أيّ مورد قلنا بالتملّك من دون تعريف لا يبعد القول بوجوب الخمس فيه إذا كان ممّا لو كان كنزاً لوجب فيه الخمس بدعوى إلغاء خصوصية الكنزية عرفاً.

٤_ ما مضى عن فضيل بن غزوان قال: كنت عند أبي عبدالله(علیه السلام)«فقال له الطيار: إنّ إبني حمزة وجد ديناراً في الطواف قد انسحق كتابته. قال: هو له»(2).

وهذه الرواية من ناحية تعارض روايات التعريف؛ فإنّ الدينار والدرهم بشكلهما السابق وفي المجتمع الصغير لذاك اليوم كانا يعدّان ممّا يقبل التعريف، ولهذا ورد في الدينار الأمر بالتعريف كما في رواية علي بن أبي حمزة الماضية، وكذلك ورد في الدرهم الأمر بالتعريف كما في رواية علي بن جعفر الماضية على بعض نسخها.

 


(1) المصدر السابق، ح3.

(2) المصدر السابق، ح4.

284

وأمّا انسحاق كتابة الدينار فلا يجعله غير صالح للتعريف، بل يصبح بذلك أصلح للتعريف؛ لكون انسحاق الكتابة بنفسه علامة.

ومن ناحية أُخرى تعارض ما دلّ على عدم جواز تملّك لقطة الحرم كما مضى في رواية إبراهيم بن عمر عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «اللقطة لقطتان: لقطة الحرم وتعرّف سنة، فإن وجدت صاحبها وإلا تصدّقت بها. ولقطة غيرها تعرّف سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فهي كسبيل مالك»(1).

وبالإمكان أن يقال: إنّ المفروض في مورد رواية فضيل بن غزوان أنّ الدينار وجده في الطواف في مثل أيام الحج، وعندئذٍ تتسع دائرة الجهالة إلى حدّ يصبح الدينار عرفاً غير قابل للتعريف.

إذاً فالرواية دليل على جواز تملّك اللقطة عند عدم إمكانية تعريفها على أساس سعة دائرة الجهالة. ولا تعارض لا روايات التعريف؛ لأنّ المفروض في موردها عدم إمكانية التعريف، ولا رواية عدم تملّك لقطة الحرم؛ لأنّها حكمت بالتعريف ثم التصدّق. وهذا يعني أنّها واردة في مورد إمكانية التعريف، بينما هذه الرواية واردة في مورد عدم إمكانية التعريف.

وقد يقال: إنّ كلمة «في الطواف» في رواية فضيل بن غزوان لا تدل على أنّ القضية كانت في أيام الحج مثلاً؛ لأنّ الطواف مشروع طول السنة.

إذاً فمقتضى إطلاق رواية ابن غزوان _ ولو بملاك ترك الاستفصال _ عدم اختصاص جواز التملّك بصورة سعة دائرة الجهالة وعدم إمكانية التعريف.

وقد يجاب على ذلك بأنّ من المحتمل وجود ما يصلح للقرينية الصارفة للإطلاق؛ وذلك بأن يكون السؤال والجواب صادراً في أيّام الحجّ، ويقصد بالطواف

 


(1) وسائل الشيعة، ج13، ص260، الباب۲۸ من مقدمات الطواف، ح4.