107

 

 

 

اختصاص الأصل ببعض الأطراف:

 

التنبيه الثاني: أنّه رتّب على القول بكون العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة ـ كما قال به بعضهم ـ أو كون تأثيره في ذلك بمجرد الاقتضاء ـ كما اخترناه ـ، اّنـّه على الأوّل لا يجري الأصل في بعض أطراف العلم الإجمالي وان لم يكن معارض، وعلى الثاني يجري الأصل عند عدم المعارض، والمحقّق النائيني (رحمه الله)ذكر على ما في تقرير بحثه(1) : أنّ هذه الثمرة مجرّد ثمرة فرضيّة، ولا تتّفق بحسب الخارج، ونحن عقدنا هذا التنبيه هنا لنذكر أولاً: ما هو التحقيق في مسألة جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض في الصور المختلفة التي يتصوّر فيها ذلك، ونتعرّض بعد ذلك لكلام المحقّق النائينيّ (رحمه الله) ومناقشته.

فنقول: إنّ اختصاص الأصل ببعض أطراف العلم الاجماليّ يكون في ثلاث صور:

 

فرض الاختصاص في نفسه:

الصورة الاُولى: أن يكون هذا الاختصاص لأجل عدم كون الطرف الآخر مجرىً للأصل في نفسه، أي بقطع النظر عن محذور الترجيح بلا مرجّح، كما لو علم إجمالاً بأنـّه إمـّا لم يصلِّ صلاته الحاضر وقتها، وإمـّا أنّ هذا الجبن حرام؛ لوجود الميتة فيه، فالطرف الأوّل ليس مجرىً للاصل المؤمّن في نفسه؛ لأنّ الشكّ فيه شك في الفراغ لا في أصل التكليف، فهو مجرىً لقاعدة الاشتغال، لا للأصل المؤمّن، وهنا يقول الاصحاب ـ حتى القائلون بعلّيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة ـ بجريان الأصل المؤمّن في الطرف الخاصّ به، لأنّ العلم الإجماليّ ـ حتى بناءً على علّيّته لذلك ـ منحلّ بجريان الأصل المثبت في أحد الطرفين، وهو أصالة الاشتغال،


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 12 ـ 16، وأجود التقريرات: ج 2، ص 245 ـ 249.

108

أو استصحابه في جانب الصلاة، فإنّ جريان الأصل المثبت في أحد الطرفين شرعيّاً أو عقليّاً موجب عندهم لانحلال العلم الإجماليّ انحلالاً حكمياً، كما سيأتي تفصيله ـ إن شاء الله ـ.

ولكن اتّضح في بحثنا مع الأخباريين في وجوب الاحتياط في الشبهات وعدمه: أنّ الأصل المثبت في أحد الطرفين لا يوجب الانحلال الحكميّ، وإنـّما الذي يترقّب حلّه للعلم الإجماليّ حكماً هو الأصل النافي في الطرف الآخر، وعليه فلا يمكن تبرير الأصل النافي في المقام بالانحلال، فبناءً على العلّيّة لا يمكن إجراء الأصل هنا، وأمـّا بناءً على ما هو الصحيح من الاقتضاء، فيجري الأصل وينحلّ به العلم الإجماليّ.

نعم، نحن لا نقول لما قالوا به من عدم منع العلم الإجماليّ عن شيء من الاُصول المؤمّنة، بل نفصّل بين الاُصول المؤمّنة الثلاثة التي تبحث في علم الاُصول، وهي أصالة البراءة، وأصالة الحلّ، والاستصحاب.

وتوضيح ذلك: أنّه لا مانع ثبوتاً عن جريان شيء من هذه الاُصول في المقام، لمنع القول بالعليّة، ولا إثباتاً من باب معارضة الأصلين لغرض عدم المعارضة، لكن يوجد مانع اثباتي عن بعضها، وهو قصور الدليل في نفسه عن إثبات المقصود، من حلّيّة خصوص هذا الطرف، وهذا المانع موجود في أصالة البراءة؛ لما مضى من أنـّها غير ناظرة إلاّ إلى رفع الإلزام من ناحية ذات احتمال التكليف، لا إلى رفع الإلزام حتى من ناحية العلم الإجماليّ، واحتمال انطباق المعلوم بالإجمال.

وأمـّا الاستصحاب فلا بأس بجريانه في المقام؛ لأنّ دليل الاستصحاب يثبت الحالة السابقة حتى مع لحاظ العلم الإجماليّ.

وكذلك الحال في أصالة الحلّ، بناءً على ما مضى من أنّ صحيحة عبد الله بن سنان ناظرة إلى فرض العلم الإجماليّ، بقرينة كلمة (بعينه)، وأنـّها ظاهرة في النظر إلى فرض اشتمال الكلّي على أفراد محللة وأفراد محرّمة، أما لو فرضناها ناظرة إلى فرض اشتمال الكلّ على الجزء المحلل والجزء المحرم، أو فرضاناها مجملة، فلا يمكن التمسّك بها في المقام؛ وذلك لأنّ الحديث ـ بناء على حمله على النظر إلى الكلّ المشتمل على الجزء الحرام ـ إنـّما يدلّ بمدلوله المطابقي على الترخيص في المجموع، الذي هو ترخيص فى المخالفة القطعيّة، وهذا خاصّ بموارد العلم الإجماليّ، إلاّ أنـّه يختصّ بالشبهة غير المحصورة؛ لعدم الترخيص في الشبهة

109

المحصورة في المخالفة القطعيّة، لأنـّه يصادم الحكم الواقعيّ، إمـّا عقلاً أو ارتكازاً عقلائيّاً، ونتعدّى من مورد العلم الإجماليّ إلى الشبهات البدويّة؛ إمـّا لأنـّه عادة يوجد في أطراف الشبهة غير المحصورة الشكّ البدويّ أيضاً، أو لأنّ العرف يتعدّى من الترخيص في احتمال انطباق المعلوم بالإجمال إلى الترخيص في الاحتمال البدويّ.

ولا يقال: إنّ الاحتمال البدويّ قد يكون قويّاً، واحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على طرف معيّن في الشبهة غير المحصورة ضعيف جدّاً؛ لكثرة الأطراف، فلا يتعدّى العرف إلى مورد الاحتمال البدويّ.

فإنـّه يقال: إنـّه في مورد الشبهة غير المحصورة بالإمكان فرض الظنّ بانطباق المعلوم بالإجمال على ذاك الطرف، بأن يضعف احتمال الانطباق في باقي الأطراف بمقدار ما تتوجّه قوة الاحتمال إلى هذا الطرف، ومعه قد رخّص الشارع بمقتضى إطلاق الحديث في هذا الطرف، فيتعدّى منه إلى مورد الاحتمال البدويّ، وأمـّا التعدّي إلى ما نحن فيه، وهو مثل ما لو علم إجمالاً بعدم الإتيان بالصلاة الحاضرة، أو حرمة هذا الجبن فغير ممكن؛ لعدم تأتّي شيء من النكتتين؛ لوجود العلم الإجماليّ بنحو الشبهة المحصورة، فلئن صحّ تعدّي العرف من مورد الشبهة غير المحصورة إلى مورد الشكّ البدويّ، فليس من المحتمل تعدّيه منها إلى مورد الشبهة المحصورة، كما أنّ غلبة وجود الشكّ البدويّ في أطراف الشبهة غير المحصورة لا يبرّر التعدّي إلى موارد الشبهة المحصورة، وليس من الغالب وجود شبهة محصورة في بعض أطراف الشبهة غير المحصورة.

والسرّ في الفرق بين ما إذا حمل الحديث على تحليل الكليّ المشتمل على فرد حرام، أو على تحليل الكلّ المشتمل على جزء حرام ـ حيث نقول على الأوّل: بشمول الحديث لما نحن فيه، وعلى الثاني: بعدم شموله أيّاه ـ هو أنـّه على الأوّل يكون هذا الجبن بنفسه مصداقاً من مصاديق ذاك الكلّيّ، ومحلّلاً بمنطوق الحديث الذي حلّل الكلّيّ المشتمل على مصاديق محلّلة ومصاديق محرّمة، من دون فرق بين افتراض علم إجماليّ في دائرة الجبن بوجود الحرام وافتراض عدمه، كما لو كان العلم الإجماليّ منحلاّ بوجدان عشرة أفراد محرّمة مثلاً، فإنّ معنى قوله: (فيه حلال وحرام) ليس فرض العلم الإجماليّ، وإنـّما معناه فرض الشكّ من ناحية اشتمال الكليّ في نفسه على الفرد الحلال والفرد الحرام، وإن كان هذا الشكّ بدويّاً،

110

فالحديث ينطبق على هذا الجبن ويحكم بحلّيّته، وقد جعل هذا الحكم مُغيّىً بالعلم التفصيليّ بالحرمة، فلا ينتفي هذا الحكم إلاّ بذلك، لا بالعلم الإجماليّ بعدم اتيان الصلاة، أو حرمة هذا الجبن.

والخلاصة: أنّ الحديث بمدلوله المطابقي يدلّ على حلّيّة هذا الجبن، ولو لم يكن طرفاً لعلم إجماليّ متعلّق بحرمة بعض أفراد الجبن؛ إذ يكفي في شمول الحديث له كونه مصداقاً لكلّيّ يكون بطبيعته منقسماً إلى حلال وحرام، سواء وجد فعلاً علم إجماليّ بالحرمة أو لا.

وأمّا على المعنى الثاني فالتحليل منصبّ على المركَّب من الحلال والحرام مع عدم تمييز الحلال من الحرام، فهو مُختصّ بمدلوله المطابقي بفرض العلم الإجماليّ غير المنحلّ، باشتمال الجبن على الحرام وتحليل المجموع، وإسراء الحكم إلى ما نحن فيه يتوقّف على التعدّي من مورد الحديث إلى هذا المورد، وتقريب التعدّي هو أن يقال: إنّ ما نحن فيه وإن لم يفرض الجبن طرفاً لعلم إجماليّ بحرمة بعض أفراد الجبن، فالشكّ بلحاظ دائرة الجبن قد يكون شكّاً بدوياً، ولكن التعدّي إليه يتمّ بما أشرنا إليه، من دعوى أنـّه إنْ صحّ تحليل الجبن لدى طرفيّته لعلم إجماليّ من هذا القبيل، فالعرف يتعدّى إلى فرض الشكّ البدوي، وعدم طرفيّته لذلك، أو دعوى وجود شكّ بدويّ من هذا القبيل عادة وغالباً في أطراف الشبهة غير المحصورة.

ولكنّنا قد أوضحنا أنّ هذا التعدّي في المقام غير ممكن؛ لعدم تأتّي شيء من النكتتين، لأنّ الشكّ في المقام ليس شكاً بدوياً صرفاً لاقترانه ـ حسب الفرض ـ بالعلم الإجماليّ بعدم الإتيان بالصلاة، أو حرمة هذا الجبن، فهذا يمنع عن تعدّي العرف، كما أن وجود علم من هذا القبيل في أطراف الشبهة غير المحصورة ليس غالبياً.

وقد يقال: إنّنا نفترض أوّلاً وجود علمين إجماليّين في المقام: أحدهما: العلم الإجماليّ غير المحصور بحرمة بعض أفراد الجبن في البلد، والثاني: العلم الإجماليّ بعدم الإتيان بالصلاة أو كون هذا الجبن هو المنطبق عليه المعلوم بالإجمال بالعلم الأوّل، ونفترض أنّ احتمال كون الحرام هو هذا الفرد من الجبن كان أقوى من الاحتمال في باقي أطراف العلم الإجماليّ الأوّل، بحيث لم يكن هناك اطمئنان بالخلاف، لا مساوياً لها، كي يلزم من كثرة الأطراف الاطمئنان بعدم كون هذا الفرد هو

111

ذاك الحرام المعلوم بالإجمال، وبالتالي الاطمئنان بعدم الإتيان بالصلاة، وعندئذ نقول: إنّ هذا الجبن حلال بحكم هذا الحديث؛ لأنـّه داخل في منطوق الحديث بكونه طرفاً للعلم الإجماليّ في الجبن، وليس شكّاً بدوياً بلحاظ دائرة الجبن، ثمّ نتعدّى من هذا إلى فرض الشكّ البدوي بلحاظ دائرة الجبن بإحدى النكتتين الماضيتين.

والجواب: أنّ المستفاد من تحليل المجموع المركب من حلال وحرام، حتى يتميّز الحرام من الحلال، هو التحليل وعدم المنع من ناحية العلم بوجود الحرام ضمن هذا المركّب، وبكلمة اُخرى: أنّ الحلّية حكم بها على المركب من حيث المجموع بلحاظ تركّبه من حلال وحرام، فالحلّيّة بهذا اللحاظ تسري إلى هذا الجزء، وهذا يعني التأمين من ناحية ما في المركّب من حرام معلوم، وهذا لا ينافي عدم التأمين من ناحية اُخرى، وهي ناحية العلم الإجماليّ بحرمة هذا أو عدم الصلاة، ولا يوجد شيء من النكتتين لتصحيح التعدّي من ذاك التأمين إلى هذا التأمين، وهذا بخلاف ما لو فرض أنّ معنى الحديث تحليل الكليّ الذي يوجد فيه بطبعه حلال وحرام، سواء وجد بالفعل علم إجماليّ بالحرام أو لا، فهذا ليس تأميناً من ناحية العلم الإجماليّ غير المحصور في دائرة الجبن فحسب، كي يقال: لا نتعدّى إلى التأمين من ناحية العلم الإجماليّ بعدم الإتيان بالصلاة، أو حرمة هذا الجبن، بل هو تأمين من ناحية احتمال حرمة هذا الجبن، ولا قيد لهذا التأمين عدا كون هذا الاحتمال ناشئاً من كون الشيء بطبعه فيه حلال وحرام، وهذا القيد ثابت في محلّ الكلام، فإنـّه وإن علم إجمالاً بترك الصلاة أو حرمة هذا الجبن، لكنّه لولا كون الجبن بطبعه ممّا فيه الحلال والحرام، لم يحتمل حرمة هذا الجبن، فالاحتمال في المقام ناشيء من كون الشيء بطبعه فيه حلال وحرام، وقد حكم عليه بالتأمين، وجعلت غاية التأمين هي العلم التفصيليّ بالحرمة، لا العلم الإجماليّ بالحرمة أو ترك الصلاة.

وعلى أيـّة حال، فالأمر هيّن بما عرفته سابقاً من استظهار حمل الحديث على النظر إلى الكلّيّ المشتمل على الفرد الحرام، لا الكلّ المشتمل على الجزء الحرام، إذن فبالإمكان استفادة الحلّ فيما نحن فيه من الحديث بلا إشكال.

 

حكومة الأصل المثبت في بعض الأطراف:

الصورة الثانية: أن يكون الأصل النافي لو خليّ ونفسه جارياً في كلا الطرفين،

112

لكنّه كان محكوماً في أحد الطرفين لأصل مثبت مثلاً، كما لو جرت أصالة الحلّ في نفسها في كلا الطرفين، وكان الاستصحاب في أحدهما مثبتاً للحرمة، فيقال عندئذ: إنّ أصالة الحلّ تجري في الطرف الآخر؛ لأنـّها غير مبتلاة بمشكلة المعارضة، لسقوط ما يعارضها بحكومة الاستصحاب عليه.

وهذا الكلام صحيح، إلاّ أنّ هنا شبهة تقدّم ذكرها مع الجواب عنها بالمناسبة في بعض الأبحاث السابقة، وهي:

أنّ معارضة الأصلين في الطرفين كانت بنكتة المحذور العقلي، أو الارتكاز العقلائي، وذلك يكون لوضوحه وبداهته بحكم القرينة المتّصلة، خصوصاً بناءً على كون المحذور هو الارتكاز العقلائي ـ كما هو المختار ـ، فإنّ معنى الارتكاز هو الوضوح في الأذهان، وإذا كان الأمر كذلك، حصل الإجمال في دليل الأصل، أي: أنـّه سقط دليل الأصل عن الظهور، لا عن حجّيّة الظهور، وبعد فرض انحفاظ أصل الظهور، فإنّ المخصص إذا كان متّصلاً مجملاً أوجب إجمال العامّ لصلاحيته للقرينيّة بالنسبة لأيّ واحد من الفردين، بخلاف ما لو كان منفصلاً، فإنـّه ـ عندئذ ـ لا يوجب الإجمال، بل يبقى الظهور على حاله لكنّه يسقط عن الحجّيّة إن كان المخصّص مردّداً بين المتباينين.

وإذا أصبح دليل الأصل مجملاً بلحاظ هذين الطرفين، وغير ظاهر في الترخيص في شيء منهما، فمجرّد وجود أصل مثبت حاكم في أحد الطرفين لا يوجب رفع الاجمال حتى يجري الأصل في الطرف الآخر بلا محذور.

وهذه الشبهة لو تمّت فهي لا تجري في أربعة فروض، وتختصّ بغيرها:

الفرض الأوّل: ما إذا ادّعى أنّ المحذور العقليّ، أو العقلائيّ مخصّص منفصل لا متّصل، فإنّ الظهور ـ عندئذ ـ يبقى محفوظاً، فيجري الأصل في الجانب الذي لا يوجد فيه أصل حاكم؛ لوجود المقتضي وهو أصل الظهور، وعدم المانع وهو حجّيّة الظهور في الطرف الآخر.

ولكنّ دعوى كون المحذور منفصلاً لا كالمتّصل لا مجال لها، بناءً على ما اخترناه: من كون المحذور عقلائياً، فإنّ هذا الارتكاز العقلائيّ إنّ لم يصل إلى درجة هدم الظهور لا قيمة له، فإنّ تأثيره فى حسابنا إنـّما هو باعتبار هدمه للظهور، لا أنّ هناك حجّيّة لهذا الارتكاز بذاته.

إذن فدعوى كون المحذور منفصلاً لا كالمتّصل، إنـّما يكون لها مجال بناءً

113

على كون المحذور عقليّاً، فمن يدّعي إدراك محذور عقليّ في المقام تارةً يفرض كون ذلك بديهيّاً كالمتّصل، فيهدم الظهور، واُخرى يفرض عدم كونه كذلك، فلا يهدم الظهور وإن كان ذلك خلاف ما نبني عليه من أنّ أحكام العقل العملي في غير باب تزاحم المحسّنات والمقبّحات بديهية لا يشكّ فيها عادةً إنسان خال ذهنه عن شبهة وتشكيك علمي ونحوه .

والخلاصة: أنّه لو ادّعى أحدٌ أنّ هناك محذوراً عقليّاً لا يدركه كلّ أحد، أو يكون دركه بعد تروٍّ وتأمل، أصبح هذا مخصّصاً منفصلاً، ولكن هذه الدعوى غير صحيحة عندنا؛ لإنكارنا للمحذور العقلي من ناحية؛ ولأنّنا نرى أنّه لو كان لكان بديهيّاً كالمتّصل من ناحية اُخرى.

الفرض الثاني: ما إذا كان الأصل الحاكم مدلولاً لنفس دليل الأصل المحكوم، كما لو علم إجمالاً بنجاسة هذا الشيء، أو وجوب الإنفاق على هذه المرأة لكونها زوجة، فتعارض استصحاب ذاك الشيء مع استصحاب عدم زوجيّة هذه المرأة، ولكن كان الشكّ في زوجيّة هذه المرأة ناشئاً ـ مثلاً ـ من الشكّ في بقائها حين العقد على الإسلام، وجرى استصحاب الإسلام، فكان حاكماً عى استصحاب عدم الزوجيّة، فيجري ـ عندئذ ـ استصحاب الطهارة في ذلك الطرف بلا محذور؛ لأنّ دليل الأصل في نفسه ليس له ظهور في الأصل النافي إلاّ بلحاظ ذلك الجانب، وهذا الظهور ليس منافياً للارتكاز العقلائيّ أو المحذور العقليّ حتى ينهدم، فهو ظهور باق على حاله ولا مانع عن حجّيّته.

الفرض الثالث: أن يكون الأصل النافي في كلّ من الطرفين بدليل غير دليل الأصل النافي في الطرف الآخر، كما لو جرت في أحد الطرفين أصالة الصحّة، وفي الآخر أصالة الحلّ، وكانت أصالة الحلّ محكومة لاستصحاب مثبت للحرمة، فنجري أصالة الصحّة بلا مانع؛ لأنّ المحذور العقليّ أو العقلائيّ ليس منافياً لظاهر دليل أصالة الصحّة، كي يصبح مجملاً، كما أنـّه ليس منافياً ـ أيضاً ـ لظاهر دليل أصالة الحلّ، كي يصبح مجملاً، وإنـّما الارتكاز العقلائيّ أو حكم العقل ينافي مجموعهما، فاُوقع بذلك التعارض بينهما، فكانت حجّيّة كلّ منهما ذاتاً مانعة عن حجّيّة الآخر، فإذا سقط أحدهما عن الحجّيّة خلت حجّيّة الآخر عن المانع.

الفرض الرابع: أن يكون الأصل الثالث رافعاً لموضوع أحد الأصلين، أمـّا بالورود، كما إذا قلنا: إنّ الاستصحاب وارد على أصالة الحلّ، أو بالحكومة، إذا كان

114

مبنانا في الحكومة أنّ روحها لا ترجع إلى التخصيص، بأن يكون الفرق بينهما من ناحية التفّنن في التعبير فحسب، بل تخرج الفرد حقيقة عن العام، والظاهر أنّ مدرسة المحقّق النائينيّ (قدس سره)عادةً أو غالباً تقول بذلك، ولكن المختار خلافه، فلو بنينا على هذا المبنى فدليل الأصل الحاكم يرفع موضوع الأصل المحكوم حقيقة، ويكون مرجعه إلى الورود.

فلو كان كلّ واحد من الطرفين في نفسه مجرىً لاصالة الحلّ مثلاً، لكن جرى في أحد الطرفين الاستصحاب المثبت للحرمة، وقلنا بأنـّه يرفع حقيقة موضوع أصالة الحلّ، فقد انهدم بذلك ظهور دليل أصالة الحلّ بالنسبة لذاك الطرف لغرض ارتفاع موضوعه حقيقة، وظهوره بالنسبة للطرف الآخر ليس مخالفاً للارتكاز، كي يصبح مجملاً، أو غير حجّة، فتجري فيه أصالة الحلّ بلا محذور، فالشبهة لو تمّت فإنـّما تتمّ في غير هذه الفروض الأربعة.

والجواب عن أصل الشبهة يظهر بالالتفات إلى ما نقوله في تخصيص العامّ بمخصّص متّصل مردّد بين المتباينين، كما لو قال:«يجب إكرام العالم ـ أو كلّ عالم ـ إلاّ زيداً»، وكان في العلماء شخصان مسمّيان بزيد، فهذا العامّ إنـّما يصبح مجملاً في قبال ظهوره في هذا الفرد بعنوانه، وفي ذاك الفرد بعنوانه، ولكنّه يبقى ظهوره في عنوان (الفرد الآخر) ثابتاً، فقوله: «يجب إكرام كلّ عالم» يكون ظاهراً ـ لولا التخصّص ـ في تمام الأفراد، وقوله:« إلاّ زيداً» بعد فرض عدم صحة إرداة المعنيين منه إنـّما أخرج واحداً معيّناً عند اللّه، فبالإمكان أن نشير إلى الفرد الآخر، ونقول: إنّ ظاهر هذا الكلام هو وجوب إكرام الفرد الآخر، (أو قل: الفرد الثاني)، وهذا الظهور حجّة، وفائدة ذلك تكوّن العلم الإجماليّ بوجوب إكرام أحد الزيدين .

واستشكلنا في ذلك بان هذا إنـّما يتمّ لو كان للفرد الخارج بهذا المخصّص تعيّن واقعي، فيكون للفرد الآخر أيضاً تعيّن واقعي، فنشير إليه، ونقول: إنّ الكلام بظهوره شامل له، وهذا ثابت في المثال الذي ذكرناه، فإنّ المولى قد أراد من كلمة (زيد) في قوله: «إلاّ زيداً» فرداً معيّناً عنده، وشككنا في خروج الفرد الآخر، أمـّا إذا لم يكن الأمر كذلك، أي: لم يثبت تعيّن واقعيّ للفرد الخارج به، فلا معنى للإشارة إلى غيره بعنوان الفرد الآخر، أو الفرد الثاني مثلاً، والقول بحجّيّة العامّ في ذلك الفرد، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ المخصّص فيه هو الارتكاز، والارتكاز نسبته إلى الفردين على حدّ سواء، فلم يثبت تعيّن للفرد الخارج به، فلو كان في الواقع كلاهما خارجاً

115

فإلى أيّهما نشير ونقول: إنّ العامّ حجّة فيه؟!

وقد أجبنا عن هذا الإشكال ـ بعد تسليم أنّ المفروض خارجاً من قبل العقلاء هو البناء على حجّيّة العامّ في الفرد الثاني، حتى في مثل هذا الفرض، فإنـّما يجب علينا أن نتكلّم في تفلسف هذا الموقف من العقلاء، وتطبيقه على الفنّ كي لا يرد إشكال الأخذ بأمر محال ـ بأنّ الواقع هو ثبوت حجّيّتين مشروطتين، فهذا العامّ حجّة في هذا الفرد على تقدير خروج ذاك الفرد، وحجّة في ذاك الفرد ـ أيضاً ـ على تقدير خروج هذا الفرد.

وهاتان الحجّتان المشروطتان لا ترجعان إلى دعوى حجّيّة الظهور مع اتصال المخصّص الموجب للإجمال؛ إذ ما يحسّ به العقلاء إنـّما هو الظهور في عنوان الفرد الثاني، لا ظهوران ابتلى أحدهما بالمخصّص، ولكن الأمر يرجع بالتحليل الفلسفي إلى حجّيّتين مشروطتين، على أساس أنّ هذا يكفي لتفسير الموقف فنّيّاً، وترتفع به الاستحالة، فلا بدّ من سلوك ما يسلكه العقلاء من الأخذ بعموم العامّ من باب أنـّهم يرون ظهوره في الفرد الثاني.

وهذه الحجّيّة المشروطة في ما نحن فيه لم تكن لها ثمرة لولا الاستصحاب الحاكم على أصالة الحلّ في أحد الطرفين مثلاً، لكنّنا عرفنا ببركة هذا الاستصحاب تحقّق شرط الحجّيّة في الطرف الآخر، وهو خروج هذا الفرد، فاصبحت الحجّيّة في الطرف الآخر فعليّة.

 

وجود المؤمّن الطولي في بعض الأطراف

الصورة الثالثة: أن يوجد في الطرفين أصلان نافيان، فيتساقطان بالتعارض، ويوجد في أحد الطرفين أصل ناف آخر في طول الأصل الأوّل، حسب ما أفتوا به من الطولية بين بعض الاُصول وبعض آخر منها ولو كانا متوافقين.

مثاله: ما لو علمنا إجمالاً بوجوب شيء أو حرمة شيء آخر، وجرى فيهما استصحاب عدم الوجوب وعدم الحرمة وتساقطا، فوصلت النوبة في جانب محتمل الحرمة إلى أصالة الحلّ، وهي غير معارضة بأصالة الحلّ في الطرف الآخر؛ لاختصاص أصالة الحلّ بالشبهات التحريميّة دون الوجوبيّة.

وهذا المثال إنـّما يتمّ على مبنانا، أمـّا على مباني الأصحاب فلا يتمّ؛ إذ في كلّ

116

من الطرفين يوجد أصل طولي، وهو أصالة البراءة، فيحصل التساقط، لكنّنا قلنا: إنّ أصالة البراءة في نفسها غير جارية في أطراف العلم الإجماليّ بقطع النظر عن التعارض.

وأمـّا المثال الذي يتمّ حتى على مبانيهم، فكما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين، وأحدهما لم تكن له حالة سابقة، وكانت الحالة السابقة للآخر هي الطهارة، فتعارض استصحاب الطهارة فيه مع أصالة الطهارة في الآخر، وتساقطا، ووصلت النوبة إلى أصالة الطهارة فيما كانت له حالة سابقة(1) .

وعلى أيّة حال، فمهما وجد أصل ناف طوليّ في أحد الطرفين، فقد يقال بتساقط الأصلين النافيين بالتعارض، والرجوع إلى الأصل النافي الطوليّ في الطرف الذي يخصّه، والاحتياط في الطرف الآخر بسبب العلم الإجماليّ، فلا تجب الموافقة القطعيّة هنا بالاحتياط في كلا الطرفين بناء على الاقتضاء؛ لأنّ الأصل النافي الطوليّ لا معارض له في مرتبته، وفي المرتبة السابقة على نفسه لا وجود له حتى يسقط بالمعارض.

وقد خالف في ذلك جملة من المحقّقين، فبعضهم أفتى بلزوم الاحتياط على الإطلاق، وبعضهم فصّل بين الموارد بجريان الأصل النافي الطولي في بعضها دون بعض، وقد ذكر لعدم جريان هذا الأصل مطلقاً، أو التفصيل وجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: ما عن المحقّق النائينيّ (قدس سره) من أنّ التعارض يكون بين المجعولين، أو المجعول في كلّ من الطرفين شيء واحد وإن اختلفت الأدلّة، فيتساقط المجعولان، ولا يبقى ترخيص في أيّ واحد من الطرفين(2) .

وذكر المحقّق العراقي (رحمه الله) في مقام الاعتراض على ذلك إشكالين(3) :

الأوّل: منع وحدة المجعول، فالمجعول في استصحاب الطهارة وأصالتها ليس طهارة واحدة، بل طهارتان مجعولتان طوليّاً.


(1) أو قل: إنّ أصالة الطهارة فيما له حالة سابقة تعارضت ـ أيضاً ـ مع أصالة الحلّ في الآخر، وتساقطت، ووصلت النوبة إلى أصالة الحلّ فيه فيما إذا كانا من الطعام أو الشراب.

(2) أجود التقريرات: ج 2، ص 246، وفوائد الاُصول: ج 4، ص 16.

(3) راجع المقالات: ج 2، ص 12، ونهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 321.

117

أقول: إن كان مقصود المحقّق النائينيّ (قدس سره) من وحدة المجعول وحدة المُنشأ، فالحقّ هو التعدد، وإن كان مقصوده وحدة لبّ الأمر وأنّ مفاد كليهما معاً هوالطهارة مثلاً، فهذا الإشكال غير وارد عليه:

والثاني: أنّ التنافي وإن كان بين المجعولين، لكن هذا التنافي يوجب أن يكون مصبّ المعارضة هو المجعول من حيثيّة الدلالة، وهذه جهة تقييديّة، فالتعارض في الحقيقة بين الحيثيّتين، فإذا كانت في أحد الطرفين حيثيّتان للدلالة، وسقطت الاُولى بالمعارضة في مرتبة سابقة، فمجرّد وحدة المجعول غير كاف لسقوطه؛ لإمكان القول بلزوم التمسّك بالدلالة الثانية.

وهذا الجواب في غاية المتانة.

الوجه الثاني: ما عن المحقّق النائينيّ (قدس سره) أيضاً، وهو أنّ الأصل النافي الطولي لو جرى لزم من وجوده عدمه، فإنـّه في طول سقوط الأصل الحاكم، الذي هو في طول منجّزيّة العلم الإجماليّ، فمنجّزيّة العلم الإجماليّ هي التي تقتضي جريان هذا الأصل، فكيف يعقل أن يكون هذا الأصل رافعاً لها؟! وليس من المعقول أن يكون الشيء رافعاً لمقتضيه.

ويرد عليه: أنّ هذا الأصل إنـّما يرفع الدرجة الثانية من منجّزيّة العلم الإجماليّ، وهي وجوب الموافقة القطعية، وهو لم يكن وليداً لهذه الدرجة من التنجيز، وإنـّما كان وليداً لحرمة المخالفة القطعيّة التي هي الدرجة الاُولى(1) للتنجيز، مع استحالة الترجيح بلا مرجّح، فإنّ الأصل الحاكم إنـّما سقط لأنّ جريانه مع


(1) قد يقول المحقّق النائينيّ (رحمه الله) في المقام ـ حسب ما يعتقده من أنّ العلم الإجماليّ ينحلّ بالأصل المثبت للتكليف انحلالاً حقيقيّاً لا حكميّاً ـ : إنّ الانحلال هنا غير ممكن؛ لأنّ الأصل المثبت وليد للعلم الإجماليّ، فكيف يرفعه؟

ولكن المفروض به أن يعترف بالانحلال الحكمي، بمعنى رفع وجوب الموافقة القطعيّة بعد فرضه لاستحالة الانحلال الحقيقي في المقام؛ لعدم إمكان رفع الأصل المثبت لما كان وليداً له، ولا محذور في هذا الانحلال الحكمي بعد فرض استحالة الانحلال الحقيقي، لأنّ العلم الإجماليّ ـ حسب الفرض ـ إنـّما هو مقتضي لوجوب الموافقة القطعيّة، وليس علّة تامّة له، فهو يقبل الرفع بوجود المانع.

118

ما في عرضه كان يستلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة، وجريانه وحده كان ترجيحاً بلا مرجّح، والآن لا يلزم من إجراء الأصل الطوليّ انتفاء أحد الأمرين، فلا زالت المخالفة القطعيّة حراماً، وليس إجراءه مستلزماً للترخيص فيها، ولا زال إجراء أحد الأصلين العرضيين ترجيحاً بلا مرجّح، فهذا الأصل لم يصبح رافعاً لمقتضيه.

الوجه الثالث: ما ذكره السيّد الاستاذ(1)، وهو قائل بالتفصيل بينما إذا كان الأصلان العرضيّان من سنخ واحد أو من سنخين، ففي القسم الأوّل يجوّز الرجوع إلى الأصل الطوليّ، ومثاله: ما لو علمنا إجمالاً بنجاسة هذا الماء أو هذا الثوب، فتوجد في كلّ منهما أصالة الطهارة، ويوجد في خصوص الماء أصل طوليّ، وهو أصالة الحلّ بناءً على تقدّم أصالة الطهارة عليها، فهنا ذكر السيّد الاُستاذ: أنّ الأصلين العرضيّين المتسانخين في الدليل يتساقطان، ولا يشمل ذاك الدليل شيئاً من الأصلين، ويبقى في المقام الأصل الطولي بلا معارض.

أقول: ينبغي تتميم المطلب ببيان النكتة الخاصّة بفرض تسانخ الأصلين العرضيّين، والتي لا تجري في غير فرض التسانخ، وهي فرض المخصّص، وهو المحذور العقليّ، أو العقلائيّ المانع عن الترخيص في المخالفة القطعيّة، مخصّصاً متّصلاً، فيوجب إجمال دليل الأصل الحاكم، فيجري الأصل المحكوم بلا أيّ محذور.

وأمـّا القسم الثاني، وهو ما إذا كان الأصلان متخالفين، فلا يمكن إثبات الرجوع فيه إلى الأصل الطوليّ بهذه النكتة؛ لأنّ دليل كلّ واحد من الأصلين في نفسه ليس منافياً للارتكاز العقلائيّ، أو المحذور العقليّ، فلا يبتلي بالإجمال من هذه الناحية.

نعم يتعارض الأصلان ويتساقطان، وعندئذ يقال: إنـّه تصل النوبة إلى الأصل الطوليّ؛ لأنّ الأصل في الطرف الآخر قد تعارض مع ما في الرتبة السابقة على هذا الأصل وسقط، فوصلت النوبة إلى هذا الأصل بلا معارض، وهنا ذكر السيّد الاُستاذ: أنّه يقع التعارض بين الاُصول الثلاثة ويتساقط الكلّ، ودفع ذاك التقريب بأنّ الحجّيّة ليست من أحكام الرتب حتّى تصحّح بتعدّد الرتب(2)، وإنـّما هي حكم زماني


(1) راجع الدراسات: ج 3، ص 230 ـ 233، ومصباح الاُصول: ج 2، ص 356ـ 360.

(2) لم يرد في الدراسات ولا في المصباح هنا الإشارة إلى أنّ الحجّيّة ليست من أحكام تعدّد الرتب، وإنـّما ورد ذلك في بحث ملاقي الشبهة المحصورة في الدراسات، ج 3، ص 267، وفي

119

خارجي، والأصل الطولي وإن كان في المرتبة المتأخّرة عن تأثير المقتضي في جانب الأصل الحاكم، إلاّ أنّ نفس المقتضيين قد وجدا في زمان واحد؛ إذ قد تمّ إقتضاء المقتضي الطولي بعدم تأثير مقتضي الأصل الحاكم في نفس زمان ذلك المقتضي، فجميع المقتضيات الثلاثة موجودة في زمان واحد، وتتعارض وتتساقط، فإذا علم إجمالاً بتنجّس هذا الماء أو بوليّة هذا المائع لا يمكن الرجوع إلى أصالة الطهارة في الماء، بعد تساقط استصحاب طهارته مع أصالة طهارة ذاك المائع، بل تسقط أصالة طهارة الماء ـ أيضاً ـ معهما.

نعم، استثنى السيّد الاُستاذ من ذلك صورة واحدة، قال فيها بجريان الأصل النافي الطولي، وهي ما إذا كان لكلا الأصلين النافيين العرضيين أصل طولي، ولكن أحدهما ناف والآخر مثبت، كما لو علم إجمالاً بزيادة ركوع في الصلاة السابقة، أو نقيصة ركوع في الصلاة التي هو مشغول بها من بعد تجاوز المحل، فتتعارض قاعدة الفراغ في الصلاة السابقة مع قاعدة التجاوز في هذه الصلاة، وتصل النوبة إلى استصحاب عدم الزيادة في الصلاة السابقة، واستصحاب عدم الإتيان بالركوع في هذه الصلاة، وهذا الاستصحاب الثاني أصل مثبت، فينحلّ به العلم الإجمالي، فلا يبقى مانع عن الرجوع إلى استصحاب عدم الزيادة في الصلاة السابقة.

 


المصباح، ج 2، ص 418 .

وعلى أيـّة حال، فالتعبير الذي يناسب البيان المذكور في المقام هو التعبير: بأنّ تعدّد الرتب لم يكن بين الأصل الطولي ومعارضه، كما وضّح السيّد الخوئي (رحمه اللّه) ـ أيضاً ـ ذلك في بحث ملاقي الشبهة المحصورة. أمـّا أنّ الحجّيّة ليست من أحكام الرتبة، فلا أثر لذلك في المقام، ولا في ملاقي الشبهة المحصورة، فإنـّه لو سلّم كون الأصل الطولي متأخراً رتبةً عن معارضه، فلا محالة يكون ثابتاً وحده دون معارضه؛ لأنـّه تكوّن في طول سقوط معارضه، فالتعدّد الرتبي هنا منع عن التعارض الزماني، وبالتالي أوجب حلّ التعارض، والقول بأنّ تعدد الرتبة لا يمكن أن يؤثّر في بقاء المتأخّر وحده في ظرف الزمان؛ لأنّ الأصلين ليسا من أحكام عالم الرتب مغالطة، كما يتّضح ذلك ببيان لطيف لاُستاذنا الشهيد (رحمه الله) فيما يأتي من بحث ملاقي أطراف العلم الإجماليّ فراجع.

120

ولنا في تحقيق الحال في مجموع ما أفاده كلام في جهات ثلاث:

الجهة الاُولى: فيما ذكره في هذا الاستثناء الأخير: من الرجوع إلى الأصلين الطوليين، وسقوط الأصلين العرضيّين، فإنّ هذا الكلام لايناسب مشرب العلّيّة ولا مشرب الاقتضاء.

أمـّا على مشرب العلّيّة، فلأنـّه لا بُدّ من الرجوع إلى قاعدة الفراغ في الصلاة السابقة الحاكمة -حسب الفرض- على استصحاب عدم الزيادة، لا إلى استصحاب عدم الزيادة، إذ لا مانع من التمسّك بقاعدة الفراغ إلاّ أحد محذورين:

الأوّل: محذور العلّيّة، والمفروض انتفاؤها بانتفاء الموضوع، وهو منجّزيّة العلم الإجماليّ؛ لانحلال العلم الإجماليّ بالأصل المثبت.

والثاني: محذور المعارضة لقاعدة التجاوز في الصلاة الاُخرى، وهذا ـ أيضاً ـ مدفوع بأنّ قاعدة التجاوز في هذه الصلاة غير جارية في نفسها، أي: بقطع النظر عن المعارضة، لا قبل الانحلال، ولا بعد الانحلال.

أمّا قبل الانحلال فللعلّيّة. وأمّا بعد الانحلال فلأنّ فرض الانحلال هو فرض تنجّز هذا الطرف علينا، فكيف ننفيه بالأصل؟ فإذا لم تجرِ قاعدة التجاوز في نفسها فقاعدة الفراغ غير مبتلاة بالمعارض، فتجري لارتفاع كلا المحذورين عن جريانها.

إن قلت: إنّ هذا الأصل المثبت وليد لمنجّزيّة العلم الإجماليّ، فكيف يمكنه أن يحلّ العلم الإجماليّ ويبطل منجّزيّته؟!

قلت: إنـّه وليد للمنجّزيّة اللولائيّة للعلم الإجماليّ، أي: كون العلم الإجماليّ منجزاً لولا هذا الأصل- والوجود اللولائي ثابت حتى بعد جريان الأصل والانحلال، وهذا الوجود اللولائي كاف في سقوط الأصل الحاكم على هذا الأصل؛ إذ مع الوجود اللولائي لتنجيز العلم الإجمالي، أي: وجوده لولا استصحاب عدم الإتيان بالركوع، كيف يجري الأصل الحاكم وهو قاعدة التجاوز؟ هل يجري مع جريان الأصل المثبت، أو يجري وحده؟ فالأولّ غير معقول؛ لعدم إمكان اجتماع النفي والإثبات، والثاني ـ أيضاً ـ غير معقول؛ لمنافاته للتنجيز اللولائي للعلم الإجمالي الذي يصبح فعلياً بفرض عدم الأصل المثبت، وبكلمة اُخرى: أنّ الوجود المشروط للعلم الإجمالي يكفي للمنع عن جريان أصل يكون جريانه مساوقاً لحصول ذاك الشرط، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ وجود العلم الإجماليّ مشروط بعدم الأصل المثبت، وجريان قاعدة التجاوز مساوق لعدم الأصل المثبت.

121

وأمـّا على مشرب الاقتضاء، فما مضى من السيّد الاُستاذ من تقريب وقوع المعارضة بين مجموع الاُصول الثلاثة في غير فرض وجود أصل مثبت طولي في أحد الطرفين، يأتي في هذا الفرض ـ أيضاً ـ حرفاً بحرف، وتقع المعارضة بين استصحاب عدم الزيادة في الصلاة السابقة وقاعدة التجاوز في الصلاة الحاليّة، والأصل المثبت في المقام لا يصنع شيئاً، فإنّ قوام التعارض لم يكن بالعلّيّة، حتّى يرتفع بهذا الأصل المثبت لرفعه للعلّيّة، وإنـّما قوام التعارض يكون بالتكاذب، والتكاذب موجود حتّى الآن إذ لا يمكن الجمع بين إجراء الاستصحاب النافي في الصلاة السابقة وقاعدة التجاوز في هذه الصلاة، وهنا لا يأتي ما مضى على مشرب العلّيّة: من أنّ قاعدة التجاوز لا تجري في نفسها، فإنـّه على مشرب الاقتضاء تكون قاعدة التجاوز بقطع النظر عن محذور الترجيح بلا مرجح جارية.

هذا. وقد تحصّلت هنا نتيجة غريبة، وهي أنّ حال الاقتضاء في التنجيز أصبحت أشدّ من العلّيّة، وهذه النتيجة وليدة لما لا نقول نحن به، من قانون انحلال العلم الإجماليّ بالأصل المثبت.

الجهة الثانية: أنّ ما ذكره السيّد الاُستاذ من أنـّه إذا كان الأصلان العرضيان من سنخ واحد، وجرى الأصل الطولي بلا محذور، ينبغي أن لا يخصّص بفرض الطوليّة، بل يعمّم حتّى لفرض كون الاُصول الثلاثة في عرض واحد، فإنّ تمام النكتة في المقام هي تسانخ الأصلين، واستقلال الأصل الثالث بدليل يخصّه، و هذا لا يفرّق فيه بين الطولية والعرضية. ونمثّل للعرضية بمثالين:

الأوّل: مثل ما لو كانت في أحد الجانبين أصالة الطهارة، وفي الجانب الآخر أصالة الطهارة واستصحابها، بناءً على ما هو الصحيح من عدم حكومة الاستصحاب على الأصل إذا كانا متوافقين.

والثاني: ما إذا كان لدينا علمان إجماليان مشتركان في طرف واحد، كما لو علمنا إجمالاً بنجاسة ما في الإناء الأبيض، أو ما في الإناء الأسود، وعلمنا ـ أيضاً ـ إجمالاً بنجاسة ما في ما الإناء الأسود، أو ما في الإناء الأخضر، وكان الأوّلان مجرىً لأصالة الطهارة، دون استصحابها، لكنّ الثالث جرى فيه استصحاب الطهارة، وهو في عرض أصالة الطهارة في الإناء الأسود، وليس مقدماً عليه؛ لأنـّهما في موضوعين.

ولعلّ السيّد الاُستاذ يلتزم بهذين النقضين.

لكنْ هنا نقضٌ ثالث لا يلتزم به، وهو أنـّه إذا لم يكن الأصلان العرضيان

122

من سنخ واحد، لكن كان الأصل المحكوم مع معارض الحاكم من سنخ واحد، فهنا يصبح دليل ذلك الأصل مجملاً، ويجري الأصل الحاكم بلا معارض، وذلك بعين النكتة الموجودة في تسانخ الأصلين، واستقلال أصل ثالث بالدليل، ومثاله نفس ما مثّل به هو للقسم الثاني الذي حكم فيه بتساقط جميع الاُصول الثلاثة من العلم الإجمالي، بتنجس هذا الماء، أو كون ذلك المائع عين النجس، ففي الماء يوجد استصحاب الطهارة، وفي طوله أصالة الطهارة، وفي المائع لا يوجد إلاّ أصالة الطهارة، فيصبح دليل أصالة الطهارة مجملاً ويجرى في الماء استصحاب الطهارة.

والخلاصة: أنّ الضابط إنـّما هو تماثل أصلين، وتغاير أصل ثالث، سواء كان الجميع في عرض واحد، أو كان الأصل الثالث محكوماً لأحدهما أو حكم عليه.

وما ذكرناه من النقض الثالث واضح، بناءً على ما هو الصحيح في الحكومة، من كون مرجعها إلى التخصيص، فدليل أصالة الطهارة بذاته يقتضي شمول الماء ـ أيضاً ـ وإن كان فيه محكوماً لاستصحاب الطهارة، فيقع الإجمال فيه، ونرجع إلى استصحاب الطهارة بلا معارض.

وأمـّا بناءً على الحكومة التي يقول بها المحقّق النائينيّ (رحمه الله) الراجعة روحاً إلى الورود لا التخصيص، فيمكن أن يناقش في ذلك بأنّ الاستصحاب في الماء يخرج الماء عن مورد أصالة الطهارة، فيشمل دليل أصالة الطهارة ذلك المائع بلا إجمال، فيقع التعارض بينه وبين الاستصحاب.

لكن الصحيح: أنـّه على هذا الفرض ـ أيضاً ـ يجري الاستصحاب بلا معارض؛ لأنّ تماميّة ظهور الدليل في أصالة الطهارة في المائع فرع لعدم شمول دليل أصالة الطهارة للماء الذي هو فرع الاستصحاب في الماء، فيستحيل أن تعارضه. وبكلمة اُخرى: أنّ هذين الأصلين، وهما أصالة الطهارة في المائع واستصحاب الطهارة في الماء، إنـّما يتعارضان إذا كان المقتضي -وهو الظهور لكل منهما- تامّاً بقطع النظر عن الآخر، فيكون جريان كلّ منهما دون الآخر ترجيحاً بلا مرجّح، فيتعارضان، وهنا يكون مقتضي الاستصحاب في الماء بقطع النظر عن أصالة الطهارة في المائع تامّاً، لكن مقتضي أصالة الطهارة في المائع بقطع النظر عن ذاك الاستصحاب غير تامّ؛ لعدم الظهور؛ إذ بقطع النظر عن الاستصحاب يوجد في عرض هذا الأصل أصل آخر من سنخه في الطرف الآخر من طرفي العلم الإجمالي.

بقي في المقام إشكال: وهو أنـّه قد مضى في فرض حكومة الأصل المثبت على

123

أحد الأصلين النافيين أنّ هذه الحكومة توجب نجاة الأصل الآخر من المعارضة، ورفع القصور في دليله؛ لأنّ الدليل شامل لأحد الفردين بعنوان الفرد الثاني، وبالتالي حجّة في كلّ من الفردين، بشرط كذب الأصل في الفرد الآخر، وقد ثبت شرط الأصل الآخر ببركة الحاكم في الطرف الأوّل، فلم لا نقول بمثل هذا الكلام في المقام؟! وأيّ فرق بينهما؟! عدا أنّ الأصل الحاكم هناك كان عبارة عن أصل مثبت، وهنا عبارة عن أصل ناف، وهو استصحاب الطهارة.

والجواب: أنّ فرض أصل مثبت حاكم على أصالة الطهارة في أحد الطرفين يوجد شرط حُجّيّة الأصل في الطرف الآخر بالتقريب الماضي، وأمـّا فرض استصحاب الطهارة الحاكم على أصالة الطهارة في أحد الطرفين، فلا يجري في إحياء أصالة الطهارة في الطرف الآخر حتّى تعارض ذلك الاستصحاب، فإنّ أصالة الطهارة بقطع النظر عن الاستصحاب غير جارية؛ للإجمال - حسب الفرض -، وبعد فرض الاستصحاب لا يعقل جريانه؛ لاستلزامه الترخيص في المخالفة القطعية، فلا معارض للاستصحاب، وهذا بخلاف ما لو كان الأصل الحاكم مثبتاً، فإنـّه بعد فرضه يعقل جريان الأصل في الطرف الآخر(1)...

الجهة الثالثة: في تحقيق الحال في فرض عدم تسانخ الأصلين؛ لنرى أنـّه هل يتساقط الأصل الطولي مع العرضيين، كما ذهب إليه السيّد الاُستاذ أو لا؟ والصحيح هو التساقط، حيث إنـّه بعد فرض عدم الترخيص في المخالفة القطعية يقع التكاذب بين الأصل الطولي في هذا الطرف، والأصل العرضي في الطرف الآخر، فلا محالة يتعارضان ويتساقطان؛ إذ ليس في المقام ما يُسقط ذلك الأصل العرضي عن صلاحية المعارضة لهذا الأصل الطولي، عدا وجوه كلّها مخدوشةٌ:


(1) وبكلمة اُخرى: أنّ ما مضى من أنّ العام يدلّ عرفاً على شموله لعنوان الفرد الثاني على تقدير خروج أحد الفردين صحيح، لكنّه يختصّ بما إذا لم يكن الجمع بين كيفيّة ذلك التقدير وشمول العامّ لعنوان الفرد الثاني مشتملاً على نفس المحذور، الذي كان يشتمل عليه الجمع بين الفردين، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ الجمع بين كيفية تقدير خروج أحد الفردين، وهي الخروج بحكومة الأصل النافي، وشمول العامّ للفرد الثاني مشتمل على نفس محذور المخالفة القطعية، وفي مثل هذا الفرض لا معنى لظهور العامّ في شموله لعنوان الفرد الثاني على تقدير خروج أحد الفردين، في حين أنّ الأصل الحاكم لو كان مثبتاً لم يكن هذا المحذور موجوداً.

124

الوجه الأوّل: أنّ هذا الأصل الطولي يكون في طول معارضة الأصلين العرضيين وتساقطهما؛ إذ لولا تعارضهما وتساقطهما لما كانت تصل النوبة إلى هذا الأصل المحكوم، إذن فهذا الأصل يكون بعد فرض سقوط الأصلين العرضيين، وفي الرتبة المتأخّرة عن ذلك، وعندئذ فكيف يعقل تعارضه مع أحدهما؟ والشيء الساقط يستحيل أن يمنع عن شيء لا يتمّ مقتضيه إلاّ بعد فرض سقوط ذلك الشيء.

وبكلمة اُخرى: أنّ الأصل الطولي يكون في طول سقوط الأصل الحاكم، وسقوط الأصل الحاكم يكون في طول معارضة الأصلين العرضيين، فالأصل الطولي يكون في طول معارضة الأصلين العرضيين، والأصل المفروض المعارضة لا يعارض أصلاً آخر؛ لأنّ الأصل المفروض المعارضة بما هو مفروض المعارضة لا اقتضاء له.

ومزية هذا التقريب الثاني على التقريب الأوّل: هي أنـّه لم يفرض في ذلك كون الأصل الطولي في طول التساقط حتّى يناقش فيه: بأنـّه إنـّما هو في طول سقوط الأصل الحاكم، لا في طول التساقط، فإنـّنا نقول: إنـّه يكفينا كونه في طول سقوط الأصل الحاكم؛ لأنّ هذا السقوط في طول المعارضة، والأصل المفروض فيه التعارض لا يصلح للمعارضة؛ إذ لا اقتضاء للأصل المعارض بما هو معارض.

والجواب: أنّ قولكم: إنّ الأصل الطولي يكون في طول معارضة الأصلين وتساقطهما، أو في طول المعارضة فحسب خلطٌ بين الكلّ والجزء، ووضع للكلّ مكان الجزء، فإنّ المعارضة عبارة عن مصادمتين: مصادمة هذا لذاك، أي: مانعية مقتضيه عن تأثير مقتضي ذاك، وبالعكس، والأصل الطولي في الطرف الأوّل إنـّما هو في طول مانعية مقتضي الأصل العرضي في الطرف الثاني عن تأثير مقتضي الأصل الأوّل، وسقوط الأصل الأوّل، لا في طول مجموع المانعيتين، والتساقط الذي هو عبارة عن مجموع سقوطين، وإذا كان الأمر كذلك، فمقتضي الأصل العرضي في الطرف الثاني يمنع عن تأثير مقتضي الأصل العرضي في الطرف الأوّل، وفي طول ذلك يتمّ مقتضي الأصل الطولي، ويقع التمانع في التأثير ـ عندئذ ـ بين هذا المقتضي الجديد في الطرف الأوّل، والمقتضي الثابت في الطرف الثاني، الذي كان متمانعاً مع المقتضي الأوّل ـ أيضاً ـ في الطرف الأوّل.

الوجه الثاني: ما يأتي مباشرة بعد الوجه الأوّل، وهو أنـّنا عرفنا أنّ الأصل الطولي يكون في طول إحدى المانعيّتين والسقوطين، لكن كلّ من المانعيتين أو السقوطين كانا في عرض واحد، فهذا الأصل الطولي المتأخّر عن أحدهما متأخّر ـ لا

125

محالة ـ عن الآخر أيضاً، فلا معنى لأن يزاحمه الأصل العرضي في الطرف الآخر؛ إذ الأصل الطولي في طول سقوطه.

والجواب: أنّ هذا مبنيّ على مبنىً قد يدّعى في الفلسفة: من أنّ ما مع المتقدّم متقدّم، وما مع المتأخّر متأخّر، لكنّنا لا نقبل هذا المبنى في التقدّم الرتبي، فتأخّر هذا الأصل عن أحد العرضيين لا يوجب تأخّره عن العرضي الآخر، فهو في رتبة الأصل الطولي أيضاً، بمعنى عدم وجه لتقدّمه عليه.

هذا. ولا ينبغي بعد ذلك التمسّك لإثبات المقصود من حجّية الأصل الطولي بمفهوم قد ينتزع عمّا عرفته من الوجه الثاني، وذلك بأنْ يقال: كيف يعقل أن يعارض الأصل العرضي في الطرف الثاني الأصل الطولي، مع أنـّه قد عارض أصلاً متقدّماً رتبة على الأصل الطولي؟! فإنـّه لو عارض الأصل الحاكم في رتبته والأصل المحكوم أيضاً في رتبته، فهذا معناه أنّ هذا الأصل له عرض عريض، يوجد في رتبتين، مع أنـّه يستحيل وجود شيء في رتبتين.

والجواب: أنّ معنى ما ذكرناه من منع قانون (ما مع المتقدّم متقدّم وما مع المتأخّر متأخّر) أنّ ذاك العرضي الآخر لا وجه لتقدّم له على هذا الأصل الطولي، كما لا وجه لتقدّم له على ذاك الأصل العرضي، ولا لتأخّره عن أحدِهما، وهذا معنى كونه في عرض هذا وذاك، ولا يلزم من العرضية لهما بمعنى عدم وجه للتقدّم وجود الشيء في رتبتين.

ثم إنّ المشهور في وجه الرجوع إلى الأصل الطولي، وعدم سقوط ما مضى في أوّل بحث الصورة الثالثة من أنّ الأصل المعارض له قد سقط بالتعارض مع الأصل الحاكم عليه في مرتبة سابقة، فهذا في مرتبته لا معارض له، والظاهر أنّ هذا يرجع إلى أحد هذين الوجهين بأحد شقوقهما، وقد عرفت الجواب عن الكلّ.

الوجه الثالث: أنـّنا عرفنا أنّ التأخّر عن أحد العرضيين لا يوجب التأخّر عن العرضي الآخر، لكنّنا نثبت هنا بالبرهان عدم صلاحية الأصل الطولي لمصادمة الأصل العرضي في الطرف الثاني، فتبقى المصادمة من طرف واحد، وهي مصادمة ذلك الأصل العرضي لهذا الأصل الطولي، وإذا كان الصدام بين أصلين من طرف واحد فحسب، فلا محالة يكون الأصل الصادم مُقدّماً على الأصل المصدوم، ولا يقع التعارض والتساقط؛ لأنّ التعارض فرع صلاحية المنع من الطرفين، فهذا الأصل الطولي يكون في طول ذلك الأصل العرضي؛ لتقدّم هذا الأصل العرضي عليه،

126

ومانعيّته عنه دون العكس، فبعد سقوطه تصل النوبة إلى هذا الأصل الطولي بلا مزاحم.

وذلك البرهان عبارة عن أنّ مقتضي هذا الأصل الطولي لو منع عن الأصل العرضي في الطرف الثاني، لرجع الأصل العرضي في الطرف الأوّل إلى الحياة؛ لأنـّه مات ما كان يعارضه، وإذا كان الوجه في سقوط أصلين تعارضهما، فموت أحدهما يستلزم لا محالة حياة الآخر، وإذا رجع هذا الأصل، ارتفع الأصل الطولي؛ لانّ هذا الأصل حاكم عيله - حسب الفرض - وإذا ارتفع الأصل الطولي ارتفعت مانعيّته، فكانت مانعيّته أمراً يلزم وجوده عدمه، فالمانعيّة مستحيلة.

والجواب: أنّ هذا الكلام يستبطن اعترافاً مسبقاً باستلزام وجود المانعية لعدمه، ثم يقال: إنّ فرض المانعية هنا فرض للباطل، بدليل ترتّب فرض أمر باطل عليه، وهو وجود ما يستلزم وجوده عدمه، في حين أنّ استلزام وجود شيء لعدمه في نفسه أمرٌ محالٌ، لا أنـّه ممكن ولكن يستحيل وجود مثل هذا الشيء، فهذا البيان فيه مغالطة حتماً.

وحلّ المطلب هو: أنـّنا لا نسلّم كون موت الأصل العرضي في الطرف الثاني بهذا الطريق مستلزماً لحياة الأصل العرضي الآخر؛ لأنّ موته بهذا الطريق عبارة عن موته في طول تماميّة مقتضي الأصل الطولي، الذي هو في طول موت الأصل العرضي الآخر، وقولكم: (إنّ موت أحد المتعارضين يستلزم حياة الآخر) إنـّما يتمّ فيما إذا لم يكن موته في طول ذلك الأصل الآخر، أمـّا إذا كان موت شيء فرعاً لموت شيء آخر، فيستحيل أن يعطي موت هذا الشيء فرصة الوجود لذاك الشيء الآخر.

الوجه الرابع: أنّ هنا علمين إجماليين، أحدهما في طول الآخر: أحدهما: العلم الإجماليّ بكذب أحد الأصلين العرضيين، وهذا العلم الإجماليّ أوجب بتنجيزه سقوط كلا الأصلين، فسقط الأصل الحاكم عن الحجّيّة بسبب هذا العلم الإجماليّ، وفي طول سقوطه تولّد الأصل المحكوم، فحصل علم جديد، وهو العلم الإجمالي بكذب أحد الأصلين، أي: الأصل الطولي، أو الأصل العرضي في الطرف الثاني، فهذا العلم الإجماليّ متأخّر رتبةً عن العلم الإجماليّ الأوّل؛ إذ هو في طول الأصل المحكوم، الذي هو في طول سقوط الأصل الحاكم، الذي هو في طول العلم الإجمالي الأوّل، وهذان العلمان الإجماليان مشتركان في أحد الأطراف، وهو الأصل العرضي في الطرف الثاني، وإذا كان الأمر كذلك، فقد سقط العلم الإجماليّ

127

الثاني عن التنجيز، بناءً على ما يقال: من سقوط العلم الإجماليّ عن التنجيز بفرض كون أحد أطرافه منجّزاً بعلم إجمالي سابق. إذن فلا مانع من الأخذ بالأصل الطولي، فإن لم نقبل هذا المبنى من رأسه، فلا يبقى موضوع لهذا الوجه.

وأمـّا إن قبلنا هذا الوجه قلنا: إنـّه يقتنص من مباني السيّد الاُستاذ جواب عن هذا الوجه، وهو أنّ سقوط العلم الإجماليّ إنـّما يكون في فرض كون تقدّم العلم الإجمالي الأوّل تقدّماً زمانياً، لا في فرض كونه تقدّماً رتبياً؛ وذلك لأنّ التنجيز وعدم حجّيّة هذا الأصل الترخيصي، وكذلك عدم التنجيز وحجّيّة هذا الأصل الترخيصي إنـّما يكون أمراً زمانيّاً لا رتبيّاً، أي: ليس من أحكام الرتَب، حتى يكون ظرفه عالم الرُتب، كي يقال: إنـّه وجد تنجّز في الرتبة السابقة، ولا تصل النوبة إلى التنجّز في الرتبة اللاحقة، وإنـّما ظرفه هو الزمان، وهما في زمان واحد.

والخلاصة: أنّ هناك فرقاً بين التنجّز أوالحجّيّة، وبين التقدّم الرتبي مثلاً، فالثاني من أحكام الرتب، فيكون ظرفه عالم الرتب، فحينما نقول: إنّ العلّة مقدّمة على المعلول يكون ظرف هذا التقدّم هو عالم الرتب لا الزمان، وأمـّا في ظرف الزمان فالعلّة والمعلول متقارنان. أمـّا التنجيز وعدمه أو الحجّيّة وعدمها فهي اُمور زمانية لا يعقل فيها تقدّم وتأخّر إلاّ في ظرف الزمان(1).


(1) هذا إذا كان المقصود في هذا الوجه الاستفادة من مجرّد كون العلمين طوليين، وكون أحدهما معلولاً للآخر.

وأمـّا إذا كان مقصوده دعوى الطولية بين نفس التنجيزين، فهو يقول: صحيح أنّ التنجيز ليس من أحكام عالم الرتب، لكن يوجد بين نفس التنجيزين ترتّب وطولية، أي: أنّ أحدهما وليد للآخر، فتنجيز العلم الإجماليّ الثاني وليد للعلم الثاني، الذي هو وليد لتنجيز العلم الأوّل، ومن المعلوم: أنّ المنجّز بما هو منجّز لا يمكن أن يتنجّز مرّة اُخرى، فالطرف المشترك بين العلمين لا يمكن أن يتنجّز بالعلم الثاني. فجوابه بعد فرض تسليم كفاية ذلك في انحلال العلم الثاني هو ما ورد في غاية الفكر لاُستاذنا الشهيد (رحمه الله)(1) من أنّ العلم الإجماليّ الثاني ليس في طول تنجيز العلم الإجماليّ الأوّل للطرف المشترك، وإنـّما هو في طول تنجيزه لسقوط الأصل الحاكم، وهو الطرف الآخر، فلا موجب لفرض كون التنجيز الذي يكسبه الطرف المشترك من العلم الثاني في طول التنجيز الذي يكسبه من العلم الأوّل.


(1) ص 73 ـ 74 حسب الطبعة التي هي من منشورات الهاشمي المطبوعة بمطبعة نمونه في قم.

128

وما مضى من السيّد الاُستاذ: من التعبير في الجواب عن شبهة كون الطولية منجية للأصل في المقام عن التعارض بـ (كون التنجيز أمراً زمانياً لا رتبياً) إن قصد به الجواب عن هذا الوجه، فهو صحيح، وإلاّ فلا موقع له(1).

الوجه الخامس: وهو أحسن الوجوه وأمتنها، هو أنّ تعارض الأصلين إنـّما يكون إذا كانا في ذاتهما متساويين اقتضاءً ومحذوراً. أمـّا تساويهما اقتضاءً، فبأن يكون انطباق موضوع دليل الأصل، وهو عدم العلم مثلاً ثابتاً بالنسبة إلى كلّ واحد منهما، وأمـّا تساويهما محذوراً فباعتبار أنـّه يلزم من مجموعهما الترخيص في المخالفة القطعيّة مثلاً، ومن إجراء أحدهما دون الآخر محذور الترجيح بلا مرجح، ومحذور الترجيح نسبته إلى كليهما على حدّ سواء، فإن كان ممكناً فهو ممكن في كلّ واحد منهما، وإن كان محذوراً و محالاً فهو كذلك بالنسبة لكلّ واحد منهما. أمـّا إذا وجد في أحدهما محذور آخر مستقلّ غير محذور الترجيح بلا مرجّح، فليس الأصلان متساويين محذوراً، فلا معنى للمعارضة بينهما.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ جريان الأصل العرضي في الطرف الثاني دون الأصل الطولي في الطرف الأوّل، أو الأصل العرضي فيه، ليس فيه محذور عدا محذور الترجيح بلا مرجح. وأمـّا الأصل الطولي فبقطع النظر عن محذور الترجيح بلا مرجح يستحيل جريانه؛ وذلك لأنـّه إذا صار البناء على إسقاط الأصل العرضي في الطرف الثاني في مقابل معارضه، لفرض عدم المحذور في الترجيح بلا مرجّح، فعندئذ يدور الأمر بين تقديم الأصل الطولي عليه وتقديم الأصل الحاكم العرضي عليه، ولا يمكننا أنْ نختار الشقّ الأوّل من هذين الشقّين، وهو تقديم الأصل الطولي عليه، لا لكون ترجيحه على الشقّ الثاني مستلزماً لمحذور الترجيح بلا مرجّح، بل لأنـّه إذا دار الأمر بين تقديم الأصل الطولي وتقديم الأصل العرضي الحاكم فحتماً يجب تقديم الأصل العرضي الحاكم، ولا تصل النوبة إلى تقديم الأصل الطولي؛ لأنّ المفروض حكومة الأصل العرضي عليه، وتقدّمه عليه، فإذا كان الأصل الطولي يختصّ بمحذور مستقلٍّ بقطع النظر عن محذور الترجيح بلا مرجح الذي نسبته اليهما على حد سواء، فلا


(1) يأتي شرح ذلك ـ إن شاء الله ـ في مسألة ملاقي أحد أطراف العلم الإجماليّ.

129

يصلح للمعارضة مع الأصل العرضي في الطرف الثاني، بل يكون الأصل العرضي مقدّماً عليه، من دون أن يلزم من هذا التقديم ترجيح بلا مرجّح، فهو في طول سقوطه، وإذا كان كذلك فبعد سقوطه بالتعارض مع الأصل الحاكم تصل النوبة إلى هذا الأصل الطولي.

والجواب عن هذا الوجه - وهو جواب عن جملة من الوجوه السابقة ـ أيضاً - : هو أنّ حجّيّة الظهورات الثلاثة، أعني: ظهور دليل الأصل في الأصل الحاكم، وكذا الأصل العرضي الآخر وكذلك الأصل الطولي، لو كانت أثراً لها بقوانين تكوينية، لصحّ ما عرفته من الوجه، ولأثّر المؤثّر الطولي لا محالة بحكم قوانين الطبيعة الصارمة، كما أنـّه لو كانت الحجّيّة أثراً شرعياً يتمشّى مع موضوعاتها تمشّي التاثيرات التكوينية، بنفس الترتيب الدقيق الذي عرفته في هذا الوجه، كانت ـ أيضاً ـ من المتعيّن حجّيّة الأصل الطولي، لكنّ الأمر ليس كذلك، وإنـّما الحجّيّة أمر ثابت بالارتكاز العقلائي، فلابدّ من الرجوع إلى الارتكاز العقلائي؛ لنرى أنـّه لو لاحظ العرف والعقلاء مثل هذه الظهورات الثلاثة فهل يحصّل منها شيئاً، ويبني على حجّيّته، أو يراها ظهورات متعارضة ومتكاذبة يتحيّر فيما بينها، فيحكم بتعارض الجميع وتساقطها؟

والصحيح: هو الثاني، وتأخّر الأصل الطولي عن سقوط الأصل العرضي في الطرف الثاني بمثل هذا التدقيق العقلي، لا يؤثّر في بناء العرف والعقلاء وارتكازهم. نعم، لو تمّ الوجه الأوّل لكان عرفياً.

وقد تحصلّ من جميع ما ذكرناه أنّ الأخذ بالأصل الطولي بعد رفع اليد عن الأصلين العرضيين إذا لم يكونا متسانخين، ممّا لا أساس له لبطلان جميع الوجوه في المقام.

إن قلت: أيّ فرق بين الاُصول العملية والاُصول اللفظية، حيث انكرتم الرجوع إلى الأصل الطولي بعد سقوط الأصلين العرضيين، في حين أنـّكم تبنون على ذلك في الاُصول اللفظية، فتقولون: إنـّه إذا كان لدينا خاصّان متعارضان مع عموم فوقاني نرجع بعد تعارض الخاصّين وتساقطهما إلى العموم الفوقاني، مع أنّ نفس الخارطة الموجودة في الاُصول العملية موجدة في الاُصول اللفظية، فكما أنـّه كان فيما نحن فيه أصلان متوافقان في أحد الطرفين، وأصل مخالف في الطرف الآخر، وأحد الاصلين المتوافقين طولي، ولم تقبلوا الرجوع إلى الأصل الطولي، بعد سقوط الأصل المخالف

130

بالمعارضة لما في عرضه؛ لذلك لو ورد: (أكرم كلّ عالم)، وورد: (أكرم زيداً العالم)، وورد: (لا تكرم زيداً العالم)، ففي أحد الطرفين يوجد الخاصّ الأوّل مع أصالة العموم، وهما متوافقان، وفي الطرف الآخر يوجد الخاصّ الثاني، وهو يخالفهما، وأصالة العموم أصل طولي، فلماذا قبلتم الرجوع إلى أصالة العموم بعد تعارض الخاصّين وتساقطهما(1)؟

قلت: الفرق هو أنّ الأصل الطولي فيما نحن فيه لم يكن في طول سقوط الأصل العرضي المخالف، إلاّ بالوجه الخامس، الذي قلنا: إنـّه ليس عرفياً، وإنـّما كان في طول سقوط الأصل العرضي الموافق له، وأمـّا في مثال الخاصّين مع أصالة العموم، فالامر بالعكس، فإن أصالة العموم تكون في طول سقوط الخاصّ المخالف، لا في طول سقوط الخاصّ الموافق له، وكونه في طول سقوط الخاصّ المخالف له مقبول منّا، وعرفاً، فإنّ العرف والعقلاء يرون أنّ أصالة العموم إنـّما تجري لو لم يكن هناك مخصّص للعامّ حجّة بقطع النظر عن العامّ، ومع وجوده لا تصل النوبة إلى العامّ، وإذا كان الأمر كذلك، فبعد سقوط الخاصّ عن الحجّيّة، تصل النوبة إلى العامّ، وترى أنّ العقلاء بانون على هذا، أعني: الرجوع إلى العامّ بعد سقوط الخاصّ بالمعارض، والنكتة في ذلك ما ذكرناه.

ثمّ إنّ تمام ما ذكرناه إنـّما يكون له موضوع بناءً على ما هو مبنى الأصحاب من حكومة بعض الاُصول على بعض مع كونها متوافقة. وأمـّا بناءً على مبنانا -على ما سيأتي تحقيقه إن شاء الله في بحث تعارض الاُصول، من أنّ الاُصول المتوافقة ليست لبعضها حكومة على بعض، وإنـّما يقدّم بعض الاُصول على بعض في الاُصول المتنافية، حيث يكون بعضها قرينة على إرادة خلاف الظاهر من دليل البعض الآخر، وهذه القرينة غير موجودة لدى الموافقة- فلا يبقى موضوع لهذا البحث، وتصبح الاُصول الثلاثة النافية كلّها في عرض واحد، وتتساقط بالتعارض.

وقد تنقّح من تمام ما ذكرناه أنـّه في الصورة الاُولى، وهي فرض اختصاص أحد الأطراف في نفسه بالأصل النافي، لا إشكال ثبوتاً في جريان الأصل النافي، لأنّ المحذور الثبوتي هو المعارضة، وهي غير موجودة. وأمـّا إثباتاً فإنـّما يجري أصل


(1) على ما هو المشهور من مرجعيّة العامّ في مثل هذا الفرض، وإن مضى منّا النقاش فيه في المجلّد السابق، راجع ص 204-208 من ذاك المجلد.

131

الحلّ والاستصحاب، ويلحق به كلّ الاُصول التي فيها جهة الكاشفية كقاعدة الفراغ، واليد، والتجاوز، وأصالة الصحة، ونحو ذلك، ولا تجري أصالة البراءة ونحوها كاصالة الطهارة، فإنّ قوله عليه السلام : «كلّ شيء طاهر حتى تعرف أنـّه قذر»، يكون كقوله: «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»، وليست فيهما جهة كشف، وليس لهمانظر إلى جهة العلم الإجماليّ.

ولا يخفى أنـّه لا فرق في هذه الصورة بين أن يكون عدم جريان الأصل النافي في أحد الطرفين بقطع النظر عن المعارضة، من باب أنـّه لا يجري فيه الأصل حتّى لو كان الشكّ فيه شكّاً بدوياً، كما في مورد الشكّ في الامتثال، كما لو علم إجمالا بحرمة هذا الشيء، أو عدم الإتيان بالصلاة الحاضرة، ففي طرف الصلاة لا يوجد أصل ناف؛ إذ حتى لو كان الشك فيه بدوياّ لما جرى أصل ناف؛ لأنّ الشكّ في الامتثال، أو يكون عدم جريانه بقطع النظر عن المعارضة من باب أنـّه ليس فيه أصل ناف عدا مثل أصل البراءة الذي لا نظر له في نفسه إلى فرض العلم الإجماليّ، وكان الطرف الآخر مجرىً لمثل الاستصحاب أو أصالة الحلّ.

وفي الصورة الثانية: وهي حكومة أصل مثبت على الأصل النافي في أحد الطرفين، لا إشكال ـ أيضاً ـ ثبوتاً في جريان الأصل النافي في الطرف الآخر. وأمـّا إثباتاً فيأتي ـ أيضاً ـ نفس التفصيل الذي عرفته في الصورة السابقة.

وفي الصورة الثالثة: وهي وجود أصل ناف طولي في أحد الطرفين، إذا كان الأصل العرضي في الطرف الثاني غير متسانخ لأحد الأصلين الآخرين، فمحذور المعارضة موجود، وإن كان متسانخاً لهما فالكلّ يسقط بالإجمال، وإن كان متسانخاً لأحدهما فالآخر لا محذور ثبوتاً في جريانه. وأمـّا إثباتاً فيأتي التفصيل الذي عرفته في الصورتين السابقتين.

 

تأثير الاقتضاء والعليّة في هذا البحث:

إذا عرفت هذا كلّه نرجع إلى كلام المحقّق النائيني (رحمه الله) في إنكار الثمرة خارجاً بين العلّيّة والاقتضاء، وهي جريان الأصل الواحد عند عدم المعارض على الاقتضاء دون العلية، فذكر في المقام ما مقصوده -والله العالم- هذا، وإنْ كانت عبارة التقرير قاصرة عن ذلك، وهو: أنـّه لو اُريد إجراء الأصل النافي في أحد الطرفين،