627

 

الإخبار عن حدس:

الجهة السابعة: في أنّ أدلّة حجّيّة خبر الثقة هل تشمل الإخبار عن حدس، أو لا؟ والصحيح هو الثاني؛ إذ مضى أنّ الدليل الصحيح على حجّيّة خبر الواحد منحصر في السيرة والسنّة، وشيء من هذين الدليلين لا يشمل الخبر الحدسيّ:

أمّا السيرة: فلا يمكن إثبات حجّيّة الخبر الحدسيّ بها سواء قرّبناها بالتقريب المشهور، أو قرّبناها بالتقريب الذي اختصصنا به.

أمّا التقريب المشهور ـ وهو: أنّ العقلاء في كلّ زمان ومكان يعتمدون على خبر الثقة ويعملون به، ولم يردع الشارع عنه ـ: فاختصاصه بالإخبار عن حسّ واضح، فإنّ سيرة العقلاء على ذلك مرجعها إلى هذا الارتكاز العقلائيّ العامّ الذي نجده في أنفسنا، ولا نشكّ في أنّ هذا الارتكاز مختصّ بالخبر الحسّيّ. وأمّا الخبر الحدسيّ فالمرتكز هو عدم الاعتماد عليه بما هو خبر وإن كان المرتكز الاعتماد عليه للعامي بما هو فتوى من باب رجوع الجاهل إلى العالم، فنحن لسنا جازمين بشمول السيرة بهذا المعنى للخبر الحدسيّ ولا شاكّين في ذلك، بل جازمون بالخلاف.

وأمّا التقريب الذي اختصصنا به ـ وهو: أنّ أصحاب الأئمّة إمّا كانوا يعملون بما كان داخلاً تحت ابتلائهم من أخبار الثقات، أو لا: وعلى الثاني: إمّا أنّهم سألوا المعصوم(عليه السلام) عن حكمه وأجابهم الإمام بالنفي، أو لا، وعلى تقدير الإجابة بالنفي: إمّا أنّه وصلنا الجواب، أو لا. وجميع الشقوق الأخيرة باطل بالبيان الذي أسلفناه، فتعيّن الأوّل ـ: فأيضاً لا يثبت أكثر من حجّيّة الخبر الحسّيّ، فإنّ الذي كان داخلاً تحت ابتلائهم وكان عليه مدار الاستنباط كانت أخباراً حسّيّة، والخبر

628

الحدسيّ لم يكن داخلاً تحت ابتلائهم بما هو خبر(1) وإن كان داخلاً تحت الابتلاء بما هو فتوى.

وأمّا السنّة: فقد مضى أنّ حجّيّة خبر الثقة تثبت من السنّة بحديث «العمريّ وابنه ثقتان» وحده، أو بضمّ أحاديث اُخرى إليه، ولو كان قد اقتصر في هذا الحديث على قوله: «فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان» أمكن القول بشموله للخبر الحدسيّ، بدعوى: أنّ الأداء عنه مطلق يشمل الأداء عن حسّ والأداء عن حدس، لكنّه معلّل بقوله: «فإنّهما الثقتان المأمونان»، وقد مضى أنّ ظاهر التعليل في مثل المقام هو التعليل بأمر عقلائيّ لا بأمر تعبّديّ صرف. ومن المعلوم أنّ الوثاقة في باب الإخبار إنّما تكون في نظر العقلاء في الخبر الحسّيّ؛ لكون الثقة بعيداً فيه عن الكذب؛ لوثاقته، وعن الخطأ؛ لحسّيّة الخبر. وأمّا الخبر الحدسيّ فتكثر الأخطاء فيه، ولا يعدّ مخبره ثقة فيما قاله بما هو خبر يحتاج عالم آخر إلى الأخذ به، وإن كان يعدّ ثقة في ذلك بما هو فتوى يحتاج إليها العامي، فيدلّ هذا الحديث على حجّيّة الفتوى للعامي، ولا يدلّ على حجّيّة الخبر الحدسيّ لفقيه آخر. أمّا حمل الحديث على فرض المخبر عن حدس ثقة في خبر بما هو خبر تعبّداً، فهو خلف ما قلناه: من أنّ ظاهر التعليل هو التعليل بأمر عقلائيّ لا بأمر تعبّديّ صِرف(2).

 


(1) لعلّ المقصود: إنّ الخبر الحدسيّ بما أنّ حجّيّته بما هو خبر مرفوضة في نظر العقلاء فلا يوجد حتّى التحيّر والشكّ لديهم حوله، فعدم كثرة السؤال والجواب ليس غريباً.

(2) هذا البيان لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في إبطال دلالة السنّة على حجّيّة خبر الثقة الحدسيّ مبتن على ما كان يعتقده وقتئذ: من أنّ الحديث الوحيد القطعيّ أو شبه القطعيّ من أحاديث حجّيّة خبر الثقة هو حديث «العمريّ وابنه ثقتان».

629

ثُمّ إذا شككنا في خبر مّا أنّه خبر عن حسّ أو عن حدس، وكان المخبر به ممّا يقبل عادة إدراكه بالحسّ، فالظاهر أنّه لم يستشكل أحد ـ ولا ينبغي الإشكال ـ في البناء على الحسّيّة، وحجّيّة خبر الواحد.

والوجه في ذلك في نظر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) هو بناء العقلاء على أصالة الحسّ لدى دوران الأمر بينه وبين الحدس.

وتحقيق الكلام في هذا المقام هو: أنّ بناء العقلاء على الحسّ قائم على أساس نكتة الكشف في نفس الخبر، توضيح ذلك: أنّه مضى أنّ البناء العقلائيّ لا يقوم على أساس أمر تعبّديّ صرف بأن يرجّحوا أحد طرفي الاحتمال المتساويين على الآخر تعبّداً، بل يقوم على أساس ثبوت الكاشف في المرتبة السابقة، ولمّا كان الغالب في الأخبار التي من شأنها إدراكها بالحسّ كونها بداعي الإخبار عن حسّ لا عن حدس تحقّق للخبر ظهور تصديقيّ سياقيّ في كونه بهذا الداعي، نظير أنّ غلبة كون مثل قوله: (زيد قائم) بداعي الإخبار عن ثبوت المحمول للموضوع أوجبت ظهوراً تصديقيّاً سياقيّاً للكلام في ذلك، فالمخبر حينما يخبر عن شيء من شأنه إدراكه حسّاً كموت زيد، يكون كأنّه قال مثلاً: (إنّي أدركت حسّاً أنّ زيداً


أمّا بناءً على كون التوقيع الشريف أيضاً كذلك ـ وهو قوله: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا» ـ فهذا التقريب لإبطال الاستدلال لا يأتي فيه كما هو واضح، فينحصر أمر إبطال الاستدلال به ببيان آخر مشترك بين الحديثين، وهو دعوى: أنّ رفض العقلاء لحجيّة الخبر الحدسيّ واستبعادهم لها يوجب عدم تماميّة الإطلاق في نظر العرف للدليل اللفظيّ الدالّ على الحجّيّة، فلا يكون الدليل اللفظيّ شاملاً للخبر الحدسيّ، ففرق بين أن نفترض أنّ العقلاء لم يجعلوه حجّة ولكن لا يستنكرون جعله حجّة من قِبَل المولى، وبين استنكارهم لذلك. فالثاني يوجب انصراف الإطلاق بلا إشكال.

630

مات)، فإذا كان هذا المخبر ثقة اعتمدنا على ما يظهر من كلامه: من أنّ إخباره إخبار حسّيّ، فالحسّيّة في الحقيقة تثبت بضمّ قانون حجّيّة الظهور إلى حجّيّة خبر الثقة من دون أن تكون أصالة الحسّ أصلاً ثالثاً مستقلاًّ في قبال أصالة الظهور وحجّيّة خبر الثقة، فلو اكتنف الكلام بما يصلح للقرينيّة على الحدس ويوجب الإجمال سقط الدليل على حسّيّة الخبر، كما يسقط لدى إقامة القرينة الفعليّة على الحدس. أمّا لو قلنا بأصالة الحسّ كأصل مستقلّ بقطع النظر عن ظهور الكلام فأجريناها في موارد اكتناف الكلام بما يصلح للقرينيّة على الحدس ويوجب الإجمال، فهذا يعني أنّ أصالة الحسّ أصل تعبّديّ بحت، وترجيح لأحد طرفي الاحتمال المتساويين على الآخر تعبّداً غير قائم على أساس ثبوت كاشف في المرتبة السابقة، وقد قلنا: إنّ بناء العقلاء لا يقوم على أساس من هذا القبيل.

 

 

631

 

دلالة العقل على حجّيّة الخبر

الرابع: العقل. ونحن نقتصر من وجوه تقريره التي ذكرت في المقام على بيان وجه واحد، وهو: أنّنا نعلم إجمالاً بصدور كثير من الأخبار التي بأيدينا، فنعلم إجمالاً بثبوت جملة من التكاليف التي كلّفنا بها في ضمن هذه الأخبار، فيتنجّز بحكم العقل بسبب هذا العلم الإجماليّ تمام الأطراف، فيجب الأخذ بتمام هذه الأخبار(1). وهذا وإن لم يكن عبارة عن الحجّيّة الشرعيّة، وإنّما هو أخذ بالاحتياط، لكنّه متّحد نتيجة مع فرض الحجّيّة.

والكلام في تمحيص هذا الوجه يقع في مقامين:

الأوّل: أنّ هذا التقريب هل يختصّ بخصوص الأخبار التي أراد هذا المستدلّ إثبات حجّيّتها، أو يأتي في كلّ أمارة ظنّيّة: من الشهرة وغيرها ؟

والثاني: أنّ مفاد هذا الوجه لو اختصّ بالأخبار هل يتّحد نتيجة مع الحجّيّة، أو يختلف عنها نتيجة كما يختلف عنها مفهوماً.

 

الدليل العقليّ في كلّ أمارة ظنّيّة:

أمّا المقام الأوّل: فقد ذكر الشيخ الأنصاريّ(رحمه الله) في مقام النقض على المستدلّ بهذا الوجه: أنّه إن تمّ هذا لزم الأخذ بمطلق الأمارات الظنّيّة لا خصوص الأخبار


(1) أفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): أنّه لو تمّ هذا التقريب بناءً على ما اُفيد في المقام: من انحلال العلوم الثلاثة المتداخلة التي تصوّروها في المقام بعضها ببعض، واستقرار الأمر على أضيق العلوم، وهو العلم في دائرة الأخبار، فبالإمكان أن يقال: إنّ أضيق الدوائر هي دائرة الأخبار التي أثبتنا حجّيّتها بالأدلّة السابقة، أي: دائرة أخبار الثقات.

632

المقصود لهذا المستدلّ إثبات حجّيّتها؛ لوجود مثل هذا العلم الإجماليّ في مطلق الأمارات، وهو ممّا لا يلتزم به هذا المستدلّ.

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ تبعاً للمحقّق الخراسانيّ(قدس سره) بانحلال العلم الإجماليّ الكبير بالعلم في دائرة الأخبار التي يقصد إثبات حجّيّتها. وتوضيح ذلك: أنّ لنا علوماً إجماليّة ثلاثة متداخلة الأطراف: أوّلها: العلم الإجماليّ بتكاليف إلزاميّة في ضمن كلّ الشبهات. والثاني: العلم الإجماليّ بتكاليف إلزاميّة في ضمن مفاد الأمارات الظنّيّة. والثالث: العلم الإجماليّ بالتكاليف الإلزاميّة في ضمن الأخبار المنظورة لهذا المستدلّ. والعلم الأوّل ينحلّ بالثاني، والثاني ينحلّ بالثالث، فإنّ أساس الانحلال ـ على ما ذكروه في محلّه ـ هو أن لا يكون المعلوم بالعلم الكبير أزيد من المعلوم بالعلم الصغير، وهذا الشرط متوفّر في المقام، ولهذا القانون لازم مساو، وهو: أنّنا لو أخرجنا مقدار المعلوم بالعلم الصغير، وضممنا الباقي إلى باقي أطراف العلم الكبير لم يكن العلم الإجماليّ ثابتاً. والأمر فيما نحن فيه كذلك، فوزان ما نحن فيه تماماً وزان ما إذا علمنا إجمالاً بإخبار معصوم ـ مثلاً ـ بوجود أوان خمسة متنجّسة ضمن خمسين إناء، وعلمنا أيضاً بإخباره بوجود أوان خمسة متنجّسة ضمن عشرين منها الموضوعة في طرف الشرق مثلاً، وهنا لا إشكال في أنّ العلم الأوّل ينحلّ بالثاني.

أقول: التحقيق في المقام: أنّ العلم الإجماليّ الأوّل وإن كان ينحلّ بالثاني، ولكن العلم الثاني لا ينحلّ بالثالث، وليسا كالعلمين بالآنية المتنجّسة الحاصلين بمثل إخبار المعصوم.

وتوضيح ذلك: أنّ العلم المتوسّط في الحقيقة تولّد من تركيب علمين صغيرين هما في عرض واحد، وإنكار أحدهما مستلزم لإنكار الآخر؛ لأنّهما بملاك واحد: أحدهما: العلم بصدق بعض الأخبار، وهذا ملاكه استبعاد تجمّعهم على الكذب

633

بالمضعّف الكمّيّ والكيفيّ. وثانيهما: العلم بصدق بعض الشهرات مثلاً. وهذا ثابت بعين ملاك الأوّل، والنسبة بين أطراف كلّ من العلمين إلى الآخر من حيث المورد هي العموم من وجه، فمثلاً نفترض: أنّ عدد الأخبار مئة، ونعلم بصدق عشرة من المئة، وعدد الشهرات مئة، ونعلم بصدق عشرة منها، وهاتان المئتان متداخلتان في تسعين مورداً، فمجموع الموارد عبارة عن مئة وعشرة، وهي تشكّل موارد العلم المتوسّط مثلاً. وهنا نسأل القائل بانحلال العلم المتوسّط بالعلم الصغير عن أنّ هذين العلمين الصغيرين هل يحتمل انطباق تمام المعلوم بأحدهما على الآخر بأن يكون تمام العشرة الصادقة ضمن التسعين المشتركة، أو لا يحتمل ذلك ؟ فإن قلنا بالثاني لزم كون عدد المعلوم بالعلم المتوسّط أزيد من المعلوم بالعلم الصغير؛ إذ لا أقلّ ـ على هذا الفرض ـ من أن يوجد في كلّ مادّتي الافتراق صادق واحد، وإذا ضمّت العشرة الصادقة المعلومة بأحد العلمين إلى الصادق الواحد في مادّة افتراق الآخر كان المعلوم بالعلم المتوسّط عبارة عن أحد عشر مورداً، فلم ينطبق على ما نحن فيه ما جعلوه أساساً للانحلال: من عدم كون المعلوم بالعلم الكبير أزيد من المعلوم بالعلم الصغير. وإن قلنا بالأوّل ـ وهو الذي ينبغي أن يقال به في المقام؛ إذ لا وجه للعلم بعدم تصادق المعلومين ـ انطبق على ما نحن فيه ما جعلوه أساس الانحلال؛ لأنّ المعلوم بالعلم المتوسّط لا يزيد على العشرة، ولكنّه مع ذلك يستحيل الانحلال؛ إذ الانحلال بأحد العلمين الصغيرين، وخروج مادّة الافتراق للعلم الآخر عن الطرفيّة ترجيح بلا مرجّح، والانحلال بهما معاً وخروج مادّتي الافتراق عن الطرفيّة يعني تشكّل علم رابع بصدق عشرة من التسعين المشتركة، وهو خلف المفروض: من أنّ العدد الذي يقطع بصدق عشرة منه إنّما هي المئة، ولذا لم يفترض علم رابع.

وبهذا يتّضح: أنّ ما ذكروه كأساس للانحلال غير صحيح؛ لانطباقه على بعض الموارد التي لا انحلال فيها.

634

نعم، ما ذكروه من اللازم المعرّف للانحلال وعدمه ينطبق على المقام ويعطي عدم الانحلال، فإنّنا لو أفرزنا عشرة أخبار من مادّة الافتراق كان العلم الإجماليّ فيما بقي من مادّة الاجتماع ومادّة افتراق الشهرات ثابتاً على حاله. نعم، لو أفرزنا عشرة من مادّة الاجتماع انتفى العلم الإجماليّ، ولكن معرّف الانحلال عبارة عن انتفاء العلم الإجماليّ بمجرّد إفراز المعلوم بالعلم الصغير من أطراف العلم الصغير مطلقاً، أي: سواء طبّق على هذه الجملة من الأطراف، أو تلك الجملة، أو جملة ثالثة، وهكذا.

وعليه، فما جعلوه معرّفاً للانحلال واعتقدوا مساواته لتحقّق أساس الانحلال يكون أخصّ مورداً من ذاك الأساس.

ويمكن إجراء التعديل على ما جعلوه أساساً للانحلال بإضافة قيد إليه، وهو أن لا يكون العلم الكبير مستنتجاً من العلم الصغير الذي يراد حلّ الكبير به وعلم صغير آخر.

وحقيقة الأمر: أنّ العلم المتوسّط في المقام علم إجماليّ مردّد بين أقلّ وأكثر متباينين من حيث المورد، فنحن نعلم بصدق عشرة من مادّة الاجتماع، أو عشرتين من مادّتي الافتراق، أو التلفيق بينهما كأن يصدق ـ مثلاً ـ خمسة من مادّة الاجتماع، وخمستان من مادّتي الافتراق. فعلى التقدير الأوّل لا يكون المعلوم بالعلم الكبير أزيد من المعلوم بالعلم الصغير، وعلى باقي التقادير يكون أزيد منه.

ومن هنا يظهر: أنّه يمكن إجراء التعديل على ما جعلوه أساساً للانحلال، بأن يقال: إنّ أساس الانحلال هو أن لا يزيد المعلوم بالعلم الكبير على المعلوم بالعلم الصغير على جميع التقادير.

هذا. ويمكن دعوى الانحلال في المقام بتقريب آخر، وهو: أنّ العلم الإجماليّ المتوسّط ـ كما عرفت ـ مردّد بين الأقلّ والأكثر؛ إذ هو مردّد بين عشرة كلّها من

635

مادّة الاجتماع وأزيد من عشرة بعضها أو كلّها من مادّتي الافتراق، وإذا علمنا إجمالاً بعدد مردّد بين عشرة وأكثر، فهذا يعني لا محالة العلم بعشرة والشكّ في الزائد عليها. كما لو علمنا إجمالاً بوجود إناء واحد نجس بين عشرة أوان مثلاً، أو إناءين بينها، فإنّ هذا يعني العلم بنجاسة إناء واحد والشكّ في نجاسة الزائد، ونتيجة ذلك: أنّه لو عصى المكلّف وشرب الجميع، وكان يوجد في الواقع إناءان نجسان بين تلك الأواني لم يعاقب إلّا على تكليف واحد. وكذلك فيما نحن فيه لو خالف تمام المئتين لم يعاقب إلّا على عشرة. وبكلمة اُخرى: إنّ العلمين الصغيرين وإن دلّ كلّ واحد منهما على وجود تكاليف عشرة لكن لمّا كان هناك احتمال انطباق إحدى العشرتين على الاُخرى فكلاهما معاً لا يكشفان عن أزيد من عشرة تكاليف، ونتيجة ذلك: أنّه لو حصّل المكلّف القطع بموافقة عشرة تكاليف إمّا بالعمل بالأخبار المئة، أو بالعمل بالشهرات المئة لم يجب عليه الاحتياط في المئة الاُخرى؛ إذ لم يتنجّز عليه أكثر من عشرة تكاليف، وقد امتثل قطعاً عشرة تكاليف.

وهذا التقريب أنتج الانحلال، بمعنى: أنّه لو عمل أحد بالأخبار التي اُريد إثبات حجّيّتها كفاه ذلك ولم يجب عليه العمل بالشهرات، بخلاف ما مضى: من الإشكال على هذا الدليل العقليّ على لزوم العمل بالأخبار: من أنّ لازمه العمل بالشهرات أيضاً. نعم، لم ينتج هذا التقريب ما أراده بالضبط المستدلّ بهذا الدليل العقليّ: من لزوم العمل تعييناً بهذه الأخبار، بل ثبت أمر بين الأمرين، وهو التخيير بين العمل بالشهرات المئة، أو الأخبار المئة.

والتحقيق: بطلان هذا التقريب للانحلال أيضاً سواء اُريد به الانحلال الحقيقيّ، أو الانحلال الحكميّ:

أمّا الأوّل: فبطلانه واضح، فإنّ دعوى الانحلال الحقيقيّ إنّما يكون لها مجال فيما لو كان الأقلّ موجوداً بتمامه في ضمن الأكثر، فيقال: إنّ العلم الإجماليّ

636

بالأقلّ أو الأكثر منحلّ حقيقة إلى العلم بالأقلّ والشكّ في الزائد، أمّا لو لم يكن كذلك كما لو علمنا إجمالاً بنجاسة الإناء الأبيض أو الإناءين الأسودين، فمن الواضح أنّه لا مجال للانحلال في ذلك لمجرّد أنّ الواحد أقلّ من الاثنين مادام الواحد الذي أصبح طرفاً للعلم الإجماليّ غير موجود ضمن الاثنين، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ الأمر دائر بين عشرة من مادّة الاجتماع، وعشرتين من مادّتي الافتراق مثلاً، فليس الأقلّ بتمامه موجوداً في ضمن الأكثر كي ينحلّ العلم الإجماليّ انحلالاً حقيقيّاً.

وأمّا الثاني ـ وهو فرض الانحلال الحكميّ ـ: فهو إنّما يكون بدعوى عدم ابتلاء الأصل النافي المزمع إجراؤه بالمعارض، كما إذا كان بعض أطراف العلم الإجماليّ بالنجاسة مستصحب النجاسة، ولم يكن ذاك البعض بأقلّ من مقدار المعلوم بالإجمال، فقد أصبحت أصالة الطهارة في باقي الأطراف خالية عن المعارض.

وقد يقال في المقام: إنّ أصالة البراءة عن الزائد على التكاليف العشرة لا معارض لها، كما هو الحال فيما لو علمنا بنجاسة إناء واحد من الأواني العشرة، واحتملنا نجاسة أكثر من واحد، فإجراء أصالة البراءة والطهارة في كلّ واحد بالخصوص وإن كان معارضاً بإجرائها في الباقي، ولذا يجب الاجتناب عن الجميع، لكن إجراء الأصل في عنوان الزائد على الواحد لا مانع منه، ونتيجته ـ كما عرفت ـ عدم تنجّز التكليف أزيد من مقدار واحد، فكذلك الحال في المقام، فأصل البراءة في كلّ مورد بالخصوص وإن كان مبتلى بالمعارضة، لكن البراءة عن الزائد على التكاليف العشرة لا معارض لها، وبالتالي فالتكليف لا يتنجّز بأزيد من مقدار عشرة، فعليه أن يحتاط إلى حدّ يحصل له العلم بامتثال عشرة تكاليف وليس عليه الاحتياط بأكثر من ذلك.

637

والجواب: أنّ قياس المقام بما عرفته من مثال الأواني قياس مع الفارق، فإنّ البراءة عن الزائد على الواحد ـ أي: عن التسعة الاُخرى في مثال الأواني ـ لم تكن معارضة بالبراءة عن أيّ فرد بالخصوص، أو فردين بالخصوص، أو ثلاثة، وهكذا إلى تسعة أفراد بالخصوص؛ لاحتمال كون ذاك الفرد أو تلك الأفراد المعيّنة داخلة في نفس التسعة المردّدة، فإجراء البراءة عنها لا يعارض البراءة عن التسعة، أي: عمّا عدا الواحد المعلوم. وبكلمة اُخرى: إنّ البراءة عن الزائد عن الواحد المعلوم إجمالاً لو ضمّت إلى أيّ واحدة من البراءات في الأفراد لم ينتج هذا الضمّ ترخيصاً في المخالفة القطعيّة. وأمّا فيما نحن فيه فالبراءة عمّا عدا العشرة تعارض البراءة عن التسعين المشتركة بين المئتين؛ لأنّ ضمّ البراءة عمّا عدا العشرة إلى البراءة عن التسعين المشتركة يوجب الترخيص القطعيّ في المخالفة.

وتوضيح ذلك: أنّ الزائد على العشرة وهي المئة التي تجري فيها البراءة إن فرض في علم الله منطبقاً على ما عدا عشرة من مادّة الاجتماع، فالبراءة عنها مع البراءة عن التسعين المشتركة تستوعبان كلّ مساحة العلم الإجماليّ من دائرة الأخبار ودائرة الشهرات، وهذا يعني مخالفة الواقع، وإن كان في علم الله منطبقاً على ما عدا العشرة التي يكون بعضها أو كلّها من مادّة الافتراق لزم أيضاً مخالفة الواقع؛ لأنّ المئة المرخّص فيها تشتمل حتماً على أكثر من تسعين خبراً، أو أكثر من تسعين شهرة، مع أنّنا نعلم ـ بحسب الفرض ـ أنّ الأخبار التي تزيد على التسعين، وكذلك الشهرات التي تزيد على التسعين يكون فيها ما هو صادق حتماً.

 

الدليل العقليّ والحجّيّة الشرعيّة:

وأمّا المقام الثاني ـ وهو: أنّ هذا الوجه لو فرض مختصّاً بباب الأخبار فهل يتّحد في النتائج والثمرات مع فرض الحجّيّة الشرعيّة للأخبار بحيث لا يبقى أثر

638

عمليّ بين فرض الإيمان بالحجّيّة وعدمه، أو لا؟ ـ: فهذا البحث في الحقيقة منعقد لبيان ما هي الوظيفة لدى معارضة الخبر لأصل عمليّ كالبراءة، والاحتياط، أو أصل لفظيّ، كأصالة العموم، وأصالة الحقيقة في الكتاب والسنّة القطعيّة، أو لخبر آخر مثله. فهناك مباحث ثلاثة:

 

مع الأصل العمليّ الفوقانيّ:

المبحث الأوّل: في ملاحظة حال هذا الخبر مع أصل عمليّ فوقانيّ. أفاد السيّد الاُستاذ في المقام: إنّهما إن كانا متوافقين إثباتاً أو نفياً فلا ثمرة بين القول بالحجّيّة وعدمه إلّا من حيث إثبات اللوازم وعدمه؛ إذ على أيّ حال سنعمل وفق ذلك الخبر، إمّا لحجّيّته، أو لحجّيّة الأصل. وإن كانا متخالفين: فإن كان الخبر إلزاميّاً، والأصل ترخيصيّاً، فلا ثمرة أيضاً بين القولين، فإنّه على أيّ حال يقدّم الخبر على الأصل، إمّا لحجّيّته وحكومته على الأصل، أو للعلم الإجماليّ الموجب لتساقط الاُصول المرخّصة في الأطراف. وإن كان الخبر ترخيصيّاً، والأصل إلزاميّاً ظهرت الثمرة بين القولين؛ إذ على القول بالحجّيّة يتقدّم الخبر على الأصل، وعلى القول بعدم الحجّيّة لابدّ من العمل بالأصل الإلزاميّ؛ إذ لا مبرّر لسقوطه.

أقول: إنّنا قبل أن نشرح كلامنا حول هذا الموضوع نقدّم مقدّمة في المقام، وهي: أنّ لنا في الحقيقة علماً إجماليّاً في دائرة الأخبار الترخيصيّة، وهذا لا أثر له لا بالنسبة لتنجيز الواقع؛ لأنّ التنجيز في باب الترخيص لا معنى له، ولا بالنسبة لإيقاع المعارضة بين الاُصول في الأطراف، فإنّ تلك الاُصول لو كانت موافقة للعلم الإجماليّ فلا معنى للتعارض بينهما، ولو كانت مخالفة له فالاُصول المثبتة للإلزام لا تتعارض بالعلم الإجماليّ بالخلاف، ولا منافاة بين العلم بترخيص واقعيّ، ولزوم الاجتناب في تمام الأطراف ظاهراً، ولا فرق في ذلك بين ما جرى

639

على لسان الأصحاب تسميته بالأصل التنزيليّ وغيره.

إذا عرفت ذلك قلنا: تارةً نتكلّم في الخبر الموافق للأصل، واُخرى نتكلّم في الخبر المخالف له:

أمّا الخبر الموافق للأصل فإمّا أن يكون هو وأصله الفوقانيّ ترخيصيّين. وإمّا أن يكونا إلزاميّين:

فإن كانا ترخيصيّين فالعمل بالنسبة للمدلول المطابقيّ يكون موافقاً للخبر سواء قلنا بحجّيّة الخبر أو لا، فلا ثمرة في المقام بين القولين؛ إذ على الحجّيّة نعمل به، وعلى عدم الحجّيّة يكون عملنا على طبقه، فإنّ العلم الإجماليّ الثاني وإن لم يكن مؤثّراً في العمل على طبقه كما عرفت، لكنّنا سنعمل على أيّ حال وفق الأصل الفوقانيّ الموافق له بحسب الفرض. هذا بلحاظ المدلول المطابقيّ.

وأمّا بالنسبة للّوازم: فإن كان اللازم ترخيصيّاً: لاحظنا هذا اللازم مع الأصل الفوقانيّ في مورد هذا اللازم، فإن كان الأصل إلزاميّاً ظهرت الثمرة بين القولين؛ إذ على الحجّيّة نأخذ بالخبر، وعلى عدم الحجّيّة نأخذ بالأصل على تفصيل يأتي، ولا منافاة بين أن يكون الأصل في طرف المدلول المطابقيّ ترخيصيّاً وفي طرف اللازم إلزاميّاً؛ إذ لا محذور في التفكيك بين اللوازم في باب الاُصول.

وإن كان الأصل في طرف اللازم ترخيصيّاً كان العمل على أيّ حال موافقاً لهذا المدلول الإلزاميّ.

وإن كان اللازم إلزاميّاً: فإن كان أصله إلزاميّاً فعلى أيّ حال لابدّ من الأخذ بالإلزام، وإن كان أصله ترخيصيّاً قلنا: إنّ هذا اللازم في الغالب لا يكون منجّزاً من قبل العلم الإجماليّ في دائرة الأخبار، فإنّه وإن كان إلزاميّاً وكان طرفاً مع ملزومه للعلم الإجماليّ الثاني، لكن هذا العلم الإجماليّ أصبح علماً بالجامع بين الإلزام وغير الإلزام ولا أثر له. نعم، قد يفرض هذا اللازم باعتباره إلزاميّاً طرفاً أيضاً للعلم

640

الإجماليّ الأوّل، وهو العلم الإجماليّ بجملة من الإلزامات في الأخبار، لكنّه في الغالب لا يصلح طرفاً لذلك العلم، والملاك لطرفيّته له وعدمه موكول إلى بحث حساب الاحتمالات(1)، والضابط الإنّيّ لذلك هو: أنّنا لو رأينا أنّه لا يختلف الحال بذلك ـ وهو الغالب ـ فليس طرفاً للعلم الإجماليّ.

هذا كلّه فيما إذا كان المدلول المطابقيّ مع الأصل الفوقانيّ في مورده ترخيصيّين.

وأمّا إذا كانا إلزاميّين فلا تظهر ثمرة بين القولين بحسب المنطوق، فإنّه على أيّ حال يكون المدلول المطابقيّ منجّزاً إمّا بلحاظ حجّيّة الخبر، أو بلحاظ الأصل الإلزاميّ. وأمّا لازمه: فإن كان إلزاميّاً فلابدّ من الأخذ به حتّى على فرض عدم


(1) إن كان هناك مضعّف كيفيّ لاحتمال تكثّر الكذب يشمل الأخبار الإلزاميّة في مدلولها المطابقيّ، ومثل هذا الخبر الترخيصيّ الذي كان لازمه إلزاميّاً، ولا يشمل الأخبار الترخيصيّة التي ليس لها لازم إلزاميّ، أصبح هذا طرفاً للعلم الإجماليّ الأوّل بشرط أن تكون المضعّفات الكمّيّة الناتجة عن إضافة الأخبار الترخيصيّة التي لها مدلول التزاميّ إلزاميّ مع المضعّف الكيفيّ الشامل لتلك الأخبار كافية لتوسّع عدد المعلوم بالإجمال. أمّا لو لم يكن مضعّف كيفيّ من هذا القبيل، فالمضعّف الكيفيّ الشامل لجميع الأخبار الإلزاميّة والترخيصيّة ليس صالحاً لإيجاد علم أو اطمئنان إجماليّ خاصّ بالأخبار الإلزاميّة، فلا يكون هذا الخبر طرفاً لعلم إجماليّ في دائرة الأخبار الإلزاميّة. ولو كان مضعّف كيفيّ من هذا القبيل ولكن لم يكن بإضافة المضعّفات الكمّيّة الناجمة عن إضافة تلك الأخبار كافياً لتوسيع عدد المعلوم بالإجمال، فهذا أيضاً لا يحقّق طرفيّة هذا الخبر للعلم الإجماليّ الأوّل. وأمّا طرفيّته للاطمئنان الإجماليّ بالإلزام الناشئ من مجرّد المضعّف الكمّيّ فالصحيح أنّ الاطمئنان الإجماليّ الناشئ من مجرّد التجميع العدديّ للمحتملات ليس منجّزاً لدى العقلاء، وإنّما قيمته نفس قيمة الاحتمالات التي تكون بمجموعها مساوية للاطمئنان.

641

الحجّيّة، وإن فرض الأصل الجاري بالنسبة له نافياً فإنّه توأماً مع ملزومه طرف للعلم الإجماليّ الأوّل، فينجّز به لا محالة، فلا ثمرة بلحاظه بين القولين. وإن كان ترخيصيّاً: فإن كان الأصل الجاري بالنسبة لمورده أيضاً ترخيصيّاً فلا ثمرة أيضاً بين القولين، فإنّه على الحجّيّة نأخذ به، وعلى عدم الحجّيّة وإن كنّا لا نأخذ به بالرغم من طرفيّته للعلم الأوّل؛ لأنّ العلم الإجماليّ لا ينجّز الترخيصيّات، لكنّنا نأخذ بما يطابقه من الأصل. وإن كان الأصل إلزاميّاً ظهرت الثمرة؛ لأنّه بناءً على الحجّيّة نأخذ بالترخيص، أمّا بناءً على عدم الحجّيّة فالعلم الإجماليّ لا يؤثّر بالنسبة للطرف الترخيصيّ ولا يسقط أصله عن الحجّيّة. إذن فمادام الخبر غير حجّة لابدّ من الأخذ بالأصل على تفصيل يأتي.

هذا تمام الكلام في الخبر الموافق للأصل.

وأمّا الخبر المخالف للأصل الفوقانيّ فله ثلاث صور، فإنّه إمّا أن يكون إلزاميّاً والأصل الفوقانيّ ترخيصيّ، أو العكس، أو أنّهما إلزاميّان متخالفان:

أمّا الصورة الاُولى ـ وهي فرض كون الخبر إلزاميّاً والأصل ترخيصيّاً ـ: فتحقيق الحال فيها: أنّ هذا الخبر طرف للعلم الإجماليّ الأوّل وهو علم بالإلزام، فإن فرض وجود الأصل النافي في تمام أطراف ذلك العلم الإجماليّ تساقطت الاُصول، وكان مفاد هذا الخبر منجّزاً بالعلم الإجماليّ، وإلّا فعلى ما هو الحقّ: من صحّة جريان الأصل النافي المختصّ ببعض أطراف العلم الإجماليّ، لا يكون العلم الإجماليّ منجّزاً لمفاد هذا الخبر، ويختصّ تنجيزه بالموارد التي لا يوجد فيها أصل ناف. وكأنّ صاحب الدليل العقليّ الماضي ذكره يرى وجود الأصل النافي في تمام الأطراف، ولهذا قال بلزوم العمل بتمام تلك الأخبار؛ لتساقط الاُصول. وتحقيق الكلام في أنّه هل الأصل النافي مختصّ ببعض الأطراف أو لا ؟ يأتي ـ إن شاء الله ـ في بحث دليل الانسداد.

642

وأمّا الصورة الثانية ـ وهي فرض كون الخبر ترخيصيّاً والأصل إلزاميّاً ـ: فتحقيق الكلام فيها: أنّ هذا الأصل إمّا هو الاستصحاب، أو أصالة الاشتغال؛ لانحصار الأصل الإلزاميّ فيهما:

أمّا الاستصحاب: فمثاله: ما لو شككنا في جواز دخول الحائض في المسجد بعد النقاء وقبل الغسل، وفرضنا ورود خبر دلّ على الجواز، وقابله استصحاب الحرمة. أو شككنا في طهارة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره، وفرضنا ورود خبر دالّ على الطهارة، وقابله استصحاب النجاسة.

وتحقيق الكلام فيه: أنّه تارةً يفرض دليل الاستصحاب خبراً واحداً كسائر الأخبار الآحاد، واُخرى يفرض دليلاً قطعيّاً:

فإن فرض الأوّل: فهذا الاستصحاب ليس حجّة تعبّديّة؛ لأنّ المفروض عدم دليل على الحجّيّة الشرعيّة لخبر الواحد، لكن هذا الحكم الاستصحابيّ يكون منجّزاً بوقوعه طرفاً للعلم الإجماليّ الأوّل، فيقع الكلام في أنّه هل يوجد لدينا مؤمّن في قباله يصحّح لنا رفع اليد عن مقتضي هذا التنجّز، أو لا؟

فنقول: أمّا الخبر الدالّ على الترخيص فليس مؤمّناً، فإنّه وإن كان طرفاً للعلم الإجماليّ الثاني لكن العلم الإجماليّ ـ كما مضى ـ لا أثر له في المقام.

وأمّا البراءة العقليّة ـ لو كنّا قائلين بها في نفسها ـ فلا تكون مؤمّنة أيضاً هنا؛ لعدم جريانها مع العلم الإجماليّ بالتكليف، فإنّ البيان المأخوذ غاية لقاعدة قبح العقاب بلا بيان يشمل البيان الإجماليّ.

وأمّا البراءة الشرعيّة فتارةً نفرض أنّ دليلها أيضاً خبر الواحد، واُخرى نفرض أنّ دليلها قطعيّ:

فإن فرض أنّ دليل البراءة الشرعيّة خبر الواحد فلا يمكن التمسّك به في قبال منجّزيّة العلم الإجماليّ، فإنّ هذا الخبر الواحد حاله حال نفس الخبر الواحد الدالّ

643

على الحكم الترخيصيّ من الطهارة أو جواز دخولها في المسجد الذي عرفت أنّه لا أثر له.

وإن فرض دليلها قطعيّاً أصبح خبر الاستصحاب في مقابل هذا الدليل القطعيّ خبراً واحداً في مقابل عامّ فوقانيّ مرخّص، فيكون صغرى من صغريات ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في المبحث الثاني من معارضة خبر الواحد لعموم قطعيّ مرخّص فوقانيّ، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ أنّ هنا وجهاً للأخذ بالعموم القطعيّ الفوقانيّ مهما عارضه خبر الواحد بناءً على عدم حجّيّته، فعين ذاك الوجه يأتي فيما نحن فيه.

ولا يقال في المقام: إنّ عموم قوله: (رفع ما لا يعلمون) كما يجري في هذا المورد كذلك يجري في سائر الموارد؛ لأنّ كلّ مورد بخصوصه يكون مشكوك الحكم ومجرى لأصالة البراءة، فلماذا أخرجتم هذا المورد بالخصوص عن التعارض ؟!

فإنّه يقال: إنّنا لا نتمسّك هنا بأصالة البراءة حتّى تعارض بأصالة البراءة في سائر الموارد الاُخرى، بل نتمسّك بدليل أصالة البراءة الذي هو دليل اجتهاديّ، فإنّنا لا نريد أن نجري أصالة البراءة عن الاستصحاب، بل نقول: إنّ دليل أصالة البراءة الذي هو دليل اجتهاديّ يدلّ بالمطابقة على أصالة البراءة، وبالالتزام على نفي ضدّها الذي هو الاستصحاب؛ لأنّ الحكمين الظاهريّين إذا كانا في رتبة واحدة ـ أي: لم تكن نسبة أحدهما إلى الآخر نسبة الحكم الظاهريّ إلى الواقعيّ ـ فهما متضادّان، ولذا نقول: إنّ دليل الاستصحاب في الحقيقة تخصيص في دليل البراءة.

وإن فرض الثاني ـ أعني: كون دليل الاستصحاب دليلاً قطعيّاً ـ: فالحكم الاستصحابي منجّز لا بالعلم الإجماليّ، بل بالحجّيّة القطعيّة القائمة عليه، فإنّ

644

الحكم الظاهريّ يتنجّز بالعلم كالحكم الواقعيّ. وعندئذ لا يوجد هنا أيّ مؤمّن في مقابل هذا الاستصحاب، أمّا الخبر النافي فلا معنى لمؤمّنيّته، فإنّه طرف للعلم الإجماليّ الثاني الذي لا أثر له، وأمّا البراءة العقليّة ـ لو قلنا بها ـ فموضوعها عدم البيان، ودليل الاستصحاب بيان، وأمّا البراءة الشرعيّة: فإن كان دليلها خبر الواحد فلا يزيد على أصل الخبر النافي في المقام، وإن كان دليلها قطعيّاً فهو معارض بالدليل القطعيّ للاستصحاب، ويتقدّم دليل الاستصحاب عليه بالأخصّيّة.

وتوجد هنا شبهة في جريان الاستصحاب، وهي: أنّه لا يجوز التمسّك بالاستصحاب حتّى إذا فرض دليله قطعيّاً؛ للعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض موارد الاستصحاب، ولا يمكننا تعيين موارد الانتقاض؛ إذ لا معيّن لها إلّا أخبار الآحاد التي لم تثبت حجّيّتها بحسب الفرض.

وإن سلّمنا هذا العلم الإجماليّ قلنا: إنّ جواب هذه الشبهة إذا اقتصر في بيانها على هذا المقدار من التقريب واضح بناءً على ما هو التحقيق: من أنّ الاُصول إذا لم يلزم من جريانها في أطراف العلم الإجماليّ المخالفة العمليّة تجري بلا تعارض بلا فرق بين الاستصحاب وغيره، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ المعلوم بالإجمال ترخيصيّ.

إلّا أنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) بيّن هذه الشبهة ببيان أدقّ(1) لا يرد عليه هذا الإشكال، وهو: أن نفترض أنّنا نعلم إجمالاً بصدور بعض الأخبار الترخيصيّة المخالفة لبعض الاستصحابات الإلزاميّة، وعندئذ يمكن أن يقال: إنّ ذاك الخبر الصادر يتمتّع بحجّيّة ظهوره تعبّداً، وهذه الحجّيّة الشرعيّة المعلومة إجمالاً في هذه الدائرة حاكمة على الاستصحاب في موردها؛ إذ يحصل بها العلم الذي جعل غاية


(1) راجع مقالات الاُصول، ج 2، ص 40.

645

للاستصحاب تعبّداً، وبهذا ثبت سقوط بعض هذه الاستصحابات إجمالاً بوجود الحاكم، والتمسّك بالاستصحاب في أيّ مورد من تلك الموارد تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

وهذا البيان ـ كما ترى ـ لا يرد عليه الإشكال المتقدّم؛ إذ لم يفرض سقوط الاستصحابات بالعلم الإجماليّ بانتقاض بعض الحالات السابقة، كي يقال: إنّ العلم الإجماليّ بالانتقاض لا يضرّ بركن الاستصحاب، وهو الشكّ وعدم اليقين بالانتقاض في كلّ مورد بخصوصه، وإنّ العلم الإجماليّ بالترخيص لا يوجب تساقط الاستصحابات الملزمة، وإنّما فرض سقوط الاستصحابات بالعلم الإجماليّ بابتلاء بعضها بالحكم، وهو الحجّيّة التعبّديّة لظهور الخبر الوارد في مورده الذي هو كاليقين بالانتقاض، فالتمسّك في أيّ مورد من موارد تلك الاستصحابات بدليل الاستصحاب تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة(1).

 


(1) قد يقال: إنّ العلم الإجماليّ بوجود الحاكم على بعض تلك الاُصول إنّما يوجب سقوط ذاك البعض المعيّن عند الله ويبقى الباقي منجّزاً، وبالتالي يجب الاحتياط بالعمل بكلّ تلك الاُصول، ولعلّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) كان ينظر إلى الجواب على هذا الإشكال فذكر في مقالاته: أنّ العلم الإجماليّ بصدق بعض هذه الروايات أوجب سقوط بعض الاُصول عن الاعتبار الموجب لسقوط الجميع؛ لعدم المرجّح. فكأنّ مقصوده(رحمه الله)من هذا الكلام: أنّنا نعلم إجمالاً بوجود الحاكم على بعض هذه الاُصول المبتلاة بالمعارضة مع الروايات المرخّصة ونحتمل صدق كلّ هذه الروايات، أي: ابتلاء كلّ تلك الاُصول بالحاكم، ومعه لا يكون لمعلومنا الإجماليّ تعيّن، وهذا يوجب سقوط الكلّ؛ لعدم المرجّح.

أقول: قد يدّعى: أنّ الفهم العرفيّ لا يقبل هذا التدقيق، بل يقول: إنّ العلم الإجماليّ أسقط البعض بالحاكم وبقي ما عداه، وبالتالي يجب الاحتياط بالعمل بجميع تلك الاُصول المثبتة.

646

 

 


ثُمّ إنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) ذكر جوابين عن أصل الشبهة في المقام:

الجواب الأوّل: أنّ العلم الإجماليّ بصدق بعض الأخبار المرخّصة ليس في دائرة الاستصحابات الملزمة بالذات، وإنّما هو في دائرة مطلق الاُصول الملزمة والمرخّصة، والاُصول المرخّصة ساقطة من أوّل الأمر وبقطع النظر عن حكومة الخبر(1)؛ وذلك للعلم الإجماليّ بالإلزام، فتبقى الاُصول المثبتة سليمة عن العلم الإجماليّ بوجود الحاكم.

والجواب الثاني: أنّه لو أمكن دعوى تقييد دليل الأصل في طرف العلم الإجماليّ بصورة عدم العلم بالأصل في الطرف الآخر فلازمه التخيير بالعمل في الاُصول المثبتة من دون علم إجماليّ بوجود الحاكم على ما يجري من الأصل.

أقول: إنّ الجواب الأوّل لا يبقى له موضوع لو فرض انحلال العلم الإجماليّ في دائرة الاُصول المرخّصة بالعلم الإجماليّ فيما دخل منها في دائرة الأخبار الإلزاميّة، ولو لم يفرض ذلك لزم الاحتياط في أكثر من دائرة الأخبار.

وعلى أيّ حال، فقد يورد على هذين الجوابين: أنّ احتمال الحاكم على الاستصحاب حاله حال العلم الإجماليّ بالحكم في كفاية ذلك لمنع التمسّك بالاستصحاب؛ لأنّ التمسّك به مع احتمال الحاكم تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة إلّا أن نرجع إلى استصحاب عدم الحاكم، وهذا رجوع إلى الجواب الحلّيّ لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، فإنّ استصحاب عدم الحاكم يجري حتّى مع العلم الإجماليّ به مادام لا توجد مخالفة عمليّة للتكليف.

وقد يقال ـ بعد فرض غضّ النظر عن استصحاب عدم الحاكم ـ: إنّ هناك فرقاً بين فرض العلم الإجماليّ بالحاكم وبين مجرّد احتمال الحاكم، وذلك بناءً على دعوى أنّ حكومة الحاكم مشروطة بوصوله ولو إجمالاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هذه الحكومة مبنيّة على مبنى المشهور: من حكومة الدليل على الأصل وإن كان موافقاً له.

647

ونحن نجيب على ذلك:

أوّلاً: بالنقض بأنّ لازم هذا الكلام هو أنّ الخبر الترخيصيّ المخالف للاستصحاب إن كان صريحاً في الترخيص لم يمنع عن الاستصحاب لعدم ثبوت حجّيّة تعبّديّة؛ إذ لا يتطرّق فيه احتمال الخلاف حتّى يدخل في كبرى حجّيّة الظهور، وإن كان ظاهراً في الترخيص منع عن الاستصحاب، ولا أظنّ فقيهاً يلتزم بمثل هذه النتيجة.

وثانياً: بالحلّ، وهو: أنّ ثبوت غاية الاستصحاب ـ وهي العلم تعبّداً ـ في أيّ مورد من هذه الموارد مشكوك، فيستصحب عدمه، ولا تتعارض استصحابات هذا العدم في أطراف العلم الإجماليّ؛ لأنّنا مع المحقّق العراقيّ متسالمون على عدم مانعيّة العلم بالانتقاض حينما لا تلزم من جريان الاُصول مخالفة عمليّة، وليس لدينا احتمال وجود حاكم على هذا الاستصحاب الموضوعيّ؛ إذ لم نحتمل أنّ الشارع جعلنا عالمين بأنّنا عالمون، ولو كان لنا مثل هذا الشكّ والاحتمال لنقلنا الكلام إلى غاية هذا الاستصحاب الثاني، وهكذا إلى أن تنتهي السلسلة بانقطاع الشك.

ثُمّ إنّ دعوى حكومة ظاهر كلام المعصوم الصادر واقعاً على الاستصحاب رغم أنّه لم يصلنا لعدم حجّيّة الخبر الواصل، متوقّفة على ما يترتّب على مباني المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في الحكومة: من عدم اختصاص الحكومة بفرض الوصول(1).

وأمّا أصالة الاشتغال: فمثالها: ما لو فرضت دلالة الخبر على عدم وجوب


(1) عرفت في تعليقنا السابق: أنّ كلام المحقّق العراقيّ أنسب بالقول باشتراط الحكومة بوصول الحاكم ولو إجمالاً.

648

صلاة الجمعة في يوم الجمعة، وعلمنا إجمالاً بوجوب الظهر أو الجمعة، أو دلالة الخبر على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، وعلمنا إجمالاً بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو رؤية الشمس، ومقتضى القاعدة في ذلك هو تحكيم أصالة الاشتغال، ولا أثر لهذا الخبر بعد أن لم يفرض ثبوت حجّيّته، فإنّه إنّما يكون طرفاً للعلم الإجماليّ الثاني، ولا أثر له في عالم التنجيز.

ويمكن أن نُسري إلى المقام تقريب المحقّق العراقيّ(رحمه الله) الذي ذكره في مقام بيان اختلال الاستصحاب بحكومة ظاهر كلام الإمام مع إجراء بعض التعديل عليه بالشكل المناسب لإسرائه في المقام، وإن كان هو(رحمه الله)لم يذكر ذاك التقريب هنا، وذلك بأحد بيانين:

الأوّل: أن يقال: إنّ ظاهر ما صدر من الإمام: من الكلام الدالّ على الترخيص، حاكم على الأصل العمليّ في مورده ولو كان ترخيصيّاً؛ لأنّ حكومة الأمارات على الاُصول ثابتة حتّى في فرض المطابقة. ففيما نحن فيه نحتمل وجود الحاكم على أصالة البراءة في مورد الخبر وهو صلاة الجمعة أو الدعاء عند رؤية الهلال؛ لاحتمال كون هذا الخبر من تلك الأخبار الصادرة واقعاً، وعلى هذا لا مجال لإجراء البراءة عن صلاة الجمعة أو الدعاء عند رؤية الهلال، فتبقى البراءة عن صلاة الظهر أو الدعاء عند رؤية الشمس بلا معارض، فلا مانع من إجرائها، فتختلّ قاعدة الاشتغال بالنسبة لهذا الطرف.

وهذا التقريب يؤدّي بنا إلى هذه النتيجة الغريبة، وهي: أنّه مع ورود الخبر الظاهر في الترخيص في أحد طرفي العلم الإجماليّ يجب الاحتياط في الطرف الوارد فيه الخبر المرخّص، وتجري البراءة في الطرف الذي لم يرد فيه الخبر المرخّص.

ويرد على هذا التقريب: أنّ الخبر الحاكم على أصالة البراءة في جانب صلاة

649

الجمعة والدعاء عند رؤية الهلال حاكم أيضاً على أصالة البراءة في جانب صلاة الظهر والدعاء عند رؤية الشمس؛ لأنّ ما يدلّ على عدم وجوب الأوّل يدلّ بعد ضمّه إلى العلم الإجماليّ على وجوب الثاني بالدلالة الالتزاميّة، فيحكم على أصالة البراءة المخالفة له، وإذا كان احتمال الحاكم موجوداً في كلا الطرفين ولم تجر البراءة في شيء منهما، فأصالة الاشتغال تكون محكّمة في كلا الطرفين.

الثاني: أن يقال: إنّ هذا الخبر على تقدير صدوره عن الإمام(عليه السلام)ليس حاكماً بدلالته المطابقيّة على الأصل في طرفه، وإنّما هو حاكم بدلالته الالتزاميّة على الأصل في الطرف الآخر، وذلك إمّا بدعوى أنّه يشترط في حكومة الخبر وصوله ولو بلحاظ العلم الإجماليّ المنجّز، وهذا بمدلوله المطابقيّ ليس واصلاً ولو بهذا اللحاظ؛ إذ هو طرف للعلم الإجماليّ الثاني الذي لا أثر له، فهو إنّما يكون حاكماً بلحاظ مدلوله الالتزاميّ لو فرضناه بهذا اللحاظ طرفاً للعلم الإجماليّ الأوّل، وإمّا لأنّ حكومة الخبر تثبت على خصوص الأصل المخالف دون الأصل الموافق.

وعلى أيّ حال، فأصل الجوابين النقضيّ والحلّيّ اللذين عرفتهما في دعوى اختلال الاستصحاب يأتيان هنا.

وأمّا الصورة الثالثة ـ وهي فرض كون الخبر والأصل أحدهما إيجابيّاً والآخر تحريميّاً ـ: فهذا الأصل فيها إمّا هو الاستصحاب، أو أصالة الاشتغال:

أمّا الاستصحاب: فيتساقط مع سائر الاُصول الترخيصيّة في أطراف العلم الإجماليّ، فإنّه وإن كان أصلاً إلزاميّاً في نفسه لكنّه بلحاظ المعلوم بالإجمال أصل ترخيصيّ، فإنّ المعلوم بالإجمال ـ أو قل طرف العلم الإجماليّ ـ هو الوجوب، واستصحاب التحريم يرخّص في الترك بل يلزم به، أو بالعكس، فيقع التعارض بينه وبين الأصل الترخيصيّ في باقي الأطراف ويتساقطان على تفصيل يأتي ـ إن شاء الله ـ في بحث دليل الانسداد.

650

وأمّا أصالة الاشتغال: فمثالها: ما لو علمنا إجمالاً بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو عند رؤية الشمس، ودلّ الخبر على حرمة الدعاء عند رؤية الهلال، وهنا يختلّ أثر أصالة الاشتغال، وأثر الخبر في مادّة الاجتماع. توضيح ذلك: أنّ هنا في الحقيقة علمين متعاكسين: أحدهما: العلم بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو عند رؤية الشمس. والآخر: العلم بحرمة الدعاء عند رؤية الهلال، أو صدق خبر إلزاميّ آخر من الأخبار الإلزاميّة، ومادّة الاجتماع في هذين العلمين هي الدعاء عند رؤية الهلال، ولا يتنجّز علينا شيء من الحكمين بالنسبة لمادّة الاجتماع؛ لأنّ نسبة منجّزيّة كلّ من العلمين إليها على حدّ سواء، فتأثير أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح، وتأثير كليهما معاً بأن يتنجّز علينا الوجوب والحرمة في وقت واحد غير ممكن، فمادّة الاجتماع حالها حال موارد دوران الأمر بين المحذورين وإن لم تكن منها؛ لعدم الدوران بين الوجوب والحرمة؛ لاحتمال كون مادّة الاجتماع لا واجبة ولا محرّمة؛ إذ من المحتمل وجود المعلومين في مادّتي الافتراق. والحاصل: أنّ كلّ ما كان من قبيل دوران الأمر بين المحذورين، أو يشبهه في كون نسبة تنجيز الوجوب والحرمة إليه على حدّ سواء لا يتنجّز الحكم فيه علينا؛ لأنّه لا معنى لإطاعة المولى فيه، وبالتالي لا معنى لثبوت حقّ الطاعة فيه للمولى.

وإذا سقطت مادّة الاجتماع عن التنجّز فهل تبقى مادّتا الافتراق على تنجّزهما، أو لا ؟

تارةً: نفترض انتزاع علم إجماليّ ثالث قائم بمادّتي الافتراق، وعندئذ لا إشكال في تنجّزهما؛ إذ يكفي في تنجّزهما العلم الثالث.

واُخرى: نفترض عدم انتزاع ذلك، فعندئذ يقع الكلام في كفاية العلمين الأوّلين في تنجيزهما وعدمها، فالكلام يقع في المقامين:

المقام الأوّل: في أنّه هل ينتزع من ما نحن فيه علم إجماليّ ثالث قائم بمادّتي

651

الافتراق أو لا ؟ وتتّضح فكرة انتزاع علم إجماليّ ثالث قائم بمادّتي الافتراق بذكر مثال، وهو: ما لو علمنا إجمالاً بوجوب شرب أحد الإناءين الشرقيّين بسبب أمر الوالد مثلاً، وبحرمة شرب أحد الإناءين الأحمرين بسبب نهي الوالد مثلاً، وأحد هذين الإناءين الأحمرين هو نفس أحد الإناءين الشرقيّين، فالإناء الأحمر الشرقيّ لا يتنجّز علينا شربه، ولا ترك شربه. وأمّا مادّتا الافتراق فيكفي في تنجّزهما أنّ لنا علماً إجماليّاً ثالثاً قائماً بهما، وهو العلم بوجوب شرب الإناء الشرقيّ غير الأحمر، أو حرمة الإناء الأحمر غير الشرقيّ؛ لأنّ العلم الإجماليّ ـ على ما قاله علماء الاُصول ـ يستلزم دائماً العلم بقضايا شرطيّة مقدّمها عدم بعض الأطراف، وتاليها ثبوت المعلوم بالإجمال في الباقي.

إذن علمنا بوجوب شرب أحد الإناءين الشرقيّين يستلزم بذاته العلم بأنّ الإناء الشرقيّ الأحمر لو لم يجب شربه لكان شرب الإناء الشرقيّ غير الأحمر واجباً، وعلمنا بحرمة شرب أحد الإناءين الأحمرين يستلزم العلم بأنّ الإناء الشرقيّ الأحمر لو لم يحرم شربه لكان شرب الإناء الأحمر غير الشرقيّ حراماً، وبما أنّنا نعلم بصدق أحد الشرطين فنحن نعلم ـ لا محالة ـ بأنّه إمّا الإناء الشرقيّ غير الأحمر واجب الشرب، أو الإناء الأحمر غير الشرقيّ محرّم الشرب، وهذا هو العلم الإجماليّ الثالث.

ولكن التحقيق: أنّ هناك فرقاً بين العلوم الإجماليّة القائمة على أساس البرهان، والعلوم الإجماليّة القائمة على أساس حساب الاحتمالات، وهذه نكتة يجب الاهتمام بها جدّاً لدخلها في كثير من المباحث الآتية، وتوضيحها:

أنّ العلم الإجماليّ قد يكون قائماً على أساس البرهان كما لو علمنا بنجاسة أحد الإناءين بإخبار معصوم، فهذا العلم قائم على أساس برهان العصمة ولو فرض أنّ أصل عصمته ثبتت بحساب الاحتمالات لا بالبرهان، وقد يكون قائماً