203

هذا. ولو ورد (أكرم كلّ عالم) وورد (لايجب إكرام زيد العالم) فهنا لا شكّ على كلّ تقدير في عدم وجوب إكرام زيد العالم، وإن كان يقع الفرق في التكييف الفنّيّ للوصول لوجه عدم ثبوت الوجوب. فبناءً على أنّ موضوع الحجّيّة هو ظهور الكلام الواحد فمقتضى الحجّيّة تامّ في المقام وهو عموم العامّ، ولكن المخصّص مانع. وبناءً على أنّ موضوع الحجّيّة هو مجموع الظهورات الواصلة من المولى لا


عدم المطابقة مقترناً بوجود الملاك، والباقي يساوي أربعة احتمالات، ثلاثة منها في صالح وجوب إكرام زيد، والرابع في صالح عدم وجوب إكرامه. وهكذا يتّضح السرّ في تقدّم حساب الظهور على حساب الملاك. وبنفس البيان يتقدّم حساب الظهور على حساب قوله: (لايجب إكرام زيد) المردّد بين إرادة العالم وإرادة الجاهل من دون فرق بين أن يكون العالم والجاهل كلاهما مسمّيين بـ (زيد)، أو يكون أحدهما المردّد عندنا مسمّى بـ (زيد)، فعلى كلّ تقدير نقول: إنّ احتمالات مطابقة العموم للمراد أو مخالفته ـ وهي أربعة ـ تضرب في احتمالات كون المقصود بـ (زيد) في قوله: (لايجب إكرام زيد) هو هذا العالم أو ذاك الجاهل، وهي احتمالان، حاصل الضرب يساوي ثمانية، تطرح منها الاحتمالات غير المعقولة، وهي احتمالات مطابقة العموم للمراد مقترنة بكون المراد من (زيد) في قوله: (لايجب إكرام زيد) هو العالم، فتبقى الاحتمالات خمسة، اثنان منها في صالح عدم العموم، وثلاثة منها في صالح العموم، بينما الاحتمالات لولا ورود (لايجب إكرام زيد) كانت أربعة، ثلاثة منها في صالح العموم، وواحدة منها في صالح عدم العموم، وهذا يعني وقوع الكسر والانكسار وتنزّل مستوى الكشف النوعيّ.

نعم، الصحيح أنّ هذا لا يؤثّر على الحجّيّة، إمّا لكفاية المقدار الباقي من الكشف، أو للروايات الآمرة بالرجوع إلى أخبارهم الدالّة على الرجوع إلى ظواهرها، أو لكون العبرة في الحجّيّة بالكشف لكلام واحد المنسجم مع الظهورات المربوطة بمعنى سيأتي شرحه في التعليق الآتي.

204

مقتضي للحجّيّة في المقام؛ لأنّ مجموع الكلامين يكشف عن عدم وجوب إكرام زيد العالم لا عن وجوبه.

ثُمّ إنّ هذا المقدار الذي ذكرناه في توجيه هذا التفصيل لا يكفي في مقام الاستدلال على هذا التفصيل؛ إذ غاية ما ثبت بذلك هي نقصان درجة الكشف بعد ورود قوله: (لا يجب إكرام زيد). أمّا أنّ موضوع الحجّيّة هل هو تلك الدرجة من الكشف الأكمل دون هذه الدرجة النازلة؟ فلم يثبت بذلك، فلابدّ في مقام تتميم الاستدلال من دعوى أنّ السيرة العقلائيّة لا تساعد على أزيد من حجّيّة تلك الدرجة الكاملة، ولا أقلّ من الشكّ، وهو يكفي في عدم الحجّيّة.

والمشهور لم يذكروا هذا التفصيل حتّى يجيبوا عنه، ولم يصرّحوا بأنّ العبرة بالكشف الثابت للكلام الأوّل، أو لمجموع الكلمات الواصلة إلينا، لكنّ الذي يظهر من مجموع كلماتهم هو: أنّ العبرة عندهم بالكشف الثابت للكلام الأوّل، وأنّ مقتضى حالهم أنّه لو عرض عليهم هذا التفصيل لأجابوا بأنّ العبرة بالكشف الثابت للكلام الأوّل لا لمجموع الكلمات.

وعلى أيّ حال، فقد يشكل الأمر في المقام على أساس احتمال دعوى كون العبرة في الكشف بمجموع الكلمات الواصلة إلينا من الشارع. وقد عرفت أنّ الكشف قد ينقص بورود محتمل القرينيّة، ومجرّد النقص وإن لم يكن دليلاً على عدم الحجّيّة لكن قد يُدّعى أنّ السيرة العقلائيّة القائمة على حجّيّة الظهور لا تشمل هذه المرتبة من الكشف النوعيّ، أو غير معلومة الشمول لها.

وقد يقال: إذا انتهى الأمر إلى الرجوع إلى السيرة في مقام تشخيص الحجّيّة وعدمها عند ورود محتمل القرينيّة فالبحث الذي بحثناه ـ من إبداء احتمال كون موضوع الحجّيّة الكشف الثابت لمجموع الكلمات الواصلة، وأنّ مرتبة الكشف قد تنزّل بواسطة ورود محتمل القرينيّة ـ أصبح لغواً صرفاً؛ لأنّ المهمّ هو معرفة مفاد

205

السيرة، فإن تمّت السيرة على حجّيّة الظهور عند احتمال قرينيّة المنفصل لم يضرّنا فرض تنزّل درجة الكشف، وإن لم تثبت السيرة على ذلك فلا حجّيّة للظهور عند احتمال قرينيّة المنفصل ولو أنكرنا تنزّل درجة الكشف.

ولكن الواقع: أنّ البحث الذي ذكرناه ليس لغواً في المقام، وتوضيح ذلك:

إنّ المتعارف في باب التفصيلات في حجّيّة الظهور غير التفصيل الراجع إلى التعبّد كدعوى سقوط حجّيّة ظهور القرآن بالتعبّد من الشارع، هو الرجوع إثباتاً ونفياً إلى السيرة العقلائيّة. والتحقيق: أنّ هناك طريقين لتمحيص التفصيلات:

الطريق الأوّل: النظر إلى نكتة السيرة العقلائيّة، كي نرى أنّها هل هي موجودة فيما ادّعي في التفصيل عدم حجّيّته، أو لا؟ فإنّ من شكّ في السيرة العمليّة يمكنه تمييز الحقّ بالرجوع إلى نكتتها؛ لأنّ الأصل العقلائيّ قائم على أساس الكشف النوعيّ، ولا يوجد التعبّد الصرف في مرتكز أذهان العقلاء، إذن فبالإمكان النظر إلى المورد الذي ادّعى فيه المفصّل عدم حجّيّة الظهور، فإن رأينا عدم ثبوت الكشف النوعيّ في ذلك المورد ثبت أنّ الحقّ هو التفصيل، وإن رأينا ثبوت الكشف النوعيّ فيه بلا طروّ نقص على درجة الكشف عرفنا بطلان التفصيل، وإن لم يمكن إنهاء البحث عن هذا الطريق، كما لو ثبت الكشف النوعيّ في المورد الذي ادّعى المفصّل فيه عدم الحجّيّة، ولكن كانت درجة الكشف فيه أضعف منها في سائر الموارد، احتجنا إلى الرجوع إلى الطريق الثاني.

والطريق الثاني: هو الرجوع إلى الوجدان والسيرة بلحاظ العمل الخارجيّ، والفحص عن الشواهد والقرائن على قصور السيرة أو شمولها لمورد النزاع.

وبهذا ظهر الوجه فيما مضى من البحث عن نقصان درجة الكشف لمجموع الكلمات عند ورود محتمل القرينيّة، فإنّه ينبغي أوّلاً البحث عن درجة الكشف، وأنّه هل طرأ عليها نقصان، أو لا؟ فإن ثبت بقاء الكشف بوضعه الطبيعيّ بلا طروّ

206

نقص ثبت عدم مضرّيّة ورود محتمل القرينيّة المنفصل بحجّيّة الظهور. وإن ثبت تنزّل درجة الكشف وصلت النوبة إلى دعوى القصور في السيرة العقلائيّة، فيرجع عندئذ كلّ شخص في ذلك إلى اعتقاده ووجدانه وملاحظته وما يراه من الشواهد والقرائن على قصور السيرة أو شمولها. فإن ثبت الشمول ولو بالشواهد والقرائن بطل التفصيل. وإن جزمنا بالقصور، أو شككنا فيه اتّجه التفصيل، إلّا أن يوجد ملجأ آخر كسيرة المتشرّعة مثلاً.

هذا. ولازال بياننا للطريق الأوّل من طريقي تمحيص التفاصيل ناقصاً يجب تكميله، فقد قلنا في بيان هذا الطريق: إنّ العبرة بالكشف النوعيّ، وإنّ التعبّد بعيد عن مرتكز العقلاء، لكن بقي هنا شيء، وهو: أنّه هل العبرة بالكشف النوعيّ عند العبد، أو العبرة بالكشف النوعيّ عند المولى؟ المتفاهم من الكشف عند الأصحاب الذي فرض موضوعاً للحجّيّة هو الكشف عند العبد. وعلى هذا يوجد مجال لدعوى التفصيل السابق، أي: التفصيل بين احتمال قرينيّة المنفصل واحتمال القرينة المنفصلة، بدعوى نقصان درجة الكشف عند احتمال قرينيّة المنفصل.

ولكن الصحيح: أنّ المقياس هو الكشف عند المولى لا الكشف عند العبد، وعليه لا يبقى أساس لذاك التفصيل؛ إذ الكشف عند المولى لا يختلف حاله بورود محتمل القرينيّة وعدم وروده، وإنّما يختلف الحال في ذلك لدى العبد، فلنا هنا كلامان:

1 ـ دعوى عدم تغيّر درجة الكشف عند المولى بورود محتمل القرينيّة.

2 ـ دعوى إنّ المقياس إنّما هو الكشف عند المولى لا الكشف عند العبد.

أمّا الكلام الأوّل: فبيانه: إنّ الكشف النوعيّ عند العبد إن كان يقلّ بورود (لايجب إكرام زيد)؛ لوقوع الكسر والانكسار في حساب الاحتمالات بين الثمانين بالمئة في جانب العامّ والخمسين بالمئة في جانب محتمل المخصّصيّة،

207

فهو لا يقلّ عند المولى، فإنّ الكشف النوعيّ عند المولى لا يعني فرض شكّ المولى في مراده بالنسبة لكلّ ظاهر من ظواهر كلامه، بل لو التفت إلى كلّ كلام له بالخصوص كهذا العامّ أو ذاك المحتمل مخصّصيّته، لقطع بمطابقة ظاهره لمراده أو مخالفته له، ولم يتصوّر له شكّ، ولا مورد للكشف النوعيّ أصلاً. وإنّما الكشف النوعيّ للمولى يعني أنّه لو لاحظ مجموع ظواهر كلامه لرأى أنّ ثمانين بالمئة منها تطابق مراده، فهذا هو معنى الكشف النوعيّ لكلامه عن مراده. وهذا كما ترى لا يختلف الحال فيه بين فرض ورود محتمل القرينيّة المنفصل وعدمه، فعلى كلّ تقدير لو فرض التفاته بالخصوص إلى هذا العامّ أو ذاك الخاصّ، فلا شكّ له في المراد، ولا معنى للكشف النوعيّ بهذا الاعتبار. ولو فرض التفاته إجمالاً إلى ظواهر كلماته فهو يعلم أنّ ثمانين بالمئة منها مطابق لمراده، فالكشف النوعيّ بهذا المعنى ثابت على كلّ حال. فميزان الحجّيّة لو فرض عبارة عن الكشف النوعيّ بمقدار ثمانين بالمئة فهو ثابت في العامّ في المقام، ولو فرض أنّ العشرين بالمئة الذي هو في صالح التخصيص ليست نسبته إلى التخصيصات على حدّ سواء، ففرض التخصيص مع وصوله إلى المكلّف مجملاً أقرب من فرض التخصيص مع عدم وصوله أصلاً. قلنا: إنّ هذا لا يضرّ بالحجّيّة ومثَلُه مَثَلُ ما لو فرضنا أنّ البريد الموصل لمخصّصات المولى ابتلى بالعطب أو قلّة الشغل، ومن هنا كان احتمال وجود مخصّص لم يصل أقوى ممّا إذا كان البريد سالماً فعّالاً ومع ذلك لم يصل المخصّص، ومن الواضح عدم تأثير ذلك في حجّيّة الظهور الواصل(1).

 


(1) لا يخفى أنّ الكشف النوعيّ إذا لوحظ في أيّ ظهور من الظهورات وهو ثمانون بالمئة ـ مثلاً ـ لا يقلّ عند العبد بورود محتمل القرينيّة عنه عند المولى، فإنّ مشكلة تنزّل

208


مستوى الكشف إنّما جاءت بلحاظ اعتبار كشف مجموع الكلامين، وبهذا اللحاظ تأتي المشكلة حتّى في الكشف النوعيّ لدى المولى، فيقال: إنّ المولى وإن كان يعلم بمطابقة ظواهر كلامه لمراده بمقدار ثمانين بالمئة لكنّه يعلم بمطابقة ظواهر كلامه التي وصل إلى العبد ما يحتمل قرينيّته على الخلاف بمقدار أقلّ من ثمانين بالمئة. والواقع: إنّ الكشف النوعيّ لمجموع الكلامين وإن كان قد ينزل لكنّ الظنّ النوعيّ يبقى محفوظاً ولو بدرجة نازلة ما لم نواجه التعارض أو القرينة على الخلاف، وهذا الظنّ النوعيّ النازل كاف في الحجّيّة بحسب بناء العقلاء، وبالجملة لا أثر فيما نحن فيه بين فرض كون العبرة في حجّيّة الظهور بكشف الكلام الواحد أو بكشف مجموع الكلمات الواصلة، ولا بين كون المقياس هو الكشف لدى المولى أو الكشف لدى العبد. نعم، لا يبعد أن يكون أصل كون العبرة بالظنّ النوعيّ لا الشخصيّ بنكتة أنّ المقياس إنّما هو الكشف عند المولى لا الكشف عند العبد. وهنا احتمال ثالث غير كون العبرة بالكشف الناشئ عن مجموع الظهورات المربوطة، وغير كون العبرة بالكشف الناشئ عن كلّ ظهور في ذاته، وهو كون العبرة بالكشف المنسجم مع الظهورات المربوطة. وتوضيح فرق هذا الاحتمال الثالث عن الاحتمالين الأوّلين مع بيان الثمرة العمليّة يتمّ بالالتفات إلى ثلاثة أمثلة:

المثال الأوّل: فرض ورود عامّ مبتلىً بمخصّص منفصل مع وجود معارض لذاك المخصّص المنفصل.

المثال الثاني: فرض ورود نصّين من المولى متطابقين في الظهور مع ورود نصّ ثالث يعارضهما في ظهوره.

المثال الثالث: فرض ورود عامّ مبتلىً بمخصّص منفصل مردّد مفهوماً بين الأقلّ والأكثر ـ ولنفرض الآن أنّ هذه النصوص كلّها قطعيّة السند وأنّ التعارض إنّما هو فيما بين

209


الظهورات ـ فإن قلنا بأنّ العبرة بكشف كلّ ظهور في ذاته تمّت المواقف المشهورة عن الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في كلّ هذه الأمثلة الثلاثة:

فقد قالوا في المثال الأوّل: إنّ المخصّص مع ما يعارضه يتساقطان ويبقى العامّ حجّة. وهذا صحيح؛ لأنّ العامّ كان بحدّ ذاته حجّة؛ لما فيه من الكشف النوعيّ، وما يزاحمه في الحجّيّة كان هو المخصّص، والمفروض سقوطه بالتعارض، ولا يسقط العامّ مع سقوط المخصّص ومعارضه؛ لأنّ دليل الحجّيّة إنّما يشمل العامّ في طول سقوط المخصّص؛ وذلك لحكومة المخصّص وتقدّمه على العامّ.

وقد قالوا في المثال الثاني: إنّ مقتضى القاعدة تساقط كلّ النصوص الثلاثة. وهذا صحيح؛ لأنّ نسبة دليل الحجّيّة إلى الكشف النوعيّ الثابت للظهور الثالث وإلى الكشف النوعيّ الثابت لأيّ واحد من الأوّلين على حدّ سواء، فترجيح أحد الطرفين على الآخر ترجيح بلا مرجّح فيتمّ التساقط.

وقد قالوا في المثال الثالث: إنّ العامّ حجّة فيما شكّ في دخوله في المخصّص، وإنّ الكلام المنفصل المحتمل قرينيّته لا يضرّ بحجّيّة ظهور الكلام الأوّل. وهذا أيضاً صحيح؛ لأنّ الكشف النوعيّ للعامّ ثابت على حاله.

وإن قلنا بأنّ العبرة بالكشف الناتج عن مجموع الظهورات المربوطة، فرأي الأصحاب في المثال الأوّل قد يصحّح بدعوى أنّ كشف العامّ عن العموم وإن كان مزاحماً بكشف المخصّص ولكنّه مؤيّد بما يعارض المخصّص، فقوّة الكشف بعد الكسر والانكسار ستكون إلى جانب العامّ، ولكن لازم ذلك أن يقال في المثال الثاني أيضاً بأنّ النصّين المتوافقين قد يكونان أقوى من النصّ الثالث، فالكشف يكون بعد الكسر والانكسار إلى جانبهما، ولكنّ هذا ليس معهوداً من الأصحاب كما هو واضح، وليس متعارفاً في السيرة

210


العقلائيّة، وهذا دليل على بطلان هذا المبنى وهو كون العبرة بالكشف الناتج عن مجموع الظهورات. وعلى كلّ حال، فبناءً على هذا المبنى قد يناقش فيما ذهب إليه الأصحاب في المثال الثالث: من حجّيّة العامّ أو الكلام الأوّل، بما مضى: من أنّ وجود ما يحتمل مخصّصيّته أو قرينيّته يضعّف الكشف، إلّا أن يقال بحجّيّة هذا الكشف رغم ما طرأ عليه من الضعف.

وإن قلنا بأنّ العبرة بالكشف المنسجم مع الظهورات المربوطة، أي: الكشف الثابت لبعض الظهورات مع عدم وجود ظهور آخر لكلام المولى على خلافه إلّا ظهوراً محكوماً للظهور الأوّل لضعفه مثلاً، فرأي الأصحاب في المثال الأوّل وهو بقاء العامّ على الحجّيّة لا يتمّ ؛ لأنّ ظهور العامّ يقابله ظهور آخر أقوى، وهو ظهور المخصّص المفروض صدوره من المولى وإن كان معارضاً بظهور آخر صادر أيضاً من المولى، إذن فظهور العامّ يسقط مع سقوط المخصّص ومعارضه، ويتمّ رأي الأصحاب في المثال الثاني وهو كون مقتضى القاعدة سقوط جميع النصوص؛ إذ لا يوجد كشف منسجم مع جميع النصوص، ويتمّ رأي الأصحاب في المثال الثالث أيضاً؛ لأنّ العامّ له ظهور في العموم، والمخصّص لم يثبت شموله لمورد الكلام، فدعوى إرادة العموم تنسجم مع المخصّص؛ لأنّ المخصّص مجمل بحسب الفرض، وكذا الحال في كلّ كلام منفصل محتمل القرينيّة.

هذه هي الاحتمالات الثلاثة ونتائجها، فإن ثبتت سيرة المتشرّعة أو سيرة العقلاء وفق أحد هذه الاحتمالات أخذنا به، وإلّا فإن علمنا بحياديّة ارتكاز العقلاء حول احتمالين من هذه الاحتمالات أو حولها جميعاً كان حلّ المطلب هو الرجوع إلى الروايات الآمرة بالرجوع إلى أخبارهم (عليهم الصلاة والسلام)؛ إذ معنى ذلك الرجوع إلى ظواهرها، وهو يعني حجّيّة كلّ ظهور في ذاته، وهذا يوافق الاحتمال الذي قلنا: إنّه يتمّ عليه كلّ مواقف

211

وأمّا الكلام الثاني ـ وهو دعوى أنّ العبرة في الحجّيّة بالكشف لدى المولى دون الكشف لدى العبد ـ: فيتّضح هذا بمجرّد الالتفات إلى طبع القضيّة ولبّ الأمر


الأصحاب حول الأمثلة الثلاثة، أمّا إذا شككنا في ارتكاز العقلاء ولم نعلم أنّه هل هو قائم على أساس الاحتمال الأوّل، أو الثاني، أو الثالث، أو تردّدنا بين احتمالين منها ولم نجزم بحياديّة ارتكاز العقلاء في المقام، فتلك الروايات لا تحلّ المشكل في المقام؛ لأنّها وإن دلّت على حجّيّة ظهور الأخبار الواردة منهم(عليهم السلام)لكنّها منصرفة إلى حجّيّة الظهور بالشكل الذي لا يخالف ارتكازات العقلاء في هذا الباب، وقد فرضنا الشكّ في تعيين الارتكاز في المقام.

والذي يرجّح عندي من هذه المحتملات الثلاثة هو القول بأنّ العبرة بالكشف المنسجم مع الظهورات المربوطة بالمعنى الذي عرفت.

أمّا إذا لم تكن الأسانيد قطعيّة فمتى ما سرى تعارض الدلالات إلى الأسانيد وقلنا بالتساقط لا التخيير صحّ ما عليه المشهور: من الرجوع إلى العامّ الفوقانيّ المطابق لأحدهما والمخالف للآخر رغم إيماننا بالاحتمال الثالث وهو كون العبرة بالكشف المنسجم مع الظهورات المربوطة؛ لأنّه بعد سقوط السند لا يكون أصل صدور الظهور المخالف لذاك العامّ ثابتاً، ومتى ما لم يسر التعارض إلى الأسانيد صحّ ما ذكرناه: من أنّ العامّ الفوقانيّ يسقط مع النصّين الآخرين، والمقياس في سريان التعارض إلى الأسانيد وعدمه ـ على ما نقّحناه في بحث التعادل والتراجيح ـ هو: أنّ التعارض بين الظهورين غير قطعيّي السند إن كان بالتباين سرى التعارض إلى السند، وإن كان بمثل العموم من وجه وجزمنا بصدق الراوي في شهادته بعدم المخصّص المتّصل المخرج لمادّة الاجتماع من تحت أحد العامّين لم يسر التعارض إلى السند، أمّا مع عدم الجزم بذلك فأيضاً يصحّ كلام المشهور؛ لأنّ الظهور المخالف للعامّ الفوقانيّ غير ثابت؛ لأنّ التعارض سار إلى السند بمقدار شهادة الراوي بعدم المخصّص المتّصل.

212

المفروض، فمن المعلوم أنّ المولى إنّما يجعل الحجّيّة للأمارات بهدف الوصول إلى أغراضه، والمقياس الذي يقرّبه في نظره إلى أغراضه إنّما هو الكشف عنده لا الكشف عند العبد، فيسقط المولى ـ مثلاً ـ القياس عن الحجّيّة وإن كان كاشفاً في نظر العبد؛ لغالبيّة خطئه في نظر المولى؛ لعلمه بأنّ الشريعة قائمة على أساس جمع المتفرّقات وتفريق المجتمعات.

هذا، مضافاً إلى وجود شاهد على ما نقول وهو إسقاط الاحتمالات الخارجيّة من الحساب، فلو تقوّى لدى العبد احتمال عدم إرادة العموم لا لورود ما يحتمل قرينيّته، بل لأمر خارجيّ كالاطّلاع على صفة لزيد يستبعد معها إرادة المولى لإكرامه، لم يكن الظهور ساقطاً عن الحجّيّة بشأن هذا العبد مع أنّ كشف المجموع من كلام المولى وهذه القرينة الخارجيّة أصبح ضعيفاً. فإن ادّعي رأساً أنّ حجّيّة الظهور مشروطة بعدم قوّة احتمال خلافه، أو بعدم الظنّ بالخلاف، أو بالظنّ بالوفاق، فهذا رجوع إلى التفصيل الآتي. أمّا إذا قُبلت حجّيّة الظهور عقلائيّاً في مثل هذا المثال مع إنكارها في فرض ورود محتمل القرينيّة منفصلاً فالتفصيل بينهما يكون تعبّديّاً بحتاً، وهو بعيد عن مشرب العقلاء.

والحاصل: أنّ السرّ في حجّيّة الظهور مع تقوّي احتمال خلافه لأمر خارجيّ غير كلام آخر للمولى إنّما هو أنّ العبرة بالكشف عند المولى وهو لا يقلّ بذلك، فيجب إسقاط الاحتمالات الخارجيّة من الحساب، وعين هذه النكتة موجودة فيما نحن فيه وهو فرض ورود محتمل القرينيّة.

وبما ذكرناه من الشاهد يدفع ما يمكن أنّ يدّعى: من أنّه وإن كان مقتضى الصناعة كون المقياس في الحجّيّة التي يجعلها المولى هو الكشف عند المولى لا الكشف عند العبد ولكن العقلاء لعلّهم أخطأوا فاعتمدوا في باب الحجّيّة على الكشف عند العبد، فلو احتمل شخص هذا الاحتمال دفعنا احتماله بأنّه لو كان

213

الأمر كذلك لم يكن وجه لإسقاط الاحتمالات الخارجيّة من الحساب، وكان ينبغيأن يشترط ـ مثلاً ـ في حجّيّة الظهور ثبوت ظنّ بدرجة خاصّة على طبقه.

وبهذا أيضاً ترفع شبهة اُخرى، وهي أن يقال: إنّ حجّيّة الظهور عند العقلاء فيما بينهم لعلّها ذاتيّة، أي: أنّها مجعولة بنفس جعل المولويّة بمعنى: أنّ المولويّة المجعولة من قِبَلهم إنّما جعلت بمقدار دائرة الظهورات، فالحجّيّة العقلائيّة للظهور لم تكن بجعل المولى كي يقال: إنّ مقتضى الصناعة كون المقياس هو الكشف لدى المولى، ومن المحتمل أنّه لوحظت في جعل المولويّة دائرة الكشف لدى العبد دون الكشف لدى المولى، فيقال أيضاً في الجواب: إنّه لو كان الأمر كذلك لم يكن وجه لإسقاط الاحتمالات الخارجيّة من الحساب.

هذا. ولا يخفى أنّ ما ذكرناه: من أنّ الحجّيّة العقلائيّة للظهور تدور مدار الكشف عند المولى إنّما ينسجم مع التصوّر الذي مضى منّا للحجّيّة العقلائيّة للظهور، وهو دعوى أنّ كلّ واحد منهم لو تقمّص بقميص المولويّة لجعل الظنّ حجّة على عبده. أمّا لو كان الدليل على حجّيّة الظهور مجرّد عمل عقلائيّ خارجاً بالظهور في مقام تحصيل أغراضهم بدعوى إفادة ذلك عادة توجب المشي عليها في الشرعيّات، فلو لم يرض الشارع بذلك لردع عنه، فلا يثبت بهذا المسلك أزيد من حجّيّة الظهور في دائرة الكشف عند العبد؛ إذ العمل بالظهور عند العقلاء في أغراضهم إنّما هو في دائرة الكشف لدى نفس العاملين، بل العمل في الحقيقة يكون بالظنّ، فتثبت بذلك حجّيّة الظنّ المطلق لولا ردع الشارع عن سائر أقسام الظنون.

 

حالة الظنّ بالخلاف:

التفصيل الرابع: هو القول باختصاص حجّيّة الظهور بفرض عدم الظنّ بالخلاف. بل ادّعى بعض أكثر من ذلك وهو اختصاص الحجّيّة بفرض الظنّ بمطابقته للمراد.

214

والمعروف في دفع ذلك هو دعوى أنّ السيرة العقلائيّة لا تختصّ بفرض الظنّ بالوفاق، أو عدم الظنّ بالخلاف، بل تشمل الظهور الذي ليس على وفقه ظنّ، أو كان الظنّ بخلافه.

وتعمّق المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في ذلك بأزيد من هذا المقدار من البيان فذكر: أنّ العقلاء يعملون بالظهور في مجالين: أحدهما في باب تحصيل أغراضهم الشخصيّة، والآخر في باب امتثال أمر المولى وتحصيل غرض المولى. وهناك فرق بين عملهم في المجالين، ففي المجال الأوّل لا يعملون بالظهور إلّا مع وجود الظنّ على طبقه. وفي المجال الثاني يعملون بالظهور حتّى مع الظنّ بالخلاف، وذلك من باب الاقتصار في المجال الثاني على أدنى مراتب الكشف، وهو مجرّد الظنّ النوعيّ، وعدم الاعتماد في المجال الأوّل إلّا على المرتبة القويّة من الكشف، وهي الظنّ الفعليّ(1).

أقول: إنّ تفطّنه(قدس سره) لوجود الفرق بين المجالين واشتراطه الظنّ الفعليّ في المجال الأوّل، وعدم مضرّيّة الظنّ بالخلاف في المجال الثاني في محلّه جدّاً، لكن تفسير ذلك على أساس الفرق في مرتبة الكشف المعتمد عليها، والاقتصار على


(1) الموجود في أجود التقريرات ـ ج 2، ص 94 و95 ـ هو التفصيل بين مقام الاحتجاج بين المولى والعبد ومقام كشف المرادات الواقعيّة، كما لو أراد تاجر تعيين الأسعار عن طريق مطالعة كتاب تاجر إلى تاجر آخر أخبره فيه بالأسعار، ففي الأوّل يكون الظهور حجّة حتّى ولو ظنّ بالخلاف؛ لصحّة احتجاج المولى على العبد وبالعكس بذلك، وفي الثاني يكون الأخذ بالظهور مقيّداً ـ على حدّ التعبير الذي جاء في أجود التقريرات ـ بأعلى مراتب الظنّ وهي مرتبة الاطمئنان. وكأنّ هذا التعبير هو الذي أوحى إلى ذهن اُستاذنا(رحمه الله) بأنّ نكتة الفرق بين المجالين في نظر المحقّق النائينيّ(رحمه الله) تعود إلى مدى درجة الكشف المطلوبة هنا وهناك، فأورد عليه بما أورد.

215

أدنى المراتب في الثاني، والاعتماد على المرتبة العليا في الأوّل غير صحيح. والصحيح: أنّ مرتبة الكشف تقريباً واحدة، وإنّما أساس هذا الفرق ـ كما عرفت فيما مضى ـ هو الفرق في كون الكشف المعتمد عليه مضافاً إلى المخاطب أو إلى المتكلّم، ففي مجال الأغراض الشخصيّة للمخاطب يكون الأساس هو الكشف بالنسبة للمخاطب، أمّا في مجال الأغراض المولويّة فالمولى يجعل الحجّيّة بلحاظ الكشف لديه، ولا يعتني بظنّ المخاطب صدفة بالخلاف أو عدم ظنّه بالوفاق، وهذا الظنّ بالخلاف لا يقلّل الكشف عند المولى.

نعم، يمكن أن يفترض في بعض الموارد ما يقلّل الكشف عند المولى، كما لو فرضنا أنّ القياس(1) تغلّب مطابقته للواقع، فإذا نظرالمولى إجمالاً إلى قائمة ظواهر كلامه التي يخالفها القياس رأى أنّه ليس الغالب فيها مطابقتها للمراد، وعندئذ تختلّ السيرة العقلائيّة على حجّيّة الظهور في هذا المورد، فالقياس ـ على أقلّ التقديرين ـ يمنع عن حجّيّة الظهور ولو كان في نفسه غير حجّة.

ولحلّ هذه المشكلة وإثبات حجّيّة الظهور في مثل هذا المورد توجد لدينا عدّة وجوه:

الأوّل: التمسّك بأخبار الردع عن القياس بناءً على أنّ ظاهر لسان بعضها هو فرض وجود القياس كعدمه بتاتاً كما ليس ببعيد.

الثاني: التمسّك بسيرة المتشرّعة. فإنّ موارد تصادم الظهور للقياس كثيرة مع أنّ القياس أمر طال التشاجر في شأنه بين فقهاء العامّة والشيعة، وخاض الأئمّة(عليهم السلام)


(1) بالنسبة لخصوص القياس أودّ أن اُنبّه إلى أنّ هذا المثال غير واقعيّ وإنّما هو مثال افتراضيّ، فإنّ علمنا بطبيعة الشريعة القائمة على أساس تفريق المتشابهات وجمع المتفرّقات، وعلى أساس ملاكات غير منضبطة بظواهر الاُمور يكشف لنا عن عدم قيمة نوعيّة حقيقيّة للقياس.

216

هذه المعركة، فمن الواضح أنّ الظهور المخالف للقياس لو كان مستثنى عن الدخول في سيرة المتشرّعة القائمة على مبدأ حجّيّة الظهور وبُني على مسقطيّة القياس لحجّيّة الظهور رغم عدم حجّيّته، لكان هذا شيئاً مهمّاً يجلب الانتباه ويوجب الاهتمام به وانتشار ذكره في كتب الأصحاب، ولشاع وذاع ووصلنا قطعاً.

أمّا إذا فرض شيء آخر غير القياس موجباً لانكسار الكشف عند المولى بحيث لم يتمّ فيه شيء من الوجهين فالعلاج ينحصر بالوجه الثالث.

الثالث: هو التمسّك بالأخبار الواردة في مقام الإرجاع إلى الكتاب والسنّة والأخذ بأخبار العترة الطاهرة. فإنّ معنى الأخذ بها هو الأخذ بظاهرها، ولو لم ندّع الاطمئنان بأنّ هذه الأخبار وردت أساساً في مقام بيان الردع عن أيّ جهة اُخرى تعارض ظاهر كلام المعصوم، فلا أقلّ من أنّ مقتضى إطلاقها هو لزوم الأخذ بظواهر الأخبار ولو كانت على خلاف القياس، وهذا الإطلاق بنفسه ليس مخالفاً للقياس حتّى ينقل الكلام إليه. والقياس الذي يخالف ما أردنا إثبات حجّيّته من الظهور لايخالف هذه الأخبار، فإنّ ذاك القياس إنّما يمنع عن مطابقة الحكم الواقعيّ لهذا الظهور، وهذه الأخبار تثبت الحكم الظاهريّ وهو حجّيّة الظهور.

وإنّما لم نتمسّك ابتداءً بهذه الأخبار لإثبات حجّيّة الظهور لأنّها بنفسها ظهورات، فينقل الكلام إليها.

 

حالات التخصيص والتقييد:

التفصيل الخامس: أن يقال في باب العمومات والإطلاقات بأنّه ما لم يحرز تخصيصها أو تقييدها فهي حجّة، فإذا خصّصت بمخصّص سقطت عن الحجّيّة في الباقي، أو ـ على الأقلّ ـ إذا خصّصت بعدّة مخصّصات سقطت عن الحجّيّة، أو أنّها إذا خصّصت بمخصّص مجمل مفهوماً مردّد بين الأقلّ والأكثر سقطت عن الحجّيّة في الأكثر.

217

وما يقال عن ذلك: من أنّ العموم بنفسه حجّة ـ كما هو مسلّم عند هذا المفصّل ـ فيجب أن لا نرفع اليد عنه إلّا بحجّة اُخرى على خلافه، والمفروض عدم قيام الحجّة في مورد الشكّ على الخلاف. يجاب عليه بأنّ أصل حجّيّة العموم في هذه الحال أوّل الكلام.

والوجه في ذلك: دعوى اختلال الكشف عند المولى؛ إذ بعد فرض خروج المولى عن المسلك العقلائيّ بالاعتماد على مخصّص منفصل فخروجه بالاعتماد على تخصيص زائد غير بعيد مطلقاً، أو عند كثرة المخصّصات، أو في موارد الشبهة المفهوميّة المردّدة بين الأقلّ والأكثر، فتختلّ هنا السيرة العقلائيّة. ولكن إن صحّ حقّاً هذا التقريب وقلنا باختلال الكشف عند المولى بذلك كفتنا سيرة المتشرّعة لإثبات الحجّيّة، ولو وسوس موسوس وشكّك مشكّك بأنّه بعد فرض اختلال السيرة العقلائيّة لا يفيدنا الرجوع إلى سيرة المتشرّعة بشكل مطلق؛ لأنّ القدر المتيقّن منها ـ مثلاً ـ هو التمسّك بالعامّ في احتمال التخصيص الزائد المستقلّ لا في الشبهة المفهوميّة المردّدة بين الأقلّ والأكثر. أقول: لو أنّ أحداً أورد أمثال هذه الشبهة رفعنا الشبهة بما مضى: من التمسّك بالأخبار الآمرة بالرجوع إلى أخبارهم، ومعنى ذلك هو الرجوع إلى ظواهرها، وإطلاقها يشمل فرض كون العامّ مخصّصاً بمخصّص واحد أو بمخصّصات عديدة، أو بالمردّد مفهوماً بين الأقلّ والأكثر. وهذا الإطلاق لم يقيّد بشيء حتّى ينقل الكلام إليه، فهذا الإطلاق مهرب لطيف عن أمثال هذه الشبهات. هذا بغضّ النظر عمّا أشرنا إليه: من إمكان دعوى أنّ هذه الأخبار إنّما وردت أساساً للردع عن أيّ احتمال آخر في مقابل ظواهر كلام المعصوم مهما كان منشؤه، والحثّ على الأخذ بظواهر الأخبار في مقابل أيّ احتمال من الاحتمالات.

بقي هنا تقريب يكون في صالح جملة من التفصيلات الماضية، وهو: أن يقال: إنّ سيرة العقلاء على حجّيّة الظهور تختصّ بكلام مولى يتكلّم على طبق ما هو

218

المتعارف، ولا تشمل كلمات الشارع الذي قام دأبه وديدنه على الاعتماد علىالقرائن المنفصلة، فلابدّ من التمسّك في إثبات حجّيّة الظهور بسيرة المتشرّعة، وليس لها إطلاق، ولها قدر متيقّن نقتصر عليه. فيجعل هذا التقريب في صالح بعض التفصيلات السابقة الملائمة معه. فمثلاً يجعل في صالح التفصيل الثالث ويقال: إنّ تمسّك المتشرّعة بالظهور مع احتمال قرينيّة المنفصل غير معلوم.

والجواب ـ بغضّ النظر عمّا مضى: من كفاية الأخبار الآمرة بالأخذ بالكتاب والسنّة ـ: أنّ العقلاء في أوّل الشريعة لم يكونوا عارفين بدأب الشارع وديدنه الخاصّ، فأخذوا يعاملون مع ظواهر كلامه معاملتهم لظواهر باقي العقلاء، ولم يردع الشارع عن ذلك، فثبت إمضاء ذلك ورضا الشارع بأن ينظر إلى كلامه بنفس المنظار الذي ينظر به إلى كلام باقي الموالي.

 

ظواهر القرآن الكريم:

التفصيل السادس: ما ينسب إلى الأخباريّين من دعوى أنّ ظواهر القرآن بالخصوص غير حجّة، ولعدم الفرصة الآن لنا لمراجعة كلمات الأخباريّين نعتمد هنا على ما نقل عنهم الاُصوليّون.

والذي يظهر من نقل أصحابنا الاُصوليّين عنهم أنّ لهم في مقام سلخ الحجّيّة عن الآيات القرآنيّة مسلكين:

الأوّل: منع ثبوت ظهور للكتاب الكريم كي يكون حجّة أو غير حجّة.

والثاني: دعوى ظهور خروج الكتاب الكريم عن قانون حجّيّة الظهور.

والذي يرتبط بما نحن فيه هو المسلك الثاني، فإنّ المسلك الأوّل ليس تفصيلاً في حجّيّة الظهور كما هو واضح، ولذا نقدّم المسلك الثاني في البحث على المسلك الأوّل فنقول:

إنّه ذكر في كلمات أصحابنا من قبل الأخباريّين أو نقلاً عنهم الاستدلال على

219

عدم حجّيّة ظهور الكتاب الكريم بوجهين: أحدهما من نفس الكتاب، والثاني منالسنّة:

 

إسقاط ظواهر القرآن بالقرآن:

أمّا الوجه الأوّل: فهو قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّاَ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلّاَ أُوْلُوا الألْبَاب﴾، حيث يقال: إنّ النهي عن اتّباع المتشابهات يشمل الظواهر أيضاً، فالمحكم ما يكون نصّاً في معنى واحد، والمتشابه ما يكون له عدّة معاني يشبه بعضها بعضاً في كونه معنى لهذا الكلام سواء كانت تلك المعاني متساوية، أو كان بعضها أرجح من بعض.

والتحقيق بعد فرض تسليم شمول كلمة المتشابه للظاهر: عدم تماميّة الاستدلال بهذه الآية على مطلوب الأخباريّ. ولتوضيح ذلك نعرض أوّلاً ما قاله أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ في المقام، ثُمّ نستعرض ما هو الصحيح عندنا.

فقد جاء في كلمات أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ في المقام: أنّه بعد فرض تسليم شمول كلمة المتشابه للظاهر لا يتمّ الاستدلال بالآية المباركة لإسقاط ظهور الكتاب عن الحجّيّة؛ لأنّ دلالة الآية المباركة على ذلك لو تمّت فإنّما هي بالظهور لا بالنصوصيّة والتصريح، وعليه فردع الآية الشريفة عن حجّيّة ظهور الكتاب يستلزم المحال، وهو ردعها عن حجّيّة نفسها. أمّا وجه الملازمة فواضح؛ لأنّ الآية بنفسها ـ كما قلنا ـ لها ظهور وليست نصّاً وتصريحاً بالمقصود. وأمّا وجه استحالة اللازم فلأنّها لو ردعت عن حجّيّة نفسها للزم من حجّيّتها عدم حجّيّتها،

220

وما يلزم من وجوده عدمه فهو مستحيل.

ويورد على هذا بأنّ المحال الذي ذكر إنّما يكون لازماً لشمول الآية الشريفة لنفسها وردعها عن حجّيّة نفسها، وهذا دليل على عدم شمولها لنفسها، وعدم ردعها عن حجّيّة نفسها، وتبقى الآية شاملة لباقي ظواهر الكتاب، وتكون حجّة في الردع عن حجّيّة باقي ظواهر الكتاب غير ظهور نفس هذه الآية.

ويجاب على هذا الإيراد بدعوى القطع بعدم الفرق بين آية وآية في حجّيّة ظهورها وعدم الحجّيّة، فإمّا أنّ تمام ظواهر الآيات حجّة، أو أنّ شيئاً منها ليست بحجّة، وهذه الآية لو ردعت عن حجّيّة ظهور آية فمن المقطوع به أنّها إنّما تردع عنها لأنّه ظهور قرآنيّ، ولا فرق بينه وبين ظهور نفس هذه الآية، فبالتالي تكون حجّيّتها وردعها عن ظواهر الكتاب مستلزمة لعدم حجّيّتها، وما يلزم من وجوده عدمه فهو مستحيل(1).

إلى هنا تنتهي سلسلة البحث في كلمات أصحابنا على فرض شمول كلمة المتشابه للظاهر.

أقول: كأنّ الأصحاب ـ قدّس الله أسرارهم ـ فرضوا الآية الشريفة من سنخ كلام الأقريطشي الذي قال تهجّماً على منطق اُرسطو: (إنّ جميع أخبار أهل


(1) لا يخفى أنّ إنكار حجّيّة الآية بالنسبة لنفسها أو مطلقاً لا يحلّ مشكلة استلزام وجود الشيء لعدمه، فإنّ نفس كون وجود الشيء مستلزماً لعدمه مستحيل، واستلزام الشيء لنقيضه غير معقول، لا أنّ هذا معقول وممكن غاية ما هناك أنّ ذاك الشيء الذي يلزم من وجوده عدمه يستحيل وجوده. وهذا يعني أنّ الأصحاب في المقام لم يستطيعوا الفرار من المحال بل التزموا بالمحال، وهو استلزام حجّيّة هذه الآية لعدم حجّيّتها وإن أنكروا حجّيّة هذه الآية. وقد عرضت هذا الكلام على سيّدي الاُستاذ الشهيد (رضوان الله عليه) فأمضاه.

221

أقريطش كذب) ـ وأقريطش بلد من بلاد يونان ـ فيعتبر هذا الكلام مستلزماً لاجتماع النقيضين؛ إذ يلزم من صدقه كذبه، ومن كذبه على تقدير كذب باقي أخبار الأقريطشيّين صدقه. فالأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ نسجوا الكلام على هذه الآية نسجاً منطقيّاً، بينما لو أخذنا بمفهومها العرفيّ لا تصل النوبة إلى هذا السنخ من البحث، ويجب تبديل منهج البحث، وبما أنّهم نهجوا هذا المنهج فنحن أوّلاً نقتفي أثرهم لنبيّن ما الذي ينبغي أن يقال لو انتهجنا هذا المنهج، ثُمّ نشرح بعد ذلك المنهج الصحيح للبحث.

أمّا ما نذكره بناءً على انتهاج منهج الأصحاب في المقام فهو ما يلي:

قد وقع الخلاف بين أصحاب المنطق الارسطيّ والمنطق الرمزيّ في الإيمان بالمعاني الكلّيّة من قبيل الإنسان والحيوان وغير ذلك، وإنكارها. فمنطق اُرسطو يؤمن بالمعاني الكلّيّة إلى صفّ الاُمور الجزئيّة، بينما المنطق الرمزيّ يقول: إنّ الألفاظ المفروض دلالتها على معان كلّيّة ليست إلّا رموزاً للأفراد كنفس الأعلام الشخصيّة، فكلمة (الإنسان) مثلاً لا تدلّ على معنى كلّيّ جامع بين أفراده وإنّما هي رمز لزيد وعمرو وبكر... وبناء على هذا المبنى لا يمكن للّفظ أن يشمل نفسه لاستحالة اتّحاد الدالّ والمدلول، أو الرمز وذي الرمز، وعلى هذا لا مجال لتصوّر اجتماع المتناقضين في مثل كلام الأقريطشي؛ لأنّ هذا الكلام لايشمل نفسه. وكذلك الآية الشريفة لا تشمل نفسها، ولا تردع بالمباشرة إلّا عن ظواهر باقي الآيات، فإن قلنا بما ادّعي: من العلم بتماثل تمام ظهورات الكتاب في الحجّيّة وعدمها، لزم ردعها بالملازمة عن نفسها، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان استحالة ردعها عن نفسها، فيبطل القول بردعها عن باقي ظهورات الكتاب. أمّا إذا أنكرنا هذا العلم ـ وهو الصحيح ـ فهي حجّة في إثبات عدم حجّيّة باقي ظواهر الكتاب.

222

أمّا بناءً على مبنى المنطق الارسطيّ، وهو الاعتراف بالمعاني الكلّيّة، وأنّها وإن كانت متّحدة خارجاً مع الأفراد لكنّها متغايرة معها مفهوماً وتصوّراً، وحاصلة بإجراء عمليّة التجريد بوجه من الوجوه على الأفراد وأخذ الجامع بينها ـ وهذا هو المبنى الصحيح ـ فعليه لا مانع منطقيّاً من شمول اللفظ لنفسه، فقولنا مثلاً: (الكلمة لفظ) يشمل لفظ الكلمة بلا لزوم اتّحاد الدالّ والمدلول، فإنّ المدلول في الحقيقة هو المعنى الكلّيّ المتغاير مع الأفراد المنطبق على تمام الأفراد بوجه من الانطباق، ومن تلك الأفراد المنطبق عليها ذاك المعنى الكلّيّ هو نفس لفظ الكلمة. وكذلك قولنا: (كلّ كلمة اسم وفعل وحرف)، فلفظ (كلمة) ليس ابتداءً مرآة إلى ذات الأفراد، بل مرآة إلى معنى تجريديّ منطبق على الأفراد بوجه من الوجوه.

وعلى هذا يستأنف البحث في مسألة شمول الآية الشريفة وكلام ذاك الأقريطشي لنفسها وعدمه. والأصحاب أحالوا كلا الأمرين أعني: حجّيّة الآية بلحاظ نفسها، وشمول كلام الأقريطشي لنفسه بنكتة واحدة، وهي: استلزام وجود الشيء لعدمه، فالآية لو شملت نفسها لزم من حجّيّتها عدم حجّيّتها، وكلام الأقريطشي لو شمل نفسه لزم من صدقه عدم صدقه.

ولكن التحقيق: أنّه لو تمّت دعوى الاستحالة في الموردين فهي بملاكين لا بملاك واحد، ففي كلام الأقريطشي تكون الاستحالة بملاك استلزام وجود الشيء لعدمه، وفي الآية الشريفة ليس هذا هو ملاك الاستحالة، فإنّها لو ردعت عن نفسها لم يلزم من حجّيّتها الواقعيّة عدم حجّيّتها الواقعيّة، وإنّما يلزم من حجّيّتها التعبّد بعدم حجّيّتها؛ إذ لو دلّت أمارة شرعيّة على عدم حجّيّة شيء مّا ـ كالشهرة مثلاً ـ لم يثبت بذلك عدم حجّيّة ذاك الشيء واقعاً، وإنّما يثبت بذلك عدم حجّيّته ظاهراً. فالذي يلزم من حجّيّة هذه الآية هو التعبّد بعدم حجّيّة نفسها لا عدمها واقعاً، وهذا ليس محالاً بنكتة استلزام وجود الشيء لعدمه. نعم، هو محال بملاك اللغويّة، فإنّ

223

جعل الحجّيّة لدلالة الآية الشريفة على عدم حجّيّة نفسها لغو؛ إذ لو لم يصل هذا الجعل لم يكن له أثر في إثبات عدم الحجّيّة، ولو وصل لم يمكن التعبّد بعدم الحجّيّة؛ إذ التعبّد بعدم شيء إنّما يكون في ظرف عدم وصول ذلك الشيء وعدم العلم به، وعليه فلا أثر لهذا الجعل إطلاقاً.

وما ذكرناه: من ثبوت الاستحالة في المقامين بملاكين، إنّما هو من باب التسليم بما ذكروه في مسألة خبر الأقريطشي: من لزوم استلزام وجود الشيء لعدمه. والواقع أنّ أساس المغالطة في مثل كلام الأقريطشي شيء آخر، وهو بنفسه منشأ الاشتباه في النظر إلى الآية الشريفة على أحد وجهين. وتوضيح المقصود يتمّ بالكلام تارةً بشأن خبر الأقريطشي، واُخرى بشأن الآية الشريفة:

أمّا خبر الأقريطشي: فهو في الحقيقة ينحلّ إلى عدّة أخبار غير متناهية، فإنّه قد أخبر عن كذب باقي أخبار الأقريطشيّين، وهذا بنفسه خبر لأقريطشي، فقد أخبر عن كذبه، وهذا أيضاً بنفسه خبر لأقريطشي فقد أخبر عن كذبه، وهكذا إلى ما لا نهاية له، وهذا الانحلال جاء من ناحية كون القضيّة حقيقيّة تنحلّ إلى قضايا متعدّدة بعدد أفراد موضوعها المحقّقة والمقدّرة، فهذا الكلام من الأقريطشي ليس خبراً واحداً يلزم من صدقه كذبه، بل هو أخبار لا متناهية يلزم من صدق كلّ واحد منها كذب طرفيه، ومن كذبه صدق طرفيه، فلم يلزم كون وجود الشيء مستلزماً لعدمه.

وأمّا الآية الشريفة: فتارةً يفرض أنّ موضوع الردع فيها هو ظهورات الكتاب، واُخرى يفرض أنّ موضوع الردع فيها هو الآيات الظاهرة:

فإن فرض الأوّل: كانت هذه الآية منحلّة أيضاً إلى قضايا لا متناهية بحسب الظهورات؛ إذ هي تدلّ على عدم حجّيّة باقي ظهورات الكتاب، وهذا بنفسه ظهور فتدلّ على عدم حجّيّته، وهذا في صالح حجّيّة باقي ظهورات الكتاب، وهو ظهور

224

ثان لها فتدلّ على عدم حجّيّته، وهذا في صالح عدم حجّيّة باقي ظهورات الكتاب، وهذا ظهور ثالث فتدلّ أيضاً على عدم حجّيّته، وهذا ظهور رابع لها في صالح حجّيّة باقي ظهورات الكتاب، وهكذا إلى ما لا نهاية له. فللآية ظهورات لا متناهية، والأفراد منها في صالح عدم حجّيّة ظواهر الكتاب، والأزواج منها في صالح حجّيّتها، ولا يلزم من حجّيّة أيّ واحد من تلك الظهورات عدم حجّيّته، وإنّما يلزم منه عدم حجّيّة الظهور السابق عليه المردوع عنه بهذا الظهور اللاحق، وبالنتيجة تسقط هذه الآية عن الحجّيّة وتبقى باقي ظهورات الكتاب ثابتة على حجّيّتها. وذلك لأحد وجوه ثلاثة:

الأوّل: إنّ العرف لا يرى محصّلاً لكلام ينحلّ إلى ظهورات لا متناهية يردع كلّ واحد منها عمّا قبله، فيصبح هذا الكلام مجملاً ليس له ظهور في الردع عن باقي ظهورات الكتاب.

الثاني: إنّنا لو غضضنا النظر عمّا ذكرناه من إجمال الآية قلنا: إنّ لدينا سلسلة من الظهورات اللامتناهية، أوّلها ظهورات سائر الآيات غير هذه الآية الكريمة، وهي مردوعة بظهور هذه الآية المردوع بظهور آخر لها، وهكذا إلى ما لا نهاية له. والسيرة العقلائيّة قائمة على حجّيّة أيّ ظهور من الظهورات في حدّ ذاته، أي: أنّ المرتكز عند العقلاء هو العمل بكلّ ظهور لم يردعهم رادع عن مرتكزاتهم. ولا يمكن إثبات حجّيّة كلّ هذه الظهورات بالفعل بالسيرة؛ إذ حجّيّة الظهور الرادع يستحيل أن تجتمع مع حجّيّة الظهور المردوع عنه، ولو كانت الظهورات متناهية لكانت الحجّيّة تنصبّ على آخر السلسلة بوصفه ظهوراً لا رادع عنه؛ إذ هو في ذاته ولو خُلّي وطبعه حجّة، والمفروض عدم رادع عنه، والذي قبله وإن كان أيضاً حجّة لو خلّي وطبعه لكنّه مردوع عنه بالظهور الأخير، ولكن المفروض في المقام أنّ الظهورات ليست متناهية، عندئذ تنصبّ الحجّيّة على أوّل السلسلة، بنكتة أنّ

225

فرض الحجّيّة الفعليّة لأوّل السلسلة ـ وهو باقي ظهورات الآيات غير هذه الآية ـلا يعني تعبّداً لنا بما هو خلاف طبع العقلاء، وإنّما يعني سقوط الظهور الثاني عن الحجّيّة بالقطع بكذبه، بينما فرض الحجّيّة الفعليّة للظهور الثاني يعني التعبّد بعدم حجّيّة الظهور الأوّل، أي: التعبّد بما هو خلاف طبع العقلاء. فدوران الأمر بين هذين الفرضين أوجب فعليّة تأثير الارتكاز العقلائيّ على حجّيّة أوّل السلسلة بعد ما لم يكن بالإمكان استقرار الارتكاز على حجّيّة كلّ ما في السلسلة.

الثالث: إنّ ظهورات هذه الآية متكاذبة فيما بينها، فإنّ تنافيها في الحجّيّة الفعليّة يؤدّي إلى تكاذبها، فمثلاً الظهور الأوّل لها يدلّ على عدم حجّيّة ظهور باقي الآيات. وهذا السلب مع فرض سلب حجّيّة نفس ما يظهر من هذه الآية من السلب لغو(1)، فنقطع بكذب أحد السلبين، وهذا بخلاف باقي ظهورات الآيات، فلا تكاذب بينها وبين ظهور هذه الآية الرادع عنها؛ إذ من الممكن أن تكون تلك الظهورات مطابقة للواقع، ومع ذلك سلبت الحجّيّة عنها. إذن فظهورات هذه الآية تتساقط بالتعارض والتكاذب، ويبقى باقي ظهورات الكتاب حجّة.

وإن فرض الثاني ـ أي: أنّ هذه الآية ردعت عن الآيات الظاهرة لا عن ظهورات الآيات (ولعلّ هذا هو الظاهر من الآية بعد فرض تسليم كونها بصدد الردع عن الحجّيّة) ـ: فعندئذ لا تنحلّ هذه الآية إلى قضايا لا متناهية؛ لأنّ عدد الآيات الظاهرة متناه لا محالة، فهذه الآية تدلّ على عدم حجّيّة باقي الآيات


(1) لا يخفى أن كلّ سلب بالنسبة لما بعده من السلب حكم واقعيّ بالنسبة للحكم الظاهريّ، فيجمع بينهما بما يجمع بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ من دون تكاذب. ودعوى اللغويّة تكون كدعوى لغويّة الحكم الواقعيّ الذي نفاه الحكم الظاهريّ، ولو تمّت لسرت إلى باقي ظهورات آيات الأحكام فيقال: إنّها تلغو بسلب الحجّيّة عن الظهورات الدالّة عليها.

226

الظاهرة، ولكن لا تردع عن حجّيّة نفسها؛ لما عرفت: من استحالة ذلك، وحينئذ إن ادّعينا العلم بعدم الفرق بين آية وآية في حجّيّة الظهور بطل ردع الآية عن حجّيّة باقي الآيات الظاهرة أيضاً؛ لاستلزام ذلك المحال الذي عرفناه، وإن لم ندّع ذلك ـ وهو الذي ينبغي ـ تمّ مقصود الأخباريّ من الاستدلال بعدم حجّيّة ظهورات الكتاب بهذه الآية.

وهذا تمام الكلام فيما لو نهجنا المنهج الذي سلكه الأصحاب في المقام.

والتحقيق: أنّ هذا المنهج أساساً غير صحيح، فإنّنا لسنا بإزاء بحث منطقي نتكلّم فيه عن شمول اللفظ لنفسه وعدمه، وإنّما نحن بإزاء كلام عرفيّ لا يشمل نفسه بحسب الظهور العرفيّ. ولا أقصد بذلك أنّ كلّ لفظ يشمل نفسه بحسب البحث المنطقي لا يشمل نفسه بحسب الظهور العرفيّ، فلا بأس بالقول بشموله لنفسه عرفاً ما لم تكن قرينة على الخلاف، فقولنا مثلاً: (الكلمة لفظ) شامل للفظ (الكلمة) بلا إشكال، وإنّما نقول فيما نحن فيه بعدم شمول الآية لنفسها للقرينة؛ لأنّ الآية ـ بحسب الفرض ـ ظاهرة في أنّها بصدد الردع عن اتّباع المتشابهات، وتركيز هذا القانون بين المتشرّعة، وهو ترك العمل بالآيات المتشابهة، وهذا بنفسه قرينة على عدم شمولها لنفسها؛ إذ على فرض شمولها لنفسها لا يتحقّق ما هو الغرض منها: من الردع عن اتّباع المتشابهات.

وحينئذ إن ادّعينا القطع بعدم الفرق بين آية وآية في حجّيّة الظهور وعدمها بطل دليل الأخباريّ؛ لما مضى: من استحالة ردعها عن نفسها، وإلّا تمّ دليل الأخباريّ بناءً على شمول المتشابهات للظواهر.

هذا كلّه بناءً على تسليم أصل دلالة الآية الشريفة على الردع عن العمل بالمتشابهات.

ولكن الصحيح: أنّ هذه الآية ليست بصدد الردع عن العمل بالمتشابهات أصلاً. قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ

227

وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّاَ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلّاَ أُوْلُوا الألْبَاب﴾(1).

وهذه الآية ـ كما ترى ـ لا تدلّ على أكثر من عدم جواز الاقتصار على العمل بالمتشابهات ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وقطع صلتها بالمحكمات رغم أنّها اُمّ الكتاب، كما كان ذلك عمل المشاغبين في صدر الإسلام، ولازال عملهم إلى يومنا هذا. وليس الشيء المذموم في هذه الآية هو اتّباع المتشابهات في ضوء المحكمات، والاعتراف بأنّها اُمّ الكتاب، ومن دون قطع الصلة بين المتشابهات والمحكمات. وبتعبير آخر: إنّ الآية الشريفة لم تنه عن اتّباع المتشابهات بلسان (لا تتّبع المتشابهات) مثلاً، وإنّما جاءت بلسان التخصيص بعد القسمة كأن يقول أحد: (إنّ كتابي هذا ينقسم إلى قسمين منطق وحكمة، فالجالسون في الغرفة الفلانيّة درسوا المنطق). وهذا ظاهر في أنّ الجالسين في تلك الغرفة درسوا المنطق فقط؛ لأنّ التخصيص بعد القسمة يعطي عرفاً معنى أنّ مَن خصّص به أحد القسمين مقتصر على ذاك القسم. والآية المباركة من هذا القبيل، حيث قسّم الكتاب إلى قسمين: آيات محكمات واُخر متشابهات، ثُمّ ذكر أنّ الذين في قلوبهم زيغ يتّبعون أحد القسمين وهو المتشابهات، وهذا يعني أنّهم يقتصرون على العمل بالمتشابهات. ومن الواضح عدم جواز العمل بالمتشابهات حتّى مع فرض شمولها للظواهر لا على ضوء المحكمات والنصوص، فالعمل بالظواهر يجب أن يكون بعد مدارسة النصوص والمحكمات التي يحتمل قرينيّتها لفهم المقصود من تلك الظواهر، أو أنّ أصل التبعيض في الدين والعمل بقسم دون قسم أيضاً غير جائز.

فذمّ مثل هذه الطريقة التبعيضيّة لا يدلّ بوجه من الوجوه على ذمّ اتّباع المتشابه


(1) سورة 3 آل عمران، الآية: 7.