4 ـ تحديد دائرة الحجّيّة
وأمّا الجهة الرابعة ـ وهي في بيان التفصيلات في الحجّيّة وعدمها بين بعض أقسام الظهور وبعض ـ فهناك عدّة تفصيلات:
دعوى اختصاص الحجّيّة بمن قصد إفهامه:
التفصيل الأوّل: ما اختاره المحقّق القمّيّ(رحمه الله) من التفصيل بين مَن قصد إفهامه ومَن لم يقصد إفهامه، فيكون الظهور حجّة بالنسبة للأوّل دون الثاني. ونكتة ذلك
من معرفتنا بديدنه، أو من باب أنّ عدم بيانه لتمام مراده نقض لغرضه، ونقض الغرض مستحيل.
وأمّا ما ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): من أنّ الشيخ الأعظم(رحمه الله) لم يذكر وجهاً لإثبات مدّعاه: من إرجاع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة، فالأمر بالعكس، فقد ذكر الشيخ الأعظم(رحمه الله)في رسائله ما نصّه:
«القسم الأوّل (يعني من الأمارات): ما يعمل لتشخيص مراد المتكلّم عند احتمال إرادته خلاف ذلك، كأصالة الحقيقة عند احتمال إرادة المجاز، وأصالة العموم، وأصالة الإطلاق، ومرجع الكلّ إلى أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الذي يقطع بأنّه المراد للمتكلّم الحكيم لو حصل القطع بعدم القرينة». وهذا كما ترى ظاهر فيما أشرنا إليه: من أنّنا باعتبار قطعنا بأنّ المولى بيّن مراده بمجموع الكلام وقرائنه المتّصلة والمنفصلة نعلم أنّه لا مجال لاحتمال إرادة خلاف الظاهر عدا احتمال عدم القرينة، فأصالة عدم القرينة هي التي تثبت مطابقة المراد لظاهر الكلام، ولا يوجد لدينا أصل آخر باسم أصالة الظهور.
ويرد عليه: ما عرفته سابقاً من أنّه لا كاشف عن عدم القرينة المنفصلة إلّا نفس ظهور الكلام فيما يخالف مفاد القرينة، إذن يجب الرجوع مرّة اُخرى إلى أصالة الظهور.
ـ على ما شرحه شرّاح هذه النظريّة ـ: أنّ مَن قصد إفهامه لا يحتمل وجود قرينة متّصلة لم يلتفت إليها إلّا من باب الغفلة، وهذا ينفى بأصالة عدم القرينة؛ لأنّ الغفلة على خلاف الطبع العقلائيّ، وينقّح بذلك موضوع الظهور التصديقيّ، فيتمسّك بأصالة الظهور. أمّا مَن لم يقصد إفهامه فيحتمل وجود قرينة متّصلة بين المتخاطبين لم يلتفت هو إليها رغم عدم الغفلة، فإنّ من المعقول أن ينصب شخصان متخاطبان قرينة يختصّان بعلمها، ولا يلتفت إليها الشخص الثالث الذي لم يكن مقصوداً بالإفهام، فلا تجري بشأنه أصالة عدم القرينة كي يحرز موضوع أصالة الظهور.
وقد أجاب على ذلك أكثر الاُصوليّين ـ كالمحقّق النائينيّ(رحمه الله) والسيّد الاُستاذ ـ بأنّ أصالة عدم القرينة أصل عقلائيّ مستقلّ في قبال أصالة عدم الغفلة، فيُجريها غير المقصود بالإفهام كما يُجريها المقصود بالإفهام على حدّ سواء.
وقد انقدح بطلان هذا الكلام ممّا سبق، فإنّ الأصل العقلائيّ إنّما يكون حجّة عند العقلاء من باب الكاشفيّة النوعيّة لا التعبّد الصرف، وأصالة عدم القرينة لا كاشفيّة لها إلّا من ناحية أصالة عدم الغفلة، فلو احتملت القرينة المتّصلة من ناحية ثقل سمع السامع، أو تمزّق جزء من مكتوب المولى لم تجر أصالة عدم القرينة.
والتحقيق ـ رغم ما ذكرناه ـ: هو بطلان التفصيل بين مَن قصد إفهامه ومَن لم يقصد، ولنفسّر الآن ذلك بمعنى المخاطب وغير المخاطب فنقول: إنّ مناشئ الشكّ لغير المخاطب في مراد المتكلّم واحتمال إرادته لخلاف الظاهر التي لا توجب انثلام الحجّيّة بالنسبة للمخاطب منحصرة في خمسة، ولا يصلح شيء منها ملاكاً للتفصيل بين المخاطب وغير المخاطب بحجّيّة الظهور في شأن الأوّل دون الثاني، وبهذا يبطل التفصيل:
المنشأ الأوّل: احتمال إخلال المتكلّم بذكر القرينة ولو منفصلاً، كما لو قطع بعدم
وجود القرينة المتّصلة ولا المنفصلة، ولكن احتمل مع ذلك أنّ المتكلّم قد أراد خلاف الظاهر، كما لو احتمل كونه في مقام الإخفاء المطلق للمراد.
وهذا الاحتمال كما ترى نسبته إلى المخاطب وغير المخاطب على حدّ سواء، فكلّ منهما قد يحتمل هذا الاحتمال، ولا يمكن للمخاطب ولا لغير المخاطب رفع هذا الاحتمال بأصالة عدم القرينة؛ إذ ليس بابه باب احتمال القرينة بل المفروض هو القطع بعدم القرينة، وكلاهما ـ أي: المخاطب وغير المخاطب ـ يرجعان في المقام إلى أصالة الظهور، فإنّ من الظهورات السياقيّة العقلائيّة هو ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام إبراز مراده بكلامه، وهذا الظهور السياقي نسبته إلى المخاطب وغيره على حدّ سواء(1).
المنشأ الثاني: أن يحتمل القرينة المنفصلة، كما لو قطع بعدم القرينة المتّصلة، واحتمل إرادة المتكلّم للإخفاء الموقّت لا الإخفاء المطلق، فاحتمل وجود قرينة منفصلة.
وهذا كما ترى نسبته إلى المخاطب وغيره على حدّ سواء، وهنا تجري أصالة عدم القرينة؛ لما مضى: من أنّه لا أساس لهذا الأصل في القرائن المنفصلة، وتجري أصالة الظهور، فإنّ ظاهر حال المتكلّم العاقل إنّه يعتمد في مقام بيان مراده على شخص كلامه لا على مجموع كلماته التي تكلّم بها طيلة حياته. وهذا الظهور أيضاً نسبته إلى المخاطب وغيره على حدّ سواء.
المنشأ الثالث: أن يشكّ غير المخاطب في القرينة المتّصلة من باب احتمال الغفلة، كما لو علم أنّه لم تفته قرينة على أساس فرضيّة خفائها عن غير المخاطب، وإن فاتته قرينة فإنّما هو على أساس الغفلة.
(1) ويلحق بهذا الفرض احتمال غفلة المتكلّم عن ذكر القرينة، فكلّ من المخاطب وغيره يجري أصالة عدم الغفلة.
وهذا الاحتمال كما ترى يتّفق بشأن المخاطب أيضاً كما يتّفق بشأن غير المخاطب، وكلاهما يجريان أصالة عدم الغفلة؛ لكون الغفلة خلاف الطبع.
المنشأ الرابع: أن يحتمل غير المخاطب أن يكون هناك رمز واصطلاح خاصّ بين المتكلّم والمخاطب وضعاه للتفهيم والتفهّم بينهما، وهو غير مطّلع على ذلك، فقد يكون المتكلّم مريداً لخلاف الظاهر العامّ لكلامه اعتماداً على ذاك الرمز أو الاصطلاح الموجود بينهما.
وهذا الاحتمال وإن كان مختصّاً بغير المخاطب ولكنّه مدفوع بالأصل العقلائيّ، وهذا الأصل ليس تعبّديّاً صرفاً بل يكون باعتبار الكشف النوعيّ والظهور العرفيّ، فإنّ الظاهر من العاقل حينما يتكلّم إذا كان يعيش في مجتمع يؤمن باللغة أنّه يتكلّم بلغة ذاك المجتمع لا أنّه يتكلّم باصطلاحات مخصوصة، فإن تكلّم مَن يعيش في مجتمع ويتعايش مع غيره ممّن يتخاطب باللغة باصطلاحات خاصّة وضعها بينه وبين مخاطبه يكون خلاف مقتضى الطبع العقلائيّ، ولا شكّ في المقام في جريان السيرة العقلائيّة على حجّيّة الظهور إن وجد مثل هذا الاحتمال.
المنشأ الخامس: أن يحتمل غير المخاطب وجود قرينة حاليّة بين المتكلّم والمخاطب، فإنّه قد تكون قسمات وجه المتخاطبين وانطباعاتهما، أو حركات اليد، أو استحضارهما لكلام سابق، أو حالتهما النفسيّة الخاصّة، أو نحو ذلك قرينة حاليّة على المقصود لا يفهمها مَن لم يكن حاضراً مجلس التخاطب، أو مجلس الكلام السابق.
وهذا الاحتمال أيضاً يختصّ بغير المخاطب ولا يأتي عادة في المخاطب، ومهما وجد هذا الاحتمال عقلائيّاً لم يكن له رافع أصلاً. وأمّا ما يرى بحسب الخارج: من أنّ غير المخاطب يعوّل عادة على ظهور الكلام، فليس هذا من باب التمسّك بأصل عقلائيّ يدفع هذا الاحتمال، وإنّما هو من باب أنّ الغالب عدم
وجود مثل هذه القرينة الحاليّة. أمّا لو فرض في مورد أنّه كان هناك تصوّر تفصيليّ في ذهن العقلاء عن قرينة حاليّة من هذا القبيل، وكان وجودها محتملاً احتمالاً عقلائيّاً فعندئذ لا يتمسّك بظهور كلام المتكلّم أصلاً.
ولكن هذا المنشأ لا يصلح ملاكاً للتفصيل بين المخاطب وغير المخاطب، وإنّما هو ملاك للتفصيل بين الحاضر وغير الحاضر، فإنّ احتمال وجود القرينة الحاليّة وعدم الاطّلاع عليها من غير جهة الغفلة إنّما يختصّ بمن لم يكن حاضراً مجلس التخاطب، أو مجلس الكلام السابق.
ثُمّ إنّ هذا الاحتمال لا يضرّ بحجّيّة الروايات الواصلة إلينا باعتبار عدم حضورنا مجلس التخاطب، فإنّ هذا إنّما يضرّ في مثل ما لو سمعنا الكلام من المسجّل، كما لو سئل الإمام(عليه السلام) عن الأرض هل تطهر إذا أصابتها الشمس؟ فقال(عليه السلام): (تطهر)، وسمعنا ذلك من المسجّل واحتملنا أنّ الإمام(عليه السلام) تكلّم بكلمة (تطهر) بعنوان الاستنكار الظاهر من حالته ووجهه الشريف لا بعنوان الإخبار عن مطهّريّة الشمس من دون ماء، فهذا الظهور ليس حجّة لنا. أمّا لو حكى لنا القصّة ثقة يكون كلامه حجّة بمقتضى أدلّة حجّيّة خبر الواحد فنحن وإن لم يمكننا دفع هذا الاحتمال بإجراء أصالة عدم القرينة في كلام الإمام(عليه السلام) لكنّنا ندفعه بشهادة الراوي على عدمها. إمّا بالتصريح ـ كما لو صرّح بذلك ـ أو بنفس السكوت وعدم النقل، فإنّه ظاهر في العدم، وشهادة ضمنيّة بعدم القرينة، ومقتضى أمانته ووثاقته أنّه ينقل تمام ما له دخل في تحصيل المعنى من كلام الإمام(عليه السلام)بالنسبة لشخص ذلك المجلس، ولهذا أشار الرواة في كثير من الروايات إلى القرائن الحاليّة(1).
(1) وإن شئتم قلتم: إنّ المخاطب للإمام وإن كان هو زرارة مثلاً، فظاهر كلامه حجّة
←
ثُمّ لو تنزّلنا وافترضنا فرقاً في النكتة العقلائيّة بين المخاطب وغير المخاطب، أو أنكرنا شهادة الراوي بعدم القرينة الحاليّة فسقط التمسّك بالأصل العقلائيّ في المقام قلنا: إنّنا نتمسّك بسيرة المتشرّعة؛ إذ لا إشكال في أنّ المتشرّعة لم يكونوا يفرّقون في حجّيّة الظهور بين المخاطب وغيره، ولو كان المتشرّعون غير المخاطبين لا يسلكون في مقام العمل وأخذ الأحكام الشرعيّة مسلك الاعتماد على الظهور لكان لهم مسلك آخر يصلنا، فبذلك تثبت الحجّيّة على نحو العموم، ولو فرض قصور السيرة العقلائيّة عن إثبات ذلك.
بقي هنا شيء، وهو: أنّنا إلى الآن فرضنا أنّ مقصود المفصّل هو التفصيل بين المخاطب وغير المخاطب، أي: تخصيص الحجّيّة بالمشافهين، والآن نفرض أنّ مصبّ التفصيل هو عنوان مَن قصد إفهامه ومَن لم يقصد، وهذا لا يساوي عنوان المشافهة أو المخاطب، فقد يكون الشخص مقصوداً بالإفهام رغم أنّه ليس
له لا لغيره؛ لأنّ غيره يحتمل وجود قرائن حاليّة، ولكن زرارة قد خاطب شخصاً آخر، فظاهر كلامه حجّة له، والمفروض به أن يبرز في ظاهر كلامه كلّ ما كان من قرائن حاليّة بينه وبين الإمام، وذاك الشخص الآخر خاطب شخصاً ثالثاً، فظاهر كلامه حجّة له، وهكذا إلى أن نصل إلى الكتب الواصلة بأيدينا، ونحن بالنسبة لأصحاب الكتب مخاطبون لهم أو بحكم المخاطبين، فظواهر نقولهم حجّة لنا، ولو كانت هناك قرائن في الأثناء لدى مَن بيننا وبين الإمام من الوسائط لكان عليه النقل.
ومن هنا يظهر أنّ أصل مبحث اختصاص حجّيّة الظواهر بالمشافهين، أو بمن قصد إفهامه ليس له أثر مهمّ في الشريعة؛ لأنّنا بالنسبة لمن قبلنا مشافهون، أو مقصودون بالإفهام إلى أن يصل الأمر إلى الإمام(عليه السلام).
مخاطباً، وقد يكون الشخص مخاطباً مع أنّه ليس مقصوداً بالإفهام(1).
ويظهر من التأمّل فيما ذكرناه مفصّلاً في تحقيق عدم الفرق بين المخاطب وغيره في الحجّيّة أنّ التفصيل بين المقصود بالإفهام وغيره أيضاً لا أساس له.
نعم، يوجد فرق بين المقصود بالإفهام وغيره في أمر عقليّ لا يكون فارقاً من زاوية حجّيّة الظهور، وهو: أنّ بعض الاحتمالات الخمسة الماضية لا يتطرّق بالنسبة للمقصود بالإفهام، كما ترى أنّ احتمال الإخفاء المطلق أو الموقّت غير موجود بشأن المقصود بالإفهام؛ إذ هو خلف كونه مقصوداً بالإفهام. وهذا فرق في الدلالة العقليّة دون حجّيّة الظهور، فالمقصود بالإفهام وغير المقصود بالإفهام كلاهما ينفيان احتمالات إرادة خلاف الظاهر، إلّا أنّ المقصود بالإفهام ينفي بعضها بالدلالة العقليّة وبعضها بالتعبّد، وغير المقصود بالإفهام ينفي جميعها بالتعبّد. وهذا الفرق كما ترى غير فارق في المقام.
وهنا أيضاً يأتي ما ذكرناه: من أنّه لو فرض أنّ نكتة السيرة العقلائيّة لا تقتضي شمول السيرة لكلا القسمين رجعنا إلى سيرة المتشرّعة، فإنّهم لا يفرّقون بين مَن قصد إفهامه ومَن لم يقصد.
ثُمّ لو سلّمنا التفصيل بين المقصود بالإفهام وغيره تصل النوبة إلى البحث في الصغرى، فهل إنّنا مقصودون بالإفهام في كلمات الأئمّة(عليهم السلام)أو لا؟ وهنا يكفي للمحقّق القمّيّ(رحمه الله) الشكّ؛ إذ معه لم يحرز موضوع الحجّيّة كي يحكم بالحجّيّة،
(1) كأنّ مقصود المفصّل في المقام هو الثاني، أي: التفصيل بين مَن قصد إفهامه ومَن لم يقصد، إلّا أنّه يرى أنّ هذا ينتج التفصيل بين المشافه وغير المشافه؛ لأنّ المشافه مقصود بالإفهام، إمّا بدعوى القطع، أو بدعوى ظهور حال المشافه في كونها للإفهام بخلاف غير المشافه.
فلابدّ لمدّعي الحجّيّة إثبات أنّنا مقصودون بالإفهام.
وهنا يذكر أنّ كوننا مقصودين بالإفهام من الواضحات؛ إذ من المعلوم أنّ الأدلّة إنّما هي بصدد بيان أحكام مشتركة بيننا وبين زرارة مثلاً، لا بصدد بيان أحكام خاصّة به، فلمّـا كان الحكم عامّاً وجب كون القصد عامّاً.
ولكن لا يخفى أنّ مجرّد كون الحكم عامّاً لا يعني كوننا مقصودين بالإفهام، فمن الممكن أن يكون الحكم مشتركاً بيننا وبين مثل زرارة مع اختصاص المقصود بالإفهام بمثل زرارة، فإنّ وجه تخصيصه بالإفهام هو أنّ الإمام(عليه السلام) كان يتكلّم بطريقة يختصّ فهمها بالمخاطبين لأجل قرائن كانت موجودة بينه وبينهم، وليس معنى ذلك أنّه(عليه السلام) كان يتكلّم بحكم مختصّ بهم.
يبقى أنّه إذا كان غير المخاطبين غير مقصودين بالإفهام مع أنّ الحكم يشملهم فماذا يصنعون في مقام استنباط الحكم؟ والجواب: أنّهم يستنبطونه بحسب القواعد الموضوعة لهم، فمثلاً صاحب القوانين يرى أنّ ما هو الحجّة بشأنهم هو الظنّ المطلق؛ لأجل عدم حجّيّة الظهور لهم، وانسداد باب العلم والحجّة عليهم. بخلاف المخاطبين الذين كانوا مقصودين بالإفهام، وكان الظهور حجّة لهم. فهنا طريقان للاستنباط: أحدهما: التمسّك بالظهور، وهو ثابت للمخاطبين. والآخر: التمسّك بالظنّ المطلق، وهو ثابت لغيرهم. وهنا شيء واحد بالإمكان أن يقال في المقام، وهو: أنّ هذا المطلب غير محتمل في نفسه، أي: أنّنا لا نحتمل أنّ الشارع فرض طريقين للاستنباط أحدهما يختصّ بالمخاطبين والثاني بغيرهم؛ إذ لو كان كذلك لما اتّفقت سيرة المتشرّعة في تمام الأعصر على العمل بالظهور دون رادع ولا زاجر. إلّا أنّ هذا رجوع إلى ما مضى منّا: من إثبات حجّيّة الظهور لغير المخاطبين أو غير المقصودين بالإفهام بالتمسّك بسيرة المتشرّعة، وليس إثباتاً لكوننا مقصودين بالإفهام.
هذا بالنسبة للروايات. أمّا بالنسبة للكتاب الكريم فلا شكّ أنّنا مقصودون بالإفهام، وأنّ هذا الكتاب المنزل للعالم لم يعتمد فيه على قرينة حاليّة لعصر النزول، فيكون ظاهره حجّة لنا.
أمّا لو احتملنا القرينة الحاليّة بالنسبة للكتاب لم يندفع هذا الاحتمال بشهادة الراوي؛ لأنّ الرواة إنّما كانوا بصدد نقل ألفاظ الوحي فقط، وليس لهم شهادة ضمنيّة بعدم القرينة الحاليّة، بل يشهدون بأنّهم ليسوا بصدد نقل الاُمور المكتنفة بنزول الوحي وإنّما جمعوا نفس ألفاظ الوحي.
دعوى اختصاص الحجّيّة بالمعاصرين للخطاب:
التفصيل الثاني: هو التفصيل بحسب الزمان بدعوى اختصاص حجّيّة الظهور بأهل عصر الخطاب لا بمعنى اختصاصها بالمخاطبين أو بمن قصد إفهامهم، بل بمعنى اختصاصها بمقطع زمنيّ تكون اللغة ثابتة فيه نسبيّاً، ولا نقصد بالمقطع الزمنيّ ذات المقطع الزمنيّ الذي صدر فيه النصّ بمعنى أنّ كلّ مَن كان حيّاً حين صدور النصّ كان ظهور النصّ حجّة له، وكلّ مَن جاء بعد ذلك لم يكن ظهور النصّ حجّة له، وإنّما نقصد المقطع الزمنيّ الذي لا يؤثّر مرور الزمان فيه تأثيراً ملحوظاً في تغيّر اللغة.
وتوضيح المقصود: أنّ اللغة رغم ثبوتها نسبيّاً بمعنى دوام الظهور الوضعيّ والسياقي لفترة معتدّ بها من الزمن هي في تطوّر دائم وتتحرّك حركة بطيئة، وبمضيّ الدهور يشتدّ التغيير، وليس نظرنا فعلاً إلى تغيّر أصل اللغة بمعنى انتقال اللسان من لغة إلى لغة اُخرى كما في العربيّة الفصحى والعربيّة الدارجة اليوم، وإنّما نظرنا إلى التطوّر الواقع داخل لغة واحدة.
والوجه في هذا التطوّر هو: أنّ اللغة لا ينظر إليها بنظر الموضوعيّة، وإنّما هي
أداة لإفادة المقصود وتعبير عن الأفكار والحاجيّات، فهي مقصودة بالغير وليست مقصودة بالذات، فإذا كان ما نقصد به متطوّراً فمن الطبيعيّ أن تتطوّر اللغة تبعاً لتطوّره، فاللغة تتأثّر بمختلف العوامل المؤثّرة في الأفكار والحاجات والتعايش والمجتمعات ونحو ذلك، فترى التطوّر والتغيّر في اللغة بحسب اختلاف الأمكنة والطبقات والزمان، تارةً في وضع كلمة جديدة أو نشوء سياق جديد، واُخرى في معنى الكلمة السابقة أو السياق القديم، ونظرنا فعلاً إلى القسم الثاني، أي: التطوّر في معنى الكلمة أو السياق، كما نرى مثلاً: من أنّ كلمة الاشتراكيّة تعطي في زماننا معنى لم تكن تعطيه فيما سبق. وهذا النمط من التغيّر في الكلمة أكثر بكثير من التغيّر فيها بمعنى وضع كلمة جديدة، أي: عادة حينما تتغيّر الأحوال يتصرّف الناس في نفس الكلمات المأنوسة لديهم سابقاً من دون الاستفادة من الكلمات التي كانت مهملة لديهم ككلمة (ديز)، والتطوّر كما يقع في الكلمات يقع في الدلالات السياقيّة للجمل التركيبيّة، فإنّ تأثير العوامل المختلفة ليس مختصّاً بالظهور الوضعيّ بل يقع في الظهور السياقي أيضاً، فيؤثّر في اختلاف الأفكار والحاجات والبيئات بمرور الزمان، وقد يتّفق اختلاف الظهور السياقي في زمان واحد لطبقتين باعتبار اختلاف المطالب التي أنست بها هذه الطبقة أو تلك مثلاً. ولأجل توضيح الفكرة أذكر حكاية وقعت لي وهي: أنّي راجعت حديثاً في باب الحجّ يسأل فيه الراوي الإمام(عليه السلام) عن رجل عليه دين هل عليه أن يحجّ؟ قال: نعم. فقد فهمت أوّل الأمر من هذا الحديث أنّه مهما وقع التزاحم بين الحجّ والدين المنجّز كلّ واحد منهما بالفعل بغضّ النظر عن الآخر كان الحجّ أهمّ ومقدّماً على الدين. ثُمّ احتملت أنّ هذا الفهم ناشئ من اُنس ذهنيّ بمطالب باب التزاحم، وأنّ هذا الكلام ظاهره أنّ الدين ليس من المستثنيات في باب الحجّ، فلو كان ما لديه من المال بمقدار لو خرج منه الدين لسقط عن الاستطاعة لم يكن هذا موجباً لعدم
وجوب الحجّ عليه. ثُمّ راجعت كلمات الفقهاء فرأيتهم فهموا من الحديث المعنى الثاني.
وعلى أيّ حال، فالمقصود من هذا التفصيل هو دعوى اختصاص حجّيّة الظهور بمن كان حاضراً في عصر الخطاب لا بمعنى اللحظة التي صدر فيها ذاك الخطاب، بل بمعنى مقطع زمنيّ كان الظهور ثابتاً فيها؛ لما عرفت: من أنّ اللغة لها ثبات نسبي في مقدار من الزمن.
وقبل التحقيق في صحّة هذا التفصيل وعدمها ننظر في أنّه هل هذا في الحقيقة تفصيل في حجّيّة الظهور في قبال ما اشتهر في لسان الأصحاب: من حجّيّة الظهور على الإطلاق، أو لا؟ وهذا متفرّع على تحقيق معنى الظهور الذي جعل موضوعاً للحجّيّة هل المقصود منه هو ظهور عصر الصدور، أو ظهور عصر الوصول؟ فعلى الأوّل ليس هذا تفصيلاً وخروجاً عن مبنى الحجّيّة المعروفة، وإنّما هو توضيح للمبنى. وعلى الثاني يكون هذا تفصيلاً في حجّيّة الظهور.
والظاهر هو الأوّل بقرينة تمسّكهم بأصالة عدم النقل؛ إذ لو كان موضوع الحجّيّة عندهم ظهور عصر الوصول لم تكن حاجة إلى أصالة عدم النقل.
ولنا هنا كلامان:
أحدهما: في صحّة هذا المدّعى، أعني: كون موضوع الحجّيّة ظهور عصر الصدور وعدمها.
والثاني: أنّه بعد الفراغ عن صحّة ذلك ما هي وظيفتنا في باب التمسّك بالظهور.
أمّا الكلام الأوّل: فالتحقيق صحّة القول بأنّ موضوع الحجّيّة هو ظهور عصر الصدور دون عصر الوصول؛ لما مضى: من أنّ الاُصول العقلائيّة إنّما تكون بحسب الارتكاز العقلائيّ بملاك الكشف النوعيّ لا التعبّد الصرف، والذي يكشف كشفا نوعيّاً عن مراد المتكلّم إنّما هو ظهور عصر الصدور وليس ظهور عصر الوصول.
وأمّا الكلام الثاني: فكأنّ الاُصوليّين حينما عرفوا: إنّ الأصل العقلائيّ إنّما
يقتضي حجّيّة ظهور عصر الصدور دون عصر الوصول أرادوا أن يعالجوا الأمر بأصل عقلائيّ آخر وهو أصالة عدم النقل، فينقّح بهذا الأصل موضوع أصالة الظهور ثُمّ يتمسّك بأصالة الظهور.
والتعبير بأصالة عدم النقل فيه قصور؛ لما بيّنّاه: من أنّ المتغيّر في اللغة ليس فقط خصوص الظواهر الأفراديّة التي تنقل من معنى إلى معنى آخر، بل قد تتغيّر ظواهر الجمل التركيبيّة من باب تغيّر السياق لا من باب النقل المخصوص بباب الوضع والظهورات التصوّريّة، فقد يتغيّر الظهور التصديقيّ من دون تغيير في الوضع والظهور التصوّريّ، فالأولى التعبير بـ (أصالة عدم التغيّر في اللغة) و(أصالة ثبات اللغة) المناسب لنفي تطوّر المعنى الأفراديّ وتطوّر المعنى التركيبي معاً، لا التعبير بأصالة عدم النقل.
أمّا الكلام في صحّة هذا الأصل وعدمها: فلا إشكال في صحّته؛ لبناء العقلاء بناءً عامّاً ارتكازيّاً على أصالة الثبات في اللغة، وأنّ التغيير حالة استثنائيّة لا يعتنى باحتمالها. وهذا الارتكاز حصل لهم كنتيجة خاطئة للتجربة، حيث إنّ كلّ فرد من أفراد العرف والعقلاء رأى بحسب تجربته في الفترة القصيرة من الزمن عدم تغيّر اللغة عادة وكون تغيّرها حالة استثنائيّة، فهذا الثبات النسبي للّغة في فترة قصيرة أوحى إليهم ارتكاز أنّ هذا مقتضى طبيعة اللغة بحسب عمود الزمان الطويل، ورجعوا على الإطلاق إلى أصالة عدم التغيّر، وهذا تعميم عرفيّ لا منطقيّ لتجربة عاشها كلّ فرد من أفراد العرف. ومظاهر هذا الارتكاز العامّ، أعني: ارتكاز عدم تغيّر اللغة عادةً، وإن كانت لا تظهر في باب الحجّيّة بالنسبة للموالي الآخرين غير الشارع؛ لعدم وجود موال وعبيد يتحقّق بين زمانهما فصل طويل، لكنّها تظهر في مجال أغراضهم ومقاصدهم. فمثلاً لو تعلّق غرضهم بتطبيق إرادة الواقف أو الموصي فيما وقفه أو أوصى به، وقد مات الواقف أو الموصي عملوا بما
يستظهرون من صيغة الوقف أو الوصيّة الباقية من ذاك الواقف أو الموصي ولو كان التأريخ الفاصل بين الزمان الحاضر وزمان الواقف أو الموصي طويلاً جدّاً.
وبما أنّ هذا البناء من قِبَل العقلاء يشكّل خطراً على أغراض الشارع يكون عدم ردعه عنه دليلاً على إمضائه، وفعليّة هذه السيرة وخطرها على أغراض الشارع إن كانت متأخّرة من زمن الشارع فهذا لا يمنع عن لزوم الردع عنها على تقدير عدم رضاه بها، فإنّ الالتفات إلى أنّه سيكون أمر من هذا القبيل، أو على الأقلّ احتماله أمر طبيعيّ، وليس الردع عن ذلك من باب إعمال العلم بالغيب كي يقال: إنّ الأئمّة(عليهم السلام)إنّما كانوا يبلّغون الأحكام بالطريقة المتعارفة.
هذا مضافاً إلى أنّه قد تحقّقت هذه السيرة، وتحقّق الخطر بالفعل في زمن المعصوم(عليه السلام)؛ إذ إنّ المتشرّعة كانوا يعملون بظواهر النصوص المأثورة عن المعصومين الأوائل(عليهم السلام)مع أنّ الفاصل الزمنيّ بين رسول الله(صلى الله عليه وآله) والهادي والعسكريّ(عليهما السلام)فاصل طويل، وتلك الفترة الزمنيّة فترة متطوّرة من النواحي الاجتماعيّة والفكريّة والمادّيّة، وعامرة بالعلوم المختلفة، ومتحرّكة في شتّى النواحي والجهات ولم تكن فترة راكدة، وبالرغم من ذلك كان المتشرّعة يعملون بظواهر الكتاب والسنّة الواصلة إليهم من أيّ واحد من المعصومين بنهج واحد بلا رادع ولا مانع من قِبَل الأئمّة(عليهم السلام)، وعدم الردع دليل الإمضاء.
وليس هذا إمضاء لأصالة الثبات في المقدار الثابت في زمن المعصوم من احتمال التطوّر فقط حتّى يقال: إنّ التطوّر في اللغة قد اشتدّ في زماننا بطول المدّة، بل هذه السيرة سنخ سيرة يكون السكوت عنها إمضاء لنكتتها. ولا نعني بإمضاء النكتة إمضاء خطأ العقلاء في تخيّلهم أنّ المدّة الطويلة كالمدّة القصيرة في الثبات النسبي للّغة، كي يقال: إنّه لا يعقل من الشارع إمضاء الخطأ، وإنّما نعني بإمضائها البناء على أصالة عدم التغيّر التي هي النكتة لعملهم، وإمضاؤها لا يلزم إمضاء
مبانيها، فمبانيها وإن كانت خاطئة لكن الشارع رأى بحكمته البالغة أنّ إرجاع الناس إلى أصالة عدم التغيّر أصلح من إرجاعهم إلى مرجع آخر، فأمضى الأصل.
هذا. ولا يمكن في المقام التمسّك بسيرة المتشرّعة بالمعنى المغني عن الإمضاء لكونها في طول رأي الشارع؛ لأنّ سيرة المتشرّعة في المقام لا تكشف عن إذن الشارع؛ إذ ليس من المستبعد غفلة جميع المتشرّعة عن احتمال عدم صحّة هذا المسلك، وأن يكون عملهم بذلك تطبيقاً للسيرة العقلائيّة القائمة على أساس النكتة الخاطئة التي لا تقتضي العادة التفاتهم إلى بطلان هذه النكتة، أو عدم مقبوليّة هذا المسلك للشارع(1).
(1) مضى منّا أنّ سيرة المتشرّعة بالمعنى العامّ التي تشمل سيرتهم التي يأخذونها من العقلاء يدلّ نفس استقرارها على الإمضاء؛ إذ لو ردع الشارع عنها لانكسرت.
ثُمّ إنّ ما أفاده(رحمه الله): من كون سيرة العقلاء في المقام مبنيّة على نكتة خاطئة، قد يورد عليه بأنّ التطوّر الثابت في اللغة مادامت هي لغة واحدة لا يعدو عن كون الظهورات المتبدّلة فيها بالقياس للظهورات غير المتبدّلة قليلة، فتبقى لأصالة الثبات كاشفيّتها النوعيّة، والدليل على قلّة التطوّرات والتبدّلات للظهور إنّنا حينما نرجع إلى نصوص القرآن الكريم، أو الروايات، أو النصوص الموروثة تأريخيّاً نرى أنّنا نفهم منها معاني متنسّقة ومقبولة، بينما لو كان قد وقع التطوّر الكثير في الظهورات لكنّا نبتلي فيها كثيراً بعبائر غير متّسقة المعنى. وافتراض أنّ التطوّر والتبدّل صار دائماً بنحو قد تبدّل ظهور العبارة المتّسق والمقبول بظهور آخر متّسق ومقبول بعيد بحساب الاحتمالات، وحينما يصل أمر تطوّر اللغة إلى هذا المستوى لا نقبل فرض بناء العقلاء على أصالة الثبات وعدم التغيّر، والعمل بما يفهم الآن من ظهور الكلام القديم.
وقد يقصد اُستاذنا(رحمه الله) أنّ تطوّر اللغة وتبدّل الظهور ضمن زمن طويل ليس على خلاف الطبع وإن كانت نسبة ما تبدّل إلى ما لم يتبدّل نسبة ضئيلة، والعقلاء في باب
←
الظواهر إنّما يتمسّكون بالاُصول العقلائيّة لنفي ما يكون على خلاف الطبع كالغفلة وإرادة الإخفاء ونحو ذلك، وبما أنّ التطوّر في زمن قصير يعدّ عرفاً على خلاف الطبع لكون أسبابه في غاية الندرة عمّم العرف الأمر خطأ على الأمد الطويل، قياساً للمقدار غير الداخل في تجربة الفرد العرفيّ على المقدار الداخل في تجربته.
هذا. ولا أجد بعد الاعتراف بقلّة التطوّرات بالقياس إلى موارد الثبات معنىً معقولاً لافتراض كون الشيء القليل نسبيّاً خلاف الطبع تارةً ووفق الطبع اُخرى إلّا بمعنى ندرة السبب وعدم ندرته، أي: أنّ كون الشيء القليل على خلاف الطبع أو عدمه يدور مدار مقدار ضآلة النسبة المئويّة لوجوده.
أمّا لو قصد بمخالفة الطبع مخالفة المقتضي لأجل مانع فمقتضي التطوّر في اللغة موجود وحتّى في الفتر القصيرة التي فيها تطوّر نادر، فالمفروض أن يقال: إنّ العقلاء أخطأوا حتّى بلحاظ الفترة القصيرة. على أنّه لا مبرّر لجعل المقياس مسألة المقتضي والمانع، فإنّ أساس الاُصول العقلائيّة هو الكشف، والكشف يدور مدار الكثرة والندرة، لا مدار كون ما يقع نادراً مخالفاً لما يتطلّبه المقتضي أو لا.
ثُمّ إنّه قد يورد على إثبات أصالة الثبات في اللغة بالتمسّك ببناء العقلاء بأنّ بناء العقلاء لعلّه ليس على أصالة الثبات، بل هم غفلوا عن أصل احتمال التغيّر فقطعوا بالثبات، لا أنّهم أجروا أصالة الثبات.
وكأنّ اُستاذنا(رحمه الله) كان بصدد علاج هذا المشكل حينما ذكر ـ على ما نقل عنه في دورته الأخيرة ـ: أنّه لولا قبول الشارع لأصالة الثبات فغفلة العقلاء عن أصل احتمال التغيّر تشكّل خطراً على أغراضه، فكان عليه تنبيهم وإلفاتهم إلى هذا الاحتمال.
ونقل أيضاً عن اُستاذنا(رحمه الله) في دورته الأخيرة أنّه قال: إنّه بعد أن كانت نكتة جريان
←
ثُمّ إنّ العلم الإجماليّ بوقوع التطوّر لا يوجب سقوط الظهورات عن الحجّيّة؛ إذ ليس العلم الإجماليّ متعلّقاً بخصوص تطوّر بعض الظهورات الإلزاميّة إلى ما لا يدلّ على الإلزام أو يدلّ على عدم الإلزام، وإنّما العلم الإجماليّ تعلّق بدائرة
أصالة الثبات وعدم النقل عند العقلاء هي غرابة وقوع النقل إذن يشكل جريان أصالة عدم النقل إلى زمان متأخّر إذا علمنا بأصل النقل وشككنا في تقدّمه وتأخّره، فإنّ الغريب كان هو أصل النقل وقد وقع، وبعد فرض وقوعه لا فرق بين أن يكون متقدّماً أو متأخّراً. كما أنّه يشكل جريان أصالة عدم النقل عند معرفة وجود أحداث ووقائع يحتمل كونها سبباً للنقل بخلاف ما إذا شكّ في أصل ما يوجب النقل؛ وذلك لأنّ القدر المتيقّن من انعقاد السيرة هو غير هذا الفرض الذي لا استبعاد فيه في النقل.
ونقل أيضاً عن اُستاذنا(رحمه الله): أنّه لا يمكن أن نجري الاستصحاب الشرعيّ لعدم النقل عند الشكّ في التقدّم والتأخّر كي نصل إلى نفس نتيجة أصالة عدم النقل العقلائيّة، كما قد يتوهّم ذلك في موارد جريان أصالة عدم القرينة أيضاً تأكيداً لها، فيقال: إنّ القرينة منفيّة بالأصل العقلائيّ وبالاستصحاب، والوجه في عدم جريان الاستصحاب: أنّ لتقريب جريانه صيغتين، وكلتاهما غير تامّة:
الاُولى: استصحاب علاقة اللفظ بالمعنى التي تسبّب فعليّة الظهور عند الاستعمال. وهذا غير جار؛ لأنّ هذه العلاقة ليست حكماً شرعيّاً، ولا موضوعاً لحكم شرعيّ. أمّا الأوّل فواضح. وأمّا الثاني فلأنّ موضوع الحكم الشرعيّ إنّما هو الظهور الفعليّ، وإثباته باستصحاب علاقة اللفظ بالمعنى تمسّك بالأصل المثبت.
الثانية: أن يقال: إنّ هذا الكلام لو كان قد صدر في زمان سابق لكان ظاهراً في كذا، فكذلك الأمر في الزمان اللاحق؛ وذلك للاستصحاب. وهذا أيضاً غير تامّ؛ لأنّ هذا استصحاب تعليقيّ في الموضوعات، وهو إن كان حجّة في الأحكام فليس بحجّة في الموضوعات.
واسعة تشمل ما كانت من ظهورات إلزاميّة وغيرها، وتبدّل الظهورات غير الإلزاميّة لا يضرّ شيئاً. إذن لا موجب لسقوط الظهورات عن الحجّيّة(1).
(1) قد يقال: إنّ شرط إلزاميّة الأثر في كلّ الأطراف لتساقط الاُصول إنّما هو في الاُصول الشرعيّة، أمّا الاُصول العقلائيّة فحجّيّة مثبتاتها تتعارض فيما بينها عند العلم الإجماليّ بالخلاف، ولو لم يكن قد تعلّق العلم بأثر إلزاميّ ينفى بهذه الاُصول في جميع الأطراف.
ويمكن حلّ هذا الإشكال بعدّة وجوه:
الأوّل: أنّ بعض أطراف العلم الإجماليّ في المقام خارج عن موضوع الحجّيّة؛ لعدم ترتّب أثر إلزاميّ ولا ترخيصيّ عليه، كالأخبار الواردة في غير باب الأحكام، فتبقى أصالة الثبات في باقي الأطراف حجّة بلا معارض.
وقد يورد عليه ـ لو سلّم بعدم وجود علم إجماليّ صغير في دائرة نصوص الأحكام ـ بأنّ أصالة الثبات في نصوص غير الأحكام تدلّ بالدلالة الالتزاميّة على وقوع التغيّر في نصوص الأحكام. والدلالة المطابقيّة وإن لم تكن حجّة لعدم ترتّب أثر عليها، ولكن الدلالة الالتزاميّة حجّة؛ لترتّب الأثر عليها، فيقع التعارض. وتبعيّة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة إنّما تقبل في موارد انخرام كشف المطابقيّة لا في موارد عدم حجّيّتها من باب عدم ترتّب الأثر عليها.
الثاني: أن يقال: إنّ الشبهة في المقام غير محصورة، فلا تضرّ بحجّيّة الظواهر.
وقد يورد على ذلك بأنّ كون الشبهة غير محصورة أثره إسقاط العلم الإجماليّ عن التنجيز، وبالتالي جريان الاُصول الترخيصيّة الشرعيّة. أمّا الاُصول العقلائيّة فقد تساقطت بسبب التعارض فيما بينها. وكون الشبهة غير محصورة لا يرفع التعارض الموجود بين الدلالة المطابقيّة للبعض والدلالة الالتزاميّة للبعض الآخر، فأصالة الثبات في بعض الظهورات تثبت لا محالة عدم الثبات في بعض آخر، ويقع التعارض بين الاُصول سواء
←
كانت الشبهة محصورة أو غير محصورة.
نعم، بالإمكان أن نبقى نتمسّك على الإجمال بغالب الظهورات، أي: بما عدا مقدار المعلوم بالإجمال تغيّره، وبالتالي نأخذ بجميع الظهورات الإلزاميّة من باب الاحتياط؛ للعلم الإجماليّ بحجّيّة أكثرها، لكنّ هذا غير حجّيّة الظهورات بالتفصيل التي لها آثارها: من التخصيص، والتقييد، والحكومة، والورود فيما بين الحجج.
ولكن الصحيح: أنّ كون الشبهة غير محصورة ينهي التعارض في المقام. بيان ذلك: أنّ أصالة الثبات في كلّ ظهور قد ابتلت بمؤشّر ضدّها يؤشّر إلى التغيّر وعدم الثبات، وهذا المؤشّر عبارة عن الدلالة الالتزاميّة الناتجة عن باقي الظهورات منضمّـاً إلى العلم الإجماليّ بوقوع التغيّر، ولكن بما أنّ الشبهة غير محصورة والنسبة المئويّة المعلومة التغيّر ضئيلة فالمؤشّر بالنسبة لكلّ واحد من الظهورات بالخصوص ضعيف للغاية إلى حدّ لا يعتبره العقلاء حجّة، وتبقى الحجّيّة خاصّة بالدلالات المطابقيّة، ولا يبقى محذور عن الأخذ بها عدا محذور مخالفة الأثر الإلزاميّ، وهو منفي إمّا بكون الشبهة غير محصورة، أو بأنّ جميع الأطراف ليست ذا أثر إلزاميّ.
الثالث ـ وهو الأقرب إلى كلام اُستاذنا(رحمه الله) الذي نقلناه في المتن ـ: أنّ العلم الإجماليّ بوقوع التغيّر في بعض ما بأيدينا من الظهور ناتج عن حساب الاحتمالات القائم على أساس احتمالات التغيّر في الأطراف، والعلم الإجماليّ القائم على أساس جمع احتمالات الأطراف لا يولّد العلم بقضايا شرطيّة مقدّمها نفي المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف، وتاليها إثباته في طرف آخر؛ لأنّ فرض نفي المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف هو فرض إبطال تجميع احتمالات المعلوم بالإجمال، ومن هنا لا تتكوّن أصلاً دلالة التزاميّة للأصل في كلّ طرف على نفيه في طرف آخر، فيبقى المحذور منحصراً في
←
حالة الشكّ في قرينيّة المنفصل:
التفصيل الثالث ـ وهو التفصيل بين الشكّ في قرينيّة المنفصل والشكّ في وجود القرينة المنفصلة، بعدم حجّيّة الظهور في الأوّل، وحجّيّته في الثاني ـ: فالمشهور فرّقوا بين القرينة المتّصلة والقرينة المنفصلة، ففي القرينة المتّصلة ذهبوا إلى التفصيل بين الشكّ في قرينيّة المتّصل، والشكّ في وجود القرينة المتّصلة، فمتى ما شكّ في قرينيّة المتّصل لم يجز التمسّك بالظهور، ومتى ما احتملنا وجود قرينة متّصلة غفلنا عنها جاز لنا التمسّك بالظهور، بينما قالوا في القرينة المنفصلة: إنّه متى شككنا فيها تمسّكنا بالظهور من دون فرق بين كون الشكّ في قرينيّة المنفصل، أو في وجود القرينة المنفصلة.
أمّا كلامهم في باب القرينة المتّصلة فمتين، وهو في الحقيقة ليس تفصيلاً في حجّيّة الظهور، فإنّ الشكّ إن كان في وجود القرينة المتّصلة جرت أصالة عدم القرينة، وتنقّح بذلك موضوع الظهور المتقوّم بعدم القرينة، فنتمسّك بأصالة الظهور. وإن كان الشكّ في قرينيّة الموجود المتّصل فلا تجري أصالة عدم القرينة؛ لما عرفت: من أنّ النكتة في أصالة عدم القرينة المتّصلة إنّما هي غلبة عدم الغفلة، فمع الشكّ في القرينة من وجهة اُخرى، كاحتمال معنىً معيّن للّفظ المتّصل على تقديره يكون قرينة، لا يمكن نفيها بأصالة عدم القرينة، وبالتالي لا يحرز موضوع الظهور كي نتمسّك بأصالة الظهور.
مخالفة التكليف الإلزاميّ، وقد فرضنا ـ مثلاً ـ أنّ أطراف العلم الإجماليّ ليس كلّها ذا أثر إلزاميّ، إذن لا يبقى محذور في المقام.
وهذا قد يكون بابه باب الشكّ في الظهور كما لو قال المولى: (أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم)، وكلمة (الفسّاق) لم تكن مجملة في نفسها لكنّا كنّا جاهلين بمعناها وأنّها تشمل مرتكب الصغيرة، أو لا؟ فهذا يكون بابه باب احتمال قرينيّة المتّصل على خروج مرتكب الصغيرة، والشكّ فيها يساوق الشكّ في الظهور، فلا ندري هل أنّ هذا الكلام له ظهور في وجوب إكرام العالم المرتكب للصغيرة التارك للكبيرة، أو لا؟ ومع الشكّ في الظهور لا مجال للتمسّك بأصالة الظهور.
وقد يمكن أن يفترض في بعض الأحيان أنّ بابه باب الإجمال لا باب الشكّ في الظهور. وذلك كما في المثال السابق فيما لو افترضنا أنّ (الفاسق) في نفسه مجمل وليس ظاهراً في أحد المعنيين، فلا محالة يسري إجمال ذلك إلى الكلام المتّصل به، فيكون الكلام مجملاً.
ولكن التحقيق: أنّ الظهور التعليقيّ هنا ثابت، أي: أنّ قوله: (أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم) ظاهر في وجوب إكرام كلّ عالم لم يكن مقصوداً بكلمة (الفسّاق)، وأنّ العالم المرتكب للصغيرة إن لم يكن داخلاً فيما اُريد من كلمة (الفاسق) فهو واجب الإكرام. ولذا لو قال المولى: (يجب إكرام كلّ عالم غير فاسق) وقال أيضاً: (تجب مجالسة كلّ عالم غير فاسق)، وعلمنا إجمالاً بأنّ المراد بالفاسق في أحد الكلامين هو مرتكب الكبيرة لا مطلق العاصي تحقّق العلم الإجماليّ بوجوب أحد الأمرين ظاهراً: الإكرام، أو المجالسة بشأن العالم المرتكب للصغيرة.
إذن فالعمدة في باب احتمال قرينيّة المتّصل هي: أنّه لا تجري أصالة عدم القرينة، وبالتالي لا يحرز موضوع الظهور مطلقاً، لا أنّه يحرز عدمه في بعض الأوقات. هذا كلّه في باب القرينة المتّصلة.
أمّا كلامهم في باب القرينة المنفصلة ـ وهو عدم التفصيل في الحجّيّة بين احتمال وجود القرينة واحتمال قرينيّة الموجود ـ فوجهه: أنّ الظهور محرز على
كلّ تقدير؛ لأنّ القرينة المنفصلة لاتصادم أصل الظهور، فلا بأس بالتمسّك بالظهور ما لم يحرز عدم إرادته بقرينة معلومة.
والمقصود هنا إبراز تفصيل في قبال هذا الكلام، وهو أن يقال: إنّه لو شككنا في وجود القرينة المنفصلة جاز لنا التمسّك بالظهور. أمّا لو شككنا في قرينيّة المنفصل فهذا الشكّ يصبح أحياناً مانعاً عن التمسّك بالظهور.
وأساس الاختلاف بين المشهور وهذا التفصيل هو: أنّ موضوع الحجّيّة هل هو الظهور والكشف النوعيّ لشخص الكلام الواحد، أو هو الظهور والكشف النوعيّ لمجموع الكلمات الواصلة؟ فعلى الأوّل لا إشكال في حجّيّة ظهور قوله: (أكرم كلّ عالم) في وجوب إكرام فرد شككنا في خروجه بالمخصّص المنفصل، سواء كان ذلك على أساس الشكّ في ورود دليل منفصل يدلّ على عدم وجوب إكرام زيد مثلاً، أو على أساس الشكّ في معنى (زيد) مع العلم بورود الدليل على عدم وجوب إكرامه، وهو قوله: (لا يجب إكرام زيد)، كما لو لم نكن نعلم أنّ كلمة (زيد) هل هي اسم للعالم الفلانيّ، أو للجاهل الفلانيّ، فعلى كلّ تقدير يكون موضوع الحجّيّة ـ وهو ظهور الكلام الأوّل في وجوب إكرام العالم الفلانيّ ـ محرزاً، فنتمسّك به ما لم تثبت لدينا حجّة على خلافه.
بينما على الثاني ـ وهو كون موضوع الحجّيّة هو الظهور والكشف النوعيّ لمجموع الكلمات الواصلة من المولى ـ لا شكّ في أنّ الكشف النوعيّ عن وجوب إكرام العالم الفلانيّ قد تنزّل مستواه؛ إذ لئن كان قوله: (أكرم كلّ عالم) كاشفاً بالظهور السياقي بدرجة 80 % مثلاً نتيجة لحساب الاحتمالات القائم على أساس الغلبة عن وجوب إكرام العالم الفلانيّ، فلا إشكال في أنّ قوله: (لايجب إكرام زيد) كاشف بدرجة 50 % مثلاً عن عدم وجوب إكرامه؛ لأنّنا نحتمل مثلاً 50 % كون (زيد) اسماً لهذا العالم، فعلى أساس الكسر والانكسار بين حسابي الاحتمال
ستكون درجة كشف مجموع الكلامين عن وجوب إكرام هذا العالم أضعف من درجة كشف العامّ لو لم يكن مبتلى بهذا المخصّص الاحتماليّ، فقد يدّعى أنّ هذا يضرّ بالحجّيّة مادام المقياس هو الظهور والكشف النوعيّ لمجموع كلمات المولى الواصلة إلينا.
نعم، هذا الكلام لا يتمّ في تمام الموارد، فمثلاً لو قال المولى: (أكرم كلّ عالم)، وقال أيضاً: (لايجب إكرام زيد) وشككنا في أنّ المقصود بـ (زيد) هل هو هذا العالم، أو ذاك الجاهل، فهذا الشكّ يمكن تصويره بشكلين:
الأوّل: أن نكون جاهلين بمعنى (زيد) فلا نعلم أنّ هذا الاسم موضوع لهذا العالم، أو لذاك الجاهل.
وهذا الفرض هو الذي طبّقنا عليه ما عرفته: من كون ورود محتمل القرينيّة موجباً لنقصان الكشف.
الثاني: أن يكون شكّنا على أساس الاشتراك اللفظيّ بأن يكون لدينا عالم مسمّى بـ (زيد)، وجاهل مسمّى بـ (زيد)، ولم نعرف هل أنّ المولى قصد بقوله: (لايجب إكرام زيد) الأوّل، أو الثاني.
وفي هذا الفرض لا ينطبق ما شرحناه: من تأثير محتمل القرينيّة في نقصان الكشف.
وتوضيح الأمر: أنّ في قوله: (أكرم كلّ عالم) حسابين:
أحدهما: حساب الاحتمالات بالنسبة لشمول مراد المولى لزيد العالم، وهذا الحساب قائم على بصيرة ومعرفة أنّ عوامل مطابقة الظهور للمراد ثمانون، وعوامل مخالفته له عشرون مثلاً.
والثاني: حساب الاحتمالات في عالم الملاك، أي أنّه: هل يوجد الملاك لإيجاب إكرام زيد العالم، أو لا؟ وهذا الحساب لو خلّي وطبعه يقتضي احتمال
وجود ملاك الوجوب بقدر 50 % مثلاً، واحتمال عدمه بقدر 50 % أيضاً. وهذا الحساب قائم على عدم البصيرة، وعدم المعرفة بعوامل تكوّن ملاك الوجوب، فلا نعرف أنّ نسبة وجود عوامل تكوّن ملاك الوجوب إلى عدمها هل هي أكثر من 50 % كي يترجّح احتمال وجود الملاك، أو أقلّ كي يترجّح احتمال عدمه، أو متساويان كي يتساوى الاحتمالان؟ والنتيجة الطبيعيّة لعدم هذه المعرفة والبصيرة أنّه سيكون احتمال الملاك وعدمه متساويين.
وهذان الحسابان أحدهما واقع في جانب العلّة، والآخر في جانب المعلول، فإنّ الملاك علّة لإرادة المولى، وقد اختلف حساب العلّة عن حساب المعلول في النتيجة، فحساب العلّة كان لصالح وجود ملاك الوجوب بمقدار 50 % ولصالح عدمه بهذا المقدار أيضاً، بينما حساب المعلول كان لصالح إرادة الوجوب بمقدار 80 % ولصالح عدمه بمقدار 20 %، ومتى ما تعارض الحسابان في العلّة والمعلول وكان أحدهما قائماً على أساس البصيرة ومعرفة العوامل، والآخر قائماً على أساس عدم البصيرة وعدم معرفة العوامل أصبح حساب الاحتمالات القائم على أساس البصيرة والمعرفة حاكماً على حساب الاحتمالات القائم على أساس فقدان البصيرة والمعرفة، على تحقيق وتفصيل راجع إلى بحث حساب الاحتمالات. إذن فالنتيجة أنّنا سنظنّ بثبوت ملاك الوجوب بمقدار 50 % .
وفي قوله: (لايجب إكرام زيد) أيضاً حسابان:
الأوّل: حساب الاحتمالات بالنسبة لكون المراد هو زيد العالم وعدمه، وهذا الحساب يقتضي بطبعه كون كلّ واحد من الاحتمالين بمقدار 50 %، وهذا الحساب قائم على أساس عدم البصيرة والخبرة بالملاك الذي يرجّح إرادة زيد العالم، أو عدم إرادته.
والثاني: حساب الاحتمالات بالنسبة لملاك وجوب إكرام زيد العالم، وهذا
أيضاً نتيجته 50 %، وهو أيضاً قائم على أساس عدم البصيرة والخبرة بالعوامل.
والحساب الأوّل واقع في جانب المعلول، والثاني في جانب العلّة.
وهذا الحساب الثاني هو عين الحساب الثاني في إكرام كلّ عالم، وهناك قد عرفنا كيف تبدّل الحساب من 50 % إلى 80 % نتيجة لحكومة حساب مرحلة المعلول عليه، إذن قد أصبح حساب العلّة ـ وهو الملاك ـ في قوله: (لايجب إكرام زيد) منتجاً لاحتمال ملاك الوجوب في زيد العالم بقدر 80 %، وعدمه بقدر 20 %، وهذا الحساب قائم على البصيرة والخبرة، فيحكم على حساب المعلول، وهو: أنّه هل اُريد بقوله: (لايجب إكرام زيد) زيد العالم، أو لا؟ لأنّ حساب المعلول كان قائماً على عدم البصيرة والخبرة بالعوامل، فبالتالي نظنّ بقدر 80 % أنّه لم يقصد بقوله: (لايجب إكرام زيد) زيداً العالم. وهذا معنى ما قلناه: من أنّ محتمل القرينيّة هنا لم يوجب نقصان الكشف.
وهذا بخلاف ما إذا كان الشكّ في المراد من قوله: (لايجب إكرام زيد) ناتجاً عن عدم المعرفة بأنّ (زيداً) هل هو اسم لهذا العالم، أو لذاك الجاهل، فإنّ الحسابين عندئذ ليس أحدهما في مرحلة العلّة، والآخر في مرحلة المعلول، كي يحكم أحدهما على الآخر، فإنّ كون (زيد) اسماً لهذا أو اسماً لذاك غير مربوط بملاك إكرام العالم وعدمه، وإنّما هو مربوط بعلل خاصّة غير ذلك، وهي دواعي الوضع في اللغة، لكنّنا علمنا صدفة الملازمة الاتّفاقيّة بين إرادة هذا العالم في قوله: (أكرم كلّ عالم) وكون (زيد) اسماً لذاك الجاهل، فيقع لا محالة التزاحم بين الحسابين، ويقع الكسر والانكسار(1).
(1) لا يخفى أنّه لو ورد (أكرم كلّ عالم) وكان احتمال مطابقة هذا العموم للواقع بالنسبة لشخص زيد بقدر ثلاثة من أربعة ـ مثلاً ـ باعتبار أنّ عوامل ثلاثة تقتضي مطابقة
←
الظواهر للواقع في مقابل عامل واحد يقتضي عدم المطابقة، فإنّنا يحصل لنا الظنّ بمقدار ثلاثة من أربعة بوجوب إكرام زيد العالم. وهذا الحساب يقدّم على حساب الملاك الذي لو خلّي وطبعه دلّ بمقدار 50 % على الوجوب، وبمقدار 50 % على عدم الوجوب، وهذا ليس لأجل أنّ الحساب الأوّل قائم على أساس الخبرة والبصيرة، والحساب الثاني قائم على أساس عدم الخبرة والبصيرة، ولذا لو فرضنا أنّ حساب الملاكات أيضاً كان قائماً على أساس الخبرة والبصيرة، وكانت ملاكات الوجوب بقدر ملاكات عدم الوجوب، وورد قوله: (أكرم كلّ عالم) حصل لنا الظنّ أيضاً بمقدار ثلاثة من أربعة بوجوب إكرام زيد.
والسرّ في ذلك: أنّ فكرة الحكومة بمعنىً يقابل فكرة ضرب عدد الاحتمالات بعضها في بعض لمجرّد أنّ العلم الإجماليّ في طرف العلّة أو المعلول قائم على أساس البصيرة بخلاف العلم الإجماليّ الآخر، لا أساس لها. ولا أظنّ أن اُستاذنا(رحمه الله) استقرّ على ذلك بعد هذا الزمان عند تأليفه لكتاب الاُسس، وإنّما الأساس في مثل هذا الفرض هو ضرب الاحتمالات، فإذا كانت احتمالات الملاك ولو عن بصيرة وخبرة عبارة عن احتمالين أحدهما في صالح وجود ملاك الوجوب، والآخر في صالح عدمه، واحتمالات مطابقة الظاهر للمراد أو مخالفته أربعة، ثلاثة منها في صالح المطابقة وواحد منها في صالح عدم المطابقة، فحاصل ضرب الأربعة في الاثنين يساوي ثمانية، تطرح منها الاحتمالات غير المعقولة، وهي احتمالات مطابقة الظاهر للمراد مقترنة بعدم وجود ملاك للوجوب، واحتمال(1)
←
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذا إنّما يكون غير معقول لو لم نحتمل عدم دخول زيد في هذا العموم مع كونه في نفسه واجب الإكرام، وإلّا فيصبح هذا رقماً إضافيّاً لاحتمالات وجوب إكرام زيد، فهو لا يضرّنا كما إنّه لا ينفعنا؛ لأنّه ليس احتمالاً ناتجاً من الظهور.