112

كلمات ثلاث

وفي ختام هذا البحث أذكر ثلاث كلمات مستفادة كلّها من الروايات:

الكلمة الأُولى: بشارة للشيعة

وهي الرواية التي تثبت مستوى حياة الشهداء الذي ذكرناه آنفاً لكلّ الشيعة، فعن أبي بصير، عن الصادق(عليه السلام) قال: قال لي: «يا أبا محمد إنّ الميّت منكم على هذا الأمر شهيد. قال: قلت: وإن مات على فراشه؟ قال: إي والله وإن مات على فراشه حيّ عند ربّه يرزق»(1).

«على هذا الأمر» أي: على معرفة أهل البيت(عليهم السلام)، فكلّ من مات على معرفة أهل البيت(عليهم السلام) فهو شهيد.

وليس المقصود بهذه الرواية طبعاً أنّ هذا الشيعي الذي مات حتف أنفه، وذاك الشيعي الذي قتل في سبيل اللّه هما سواء؛ إذ إنّه من الطبيعي أن لا يكونا سواء، فالذي يقتل في سبيل اللّه له درجات لا ينالها الذي يموت حتف أنفه، وإنّما المقصود التشبيه في عنوان أنّه «حيّ عند ربّه يرزق»، وأنّ حالة الحياة هذه موجودة لكلّ الشيعة، وليست مقصورة على من يقتل فقط.


(1) الكافي، ج8، ص146، حديث محاسبة النفس من کتاب الروضة، ح120.

113

الكلمة الثانية: بشارة وإخطار

وأمّا ما يكون بشارةً وإخطاراً في وقت واحد، فهو مضمون بعض الروايات التي تقول: إنّ الأئمّة(عليهم السلام) يقولون للشيعة: نحن نكفل وضعكم يوم القيامة، وننجّيكم من عذاب جهنّم، ولكن نخشى عليكم من عالم البرزخ؛ فإنّنا في عالم البرزخ لا نعمل أيّ شيء لكم، وأنتم يجب أن تقوا أنفسكم من عذاب البرزخ(1).

فهذه الروايات تكون بشارةً من ناحية، وتكون إخطاراً من ناحية أُخرى؛ إذ إنّها تبشّرنا بأنّ الأئمّة(عليهم السلام) سينجّوننا _ إن شاء اللّه تعالى _ من عذاب اللّه في يوم القيامة، وتُخْطِرنا في نفس الوقت بأنّ عالم البرزخ ليست فيه شفاعة.

الكلمة الثالثة: إخطار

وأمّا الإخطار فقد ورد كلام عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) يخاطب به كميل بن زياد(رحمه الله)، فيقول: «يا كميل؛ إنّه مستقرّ ومستودَع، فاحذر أن تكون من المستودعين، يا كميل، إنّما تستحقّ أن تكون مستقرّاً إذا لزمت


(1) المصدر السابق، ج3، ص242، باب ما ينطق به موضع القبر من کتاب الجنائز، ح3

114

الجادّة الواضحة التي لا تخرج إلى عِوج، ولا تزيلك عن منهج ما حملناك عليه وما هديناك إليه»(1).

فالإيمان إذاً قسمان: مستقرّ، ومستودَع.

«فاحذر أن تكون من المستودعين» أي: احذر أن يكون إيمانك إيماناً غير مستقرّ، ويكون إيماناً مستودعاً قد يُؤْخَذ منك في سكرات الموت.

وأمّا المقياس في معرفة كون الإيمان مستقرّاً أو مستودعاً، فهو قوله(عليه السلام): «إنّما تستحقّ أن تكون مستقرّاً إذا لزمت الجادّة الواضحة التي لا تخرجك إلى عِوج، ولا تزيلك عن منهج ما حملناك عليه وما هديناك إليه»، أي: إنّ الإيمان حينما يكون محض اعتقاد عقلي، ودون أن يجري العمل على وفقه، فهناك توجد خشية أن يكون الإيمان مستودعاً، وهذه الوديعة قد تُؤْخَذ منه _ لا سمح اللّه‌ _ في ساعة الموت وسَكْرته. وأمّا حينما يكون الإنسان قد لزم الجادّة الواضحة بحسب الرواية، وحينما يكون العمل مطابقاً للاعتقاد، فإنّ الإيمان سيستقرّ حينئذٍ في القلب، ولا تكون هناك خشية على تزلزله ساعة الموت.

وهناك رواية أُخرى عن المفضّل، عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال:


(1) بشارة المصطفى لشيعة المرتضى، ص28.

115

«إنّ الحسرة والندامة والويل كلّه لمن لم ينتفع بما أبصر، ولم يدرِ ما الأمر الذي هو عليه مقيم، أ نَفع له أم ضُرّ. قلت له: فبمَ يُعْرَف الناجي من هؤلاء جُعلت فداك؟ قال: من كان فعله لقوله موافقاً، فأُثبِتَ له الشهادة بالنجاة، ومن لم يكن فعله لقوله موافقاً، فإنّما ذلك مستودع»(1).

«فإنّما ذلك مستودع» أي: إنّ الإيمان مستودع.

وقد ينسب إلى البعض أنّه: ليس إذا كان إيمان الإنسان مستودعاً، فإنّه سيؤخذ منه حتماً في أثناء النزع، وإنّما المقصود هو أنّه لابدّ أن يبقى دائماً في حالة خوف، ومن المحتمل أن تؤخذ منه هذه الوديعة (الإيمان) في حالة النزع، ومن المحتمل أيضاً أن يتفضّل اللّه تعالى عليه بإبقائها في قلبه، في حين أنّ المستقرّ مضمون البقاء، ولا يؤخذ منه.

أُمور قد تكون خارجة من عالم الشفاعة

وممّا تقدّم ومن بعض الآيات والروايات قد يستفاد أنّ هناك أُموراً خارجة من عالم الشفاعة، ولابدّ لنا من أن نهيّئ أنفسنا لها في الأقلّ:

الأمر الأوّل: عالم البرزخ، فهو قد يكون خارجاً من منطقة الشفاعة؛


(1) الكافي، ج2، ص419، باب في علامة المعار من کتاب الإيمان والکفر، الحديث الوحيد في الباب.

116

ولذا علينا أن نقي أنفسنا من عذاب اللّه تعالى بأعمالنا.

الأمر الثاني: مسألة كون الإيمان مستودعاً، فهذه المسألة خارجة من منطقة الشفاعة؛ فإنّ إيمان الإنسان الذي يعصي كثيراً، ويخالف اللّه سبحانه باستمرار، إذا أصبح عارية لديه وأمانة عنده، فإنّه من المحتمل أن تُؤْخَذ منه هذه الأمانةُ في ساعة سكرات الموت، ولو أُخِذَت منه _ لا سمح اللّه‌ _ وذهب كافراً، لم تلحقه الشفاعة طبعاً؛ لأنّ الشفاعة خاصّة بالمؤمنين فقط، وهذا هو الذي يُسمَّى بـ (سوء العاقبة)، وهذا هو الذي يجب أن نتعوّذ منه باللّه تعالى دائماً، ونطلب منه سبحانه أن يُعيذنا من ذلك، ويجب أن نعمل في سبيل أن لا نُبتلى بسوء العاقبة.

الأمر الثالث: مسألة الحساب، فهي خارجة أيضاً من الشفاعة؛ فإنّ اللّه سبحانه سيحاسبنا _ لا محالة _ في يوم القيامة على كلُّ صغيرة وكبيرة، قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾(1).

وقال سبحانه: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي


(1) الأنبياء: 47.

117

صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّٰهُ إِنَّ اللّٰهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾(1).

وقال عزّ ذكرُه: ﴿... وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّٰهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذَّبُ مَن يَشَاءُ...﴾(2).

فالحساب يكون حتّى على النيّات المحضة التي لا تنتهي إلى عمل كما في هذه الآية المباركة، وإن كانت تعفى عن العقاب كما في بعض الروايات، إذاً لا يمكن أن ننجو من الحساب بواسطة الشفاعة.

وختاماً أُلفت النظر إلى ما قد يَنْجُم عن الحساب في يوم القيامة _ لا سمح اللّه‌ _ ممّا قد يكون أشدّ من العذاب المادّي على الإنسان الذي يَشْعُر بكرامته وعزّه اللَذين ألبسهما اللّه تعالى إيّاه في هذه الدنيا، ألا وهي مسألة الفضيحة.

فدعنا عن النار، ودعنا عن جهنّم، ولكن إذا حلَّ المحشر، وحضرنا جميعاً إلى حساب اللّه سبحانه، وحضر كلّ العالم من زمان أبينا آدم(عليه السلام) إلى آخر يوم من الدنيا، وحُشِرَ كلّ الناس، ووقفوا للسؤال بين يدي رحمته، فإنّ الآيات تقول: إنّ الأرض تشهد على المذنبين وتفضحهم،


(1) لقمان: 16.

(2) البقرة: 284.

118

كما تشهد عليهم أعضاؤهم والملائكةُ الكَتَبةُ والكتابُ المكتوبُ عليهم... فعندئذٍ، وفي حالة من هذا القبيل كيف يكون حال المذنب؟!

أليست هذه الحالة بالنسبة إلى الإنسان الغيور تكون أشدّ عليه من عذاب النار؟!

نعم، إنّ الإنسان إذا وقف إزاء أخيه الأكبر أو قبال أحد العلماء ليحاسبه على خطأ من أخطائه، فإنّه يتمنّى لو تنشقّ الأرض وتبتلعه؛ لكي لا يواجه هذا الإنسان الذي يحاسبه، فكيف إذا كانت المواجهة مع ربّ العالمين؛ ليحاسبه على كلّ ذنوبه وجميع قبائحه، وعلى مرأى من الناس ومسمع بما فيهم الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام) والصالحون؟!

قال تعالى: ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقَّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(1).

فاللّه سبحانه وتعالى لم يقل: (كنّا نكتب)، وإنّما قال: ﴿كُنَّا نَسْتَنْسِخُ﴾.

تُرى هل هناك شبه تصاوير التلفاز مثلاً يؤتى بها إلينا في يوم


(1) الجاثية: 28 _ 29.

119

القيامة لنرى أعمالنا؟!

وماذا يكون حالنا عندما نرى هذه الأُمور؟!

وقال سبحانه: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّٰهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللّٰهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾(1).

﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ﴾ يعني ليس هناك من حاجة أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم وجلودكم، فأنا ربّكم، وكنت أرى ما تفعلون، وكنتم لا تستطيعون أن تستتروا عنّي حين العصيان، فكنتم تعصون وأنا أُشاهدكم ﴿وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللّٰهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾.


(1) فصّلت: 20 _ 22.

121

 

 

 

 

دور القضاء والقدر

 

⬤ الإشكال من الناحية الفلسفية

⬤ الإشكال من ناحية السُنن التاريخية

⬤ الإشكال من ناحية الأدلّة النقلية

 

 

 

 

123

 

 

 

 

دور القضاء والقدر

يرتبط القضاء والقدر بمسألة سُنَن التاريخ، كما يرتبط بأعمال الفرد بما هو فرد. ولا إشكال في تأثّر سُنَن التاريخ بـالقضـاء والقدر، بـل هي مصـنوعة بهـما، ولـكن هـل يحتّمان عليه سيراً خاصّاً بحيث لا يترك أيّ موطئ قدم للبشرية وإرادتها؟

كما أنّه لا إشكال أيضاً في تأثّر عمل الفرد بالقضاء والقدر، ولكن هل يؤثّران به تأثيراً يجعل الشقيَّ شقيّاً شاء أم أبى، والسعيد سعيداً شاء أم أبى، ولا يبقى لنشاط الإنسان أيُّ تأثير بحياته وعاقبته الدنيوية والأُخروية؟

ويطرح هذا السؤال على مبدأ القضاء والقدر من عدّة زوايا:

الأُولى: من زاوية البحث الفلسفي، أي: البحث العقلي، فيقال: هل

124

من المعقول أن تنفكّ مسيرة الإنسان (الفرد أو المجتمع) من مبدأ القضاء والقدر المحتوم الذي يُسيّر البشرية ولا يبقي مجالاً لتأثير إرادتها فيه؟

وقد تمّ بحث هذا الإشكال من هذه الزاوية بشكل واسع ومفصّل في الكتب الكلامية.

الثانية: من زاوية ما ادّعي من أنّ للتاريخ سُنّةً إلهية لا تتبدّل ولا تتغيّر ﴿... وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّٰهِ تَبْدِيلاً﴾(1)، ﴿... وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّٰهِ تَحْوِيلاً﴾(2).

فإذا ما انطلقنا من منطلق أنّ السُنّة الإلهية تتحكّم في التاريخ، فسنواجه نفس الإشكال المتقدّم الذي اعترضنا فلسفيّاً، وهو أنّه إذا كانت السُنّة الإلهية لا تتبدّل ولا تتغيّر تاريخيّاً، فلا مجال لإرادة الإنسان في أن تؤثّر به.

الثالثة: من زاوية الآيات والروايات الواردة في القضاء والقدر، أي: من زاوية الأدلّة النقلية، فيقال: إنّ الآيات والروايات قد أكّدت حتميّة وضرورة القضاء والقدر الإلهيّين، وعندئذٍ لا يبقى أيُّ مجال لتأثير الإرادة البشرية.


(1) الأحزاب: 62.

(2) فاطر: 43.

125

وبناءً على كلّ ما تقدّم، فلماذا هذه المشقّة في سبيل تربية البشرية فرديّاً واجتماعيّاً؟ ولماذا هذا العمل الدؤوب في سبيلها؟ ولماذا لا ندع الأشياء تسير على وفق القضاء والقدر الإلهيّين؟

هذا هو أصل الإشكال، إلّا أنّه يطرح من زوايا مختلفة.

ولا نريد هنا أن ندخل في بحث هذا الإشكال من الزاوية الفلسفية أو من زاوية السُنن الإلهية للتاريخ، وإنّما نريد بحثه من الزاوية الثالثة فقط، إلّا أنّنا سنشير إلى الزاويتين الأُولى والثانية إشارة عابرة لكي نستوعب زوايا البحث.

الزاوية الأُولى: الإشكال من الناحية الفلسفية

هناك شبهتان أساسيّتان تعتبران من أهمّ الشبهات المطروحة من هذه الزاوية (الفلسفية والعقلية)، وهما:

1_ مسألة علم اللّه تعالى

حيث يقال: لو كان اللّه عليماً بكلّ شيء _ كما نعتقد _ لأصبحنا مجبورين على أن نعمل على وفق ما يعلمه اللّه تعالى؛ إذ إنّنا لو عملنا بشكل آخر مخالفٍ لعلم اللّه تعالى، لأصبح علم اللّه جهلاً، وتعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

 

126

وقد اعتاد علماؤنا الجواب عن هذه الشبهة: بأنّ العلم لا يؤثّر في تحقّق المعلوم.

فصحيح أنّ اللّه تعالى يعلم أنّ هذا الشقي سيشقى، إلّا أنّ علم اللّه لا يؤثّر في المعلوم، أي: إنّ نسبة العلم إلى المعلوم لا تكون كنسبة العلّة إلى المعلول على حدّ تعبير الفلاسفة، فربّما نعلم أنّ فلاناً سيعود من السفر بعد يومين، ولكن علمنا هذا لا يؤثّر أبداً في عودته، ولا يكون سبباً فيها، بل إنّ المعلوم هو الذي أوجد العلم عندنا، فنحن إنّما علمنا بأنّه سيعود لأنّه سيعود فعلاً.

وعلى هذا فإنّ اطّلاع اللّه سبحانه وتعالى على الأُمور وعلمه بها لا يؤثّر في عمل الإنسان ومسيرة حياته، ولا يعني أنّه مجبور على أن يفعل على وفق علم اللّه تعالى.

2_ شبهة العلّة والمعلول

إذ قال الفلاسفة: ما من شيء من الممكنات إلّا وله علّة، فقد قسّموا الوجود إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: وجود واجب، وهو اللّه تعالى لا غير.

القسم الثاني: وجود ممتنع، كاجتماع المتناقضين والمتضادّين، وكشريك الباري.

 

127

القسم الثالث: وجود ممكن، أي: يمكن أن يكون، ويمكن أن لا يكون.

وقالوا: إنّ الممكن لا يقع إلّا إذا تحقّقت علّته، وإذا تحقّقت علّته، فإنّه لا يمكن أن لا يقع، بل إنّه يقع حتماً؛ لأنّ انفكاك المعلول من علّته مستحيل.

وبناءً على هذا قالوا: إنّ فعل البشر وجود من الوجودات، أي: إنّ لهذا الفعل وجوداً، وإنّ هذا الوجود ليس واجباً، وإنّما هو ممكن الوجود؛ ولذا فإنّه لا يقع إلّا إذا تحقّقت علّته، وإذا تمّت علّته يجب أن يتحقّق، وهذا هو عين الجبر، ومعناه: فقدان الإرادة.

وهناك جوابان عن هذه الشبهة: أحدهما معروف ومذكور في الكتب، والآخر مورث عن أُستاذنا الشهيد(قدس سره):

أمّا الجواب الذي اعتاده علماؤنا؟رحهم؟، فهو: صحيح أنّ العلّة لا تنفكّ من المعلول، وصحيح أنّ فعل البشر وجود من الوجودات، وهو بحاجة إلى علّة، ولكن علّته لم تُوْجِد هذا الفعل مباشرة وبشكل مستقلّ عن الإرادة، بل إنّها أوجدت الإرادة والفعل، أي: إنّ علّة الفعل هي التي جعلت الإنسان يريد فيفعل.

فالإرادة إذاً حلقة من الحلقات الداخلة في وجود الفعل، أي: إنّ علّة الفعل تَخْلُق في نفس الإنسان الإرادة قهراً واضطراراً، وإذا خُلِقَت

128

الإرادة في النفس حصل الفعل؛ لأنّ المراد لا ينفك من الإرادة في القضايا الاختيارية، وعليه مادام الفعل ينتهي إلى الإرادة فالأفعال ليست قهرية وجبرية، بل هي اختيارية.

إلّا أنّ أُستاذنا الشهيد(قدس سره) لم يرتضِ هذا الجواب، وقال: إنّ هذا يُبقي إشكال الجبر بشكل مبطّن، ولم يُنهه تماماً؛ وذلك لأنّ الإنسان إذا كان مجبوراً على أن يريد، وأنّ الفعل لا يتخلّف عن الإرادة أبداً، وأنّه يتحقّق بمجرّد حصولها بلا اختيار، فإنّ هذا هو عبارة أُخرى عن الجبر، وأنّ مجرّد وجود حالة اسمها الإرادة لا تحلّ المشكلة، أي: مشكلة الجبر.

ومن هنا أجاب أُستاذنا الشهيد(قدس سره) بإبطال مبنى أنّ الشيء لا يوجد بلا علّة بالمعنى الفلسفي، وبيَّنَ أنّ القول: إنّ الشيء لا يوجد إلّا بعلّة إنّما يصحّ في الأُمور التكوينية فقط، من قبيل احتراق جسم مّا بالنار، أمّا في الأفعال الإرادية التي تصدر عن إرادة كالعمل الحسن والعمل القبيح، فإنّها لا تنبع من علّة، وإنّما تنبع من منبع آخر غير منبع العلّة، سمّاه أُستاذنا الشهيد بـ (منبع السلطة والقدرة). وبهذا تنحلّ مشكلة الجبر.

 

129

الزاوية الثانية: الإشكال من ناحية السُنن التاريخية

وقد أجاب أُستاذنا(قدس سره) عن الإشكال القائل: لو كانت سُنَن التاريخ موضوعة من قِبَل اللّه تعالى كما تدلّ عليه بعض الآيات من قبيل قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّٰهِ تَبْدِيلاً﴾ لما بقي إذاً للإنسان مجالٌ لأن يصنع تاريخه، بل إنّه يصبح حينئذٍ كمّية مهملة لا تدخل في الحساب.

إذ ذكر أنّ سُنَن التاريخ في الأعمّ الأغلب ليست ناجزة كالسنن التكوينية، من قبيل أنّ النار تحرق، وإنّما هي قضايا شرطية تشتمل على الشرط والجزاء، فالسنّة التاريخية التي تقول: ﴿... إِنَّ اللّٰهَ لَا يُغَيَّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...﴾(1) لا تعطينا قضية ناجزة، وإنّما تقول: إن غيّرتم أنفسكم من الشرّ إلى الخير، فأنتم منتصرون، وإن غيّرتم أنفسكم من الخير إلى الشرّ، فأنتم منكسرون.

وعلى هذا فإنّ سُنّة التاريخ لا تتنافى مع الاختيار والإرادة؛ لأنّها تضع أمامنا شرطاً وجزاءً، ويكون الشرط تحت أيدينا، فإن أوجدناه يوجد الجزاء، وإن لم نوجده لم يوجد الجزاء، وهذه حالها حال القضية الشرطية القائلة: إن وضعتَ الماء على النار غلى، فإنّ هناك شرطاً


(1) الرعد: 11.

130

وجزاءً، وإرادة الإنسان هي التي تتحكّم بالحساب، فإن أوجد الشرط تحقّق الجزاء، وإلّا فلا.

فسُنَن التاريخ حينما تكون ناجزة فإنّها تخالف الإرادة والاختيار، من قبيل سُنّة الكسوف وسُنّة الخسوف، وأمّا حينما تكون على نحو القضية الشرطية فإنّها لا تنافي الإرادة والاختيار، بل إنّها تؤكّد الإرادة، فلولا القضايا الشرطية، لما استطاع البشر أن يصنع شيئاً، وقد استطاع الإنسان أن يحقّق ما يريد من أهداف وأغراض؛ لأنّ اللّه تبارك وتعالى قد خلق في العالم قضايا شرطية، وجعل شروطها بيد الإنسان ليحقّق جزاءها.

الزاوية الثالثة: الإشكال من ناحية الأدلّة النقلية

وهذه هي الزاوية التي أردنا بحثها؛ إذ إنّنا حينما ننظر إلى الآيات والروايات نرى أنّها قد توحي إلى ذهن الإنسان الساذج مشكلةَ الجبر، وأنّه لا مجال للإنسان في سير التاريخ ولا في أعماله الشخصية، بل إنّ الأُمور تجري على وفق ما قدّره اللّه وقضاه.

ولو أردنا أن نصنّف الآيات والروايات الواردة بهذا الصدد، لوجدنا أنّها تعود في الأكثر إلى سبع طوائف، وقد تكون أكثر من ذلك، وهذه الطوائف هي:

 

131

1_ ما ورد في القضاء بشكل عامّ.

2_ ما ورد في الرزق بشكل خاصّ.

3_ ما ورد في موت الأُمّة بشكل خاصّ.

4_ ما ورد في موت الفرد بشكل خاصّ.

5_ ما ورد في الشهادة والقتل بشكل خاصّ.

6_ ما ورد في الهداية والضلال بشكل خاصّ.

7_ ما ورد في فعل البشر بشكل خاصّ.

وسنشير إلى كلّ قسم من هذه الأقسام بنموذج:

أوّلاً: ما ورد في القضاء والقدر بشكل عامّ

قال تعالى: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾(1).

والمعنى هو: أنّ اللّه تعالى يقدّر الأُمور في ليلة القدر لكلّ فرد ولفترة سنة من الزمان، ولهذا فإنّه يقال: إنّه لا يبقى مجال لتأثير الإرادة البشرية.

أمّا بالنسبة إلى الروايات، فقد ورد عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال في تفسير هذه الآية المباركة: «يقدّر في ليلة القدر كلّ شيء يكون في تلك


(1) الدخان: 1 _ 4.

132

السنة إلى مثلها من قابل خير وشرّ وطاعة ومعصية ومولود وأجل ورزق، فما قدّر في تلك السنة وقضي فهو المحتوم، وللّه(عز وجل) فيه المشيئة»(1).

وعنه(عليه السلام) أيضاً، وعن الإمام الصادق(عليه السلام)، وعن الإمام الكاظم(عليه السلام) أنّهم قالوا: «يقدّر اللّه (في ليلة القدر) كلّ أمر من الحقّ والباطل، وما يكون في تلك السنة، وله فيه البداء والمشيئة، يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض، ويزيد فيها ما يشاء، وينقص ما يشاء، ويلقيه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) إلى أمير المؤمنين(عليه السلام)، ويلقيه أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى الأئمّة(عليهم السلام) حتّى ينتهي ذلك إلى صاحب الزمان(عليه السلام)، ويشترط له ما فيه البداء والمشيّة والتقديم والتأخير»(2).

ثانياً: ما ورد في الرزق بشكل خاصّ

قال تعالى: ﴿...لَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ...﴾(3)، حيث كان قتل الأولاد متعارفاً في الجاهلية خشية الفقر.

وقال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ


(1) البرهان في تفسير القرآن، ج5، ص11، ح2.

(2) تفسير القمّي، ج2، ص290.

(3) الأنعام: 151.

 

133

وَإِيَّاكُمْ...﴾(1).

وقال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللّٰهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا...﴾(2).

وقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِن رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللّٰهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾(3).

وعلى هذا فإنّه قد يقال: إذا كان الرزق على اللّه تعالى، فما هو أثر طلبنا له؟ ولماذا نعمل ونكدّ ونجهد في سبيل تحصيله؟

ثالثاً: ما ورد في موت الأُمّة بوصفها أُمّة بشكل خاصّ

وهذا هو الذي شرحه أُستاذنا الشهيد(قدس سره)، فقال: إنّ للأُمّة حياةً وممات كما للفرد، قال تعالى: ﴿وَلِكُلَّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾(4).


(1) الإسراء: 31.

(2) هود: 6.

(3) الذاريات: 56 _ 58.

(4) الأعراف: 34.

134

وقال(عز وجل): ﴿... لِكُلَّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾(1).

فهاتان الآيتان قد تكونان ظاهرتين في التكلّم عن موت الأُمّة بوصفها أُمّة.

فموت الأُمّة إذاً رُبِطَ بساعة محدّدة وأجل محتوم لا يتقدّم ولا يتأخّر.

رابعاً: ما ورد في موت الفرد

قال تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّٰهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخَّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾(2).

فهذه الآية في أكبر الظنّ ناظرة إلى موت الفرد، وغير ناظرة إلى موت الأُمّة؛ إذ إنّ مقابلة الجمع بالجمع يفيد التوزيع كما يقول علماء الأُصول، فهي كالآية الكريمة ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ...﴾، فيكون المعنى: أنّ اللّه تعالى يؤخّر كلّ فرد من الأفراد إلى أجله المسمّى.

وقد ورد عن حمران بن أعين، عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال:


(1) يونس: 49.

(2) النحل: 61.

135

«سألته عن قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ﴾ قال: المسمّى ما سُمّي لملك الموت في تلك الليلة، وهو الذي قال اللّه: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾، وهو الذي سُمّي لملك الموت في ليلة القدر، والآخر له فيه المشيئة إن شاء قَدَّمه، وإن شاء أخّره»(1).

أي: إنّ الموت على قسمين: أحدهما حتمي، وهو الذي يُخبَرُ به ملك الموت في ليلة القدر، والآخر غير حتمي، وهو الذي لا يبلّغ به ملك الموت، ويمكن أن يدخله البداء.

وقال تعالى: ﴿لَهُ مُعَقَّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّٰهِ...﴾(2).

أي: إنّ للإنسان مَن يحفظه، وهناك ملائكة يحفظون الإنسان من الحوادث مادام أجله لم يَحِن بعد، ويبقى الأمر هكذا إلى أن يحين وقت أجله، فيترك العبد حينئذٍ.

وفي تفسير ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّٰهِ﴾ ورد عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه


(1) البرهان في تفسير القرآن، ج2، ص401، ح6.

(2) الرعد: 11.

136

قال: «بأمر اللّه من أن يقع في الرَّكي(1) أو أن يقع عليه حائط أو يصيبه شيء حتّى إذا جاء القدر خلّوا بينه وبينه یدفعونه إلی المقادير، وهما ملكان يحفظانه بالليل وملكان بالنهار يتعاقبانه»(2).

قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبَّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرَّطُونَ﴾(3).

أي: إنّ هناك حفظةً يحفظونكم وأنتم لا تعلمون، يحفظونكم من البلايا والمهالك مادام وقت الموت لم يَحِن بعد، فإذا جاء أجل الموت أحداً منكم، فإنّ الملائكة تتوفّاه.

خامساً: ما ورد في الشهادة والقتل بشكل خاصّ

فهناك ما يدلّ على أنّ الاستشهاد والقتل في سبيل اللّه تعالى مقدّر أيضاً بقدر، ومكتوب في حساب اللّه تعالى، وذلك من قبيل قوله


(1) البئر.

(2) البرهان في تفسير القرآن ، ج3، ص235، ح4.

(3) الأنعام: 60 _ 61.