105

وهذه الطائفة من الروايات عديدة واردة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، نذكر منها كنموذج:

1_ عن أبي ولّاد الحنّاط عن الإمام الصادق(عليه السلام)، قال: «قلت له: جعلت فداك، يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش، فقال: لا، المؤمن أكرم على اللّه من أن يجعل روحه في حوصلة طير، ولكن في أبدان كأبدانهم»(1). يعني: في أبدان شبيهة بأبدانهم الدنيوية. وهذا ما يُسمَّى بالقالب المثالي.

2_ عن الإمام الصادق(عليه السلام): «... فإذا قبض اللّه(عز وجل) المؤمن صيَّرَ تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا (يعني: في قالب مثالي)، فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم، عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا»(2). يعني: أنّ الموتى المؤمنين الذين ذهبوا إلى ربّهم في فترة سابقة يعرفون الموتى الجُدُد الذين يقدمون عليهم؛ وذلك لأنّ أرواحهم قد دخلت في قوالب مثالية تشبه القوالب المادّية (الدنيوية)، وباعتبار أنّهم شاهدوهم في الحياة الدنيا قبل الموت، فإنّهم يعرفونهم بأسمائهم


(1) الكافي، ج3، ص244، باب آخر في أرواح المؤمنين من كتاب الجنائز، ح1.

(2) المصدر السابق، ص245، ح6.

106

إن قدموا عليهم؛ إذ يرون أنّ أشكال هذه القوالب المثالية كأشكال القوالب المادّية (الدنيوية).

3_ عن الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً، قال: «إنّ الأرواح في صفة الأجساد (يعني: أنّها تتقولب بقالب الأجساد، أي: إنّها تدخل قالباً مثاليّاً كالقالب المادّي) في شجرة في الجنّة تعارف (أي: يعرف بعضهم بعضاً، فيتعارفون) وتساءل، فإذا قدمت الروح على الأرواح (يعني: عندما يموت مؤمن جديد كان إلى الآن حيّاً) يقول: (أي: يقول أحدهم) دعوها؛ فإنّها قد أفلتت من هول عظيم (يعني: سَكْرة الموت). ثم يسألونها (يعني: أنّهم يسألون هذه الروح القادمة عليهم عن إخوانهم وأصحابهم ومعارفهم): ما فعل فلان، وما فعل فلان؟ فإن قالت لهم: تركته حيّاً، ارتجوه (أي: يرجون أن يكون في المستقبل معهم، فيأتيهم، ويدخل رحمة الربّ، فمادام ذلك الإنسان حيّاً، فإنّهم ينتظرون قدومه، ويقولون: إن شاء اللّه يأتينا، وتختم عاقبته بخير)، وإن قالت لهم: قد هلك (أي: مات)، قالوا: قد هوى هوى»(1). أي: تلف وهلك؛ وذلك لأنّهم يرون أنّه لم يأتِ إليهم، ولم يقدم عليهم، فيفهمون أنّه قد ذهب إلى مسلك العذاب.


(1) الكافي، ج3، ص244، باب آخر في أحوال المؤمنين من كتاب الجنائز، ح3.

107

الطائفة الثانية: هي الروايات(1) التي تتضمّن المساءلة في القبر، فتقول هذه الروايات: إنّ سؤال القبر خاصّ بمن محض الإيمان محضاً، وبمن محض الكفر محضاً، أي: إنّ المؤمن الخالص هو الذي يُسأل، وأنّ الكافر الخالص في كفره أيضاً هو الذي يُسأل، وأمّا مَنْ عداهما، فالرواية تقول: «وأمّا ما سوى ذلك، فيلهى عنهم»(2). فكأنّهم يُتْرَكون إلى يوم يُبْعَثون.

كما أنّ هذا النمط من الروايات يشير إلى أنّ عالم الموت أو عالم البرزخ كعالم الرؤيا وكعالم النوم، فكما أنّ قسماً من النائمين يبدو كأنّه متروك في عالم النوم، فلا يَحُسّ بعذاب أو نعيم، وأنّ قسماً منهم يتنعّم في عالم النوم أو يتعذّب، كذلك في عالم البرزخ، فمن محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً، يأتيه منكر ونكير، ويسألانه عن عقائده، وقد يكون عن أعماله أيضاً، أمّا ما عداهم، فيلهى عنهم.

فهذا يشير إذاً إلى نفس الفكرة التي استنبطناها من الآيات والروايات.


(1) المصدر السابق، ص235، باب المسألة في القبر ومن يسأل ومن لا يسأل من كتاب الجنائز.

(2) المصدر السابق، ح2.

108

الطائفة الثالثة: هي قوله تعالى: ﴿... وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾(1).

فقوله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا﴾ لا يلائم يوم القيامة، وإنّما يلائم عالم البرزخ، فكأنَّ آل فرعون _ كما يبدو _ لا يدخلون النار في عالم البرزخ كما يدخلونها في يوم القيامة، وإنّما يُعْرَضُون عليها غدوّاً وعشيّاً، وكأنَّ اللّه تعالى يفتح _ كلّ غداة وعشيّ _ باباً من نار جهنّم على مقابرهم ومآويهم، فتدخل عليهم آثارها، فيَحُسّون بأنّ هذا هو المحلّ الذي هُيّئ لهم، وهو الذي سيدخلونه في يوم القيامة، وعندئذٍ تصدق الرواية التي تقول: «القبر روضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حُفَر النار»(2).

كما تشير الآية المباركة إلى فكرة أنّ العذاب في عالم البرزخ هو عذاب مثالي.

وفي القرآن الكريم آيةٌ بشأن قوم نوح الذين أُغرقوا ظاهرةٌ في أنّهم في عالم البرزخ يُعذَّبون بالنار، وهي قوله تعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا


(1) المؤمن: 45 _ 46.

(2) بحار الأنوار، ج6، ص218، باب أحوال البرزخ والقبر...، ح13.

109

فَأُدْخِلُوا نَاراً...﴾(1)، وهي: إمّا أن تُحْمَل على نارٍ برزخية، وليست النار المادّية الأُخروية، أو تُحْمَل على أنّها ناظرة إلى عالم الآخرة، وإنّما صِيْغَت بصياغة مناسبة لما تحقّق ووقع بنكتة: أنّ المستقبل المحقّق الوقوع يكون بمنزلة الواقع.

الطائفة الرابعة: هي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبَّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّٰهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّٰهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(2).

فهذه الآية المباركة تؤيّد التصوّر الذي طرحناه عن عالم البرزخ؛ إذ إنّها تقول: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبَّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، فما معنى: أنّ الشهداء ليسوا أمواتاً، في حين أنّنا نعتقد بأنّ الكلّ أحياء، وأنّ الروح لا تموت؛ لأنّ الإنسان خُلِقَ للبقاء لا للفناء، أمّا الأجساد فإنّها تموت سواءٌ كانت لشهيد أم لغير


(1) نوح: 25.

(2) آل عمران، 169 _ 171.

110

شهيد، فالشهيد والذي مات حتف أنفه ميِّتان بلحاظ الجسم، وهما حيّان بلحاظ الروح، فما معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبَّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾؟ وأيُّ امتياز للشهيد؟ وما معنى كون الشهداء أحياء؟ وهل يعني هذا: أنّ غيرهم ليسوا بأحياء؟

وهنا أقوال، والذي يبدو أنّ الآية تشير إلى سنخ من الحياة ذات درجات ومراتب؛ لأنّنا خُلِقْنا للبقاء لا للفناء، وأنّ الروح لا تموت، ولكن إذا تكلّمنا عن عالم كعالم الطيف، عن عالم البرزخ، عن عالم المثال، فإنّه يصحّ أن نقول: إنّ الحياة لها درجات، فكما أنّ عالم النوم ذو درجات ومراتب؛ إذ لا يرى بعض النائمين طيفاً، وكأنّه لا يَحُسّ بشيء، في حين أنّ بعضهم الآخر _ أو نفس ذلك البعض في زمان آخر _ يرى طيفاً مفصّلاً كأنّه المستيقظ الذي يمشي ويذهب ويتكلّم، كذلك الحال بالنسبة إلى حالة المثال التي سُمَّيت بـ (حالة البرزخ)؛ فإنّها ذات درجات ومراتب، فمنهم _ كما قالت الرواية السابقة _ من يلهى عنه، ومنهم من ينعّم، أو يعذّب.

أمّا الشهداء بالذات، فإنّهم لا يلهى عنهم، بل إنّهم يعطون مستوىً

111

من الحيويّة والرزق لا يعطيان للآخرين. وبهذا الشكل نتصوّر معنى الآية السابقة.

وتأييداً لهذا التصوّر الذي ذكرناه عن عالم البرزخ نذكر كلاماً لأبي ذر الغفاري، ذلك الصحابي الجليل الذي لابدّ أن يكون قد أخذ تصوّره عن الرسول(صلى الله عليه وآله) حيث قال: «يا مبتغي العلم، لا يشغلك أهل ولا مال عن نفسك، أنت يوم تفارقهم كضيف بتّ فيهم، ثم غدوت عنهم إلى غيرهم، والدنيا والآخرة كمنزل تحوّلتَ منه إلى غيره، وما بين الموت والبعث إلّا كنومة نمتها، ثم استيقظت منها...»(1).

إنّ الإنسان في ساعة الموت (ساعة الاحتضار)، يَحُسُّ بأنّ وقته قد انتهى، وأنّه سيرتحل في تلك الساعة، فإذا ما نظر إلى سنوات عمره التي عاشها حتّى لو فرضنا أنّها كانت آلافاً، فإنّه يراها كأنّها طرفة عين انتهت، وكأنّها يوم انتهى أو بعض يومٍ مضى، وكأنّه كان ضيفاً في بيت وهو الآن يرتحل إلى محلّه الذي هُيّئ له.

«وما بين الموت والبعث...»، هذا هو الشاهد، و (ما) هنا نافية، والمعنى: أنّه ليس بين الموت والبعث إلّا كنومةٍ نمتها، ثم استيقظت منها.


(1) الكافي، ج2، ص134، باب ذمّ الدنيا والزهد فيها من کتاب الإیمان والکفر، ح18.

112

كلمات ثلاث

وفي ختام هذا البحث أذكر ثلاث كلمات مستفادة كلّها من الروايات:

الكلمة الأُولى: بشارة للشيعة

وهي الرواية التي تثبت مستوى حياة الشهداء الذي ذكرناه آنفاً لكلّ الشيعة، فعن أبي بصير، عن الصادق(عليه السلام) قال: قال لي: «يا أبا محمد إنّ الميّت منكم على هذا الأمر شهيد. قال: قلت: وإن مات على فراشه؟ قال: إي والله وإن مات على فراشه حيّ عند ربّه يرزق»(1).

«على هذا الأمر» أي: على معرفة أهل البيت(عليهم السلام)، فكلّ من مات على معرفة أهل البيت(عليهم السلام) فهو شهيد.

وليس المقصود بهذه الرواية طبعاً أنّ هذا الشيعي الذي مات حتف أنفه، وذاك الشيعي الذي قتل في سبيل اللّه هما سواء؛ إذ إنّه من الطبيعي أن لا يكونا سواء، فالذي يقتل في سبيل اللّه له درجات لا ينالها الذي يموت حتف أنفه، وإنّما المقصود التشبيه في عنوان أنّه «حيّ عند ربّه يرزق»، وأنّ حالة الحياة هذه موجودة لكلّ الشيعة، وليست مقصورة على من يقتل فقط.


(1) الكافي، ج8، ص146، حديث محاسبة النفس من کتاب الروضة، ح120.

113

الكلمة الثانية: بشارة وإخطار

وأمّا ما يكون بشارةً وإخطاراً في وقت واحد، فهو مضمون بعض الروايات التي تقول: إنّ الأئمّة(عليهم السلام) يقولون للشيعة: نحن نكفل وضعكم يوم القيامة، وننجّيكم من عذاب جهنّم، ولكن نخشى عليكم من عالم البرزخ؛ فإنّنا في عالم البرزخ لا نعمل أيّ شيء لكم، وأنتم يجب أن تقوا أنفسكم من عذاب البرزخ(1).

فهذه الروايات تكون بشارةً من ناحية، وتكون إخطاراً من ناحية أُخرى؛ إذ إنّها تبشّرنا بأنّ الأئمّة(عليهم السلام) سينجّوننا _ إن شاء اللّه تعالى _ من عذاب اللّه في يوم القيامة، وتُخْطِرنا في نفس الوقت بأنّ عالم البرزخ ليست فيه شفاعة.

الكلمة الثالثة: إخطار

وأمّا الإخطار فقد ورد كلام عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) يخاطب به كميل بن زياد(رحمه الله)، فيقول: «يا كميل؛ إنّه مستقرّ ومستودَع، فاحذر أن تكون من المستودعين، يا كميل، إنّما تستحقّ أن تكون مستقرّاً إذا لزمت


(1) المصدر السابق، ج3، ص242، باب ما ينطق به موضع القبر من کتاب الجنائز، ح3

114

الجادّة الواضحة التي لا تخرج إلى عِوج، ولا تزيلك عن منهج ما حملناك عليه وما هديناك إليه»(1).

فالإيمان إذاً قسمان: مستقرّ، ومستودَع.

«فاحذر أن تكون من المستودعين» أي: احذر أن يكون إيمانك إيماناً غير مستقرّ، ويكون إيماناً مستودعاً قد يُؤْخَذ منك في سكرات الموت.

وأمّا المقياس في معرفة كون الإيمان مستقرّاً أو مستودعاً، فهو قوله(عليه السلام): «إنّما تستحقّ أن تكون مستقرّاً إذا لزمت الجادّة الواضحة التي لا تخرجك إلى عِوج، ولا تزيلك عن منهج ما حملناك عليه وما هديناك إليه»، أي: إنّ الإيمان حينما يكون محض اعتقاد عقلي، ودون أن يجري العمل على وفقه، فهناك توجد خشية أن يكون الإيمان مستودعاً، وهذه الوديعة قد تُؤْخَذ منه _ لا سمح اللّه‌ _ في ساعة الموت وسَكْرته. وأمّا حينما يكون الإنسان قد لزم الجادّة الواضحة بحسب الرواية، وحينما يكون العمل مطابقاً للاعتقاد، فإنّ الإيمان سيستقرّ حينئذٍ في القلب، ولا تكون هناك خشية على تزلزله ساعة الموت.

وهناك رواية أُخرى عن المفضّل، عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال:


(1) بشارة المصطفى لشيعة المرتضى، ص28.

115

«إنّ الحسرة والندامة والويل كلّه لمن لم ينتفع بما أبصر، ولم يدرِ ما الأمر الذي هو عليه مقيم، أ نَفع له أم ضُرّ. قلت له: فبمَ يُعْرَف الناجي من هؤلاء جُعلت فداك؟ قال: من كان فعله لقوله موافقاً، فأُثبِتَ له الشهادة بالنجاة، ومن لم يكن فعله لقوله موافقاً، فإنّما ذلك مستودع»(1).

«فإنّما ذلك مستودع» أي: إنّ الإيمان مستودع.

وقد ينسب إلى البعض أنّه: ليس إذا كان إيمان الإنسان مستودعاً، فإنّه سيؤخذ منه حتماً في أثناء النزع، وإنّما المقصود هو أنّه لابدّ أن يبقى دائماً في حالة خوف، ومن المحتمل أن تؤخذ منه هذه الوديعة (الإيمان) في حالة النزع، ومن المحتمل أيضاً أن يتفضّل اللّه تعالى عليه بإبقائها في قلبه، في حين أنّ المستقرّ مضمون البقاء، ولا يؤخذ منه.

أُمور قد تكون خارجة من عالم الشفاعة

وممّا تقدّم ومن بعض الآيات والروايات قد يستفاد أنّ هناك أُموراً خارجة من عالم الشفاعة، ولابدّ لنا من أن نهيّئ أنفسنا لها في الأقلّ:

الأمر الأوّل: عالم البرزخ، فهو قد يكون خارجاً من منطقة الشفاعة؛


(1) الكافي، ج2، ص419، باب في علامة المعار من کتاب الإيمان والکفر، الحديث الوحيد في الباب.

116

ولذا علينا أن نقي أنفسنا من عذاب اللّه تعالى بأعمالنا.

الأمر الثاني: مسألة كون الإيمان مستودعاً، فهذه المسألة خارجة من منطقة الشفاعة؛ فإنّ إيمان الإنسان الذي يعصي كثيراً، ويخالف اللّه سبحانه باستمرار، إذا أصبح عارية لديه وأمانة عنده، فإنّه من المحتمل أن تُؤْخَذ منه هذه الأمانةُ في ساعة سكرات الموت، ولو أُخِذَت منه _ لا سمح اللّه‌ _ وذهب كافراً، لم تلحقه الشفاعة طبعاً؛ لأنّ الشفاعة خاصّة بالمؤمنين فقط، وهذا هو الذي يُسمَّى بـ (سوء العاقبة)، وهذا هو الذي يجب أن نتعوّذ منه باللّه تعالى دائماً، ونطلب منه سبحانه أن يُعيذنا من ذلك، ويجب أن نعمل في سبيل أن لا نُبتلى بسوء العاقبة.

الأمر الثالث: مسألة الحساب، فهي خارجة أيضاً من الشفاعة؛ فإنّ اللّه سبحانه سيحاسبنا _ لا محالة _ في يوم القيامة على كلُّ صغيرة وكبيرة، قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾(1).

وقال سبحانه: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي


(1) الأنبياء: 47.

117

صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّٰهُ إِنَّ اللّٰهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾(1).

وقال عزّ ذكرُه: ﴿... وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّٰهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذَّبُ مَن يَشَاءُ...﴾(2).

فالحساب يكون حتّى على النيّات المحضة التي لا تنتهي إلى عمل كما في هذه الآية المباركة، وإن كانت تعفى عن العقاب كما في بعض الروايات، إذاً لا يمكن أن ننجو من الحساب بواسطة الشفاعة.

وختاماً أُلفت النظر إلى ما قد يَنْجُم عن الحساب في يوم القيامة _ لا سمح اللّه‌ _ ممّا قد يكون أشدّ من العذاب المادّي على الإنسان الذي يَشْعُر بكرامته وعزّه اللَذين ألبسهما اللّه تعالى إيّاه في هذه الدنيا، ألا وهي مسألة الفضيحة.

فدعنا عن النار، ودعنا عن جهنّم، ولكن إذا حلَّ المحشر، وحضرنا جميعاً إلى حساب اللّه سبحانه، وحضر كلّ العالم من زمان أبينا آدم(عليه السلام) إلى آخر يوم من الدنيا، وحُشِرَ كلّ الناس، ووقفوا للسؤال بين يدي رحمته، فإنّ الآيات تقول: إنّ الأرض تشهد على المذنبين وتفضحهم،


(1) لقمان: 16.

(2) البقرة: 284.

118

كما تشهد عليهم أعضاؤهم والملائكةُ الكَتَبةُ والكتابُ المكتوبُ عليهم... فعندئذٍ، وفي حالة من هذا القبيل كيف يكون حال المذنب؟!

أليست هذه الحالة بالنسبة إلى الإنسان الغيور تكون أشدّ عليه من عذاب النار؟!

نعم، إنّ الإنسان إذا وقف إزاء أخيه الأكبر أو قبال أحد العلماء ليحاسبه على خطأ من أخطائه، فإنّه يتمنّى لو تنشقّ الأرض وتبتلعه؛ لكي لا يواجه هذا الإنسان الذي يحاسبه، فكيف إذا كانت المواجهة مع ربّ العالمين؛ ليحاسبه على كلّ ذنوبه وجميع قبائحه، وعلى مرأى من الناس ومسمع بما فيهم الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام) والصالحون؟!

قال تعالى: ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقَّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(1).

فاللّه سبحانه وتعالى لم يقل: (كنّا نكتب)، وإنّما قال: ﴿كُنَّا نَسْتَنْسِخُ﴾.

تُرى هل هناك شبه تصاوير التلفاز مثلاً يؤتى بها إلينا في يوم


(1) الجاثية: 28 _ 29.

119

القيامة لنرى أعمالنا؟!

وماذا يكون حالنا عندما نرى هذه الأُمور؟!

وقال سبحانه: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّٰهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللّٰهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾(1).

﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ﴾ يعني ليس هناك من حاجة أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم وجلودكم، فأنا ربّكم، وكنت أرى ما تفعلون، وكنتم لا تستطيعون أن تستتروا عنّي حين العصيان، فكنتم تعصون وأنا أُشاهدكم ﴿وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللّٰهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾.


(1) فصّلت: 20 _ 22.

121

 

 

 

 

دور القضاء والقدر

 

⬤ الإشكال من الناحية الفلسفية

⬤ الإشكال من ناحية السُنن التاريخية

⬤ الإشكال من ناحية الأدلّة النقلية

 

 

 

 

123

 

 

 

 

دور القضاء والقدر

يرتبط القضاء والقدر بمسألة سُنَن التاريخ، كما يرتبط بأعمال الفرد بما هو فرد. ولا إشكال في تأثّر سُنَن التاريخ بـالقضـاء والقدر، بـل هي مصـنوعة بهـما، ولـكن هـل يحتّمان عليه سيراً خاصّاً بحيث لا يترك أيّ موطئ قدم للبشرية وإرادتها؟

كما أنّه لا إشكال أيضاً في تأثّر عمل الفرد بالقضاء والقدر، ولكن هل يؤثّران به تأثيراً يجعل الشقيَّ شقيّاً شاء أم أبى، والسعيد سعيداً شاء أم أبى، ولا يبقى لنشاط الإنسان أيُّ تأثير بحياته وعاقبته الدنيوية والأُخروية؟

ويطرح هذا السؤال على مبدأ القضاء والقدر من عدّة زوايا:

الأُولى: من زاوية البحث الفلسفي، أي: البحث العقلي، فيقال: هل

124

من المعقول أن تنفكّ مسيرة الإنسان (الفرد أو المجتمع) من مبدأ القضاء والقدر المحتوم الذي يُسيّر البشرية ولا يبقي مجالاً لتأثير إرادتها فيه؟

وقد تمّ بحث هذا الإشكال من هذه الزاوية بشكل واسع ومفصّل في الكتب الكلامية.

الثانية: من زاوية ما ادّعي من أنّ للتاريخ سُنّةً إلهية لا تتبدّل ولا تتغيّر ﴿... وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّٰهِ تَبْدِيلاً﴾(1)، ﴿... وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّٰهِ تَحْوِيلاً﴾(2).

فإذا ما انطلقنا من منطلق أنّ السُنّة الإلهية تتحكّم في التاريخ، فسنواجه نفس الإشكال المتقدّم الذي اعترضنا فلسفيّاً، وهو أنّه إذا كانت السُنّة الإلهية لا تتبدّل ولا تتغيّر تاريخيّاً، فلا مجال لإرادة الإنسان في أن تؤثّر به.

الثالثة: من زاوية الآيات والروايات الواردة في القضاء والقدر، أي: من زاوية الأدلّة النقلية، فيقال: إنّ الآيات والروايات قد أكّدت حتميّة وضرورة القضاء والقدر الإلهيّين، وعندئذٍ لا يبقى أيُّ مجال لتأثير الإرادة البشرية.


(1) الأحزاب: 62.

(2) فاطر: 43.

125

وبناءً على كلّ ما تقدّم، فلماذا هذه المشقّة في سبيل تربية البشرية فرديّاً واجتماعيّاً؟ ولماذا هذا العمل الدؤوب في سبيلها؟ ولماذا لا ندع الأشياء تسير على وفق القضاء والقدر الإلهيّين؟

هذا هو أصل الإشكال، إلّا أنّه يطرح من زوايا مختلفة.

ولا نريد هنا أن ندخل في بحث هذا الإشكال من الزاوية الفلسفية أو من زاوية السُنن الإلهية للتاريخ، وإنّما نريد بحثه من الزاوية الثالثة فقط، إلّا أنّنا سنشير إلى الزاويتين الأُولى والثانية إشارة عابرة لكي نستوعب زوايا البحث.

الزاوية الأُولى: الإشكال من الناحية الفلسفية

هناك شبهتان أساسيّتان تعتبران من أهمّ الشبهات المطروحة من هذه الزاوية (الفلسفية والعقلية)، وهما:

1_ مسألة علم اللّه تعالى

حيث يقال: لو كان اللّه عليماً بكلّ شيء _ كما نعتقد _ لأصبحنا مجبورين على أن نعمل على وفق ما يعلمه اللّه تعالى؛ إذ إنّنا لو عملنا بشكل آخر مخالفٍ لعلم اللّه تعالى، لأصبح علم اللّه جهلاً، وتعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

 

126

وقد اعتاد علماؤنا الجواب عن هذه الشبهة: بأنّ العلم لا يؤثّر في تحقّق المعلوم.

فصحيح أنّ اللّه تعالى يعلم أنّ هذا الشقي سيشقى، إلّا أنّ علم اللّه لا يؤثّر في المعلوم، أي: إنّ نسبة العلم إلى المعلوم لا تكون كنسبة العلّة إلى المعلول على حدّ تعبير الفلاسفة، فربّما نعلم أنّ فلاناً سيعود من السفر بعد يومين، ولكن علمنا هذا لا يؤثّر أبداً في عودته، ولا يكون سبباً فيها، بل إنّ المعلوم هو الذي أوجد العلم عندنا، فنحن إنّما علمنا بأنّه سيعود لأنّه سيعود فعلاً.

وعلى هذا فإنّ اطّلاع اللّه سبحانه وتعالى على الأُمور وعلمه بها لا يؤثّر في عمل الإنسان ومسيرة حياته، ولا يعني أنّه مجبور على أن يفعل على وفق علم اللّه تعالى.

2_ شبهة العلّة والمعلول

إذ قال الفلاسفة: ما من شيء من الممكنات إلّا وله علّة، فقد قسّموا الوجود إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: وجود واجب، وهو اللّه تعالى لا غير.

القسم الثاني: وجود ممتنع، كاجتماع المتناقضين والمتضادّين، وكشريك الباري.

 

127

القسم الثالث: وجود ممكن، أي: يمكن أن يكون، ويمكن أن لا يكون.

وقالوا: إنّ الممكن لا يقع إلّا إذا تحقّقت علّته، وإذا تحقّقت علّته، فإنّه لا يمكن أن لا يقع، بل إنّه يقع حتماً؛ لأنّ انفكاك المعلول من علّته مستحيل.

وبناءً على هذا قالوا: إنّ فعل البشر وجود من الوجودات، أي: إنّ لهذا الفعل وجوداً، وإنّ هذا الوجود ليس واجباً، وإنّما هو ممكن الوجود؛ ولذا فإنّه لا يقع إلّا إذا تحقّقت علّته، وإذا تمّت علّته يجب أن يتحقّق، وهذا هو عين الجبر، ومعناه: فقدان الإرادة.

وهناك جوابان عن هذه الشبهة: أحدهما معروف ومذكور في الكتب، والآخر مورث عن أُستاذنا الشهيد(قدس سره):

أمّا الجواب الذي اعتاده علماؤنا؟رحهم؟، فهو: صحيح أنّ العلّة لا تنفكّ من المعلول، وصحيح أنّ فعل البشر وجود من الوجودات، وهو بحاجة إلى علّة، ولكن علّته لم تُوْجِد هذا الفعل مباشرة وبشكل مستقلّ عن الإرادة، بل إنّها أوجدت الإرادة والفعل، أي: إنّ علّة الفعل هي التي جعلت الإنسان يريد فيفعل.

فالإرادة إذاً حلقة من الحلقات الداخلة في وجود الفعل، أي: إنّ علّة الفعل تَخْلُق في نفس الإنسان الإرادة قهراً واضطراراً، وإذا خُلِقَت

128

الإرادة في النفس حصل الفعل؛ لأنّ المراد لا ينفك من الإرادة في القضايا الاختيارية، وعليه مادام الفعل ينتهي إلى الإرادة فالأفعال ليست قهرية وجبرية، بل هي اختيارية.

إلّا أنّ أُستاذنا الشهيد(قدس سره) لم يرتضِ هذا الجواب، وقال: إنّ هذا يُبقي إشكال الجبر بشكل مبطّن، ولم يُنهه تماماً؛ وذلك لأنّ الإنسان إذا كان مجبوراً على أن يريد، وأنّ الفعل لا يتخلّف عن الإرادة أبداً، وأنّه يتحقّق بمجرّد حصولها بلا اختيار، فإنّ هذا هو عبارة أُخرى عن الجبر، وأنّ مجرّد وجود حالة اسمها الإرادة لا تحلّ المشكلة، أي: مشكلة الجبر.

ومن هنا أجاب أُستاذنا الشهيد(قدس سره) بإبطال مبنى أنّ الشيء لا يوجد بلا علّة بالمعنى الفلسفي، وبيَّنَ أنّ القول: إنّ الشيء لا يوجد إلّا بعلّة إنّما يصحّ في الأُمور التكوينية فقط، من قبيل احتراق جسم مّا بالنار، أمّا في الأفعال الإرادية التي تصدر عن إرادة كالعمل الحسن والعمل القبيح، فإنّها لا تنبع من علّة، وإنّما تنبع من منبع آخر غير منبع العلّة، سمّاه أُستاذنا الشهيد بـ (منبع السلطة والقدرة). وبهذا تنحلّ مشكلة الجبر.

 

129

الزاوية الثانية: الإشكال من ناحية السُنن التاريخية

وقد أجاب أُستاذنا(قدس سره) عن الإشكال القائل: لو كانت سُنَن التاريخ موضوعة من قِبَل اللّه تعالى كما تدلّ عليه بعض الآيات من قبيل قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّٰهِ تَبْدِيلاً﴾ لما بقي إذاً للإنسان مجالٌ لأن يصنع تاريخه، بل إنّه يصبح حينئذٍ كمّية مهملة لا تدخل في الحساب.

إذ ذكر أنّ سُنَن التاريخ في الأعمّ الأغلب ليست ناجزة كالسنن التكوينية، من قبيل أنّ النار تحرق، وإنّما هي قضايا شرطية تشتمل على الشرط والجزاء، فالسنّة التاريخية التي تقول: ﴿... إِنَّ اللّٰهَ لَا يُغَيَّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...﴾(1) لا تعطينا قضية ناجزة، وإنّما تقول: إن غيّرتم أنفسكم من الشرّ إلى الخير، فأنتم منتصرون، وإن غيّرتم أنفسكم من الخير إلى الشرّ، فأنتم منكسرون.

وعلى هذا فإنّ سُنّة التاريخ لا تتنافى مع الاختيار والإرادة؛ لأنّها تضع أمامنا شرطاً وجزاءً، ويكون الشرط تحت أيدينا، فإن أوجدناه يوجد الجزاء، وإن لم نوجده لم يوجد الجزاء، وهذه حالها حال القضية الشرطية القائلة: إن وضعتَ الماء على النار غلى، فإنّ هناك شرطاً


(1) الرعد: 11.