312

وكذلك نقول في ميراث من لا وارث له: إنّه باقٍ تحت عنوان الأنفال، ولم يخرج منه بتخصيص أو تقييد، ولكنّه خرج عن إطلاق حكم الأنفال الذي هو عبارة عن صرفها في مصارف الإسلام ولو بصرفها في شأن شخص خاص ووجب صرفه فيما يكون صلاحاً للمجتمع الإسلامي كمجتمع، فلو رأى الإمام مثلاً أنّ مصلحة الإسلام محفوظة في إعفاء القاتل عن الدية لم يصحّ له عليه السلام ذلك، بل عليه أن يجمع مثل هذه الأموال لمصالح المجتمع الإسلامي.

ونتيجة البحث ببيان ساذج وبسيط هي: أنّ الإسلام توجد فيه _ كأيّة حكومة من الحكومات _ ضرائب عامّة على الأموال وهي الخمس والزكاة، وبعد ذلك توجد الأنفال وهي للإمام من دون أن يكون راجعاً إلى عنوان الضرائب، ومعنى كونها للإمام بمعنى عامّ أنّ الإمام بما هو إمام هو الوليّ الذي يتصرّف فيها، وهذا المعنى العامّ لا ينافي عود ملكية بعض الأُمور كالأراضي المفتوحة عنوة للمسلمين، فيبقى وليّ التصرّف هو الإمام لكن يجب عليه أن يلحظ أحكام رجوع تلك الأُمور إلى ملك المسلمين.

مسائل أربع:

وفي نهاية البحث نشير إلى عدد من المسائل:

هل يجوز إحیاء الأراضي المفتوحة التي عرض لها الخراب؟

المسألة الأُولى:(1) أنّ الأراضي التي كانت محياة حين الفتح لو عرض لها الخراب هل يجوز في زمن الغيبة إحياؤها وتملّكها بالإحياء بناء على إفادة الإحياء الملكية أو تثبت الأحقّية بالإحياء بناء على أنّ الإحياء يوجب الأحقّية لا الملك، أو لا؟

والهدف من شرح ذلك إبطال احتمال جرى على قلم الشيخ رحمه الله وإن كان هذا الاحتمال ليس هو الذي اختاره الشيخ وهو: جواز الإحياء، لعموم أدلّة الإحياء،


(1) تعرّض السيّد الخوئي(رحمه الله) لهذه المسألة في التنقيح، موسوعة الإمام الخوئي، ج37، ص250 _ 251.

313

وخصوص رواية سليمان بن خالد(1).

أمّا ما اختاره الشيخ أو قوّاه فهو عدم جواز ذلك إلّا بإذن الحاكم الذي هو نائب الإمام(عليه السلام).

وقد أورد السيّد الخوئي رحمه الله على الدليل الأوّل وهو دليل الإحياء أنّ أدلّة الإحياء منصرفة عمّا يكون ملكاً لأحد المسلمين، والمفتوحة عنوة تكون ملكاً للمسلمين، وخروجها عن ملكهم يحتاج إلى دليل، وعلى الدليل الثاني وهو رواية سليمان بن خالد بأنّها أدلّ على خلاف المقصود؛ لأنّ السائل فيها قال: «فإن كان يعرف صاحبها؟» فأجاب الإمام عليه السلام بقوله: «فليؤدّ إليه حقّه»، فبمقتضى هذه الرواية لابدّ من ردّ الأرض إلى ملك المسلمين.

عدم جواز تملّك تراب الأرض المفتوحة عنوة

المسألة الثانية: لا يجوز تملّك شيء من تراب الأرض المفتوحة عنوة بصنع كوز منه أو آجر أو نحو ذلك مثلاً، ولا بيعه؛ لأنّ هذه الأرض ملك للمسلمين بجميع أجزائها. نعم، لو فُصل التراب عن تلك الأرض باقتضاء تعميرها كما لو حُفر بئر أو سرداب وألقي ترابه إلى الخارج فإنّه عندئذٍ لا يعدّ من الأرض، بل يعدّ من منافعها، فيجوز تملّكه بالحيازة كسائر المباحات الأوّلية، وقد أشار إلى ذلك السيّد الخوئي رحمه الله في التنقيح(2).

ونحو ذلك أخشاب الأشجار وأوراقها، فحينما تُفصل وتصبح كالعدم بالنسبة للأشجار جاز لشخص ما أن يأتي ويتملّكها بالحيازة.


(1) راجع کتاب المكاسب، ج4، ص27. أمّا رواية سليمان بن خالد فهي صحيحته الواردة في الوسائل، ج25، ص415، الباب3 من کتاب إحياء الموات، ح3: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يأتي الأرض الخربة فيستخرجها ويجري أنهارها ويعمرها ويزرعها ماذا عليه؟ قال: الصدقة، قلت: فإن كان يعرف صاحبها؟ قال: فليؤدّ إليه حقّه»، وروى في الوسائل في ذيل هذا الحديث صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله(عليه السلام) مثله.

(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص248.

314

عدم خروج الأرض المفتوحة عنوة بخرابها عن ملك المسلمين

المسألة الثالثة: لو خربت الأرض المحياة من المفتوحة عنوة لم تخرج بالخراب عن ملك المسلمين.

وتدلّ على ذلك صحيحة محمد الحلبي: «سئل أبو عبدالله عليه السلام عن السواد ما منزلته؟ قال: هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم ولمن يدخل في الإسلام بعد الیوم ولمن لم يخلق بعدُ فقلت: الشراء من الدهاقين؟ قال: لا يصلح إلّا أن يشتري منهم على أن يصيّرها للمسلمين، فإذا شاء وليّ الأمر أن يأخذها أخذها، قلت: فإن أخذها منه؟ قال: يردّ عليه رأس ماله، وله ما أكل من غلّتها بما عمل»(1).

ووجه الاستدلال بهذه الصحيحة صراحتها في أنّ أرض السواد تبقى أرضاً خراجية لجميع المسلمين لمن هو اليوم ولمن لم يدخل في الإسلام بعد اليوم ولمن لم يخلق بعد، في حين أنّه من الواضح أنّ أرض السواد قد يعرض عليها الخراب في المستقبل بالأنحاء المختلفة من الخراب.

ويمكن دعم الصحيحة بمطلقات روايات الخراج الشاملة بإطلاقها لما بعد فرض الخراب، من قبيل:

1_ رواية أبي الربيع الشامي عن أبي عبدالله عليه السلام «قال: لا تشتر من أرض السواد شيئاً (وفي الفقيه: لا يشتري من أراضي أهل السواد شيئاً)(2) إلّا من كانت له ذمّة، فإنّما هي فيء للمسلمين»(3).

وسند الشيخ إلى هذه الرواية عبارة عن إسناده عن الحسين بن سعيد عن الحسن بن محبوب عن خالد بن جرير عن أبي الربيع الشامي عن أبي عبدالله(عليه السلام).


(1) وسائل الشيعة، ج17، ، ص369، الباب21 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح4.

(2) من لا يحضره الفقيه، ج3، 240، باب إحیاء الموات والأرضين من کتاب المعيشة، ح3879.

(3) وسائل الشيعة، ج17، ص369، الباب21 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح5.

315

وخالد بن جرير قد روى الكشّي عن العيّاشي عن علي بن الحسن أنّه كان من بجيلة وكان صالحاً. وأبو الربيع الشامي لا نصّ على توثيقه إلّا أنّه روى البزنطي عن أبي الربيع _ والظاهر أنّه الشامي _ في علل الشرايع(1).

2_ رواية أبي بردة بن رجا قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): كيف ترى في شراء أرض الخراج؟ قال: ومن يبيع ذلك؟ هي أرض المسلمين. قال: قلت: يبيعها الذي هو في يده؟ قال: ويصنع بخراج المسلمين ماذا؟ ثم قال: لا بأس اشترى حقّه منها ويحوّل حقّ المسلمين عليه، ولعلّه يكون أقوى عليها وأملأ بخراجهم منه»(2)، ولا توثيق لأبي بردة بن رجا، ولكنّه يكفيه أنّ الراوي عنه هذه الرواية هو صفوان بن يحيى، فسند الحديث تام.

هل المفتوحة عنوة تشمل الأراضي الموات التي تسيطر علیها الحکومة الکافرة؟

المسألة الرابعة: هل المفتوحة عنوة التي هي للمسلمين عبارة عمّا كان بأيدي الكفّار فأُخذ بالسيف أو تشمل حتّى الموات الواسعة التي ليست بأيدي الكفّار ولكنّها تحت سيطرة الحكومة الكافرة بما هي حكومة ففتحها المسلمون بالسيف فهي للمسلمين؟

لم أجد إطلاقاً في روايات كون المفتوحة عنوة للمسلمين يشمل المساحات الميتة التي لم تكن بيد الكفّار أنفسهم ولكن كانت تحت سيطرة الحكومة الكافرة كحكومة.

فمثلاً: صحيحة أبي بردة بن رجا تقول: كيف ترى في شراء أرض الخراج؟ قال: «ومن يبيع ذلك؟ هي أرض المسلمين...» أمّا ما هو مصداق أرض الخراج التي هي ملك للمسلمين؟ فلم تبيّن حدودها.


(1) علل الشرائع، ج1، ص84، الباب77، ح7.

(2) وسائل الشيعة، ج15، ص155، الباب71 من أبواب جهاد العدوّ وما یناسبه، ح1.

316

وصحيحة محمد الحلبي(1) وكذلك صحيحة أبي الربيع الشامي(2) جعلتا العنوان «أرض السواد» ويُقصد به سواد العراق، وكلمة السواد لا تشمل لغةً بياض الأرض القاحلة الخارجة عن سيطرة نفس الأشخاص، وقد قال العلّامة في المنتهى:

«أرض السواد هي الأرض المغنومة من الفرس التي فتحها عمر بن الخطّاب، وهي سواد العراق، وحدّه في العرض من منقطع الجبال بحلوان إلى طرف القادسية المتّصل بعذيب من أرض العرب، ومن تخوم الموصل طولاً إلى ساحل البحر ببلاد عبّادان من شرق دجلة، فأمّا الغربي الذي يليه البصرة فإنّما هو إسلامي مثل شطّ عثمان بن أبي العاص وما والاها كانت سباخاً ومواتاً فأحياها عثمان بن أبي العاص. وسمّيت هذه الأرض سواداً؛ لأنّ الجيش لمّا خرجوا من البادية ورأوا هذه الأرض والتفاف شجرها سمّوها السواد لذلك. وهذه الأرض فتحت عنوة، فتحها عمر بن الخطّاب...»(3).

وعليه فالظاهر هو التفصيل بين الأراضي الموات المختصرة التي تقع صدفة ضمن الأرض المفتوحة عنوة فهي للمسلمين، والأراضي الموات التي كانت خارجة من أيدي الكفّار، وإنّما كانت تحت سيطرة الحكومة الكافرة فهي للإمام.


(1) وسائل الشيعة، ج17، ص369، الباب21 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح4.

(2) المصدر السابق، ح5.

(3) نقلنا ذلك عن كتاب الشيخ المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه، ج3، ص187 _ 188. نقلاً عن منتهى المطلب، ج14، ص270.

317

 

 

 

الشرط الثاني: کون الملك طلقاً

الثاني من شروط العوضين: كونه طلقاً.

قال الشيخ رحمه الله: «...وفرّعوا عليه عدم جواز بيع الوقف إلّا فيما استثني، ولا الرهن إلّا بإذن المرتهن أو إجازته، ولا أُمّ الولد إلّا في المواضع المستثناة»(1).

المقصود بهذا الشرط

«والمراد بـ «الطلق» تمام السلطنة على الملك بحيث يكون للمالك أن يفعل بملكه ما شاء، ويكون مطلق العنان في ذلك. لكن هذا المعنى في الحقيقة راجع إلى كون الملك ممّا يستقلّ المالك بنقله، ويكون نقله ماضياً فيه؛ لعدم تعلّق حقّ به مانع عن نقله بدون إذن ذي الحقّ، فمرجعه إلى أنّ من شرط البيع أن يكون متعلّقه ممّا يصحّ للمالك بيعه مستقلّاً. وهذا ممّا لا محصّل له، فالظاهر أنّ هذا العنوان ليس في نفسه شرطاً ليتفرّع عليه عدم جواز بيع الوقف والمرهون وأُمّ الولد، بل الشرط في الحقيقة انتفاء كلّ من تلك الحقوق الخاصّة وغيرها ممّا ثبت منعه عن تصرّف المالك كالنذر والخيار ونحوهما، وهذا المعنى منتزع من انتفاء تلك الحقوق. فمعنى «الطلق»: أن يكون


(1) کتاب المكاسب، ج4، ص29.

318

المالك مطلق العنان في نقله غير محبوس عليه لأحد الحقوق التي ثبت منعها للمالك عن التصرّف في ملكه، فالتعبير بهذا المفهوم المنتزع تمهيد لذكر الحقوق المانعة عن التصرّف لا تأسيس لشرط ليكون ما بعده فروعاً، بل الأمر في الفرعية والأصالة بالعكس»(1). انتهى كلام الشيخ رحمه الله.

وأورد عليه الشيخ النائيني رحمه الله _ على ما ورد في منية الطالب _ بأنّ مقصود الأساطين من هذا الشرط اعتبار أمر آخر في العوضين مضافاً إلى أصل الملكية _ وهو كون المالك تام السلطنة، وعدم كونه محجوراً عن التصرّف، إمّا لقصور في المقتضي كالوقف الخاصّ، فإنّ الموقوف عليه في هذا الوقف وإن كان مالكاً للعين الموقوفة _ على ما هو الحقّ كما اختاره المشهور _ إلّا أنّه لا يصحّ بيعه لها؛ لأنّ البيع المؤقّت لا يصحّ في الشرع، وإمّا لوجود مانع كالرهانة والجناية والاستيلاد، فلا يرد عليهم ما أفاده المصنّف _ يعني الشيخ _ من أنّ مرجع هذا الشرط إلى أنّه يشترط في البيع مثلاً أن يكون متعلّقه ممّا يصحّ للمالك بيعه مستقلّاً وهذا لا محصّل له؛ لأنّه عبارة أُخرى عن أنّه يشترط في المبيع صحّة بيعه، فالظاهر أنّ هذا العنوان ليس في نفسه شرطاً ليتفرّع عليه عدم جواز بيع الوقف والمرهون وأمُّ الولد، وإنّما عبّر بهذا المفهوم المنتزع تمهيداً لذكر الحقوق المانعة عن التصرّف... وقد عرفت أنّ الأمر بالعكس، وأنّ الطلقية شرط، وعدم جواز بيع الوقف ونحوه فرع له؛ لأنّ الطلقية عبارة عن عدم قصور السلطنة يتفرّع عليه عدم جواز بيع الوقف ونحوه(2).

وردّ على ذلك السيّد الخوئي رحمه الله بأنّ نفس الطلقية إن هي إلّا أمراً انتزاعيّاً منتزعاً من الموارد الخاصّة التي ثبت فيها المنع عن البيع، فكلّ ملك يجوز بيعه إلّا حينما يمنعنا الشارع عن بيعه(3).


(1) کتاب المكاسب، ج4، ص29 _ 30.

(2) منية الطالب، ج2، ص273 _ 274.

(3) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص253.

319

بيع الوقف

وعلى أيّ حال فأصل أنّ الوقف لا يباع ولا يوهب من مسلّمات الفقه، ومن المرتكزات في السيرة العرفية العقلائية والمتشرّعية. ولكن هذا ليس إلّا دليلاً لبّيّاً لا نستطيع التمسّك به في موارد احتمال الاستثناءات، فعلينا أن نفحص عن وجه آخر ينفعنا لدى الشكّ في الاستثناء، وهو منحصر بأحد وجهين:

الدليل علی عدم جواز بیع الوقف

الوجه الأوّل: أن يقال: إنّ الموقوف عليه الذي يريد بيعه لا يجوز له ذلك؛ لأنّه مناف لحقّ الموقوف عليهم الآخرين؛ أمّا في الوقف العامّ فالأمر واضح، فإنّ هذا تضييع لحقّ العموم، وأمّا في الوقف الخاصّ كالوقف على الولد وعقبه فكذلك، فإنّ هذا تضييع لحقّ الأعقاب.

والوجه الثاني: هو الفحص عن روايات تدلّ على المنع عن البيع والنقل، فلو ثبت فيها إطلاق نفعنا في موارد الشكّ في الاستثناء.

وهناك عدّة من النصوص قد يستدلّ بها على ذلك من قبيل:

1_ ما رواه الصدوق(1) بإسناده عن محمد بن الحسن الصفّار: «أنّه كتب إلى أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام في الوقف وما روي فيه عن آبائه(عليهم السلام) فوقّع(عليه السلام): الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها إن شاءالله»(2)، ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن الحسن الصفّار مثله(3).

2_ ما رواه الكليني(4) عن محمد بن يحيى، قال: «كتب بعض أصحابنا إلى


(1) من لا يحضره الفقيه، ج4، ص237، باب الوقف والصدقة والنحل من کتاب الوصيّة، ح5567.

(2) وسائل الشيعة، ج19، ص175، الباب2 من کتاب الوقوف والصدقات، ح1.

(3) تهذيب الأحکام، ‌ج9، ص129، باب الوقوف والصدقات من کتاب الوقوف والصدقات، ‌ح2.

(4) الکافي، ج7، ص37، باب ما يجوز من الوقف والصدقة و... من کتاب الوصايا،‌ ح34.

320

أبي محمد عليه السلام في الوقوف وما روي فيها، فوقّع(عليه السلام): الوقوف على حسب ما يقفها أهلها إن شاءالله»(1).

3_ ما رواه الشيخ(2) بإسناده عن محمد بن الحسن الصفّار، قال: «كتبت إلى أبي محمد عليه السلام أسأله عن الوقف الذي يصحّ كيف هو؟ فقد روي: أنّ الوقف إذا كان غير مؤقّت فهو باطل مردود على الورثة، وإذا كان مؤقّتاً فهو صحيح ممضّى. قال قوم: إنّ المؤقّت هو الذي يذكر فيه: أنّه وقف على فلان وعقبه، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وقال آخرون: هذا مؤقّت إذا ذكر أنّه لفلان وعقبه ما بقوا ولم يذكر في آخره: للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والذي هو غير مؤقّت أن يقول: هذا وقف ولم يذكر أحداً فما الذي يصحّ من ذلك؟ وما الذي يبطل؟ فوقّع(عليه السلام): الوقوف بحسب ما يوقفها إن شاءالله»(3).

ومحلّ الاستشهاد المشترك بين هذه الروايات الثلاث قوله(عليه السلام): «الوقوف حسب ما يقفها» أو «يوقفها أهلها» أو قوله عليه السلام في الرواية الثالثة: «الوقوف بحسب ما يوقفها».

وأفاد السيّد الخوئي رحمه الله أن «يَقِفها» أصحّ من «يوقفها»؛ لأنّ الوقف يستعمل متعدّياً أيضاً (4).

ووجه الاستدلال بذلك هو أنّه إذا كان الوقوف حسب ما يقفها أهلها إذاً فما لم يستثن الواقف حالة خاصّة للبيع لا يجوز بيع العين الموقوفة.

وللرواية الأخيرة وجه آخر للدلالة على المقصود، وتوضيحه:


(1) الکافي، ج7، ص176، باب ما يجوز من الوقف والصدقة و... من کتاب الوصايا، ح2.

(2) تهذيب الأحکام، ج9، ص132، باب الوقوف والصدقات من کتاب الوقوف والصدقات، ح9؛ الاستبصار، ‌ج4، ص100، باب من وقف وقفا ولم یذکر الموقوف عليه من کتاب الوقوف والصدقات،‌ ح2.

(3) وسائل الشيعة، ج19، ص192، الباب7 من کتاب الوقوف والصدقات، ح2.

(4) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص253.

321

أنّ محمد بن الحسن الصفّار رحمه الله كان المرتكز في ذهنه أنّ الوقف يجب أن يكون للتأبيد، فقال ما مفاده: «روي لنا أنّ الوقف إذا كان غير مؤقّت فهو باطل مردود على الورثة»، والظاهر أنّه رحمه الله كان قد فهم من المؤقّت ما فيه نوع من التأبيد أي: أُبّد في الوقت، ومن غير المؤقّت ما لم يؤبّد فيه في الوقت، وكان شكّه في طريقة التأبيد وعدمه، ولهذا تراه فسّر التأبيد وعدم التأبيد بأُسلوبين:

الأوّل: ما قاله قوم: إنّ المؤقّت هو الذي يذكر فيه أنّه وقف على فلان وعقبه، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث قوم الله الأرض ومن عليها.

والثاني: ما قاله قوم آخرون وهو أنّه يكفي للتأبيد أو قل: للتوقيت أن يذكر لفلان وعقبه ما بقوا ولو لم يذكر تتمّة الكلام أعني: قوله: «فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها»، أمّا غير المؤقّت أو قل: غير الدائم فهو الذي لم يذكر فيه أحداً واكتفى بقوله: «هذا وقف» فلم يثبّت فيه تأبيداً حتّى بمقدار فلان وعقبه، ولا يفهم من مجرّد: «هذا وقف» أنّه وقف على مَن؟ وأنّ الموقوف عليه له دوام ولو بمقدار فلان وعقبه أو لا؟ فأجاب الإمام عليه السلام بقوله: «الوقوف بحسب ما يوقفها» فهو عليه السلام أمضى ضمناً بعدم الردع مرتكز الصفّار رحمه الله في اشتراط الدوام، وأرجع نمط الدوام إلى ما يقفها الواقف، ومن الواضح أنّ بيع الوقف يخالف الدوام.

إلّا أنّ هناك فهماً آخر لهذا الحديث، وهو تردّد الصفّار في معنى التوقيت الذي بلغته رواية باشتراطه في الوقف هل هو الدوام، أي: يقال فيه: إنّه وقف على فلان وعقبه فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أو هو تعيين الموقوف عليه. وهذا _ كما ترى _ مطلب أجنبيّ عمّا نحن فيه، فليس حال هذه الرواية إلّا حال باقي روايات: «الوقوف حسب ما يقفها أهلها».

322

4_ رواية أبي علي بن راشد، وقد رواها محمد بن يعقوب عن محمد بن جعفر الرزّاز عن محمد بن عيسى عن أبي علي بن راشد قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام قلت: جعلت فداك اشتريت أرضاً إلى جانب ضيعتي بألفي درهم، فلمّا وفّرت المال خُبّرت أنّ الأرض وقف، فقال: لا يجوز شراء الوقوف، ولا تدخل الغلّة في مالك، ادفعها إلى من أُوقفت عليه قلت: لا أعرف لها ربّاً. قال: تصدّق بغلّتها»(1)، ورواها الصدوق بإسناده عن محمد بن عيسى. ودلالة الحديث واضحة.

إلّا أنّ في سند الكليني وقع محمد بن جعفر الرزّاز(2)، ولا دليل على وثاقته.

ولكن من حسن الحظّ أنّ الصدوق رحمه الله روى نفس الرواية في الفقيه بسنده عن محمد ابن عيسى(3) وقد قال رحمه الله في مشيخة الفقيه: «وما كان فيه عن محمد بن عيسى فقد رويته عن أبي؟رض؟ عن سعد بن عبدالله عن محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني ورويته عن محمد بن الحسن؟رض؟ عن محمد بن الحسن الصفّار عن محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني»(4). وكلا السندين تامّان.

5_ الروايات الواردة عن الأئمّة(عليهم السلام) الذين وصفوا صدقاتهم التي كانت عبارة عن الوقف بالصدقة التي لا تباع ولا توهب من قبيل:

1_ صحيحة أيّوب بن عطية قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: «قسم رسول الله(صل الله عليه وآله) الفيء، فأصاب عليّاً عليه السلام أرض فاحتفر فيها عيناً، فخرج منها ماء ينبع في السماء كهيئة عنق البعير، فسمّاها عين ينبع فجاء البشير يبشّره، فقال: بشّر الوارث بشّر الوارث،


(1) الکافي، ج7، ص176، باب ما يجوز من الوقف والصدقة و... من کتاب الوصايا، ح2.

(2) تهذيب الأحکام، ج9، ص132، باب الوقوف والصدقات من کتاب الوقوف والصدقات، ح9؛ الاستبصار، ‌ج4، ص100، باب من وقف وقفا ولم یذکر الموقوف عليه من کتاب الوقوف والصدقات،‌ ح2.

(3) وسائل الشيعة، ج19، ص192، الباب7 من کتاب الوقوف والصدقات، ح2.

(4) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص253.

323

هي صدقة بتّاً بتلاً في حجيج بيت الله وعابر سبيله، لا تباع ولا توهب ولا تورث، فمن باعها أو وهبها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً»(1).

2_ معتبرة عجلان أبي صالح قال: «أملى أبو عبدالله(عليه السلام): بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما تصدّق به فلان بن فلان وهو حيّ سويّ بداره التي في بني فلان بحدودها صدقة لا تباع ولا توهب حتّى يرثها وارث السماوات والأرض، وأنّه قد أسكن صدقته هذه فلاناً وعقبه، فإذا انقرضوا فهي على ذي الحاجة من المسلمين»(2).

3_ ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن محمد بن عاصم(3) عن الأسود بن أبي الأسود الدؤلي(4) عن ربعي بن عبدالله عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «تصدّق أميرالمؤمنين عليه السلام بدار له في المدينة في بني زريق، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدّق به علي بن أبي طالب وهو حيّ سويّ تصدّق بداره التي في بني زريق صدقة لا تباع ولا توهب حتّى يرثها الله الذي يرث السماوات والأرض، وأسكن هذه الصدقة خالاته ما عشن وعاش عقبهنّ فإذا انقرضوا فهي لذي الحاجة من المسلمين»(5). وسند الحديث وإن كان فيه الأسود بن أبي الأسود الدؤلي، ولا دليل على وثاقته، ولكن من


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص186، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح2.

(2) المصدر السابق، ح3. وعجلان أبو صالح وثّقه علي بن الحسن بن علي بن فضّال. وروى الشيخ الحرّ في ذيل هذه الرواية نفس الرواية عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله عن أبي عبدالله(عليه السلام) إلّا أنّ في سندها أحمد بن عديس ولا توثيق له.

(3) روى عنه ابن أبي عمير.

(4) لا دليل على وثاقته.

(5) وسائل الشيعة، ج19، ص187، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح4؛ تهذيب الأحکام، باب الوقوف والصدقات من کتاب الوقوف والصدقات، ج9، ص131، ح7؛ الاستبصار، ج4، ص98، باب أنّه لا يجوز بیع الوقف من کتاب الوقوف والصدقات، ح4

324

حسن الحظّ أنّ الصدوق روى بإسناد له عن ربعي بن عبدالله نحوه(1).

4_ صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج قال: «أوصى أبو الحسن عليه السلام بهذه الصدقة: هذا ما تصدّق به موسى بن جعفر... تصدّق موسى بن جعفر بصدقته هذه وهو صحيح صدقة حبساً بتّاً بتلاً مبتوتةً لا رجعة فيها ولا ردّ ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، لا يحلّ لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيعها ولا يبتاعها ولا يهبها ولا ينحلها...»(2).

ووجه الاستدلال بهذه الروايات هو ما استظهره الشيخ الأنصاري رحمه الله(3) والسيّد الخوئي رحمه الله(4) من أنّ توصيف الصدقة بلا تباع ولا توهب تعيين لنوع الصدقة، لا تحديد مُلزِمٌ من قِبل الواقف في كيفية التعامل مع هذا الفرد من الصدقة الذي قام به(عليه السلام)، فيصبح معنى هذه الأحاديث أنّ الصدقة نوعان: نوع يجوز بيعه وهبته ونقله كالزكاة فإنّ المستحقّ الذي ملكها يتصرّف بها ما يهويه من التصرّفات في مؤونته، ونوع آخر تأبيديّ متوقّف لا يُنقل ولا يباع ولا يوهب وهو الوقف. وبكلمة أُخرى: إنّ الوصف وصف للنوع لا للشخص.

أمّا الوجه في هذا الاستظهار فلعلّ عمدته أمران:

الأمر الأوّل: أنّ الوارد في هذه الروايات ذكر مفعول مطلق للصدقة كقوله: «صدقةً لا تباع ولا توهب» والمفعول المطلق شأنه تعيين نوع الفعل، فمعنى الكلام: أنّ صدقتنا هذه من النوع الذي لا يباع ولا يوهب وهو الوقف، بخلاف مثل الزكاة.


(1) من لا یحضره الفقيه، ج4، ص248، باب الوقف والصدقة والنحل... من کتاب الوصيّة، ح5588. والاختلاف الجزئي في العبارة بين نسخة الشيخ التي كتبناها في المتن ونسخة الصدوق ليس اختلافاً مغيّراً للمعنى.

(2) وسائل الشيعة، ج19، ص202، الباب10 من کتاب الوقوف والصدقات، ح4.

(3) کتاب المكاسب، ج4، ص34 _ 35.

(4) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص254 _ 255.

325

ويرد على هذا الوجه أنّ المفعول المطلق وإن كان يدلّ على تنويع العمل وتعيين نوع الفعل، ولكن التنويع لا ينحصر شكله بتقسيم الصدقة إلى وقف وغير وقف، بل يمكن أيضاً تنويعه بتحصيصه إلى حصّتين: حصّة قيّدها الواقف بعدم البيع والنقل، وحصّة لم يقيّدها الواقف بذلك، فلعلّ الأُولى هي التي لا يجوز بيعها ونقلها، والثانية يجوز بيعها ونقلها.

والأمر الثاني: أنّ المرتكز العرفي والمتشرّعي هو أنّ الوقف في أصله إيقاف لا يباع ولا يوهب، وهذا يوجب انصراف التوصيف إلى التنويع، في مقابل غير الوقف كالزكاة ممّا يباع أو يوهب. وذاك الارتكاز العرفي أو المتشرّعي لو خلّي وحده لم يكن ينفعنا في التمسّك به في موارد الشكّ في الاستثناء؛ لأنّه ليس إلّا دليلاً لبّيّاً، ولكن هذا التنويع اللفظي من قبلهم(عليهم السلام) يحقّق لنا إطلاقاً نستفيد منه في موارد الشكّ.

وقد أورد السيّد الإمام رحمه الله على استظهار الشيخ(قدس سره) لكون الوصف صفة للنوع لا للشخص بوجوه أذكر هنا أحدها، وهو أنّ النسبة بين الوقف والصدقة ليست هي العموم والخصوص المطلق بأن تكون الصدقة على قسمين قسم يباع ويوهب كالزكاة، وقسم لا يباع ولا يوهب وهو الوقف، بل النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه، لاعتبار قصد القربة في الصدقات وقفاً كانت أو غيرها كالزكاة والصدقات المندوبة، وعدم اعتباره في الوقوف حتّى الوقوف العامّة، فلو وقف على أولاده أو على الفقراء بلا قصد القربة صحّ.

فلا يمكن إثبات عدم جواز بيع الوقوف مطلقاً بتلك الروايات لو فرض أنّها دالّة على المطلوب، فلعلّ الوقف حينما يكون صدقة بسبب قصد القربة فيه لا يجوز بيعه ونقله، وحينما لا يكون صدقة لعدم قصد القربة فيه يجوز بيعه ونقله.

واحتمال إلغاء الخصوصية غير مسموع؛ لأنّ للصدقات خصوصيّات ليست

326

لغيرها، فلعلّ الوقوف إذا كانت من قبيل الصدقات لا يجوز بيعها ونقلها، وإذا لم تكن من قبيل الصدقات بأن لم تكن بقصد القربة يجوز بيعها ونقلها(1).

وعلى أيّ حال فلا إشكال في تمامية دلالة بعض الروايات الماضية على المقصود.

بقي الكلام في موارد الاستثناء:

ولنُشِرْ مقدّمةً لذلك إلى أنّ الكلام إنّما هو في موارد جواز البيع أو النقل قبل انتهاء أمد الوقف، أمّا لو كان الوقف من المنقطع الآخر وانتهى أمده فلا إشكال في أنّه يرجع بذلك إلى الواقف أو ورثته، ويصبح ملكاً طلقاً يجوز بيعه.

مثاله: ما لو كان البيت وقفاً لفلان وعقبه ومات فلان وانقطع عقبه فالبيت يرجع إلى الواقف أو ورثته.

ومثاله الآخر: ما لو أوقف البيت على زيد من دون عقبه ومات زيد فالبيت يرجع إلى الوقف أو ورثته.

وهذا غير الحبس، فإنّ الحبس يعني أنّ العين لا تخرج من ملك الواقف وإن كانت تحبس منافعه لمشروع مّا مدّة بقاء ذاك المشروع.

فإن قلت: إن الوقف المنقطع الآخر إن قبلناه في الوقف الذي يعتبر عرفاً أبديّاً وإن كان قد ينقطع صدفة، من قبيل الوقف على زيد وعقبه ثم ينقطع عقبه صدفة، لا نقبله في مثل الوقف على زيد من دون عقبه ممّا لا يوجد له دوام ولو عرفاً، كالوقف على زيد وعقبه؛ وذلك لأنّ وقفاً كهذا يكون خلاف الارتكاز العرفي والمتشرّعي الحاكم بأبدية الوقف.

قلنا: إنّ الارتكاز العرفي أو المتشرّعي إنّما يحكم بعدم تحديد الوقت بمثل عشر سنين مثلاً أو عشرين سنة لا على أنّ الموقوف عليه يجب أن يكون ممّا له دوام في البقاء، فشرط دوام الموقوف عليه ننفيه بإطلاق: «الوقوف حسب ما يقفها أهلها».


(1) كتاب البيع (للسيّد الإمام(رحمه الله))، ج3، ص146 _ 147.

327

وقد يدّعی وجود دليل لفظي يدلّ حتّى على صحّة الوقف المحدّد بالسنين، والنصّ عبارة عن صحيحة علي بن مهزيار، قال: «قلت له: روى بعض مواليك عن آبائك(عليهم السلام) أنّ كلّ وقف إلى وقت معلوم فهو واجب على الورثة، وكلّ وقف إلى غير وقت جهلٌ مجهول فهو باطل مردود على الورثة. وأنت أعلم بقول آبائك(عليهم السلام). فكتب(عليه السلام): هكذا هو عندي»(1).

وهذا يعني: أنّ الوقف لو كان إلى عدّة سنين ومات الواقف قبل تمامية السنين كان على الورثة أن يلتزموا بصحّة الوقف مادام الوقت باقياً.

وتحقيق صحّة أو عدم صحّة هذا الكلام موكول إلى كتاب الوقف.

وعلى أيّ حال فالمهمّ أنّ الوقف المنقطع الآخر بأيّ مورد قبلناه فبالانقطاع يخرج عن مصبّ بحثنا، ويعود ملكاً طلقاً، وإنّما الکلام في غير المنقطع الآخر وفيه قبل الانقطاع.

موارد جواز بیع الوقف

والآن نريد البحث عن موارد الاستثناء، وهي عديدة:

منها: ما لو خربت العين الموقوفة بحيث لا يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها فتصل النوبة إلى التبديل ببيع هذه العين وشراء ما ينتفع به.

مثاله: الحيوان المذبوح والجذع البالي والحصير المخرّق.

والدليل على ذلك أنّ وقف الواقف شمل العين والمالية، فمقتضى قاعدة: «إنّ الوقوف حسب ما يقفها أهلها» أن تبقى الماليّة على الوقفية لنفس الجهة، فتباع العين وتبدّل بعين أُخرى بقدر الإمكان.

ومنها: وقوع اختلاف شديد بين الموقوف عليهم بنحو يحتمل أداؤه إلى تلف النفوس والأموال، فيسوغ البيع ولو لم يشترط الواقف ذلك.


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص192، الباب7 من کتاب الوقوف والصدقات، ح1.

328

والدليل على ذلك مكاتبة علي بن مهزيار قال: «وكتبت إليه: إنّ الرجل ذكر أنّ بين من وقف عليهم هذه الضيعة اختلافاً شديداً وأنّه ليس يأمنوا أن يتفاقم ذلك بينهم بعده، فإن كان ترى أن يبيع هذا الوقف ويدفع إلى كلّ إنسان منهم ما وقف له من ذلك أمرته. فكتب إليه بخطّه: وأعلمه أنّ رأيي له إن كان قد علم الاختلاف ما بين أصحاب الوقف أن يبيع الوقف أمثل، فإنّه ربّما جاء في الاختلاف تلف الأموال والنفوس»(1).

ونقل صاحب الوسائل في ذيل هذه الرواية عن الصدوق رحمه الله قوله: «وقف كان عليهم دون من بعدهم، ولو كان عليهم وعلى أولادهم ومِن بعد على فقراء المسلمين لم يجز بيعه أبداً»(2).

أقول: هذا اجتهاد من قِبل الصدوق(قدس سره)، والمهمّ نفس الرواية، فهل أنّ مفادها خاص بما إذا كان الوقف وقفاً على الأحياء حين الوقف فحسب أو يشمل _ على الأقلّ _ فرض الوقف عليهم وعلى أعقابهم؟

قد يقال: إنّ التعبير في صيغة السؤال: «إنّ الرجل ذكر أنّ بين من وقف عليهم هذه الضيعة اختلافاً شديداً» يعطي معنى أنّ الموقوف عليهم هم الأحياء فحسب.

أمّا ما ورد في الجواب من قوله: «فإنّه ربّما جاء في الاختلاف تلف الأموال والنفوس» فصيغته صيغة بيان ملاك الحكم، لا صيغة إعطاء موضوع الحكم بذكر العلّة المعمّمة للحكم.

ويمكن الجواب على ذلك بأحد وجهين:


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص188، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح6.

(2) نقله الشيخ الحرّ في ذيل تلك الرواية في المصدر السابق، ص189. وكلام الصدوق موجود في من لا یحضره الفقيه، ج4، ص240، باب عدم جواز بیع الوقف وحکم ما لو وقع بین الموقوف علیهم اختلاف... من کتاب الوقوف والصدقات،‌ح5574.

329

الوجه الأوّل: إنّ يقال: إنّ غلبة ذكر الأعقاب فيما هو المألوف يوجب الإطلاق في صيغة السؤال لفرض كون الوقف وقفاً على الأحياء والأعقاب، فليس السؤال مختصّاً بفرض الوقف على الأحياء فحسب، والنتيجة أنّ الإطلاق يتمّ في الجواب أيضاً.

الوجه الثاني: أن يقال: إنّ تلك الغلبة التي أشرنا إليها في الوجه الأوّل تخلق _ على الأقلّ _ إجمالاً في السؤال، وهذا يخلق في الجواب الإطلاق بملاك ترك الاستفصال إن آمنّا في علم الأُصول بالإطلاق بملاك ترك الاستفصال، أو يخلق في الجواب ظهوراً في كون قوله: «فإنّه ربّما جاء في الاختلاف تلف الأموال والنفوس» بياناً لموضوع الحكم ومقياسه، لا مجرّد بيان ملاك الحكم وحكمته.

ومنها: ما إذا اشترط الواقف بيعه عند حدوث أمر من قلّة المنفعة أو كثرة الخراج أو كون بيعه أنفع أو لاختلاف بين أرباب الوقف أو احتياجهم إلى عوضه أو نحو ذلك.

والدليل على ذلك قاعدة: «إنّ الوقوف حسب ما يقفها أهلها».

ومنها: ما إذا طرأ ما يستوجب أن يؤدّي بقاؤه إلى الخراب المسقط له عن المنفعة المعتدّ بها عرفاً.

والدليل على ذلك: أنّ الوقفية شملت العين والمالية، ومقتضى أنّ الوقوف حسب ما يقفها أهلها حفظهما معاً، وهذا ما لا يمكن، فمقتضى تلك القاعدة الحفاظ على أحدهما، فيجوز بيع العين قبل خرابها حفاظاً على المالية، لكن ذلك في آخر أزمنة إمكان بقائها.

قيل ومنها: «ما لو لاحظ الواقف في قوام الوقف عنواناً خاصّاً في العين الموقوفة، مثل كونها بستاناً أو داراً أو حمّاماً، فيزول ذاك العنوان، فإنّه يجوز البيع حينئذٍ وإن كانت الفائدة باقية بحالها أو أكثر»(1).


(1) منهاج الصالحين (للسيّد الحكيم(رحمه الله))، ج2، ص35.

330

ولكن أفاد أُستاذنا الشهيد الصدر رحمه الله: أنّ هذا ليس من مستثنيات بيع الوقف؛ لأنّه بزوال العنوان الخاصّ في العين الموقوفة المأخوذ في قوام الوقف يبطل الوقف، ويصبح ملكاً طلقاً، فلا يكون من موارد جواز بيع الوقف(1).

هذا إجمال الكلام في مستثنيات حرمة بيع الوقف ونقله.

تنبيهات تتعلّق ببيع الوقف

ويتجلّى الأمر إن شاء الله ضمن بيان تنبيهات هامّة على أُمور ينبغي التعرّض لها:

التنبيه الأوّل: هل جواز البيع يعني بطلان الوقف بالفعل أو يعني جواز إبطاله؟

أفاد صاحب الجواهر رحمه الله: «الذي يقوى في النظر بعد إمعانه أنّ الوقف مادام وقفاً لا يجوز بيعه، بل لعلّ جواز بيعه مع كونه وقفاً من المتضاد. نعم، إذا بطل الوقف اتّجه حينئذٍ جواز البيع، والظاهر تحقّق البطلان فيما لو خرب الوقف على وجه تنحصر منفعته المعتدّ بها منه في إتلافه كالحصير والجذع ونحوهما ممّا لا منفعة معتدّ بها فيه إلّا بإحراقه مثلاً وكالحيوان بعد ذبحه مثلاً وغير ذلك. ووجه البطلان حينئذٍ فقدان شرط الصحّة في الابتداء المراعی في الاستدامة بحسب الظاهر، وهو كون العين ينتفع بها مع بقائها...»(2).

وأفاد الشيخ الأنصاري رحمه الله معلَّقاً على كلام صاحب الجواهر: «وقد سبقه إلى ذلك بعض الأساطين [يعني كاشف الغطاء] في شرحه على القواعد(3) حيث استدلّ على المنع عن بيع الوقف بعد النصّ والإجماع، بل الضرورة بأنّ البيع وأضرابه ينافي حقيقة الوقف لأخذ الدوام فيه، وأنّ نفي المعاوضات مأخوذ فيه ابتداءً»(4).


(1) منهاج الصالحين (للسيّد الحكيم(رحمه الله))، ج2، ص35، تحت الخطّ.

(2) جواهر الکلام، ج22، ص358.

(3) خرّجه محقّق الطبعة المشار إليها للمكاسب من شرح القواعد مخطوط، الورقة: 85.

(4) کتاب المكاسب، ج4، ص36.

331

وقد أورد الشيخ الأنصاري رحمه الله في فهم مراد صاحب الجواهر احتمالين:

أحدهما: كون مقصوده ببطلان الوقف انتفاء بعض آثاره، وهو جواز البيع.

وثانيهما: كون مقصوده انتفاء أصل الوقف، وقال رحمه الله: هذا هو ظاهر كلامه حيث جعل المنع عن البيع من مقوّمات مفهوم الوقف(1).

وأورد الشيخ على صاحب الجواهر بناء على التفسير الأوّل لكلامه، أي إرادة بطلان بعض آثار الوقف، وهو جواز البيع المسبّب عن سقوط حقّ الموقوف عليهم عن شخص العين _ كما لو جعلنا الثمن للبائع وللبُطون مثلاً _ أو عنها وعن بدلها _ كما لو قلنا بكون الثمن للبطن الذي يبيع فالبطون المتأخّرة انحرمت من العين ومن البدل _ بأنّ هذا لا محصّل له فضلاً عن أن يحتاج إلى نظر فضلاً عن إمعانه(2).

وفسّر السيّد الخوئي رحمه الله كلام الشيخ الأنصاري إذ قال: «فهذا لا محصّل له...» بأنّ اشتراط صحّة الوقف _ أي صحّته في بعض الآثار وهو عدم جواز البيع _ بعدم طروّ الجواز مرجعه إلى اشتراط جواز البيع بجواز البيع؛ فإنّ نفي عدم جواز البيع يعني جواز البيع؛ لأنّ نفي النفي إثبات، وهذا طبعاً لا محصّل له(3).

أمّا بناء على التفسير الثاني لكلام صاحب الجواهر وهو كون المقصود بطلان الوقف بمجرّد جواز بيعه فقد أورد الشيخ الأنصاري عليه بأنّ جواز البيع لا ينافي بقاء الوقف إلى أن يباع، فالوقف يبطل بنفس البيع لا بجوازه، فمعنى جواز بيع العين الموقوفة جواز إبطال وقفها إلى بدل أو لا إلى بدل، ولا يعني بطلان الوقف؛ لأنّ المنع عن البيع حكم شرعي مترتّب على الوقف، وليس مقوّماً لمفهوم الوقف، وتقوّم مفهوم الوقف بعدم جواز البيع خلاف الإجماع؛ إذ لم يقل أحد ممّن أجاز بيع الوقف في بعض


(1) المصدر السابق، ص37.

(2) المصدر السابق.

(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص258.

332

الموارد ببطلان الوقف وخروج الموقوف عن ملك الموقوف عليه إلى ملك الواقف(1).

واستشهد الشيخ رحمه الله على كلامه هذا بشاهدين:

الشاهد الأوّل: أنّ مدلول صيغة الوقف وإن أُخذ فيه الدوام والمنع عن المعاوضة عليه إلّا أنّه قد يعرض ما يجوّز مخالفة هذا الإنشاء، كما أنّ مقتضى العقد الجائز كالهبة تمليك المتّهِب المقتضي لتسلّطه المنافي لجواز انتزاعه من يده، ومع ذلك يجوز مخالفته وقطع سلطنته عنه، ثم أمر رحمه الله بالتأمّل(2).

وحاصل هذا الشاهد: أنّ مخالفة الحكم الشرعي لما أنشأه المُنشئ ليست غريبة، كما وقع ذلك في باب الهبة الجائزة مع أنّ الواهب أنشأ التمليك الكامل.

والشاهد الثاني: أنّه لا إشكال لدى طروّ مجوّز البيع في أنّه لو لم يتّفق البيع إلى أن انتفى ذاك المجوّز وانتفت الضرورة الداعية إلى البيع كان الوقف باقياً على حاله وكان جواز البيع منتهياً، ولذا صرّح في جامع المقاصد بعدم جواز رهن الوقف وإن بلغ حدّاً يجوز بيعه معلَّلاً باحتمال طروّ اليسار للموقوف عليهم عند إرادة بيعه في دَين المرتهن(3).

والشيخ النائيني رحمه الله رغم دعمه للشيخ الأنصاري في أصل ما أفاد لم يقبل الشاهد الأوّل من هذين الشاهدين على ما ورد في منية الطالب حيث قال ما مضمونه: لو وجّهنا كلام صاحب الجواهر وكاشف الغطاء بأنّ حقيقة الوقف أُخذ في مفهومها الدوام فكلّ مورد قيل بصحّة بيعه يجب أن يقال ببطلان الوقف أوّلاً حتّى يصحّ بيعه لم يرد عليهما النقض بجواز الرجوع في الهبة؛ للفرق الواضح بين الهبة والوقف، فإنّ الهبة ليس من مقتضاها إلّا تمليك المتهب، لا الدوام وعدم الرجوع، بخلاف الوقف فإنّ مقتضاه وقوف العين على حالها، فينافيه بيعها(4).


(1) کتاب المكاسب، ج4، ص36 _ 37.

(2) المصدر السابق، ص36.

(3) المصدر السابق، ص37.

(4) منية الطالب، ج2، ص279.

333

ولكنّه رحمه الله آمن بالشاهد الثاني حيث قال(قدس سره): «إنّ من موارد جواز بيعه شدّة حاجة أربابه، ولا شبهة أنّه لو ارتفعت ضرورتهم قبل البيع يبقى الوقف على حاله، ولا يمكن أن يبطل الوقف بطروّ الضرورة ويعود بارتفاعها؛ لأنّه لا دليل على عوده بعد بطلانه»(1).

أمّا السيّد الخوئي رحمه الله فقد أفاد في المقام(2): أنّ الذي ينبغي أن يقال هو: أنّه إن كان المراد من بطلان الوقف بطلان أصل الوقف وخروج العين عن كونها وقفاً ودخولها في ملك واقفها فهو مقطوع العدم كما ذكره الشيخ(قدس سره)، ولا موجب لهذا أيضاً، ولا يلتزم به كاشف الغطاء وصاحب الجواهر؟قهما؟ أيضاً.

وإن كان المراد منه أنّه بعد ما طرأ عليه مسوّغات البيع يكون ملكاً طلقاً للموقوف عليهم ولهم التصرّف كيف ما شاؤوا كتصرّف الملّاك في أموالهم وأملاكهم فهذا لا دليل عليه، ولا موجب له أيضاً، مضافاً إلى أنّه لم يلتزم به أحد.

وإن كان المراد منه بطلان الوقف من جهة البيع فقط لا من جميع الجهات بأن لا تكون هبته ولا إجارته ولا غير ذلك من التصرّفات الموقوفة على الملك غير البيع جائزة. وبعبارة أُخرى: أنّ ما أنشأه الواقف هو السكون من جميع الجهات حتّى من جهة البيع، لكن لا يكون دليل الإمضاء شاملاً للوقف من جهة المنع عن بيعه، فهو كلام متين ويستحقّ إمعان النظر؛ لأنّ شمول الإمضاء حتّى بهذا المقدار ينافي جواز بيعه عند طروّ مسوّغات البيع، فإن كان هذا هو مراد كاشف الغطاء وصاحب الجواهر فهو متين(3).

قال رحمه الله: إنّ النزاع بين الشيخ ومن تبعه وبين كاشف الغطاء وصاحب الجواهر إن


(1) المصدر السابق.

(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص259 _ 260.

(3) وقول الشيخ: إنّ هذا لا محصّل له بعد فرض تفسيره بما فسّر به السيّد الخوئي من رجوع ذلك إلى اشتراط جواز البيع بجواز البيع يكون كلاماً غريباً في غاية الغرابة.

334

هو إلّا نزاعاً علميّاً(1) لا ثمرة له، بداهة أنّ كاشف الغطاء وصاحب الجواهر من ناحية والشيخ ومن تبعه من ناحية أُخرى كلّهم معترفون بعدم خروج العين عن الوقفية بمجرّد طروّ مسوّغات البيع حتّى في صورة ارتفاع العذر وارتفاع المسوّغ، بل ينادون بصوت واحد ببقاء الوقف على حاله في صورة عدم اتّفاق البيع وارتفاع المسوّغ.

قال رحمه الله: «ولكن ذهب بعض الأكابر(2) إلى جواز البيع بعد طروّ المسوّغ حتّى بعد الارتفاع، سواء قلنا ببطلان الوقف بطروّ المسوّغ أو قلنا بعدمه، أمّا في الصورة الأُولى فظاهر، وأمّا في الصورة الثانية فالمورد يكون من موارد الرجوع إلى استصحاب حكم المخصّص؛ بداهة أنّه بعد طروّ المسوّغ علمنا بجواز بيع الوقف وخروجه عن تحت عموم عدم جواز بيع الوقف، ثم شككنا بعد ارتفاع المسوّغ هل بقي في حالة جواز بيعه أو أنّه لا يجوز لشمول العموم له، وحينئذٍ نتمسّك باستصحاب حكم المخصّص، ونحكم بجوازه»(3).

ثم أورد السيّد الخوئي رحمه الله على ما نقله من كلام بعض الأكابر بأنّ الحقّ عدم جواز البيع بعد زوال مسوّغ البيع، أمّا بناء على عدم بطلان الوقف فظاهر لكون المورد من موارد التمسّك بالعامّ دون المخصّص؛ وذلك لأنّ عموم عدم جواز بيع الوقف كان شاملاً لما قبل طروّ المسوّغ ولحالة طروّ المسوّغ ولما بعد زوال المسوّغ، ثم علمنا بخروج حالة وجود المسوّغ عن تحت عموم عدم الجواز، فيبقى الباقي من المتقدّم على طروّ المجوّز والمتأخّر عنه تحت العامّ؛ إذ لا فرق بين الأفراد الطولية والأفراد العرضية في كونها مشمولة لعموم العامّ.


(1) يمكن أن يقال: إنّ النزاع بينهم لفظي لا إنّ النزاع بينهم علمي، إلّا إذا حمل كلام أحد الطرفين على خروج الوقف عن الوقفية بطروّ المسوّغ ورجوعِه إليها بعد زوال المسوّغ، وحمل كلام الطرف الآخر على عدم خروجه عن الوقفية إلّا بفعلية البيع قبل زوال المسوّغ، فيكون ذلك نزاعاً علميّاً لا لفظيّاً.

(2) مراده الشيخ الإيرواني في حاشيته على المكاسب، ج1، ص179.

(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص260.

335

وأمّا بناء على بطلان الوقف فلأنّنا لو قلنا ببطلان الوقف ولم نقصد بذلك عدم إمضاء الشارع لهذا المقدار من الوقف، أي: جهة المنع عن بيعه في حالة وجود المسوّغ، بل قصدنا رجوع الوقف إلى ملك الواقف أو صيرورته ملكاً طلقاً للموقوف عليهم قلنا: إنّه حتّى هنا لا يصحّ التمسّك بحكم المخصّص أو استصحابه، بل لابدّ من التمسّك بعموم أدلّة الإمضاء؛ لأنّ ما أنشأه الواقف هو حبس العين وسكونها إلى الأبد، ومقتضى عموم دليل الإمضاء كونه ممضى كذلك، وقد خرجنا عنه في حالة وجود المسوّغ، وأمّا بعده أو قبله فنتمسّك بدليل الإمضاء. نعم، العموم هذه المرّة مجموعي متكفّل لحكم واحد مستمرّ، ولكن لا فرق في الحكم بحجّية العموم _ في غير المقطع الذي ثبت خروجه منه _ بين كونه استقلاليّاً أو مجموعيّاً.

فما ذكروه وادّعوا عليه عدم الخلاف من بقاء الشيء على وقفيّته إذا لم يبع بعد عروض المجوّز حتّى زال هو مقتضى القاعدة(1)، انتهى كلام السيّد الخوئي رحمه الله مع حذف مقطع منه كان ينبغي حذفه(2).

أقول: لو فرضنا بطلان الوقف مدّة حالة وجود المسوّغ بمعنى رجوعه إلى وقف الواقف أو صيرورته ملكاً طلقاً للموقوف عليهم فكون المرجع بعد ارتفاع المسوّغ وقبل البيع إلى عموم العامّ أو استصحاب حكم المخصّص هو مصداق للنزاع المعروف في علم الأُصول، فكأنّ الشيخ الإيرواني رحمه الله بنى في تلك المسألة على الرجوع إلى استصحاب حكم المخصّص، بينما بنى السيّد الخوئي(قدس سره) على الرجوع إلى عموم العامّ.

التنبيه الثاني: نريد في هذا التنبيه التوسّع في البحث العلمي عن الاستثناء الأوّل من استثناءات من عدم جواز بيع الوقف، وهو ما لو خربت العين الموقوفة بحيث لا يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها كالحيوان المذبوح والجذع البالي والحصير المخرّق.


(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص260 _ 261.

(2) وهو مقطع من ص261 ولعلّه من خطأ المقرّر وإن شئته فراجع الكتاب.

336

وقد أفاد السيّد الخوئي رحمه الله في المقام: أنّ موضوع البحث ينبغي أن يكون أوسع من هذا، فلا يخصّص البحث بفرض الخراب المسقط للعين عن الانتفاع بها إلّا بالبيع، بل يجعل موضوع البحث كلّ ما لم يمكن الانتفاع به المنفعة المطلوبة إلّا بالبيع حتّى لو لم يكن ذلك بسبب الخراب.

ومثّل لذلك بما لو فرضنا أنّ شخصاً وقف داراً جديدة في بلد لذرّية طبقةً بعد طبقة وجيلاً بعد جيل إلى أن يرث الله الأرض، وفرضنا أنّ أهل تلك القرية قد تفرّقوا ولم يمكن الانتفاع من تلك الدار لا بالسكنى ولا بالإجارة؛ لأنّ المفروض تفرّق أهل القرية، ولكن يمكن الانتفاع ببيعها للزرع مثلاً وتبديلها بدار أُخرى في غير هذا المكان(1).

ولعلّ مقصوده رحمه الله فرض عدم إمكان استفادة نفس الموقوف عليهم من أرض الدار بالزرع، وإلّا فأيّ فرق بين استفادتهم من أُجرة الأرض أو استفادتهم من زرع الأرض؟!

أو لعلّ مقصوده رحمه الله فرض توقّف زرع الأرض على هدم البنيان، فلو جاز هدم البنيان للاستفادة من الأرض التي هي داخلة ضمناً في الوقف جاز أيضاً بيع الدار وتبديلها للاستفادة من المالية التي هي داخلة ضمناً في الوقف.

وعلى أيّ حال فقد أدار السيّد الخوئي رحمه الله البحث أوّلاً حول نفي الموانع عن البيع في المقام، وثانياً حول إثبات مقتضي البيع في المقام. ونحن نتّبع أثره إن شاء الله:

أمّا الموانع عن البيع فلعلّ من الواضح انتفاءها في المقام:

فإن كان المانع هو الإجماع فمن الواضح أنّه لا إجماع على حرمة بيع الوقف حينما لا يمكن الانتفاع به من دون بيع إن لم يكن الإجماع على العكس، ولا أقلّ من كون جواز البيع عندئذٍ من المشهور المعروف.


(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص269 _ 270. وقد أعاد بيان رأيه(رحمه الله) في الموضوع فيما إذا فرضنا ابتعاد الموقوف عليهم من العين بحيث لا يتمكّنون من الانتفاع بها بوجه من الوجوه في ص284.