355

هذا، وذكر السيد الخوئي(1): أنّ بعض الروايات تدل على عدم اعتبار العدالة في الشاهد، ونفوذ شهادة المسلم وإن كان فاسقاً، من قبيل ما عن حريز _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في أربعةٍ شهدوا على رجل محصن بالزنا، فعدِّل منهم اثنان، ولم يُعدَّل الآخران، فقال: «إذا كانوا أربعةً من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور، أُجيزت شهادتهم جميعاً، وأُقيم الحدّ على الذي شهدوا عليه، إنّما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا وعلموا، وعلى الولي أن يجيز شهادتهم، إلا أن يكونوا معروفين بالفسق»(2) وما عن علا بن سيابة _ بسند تام _ قال «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن شهادة من يلعب بالحمام، فقال: لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق»(3).

وردّ هذه الروايات: أوّلاً _ بالشذوذ، وعدم قابليّتها لمعارضة الروايات المشهورة المعروفة الدالّة على شرط العدالة.

وثانياً _ بأنها مطلقة تقيّد بالروايات السابقة.

أقول: إنّ ما في عنوان المعرفة من الطريقيّة يمنع عن ظهور هذه الأحاديث في عدم مانعية الفسق، ويجعلها ظاهرةً في إرادة أنّ الفسق لا يثبت إلا بالمعرفة، وأنّ الأصل عند الشكّ هو العدالة. إذاً فهذه الأحاديث لا تعارض روايات شرط العدالة، وإنّما تعارض روايات كون الأمارة على العدالة هي حسن الظاهر؛ حيث إنّ هذه الروايات تفترض أنّ مجرد عدم ظهور الفسق أمارة على العدالة، وتحمل _ بالجمع بواسطة التقييد _ على أنّ المراد هو عدم ظهور الفسق فيما بين معاشريه، كجيرانه


(1) في تكملة المنهاج، ج1، ص89 _ 90.

(2) وسائل الشيعة، ج18، ص293، الباب 41 من الشهادات، ح18.

(3) نفس المصدر، ص291، الباب 41 من الشهادات، ح6، وص305، الباب 54 من الشهادات، ح1 و3. والسند الموجود في المورد الأول وفي الحديث 3 من المورد الثاني، هو التامّ دون السند الآخر.

356

وأصدقائه، وهذا هو عبارة عن حسن الظاهر، وقد مضى الحديث عن ذلك في ما مضى عند البحث عن شرط العدالة في القاضي.

كما مضى هناك أيضاً البحث عن مدى اضرار ارتكاب الصغيرة بالعدالة.

والذي نضيفه هنا هو أنّ ممّا يمكن أن يُستدلّ به على قبول شهادة مرتكب الصغيرة هي الروايات الواردة في أنّ عدم قبول شهادة الفاسق من باب دخوله في الظنين، كرواية عبداللّه بن سنان التامّة سنداً: قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): ما يردّ من الشهود؟ قال: فقال: الظنين والمتّهم. قال: قلت: فالفاسق والخائن؟ قال: ذلك يدخل في الظنين»(1)، ونحوها روايات أُخرى مذكورة في الوسائل في الباب (30) من الشهادات.

وجه الاستدلال هو: أنّ الإمام (عليه السلام) ذكر في هذه الأحاديث أنّ عدم قبول شهادة الفاسق يكون باعتباره داخلاً في الظنين، بينما مرتكب الصغيرة غير المصرّ عليها، والمجتنب للكبائر لا يصدق عليه عنوان الظنين، فهذه الروايات تدل على أنّ هذا المستوى من الذنب لا يضرّ بالشهادة.

وقد يُقال: لو صار القرار على هذا النمط من الاستدلال إذاً هذه الروايات تدل على قبول شهادة الفاسق الذي يكون ثقة في شهادته؛ لأنّه ليس ظنيناً.

وبالإمكان الإجابة على ذلك بأنّ من المحتمل كون الرواية ناظرةً إلى كون الفسق قرينةً نوعيّةً على الظنّة؛ لأنّ من يرتكب الكبائر يأتي بشأنه احتمال ارتكاب الكذب في الشهادة؛ فالفاسق بطبعه ظنين، وافتراض أنّ القاضي يثق صدفة بعدم ارتكاب هذا الفاسق للكذب لا ينافي كون الفاسق بما هو فاسق ظنيناً في نوعه، وهذا بخلاف


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص274، الباب 30 من الشهادات، ح1.

357

من لم يرتكب إلا الصغيرة بلا إصرار، فإنّ ارتكابه للصغيرة بلا إصرار لا يوجب الظنّة به بلحاظ شهادة الزور التي هي كبيرة من الكبائر.

وبنفس هذا البيان أيضاً يمكن إثبات قبول شهادة المخالف لعقائد الشيعة إذا كان عدلاً في مذهبه، كالسنّي العادل في مذهبه، فإنّه وإن كان فاسقاً في العقائد _ بمعنى التقصير في تحصيل العقائد الحقّة _ لكن هذا لا يجعله ظنيناً إذا كان هو بحدّ ذاته إنساناً عدلاً في تصرّفاته.

تعارض البيّنات في تزكية الشاهد

وفي ختام البحث عن شرط العدالة لا بأس بالكلام عن مسألة ما إذا كان الدليل على العدالة بيّنةً مزكيّةً للشاهد، وكانت معارضةً بالبيّنة الجارحة، فأيتُهما تتقدم؟ والوجوه التي نطرحها الآن على بساط البحث خمسة:

1_ التعارض والتساقط.

2_ تقديم بيّنة التزكية.

3_ تقديم بيّنة الجرح.

4_ التفصيل بين ما لو نفت البيّنة المزكّية سبب الجرح الذي تذكره بيّنة الجرح، فلا مبرِّر لتقديم بيّنة الجرح، وبين ما لو اقتصرت على الشهادة بالعدالة.

5_ الترجيح بالعدد أو الأعدلية.

أمّا التعارض والتساقط فوجهه واضح، وهو افتراض عدم موجب للترجيح.

والأثر العملي فيما بين التعارض والتساقط من ناحية وتقديم بيّنة الجرح من ناحية أُخرى يظهر في مستصحب العدالة، فعلى الثاني تسقط شهادته، وعلى الأول تبقى شهادته نافذةً.

358

وأمّا تقديم بيّنة التزكية فلما قد يقال من أنّ الأصل هو الفسق، فبيّنة التزكية هي التي تشهد بأمر إضافي وجديد.

ولو سلّم أنّ الأصل هو الفسق _ ولو بأن يقصد بالفسق عدم العدالة _ فلا نسلّم أنّ مجرد كون بيّنة التزكية خلاف الأصل _ وشاهداً لأمر جديد وإضافي _ موجباً لتقدُّمها.

وأمّا تقديم بيّنة الجرح فيمكن الاستدلال عليه بوجهين:

الأول _ ما ورد عن مسمع بن عبدالملك عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يحكم في زنديق إذا شهد عليه رجلان عدلان مرضيان، وشهد له ألفٌ بالبراءة، يجيز شهادة الرجلين ويبطل شهادة الألف؛ لأنّه دين مكتوم»(1). فيُقال: إنّ مقتضى عموم التعليل بالمكتوميّة التعدّي من الزندقة إلى الفسق، فإنّ الفسق كثيراً ما يكتم، ويوجب كتمانه تخيّل العدالة.

ولكن لا يخفى أنّ التعليل كان بأنّه دين مكتوم، واحتمال الفرق بين الدين والفسق موجود بأن يفترض أنّ الشريعة تتسامح في جانب الفسق بما لا تتسامح في جانب الدين.

على أنّ الحديث ساقط سنداً.

الثاني _ ما قد يُقال من أنّ بيّنه العدالة قد تعتمد على حسن الظاهر الذي هو أمارة العدالة، وبيّنة الجرح تشهد بما خفي على بيّنة العدالة.

وقد يُورد عليه بأنّ من المحتمل العكس أيضاً؛ بان تكون بيّنة العدالة قد اعتمدت على أمر إضافي لم تطّلع عليه بيّنة الجرح، كما لو كانت بيّنة الجرح مطّلعة


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص303، الباب 51 من الشهادات، ح1.

359

على الفسق، وبيّنة العدالة مطّلعة على توبته من ذلك الفسق، واسترجاع الملكة لو كانت زائلةً، أو كانت بيّنة الجرح مطّلعةً على شى‏ء يكون معصية بالعنوان الأوّلي، وبيّنة العدالة مطّلعة على عذرٍ يزكّية، والذي يجعل ذاك العمل حلالاً له، ونحو ذلك من الأمثلة.

والواقع أنّ الذي ينبغي أن يكون مقصوداً لمن يرجّح بيّنة الجرح على بيّنة التزكية هو أحد أمرين:

الأول _ النظر إلى مدى دلالة الشهادتين، ودعوى أنّ الشهادة بالعدالة لا تدل على أكثر من حسن الظاهر؛ لأنّه أمارة على العدالة، بينما الشهادة على الفسق تدل على الفسق الواقعي، ولا تنافي بين الشهادتين، فيُؤخذ بهما معاً، وبالتالي يثبت الفسق. فهذا هو المقصود بتقديم بيّنة الجرح لا التقديم بمعنى تسليم التعارض وترجيح بيّنة الجرح، وليس الكلام في واقع ما في نفس البيّنتين كي يُقال: لعلّ البيّنة المزكّية اطّلعت على ما لم تطّلع عليه البيّنة الجارحة، وإنّما الكلام في مقدار دلالة الشهادتين، فالشهادة على العدالة لا تدل على أكثر من الشهادة على حسن الظاهر؛ لأنّه أمارة العدالة، بينما الشهادة على الفسق تدل على واقع الفسق.

ويرد عليه: أنّ الشهادة على العدالة ليست دائماً شهادةً على حسن الظاهر، بل ظاهر الشهادة على العدالة لو لم يأت بقرينة على إرادة حسن الظاهر، هو الشهادة على واقع العدالة، فتتعارض الشهادتان.

الثاني _ أن يُقال: إنّ بيّنة التزكية تسقط كاشفيتها عرفاً أمام بيّنة الجرح دون العكس، وذلك بنكتة أنّ الفسق كثيراً ما يُكتَم إلى أن يتخيّل المتخيّل أنّ هذا الرجل عادل، فمن اطّلع على الفسق يكون اطّلاعه على ذلك رافعاً لكاشفية شهادة البيّنة المزكّية، حتى أنّ البيّنة المزكّية لو سمعت شهادة الجارح لعلّها ترفع يديها عن شهادتها بالعدالة.

360

وقد يورد على ذلك بأنّ المقياس في حجّية البيّنة هو الظنّ النوعي لا الشخصي، والظنّ النوعي لا يمكن أن يزول.

ويمكن الجواب على ذلك: أنّ حجّية البيّنة إن كان منشؤها السيرة العقلائيّة فهي محكومة للنكات والارتكازات العقلائيّة، وإن كان منشؤها بعض النصوص فهي تنصرف أيضاً إلى النكات الارتكازية عند العقلاء، وحينما توجد قرينة نوعيّة على الخلاف تدركها عامّة الناس وتعترف بأنّها تغطّي على كاشفيّة البيّنة تسقط حجّية البيّنة في نظر العقلاء، وما نحن فيه من هذا القبيل.

وأمّا التفصيل بين ما لو نفت بيّنة التزكية سبب الجرح الذي تذكره بيّنة الجرح وعدمه، فيعرف وجهه بالرجوع إلى النكتتين اللّتين ذكرناهما لتقديم بيّنة الجرح:

النكتة الأُولى _ دعوى أنّ الشهادة بالعدالة لا تدل على أكثر من حسن الظاهر. وهذه النكتة لا تأتي _ فيما لو صرّحت بيّنة التزكية _ لنفي السبب الجارح، فإنّ هذا ظاهر في أنّ بيّنة التزكية لم تكتف في نفي هذا السبب بمجرد حسن الظاهر.

والنكتة الثانية _ سقوط كاشفيّة التزكية أمام الجرح دون العكس، وهذه النكتة أيضاً قد تنتفي عندما تصرّح البيّنة بنفي السبب الجارح، فتتساوى الشهادتان.

والأولى عندي أن لا يجعل مصبّ التفصيل عنوان نفي السبب الجارح وعدمه، بل يجعل مصبّ التفصيل نفس هاتين النكتتين، فيقال: متى ما كانت بيّنة التزكية لا تشهد على أكثر من حسن الظاهر عملنا ببيّنة الجرح، ولا تعارض بينهما في الحقيقة، ومتى ما كانت تشهد بواقع العدالة فعندئذٍ لو كان وضع التقابل بين البيّنتين بشكل تنتفي معه كاشفيّة بيّنة التزكية عند العقلاء دون بيّنة الجرح قدّمت بيّنة الجرح، وإلا فلا، وممّا يؤثّر أحياناً في تحقيق هذا العنوان وعدمه نفي بيّنة التزكية للسبب الجارح وعدمه.

361

وأمّا الترجيح بالعدد والأعدليّة فلا دليل عليه لخصوص ما نحن فيه، فإن قلنا بشكل عام بالترجيح في البيّنات المتعارضة _ ولو بالتعدّي من موارد روايات الباب 46 من الشهادات من المجلّد الثامن عشر من الوسائل وبعضها تام السند، وبعض روايات أُخرى كالرواية الأُولى والخامسة من الباب 12 من كيفيّة الحكم من نفس المجلّد _ ثبت الترجيح في المقام أيضاً، وإلا فلا. والترجيح لو قلنا به يجب أن يكون في مورد لم نبْن على تقديم بيّنة الجرح، لا بدعوى أنّ بيّنة التزكية لا تدل على أكثر من حسن الظاهر، ولا بدعوى سقوط كاشفيّة بيّنة التزكية.

حجّية البيّنة في باب التزكية

يبقى الكلام في الدليل على أصل حجّية البيّنة على العدالة في المقام، وهو إمّا التعدّي عن مورد أدلّة حجّية البيّنة في باب المرافعات باعتبار أنّ عدالة الشهود أو فسقهم أيضاً أمر دخيل في تحديد مصير المرافعة، وإمّا القول بحجّية البيّنة في الموضوعات على الإطلاق تمسكاً بدعوى إطلاق مقامي لأدلة حجّية البيّنة في المرافعات، أو تمسكاً بالإجماع، أو السيرة، أو تعدّياً من الموارد الخاصّة _ التي ورد فيها النص الخاص كالهلال والطلاق _ بدعوى القطع بعدم الفرق، أو بدعوى فهم العرف المثالية وتعدّيه من تلك الموارد، أو غير ذلك مما يذكر لإثبات حجّية البيّنة في الموضوعات.

عدم الاتّهام في الشهادة

الشرط الخامس _ هو _ حسب تعبير السيد الخوئي (رحمه الله) في مباني تكملة المنهاج _: أن لا يكون الشاهد ممن له نصيب فيما يشهد به(1)، وحسب تعبير المحقّق في


(1) راجع مباني تكملة المنهاج، ج1، ص90 .

362

الشرائع: ارتفاع التهمة(1). وقد يفترض أنّ العنوان الثاني أوسع من العنوان الأول، فيشمل مثلاً شهادة السائل في كفّه؛ لكون عمله هذا موجباً لاتّهامه في شهادته؛ لاحتمال استناد شهادته إلى الطمع، أو إلى الرشاء، وشهادة الأجير؛ لاتّهامه أيضاً في شهادته؛ لاحتمال استناد شهادته إلى أنّ منافعه مرتبطة بالمستأجر، فيدافع عن المستأجر طمعاً فيما قد ينتفع به من قبل المستأجر، بل ويشمل أيضاً شهادة المقترب بالنسب أو السبب؛ لولا خروجه بالنص الخاص.

وقد حمل السيد الخوئي (رحمه الله) عنوان المتّهم الوارد في الروايات على الاتّهام في عدالته لا الاتّهام في شهادته، فهذا راجع إلى شرط العدالة وليس شرطاً جديداً، وإنّما الشرط الجديد هو أن لا يكون ممّن له نصيب فيما يشهد به.

وعلى أيّ حال فنحن نبحث أوّلاً الشرط بعنوانه الذي جاء في كلام السيد الخوئي، وهو عنوان أن لا يكون ممّن له نصيب فيما يشهد به، ثم نرى أنّه هل بالإمكان إثبات شرطيّة عنوان أوسع منه كعنوان الاتّهام أو لا؟ فنقول:

رجوع نصيب إلى الشاهد

إنّ رجوع نصيب من المشهود به إلى الشاهد يتصوّر على مراتب:

الأولى _ أن يكون الشاهد والخصم واحداً بكل معنى الكلمة، وهذا لا إشكال فى عدم قبول شهادته وفق الارتكاز العقلائي والمتشرعي ممّا يمنع عن انعقاد أيّ إطلاق لأدلّة نفوذ الشهادة. ولا حاجة في هذا القسم إلى الإستشهاد بالروايات الآتية؛ لوضوح الحكم، ولو دلّ حديث على خلاف ذلك رُدّ علمه إلى أهله، كما قد يُقال فيما ورد عن عمر بن يزيد _ بسند تام _ قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): الرجل


(1) راجع الجواهر، ج 41، ص60 .

363

يُشهِدُني على شهادة فأعرف خطّي وخاتمي، ولا أذكر من الباقي قليلاً ولا كثيراً؟ قال: فقال لي: إذا كان صاحبك ثقةً ومعه رجل ثقة فاشهد له»(1). ولعلّه محمول على فرض كون الخطّ والخاتم وإخبار صاحب القضيّة مع وثاقته، وشهادة ثقة آخر معه كافياً في ثبوت العلم القريب من الحسّ بالموضوع، وإلا فيردّ علم هذا الحديث إلى أهله.

الثانية _ كالأُولى مع فارق صوري بين الشاهد والخصم، كما في شهادة المولى بمالٍ لعبده بناءً على أنّ كلّ ما للعبد فهو مملوك للمولى. وهذا يلي القسم الأول في وضوح الارتكازين العقلائي والمتشرّعي، وإن كانا في القسم الأول أوضح.

الثالثة _ أن يكون شريكاً في مصبّ الشهادة، كما لو شهد للمدّعي بدارٍ له فيها حصّة. وهذا يلي القسمين الأوّلين في وضوح الارتكازين وإن كانا في القسم الأول أوضح.

الرابعة _ أن يرجع إليه نفع ممّا يشهد به رجوعاً قانونيّاً وإن لم يكن شريكاً في مصبّ الشهادة، كما لو شهد صاحب الدَّين للمحجور عليه بمالٍ، أو شهد أحد أفراد العاقلة بجرح شهود الجناية، أو بنفي الجناية _ بناءً على قبول الشهادة على الإنكار _ وكما لو شهد المولى بمال لعبده _ بناءً على أنّه ليس مال العبد ملكاً لمولاه، ولكن له يمتلكه _ ولا يبعد دخول هذا كلّه أيضاً في دائرة الارتكازين. ونقصد بقيد الرجوع القانوني أن تصدق عرفاً كفاية القضاء وفق تلك الشهادة؛ لاستحقاقه نصيبه، كما في شهادة صاحب الدَين للمحجور عليه بمال، أو شهادة العاقلة، فإن لم يكن رجوع النفع إليه بهذا المستوى _ كما في شهادة صاحب الدين لمن لم يحجر عليه، لكن من المعقول استفادته من هذه الشهادة؛ إذ لو قُبلت أصبح المدين واجداً للمال،


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص234، الباب 8 من الشهادات، ح1.

364

فيستطيع مطالبته بدينه _ لم يكن ذلك داخلاً في محل الكلام.

الخامسة _ أن يكون له حقّ التصرف بعنوان الولاية أو الوصاية، كما في شهادة الوصي بمال للميّت، أو للصغير المولّى عليه، ودخول ذلك في الارتكازين غير واضح.

أمّا الروايات: فيمكن الاستدلال بعدّة روايات على اشتراط أن لا يكون للشاهد نصيب فيما يشهد به:

1_ ما ورد _ بسند تام _ عن عبدالرحمان بن أبي عبداللّه قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن ثلاثة شركاء شهد اثنان عن واحد قال: لا تجوز شهادتهما»(1). وهذا ظاهر في المقصود بلحاظ المرتبة الثالثة من المراتب التي ذكرناها، ويدل بالأولويّة بالنسبة للمراتب السابقة عليها، ولايبعد التعدّي عرفاً إلى المرتبة الرابعة. أمّا التعدي إلى المرتبة الخامسة فمشكل.

وهذا الحديث بهذا الشكل قد رواه الكليني (رحمه الله) عن أبي علي الأشعري عن أحمد بن محمد بن عيسى وعن حميد بن زياد عن الحسن بن محمد بن سماعة جميعاً عن أحمد ابن الحسن الميثمي عن أبان بن عثمان عن عبدالرحمان بن أبي عبداللّه والسند تام.

أمّا الشيخ (رحمه الله) فقد رواه بشكل آخر؛ حيث روى بسنده عن الحسين بن سعيد عن القاسم عن أبان عن عبدالرحمان قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن ثلاثة شركاء ادّعى واحد وشهد الاثنان، قال: يجوز»(2). وهذا يدل على نقيض المدّعى، وحينئذٍ قد تسقط بعنوان كونه خلاف الارتكاز المتشرعي، ويبقى النقل الأول فارغاً عن المعارض، ويفيدنا في التعدّي إلى ما هو أوسع من الارتكاز المتشرعي لو افترضنا أنّ


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص272، الباب27 من الشهادات، ح1.

(2) نفس المصدر، ح4 .

365

الارتكاز المتشرعي لا يشمل المرتبة الرابعة أو الخامسة، وافترضنا أنّ التعدّي العرفي من مورد الحديث يتمّ إلى المرتبة الرابعة أو الخامسة. وقد نسقط هذا الحديث بكلا نقليه بعد غضّ النظر عن الارتكاز، وذلك للاطمئنان بوحدة الحديثين؛ لاتّحاد الإمام والراوي المباشر ومن قبله، وتقارب النصّين، عدا سقوط كلمة «لا»، فلا نعرف أيّ النقلين هو الصحيح، وبالتالي يسقطان معاً، ونرجع إلى باقي الروايات، كما صنعه السيد الخوئي في كتابه مباني تكملة المنهاج.

2_ ما عن محمد بن الصلت، قال: «سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن رفقة كانوا في طريق، فقطع عليهم الطريق، وأخذوا اللّصوص، فشهد بعضهم لبعض، قال: لا تُقبل شهادتهم إلا بإقرار من اللّصوص، أو شهادة من غيرهم عليهم»(1) بناءً على أنّ هذا أيضاً من قبيل شهادة بعض الشركاء لبعض في العين المشتركة.

لكن الظاهر أنّ مورد الحديث ليس من هذا القبيل، فإنّ ظاهره أنّ كل واحد منهم شهد للآخر فيما يخصّه من حقّه، فالمسألة لا علاقة لها بأن يكون للشاهد نصيب في المشهود به، وإنّما لها العلاقة بالعنوان الثاني الذي سنبحثه _ إن شاء اللّه _ من الاتّهام في الشهادة؛ حيث يتّهمون بأنّهم متوافقون على أن يشهد كلّ منهم لصالح صاحبه.

3_ ما عن أبان قال: «سُئل أبو عبداللّه (عليه السلام) عن شريكين شهد أحدهما لصاحبه. قال: تجوز شهادته إلا في شيء له فيه نصيب»(2) والحديث من حيث الدلالة كالحديث الأول. وأمّا من حيث السند فالصدوق (رحمه الله) رواه _ بسنده _ عن فضالة عن أبان، قال: «سُئل أبو عبداللّه...»(3) وهذا السند تام، والشيخ (رحمه الله) رواه


(1) نفس المصدر، ح2.

(2) نفس المصدر، ح3.

(3) الفقيه، ج3، ص27، ح78.

366

_ بسنده _ عن الحسين بن سعيد عن فضالة عن أبان عمّن أخبره عن أبي عبداللّه (عليه السلام)، قال: «سألته عن شريكين...»(1) ومن المطمأَنّ به وحدة الحديثين لوحدة المتن والإمام، والراوي المباشر وهو أبان، ومن قبله وهو فضالة، ومن قبل فضالة وهو الحسين بن سعيد، فإنّ سند الصدوق إلى فضالة ينتهي بالحسين بن سعيد، بل أحد سندي الصدوق إلى فضالة مع أحد أسانيد الشيخ إلى الحسين بن سعيد يشتركان أيضاً في من قبل الحسين بن سعيد، وهو أحمد بن محمد بن عيسى، فقد صرّح الصدوق هنا بأحمد ابن محمد بن عيسى، وذكر الشيخ (أحمد بن محمد)، وهو ينصرف في كلام الشيخ إلى أحمد بن محمد بن عيسى. وعلى أيّ حال، فمع فرض وحدة الحديثين قد يقال: إنّ الحديث ساقط سنداً؛ لأنّه في السند الثاني روى أبان عمّن أخبره أنّه سأل أبا عبداللّه (عليه السلام)، وهذا يعني أنّ الحديث مرسل، وأنّ أباناً لم يتحمّل الشهادة بصدور هذا السؤال والجواب، وفي السند الأول روى أبان: (أنّه سُئل أبو عبداللّه (عليه السلام))، وهذا ظاهر في أنّ أباناً يتحمّل الشهادة بصدور هذا السؤال والجواب. إذاً فبناءً على النقل الأول يتمّ السند، ولكن بما أنّنا تأكّدنا من وحدة الرواية، ولا ندري أنّ الصحيح هل هو النقل الأول أو النقل الثاني، فبالتالي يكون الحديث ساقطاً سنداً.

هذا، ولكنّ الظاهر أنّ هذا لا يوجب سقوط سند الحديث؛ لاحتمال صحّة كلا النقلين مع التحفّظ على كون شهادة أبان في النقل الأول بصدور السؤال والجواب شهادةً تقرب من الحسّ.

وبيان ذلك: أنّ شهادة أبان في النقل الأول بصدور هذا السؤال والجواب يمكن أن تجمع مع ما ورد في السند الثاني من كلمة «عمّن أخبره»؛ وذلك بأن يقال: أنّ


(1) التهذيب، ج6، ص246، ح623.

367

شهادته تلك ليست شهادة عن حسّ؛ لأنّ قوله في السند الثاني «عمّن أخبره» دليل على أنّه لم يكن هو حاضراً مجلس السؤال والجواب، ولكنّها تحمل على ما يقرب من الحسّ، فهو باعتباره معاصراً للإمام وللسائل الذي سأل الإمام قد يستطيع أن يعرف بشكل واضح صحّة وقوع السؤال والجواب حقاً، ولا تنافي بين النقلين، إذاً فبالإمكان أن نتصوّر صدور كلا النقلين، بأن يفترض أنّ فضالة نقل الحديث مرّتين عن أبان: أحدهما _ نقله لهذا الحديث في كتابه الذي وصل إلى الصدوق (رحمه الله)، وقد تضمّن هذا النقل شهادة أبان بوقوع السؤال والجواب بتعبير سُئِل أبو عبداللّه (عليه السلام)، وقد وصل هذا الكتاب إلى الصدوق (رحمه الله) فنقله بسنده إلى ذاك الكتاب بالشكل الذي مضى. وثانيهما _ نقله لهذا الحديث إلى الحسين بن سعيد، وفي هذا النقل أسقط تلك الشهادة، وعبّر بتعبير: «عمّن أخبره» والإسقاط الذي لا يضيف معنىً غير مقصود ليس خيانةً، فإنّ الخيانة هي الإضافة على القصّة لا الاقتصار على نقل قسم من القصّة، وكتاب الحسين بن سعيد وصل إلى الشيخ الطوسي (رحمه الله)، فنقل الشيخ الحديث من ذاك الكتاب بسنده إليه محتفظاً بما فيه من الإرسال، والنقل الأول الوارد بواسطة الصدوق (رحمه الله) حجّة لنا، فهذا الحديث إذاً تام سنداً.

4_ ما رواه الكليني (رحمه الله) عن محمد بن يحيى، قال: «كتب محمد بن الحسن _ يعني الصفّار _ إلى أبي محمد (عليه السلام) هل تقبل شهادة الوصي للميّت بدَين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع: إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعي يمين...». ورواه الصدوق _ باسناده _ عن محمد بن الحسن الصفّار، وكذا الشيخ(1).

وقد استدلّ السيد الخوئي (رحمه الله) بهذا الحديث على عدم قبول شهادة الوصي؛ إذ


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص273، الباب 28 من الشهادات، الحديث الوحيد في الباب.

368

لو كانت شهادته مقبولةً لما كانت حاجة إلى اليمين بعد ضمّ عدل آخر إليه، فهذا يعني أنّ شهادته غير مقبولة، فبقيت شهادة العدل الآخر بحاجة إلى ضمّ اليمين، وهذا لو تمّ فهو وارد في المرتبة الخامسة من المراتب التي ذكرناها، ويثبت الحكم فيما قبلها بالأولويّة. وقبل الكلام عن مدى تماميّة دلالة هذا الحديث لا بأس بذكر تتمّة الحديث، وهي كما يلي:

«وكتب: أيجوز للوصي أن يشهد لوارث الميّت صغيراً أو كبيراً بحقّ له على الميّت أو على غيره، وهو القابض للوارث الصغير، وليس للكبير بقابض؟ فوقّع (عليه السلام) : نعم، وينبغي للوصي أن يشهد بالحقّ، ولا يكتم الشهادة. وكتب: أو تقبل شهادة الوصي على الميّت مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع: نعم، من بعد يمين»(1).

وذيل الحديث وارد في الشهادة على الميّت، ولا إشكال في أنّ الشهادة إذا كانت على الميّت فلا فرق فيها بين الوصي وغير الوصي، والبيّنة تنفذ، إلا أنّ الشريعة جعلت نفوذ البيّنة على الميّت مشروطاً باليمين بنكتة أنّ المدّعى عليه ميّت، ولا يمكنه الدفاع عن نفسه. أمّا في صدر الحديث فالمفروض أنّ الشهادة للميّت، وليست على الميّت، فهنا يأتي احتمال عدم نفوذ شهادة الوصي الذي له حقّ التصرف في مال الميّت بالوصاية. وهذا ما فهمه السيد الخوئي من الحديث بقرينة ما فيه من فرض اليمين؛ باعتبار أنّه لو كانت شهادة نافذة فبعد ضمّ العدل الآخر إليه لا حاجة إلى اليمين، وليست الشهادة على الميّت كي يشرّع اليمين بنكتة أنّ الميّت لا يستطيع الدفاع عن نفسه.

إلا أنّ هذا التفسير للعبارة يوجب نوعاً من التضارب بين الفقرة الأُولى لهذا الحديث والفقرة الثانية؛ حيث إنّه فرض في الفقرة الأُولى عدم نفوذ شهادة الوصي


(1) نحن نقلنا المتن بشكله الكامل، وفي الوسائل _ الطبعة الجديدة _ سِقْطٌ لا يضرُّ بالمعنى .

369

لصالح الميّت؛ لأنّ له حقّ التصرف في مال الميّت، وفرض في الفقرة الثانية نفوذ شهادة الوصي لصالح الوارث الصغير الذي هو ولي عليه، ويقبض له، وله أيضاً حقّ التصرف بحدود ولايته، كما كان له حقّ التصرف في مال الميّت بحدود الوصية، فلئن جعلنا الفقرة الأولى دليلاً على المدّعى، فالفقرة الثانية تدل على عكس المدّعى.

ولا يبعد أن يقال: إنّ النظر في الفقرة الأُولى ليس إلى عدم نفوذ شهادة الوصي بنكتة ما له من حقّ التصرف، بل النظر إلى عدم نفوذ شهادته بنكتة أنّه هو الخصم؛ إذ الميّت لا يمكنه أن يخاصم المدّعى عليه، وإنّما الذي يخاصم المدّعى عليه في حصّة الميّت هو الوصي، وهذا بخلاف مورد الفقرة الثانية الذي لم يفرض فيه في الحديث كون الوارث صغيراً إلى حدّ عدم إمكانيّة مرافعته للخصم ورفعه للنزاع إلى القاضي، فكون المدّعي صغيراً لا يلزم وحدة الشاهد والخصم إذا كان الوصي هو الشاهد؛ إذ بالإمكان أن يكون الصغير _ بمعنى غير البالغ _ هو الخصم مباشرةً، والوصي يشهد له. ولعلّ السيد الخوئي فهم من كلمة المدّعي _ في قوله: «فعلى المدّعي يمين» _ الوارثَ لا الوصي، ولكنّه إن لم يكن هذا خلاف الظاهر، فلا أقلّ من الإجمال؛ إذ لم يكن التعبير هكذا: (هل تقبل شهادة الوصي للوارث بدين للميّت على رجل؟)، بل قال: «هل تقبل شهادة الوصي للميّت بدين له على رجل؟» فكأنّ المدّعى له والمشهود له هو الميّت، أمّا الوارث الذي يرجع نفع الدعوى إليه بالإرث فقد يكون هو أيضاً غير مطّلع على الدَين.

5_ ما عن سليمان بن خالد _ بسند تام _ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام)، ما يردّ من الشهود؟ قال: فقال: الظنين والخصم. قال: قلت: فالفاسق والخائن؟ قال: ذلك

370

يدخل في الظنين»(1).

ولا إشكال في شمول كلمة الخصم للمراتب الأربع الأُولى من المراتب الخمس التي بيّنّاها، ويرى السيد الخوئي شمولها للوصي _ وهو المرتبة الخامسة من المراتب التي بيّنّاها _ وهذا غير واضح.

نعم، في شهادة الوصي للميّت قد يُقال بشمول كلمة «الخصم» له بنكتة أنّه هو الذي يرفع الدعوى، ويجادل المدّعى عليه، وليس الميّت يفعل ذلك كما هو واضح، لا بنكتة أنّ له حقّ التصرف، فيعدّ سهيماً في المشهود به.

6_ ما عن أبي بصير _ بسند تام _ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام)» وذكر مثل الحديث السابق، إلا أنّه قال: «الظنين والمتهم والخصم»(2). وهذا كالحديث السابق، وليس المقصود بالخصم خصوص الخصم بتمام معنى الكلمة بأن يشهد المدّعي الذي هو أحد المترافعين لصالح نفسه، فإنّ هذا لا مجال لتوهّم قبول شهادته، فعنوان الخصم في هذه الروايات يشمل من له حصّة في المشهود به حتماً، وهو المقصود.

7_ ما عن عبيداللّه بن علي الحلبي _ بسند تام _ قال: «سُئل أبو عبداللّه (عليه السلام) عمّا يردّ من الشهود؟ قال: الظنين والمتهم والخصم. قال: قلت: فالفاسق والخائن؟ قال: هذا يدخل في الظنين»(3).

8_ ما عن محمد بن مسلم _ بسند تام _ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله):


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص274، الباب 30 من الشهادات، ح2.

(2) نفس المصدر، ص275، ح3.

(3) نفس المصدر، ص274، الباب 30 من الشهادات ، ح 5.

371

لم تجز شهادة الصبي ولا خصم ولا متّهم ولا ظنين»(1).

9_ ما عن سماعة _ بسند تام _ قال: «سألته عمّا يُردّ من الشهود؟ قال: المريب والخصم والشريك ودافع مغرم والأجير والعبد والتابع والمتّهم، كل هؤلاء تُردّ شهادتهم»(2).

10_ مرسلة الصدوق؛ حيث قال (رحمه الله): «وفي حديث آخر قال: لا تجوز شهادة المريب والخصم ودافع مغرم، أو أجير، أو شريك أو متهم أو تابع [بائع خ ]، ولا تقبل شهادة شارب الخمر، ولا شهادة اللّاعب بالشطرنج والنرد، ولا شهادة المقامر»(3).

وكلمة (دافع مغرم) في الحديثين الأخيرين صريحة في المرتبة الرابعة من المراتب التي عرضناها في أوّل البحث.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه أنّه يُشترط في نفوذ شهادة الشاهد أن لا يكون له نصيب في المشهود به بإحدى المراتب الأربع الأُولى. أمّا المرتبة الخامسة فلم يتّضح الدليل على منعها من نفوذ الشهادة بشكل مطلق. نعم في مثل وصي الميّت الذي يكون الشاهد فيه عين المدّعي لا تقبل شهادته.

الاتّهام بمعنىً أوسع

أمّا الكلام في أنّه هل يمكن إثبات شرط أوسع من شرط عدم النصيب له _ وهو شرط عدم الاتّهام، أو شرط عدم مرتبة من مراتب الاتّهام _ فنقول: إنّ روايات شرط عدم الاتّهام على طائفتين:


(1) نفس المصدر، ح6.

(2) نفس المصدر، ص278، الباب 32 من الشهادات، ح3.

(3) نفس المصدر،ص279، ح7.

372

الطائفة الأُولى _ هي الروايات المعبّرة بعنوان المتّهم كجملة من الروايات الماضية، وكما ورد _ بسند تام _ عن عبداللّه بن سنان قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): ما يردّ من الشهود؟ قال: فقال: الظنين والمتّهم. قال: قلت: فالفاسق والخائن؟ قال: ذلك يدخل في الظنين»(1).

وقد حمل السيد الخوئي كلمة المتّهم الواردة في هذه الرواية على معنى المتّهم في دينه وعدالته _ دون معنى المتّهم في شهادته _ وبهذا أسقطها عن الدلالة على شرط جديد؛ حيث يرجع ذلك إلى شرط العدالة، وذكر لذلك وجهين، أو وجوهاً ثلاثة:

1_ دعوى أنّ الظاهر عرفاً من المتّهم ذلك.

2_ الاستشهاد بما ورد _ بسند تام _ عن يحيى بن خالد الصيرفي، أو الحسين بن خالد الصيرفي، عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: «كتبت إليه في رجل مات، وله أُمّ ولد، وقد جعل لها سيّدها شيئاً في حياته، ثم مات. فكتب (عليه السلام): لها ما أثابها به سيّدها في حياته معروف لها ذلك، تقبل على ذلك شهادة الرجل والمرأة والخدّم غير المتهمين»(2)؛ لوضوح أنّ المقصود بالمتّهم هنا هو المتهم في عدالته، لا المتهم في شهادته.

3_ أنّه لا شك في عدم مانعيّة مطلق التهمة عن قبول الشهادة؛ كشهادة المرأة لزوجها وبالعكس، وشهادة الولد لأبيه، أو أخيه، أو سائر أقاربه وبالعكس، وشهادة الصديق لصديقه، ونحو ذلك.

إذاً فلو لم نقبل تفسير المتّهم في تلك الروايات بالمتّهم في عدالته فلا أقلّ من القول


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص274، الباب 30 من الشهادات ، ح1.

(2) نفس المصدر، ص268، الباب 24 من الشهادات، ح47.

373

بالإجمال(1).

أقول: قد يُورد على الوجه الثالث بأنّنا نلتزم بخروج عنوان الزوج والزوجة والأقارب والصديق بالنصّ، ويبقى الباقي تحت إطلاق المتّهم، فخروج هؤلاء لا يكون دليلاً على حمل المتّهم على المتّهم في عدالته دون المتّهم في شهادته، إلا أن يكون نظره في هذا الوجه الثالث إلى إحدى نكتتين:

الأُولى _ أنّه لو قيل بالتخصيص لزم تخصيص الأكثر؛ إذاً فلابدّ من إرجاع كلمة المتّهم إلى معنى المتّهم في عدالته دون المتّهم في شهادته.

وبالإمكان أن يُقال في قبال ذلك: إنّ الاتّهام في الشهادة أمر مشكّك وله درجات، فقد يكون الاتّهام قويّاً، كما في الخادم والتابع ونحوهما ممّن ليس له استقلال في مقابل المشهود له، وقد يكون بمستوى الاتّهام الناتج من القرابة والصداقة والزوجيّة، والنصوص الدالّة على خروج مثل الزوج والضيف والقريب تشهد لكون المقصود من المتّهم في الرواية المانعة لقبول شهادة المتّهم هي الدرجة الأُولى من الاتّهام.

الثانية _ أن يُدّعى: أنّ قبول شهادة الزوج والقريب والصديق من الواضحات، ووضوح ذلك قرينة كالمتّصل على صرف المتّهم في تلك الروايات إلى الاتّهام في عدالته، ولعلّ هذا هو مقصوده ممّا ذكره من دعوى الظهور العرفي للمتّهم في الاتّهام في عدالته، فيكون كلامه مشتملاً على وجهين، لا على وجوه ثلاثة.

وبالإمكان أن يُقال في قبال ذلك أيضاً: إنّه لِم لا يكون هذا قرينةً على صرف الاتّهام في تلك الروايات إلى الدرجة الأُولى من الاتّهام الموجودة في مثل الخادم والتابع، لا على صرفه إلى الاتّهام في العدالة؟


(1) راجع مباني تكملة المنهاج، ج1، ص93.

374

وأمّا ما ذكره في الوجه الثاني من الاستدلال بالرواية الماضية، فجوابه: أنّ استعمال الاتّهام في تلك الرواية بمعنى الاتّهام في العدالة لا يدل على كون المقصود بالاتّهام في تمام الروايات هو ذاك المعنى.

وأمّا ما ذكره من الوجه الأول من دعوى الاستظهار العرفي بناءً على كونه وجهاً مستقلاً وغير راجع إلى الوجه الثالث، فهو ممّا لا وجه له، فإنّ الاتّهام لابدّ له من متعلّق، وكما يمكن أن يكون متعلّقه العدالة كذلك يمكن أن يكون متعلّقه الشهادة، ولا نكتة لاستظهار الأول في قبال الثاني.

بل بالإمكان أن يُقال: إنّ عطف المتّهم على الظنين في جملة من الروايات شاهد على فرض التغاير بينهما، بينما الاتّهام والظنّة بمعنىً واحد، فالمفروض أن يكون أحدهما راجعاً إلى الدين والعدالة، والثاني راجعاً إلى الشهادة، وفي بعض تلك الروايات قال الراوي: «قلت: فالفاسق والخائن؟ قال: هذا يدخل في الظنين». وهذا يشهد لكون المقصود بالظنين الظنين في دينه وعدالته؛ إذاً فالمقصود بالمتّهم هو المتّهم في شهادته.

نعم يقتصر على الاتّهام بالمستوى الموجود في التابع والخادم اللذين لا إرادة استقلاليّة لهما عادةً فيما يرجع إلى المتبوع والمخدوم، ولا يشمل مثل القريب والصديق، ولو بقرينة الروايات الواردة في نفوذ شهادة القريب والضيف.

الطائفة الثانية _ ما ورد في بعض مصاديق المتّهم من قبيل عنواني الأجير والتابع الواردين في الرواية التاسعة والعاشرة من الروايات التي ذكرناها تحت عنوان «اشتراط أن لا يكون للشاهد نصيب فيما يشهد به»، وقد تُحمل كلمة العبد الواردة في الرواية التاسعة أيضاً على ذلك بناءً على كون المقصود عدم نفوذ شهادة العبد لصالح مولاه.

ومن قبيل ما ورد عن صفوان _ بسند تام _ عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «سألته

375

عن رجل أشهد أجيره على شهادة ثم فارقه، أتجوز شهادته له بعد أن يفارقه؟ قال: نعم، وكذلك العبد إذا أُعتق‏جازت شهادته»(1).

وما عن العلاء بن سيّابة عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يجوِّز شهادة الأجير»(2). وسنده ضعيف بمحمد بن موسى المقصود به محمد بن موسى بن عيسى الهمداني السمّان.

وما عن أبي بصير _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً. قال: ويكره شهادة الأجير لصاحبه، ولا بأس بشهادته لغيره، ولا بأس به له بعد مفارقته»(3). والمقصود بالكراهة ليست هي الكراهة في مقابل الحرمة، فإنّ مسألة الشهادة ليست هي مسألة الحكم التكليفي، وإنّما مسألتها مسألة النفوذ وعدم النفوذ. فالمفهوم إذاً من هذا الحديث هو عدم نفوذ شهادة الأجير.

وما في معاني الأخبار مرسلاً قال: «قال النبي (صلى الله عليه و آله): لا تجوز شهادة خائن، ولا ذي غمز على أخيه، ولا ظنين في ولاء ولا قرابة، ولا القانع مع أهل البيت»(4).

وروايات عدم نفوذ شهادة السائل بالكفّ(5).

إلا أنّ روايات عدم نفوذ شهادة السائل بالكفّ يُحتمل فيها أيضاً النظر إلى الاتّهام في العدالة، فكون السائل بالكفّ بحيث إن أُعطي رضي، وإن مُنع سخط، صفةٌ تمنع


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص273، الباب 29 من الشهادات، ح1.

(2) نفس المصدر، ص274، ح2.

(3) نفس المصدر، ح3.

(4) نفس المصدر، ص279، الباب 32 من الشهادات ، ح8 .

(5) وهي مذكورة في الوسائل ، ج 18، الباب 35 من الشهادات ، وهي ثلاثة أحاديث، والأوّلان منها تامّان سنداً.

376

العدالة طبعاً، ومادّة الافتراق بين المتّهم في الشهادة والمتّهم في العدالة هي من أُحرز كونه بغضّ النظر عن هذه الشهادة عادلاً، واحتمل كون شهادته هذه زوراً، بينما السائل بالكفّ الذي يحدس اتّصافه بتلك الصفة ليس كذلك، ولكن هنا قرينة في الرواية الثانية من روايات باب عدم قبول شهادة السائل بكفّه قد تشهد للنظر إلى الاتّهام في الشهادة، ونصُّها كما يلي:

روى محمد بن مسلم _ بسند تام _ عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال: ردّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) شهادة السائل الذي يسأل في كفّه. قال أبو جعفر (عليه السلام): لأنّه لا يُؤمن على الشهادة، وذلك لأنّه إن أُعطي رضي، وإن منع سخط»(1). فمقتضى الأخذ بعموم التعليل بأنّه لا يؤمن على الشهادة هو أنّ كلّ من لا يؤمن على الشهادة لا تقبل شهادته، وهذا معنى مانعيّة الاتّهام في الشهادة.

ثم إنّ استفادة الحكم العامّ من هذه الطائفة الثانية بحدود كلّ من كان في الاتّهام بمستوى المذكورين فيها لا إشكال فيها، لكنّ التعدّي إلى الاتّهام بالمعنى الواسع الشامل للقريب والزوج والصديق ونحوهم مشكل؛ لاحتمال اختصاص الحكم بالعناوين المذكورة في هذه الأحاديث ومن في مستواهم، ويمكن تقريب التعدّي بأحد وجهين:

1_ التمسّك بكلمة الأجير الواردة في بعض هذه الروايات باعتبار شمولها لمثل الخيّاط والصائغ والبنّاء وكلّ من يرتبط بالإنسان بأُجرةٍ ما، وإتّهام هؤلاء ليس بأشدّ من اتّهام القريب والزوج والصديق، بل أخفّ، فهذا يوجب التعدّي.

2_ التمسّك بإطلاق التعليل في الرواية الآنفة الذكر الواردة في السائل في الكفّ


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص281، الباب 35 من الشهادات،ح2 .

377

حيث قال: «لأنّه لا يؤمن على الشهادة» فيقال: إنّ هذه العلّة موجودة في شهادة مثل القريب والصديق.

ولو سلّمنا تماميّة أحد هذين الوجهين، قلنا: فإنّ هذه الروايات إذاً تصبح طرفاً للمعارضة مع روايات قبول شهادة الزوج والزوجة والقريب(1)، بل عرفت أنّ إحدى روايات المنع عن قبول شهادة الأجير تصرّح بقبول شهادة الضيف، وهذا كلّه يعني الفرق بين المستويين من الاتّهام، وبه نجمع بين الطائفتين، فروايات قبول شهادة القريب والضيف ونحوهما تدل على عدم مضرّيّة هذا المستوى من الاتّهام، ولا نقتصر في مفادها على العناوين المذكورة فيها، بل تحمل عرفاً على المثاليّة، ونتعدّى إلى كلّ من كان في مستوى هذه العناوين. والطائفة الأُخرى تدل على عدم قبول شهادة مثل التابع والقانع مع أهل البيت والأجير، ولا نقتصر على العناوين المذكورة في الروايات، بل نتعدّى إلى كلّ مورد كانت قرائن الاتّهام بهذا المستوى من القوّة؛ لعدم احتمال الفرق عرفاً، أو لإطلاق التعليل في حديث السائل بالكفّ حيث قال: «لأنّه لا يؤمن على الشهادة»، أو لإطلاق كلمة المتّهم في بعض الروايات بعد تنزيل إطلاقها على مستوى معيّن من الاتّهام لا يشمل مثل القريب والزوج جمعاً بين الروايات، وبعد حمل الأجير على معنى الخادم لا الأجير في عمل جزئي كالخياطة والصناعة للجمع ولقرينة داخليّة في بعض الروايات الماضية، وهي الروايات التي تقول بنفوذ شهادته إذا كان قد فارق المستأجر، فالتعبير بالمفارقة يعطي معنى كون الأجير ملازماً للمستأجر، ثم فارقه بترك الأُجرة، وهذا لا يكون إلا في مثل الخادم دون مثل الخيّاط الذي أصبح أجيراً له صدفةً


(1) وهي الروايات الواردة في وسائل الشيعة، ج13، الباب 25 و 26 من أبواب الشهادات.

378

لخياطة ثوبه.

وقد تحصّل من كل ما ذكرناه: أنّ من له نصيب في المشهود به لا تقبل شهادته، وكذلك المتّهم البالغ في درجة اتّهامه الأمثلة المذكورة في الروايات التامّة سنداً.

ومن جملة المتّهمين العدوّ بمثل العداءات الشخصية التي توجب عادةً الاتّهام في الشهادة، إذا كانت ضدّ من يعاديه، فهو ملحق بموارد النصوص باعتباره بالغاً تلك الدرجة، وورد فيه أيضاً نصوص خاصّة:

أحدها _ ما هو ضعيف سنداً بالنوفلي، وهو ما رواه الصدوق بإسناده عن السكوني _ وفي طريقه إلى السكوني النوفلي _ عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال:«لا تقبل شهادة ذي شحناء، أو ذي مخزية في الدين»(1).

والثاني _ ما ورد في معاني الأخبار مرسلاً عن النبّي (صلى الله عليه و آله) أنّه قال: «لا تجوز شهادة خائن، ولا خائنة، ولا ذي غمز على أخيه، ولا ظنين في ولاء ولا قرابة، ولا القانع مع أهل البيت» قال الصدوق (رحمه الله): «الغمز: الشحناء والعداوة، والظنين: المتّهم في دينه، والظنين في الولاء والقرابة: الذي يتّهم بالدعاء إلى غير أبيه والمتولّي غير مواليه، والقانع مع أهل البيت: الرجل يكون مع قوم في حاشيتهم كالخادم لهم والتابع والأجير ونحوه»(2).

والثالث: ما ورد _ بسند تامّ _ عن سماعة، وفيه ردّ شهادة الخصم(3).

وعلى أيّ حال فالعداء في الحالات المتعارفة يورث الاتّهام، فلا تنفذ شهادة


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص278، الباب 32 من الشهادات، ح5.

(2) نفس المصدر، ص279، ح8 .

(3) نفس المصدر، ص278، ح3.

379

صاحبه وفق المطلقات حتى مع غضّ النظر عن النص الخاص.

أمّا مثل مجرد القرابة فلا يمنع عن قبول الشهادة، كما هو منصوص.

نعم، نُسب إلى المشهور عدم قبول شهادة الولد على الوالد. وهذا _ كما ترى _ لا علاقة له بالاتّهام الناشئ من القرابة، فإنّ القرابة إنّما توجب الاتّهام في الشهادة لصالح القريب لا ضدّه.

والقول بعدم قبول شهادة الولد على الوالد _ سواء استدلّ له بدعوى الإجماع، أو بمرسلة الصدوق: «لا تُقبل شهادة الولد على والده»(1)، أو بدعوى كون هذه الشهادة منهيّاً عنها بقوله تعالى: «وصاحبْهُما في الدنيا معروفاً»(2)، أو بكونها مسقطةً للشاهد عن العدالة؛ لحرمتها وكونها عقوقاً للوالد _ ضعيف، ومخالف للصريح أو ما يشبه الصريح، لقوله تعالى: ﴿كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ وَلَوْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوٰالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾(3)، ولما ورد _ بسند تام _ عن داود بن الحصين عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «أقيموا الشهادة على الوالدَينِ والولد...»(4) ولرواية علي بن سويد غير التامّة سنداً عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «كتب أبي في رسالته إلي: وسألت عن الشهادات لهم، فأقم الشهادة للّه ولو على نفسِك أو الوالدَينِ والأقربين فيما بينك وبينهم، فإن خفت على أخيك ضيماً، فلا»(5). أمّا القول بأنّ الأمر بالشهادة على الوالد لا يدل على نفوذها، فهو كما ترى.


(1) نفس المصدر، ص271، الباب 26 من الشهادات، ح6.

(2) لقمان: 15 .

(3) النساء: 135 .

(4) وسائل الشيعة، ج18، ص250، الباب 19 من الشهادات، ح3.

(5) نفس المصدر، ص229، الباب 3 من الشهادات، ح1.