214

فتحصّل أنّ تلك الآيات والروايات إن أثبتت جواز القضاء بالعلم فلا تثبت إنهاء النزاع بحيث لا يحقّ لقاضٍ آخر النظر في الدعوى، كما هو الحال في البيّنات والأيمان.

وعليه فلا يبقى في البين عدا دعوى الإجماعات المتكرّرة في الكلمات، أو دعوى تنقيح المناط في ميزانيّة البيّنة واليمين بالنسبة للعلم مطلقاً، والعهدة في إثبات الجهتين على مدّعيهما(1).

أقول: إنّ هذا الكلام إنّما يتمّ لو كان دليلنا على نفوذ القضاء _ وعدم جواز نقضه من قبل قاضٍ آخر شاكٍّ في صحّة القضاء الأول _ هو حجّية البيّنة عليه، ولكن كما لا يجوز للقاضي الآخر نقض حكم القاضي الأول والنظر في الدعوى مرّةً ثانيةً لدى شكّه في صحّة حكم القاضي الأول، كذلك لا ينبغي الإشكال في أنّه لا يجوز للمحكوم عليه مخالفة حكم القاضي بمثل سرقة مال المحكوم له قصاصاً حتى مع قطعه بخطأ القاضي، وهذا لا يمكن تفسيره بحجّيّة البيّنة؛ إذ البيّنة لا تكون حجّةً مع القطع بالخلاف، فلابدّ من وجه آخر يدل على نفوذ الحكم وحجّيته حتى في هذا الفرض، ولعلّ ذاك الوجه يدل أيضاً على نفوذه بالنسبة للقاضي الثاني لدى الشكّ بحيث لا يجوز له تجديد النظر ونقض الحكم على تحقيق وتفصيل في مسألة مدى نفوذ حكم القاضي يبحث عنه في محلّه.

والواقع أنّ هنا دليلين آخرين على نفوذ القضاء وعدم جواز نقضه:

أحدهما _ الارتكاز المتشرّعي، وكذلك العقلائي الممضى بعدم الردع، الدالّ على أنّ القضاء جعل لفصل الخصومة وإنهائها، وهذا يدل على عدم جواز نقض الحكم من قبل المحكوم عليه القاطع بالخلاف، ومن قبل القاضي الثاني الشاكّ في صحّة


(1) راجع كتاب القضاء للمحقق العراقي، ص 23 _ 24.

215

القضاء إذا كان الحكم وفق مقاييس القضاء من دون فرق بين أن يكون ذاك المقياس عبارةً عن البيّنة أو اليمين، أو يكون عبارةً عن علم القاضي.

وثانيهما _ قوله في مقبولة عمر بن حنظلة: «إذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه، وهو على حدّ الشرك باللّه»(1)، فمن الواضح جدّاً أنّ هذا الخطاب لا أقلّ من أنّه يريد تحريم نقض الحكم على الخصمين حتى المدّعي منهما للقطع بخطأ الحكم أو احتماله، وهذا لا يمكن أن يكون إلا بأن يكون المراد في خصوص هذا الحديث من كلمة: (حكمنا) هو الحكم وفق مقاييس القضاء لا الحكم في الواقع، وإلا فلا يمكن إسكات الخصم بذلك؛ إذ هو يدّعي القطع بانتفاء الموضوع أو احتماله؛ إذاً فهذا الحديث يحرّم بإطلاقه على القاضي الثاني نقض قضاء قاضٍ يحكم وفق مقاييس القضاء من دون فرق بين البيّنة واليمين، أو العلم الثابت مقياسيّته بغير هذا الحديث ممّا مضت الإشارة إليه من الروايات والآيات.

الدليل الرابع _ ما جاء في الجواهر أيضاً من أنّه لو لم نقل بجواز القضاء وفق العلم لزم فسق الحاكم، أو إيقاف الحكم، وهما معاً باطلان؛ وذلك لأنّه إذا طلّق زوجته ثلاثاً مثلاً بحضرته ثم جحد كان القول قوله مع يمينه، فإن حكم بغير علمه وهو استحلافه وتسليمها إليه لزم فسقه، وإلا لزم إيقاف الحكم.

أقول: تارةً يفرض الفسق في أصل الحكم، وأُخرى يفرض الفسق في تنفيذه، فإن فرض الفسق في أصل الحكم كان هذا مصادرة على المطلوب؛ إذ لو كان العلم غير داخل في مقاييس الحكم وكان يجب الحكم وفق البيّنات والأيمان فلا فسق في ذلك.


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص99، الباب 11 من صفات القاضي، ح 1.

216

وقد يقال: إنّ المقصود بهذا الوجه هو دعوى أنّ من المرتكز فقهيّاً ومتشرّعيّاً _ بحيث لا يمكن التشكيك فيه _ كون الحكم بالزوجيّة في هذا الفرض مع القطع بالزنا فسقاً، كما أنّ من المرتكز أنّ إيقاف الحكم غير صحيح، فينحصر الأمر في الحكم على وفق العلم. وهذا الكلام يعني في روحه دعوى قيام الارتكاز الفقهي والمتشرّعي على نفوذ علم القاضي فيما إذا كان حكمه بغير علمه يؤدّي إلى الحكم بالحرام على المحكوم عليه، ثم يجعل هذا دليلاً على نفوذ علم القاضي مطلقاً بالإجماع المركّب.

ولكن قلنا في ما سبق: إنّ الإجماع في هذه المسألة لا قيمة له؛ لاحتمال مدركيّته على أقلّ تقدير.

فإذاً يجب استبدال الإجماع المركّب في المقام بدعوى ارتكاز فقهي ومتشرّعي آخر وهو ارتكاز عدم الفصل في نفوذ علم القاضي بين مورد ومورد.

وهذا يعني في واقعه دعوى الارتكاز المتشرّعي والفقهي ابتداءً على نفوذ علم القاضي، فليس هذا الوجه على أفضل تقدير إلا إلفاتاً للنظر إلى هذا الارتكاز، لا دليلاً في ذاته على المطلوب.

وإن فرض الفسق في التنفيذ فنظير هذا الإشكال وارد بالنسبة للمحكوم عليه حتى إذا حكم الحاكم بعلمه، أو حكم بالبيّنات والأيمان عند عدم علمه لو نفّذه المحكوم عليه على نفسه، كما لو حكم الحاكم بعلمه أو بالبيّنة على امرأة بأنّها زوجة فلان وهي تعلم بالخطأ، فلو نَفَّذَت الحكم بالتمكين من ذاك الرجل فقد وقعت _ حسب علمها _ في الزنا، وهذه مسألة يجب أن نبحثها في المستقبل إن شاء اللّه تحت عنوان: (مدى نفوذ حكم القاضي) كي نرى أنّ حكم الحاكم بالنسبة لمن ينفذ عليه حتى مع علمه بالخلاف هل ينفذ حتى مع علمه بحرمة ما يقع فيه بالعنوان الأوّلي؛ أي إنّ قضاء الحاكم يرفع الحرمة واقعاً أو لا؟ فإن قلنا بالأوّل ارتفع الإشكال

217

في المقام أيضاً؛ إذ إجبار القاضي للزوجة على التسليم للمطلِّق ليس إجباراً لها على الفسق كي يكون فسقاً. وإن قلنا بالثاني أشكل في المقام التفصيل بين حقّ القضاء وحق التنفيذ _ بأن يكون للقاضي حقّ القضاء، ولا يكون له حقّ التنفيذ _ فإنّ هذا بعيد عن الفهم المتشرّعي.

وهذا يرجع في روحه إلى التمسّك بالدلالة الالتزامية _ الثابتة في العرف المتشرّعي لدليل حرمة الإجبار على الحرام _ على جواز القضاء بالعلم، وبعد هذا نحتاج إلى التعدّي إلى غير موارد استلزام الإجبار على الحرام بالإجماع المركّب، أو ارتكاز عدم الفصل.

الدليل الخامس _ ما جاء في الجواهر أيضاً من أنّ عدم القضاء بالعلم يؤدّي إلى عدم وجوب إنكار المنكر، وعدم وجوب إظهار الحقّ مع إمكانه.

أقول: مجرّد الإنكار باللسان وإظهار الحقّ باللسان يمكن للقاضي أن يصنعه بنصح الخصم الذي يدّعي الباطل بالاعتراف والتنازل للحقّ والإقرار به. أمّا الإنكار باليد وإجبار المبطل على رفع اليد عن باطله، فإن قلنا بقيام دليل لفظي على وجوب ذلك دلّ ذاك الدليل بالالتزام على نفوذ علم القاضي في القضاء، أمّا إذا كان الدليل على ذلك هو الارتكاز المنضمّ إلى ارتكاز عدم معقوليّة قضاء القاضي بشيء وتنفيذه لشيء آخر، فهذا الدليل يصبح منبّهاً للارتكاز، لا دليلاً في ذاته على المطلوب.

الدليل السادس _ ما جاء في الجواهر أيضاً من أنّ أدلّة الحدود توجب على الحاكم إجراء الحدّ على المرتكب الواقعي لما فيه الحدّ؛ لأنّ تلك الأدلّة منصبّة على عنوان فاعل الفعل كالسارق والزاني، فمتى ما علم الحاكم بتحقّق العنوان فقد علم بضرورة إجراء الحدّ ولو لم تَقُمْ بيّنةً؛ إذاً فللحاكم أن يعمل بعلمه في باب الحدود، ثم نتعدّى إلى غير باب الحدود بالأولويّة.

218

أقول: الحدّ الراجع إلى حقّ اللّه تعالى كما في حدّ الزنا لا يمكن التعدّي منه إلى حقوق الناس؛ إذ من المحتمل كون علم القاضي حجّة فيه وغير حجّة في حقوق الناس، كما يحتمل العكس أيضاً. أمّا بناءً على كون حدّ السرقة أو حدّ القذف مثلاً من حقوق الناس فيمكن التعدّي من ذلك إلى غير باب الحدود.

الدليل السابع _ أن يقال: إنّ الأدلّة التي جعلت البيّنات والأيمان ونحوهما مقياساً للقضاء مقتضى إطلاقها كون واقع تلك الأمور مقاييس تامّة؛ أي إنّ القاضي سيقضي وفق علمه بها ولو أنكرها أحد الخصمين، ولا يحتمل العرف الفرق بين علم القاضي بالبيّنة أو اليمين أو علمه بالواقع رأساً، فاذا كان علمه بمثل البيّنة أو اليمين حجّة، ولا يطالَب بالإثبات، كذلك علمه بالواقع يكون حجّة بالدلالة الالتزامية العرفية لدليل حجّية علمه بالبيّنة واليمين.

إلا أنّ هذه الدلالة الالتزامية العرفية التي يمكن دعواها في المقام ليست بذاك المستوى من الوضوح؛ إذ لابدّ _ في نهاية الأمر _ من الرجوع إلى علم القاضي ولو في خصوص الكشف عن تحقّق مقاييس القضاء كي تستقرّ الأمور، فلعلّه اقتصرت الشريعة في مقام الاستناد إلى علم القاضي على أقلّ مقدار ممكن في نظرها، وهو الاستناد إلى علم القاضي بتحقّق المقاييس والتي تقلّ نسبة وقوع الخلاف فيه بالقياس إلى نفس الواقع الذي كان المفروض عادةً الخلاف بين الخصمين بلحاظه، فلعلّه لم تُعطِ للقاضي صلاحيّة الاستناد إلى علمه في الدائرة الواسعة، وأعطتها في الدائرة الضيقة كي تنتظم الأمور وتستقرّ.

الدليل الثامن _ ما رواه الكليني عن علي بن محمد، عن محمد بن أحمد المحمودي، عن أبيه، عن يونس، عن الحسين بن خالد، عن أبي عبداللّه (عليه السلام)، قال: «سمعته يقول: الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن

219

يقيم عليه الحدّ، ولا يحتاج بيّنة مع نظره؛ لأنّه أمين اللّه في خلقه. وإذا نظر إلى رجل يسرق أن يزجره وينهاه ويمضي ويدعه. قلت: وكيف ذلك؟ قال: لأنّ الحقّ إذا كان للّه فالواجب على الإمام إقامته، وإذا كان للناس فهو للناس»(1).

والكلام يقع في هذا الحديث تارةً في السند، وأُخرى في الدلالة:

أمّا السند _ فعلي بن محمد من مشايخ الكليني (رحمه الله) وقد روى عنه روايات كثيرة جدّاً من دون ذكر لقب له أو جدّ.

واسم علي بن محمد قد ورد في الكافي راوياً عنه الكليني مباشرةً بعدّة أشكال:

أوّلها _ ما ذكرناه من اسم علي بن محمد من دون ذكر لقب أو جدّ، وهذا هو الغالب في الكافي، والراوي عنه الكليني كثيراً.

والثاني _ علي بن محمد بن بندار، وقد روى عنه الكليني (رحمه الله) في الكافي كثيراً، إلا أنّها لا تصل في الكثرة إلى رواياته عن علي بن محمد بقول مطلق.

والثالث _ علي بن محمد بن عبداللّه، وقد روى الكليني (رحمه الله) عنه كثيراً أيضاً في الكافي، إلا أنّ رواياته عن علي بن محمد بن بندار أكثر ويقرب من ضعف رواياته عن علي بن محمد بن عبداللّه.

والرابع _ علي بن محمد بن عبداللّه القمّي، وقد روى عنه الكليني (رحمه الله) روايتين في الكافي، في باب الإجمال في الطلب من كتاب المعيشة(2).

وقد ذكر الشيخ الحرّ العاملي (رحمه الله) في خاتمة الوسائل ما نصّه:

«واعلم أنّه قال في كتاب العتق من الكافي في جملة من النسخ هكذا:


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص344، الباب 32 من مقدّمات الحدود، ح3.

(2) الكافي، ج 5، ص81، كتاب المعيشة، باب الاجمال في الطلب، ح7 و8.

220

عدّة من أصحابنا(1): علي بن إبراهيم، ومحمد بن جعفر، ومحمد بن يحيى، وعلي ابن محمد بن عبداللّه القمّي، وأحمد بن عبداللّه، وعلي بن الحسن(2)جميعاً عن أحمد ابن محمد بن خالد»(3). ونقل الأردبيلي (رحمه الله) نحو ذلك عن الكافي (باب المملوك بين الشركاء يعتق أحدهم نصيبه)(4).

ولكن لم أرَ هذا التعبير في النسخة الموجودة عندي من الكافي وهي طبعة الآخوندي، وإنّما الموجود في هذه النسخة قوله في الحديث الخامس من ذاك الباب: عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد....

وقد ورد أيضاً عن الكليني (رحمه الله) تعبير خامس وهو التعبير بعلي بن محمد بن أُذينة، وهذا غير وارد في الكافي صريحاً؛ إلا أنّ العلّامة (رحمه الله) ذكر في الخلاصة نقلاً عن الكليني (رحمه الله) _ وكأنّه أخذه من فهرستٍ معروفٍ في زمانه أو نحو ذلك _ أنّه قال: وكلّ ما ذكرته في كتابي المشار إليه: عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد ابن خالد البرقي فهم: علي ابن إبراهيم وعلي بن محمد بن عبداللّه بن أُذينة وأحمد بن عبد اللّه ابن أبيه(5) وعلي ابن الحسن(6).

وهذا النقل من قبل العلّامة (رحمه الله) عن الكليني يؤيّد كون المقصود بعلي بن محمد ابن عبداللّه القمي هو علي بن محمد بن عبداللّه بن أُذينة.


(1) في وسائل الشيعة، الطبعة الجديدة: عن علي بن إبراهيم وكلمة (عن) زائدة وخطأ من الناسخ.

(2) ورد في بعض النسخ: علي بن الحسين.

(3) وسائل الشيعة، ج 20، ص 34.

(4) جامع الرواة، ج 2، ص 466.

(5) ورد في بعض النسخ: ابن أميّة.

(6) ورد في بعض النسخ: علي بن الحسين.

221

كما ورد أيضاً التعبير بعلي بن محمد بن علان في عدّة الشيخ الكليني الذي ينقل بواسطتهم عن سهل بن زياد، والظاهر أنّه علي بن محمد بن إبراهيم بن أبان الرازي الكليني، الذي وثّقه النجاشي.

وعلى أيّ حال فالكلام يقع في أنّه هل هناك طريق لتوثيق علي بن محمد الذي أكثر الكليني الحديث عنه في الكافي أو لا؟

الذي شاهدناه في كتب الرجال ممّا يمكن إرجاعه إلى هذا الصدد هو ما جاء في رجال النجاشي في ترجمة علي بن أبي القاسم، حيث قال: «علي بن أبي القاسم عبداللّه بن عمران البرقي المعروف أبوه بماجيلويه، يكنّى أبا الحسن، ثقة فاضل أديب، رأى أحمد بن محمد البرقي، تأدّب عليه، وهو ابن بنته»(1).

أقول: الظاهر _ كما ذكر السيد الخوئي في رجاله _ أنّ المقصود بعلي بن أبي القاسم هو علي بن محمد بن أبي القاسم(2) نسب إلى جدّه _ إن لم يحمل على الخطأ في النسخة _، والدليل على ذلك كلام النجاشي نفسه في ترجمته لمحمد بن أبي القاسم عبيداللّه بن عمران الجنابي حيث قال: محمد بن أبي القاسم عبيداللّه بن عمران الجنابي البرقي أبو عبداللّه الملقّب ماجيلويه، وأبو القاسم يلقّب بندار سيّد من أصحابنا القمّيين، ثقة عالم فقيه عارف بالأدب والشعر والغريب، وهو صهر أحمد بن أبي عبداللّه البرقي على ابنته وابنه علي بن محمد منها، وكان أخذ عنه العلم والأدب(3).


(1) رجال النجاشي، طبعة الداوري، ص184.

(2) قد يؤيّد هذا الفهم فهم العلّامة (رحمه الله) في الخلاصة، حيث جاء فيه (علي بن محمد بن أبي القاسم عبداللّه بن عمران البرقي المعروف أبوه ماجيلويه أبو الحسن ثقة فاضل فقيه أديب).

(3) رجال النجاشي، طبعة الداوري، ص 250.

222

أقول: الظاهر أنّ عبيداللّه هو عبداللّه، فإمّا إنّ هذا محمول على اختلاف النسخ، أو تعدّد الاسم ونحو ذلك، ويؤيّد هذا كلام النجاشي نفسُه في عمران البرقي الجنابي حيث قال: عمران البرقي الجنابي (أو الجبابي أو الجبائي) أبو محمد جدّ محمد بن أبي القاسم عبداللّه بن عمران...(1).

هذا ويظهر من مجموع هذه النصوص: أنّ هناك شخصاً واحداً هو علي بن محمد بن بندار وهو علي بن محمد بن عبداللّه؛ إذ عرفت أنّ النجاشي لقّب جدّ علي بن محمد وهو عبداللّه والمكنّى بأبي القاسم ببندار، فإذا افترضنا أنّ علي بن محمد الذي ينقل عنه الكليني كثيراً وروى عنه الحديث الذي نحن بصدده هنا هو نفسه علي بن محمد بن بندار الذي روى عنه كثيراً أيضاً وهو علي بن محمد بن عبداللّه الذي روى عنه كثيراً أيضاً، فقد ثبتت بذلك وثاقته؛ لما مضى من تصريح النجاشي بوثاقة علي بن أبي القاسم عبداللّه بن عمران البرقي المقصود به علي بن محمد بن عبداللّه بن عمران البرقي، والذي هو متّحد مع علي بن محمد بن بندار، وبهذا تثبت وثاقة المعنون بكلّ هذه العناوين الثلاثة الواردة في الكافي، وهذا ما استظهره السيد الخوئي في رجاله؛ حيث استظهر وحدة أسماء الثلاثة المروي عنهم في الكافي من قبل الكليني مباشرةً.

نعم، استظهر مغايرة العنوان الرابع _ وهو علي بن محمد بن عبداللّه القمّي _ الوارد في روايتين في الكافي للعناوين السابقة.

وشاهده على المغايرة أنّه روى في الكافي في باب الإجمال في الطلب من كتاب المعيشة قبل الروايتين مباشرة رواية علي بن محمد عن سهل، ثم ذكر رواية علي بن محمد بن عبداللّه القمّي عن أحمد بن أبي عبداللّه، ثم ذكر الرواية الثانية عنه (والضمير


(1) نفس المصدر، ص 207

223

راجع إلى أحمد بن أبي عبداللّه يعني أنّ الراوي هو علي ابن محمد بن عبداللّه القمّي، عن أحمد بن أبي عبداللّه) عن ابن فضّال، ثم ذكر مباشرةً رواية أُخرى عن علي بن محمد، عن ابن جمهور يقول السيد الخوئي: «والظاهر من هذه العبارة أنّ علي بن محمد بن عبداللّه القمي مغاير لمن ذكر قبله وبعده، واللّه العالم»(1).

أقول: الرواية عن علي بن محمد بعد الروايتين ليست قرينة على التعدّد؛ لأنّ الرواية الثانية من الروايتين ابتدأت بكلمة (عنه)، والضمير راجع إلى أحمد بن أبي عبداللّه، فهو (رحمه الله) مضطرّ بعد ذلك إذا أراد الحديث عن علي بن محمد إلى تكرار الاسم، وإذا كرّر الاسم جاز حذف الجدّ واللقب اعتماداً على ما سبق.

وعلى أي حال فالقرينة التي نحن أشرنا إليها أقوى، فإنّها تشير إلى أنّ المقصود بعلي ابن محمد بن عبداللّه القمّي هو علي بن محمد بن عبداللّه بن أُذينة، وهذا يعني أنّه غير علي بن محمد بن عبداللّه بن عمران.

أمّا ما استظهره السيد الخوئي من وحدة العناوين الثلاثة في عبارة الكافي فلا يبعد صحّة استظهار الوحدة بين علي بن محمد وعلي بن محمد بن بندار حتى لو كان علي بن محمد بن عبداللّه شخصاً آخر، وذلك لأنّ كثرة نقل الكليني عن علي بن محمد بن بندار تكون قرينةً على انصراف علي بن محمد في لسانه في الكافي إليه كما قاله السيد الخوئي (رحمه الله)، ونقلُهُ عن علي بن محمد بن عبداللّه وإن كان كثيراً أيضاً، ولكن نقله عن علي بن محمد بن بندار أكثر منه إلى حدّ الضعف تقريباً، وبهذا تثبت وثاقة علي بن محمد الوارد في حديثنا.

أمّا وحدة علي بن محمد بن عبداللّه وعلي بن محمد بن بندار بدعوى الانصراف


(1) معجم رجال الحديث، ج 12، ص 166

224

أيضاً لكثرة نقله عن علي بن محمد بن بندار فغير واضحة. صحيح أنّ شخصاً واحداً كان مسمّىً بعبداللّه وببندار، لكن احتمال أن يكون علي بن محمد _ الذي هو ابن لعبداللّه المسمّى ببندار _ معروفاً بعلي بن محمد بن بندار، ويكون علي بن محمد بن عبداللّه القمّي (أو قُل: علي بن محمد بن عبداللّه بن أُذينة) هو المعروف بعلي بن محمد بن عبداللّه وارد لا رافع له.

والحاصل أنّ عنوان (علي بن محمد) مطلق، بمعنى تجريده عن ذكر قيوده الواقعية (لا بمعنى المطلق الحَكَمي)، ومطلق من هذا القبيل منصرف إلى من يكثر ذكره في كلام المُطلِق، ولكن (علي بن محمد بن عبداللّه) و(علي بن محمد بن بندار) قيّد كلّ منهما بقيد غير قيد الآخر أي نسب أحدهما إلى عبداللّه، ونسب الآخر إلى بندار، واحتمال كون الدافع إلى ذلك التمييز بينهما _ رغم أنّ بنداراً مسمّىً بعبداللّه _ موجود؛ بأن يكون أحدهما مشهوراً بهذا الاسم والآخر بذاك الاسم.

وقد تحصّل من كل ما ذكرناه أنّه متى ما روى الكليني عن علي بن محمد بن بندار فهو عبارة عن علي بن محمد بن عبداللّه، الذي مضى عن النجاشي توثيقه، ومتى ما روى عن علي بن محمد بن عبداللّه، أو علي بن محمد بن عبداللّه القمّي فلا دليل على التوثيق، ومتى ما روى عن علي بن محمد فلا يبعد انصرافه إلى علي بن محمد ابن بندار الثقة.

هذا تمام الكلام في علي بن محمد الوارد في أوّل سند حديثنا.

وقد ورد بعده محمد بن أحمد المحمودي عن أبيه، ولا دليل على وثاقة محمد بن أحمد المحمودي عدا توقيع الإمام أبي محمد العسكري (عليه السلام) بنقل الكشي عن بعض الثقات، وقد جاء فيه: (واقرأه علی المحمودي فما أحمدناله لطاعته) كما لا دليل على حُسن حال أبيه عدا ما نقله الكشي عن ابن مسعود عن المحمودي أنّ أبا جعفر (عليه السلام)

225

كتب إليه بعد وفاة أبيه: (قد مضى أبوك رضي الله عنه وعنك وهو عندنا على حالة محمودة، ولن تبعد من تلك الحالة).

وأمّا يونس فلا إشكال في جلالته.

وأمّا الراوي المباشر وهو الحسين بن خالد فسواء كان المقصود به الحسين بن خالد الصيرفي، وهو المعروف بالحسين بن خالد، أوكان المقصود به الحسين بن أبي العلاء بقرينة روايته عن الصادق (عليه السلام) فهو ثقة؛ إذ روى عن الثاني الأزدي والبجلي، وروى عن الأول كلّ الثلاثة.

وعلى أيّ حال فقد اتّضح بهذا العرض أنّ سند الحديث لا يخلو من إشكال؛ لعدم ثبوت دليل واضح على وثاقة أبي المحمودي.

وأمّا الدلالة _ فقد يقال: إنّ الرواية إنّما دلّت على نفوذ علم الحاكم في حقوق اللّه؛ لأنّ الحقّ إذا كان للّه فالواجب على الإمام إقامته _ على حدّ تعبير الرواية _ أمّا حقوق الناس فليست مورداً لما في هذه الرواية من الحكم بنفوذ العلم، بل قد تدل على التفصيل بينهما.

ولكن قد يقال: إنّ الظاهر من التفصيل الوارد في الرواية بين حقوق اللّه وحقوق الناس وتعليله بكون الإمام أميناً للّه، أنّ الفرق بينهما إنّما هو أنّ الأول للّه فيجريه الحاكم بلا حاجة إلى مطالبة أحد إيّاه، وأمّا الثاني فبما أنّه للناس فإجراؤه إنّما يكون عند مطالبة ذي الحق به، والظاهر من ذلك أنّها من حيث نفوذ العلم سيّان.

هذا، ولكن الواقع أنّ هناك احتمالاً آخر في الحديث وهو أن يقصد به أنّ الإمام أمين اللّه في خلقه، فاللّه يعتمد على علمه في حقوقه من دون بيّنة ومن دون مطالبة أحد بإجراء الحقّ أمّا حقوق الناس فهي للناس ولم يكن هو أميناً للناس، فلابدّ من السير فيها وفق القوانين المعتبرة في حقوق الناس من رفع النزاع أو مطالبة الحقّ،

226

ولعلّ منها البيّنة وعدم الاكتراث بعلم القاضي. فالحديث دالّ على نفوذ العلم في حقوق اللّه، ومجمل بالنسبة لحقوق الناس.

هذا، ورغم الإجمال قد يصلح دليلاً لما قد ينسب إلى البعض من القول بالتفصيل بنفوذ العلم في حقوق اللّه دون حقوق الناس، وذلك بناءً على إثبات كون القاعدة الأوليّة عدم نفوذ العلم في باب القضاء، خرج منه العلم في حقوق اللّه بهذا الحديث. وقد يتعدّى منه إلى حقوق الناس بالأولويّة بدعوى أنّ حقوق اللّه مبنيّة على المسامحة والعفو، بخلاف حقوق الناس، وهذه الدعوى في ذاتها قد تكون دليلاً للتفصيل العكسي الذي قد ينسب إلى البعض.

والواقع أنّ كلا التفصيلين لا أساس صحيح لهما، فهذا الأخير لا يعدو أن يكون استحساناً، والحديث قد عرفت عدم تماميّته سنداً.

وقد يقال: إنّ هذه الرواية إنّما دلّت على نفوذ علم الإمام؛ إذ تقول: «الواجب على الإمام...»، ولم تدل على نفوذ علم القاضي مطلقاً، ولذا ذكرها صاحب الجواهر (رحمه الله) في عداد أدلّة نفوذ علم الإمام في القضاء، لا في عداد أدلّة نفوذ علم القاضي على الإطلاق، وهذا الكلام مبني على حمل كلمة (الإمام) على الإمام المعصوم دون مطلق ولي الأمر الشرعي للمجتع.

وإن تمّ هذا الحمل فبالإمكان التخلّص عن هذا الإشكال بالتعدّي إلى الفقيه، إمّا تمسّكاً بعموم التعليل بأنّه أمين اللّه في خلقه بناءً على صدق هذا العنوان على الفقيه بعد فرض الإيمان بولاية الفقيه، وإمّا تمسّكاً _ ابتداءً _ بأدلّة ولاية الفقيه بدعوى أنّها جعلت ما للإمام للفقيه ومنها الحكم بالعلم، بل ولعلّه يمكن التعدّي إلى غير الفقيه ممّن أعطاه الفقيه هذا المنصب ببيان: أنّه إذا كان للإمام حقّ إعطاء هذا المنصب بما فيه من الحكم بالعلم لغيره، فللفقيه أيضاً حقّ إعطائه لغيره؛ لأنّ ما

227

للإمام للفقيه.

هذا، ولكن الظاهر أنّ الوجه الثاني للتعديّ غير تامّ في المقام؛ لأنّ دليل ولاية الفقيه لم يرد بعنوان «ما للإمام للفقيه» حتى يتمسّك بإطلاقه، ويقال: إنّه كان للإمام أن يقضي بعلمه فكذلك للفقيه، وإنّما الدليل أثبت أنّ ما للإمام بعنوان الولاية فهو للفقيه، وكون العلم مقياساً للقضاء وعدمه حكم شرعي فقهي ليس راجعاً إلى مسألة الولاية بحيث لو رأى ولي الأمر مثلاً المصلحة في القضاء بالعلم قضى به، ولو رأى عدم المصلحة في ذلك لم يقضِ به، ولا أقلّ من احتمال ذلك، فإذا ثبت في علم الإمام كونه مقياساً للقضاء لم يبرّر مبدأ ولاية الفقيه التعدّي من ذلك إلى الفقيه فضلاً عن غير الفقيه المنصوب من قبل الفقيه.

يبقى الوجه الأول وهو إن تمّ يختصّ بالفقيه، ولا يتعدّى منه إلى غير الفقيه المنصوب من قبل الفقيه.

وتبقى نقطة واحدة في هذه الرواية، وهي أنّ هذه الرواية دلّت على أنّ حدّ السرقة من حقوق الناس؛ ولذا ليس للقاضي إجراؤه قبل مطالبة ذي الحقّ بذلك. فقد يقال: إنّ هذه نقطة ضعف في الرواية، فالمفهوم لدينا فقهيّاً والمستفاد من الآية الشريفة أنّه من حقوق اللّه، قال اللّه تعالى: ﴿وَالسّٰارِقُ وَالسّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا جَزٰاءً بِمٰا كَسَبٰا نَكٰالاً مِنَ اللّٰـهِ وَاللّٰـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(1). وكذلك المستفاد من روايات قطع يد السارق بمجرّد الإقرار على خلاف فيما بينها في كفاية الإقرار مرّةً واحدةً، أو اشتراط الإقرار مرتين(2)؛ إلا أنّ بالإمكان الإجابة عن هذا بأنّ كون حدّ من الحدود


(1) المائدة: 38.

(2) لاحظ الروايات في وسائل الشيعة، ج 18، الباب 3 من حدّ السرقة، والرواية الأُولى من الباب 32، من مقدّمات الحدود.

228

من حقوق اللّه أو من حقوق الناس أمر قابل للتشكيك، فتارةً يكون حدّ من الحدود من حقوق اللّه محضاً كما في حدّ الزنا، وأُخرى يكون من حقوق الناس بمعنى أنّه ما لم يطالب به صاحبه لا يُجرى، كما ورد ذلك في بعض الروايات بالنسبه لحد القذف(1). وحدّ السرقة ليس من هذا القبيل، فبالإمكان اجراؤه بمجرّد الإقرار مرّةً أو مرتين على ما تقتضيه روايات الإقرار بالسرقة، وثالثةً يكون أمراً بين أمرين، فهو من حقوق اللّه بمعنى أنّ مجرّد الإقرار به يكفي في جواز إجراء الحدّ عليه من قبل الحاكم، كما هو المستفاد من روايات الإقرار بالسرقة، ولكنّه من حقوق الناس بمعنى أنّ من حقّ صاحبه أن يعفو عنه قبل أن يصل الأمر إلى الإمام؛ وإن كان لا يحقّ له العفو بعد وصوله إليه، والسرقة من هذا القبيل على ما دلّ عليه حديث الحلبي التامّ سنداً عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن الرجل يأخذ اللصّ يرفعه، أو يتركه؟ فقال: إنّ صفوان بن أُميّة كان مضطجعاً في المسجد الحرام فوضع رداءه وخرج يهريق الماء فوجد رداءه قد سرق حين رجع إليه فقال: من ذهب بردائي؟ فذهب يطلبه فأخذ صاحبه فرفعه إلى النبي (صلى الله عليه و آله)، فقال النبي (صلى الله عليه و آله): إقطعوا يده، فقال الرجل: تقطع يده من أجل ردائي يا رسول اللّه؟ فقال: نعم. قال: فأنا أهبه له، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): فهلّا كان هذا قبل أن ترفعه إليّ. قلت: فالإمام بمنزلته إذا رفع إليه؟ قال: نعم. قال: وسألته عن العفو قبل أن ينتهي إلى الإمام، فقال: حسن»(2)، وورد بسند تام عن الحسين بن أبي العلا عن أبي عبداللّه (عليه السلام) نحوه وإن كانت القصّة الواردة في هذا الحديث فيها نقطة ضعف، وهي أنّ من يسرق من الأماكن العامّة ومن غير حرز لا تقطع


(1) رأيت في ذلك حديثين: أحدهما الرواية الأُولى من الباب 32 من مقدّمات الحدود، من وسائل الشيعة، ج18، ص 344، والثاني الرواية الواردة في الباب 6 من حدّ القذف من ذاك المجلّد ص 440.

(2) وسائل الشيعة، ج 18، ص329، الباب 17 من مقدّمات الحدود.

229

يده، بينما جاء في هذه القصة الحكم بقطع يد السارق عباءة صفوان بن أُميّة التي كانت في المسجد الحرام، ولعلّ هناك خطأ من الراوي، ويكون الأصح ما جاء في ذكر هذه القصّة في مرسلة الصدوق(1) من افتراض أنّ صفوان كان نائماً فلعلّه كان نائماً على عباءته، وعدّ هذا كالحرز.

وعلى أيّ حال فهناك رواية أُخرى تامّة سنداً تدل على أنّ المسروق منه له حقّ العفو عن السارق قبل رفعه إلى الإمام لا بعد رفعه، وهو ما عن سماعة بن مهران عن أبي عبداللّه (عليه السلام)، قال: «من أخذ سارقاً، فعفا عنه فذلك له، فإذا رفع إلى الإمام قطعه، فإن قال الذي سرق له: أنا أَهبُه لم يدعْه الإمام حتى يقطعه إذا رفعه إليه، وإنّما الهبة قبل أن يرفع إلى الإمام، وذلك قول اللّه (عزوجل): ﴿وَالْحٰافِظُونَ لِحُدُودِ اللّٰهِ﴾(2)فإذا انتهى الحدّ إلى الإمام فليس لأحد أن يتركه»(3).

الدليل التاسع _ ما ورد بسند تام عن عبدالرحمن بن الحجّاج قال: «دخل الحكم ابن عتيبة وسلمة بن كهيل على أبي جعفر (عليه السلام) فسألاه عن شاهد ويمين، فقال: قضى به رسول اللّه (صلى الله عليه و آله)، وقضى به علي (عليه السلام) عندكم بالكوفة، فقالا: هذا خلاف القرآن، فقال: وأين وجدتموه خلاف القرآن، قالا: إنّ اللّه يقول: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾(4)، فقال: قول اللّه: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾هو لا تقبلوا شهادة واحد ويميناً؟! ثم قال: إنّ عليّاً (عليه السلام) كان قاعداً في مسجد الكوفه، فمرّ به عبداللّه بن قفل التميمي ومعه درع طلحة، فقال علي (عليه السلام): هذه درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة.


(1) نفس المصدر، ص509، الباب 18 من حدّ السرقة، ح4.

(2) التوبة: 112.

(3) وسائل الشيعة، ج 18، ص330، الباب 17 من مقدّمات الحدود، ح3.

(4) الطلاق: 2.

230

فقال له عبداللّه بن قفل: اجعل بيني وبينك قاضيك الذي رضيته للمسلمين، فجعل بينه وبينه شريحاً، فقال علي (عليه السلام): هذه درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة، فقال له شريح: هات على ما تقول بيّنة، فأتاه بالحسن فشهد أنّها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة، فقال شريح: هذا شاهد واحد ولا أقضي بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر، فدعا قنبر فشهد أنّها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة، فقال شريح: هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك. قال: فغضب علي (عليه السلام)، وقال: خذها فإنّ هذا قضى بجور ثلاث مرّات. قال: فتحوّل شريح وقال: لا أقضي بين اثنين حتى تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرّات، فقال له: ويلك _ أو ويحك _ إنّي لمّا أخبرتك أنّها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة فقلت: هات على ما تقول بيّنة، وقد قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): حيث ما وجد غلول أُخذ بغير بيّنة. فقلت: رجل لم يسمع هذا الحديث فهذه واحدة، ثم أتيتك بالحسن فشهد، فقلت: هذا واحد ولا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر، وقد قضى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) بشهادة واحد ويمين فهذه ثنتان، ثم أتيتك بقنبر، فشهد أنّها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة، فقلت: هذا مملوك، وما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلاً. ثم قال: ويلك _ أو ويحك _ إنّ إمام المسلمين يؤمَنُ من أمورهم على ما هو أعظم من هذا»(1). ورواه الصدوق باسناده التام عن محمد ابن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام)، واقتصر على قصّة علي (عليه السلام) مع شريح وزاد في آخرها: «ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): إنّ أوّل من ردّ شهادة المملوك رمع»(2).

ولو شكّك في السند الأول باستبعاد لقاء عبدالرحمن بن الحجاج لأبي جعفر الباقر (عليه السلام)


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص194، الباب 14 من كيفيّة الحكم، ح6.

(2) الفقيه، ج 3، ص63 _ 64، بحسب الطبعة الجديدة للآخوندي، الباب 46 من أبواب القضايا والأحكام، ح4.

231

فنقله لهذه القصّة قد لا تجري فيه أصالة الحسّ، فهذا التشكيك لا يأتي في السند الثاني؛ لأنّ محمد بن قيس قد لقي أبا جعفر (عليه السلام)، وروى عنه.

قوله: «أُخذت غلولاً يوم البصرة...» الغلول بمعنى الخيانة، والظاهر أنّ المقصود هو أنّ درع طلحة في يوم البصرة كانت من الغنائم فأخذها أحدهم قبل قسمة الغنائم خيانةً وغلولاً، وقد قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): حيث ما وجد غلول أُخذ بغير بيّنة، فكأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) أمر _ اهتماماً بمنع الغلول في الحرب _ بقبول قول أمير الحرب، أو بقبول قول أي واحد من المحاربين في كون ما عثر عليه غلولاً، وأسقط حجّية اليد في مقابل قول أمير الحرب أو في مقابل قول أيّ واحد منهم، وبما أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان في حرب البصرة إمام الحرب فلا معنى لمطالبته بالبيّنة. وهذا الحديث دليل على جواز اغتنام ما حواه العسكر في حرب البغاة.

قوله: «خذها... » جاء في رواية الصدوق التي أشرنا إليها: «خذوا الدرع...» وكأنّ المقصود بذلك أمر أصحابه (عليه السلام) بأخذ الدرع رغم قضاء شريح؛ لأنّ شريحاً قضى بالجور.

قوله: «ويلك _ أو ويحك _ إنّ إمام المسلمين يؤمَن من أمورهم على ما هو أعظم من هذا» هذا المقطع هو محلّ الشاهد، ووجه الاستشهاد: إمّا هو القول بأنّ هذه العبارة إشارة الى إشكال آخر على شريح: وهو أنّه كان المفروض بشريح أن يحصل له العلم بصحّة كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) وأن يحكم بعلمه. وإمّا هو التمسّك ابتداء بعموم هذه القاعدة، وهي قاعدة أنّ إمام المسلمين يؤمَن من أمورهم على ما هو أعظم من هذا؛ بدعوى أنّ نفوذ قضاء الإمام بعلمه مصداق لائتمان الإمام على أمور المسلمين.

وعلى الوجه الأول يدل الحديث على نفوذ علم القاضي إطلاقاً، وعلى الوجه الثاني يدل على نفوذ علم الإمام، بل على الوجه الأول _ أي على تقدير التمسّك

232

بإيراد الإمام (عليه السلام) إشكالاً رابعاً على شريح أيضاً _ يحتمل أن يكون إشكاله عليه: أنّه لِمَ لم يقضِ وفق علم الإمام؟ فالمتيقّن من هذا الحديث هو حجّية علم الإمام في القضاء، ولا يثبت جواز قضاء الفقيه بعلمه إلا أن يتعدّى إلى الفقيه: إمّا بدعوى أن المقصود من إمام المسلمين هو ولي الأمر، لا خصوص الإمام المعصوم، أو بدعوى التمسّك ابتداءً بدليل ولاية الفقيه وأنّ ما للإمام للفقيه. وقد عرفت في الوجه السابق النقاش في ذلك، حيث قلنا إنّ مقياسية العلم ليست من الأحكام الولائية حتى تنتقل إلى الفقيه بقانون ولاية الفقيه، بل هي من الأحكام الفقهية، ولا أقّل من احتمال ذلك، ولا دليل لنا على قاعدة مطلقة تقول: إنّ كلّ ما للإمام فهو للفقيه.

لا يقال: إنّ قضاء القاضي بأيّ لون من الألوان هو نوع ولاية للقاضي، فقضاء الإمام بعلمه هو حكم ولائي فينتقل إلى الفقيه بحكم ولاية الفقيه.

فإنّه يقال: إنّ انتقال هذه الولاية إلى الفقيه يعني أنّ الفقيه يقضي بعلم الإمام لو شهد لديه الإمام بشيء؛ أي: إنّ علم الإمام هو أحد مقاييس القضاء حتى في قضاء الفقيه، ولا يختص بقضاء الإمام نفسِه، أمّا أنّ مطلق علم القاضي هو أحد مقاييس القضاء، أو أنّ خصوص علم الإمام هو أحد المقاييس، فهذا حكم فقهي شرعي، وليس حكماً ولائياً كي يتمسّك بدليل ولاية الفقيه لإثبات كون المقياس هو مطلق علم القاضي.

هذا، وصاحب الجواهر (رحمه الله) استدلّ بهذا الحديث على نفوذ علم الإمام المعصوم فحسب، لا على نفوذ مطلق علم القاضي، فكأنّه ينظر إلى الوجه الثاني من وجهي الاستشهاد اللذين أشرنا إليهما.

233

الدليل العاشر _ الروايتان الواردتان(1) بشأن قصّة النبي (صلى الله عليه و آله) في شرائه للناقة من الأعرابي، حيث وقع الخلاف بينه وبين الأعرابي في الرواية الأولى حول أداء الثمن، وفي الرواية الثانية حول أصل بيع الناقة، وكان حُكْم أمير المؤمنين (عليه السلام) فيهما أن قتل الأعرابي. والرواية الأُولى تامّة سنداً، والثانية غير تامّة سنداً.

أمّا وجه الاستدلال فبالإمكان أن يقال: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد حكم في مورد الحديث بعلمه أو بعلم رسول اللّه (صلى الله عليه و آله)، وهذا دليل على نفوذ علم المعصوم في القضاء، فإن تمّ التعدّي إلى الفقيه بواسطة مبدأ ولاية الفقيه تعدّينا إليه، وإلا _ كما ناقشنا في ذلك في الوجه السابق _ لم يدل هذا الوجه على أكثر من نفوذ علم المعصوم، وهو غير المقصود.

وعلى أيّ حال فيرد عليه لو اقتصرنا على التمسّك بعمل الإمام (عليه السلام): أنّ بالإمكان حمل عمل أمير المؤمنين (عليه السلام) على تنفيذ القتل بشأن من كذّب الرسول (صلى الله عليه و آله)، لا على القضاء بمعنى خصم النزاع، وإن كان قد ارتفع به النزاع تكويناً.

وبتعبير آخر: لعلّ هذا الحكم لم يكن قضاء بمعنى فصل النزاع في حقوق الناس، بل كان إجراءً لحدّ هو من حقوق اللّه، وقد مضت _ في الدليل السادس _ الإشارة إلى أنّ التعدّي من حقوق اللّه إلى حقوق الناس غير صحيح، كما أنّ أمر أمير المؤمنين (عليه السلام) للأعرابي في إحدى الروايتين بتسليم الناقة إلى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) يمكن حمله على إرشاده إلى وظيفته الشرعية.

نعم، بالإمكان أن يجعل الدليل على نفوذ علم المعصوم في القضاء أصل قاعدة


(1) راجع وسائل الشيعة، ج 18، ص200 _ 201، الباب 18 من كيفيّة الحكم، ح 1 و 2، والفقيه، ج 3، الباب 46، ص60 _ 62، ح1 و2

234

وجوب تصديق الإمام فيما يقول وكفر مكذّبه مثلاً، كما استدلّ به في الجواهر جاعلاً هذا الحديث شاهداً على تلك القاعدة بقوله: «ولذا قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) خصم النبي (صلى الله عليه و آله) لمّا تخاصما إليه في الناقة وثمنها».

وهذا أيضاً يرد عليه: أنّ هذا إنّما يدل على أنّنا لو شاهدنا المعصوم قضى بعلمه وجب علينا التسليم. أمّا أنّه هل يجوز له أن يقضي بعلمه فيقضي بالفعل بعلمه أو لا يجوز له، فلا يقضي إلا بالبينات والأيمان، فلا توجد أيّ ملازمة بين وجوب تصديقه وكفر مكذّبه وبين جواز أن يقضي هو بعلمه.

هذا، والصحيح دلالة هذا الحديث على القضاء بعلم المعصوم؛ لأنّ فيه تخطئة القضاء وفق صالح الأعرابي وتصويب قضاء علي (عليه السلام): إمّا صريحاً كما في الحديث الأول التام سنداً؛ حيث جاء في ذيله أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) قال للقرشي الذي أراد الحكم لصالح الأعرابي: «هذا حكم اللّه، لا ما حكمت به»، أو تلويحاً كما في الحديث الثاني الذي قال فيه النبي (صلى الله عليه و آله) للأعرابي بعد أن أراد ثلاثة أشخاص الحكم لصالح الأعرابي: «إجلس حتى يأتي اللّه بمن يقضي بيني وبين الأعرابي بالحقّ» فأقبل علي بن أبي طالب (عليه السلام)....

هذا، وقد يقال: إنّ الحديث دلّ على نفوذ علم غير المعصوم أيضاً؛ لأنّ من خطّأه النبي (صلى الله عليه و آله) في قضائه لم يكن معصوماً، فكأنّه يقول له: كان المفروض بك أن يحصل لك العلم بما قلت وتقضي وفقه.

ولكنّ الواقع أنّ الحديث إنّما دلّ على أنّه مع علم المعصوم ودعواه يجب القضاء وفقه، وهذا لا يدل على نفوذ علم القاضي من أيّ طريق حصل.

الدليل الحادي عشر _ ما أُشير إليه في بعض كلمات الأصحاب من قصّة رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) مع الأعرابي في شرائه لفرس منه ثم إنكار الأعرابي لذلك، وشهادة

235

خزيمة لصالح النبي (صلى الله عليه و آله) اعتماداً على تصديق رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) وتسميته من قبل رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) لذلك بذي الشهادتين(1). وذلك بدعوى الملازمة العرفية بين صحّة الشهادة اعتماداً على علم المعصوم المستلزمة لجواز اجتماع شاهدين أو أكثر على المدّعى اعتماداً على علم المعصوم ممّا يؤدّي في روحه إلى فصل الخصومة بعلم المعصوم، وصحّة القضاء ابتداءً بالاعتماد على علم المعصوم، فيثبت نفوذ علم المعصوم في القضاء، ثم يتعدّى إلى الفقيه بدليل ولاية الفقيه، ولكن قد عرفت ما في التعدّي. على أنّ الحديث غير ثابت؛ لأنّ له سنداً غير تام وسنداً تامّاً إلى معاوية بن وهب، لكن لم نعرف سند معاوية بن وهب إلى القصّة.

الدليل الثاني عشر _ ما عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «أُتي عمر بامرأة قد تزوّجها شيخ، فلمّا أن واقعها مات على بطنها، فجاءت بولد، فادّعى بنوه أنّها فجرت، وتشاهدوا عليها، فأمر بها أن ترجم، فمرّ بها على علي (عليه السلام) فقالت: يا ابن عمّ الرسول (صلى الله عليه و آله) إنّ لي حجّةً، قال: هاتي حجّتك فدفعت إليه كتاباً، فقرأه، فقال: هذه المرأة تعلمكم بيوم تزوّجها ويوم واقعها، وكيف كان جِماعُهُ لها رُدّوا المرأة، فلمّا كان من الغد دعا بصبيان أتراب، ودعا بالصبي معهم، فقال لهم: العبوا حتى إذا ألهاهم اللعب قال لهم: اجلسوا، حتى إذا تمكّنوا صاح بهم فقام الصبيان، وقام الغلام، فاتّكى على راحتيه، فدعا به علي (عليه السلام) وورّثه من أبيه، وجلد إخوته المفترين حدّاً حدّاً، فقال عمر: كيف صنعت؟ فقال: عرفت ضعف الشيخ في تكاة الغلام على راحتيه». وعن الأصبغ ابن نباته قال: «أُتي عمر بامرأة» ثم ذكر نحوه(2). وكلا السندين غير تام.


(1) راجع وسائل الشيعة، ج 18، ص201، الباب 18 من كيفيّة الحكم، ح 3، والكافي ج 7، ص 400 _ 401، باب النوادر، ح1.

(2) وسائل الشيعة، ج 18، ص207 _ 208، الباب 21 من كيفيّة الحكم، ح3.

236

أمّا أنّ ابن الشيخ الضعيف سيكون ضعيفاً فهذا بحاجة إلى فحص علمي، فإن ثبت خطؤه سقط هذا الحديث عن الاعتبار حتى لو كان تامّاً سنداً، وأمّا لو فرضت صحّة ذلك علميّاً فهذا الحديث _ بغضّ النظر عن ضعف سنده _ قد يقال أيضاً بأنّ مفاده غريب؛ إذ معنى صحّة هذه القضيّة علميّاً ليس هو عدم تطرّق احتمال ثبوت الزنا؛ إذ قد يكون ضعف الطفل مستنداً إلى علّة أُخرى فيه مباشرةً، أو بالوراثة من أبيه غير هذا الشيخ من شيخ آخر، أو شابٍ مبتلىً بالضعف، أو ما شاكل ذلك. وعلى أيّ حال فبالنسبة لدلالة الحديث قد يقال: إنّه يدل على نفوذ علم القاضي الحاصل عن طريقٍ شاهده الناس أيضاً لا العلم الخاص بالقاضي، واحتمال اختصاص ذلك بعلم الإمام غير وارد، فإنّ احتمال الخصوصيّة لعلم الإمام في مورد هذه الرواية غير وارد عرفاً؛ إذ الإمام (عليه السلام) اعتمد في علمه هذا على طريقة عامّة شاهدَها الآخرون، ولم يكن طريقاً خاصّاً يحتمل فيه الخطأ أو الكذب بالنسبة لغير المعصوم، ولا يحتمل ذلك بالنسبة للمعصوم.

وقد يقال: إنّ الشيء الخاص بالإمام (عليه السلام) هنا هو علمه بتلك القضيّة العلميّة التي كانت مخفيّة على الناس وهو أنّ ولد الشيخ الضعيف يصبح ضعيفاً.

ولكن مع هذا قد يقال: إنّ هذا يدل على نفوذ علم القاضي مطلقاً، لا خصوص الإمام؛ لأنّ الظاهر من القصّة _ وبيان وجه الحكم من قبله (عليه السلام) لأُناس لم يكونوا يرونه وقتئذٍ إماماً _ أنّ القضية تستبطن تعليم الناس ضمناً طريقة الحكم، أو يقال: إنّه بعد أن تؤخذ القاعدة _ قاعدة تبعيّة الطفل لأبيه الكبير السن الضعيف في الضعف _ مفروغاً عنها من الإمام (عليه السلام) تكون مشاهدة وضع الصبي حينما قام موجبة لعلم حسّي عام، أي يستطيع كلّ أحد أن يعلمه، وفي مثله لا تحتمل عرفاً خصوصيّة لعلم المعصوم، فالحديث يدل على نفوذ علم القاضي مطلقاً إذا كان حسّيّاً أو قريباً

237

من الحسّ وكان عامّاً، وهذا في واقعه في قوّة عدم الدلالة على نفوذ علم القاضي؛ فإنّ نفوذ العلم الذي يستطيع أن يعلمه كلّ أحد لا ينبغي أن يكون مورداً للشكّ في الارتكاز العرفي؛ إذ ما أسهل تحويله إلى عشرات الشهود؛ لأنّ المفروض أنّه ممّا يستطيع أن يعلمه كلّ أحد.

وعلى أيّ حال فضعف سند الحديث قد أسقطه عن الحجّية على كلّ تقدير.

الدليل الثالث عشر _ ما ورد بسند تام عن سليمان بن خالد، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:«في كتاب علي (عليه السلام) أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه، فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟ قال: فأوحى اللّه إليه: احكم بينهم بكتابي وأضفهم إلى اسمي فحلّفهم به، وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(1)؛ إذ يمكن الاستدلال بهذا الحديث على نفوذ علم القاضي الناشى‏ء من الحس كما سنشير إليه بعد صفحات.

الدليل الرابع عشر _ ما ورد من قضاء أمير المؤمنين (عليه السلام) بكون الابن للمرأة التي كان لبنها أثقل من لبن الأُخرى والبنت للأُخرى، والحديث وارد ضمن متن لطيف لم نعرف سنده في ذكر قصّة وقعت في زمان عمر بن الخطاب، ووارد بسند تام ضمن متن آخر في قصّة وقعت على عهد علي (عليه السلام)، والأول مذكور في سفينة البحار(2) والثاني مذكور في الوسائل(3).

ولو ساعد العلم والتجربة على ذلك كي لا يسقط الحديث بالقطع بكذبه كان العلم في مورد الحديث _ بعد الفراغ عن قاعدة أثقليّة لبن الولد بأخذها من الإمام المعصوم (عليه السلام) _ علماً حسيّاً عامّاً يستطيع كلّ أحد أن يعرفه بالتجربة غير خاص


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص167، الباب الأول من كيفيّة الحكم، ح1.

(2) سفينة البحار، ج2، ص435، مادة قضى.

(3) وسائل الشيعة، ج 18، ص210، الباب 21 من كيفيّة الحكم، ح6.

238

بالقاضي، وفي مثل هذا الفرض لا يرد عرفاً احتمال اختصاص الحكم بعلم الإمام، إذاً فالحديث يدل على نفوذ علم القاضي حينما يكون حسّياً وعامّاً، ولايدل على أكثر من ذلك. وقد مضى في وجه سابق أنّ هذا في قوّة عدم الدلالة على نفوذ علم القاضي، وإن شئت قلت: إنّ كلّ دليل دلّ على نفوذ علم المعصوم من قبيل ما مضى من قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) للأعرابي أو غيره من الروايات نحن نجعله دليلاً على نفوذ علم كلّ قاضٍ إذا كان علماً حسياً أو قريباً من الحسّ وكان عامّاً _ أي بإمكان كثير من الناس أن يعلمه _ وذلك لعدم احتمال الفرق عرفاً بين علم المعصوم وغيره إلا من إحدى ناحيتين: الأُولى كون علم المعصوم لعصمته كالعلم الحسّي أو القريب من الحسّ، والثانية كون علم المعصوم حينما يخبر به عامّاً، أي بإمكان كلّ أحد أن يعلمه عن طريق اعتماده على علم المعصوم؛ لعدم احتمال الخطأ في علم المعصوم، فإذا علم القاضي غير المعصوم أيضاً بعلم حسّي عام لم يكن يحتمل العرف الفرق في الحجّية بينه وبين علم المعصوم في القضاء، فإن قلنا: إنّ لهذا العلم حجّيةً ارتكازيّةً، وينبغي خروجه عن محلّ البحث؛ إذاً فأدلّة نفوذ علم المعصوم لا تفيدنا شيئاً، وإلا فأدلّة نفوذ علم المعصوم تفيدنا بقدر إثبات حجّية علم القاضي الحسّي العامّ لا أكثر من ذلك، ولا نستطيع أن نتعدّى إلى علم القاضي الفقيه غير الحسّي أو غير العام بمبدأ ولاية الفقيه حتى لو فسّرناها بمعنى (كلّ ما للإمام فهو للفقيه)؛ إذ لم يثبت أنّ للإمام أن يحكم بغير العلم الحسّي العامّ.

نعم، الإمام كلّ علمه هو علم حسّي عام بنكتة عصمته عن الخطأ.

الدليل الخامس عشر _ ما ورد في كتاب بصائر الدرجات للصفّار (رحمه الله) قال: «حدّثنا أحمد بن محمد، عن عمر بن عبدالعزيز، عن بكار بن كرام، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: أنّ جويرية بن عمر العبدي خاصمه رجل في فرس أُنثى فادّعيا جميعاً الفرس، فقال