373

بالعموم من وجه، وإن كان قد نصّ فقط على مخالفة الكتاب، لكنّا نفهم أنّ ذلك بنكتة قطعيّة الكتاب، فلا فرق في ذلك بين الكتاب والسنّة القطعيّة.

إن قلت: إنّ الردع ثابت من الطرفين، فرواية ابن أبي يعفور تردع عمّا يأمر بطرح ما يخالف الكتاب والسنّة؛ إذ لا شاهد له من الكتاب والسنّة، وما يأمر بطرح ما يخالف الكتاب والسنّة يردع عن رواية ابن أبي يعفور المخالفة للكتاب والسنّة الدالّين على حجّيّة خبر الواحد.

قلت: أوّلاً: يكفينا الترادع من الطرفين والتساقط؛ إذ نرجع بعد ذلك إلى الكتاب والسنّة القطعيّة الدالّين على حجّيّة خبر الواحد.

وثانياً: إنّ رواية ابن أبي يعفور لا تردع عن الأخذ بما يأمر بطرح ما خالف الكتاب والسنّة، فإنّ تلك الرواية إن كانت صادرة من الإمام، فما يأمر بطرح ما خالف الكتاب والسنّة قد وافق السنّة، فإنّ تلك الرواية تدلّ على عدم حجّيّة غير الموافق، وهذا يدلّ على عدم حجّيّة المخالف، والمخالف قسم من غير الموافق وداخل فيه.

وإن لم تكن صادرة عن الإمام، فدليل حجّيّة خبر الواحد ثابت على حاله، ولا إشكال عليه من ناحية هذه الرواية(1).

وثالثاً: إنّ الترادع يكون بين إطلاق رواية ابن أبي يعفور ونفس الحديث الدالّ على طرح ما خالف الكتاب والسنّة. وإطلاق الأوّل مبتلى بالمعارض، وهو أدلّة حجّيّة الخبر، فلا يفيد ردعه.

الجواب الثالث: أنّنا لو قطعنا النظر عمّا دلّ على عدم حجّيّة المخالف للكتاب


(1) هذا الجواب مبنيّ على تفسير رواية ابن أبي يعفور بالردع عمّا لا يوافق الكتاب. أمّا لو فسّرت بالردع عن مطلق خبر الواحد فلا مجال لهذا الجواب.

374

والسنّة القطعيّة، قلنا: إنّ السنّة القطعيّة الدالّة على حجّيّة خبر الثقة مقدّمة على رواية ابن أبي يعفور؛ لأنّ بعض الأخبار الدالّة على حجّيّة خبر الثقة ممّا يشكّل جزءاً من التواتر وإن كان دالّاً على ذلك بالإطلاق، فتكون دلالة السنّة القطعيّة على حجّيّة خبر الثقة دلالة إطلاقيّة؛ لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات، ولكن بعض تلك الأخبار ممّا هو تامّ سنداً يدلّ على حجّيّة خبر الثقة بالخصوص. إذن فرغم أنّ النسبة بين السنّة القطعيّة الدالّة على حجّيّة خبر الثقة ورواية ابن أبي يعفور عموم من وجه نقول: إنّ تلك السنّة القطعيّة تصلح للقرينيّة والحاكميّة على إطلاق رواية ابن أبي يعفور على حدّ حكومة الخاصّ على العامّ وقرينيّته، ورواية ابن أبي يعفور لا تصلح للقرينيّة والحاكميّة على السنّة القطعيّة: أمّا عدم صلاحيّة رواية ابن أبي يعفور لذلك فواضح؛ لأنّ النسبة بينهما عموم من وجه، ولا نكتة لتقديمها على السنّة القطعيّة من سنخ تقديم الخاصّ على العامّ؛ وأمّا صلاحيّة إطلاق السنّة القطعيّة للتقدّم على إطلاق رواية ابن أبي يعفور كتقديم الخاصّ على العامّ؛ فلأنّ إطلاقها يدلّ على حجّيّة ذاك القسم منها الدالّ بالخصوص على حجّيّة خبر الثقة في الأحكام الذي نسبته إلى رواية ابن أبي يعفور نسبة الخاصّ إلى العامّ. وهذا المطلب يمكن بيانه بعدّة تقريبات صناعيّة تحت صياغة الدور ونحو ذلك(1)، وجوهر المطلب ما ذكرناه. ولعلّه لا نظير لهذين العامّين من وجه في تمام


(1) ذكر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث التعادل والتراجيح في مقام تقريب هذا البيان بصياغة الدور: أنّ تماميّة مقتضى الحجّيّة لإطلاق رواية ابن أبي يعفور فرع عدم تخصيصها بذاك الخبر الواحد الذي هو فرع عدم حجّيّته بإطلاق الكتاب والسنّة القطعيّة، أي: عدم حجّيّة إطلاق آية النفر أو السنّة القطعيّة، فتماميّة مقتضى الحجّيّة لإطلاق رواية ابن أبي يعفور فرع عدم حجّيّة إطلاق آية النفر والسنّة القطعيّة، وما يكون فرع عدم شيء يستحيل أن يمنع عن ذلك الشيء، وإلّا لزم الدور.

375

الفقه، بأن يقع التعارض بين عامّين من وجه ويكون الأمر بحيث لو قدّمنا هذا على ذاك كان في قوّة تقديم أحد العامّين من وجه على الآخر بلا مبرّر، ولو قدّمنا ذاك على هذا، كان التقديم بالمبرّر الذي يجعل الخاصّ مقدّماً على العامّ. ومن المعلوم أنّه متى ما دار الأمر بين تقديم هذا بلا مبرّر وتقديم ذاك بمقتضى الصناعة تعيّن الثاني في مقابل الأوّل لا محالة(1).

 


(1) أفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث التعادل والتراجيح: أنّ هذا بناءً على كون مفاد رواية ابن أبي يعفور إسقاط حجّيّة خبر الواحد مطلقاً. أمّا لو قلنا: إنّ مفادها إسقاط ما لا شاهد له من الكتاب، فالأمر أوضح؛ لأنّ خبر الواحد الذي دلّ على حجّيّة أخبار الآحاد في الأحكام له شاهد من كتاب الله وهو آية النفر، فهذا حجّة يقيناً، فتخصّص به رواية ابن أبي يعفور بلا حاجة إلى ما عرفته من البيان.

ولاُستاذنا الشهيد(رحمه الله) جوابان آخران على رواية ابن أبي يعفور ذكرهما في بحث التعادل والتراجيح:

أحدهما: أنّ رواية بن أبي يعفور بعد تفسيرها بنفي الحجّيّة لا محيص عن تخصيصها باُصول الدين ونحوها من المعارف الإلهيّة من قبيل تفاصيل القيامة وأمثال ذلك، ولا تشمل الأحكام؛ وذلك لوجود مخصّص قطعيّ كالمتّصل، وهو ارتكاز الأصحاب ـ ومنهم نفس ابن أبي يعفور راوي هذه الرواية ـ الذين كانوا يهتمّون بضبط الأحاديث ولو مع الواسطة، ويعملون بها وبنقل أحاديث الآخرين، ويتوقّعون من الآخرين العمل بهذا النقل، فإنّ حجّيّة الخبر في باب الأحكام كانت ارتكازيّة عندهم.

أمّا لو افترضنا ظهور رواية ابن أبي يعفور في نفي الصدور، فنحن قاطعون بكذب مفادها حتّى في مثل اُصول الدين، ففرق بين الإمام وبين الفقيه الاعتياديّ، فالفقيه لا يجوز له الإفتاء بغير ما في الكتاب والسنّة. أمّا الإمام فمن شأنه ـ بحسب فكرة الشيعة عن الإمامة ـ أن يبيّن التفاصيل والاُمور التي لم تصلنا في الكتاب أو سنّة الرسول(صلى الله عليه وآله)،على

376


أنّنا نعلم إجمالاً بوقوع ذلك عنهم(عليهم السلام) في الاُصول والفروع؛ للتواترات الإجماليّة فيهما. إذن فيحمل الحديث على محمل التقيّة، وأنّ الإمام فرض نفسه لدى ذكره لهذا النصّ منزلة إنسان اعتياديّ كأيّ عالم آخر من العلماء، كما كان ذلك معتقد العامّة بشأنهم، فليس من حقّه أن يبيّن شيئاً ليس في كتاب الله أو سنّة الرسول(صلى الله عليه وآله).

وإن فرضنا إجمال الرواية بين المعنيين، أي: نفي الحجّيّة ونفي الصدور، فالنتيجة تتبع أخسّ المقدّمات وتكون الرواية مردّدة بين معنىً نقطع بكذبه ومعنىً لا يجري في باب الأحكام. فعلى أيّ حال لا أثر لهذه الرواية في باب الأحكام.

وقبل أن أنتقل إلى الوجه الثاني من الوجهين اللذين ذكرهما اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث التعادل والتراجيح أقول: إنّ اُستاذنا الشهيد أبدى هنا وجهاً ـ على تقدير إجمال الرواية بين المعنيين، أي: نفي الحجّيّة ونفي الصدور ـ لرفع هذا الإجمال وتفسيرها بمعنى نفي الحجّيّة، وذاك الوجه هو التمسّك بأصالة الجهة، باعتبار أنّه لو حمل على معنى نفي الصدور، لكان ذلك محمولاً على التقيّة، فأصالة الجهة تعيّن المعنى الآخر وهو نفي الحجّيّة.

وأورد اُستاذنا الشهيد هنا على ذلك بأنّ أصالة الجهة مفادها قضيّة شرطيّة، وهي: أنّ المعنى الفلانيّ إن كان مراداً استعماليّاً، فهو مراد جدّيّ، وهذه القضيّة الشرطيّة بالنسبة لمعنى نفي الصدور في المقام ساقطة قطعاً، إمّا تخصيصاً، أو تخصّصاً. والاُصول العقلائيّة عند العلم الإجماليّ بالتخصّص أو التخصيص لا تجري. نعم، تجري أصالة الجهة بلحاظ المعنى الآخر، وهو نفي الحجّيّة، ومفادها: أنّه لو كان نفي الحجّيّة مراداً استعماليّاً، فهو مراد جدّيّ، لكن صدق القضيّة الشرطيّة لا يستلزم صدق شرطها، فلا يثبت أنّ نفي الحجّيّة هو المراد، فلعلّ المراد الاستعماليّ هو نفي الصدور المحمول على التقيّة.

377

وأمّا العنوان الثاني ـ وهو عنوان مخالفة الكتاب ـ: فالروايات الواردة في الردع عمّا يخالف الكتاب يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما يكون في مقام بيان نفي الحجّيّة(1). وهذا يشمل المخالفة بالأخصّيّة


ولكن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) قد عدل في القسم الذي لم أحضره من الدورة الأخيرة عن هذا الرأي، وأفاد: أنّ أصالة الجهة منشؤها هي غلبة التطابق بين المراد الاستعماليّ والمراد الجدّيّ، وهي كما تقتضي إثبات المراد الجدّيّ عند ثبوت المراد الاستعماليّ كذلك تقتضي نفي المراد الاستعماليّ عند انتفاء المراد الجدّيّ، وحمل الكلام على معنى آخر من المعاني المحتملة. وأصالة الجهة نسبتها إلى المحورين ـ وهما المراد الاستعماليّ والمراد الجدّيّ ـ على حدّ سواء، فهي تقتضي التطابق بينهما، وليست متّجهة إلى مركز واحد وهو المراد الاستعماليّ.

الجواب الثاني: أنّنا لو سلّمنا تعارض رواية ابن أبي يعفور بما يساويها في النسبة من أدلّة الحجّيّة، أو ما تكون النسبة بينه وبينها العموم من وجه، وتساقطهما، فالمرجع بعد ذلك ليس هو أصالة عدم الحجّيّة، بل المرجع العامّ الفوقانيّ لو كان عندنا، من قبيل مفهوم آية النبأ بناءً على تماميّته.

وقد جاء في كتاب تعارض الأدلّة وجه آخر لإسقاط رواية ابن أبي يعفور بناءً على معارضتها بالتباين، أو العموم من وجه للكتاب أو السنّة القطعيّة الدالّين على حجّيّة خبر الثقة، وهو عبارة عن أنّ رواية ابن أبي يعفور تسقط عندئذ عن الحجّيّة لا بروايات الردع عمّا خالف الكتاب والسنّة، كي يرجع الكلام إلى أحد الوجوه السابقة بإسقاطها هي لنفسها عن الحجّيّة؛ إذ ما مضى: من احتمال كونها رادعة عن باقي أخبار الآحاد غير الموافقة للكتاب من دون أن تردع عن نفسها لأنّها تقرّب نحو الكتاب، غير وارد هنا؛ لأنّ هذه الرواية قد افترضناها معارضة للكتاب والسنّة القطعيّة، فلئن كان ما لا يوافق الكتاب والسنّة غير حجّة، فهي أولى بعدم الحجّيّة.

(1) راجع الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 10 و 35.

378

فضلاً عن المخالفة بالعموم من وجه، وفضلاً عن المخالفة بالتباين. والعلم الإجماليّ بورود أخبار مخالفة عنهم(عليهم السلام) لا ينافي عدم الحجّيّة، غاية الأمر أنّه في مورد العلم الإجماليّ تطبّق قوانين العلم الإجماليّ. أمّا مورد العلم التفصيليّ بالمخالف فهو خارج عن مفاد الحديث.

الثاني: ما يكون في مقام الإخبار عن عدم الصدور(1) بلا بيان نكتة في ذلك. وهذا لا يمكنه أن يشمل المخالفة بالأخصّيّة ونحوها، وإلّا لكان بنفسه معلوم الكذب؛ للعلم الإجماليّ بورود الأخبار المعارضة للكتاب عنهم(عليهم السلام) بمثل الأخصّيّة، وهذا العلم الإجماليّ كالقرينة المتّصلة؛ لأنّه علم إجماليّ عامّ، وارتكاز متشرّعيّ موجود عند الكلّ حتّى الراوي نفسه، فيصرف ظهور الحديث إلى خصوص المخالفة التباينيّة والمخالفة بالعموم من وجه، على كلام في الثاني(2).


(1) راجع المصدر السابق، ح 15. والسند ضعيف في أحد طريقيه بأبي أيّوب المدنيّ، وفي الطريق الآخر بمحمّد بن إسماعيل الذي هو في أكبر الظنّ محمّد بن إسماعيل النيسابوريّ، ولا دليل على وثاقته عدا وروده في أسانيد كامل الزيارات، وهذا عندنا غير كاف في التوثيق.

وهذا الحديث قد جعله في كتاب تعارض الأدلّة من أحاديث استنكار الصدور والتحاشي عنه دون مجرّد الإخبار بعدمه، بدعوى أنّ كلمة (لم أقله) يفهم منه عرفاً ذلك. إلّا أنّ هذا غير واضح عندي. ونصّ الحديث ما يلي: «عن أبي عبدالله(عليهم السلام) قال: خطب النبيّ(صلى الله عليه وآله) بمنى فقال: أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله».

(2) لعلّ هذا إشارة إلى أنّ الإخبار بعدم الصدور بنحو القضيّة العامّة قد يقال: إنّه يفهم منه عرفاً اعتماده على نكتة عامّة لا على الاستقراء البحت، فيأتي في هذا القسم ما سنذكره في القسم الثالث.

379

الثالث: ما دلّ على نفي صدور المخالف مع بيان نكتة ذلك: من أنّ هذا لا يناسبنا، وأنّ قولنا قول الله(1)، ونحو ذلك. وهذا لا يشمل المخالفة بالعموم من وجه، كما لا يشمل المخالفة بالعموم المطلق، فإنّ ورود ما لا يلزم من تقديمه على الكتاب عدا التخصيص والتقييد للكتاب ليس ممّا لا يناسبهم(عليهم السلام) بلا فرق بين كون ذلك بنحو الأخصّيّة أو العموم من وجه. نعم، في مورد العموم من وجه لا يساعد اللفظ على الجمع بالتخصيص، لكن على فرض التقديم لا يلزم إلّا محذور التخصيص لا التكذيب، وهو ليس بعيداً عنهم. فهذا القسم يختصّ بالمخالفة التباينيّة، بل لعلّه لا يشمل أيضاً مطلق موارد المخالفة التباينيّة، بل بعض مواردها.

إذا عرفت ذلك قلنا: بناءً على ما مضى نقله عن الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ: من أنّ روايات الباب إنّما تثبت أخصّ المضامين؛ لأنّه الذي يتركّز عليه التواتر الإجماليّ، وما عداه لا يثبت في المقام؛ لعدم إمكان الاستدلال على عدم حجّيّة خبر الواحد بخبر الواحد، يمكن القول هنا بأنّ أخصّ المضامين إنّما هو ما دلّ على عدم حجّيّة الخبر المخالف للكتاب بالمخالفة التباينيّة، ولا ضير في ذلك.

أمّا بناءً على ما مضى منّا: من إمكان الاستدلال بخبر الواحد المشمول للسيرة العقلائيّة على عدم حجّيّة أخبار اُخرى غيره، فقد يقال في المقام: إنّ هناك رواية واحدة صحيحة السند ومشمولة للسيرة العقلائيّة، وتدلّ على الردع عمّا خالف الكتاب ولا تشمل نفسها؛ لأنّها غير مخالفة للكتاب، ومفادها ليس هو الردع عمّا يخالف الكتاب مخالفة تباينيّة فحسب، بل إطلاقها يشمل المخالف بالأخصّيّة. وهي صحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «الوقوف عند الشبهة خير


(1) كأنّه إشارة إلى ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ بعد صفحات: من رواية يونس بن عبد الرحمن، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبدالله(عليه السلام).

380

من الاقتحام في الهلكة. إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه»(1). فهذه الرواية مستجمعة لجميع النكات المطلوبة في مقام إثبات عدم حجّيّة الخبر المخالف للكتاب ولو بالأخصّيّة، فهي:

أوّلاً: صحيحة السند ومشمولة للسيرة العقلائيّة.

ثانياً: أنّ مدلولها نفي الحجّيّة، لا نفي الصدور، لتكون مختصّة بمرتبة خاصّة من المخالفة، فإنّ الموجود فيها الأمر بالترك والنهي عن العمل، ويكون ذلك مساوقاً لإسقاط الحجّيّة، وليس ذلك ناظراً إلى الإخبار عن عدم المطابقة للواقع.

وثالثاً: أنّ هذه الرواية مخصوصة بخصوص باب الأحكام بقرينة ما في صدرها: من أنّ «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»، فالنسبة بين هذه الرواية والسنّة القطعيّة الدالّة على حجّيّة خبر الثقة في الأحكام هي الأخصّيّة مطلقاً لا العموم من وجه، حتّى يرد عليها الإشكال السابق في رواية ابن أبي يعفور(2).

 


(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 35، ص 86.

(2) ذكر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث التعادل والتراجيح أنّه يمكن أن يقال: إنّ عنوان (ما خالف كتاب الله) لا يختصّ بالأخبار، بل يشمل غيرها من قبيل القياس والشهرة والإجماع المنقول وغير ذلك ممّا خالف الكتاب سواء كان حجّة في نفسه أو لا. إذن فالنسبة بين هذه الرواية ودليل حجّيّة خبر الثقة هي العموم من وجه لا العموم المطلق.

وذكر (رضوان الله عليه) في علاج ذلك: أنّ كون النسبة العموم من وجه لا تمنع عن تقديم هذه الرواية؛ لأنّ هذه الرواية تبيّن المانعيّة، أي: تجعل مخالفة الكتاب مانعة عن الحجّيّة في كلّ ما تفترض حجّيّته لولا المانع، فلها نظر إلى كلّ أدلّة الحجّيّة، فتقدّم عليها

381

ورابعاً: أنّ ما مضى من إشكال شمول ردع الحديث لنفسه الذي أكملناه ببيان منّا لا يأتي هنا بعد فرض الالتفات إلى ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ: من عدم تماميّة آيتي النبأ والنفر على حجّيّة خبر الواحد، فإنّ هذا الحديث إنّما ردع عمّا يخالف الكتاب، وهو بنفسه ليس مخالفاً للكتاب(1).

إذن فهذه الرواية خير رواية في مقام إسقاط الخبر المخالف للكتاب ولو بالأخصّيّة عن الحجّيّة.

وما يدّعى: من أنّ المخالفة في نفسها لا تشمل المخالفة بالعموم والخصوص المطلق؛ لأنّ الخاصّ ليس بحسب الفهم العرفيّ معارضاً للعامّ غير صحيح، فإنّه لو


بالحكومة، من قبيل ما لو وردت رواية تدلّ على شرطيّة الطهارة أو مانعيّة الحدث في جميع العبادات، فإنّها تقدّم على إطلاق جميع أدلّة العبادات لو كانت مطلقة.

وأضاف في كتاب تعارض الأدلة علاجاً آخر، وهو: أنّ القدر المتيقّن من روايات الردع عمّا خالف الكتاب هو خبر الثقة باعتباره الفرد البارز والمتعارف والداخل في محلّ الابتلاء وقتئذ الذي كان تترقّب مخالفته للكتاب تارةً وموافقته له اُخرى، فلا يمكن تخصيصها بغير خبر الثقة، فهي بحكم الأخصّ.

أقول: لو التزمنا بأنّ دليل حجّيّة خبر الثقة لا يشمل في نفسه الخبر المخالف للكتاب بمثل التباين أو العموم من وجه ـ وإن شمل الخبر المخالف له بمثل الأخصّيّة ـ عادت النسبة بينه وبين رواية الردع عمّا خالف الكتاب عموماً من وجه، ويبقى عندئذ الجواب بالحكومة.

(1) يمكن أن يقال: إنّ هذا الحديث وإن لم يكن مخالفاً للكتاب ولكنّه مخالف للسنّة القطعيّة الدالّة على حجّيّة خبر الواحد. فبناءً على مذاق اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)من التعدّي من الكتاب إلى السنّة القطعيّة يعود هنا إشكال شمول ردع الحديث لنفسه.

382

اُريد بعدم التعارض عدم وجود التنافي بينهما في مقام الدلالة، فهذا خلاف الواقع بناءً على ما بيّنّاه في بحث الظواهر: من أنّ القرينة المنفصلة لا توجب هدم الظهور التصديقيّ. وإن اُريد بذلك عدم استحكام التنافي بحيث يوجب التساقط، بل يقدّم هذا على ذاك في مقام الحجّيّة، فهذا صحيح، إلّا أنّ هذا علاج للتعارض، وليس موجباً لنفي صدق عنوان المخالفة، فإنّ الملحوظ في المخالفة إنّما هو عالم الدلالة والظهور، والمخالفة في هذا العالم ثابتة وإن قدّم أحدهما على الآخر في مقام الحجّيّة(1).

 


(1) أفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث التعادل والتراجيح في تحقيق حال الجواب عن صحيحة جميل بأنّ مثل المخالفة بالأخصّيّة لا تعدّ مخالفة، وكذلك الجواب عنها بأنّ العلم الإجماليّ بصدور مثل المخالفة بالأخصّيّة يمنع عن الاستدلال بها على عدم حجّيّة المخالف بالأخصّيّة ونحوها: أنّ تحقيق الحال في هذين الجوابين موقوف على فهم معنى ما جاء فيها: من مخالفة الكتاب، فهل تقصد بها المخالفة لمضمون الكتاب مطلقاً، أو المخالفة لمضمون الكتاب الذي يكون حجّة لولا هذا المعارض، أو المخالفة لمضمون الكتاب التامّ فيه مقتضى الحجّيّة رغم هذا المعارض؟ فعلى الأوّل لا يتمّ شيء من الجوابين؛ لأنّ المخالفة بالقرينيّة أيضاً مخالفة، فلا يتمّ الجواب الأوّل، والعلم الإجماليّ بالصدور لا ينافي العلم الإجماليّ، فلا يتمّ الجواب الثاني. وعلى الثاني لا يتمّ الجواب الأوّل أيضاً؛ لثبوت الحجّيّة اللولائيّة في المقام، أي: لولا المعارض لكانت الآية حجّة. إذن فالحديث مخالف لمضمون الكتاب الذي يكون حجّة لولاه. وأمّا الجواب الثاني، فبالإمكان أن يقال بتماميّته؛ لأنّ العلم الإجماليّ بالتخصيص والتقييد يسقط عمومات الكتاب ومطلقاته عن الحجّيّة، ولا تعود إلى الحجّيّة إلّا بعد الحصول على المقدار المعلوم بالإجمال ضمن المخصّصات والمقيّدات، إذن فالحجّيّة اللولائيّة منثلمة في المقام، وعليه فالمخصّص في المقام ليس مخالفاً لمضمون الكتاب المتمتّع بالحجّيّة اللولائيّة، إلّا أنّ

383

والتحقيق: رغم ذلك كلّه هو الالتزام بحجّيّة الأخبار المخالفة للكتاب بالعموم والخصوص المطلق؛ وذلك لأنّ هذا الحديث مخصّص بصحيحة الراونديّ، وهي التي رواها الراونديّ بسند تامّ عن عبد الرحمن ابن أبي عبدالله قال: «قال الصادق(عليه السلام): إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه. فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه»(1).

فإنّ الظاهر من هذه الصحيحة أنّ كلّ واحد من الحديثين ـ بقطع النظر عن التعارض ـ كان حجّة، وإلّا لما كان التعارض موجباً للتحيّر، ولم تكن حاجة إلى


المظنون إنحلال هذا العلم الإجماليّ في المقام بما نعلم من تخصيصات وتقييدات قطعيّة عن طريق التواتر، أو الإجماع، أو ما يورث القطع أحياناً من مثل الشهرة، والإجماع المنقول، وبناءً على هذا لا يتمّ هذا الجواب أيضاً. وعلى الثالث يكون حال الجواب الثاني هو حاله على الاحتمال الثاني. ويكون الجواب الأوّل تامّاً؛ لأنّ حجّيّة الخبر المخالف بنحو القرينيّة تسقط الكتاب عن الحجّيّة الاقتضائيّة؛ لأنّ قرينيّة الخبر تثلم اقتضاء حجّيّة ذي القرينة.

أمّا ما هو الصحيح من هذه الاحتمالات الثلاثة، فقد كان مختار اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في بحث التعادل والتراجيح حين حضرته هو الاحتمال الأوّل، فإنّ تقييد مخالفة الكتاب بأمر زائد من فرض الحجّيّة اللولائيّة أو الاقتضائيّة بحاجة إلى مؤونة زائدة، ولكن جاء في كتاب تعارض الأدلّة ترجيح الاحتمال الثاني؛ لأنّ الأمر بطرح ما خالف الكتاب ظاهر في توجيه المكلّف نحو العمل بالكتاب، وهذا إنّما يناسب فرض حجّيّة الكتاب لولا الخبر المخالف. أمّا أخذ قيد إضافيّ وهو تماميّة مقتضى الحجّيّة رغم الخبر المخالف فبحاجة إلى إعمال مؤونة زائدة مفقودة في المقام.

(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 29، ص 84.

384

تحكيم الكتاب وأخبار العامّة ورفع التحيّر بذلك، كما هو ظاهر الصحيحة، فقددلّت هذه الصحيحة على حجّيّة الخبر المخالف للكتاب في الجملة بغضّ النظر عن خبر آخر معارض له، وهي لا تدلّ على أزيد من حجّيّة الخبر المخالف للكتاب بالأخصّيّة وما يشبهه ممّا يصلح للقرينيّة، ولا تشمل مثل المخالفة بالعموم من وجه: إمّا لأنّها قضيّة مهملة؛ إذ ليست بصدد بيان الحجّيّة حتّى يكون لها إطلاق، والمهملة في قوّة الجزئيّة، فلابدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن وهو ما ذكرناه، أو لأنّها بنفسها قضيّة جزئيّة توجد فيها قرينة على عدم إرادة مثل المخالفة بالعموم من وجه؛ وذلك لأنّ المخالف بالعموم من وجه للكتاب في نفسه غير حجّة بقطع النظر عن خبر آخر معارض له؛ إذ هو مبتلى بمعارضة الكتاب، فيسقط عن الحجّيّة ولو من باب تساقط كلا المتعارضين عن الحجّيّة، وقد قلنا: إنّ ظاهر الصحيحة أنّ كلاًّ من الحديثين لولا الآخر لكان حجّة.

ثُمّ إنّ السيرة العقلائيّة القائمة على العمل بهذا الحديث لصحّة سنده غير مردوعة بما مضى: من صحيحة جميل؛ إذ ليست هذه الصحيحة خلاف الكتاب؛ إذ لم يدلّ الكتاب على عدم حجّيّة خبر مخالف للكتاب، فكلّ من الصحيحتين حجّة، نأخذ بكلتيهما ونقيّد الاُولى بالثانية؛ لاختصاص الثانية بالمخالف بنحو القرينيّة، فيتحصّل من ذلك: أنّ كلّ خبر خالف الكتاب إن كان بنحو يصلح للقرينيّة، كالخاصّ بالنسبة للعامّ، فهو حجّة، ويقدّم على ظاهر الكتاب. وإن كان مخالفاً للكتاب بمثل العموم من وجه، فهو غير حجّة، ويطرح ويؤخذ بالكتاب، لا أنّهيتساقط هو مع الكتاب بالتعارض عن الحجّيّة(1).

 


(1) وهناك وجوه اُخرى للردّ على الاستدلال بصحيحة جميل لإسقاط الخبر المخالف للكتاب بمثل الأخصّيّة عن الحجّيّة:

الأوّل: أن يقال: إنّ المقصود بصحيحة جميل نفي الصدور لا نفي مجرّد الحجّيّة، وذلك

385


بقرينة قوله: «إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً» فكأنّه يقول: إنّ ما ليس عليه النور ليس حقّاً وصواباً. وهذا يعني نفي الصدور والصدق، لا مجرّد نفي الحجّيّة، وعليه لابدّ من حمله على مثل المخالفة التباينيّة؛ إذ لا شكّ إجمالاً في صدور المخالف بمثل الأخصّيّة عنهم(عليهم السلام).

وقد أورد اُستاذنا الشهيد في بحث التعادل والتراجيح على تفسير هذا الحديث بنفي الصدور بقرينة قوله: «إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً» بأنّ هذه العبارة لا تعني ملازمة دائميّة بين الحقّ والنور، وإنّما هي تعبير عرفيّ، حيث تعارف القول بأنّ الحقّ واضح وأنّ الكلام الصادق تبدو أماراته، وهذا لا يعني الملازمة الدائميّة بين الصدق وظهور أماراته. ويشهد لذلك قوله في صدر الحديث: «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»، فإنّ ما خالف الكتاب، أو ما لم يوافقه لو كان مقطوع الكذب، لم يكن شبهة.

الثاني: ما جاء في تعارض الأدلّة ـ الطبعة الرابعة، ص 325 ـ: من حمل المخالفة في هذا الحديث على عدم الموافقة بقرينة قوله: «إنّ لكلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً»، وجعل التفصيل في الحكم بلزوم أخذ ما يوافق الكتاب وطرح ما يخالفه من تفريعات تلك الكبرى، وبالتالي يصبح مفاد الحديث إلغاء كلّ ما لا شاهد له من الكتاب عن الحجّيّة، والذي قد يكون عرفاً بحكم إلغاء الخبر عن الحجّيّة مطلقاً، وبعد اصطدام ذلك بالسيرة المتشرّعيّة القطعيّة يحمل على مثل التقيّة.

أقول: إنّ الجواب على الوجه الأوّل بأنّ قوله: «إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً» لا يعدو أن يكون تعبيراً متعارفاً عن أنّ الحقّ يتّضح، وأنّ الصواب تبدو دلائله في أغلب الأحيان، وإلّا فما أكثر الصواب الذي يبقى غير واضح، يصلح جواباً لهذا

386

 

 


الوجه أيضاً؛ إذ لو كان هذا تعبيراً عرفيّاً من هذا القبيل ولم يكن تعبيراً منطقيّاً دقيقاً، إذن لا تؤخذ بالمعنى الدقيق لكلمة النور الذي قد يختصّ بالموافقة، بل يقال: إنّ النور له درجات، والصواب يتّسم كثيراً ببعض درجات النور الشديدة أو الضعيفة، ونفس عدم المخالفة درجة ضعيفة من النور، والموافقة درجة أقوى من النور، وعليه فهذه العبارة لا تكون قرينة على حمل المخالفة على معنى عدم الموافقة، فلعلّ المقصود إنّما هو إسقاط المخالف عن الحجّيّة؛ لكونه عارياً عن النور بتمام معنى الكلمة. وقد مضى منّا في المتن أن نقلنا عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) استظهار حمل عدم الموافقة على المخالفة، أو احتمال ذلك بدعوى أنّ الظاهر عرفاً هو تحكيم الضابط الأخصّ في الضابط الأعمّ. ولاُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث التعادل والتراجيح وجه آخر لحمل عدم الموافقة على المخالفة بعد فرض ضرورة إدخال ما لا يوافق ولا يخالف، وهو الأكثريّة الغالبة في أحد القسمين، واستبعاد خروجها من مورد نظر الحديث، وهو: أنّ ارتكازيّة حجّيّة تلك الأخبار عند المتشرّعة جيلاً بعد جيل توجب صرف العبارة إلى تفسير الموافقة بعدم المخالفةدون العكس.

الثالث: ما تقدّم فيما سبق من حمل ما اشتمل على كلا عنواني الموافقة والمخالفة على موافقة الروح العامّة للقرآن الكريم ومخالفتها. وعليه فالرواية تكون أجنبيّة عمّا نحن فيه. ولا شكّ في عدم حجّيّة خبر غير منسجم مع طبيعة تشريعات القرآن، ومزاج أحكامه العامّ؛ للقطع بعدم موافقته للواقع. وعليه فالحديث لا يدلّ على سقوط الخبر المخالف للكتاب بالعموم من وجه، بل وحتّى التباين ما لم تكن دلالة القرآن قطعيّة فضلاً عن التعارض بمثل الأخصّيّة. فما ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)هنا: من دلالة الحديثعلى عدم حجّيّة ما يخالف الكتاب بالعموم من وجه، غير صحيح، والصحيح ما جاء في تعارض الأدلّة ـ الطبعة الرابعة، ص 335 ـ: من إنكار دلالة من هذا القبيل.

387

ويبقى الكلام في أنّ الحديث المخالف للكتاب بالعموم من وجه هل يسقط عن الحجّيّة في خصوص مادّة الاجتماع، أو يسقط عن الحجّيّة مطلقاً؟

يمكن أن يتوهّم أنّه يسقط عن الحجّيّة مطلقاً؛ لأنّ ظاهر النهي عن الإذن بحديث يخالف كتاب الله هو إسقاط الحديث نفسه لا إسقاط إطلاقه، فإنّ عنوان الحديث عنوان وجدانيّ بوحدة الكلام الصادر عن المتحدّث، ولا ينحلّ إلى أحاديث متعدّدة، وهذا الأمر الواحد فرض كونه مخالفاً للكتاب بنحو العموم من وجه. لكن هذه الصحيحة لم يؤخذ فيها عنوان الحديث، وإنّما اُخذ فيها عنوان ما خالف كتاب الله وظاهره (الدلالة والكشف الذي يخالف كتاب الله)، وإنّما قلنا بشموله للأحاديث لأنّها القدر المتيقّن من هذا الميزان ولا نحتمل وروده في خصوص غير الأحاديث. والدلالة بالمقدار المخالف للكتاب إنّما هي إطلاق الحديث لا أصل الحديث، فالصحيح أنّ الساقط عن الحجّيّة إنّما هو مادّة الاجتماع.

وفي ختام الحديث نتعرّض لذكر رواية مذكورة في كتاب الكشّي، كي نبحث بعض الخصوصيّات المتعلّقة بهذه الرواية. وهي ما رواه بسند تامّ عن محمّد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن: أنّ بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر فقال: يا أبا محمّد، ما أشدّك في الحديث وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا، فما الذي يحملك على ردّ الأحاديث؟ فقال: حدّثني هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبدالله(عليه السلام)يقول: «ولا تقبلوا علينا حديثاً إلّا ما وافق القرآن والسنّة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة، فإنّ المغيرة بن سعيد ـ لعنه الله ـ دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث ما لم يحدّث بها أبي، فاتّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى وسنّة نبيّنا(صلى الله عليه وآله)، فإنّا إذا حدّثنا قلنا: قال الله ـ عزّ وجلّ ـ وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله)». قال يونس: «وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي

388

جعفر(عليه السلام)ووجدت أصحاب أبي عبدالله(عليه السلام) متوافرين، فسمعت منهم وأخذت كتبهم فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا(عليه السلام)، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبدالله(عليه السلام)، وقال لي: إنّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبدالله(عليه السلام)، لعن الله أبا الخطّاب، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا في كتب أصحاب أبي عبدالله(عليه السلام)، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن، فإنّا إذا تحدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السنّة، إنّا عن الله وعن رسوله نتحدّث، ولا نقول: قال فلان، وقال فلان، فيناقض كلامنا: إنّ كلام أوّلنا مثل كلام آخرنا، وكلام أوّلنا مصدّق لكلام آخرنا، وإذا أتاكم من يحدّثكم بخلاف ذلك، فردّوه عليه وقولوا أنت أعلم وما جئت به، فإنّ مع كلّ قول منّا حقيقة وعليه نور، فما لا حقيقة له ولا نور عليه فذلك قول الشيطان»(1).

 


(1) في سند الحديث محمّد بن عيسى بن عبيد عن يونس، ومحمّد بن عيسى بن عبيد قد وثّقه النجاشيّ، والكشّي، والفضل بن شاذان. إلّا أنّه ضعّفه الشيخ حيث قال في الفهرست: «ضعيف استثناه أبو جعفر محمّد بن عليّ بن بابويه عن رجال نوادر الحكمة، وقال: لا أروي ما يختصّ برواياته، وقيل: إنّه كان يذهب مذهب الغلاة ...»، وفي رجاله ضعّفه مرّتين، وفي الاستبصار ـ ج 3 في ذيل الحديث 568 ـ قال: «إنّ هذا الخبر مرسل منقطع، وطريقه محمّد بن عيسى بن عبيد عن يونس، وهو ضعيف، وقد استثناه أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه(رحمه الله)من جملة الرجال الذين روى عنهم صاحب نوادر الحكمة (يعني محمّد بن أحمد بن يحيى بن عمران). وقال: ما يختصّ بروايته لا أرويه، ومَن هذه صورته في الضعف لا يعترض بحديثه».

وقال النجاشيّ في ترجمة محمّد بن عيسى بن عبيد: «جليل في أصحابنا، ثقة، عين، كثير الرواية، حسن التصانيف، روى عن أبي جعفر(عليه السلام) مكاتبة ومشافهة. ذكر أبو جعفر

389


ابن بابويه عن ابن الوليد أنّه قال: ما تفرّد به محمّد بن عيسى من كتب يونس وحديثه لا يعتمد عليه، ورأيت بعض أصحابنا ينكرون هذا القول ويقولون: مَن مثل أبي جعفر محمّد بن عيسى؟!».

وقال النجاشيّ في ترجمة محمّد بن أحمد بن يحيى بن عمران: «كان ثقة في الحديث، إلّا أنّ أصحابنا قالوا كان يروي عن الضعفاء، ويعتمد المراسيل ولا يبالي عمّن أخذ، وما عليه في نفسه من مطعن في شيء، وكان محمّد بن الحسن بن الوليد يستثني من رواية محمّد بن أحمد بن يحيى ما رواه عن محمّد بن موسى الهمدانيّ، أو ما رواه عن رجل أو يقول بعض أصحابنا، أو عن محمّد بن يحيى المعاذي ... أو عن محمّد بن عيسى بن عبيد بإسناد منقطع ... قال أبو العبّاس ابن نوح: وقد أصاب شيخنا أبو جعفر محمّد بن الحسن بن الوليد في ذلك كلّه، وتبعه أبو جعفر ابن بابويه(رحمه الله) على ذلك كلّه إلّا في محمّد بن عيسى، فلا أدري ما رأيه فيه(1)؛ لأنّه كان على ظاهر العدالة والثقة».

وقال الشيخ الطوسيّ(رحمه الله) في ترجمة محمّد بن أحمد بن يحيى بن عمران بعد عدّ كتبه: «أخبرنا بجميع رواياته وكتبه ... جماعة عن محمّد بن عليّ بن الحسين، عن أبيه ومحمّد بن الحسن، عن أحمد بن إدريس ومحمّد بن يحيى، عن محمّد بن أحمد بن يحيى. وقال محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه: إلّا ما كان فيه من تخليط، وهو الذي طريقه محمّد بن موسى الهمدانيّ، أو يرويه عن رجل أو عن بعض أصحابنا ... أو عن محمّد بن عيسى بن عبيد بإسناد منقطع ينفرد به ...».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قال الشيخ المامقانيّ(رحمه الله) في تنقيح المقال: إنّ الظاهر أنّ العبارة هكذا: «ما رابه فيه» بالباء الموحّدة كي يناسب التعليل الوارد في العبارة.

390


وقال أيضاً الشيخ الطوسيّ(رحمه الله) في ترجمة يونس بن عبد الرحمن: «قال أبو جعفر ابن بابويه: سمعت ابن الوليد(رحمه الله) يقول: كتب يونس بن عبد الرحمن التي هي بالروايات كلّها صحيحة يعتمد عليها إلّا ما ينفرد به محمّد بن عيسى بن عبيد عن يونس، ولم يروه غيره، فإنّه لا يعتمد عليه ولا يفتى به».

والمتحصّل من مجموعة هذه النقول: أنّ الشيخ الطوسيّ(رحمه الله)قد ضعّف محمّد بن عيسى بن عبيد، وأنّ تضعيفه مستند إلى تضعيف الصدوق ومحمّد بن الحسن بن الوليد، بينما لم يثبت تضعيف الصدوق وابن الوليد لمحمّد بن عيسى بن عبيد، فما نقله الشيخ الطوسيّ(رحمه الله)في ترجمة يونس بن عبد الرحمن عن الصدوق عن ابن الوليد: من أنّه يقول: «كتب يونس بن عبد الرحمن التي هي بالروايات كلّها صحيحة إلّا ما ينفرد به محمّد بن عيسى بن عبيد عن يونس، ولم يروه غيره، فإنّه لا يعتمد عليه ولا يفتى به» وإن كان قد يوحي إلى الذهن بأنّ العيب في محمّد بن عيسى بن عبيد، وأنّه ضعيف أو لم تثبت وثاقته، ولكن نقل النجاشيّ(رحمه الله) في ترجمة محمّد بن أحمد بن يحيى: من قوله: «وكان محمّد بن الحسن بن الوليد يستثني من رواية محمّد بن أحمد بن يحيى ما رواه ... عن محمّد بن عيسى بن عبيد بإسناد منقطع» ظاهر في أنّ العيب المنظور لابن الوليد إنّما هو انقطاع السند، وأنّنقل محمّد بن عيسى بن عبيد ليس دليلاً على أنّ المرويّ عنه الذي قطعه وحذف ذكر اسمه ثقة.

وكذلك يظهر من نقل الشيخ الطوسيّ(رحمه الله) في ترجمة محمّد بن أحمد بن يحيى حيث قال: «... وقال محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه: إلّا ما كان فيه تخليط، وهو الذي طريقه محمّد بن موسى الهمدانيّ، أو يرويه عن رجل أو عن بعض أصحابنا ... أو عن محمّد بن عيسى بن عبيد بإسناد منقطع ينفرد به» أنّ العيب المنظور للصدوق في انقطاع

391


الإسناد وأنّ نقل محمّد بن عيسى بن عبيد عمّن حذف اسمه لا يبرّر الأخذ بالحديث.

فخلاصة نقطة الضعف في روايات محمّد بن عيسى بن عبيد ـ على ما يظهر من المنقول عن الصدوق وعن ابن الوليد ـ هي: أنّه لا يبالي عمّن يأخذ، ولا يهتمّ بحال الواسطة لا أنّه هو غير ثقة. ومن هنا يجب أن يحمل قول ابن الوليد الذي نقله الطوسيّ(رحمه الله)في ترجمة يونس بن عبد الرحمن عن الصدوق عنه: من أنّ «كتب يونس بن عبد الرحمن التي هي بالروايات كلّها صحيحة إلّا ما ينفرد به محمّد بن عيسى بن عبيد» على عدم الوثوق بمأخذ الكتب عند محمّد بن عيسى بن عبيد، لا على عدم وثاقة نفس محمّد بن عيسى.

ويؤيّد ذلك ما ذكره السيّد الخوئيّ في ترجمة محمّد بن عيسى بن عبيد: من أنّ الصدوق(رحمه الله) لم يرو في الفقيه ولا رواية واحدة عن محمّد بن عيسى عن يونس، وقد روى فيه عن محمّد بن عيسى عن غير يونس في نفس الكتاب في المشيخة(1) في نيف وثلاثين موضعاً غير ما ذكره في طريقه إليه، وهذا شاهد على أنّ الاستثناء غير مبتن على تضعيف محمّد بن عيسى بن عبيد نفسه. ونحن نقول: إنّ عدم اعتماد ابن الوليد على نقل محمّد بن عيسى لكتب يونس اجتهاد له وحجّة بشأن نفسه، أمّا نحن فنرى حجّيّة أصالة الحسّ أو ما يقرب من الحسّ في النقل.

على أنّ الرواية التي هي محلّ الكلام فعلاً لم ينقلها محمّد بن عيسى عن كتب يونس، بل صرّح بأنّه كان حاضراً مجلس يونس وسمع كلامه مباشرة، فاحتمال الاعتماد على واسطة غير ثقة لا يرد في المقام. نعم، من المحتمل أن يكون تضعيف الصدوق وابن الوليد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الظاهر (وفي المشيخة).

392

والإنصاف أنّ من أصدق المصاديق للكلام الذي عليه نور هو هذه الرواية المباركة. وذكرنا هذه الرواية هنا للبحث عن جهات ثلاث:

الجهة الاُولى: أنّه قد يستشكل في المقام بلحاظ هذه الرواية الصحيحة سنداً، الواضحة دلالة، المخبرة عن وجود دسّ في كتب أصحاب أبي عبدالله(عليه السلام)وأصحاب الباقر(عليه السلام)، فهذا يولّد العلم الإجماليّ بوقوع التحريف والتبديل والدسّ في الروايات المأخوذة من تلك الكتب، فتسقط تمام تلك الروايات عن الحجّيّة. ويؤكّد هذا العلم الإجماليّ ما في ذيل الحديث: من إنكار الرضا(عليه السلام) روايات كثيرة ممّا أخذها يونس من اُصول الأصحاب.

ولا يقال: إنّ هذا الخبر يعارض أخبار أصحاب تلك الاُصول، كي يقال: ما هو المبرّر لتقديم هذا الخبر على تلك الأخبار؟ فإنّ هذا الخبر لا يكذّب زرارة وعمّار الساباطيّ وغيرهما، كي يقع التعارض بين خبره وخبرهم، وإنّما ينصّ هذا الخبر على أنّه دسّت في كتبهم روايات كاذبة(1). فما هو المخلص من ناحية هذا العلم الإجماليّ؟

 


لرواية محمّد بن عيسى بن عبيد عن يونس بنكتة صغر سنّة عند السماع، أو التشكيك في أصل السماع وقوّة احتمال الإرسال، أو الجزم به؛ لأنّ محمّد بن عيسى بن عبيد يروي عن الجواد(عليه السلام)، ويونس بن عبد الرحمن من أقدم أصحاب الرضا(عليه السلام)بحيث كان أدرك الصادق(عليه السلام) بين الصفا والمروة، ولكن لم يرو عنه. وعليه فلا يختصّ التضعيف بنقله لكتب يونس. وعلى أيّ حال، فالتشكيك في أصل السماع في المقام غير وارد؛ لتصريحه بأنّه كان حاضراً وسمع كلامه مباشرة. وقد روى محمّد بن عيسى عن جماعة قد أدركوا الصادق(عليه السلام) غير يونس، وصغر سنّه عند تحمّل الخبر غير مضرّ بعد ما كان عند الأداء رشيداً ثقة.

(1) على أنّه يكفي العلم الإجماليّ بكذب هذا الخبر أو كذب بعض تلك الأخبار.

393

المخلص من هذا العلم الإجماليّ: أنّ حدود هذا الوضع والدسّ غير معلومة، ونحن نعرف أو نطمئنّ أنّ اُصول الأصحاب كانت مكتوبة في نسخ متعدّدة، وأنّ كثيراً من الشيوخ كانوا يروون تلك الأخبار طبقة بعد طبقة عن الطبقة السابقة فتتعدّد النسخ لا محالة، ولا أقلّ من احتمال ذلك، ومقتضى العادة أنّ الدسّاس مهما يكن نافذاً ببصره وخبثه لا يتّفق له أن يدسّ في تمام النسخ، وإنّما تتّفق له السيطرة على بعض النسخ عن طريق الاستعارة أو طريق آخر فيدسّ فيها، وعليه فلسنا نعلم أنّ النسخ التي انتهى أمرها إلى المشايخ الثلاثة ـ رضوان الله عليهم ـ كانت من النسخ المدسوسة. وهذا الحديث لم يبيّن إلّا قضيّة مهملة لا إطلاق فيها، فدليل الحجّيّة يشمل الطرق الصحيحة لهم ـ رضوان الله عليهم ـ إلى تلك الاُصول؛ لاحتمال مطابقة تلك النسخ للواقع بأن لم يجد الدسّ من أوّل الأمر إليها سبيلاً، أو أنّها طهّرت من الدسّ بالتدريج وتطبيق نسخة على نسخة، وإذا جاء هذا الاحتمال ـ حتّى لو لم يصل إلى مستوى الظنّ ـ كفى في شمول دليل الحجّيّة لتلك الطرق، ولا يبقى للعلم الإجماليّ المذكور أثر في المقام.

الجهة الثانية: أنّه قد يقال في المقام: لو تمّ الاستدلال ببعض الروايات السابقة على تحكيم الكتاب في الروايات بمعنى إسقاط ما يخالف الكتاب بمثل العموم من وجه من دون أن يتعارضا ويتساقطا، فظاهر هذه الرواية يخالف ذلك في مورد العلم بعدم الدسّ؛ لأنّ ظاهرها أنّ تحكيم الكتاب إنّما هو بلحاظ الدسّ؛ إذ علّل ذلك بالدسّ، فلو علمنا في حديث مّا أنّه قد صدر حقّاً عن هذا الثقة وليس مدسوساً وموضوعاً عليه لم يصحّ تحكيم الكتاب بالنسبة إليه.

والتحقيق: أنّ التحكيم الذي جعله في هذه الرواية في طول الدسّ غير التحكيم الذي قد يفرض مسقطاً لما يخالف الكتاب بمثل العموم من وجه، فالثاني عبارة عن جعل المخالفة للكتاب موجبة لإسقاط الحديث ومانعة عن حجّيّته، والأوّل عبارة عن تحكيم الموافقة للكتاب في طول الدسّ، وهذا يعني في الحقيقة أنّ

394

الخبر في طول الدسّ سقط عن الحجّيّة ولم يبق مبرّر للعمل به في نفسه، فلا يجوز العمل به إلّا إذا كان موافقاً للكتاب، كي يكون العمل به في الحقيقة عملاً بالكتاب.

الجهة الثالثة: أنّ ما ذكرناه من خلوّ النسخ التي انتهى أمرها إلى الشيخ والصدوق والكلينيّ(رحمهم الله) عن الدسّ إنّما كان صرف احتمال، وهو يكفي في مقام الحجّيّة، ولسنا قاطعين بخلوّها عن الدسّ، فمن المحتمل تسرّب هذا الدسّ إلى الكتب الأربعة وإلى المصادر الاُخرى، وهذا الاحتمال مع التصريح بأصل الدسّ من قِبَل الأئمّة(عليهم السلام)بنحو الإجمال يكفي لنا في مقام دفع كثير من الإشكالات التي قد تورد بلحاظ كثير من مضامين الروايات التي قد تكون منافية لبعض المسلّمات العقليّة أو غير العقليّة. فيقال: كيف يصدر عن الأئمّة(عليهم السلام) مثل هذا الكلام؟ فنقول في مقام الجواب: إنّ الأئمّة الذين ينسب إليهم مثل هذا الكلام صرّحوا بأنّه قد دسّت علينا أخبار كثيرة، فلنفرض مثلاً: أنّه وردت رواية صحيحة تدلّ على أنّ كرة الأرض واقفة على الثور، والآن نعلم بالحسّ والوجدان، أو ما يقرب من ذلك بعدم صحّة شيء من هذا القبيل، لكنّنا لا نقع في ضيق عن مثل هذا الحديث وأشباهه؛ إذ بعد تصريحهم(عليهم السلام) بالدسّ عليهم يكون لإبداء احتمال الدسّ في مثل هذه الروايات باب واسع وليس مجرّد احتمال ابتدائيّ، وإنّما هو احتمال مستند إلى تصريحاتهم عليهم أفضل الصلاة والسلام. وهذا باب من أبواب الدفاع عن الدين.

 

3 ـ دعوى التمسّك بالإجماع:

وأمّا الإجماع: فقد نسب إلى السيّد المرتضى(رحمه الله) دعوى الإجماع على عدم حجّيّة خبر الواحد، بل ذكر ـ على ما نسب إليه ـ: أنّ الأخبار الآحاد من المعلوم ضرورة من مذهبنا وحال الطائفة عدم جواز العمل بها حتّى أنّ شأنها بالنسبة للطائفة شأن القياس بالنسبة لهم.

395

ويرد على الاستدلال بهذا الإجماع المنقول في كلام السيّد(قدس سره) وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ من المطمئنّ به أنّ ظاهر كلام السيّد(قدس سره) ليس مراداً له، فشيخ الطائفة(رحمه الله) قد نقل الإجماع على حجّيّة خبر الواحد، وليس مقصودي بيان أنّ هذين إجماعان منقولان متعارضان ومتساقطان(1)، وإنّما المقصود بيان القرائن التي توجب الاطمئنان بعدم إرادة السيّد ظاهر كلامه، ففرض اختلاف شخصين في دعوى الإجماع على أمرين متناقضين في مسألة واحدة لا يتصوّر إلّا بأحد وجوه:

الأوّل: أن يفرض أنّ ناقل كلّ واحد من الإجماعين يقصد نقل آراء دائرة معيّنة من الفقهاء وليس كلّهم، مع كفاية ذلك في نظره للقطع برأي المعصوم، فهو يسمّي اتّفاق ثلّة من الفقهاء على رأي اتّفاقاً كاشفاً عن رأي المعصوم بالإجماع.

وهذا الوجه غير محتمل بشأن هذين العلمين فيما نحن فيه؛ إذ كلّ منهما قد صرّح بأنّ الطائفة بتمامها قد انعقد بناؤهم على ذلك.

الثاني: أن يفرض أنّ كلّ واحد من ناقلي الإجماع قد اتّصل بدائرة معيّنة من الفقهاء، وحدس موافقة الباقين لمن رأى أقوالهم فادّعى الإجماع.


(1) والتساقط أيضاً جواب كاف في المقام. وقد نقل عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في القسم الذي لم أحضره في الدورة الأخيرة التمسّك بذلك كوجه من وجوه إبطال الاستدلال بإجماع السيّد المرتضى(رحمه الله).

أقول: إنّ توجيه هذا الوجه يكون بأن يقال: إنّ نقلي الإجماع يتعارضان ويتساقطان، ونرجع إلى العامّ الفوقانيّ وهو الروايات الدالّة بالإطلاق على حجّيّة خبر الثقة، فليس ذاك الإطلاق طرفاً للمعارضة مع هذين النقلين كي يتساقط معهما وينحصر ما يثبت بتلك الروايات بخصوص التقليد؛ لسقوط إطلاقها الدالّ على حجّيّة خبر الواحد بالتعارض الثلاثي الأطراف؛ لأنّ العامّ الفوقانيّ يفترض طرفاً في عرض مخصّصه المبتلى بالمعارض.

396

وهذا أيضاً غير محتمل في المقام، فإنّه إنّما يحتمل إذا كان الناقلان متباعدين زماناً أو مكاناً، والسيّد والشيخ(رحمهما الله) كانا متعاصرين ومتعاشرين، وكان الشيخ تلميذاً للسيّد، وليس من التلامذة المتأخّرين، بل هو من الطبقة المتقدّمة، فقد أدرك اُستاذ السيّد، أعني: الشيخ المفيد، وتتلمذا عليه. إذن قد سمع من الشيخ المفيد ومعاصريه كما سمع السيّد المرتضى، فكلّ منهما متّصل بنفس الدائرة التي اتّصل بها الآخر، فلا يوجد بشأنهما هذا الاحتمال.

الثالث: أن يفرض التسامح في مقام النقل والتهاون وعدم الضبط.

ومن الواضح أنّ هذا الاحتمال في نفسه ساقط بالنسبة لمثل هذين الرجلين الجليلين العدلين.

فنستكشف من ذلك كلّه ـ ولو بنحو الاطمئنان ـ أنّ أحدهما جاء كلامه على خلاف ظاهره، والظاهر أنّ ذاك هو السيّد المرتضى لا الشيخ الطوسيّ(قدس سرهما)؛ وذلك لأنّه:

أوّلاً: يحتمل في كلام السيّد(رحمه الله) التقيّة، بأن كان مقصوده نفي الحجّيّة عن أخبار السنّة، لكنّه ذكر ذلك بصيغة عامّة مراعاة للتقيّة وللظروف الخارجيّة وقتئذ، ولا يحتمل في كلام الشيخ الطوسيّ التقيّة؛ إذ هو صرّح بالفرق بين أخبار الطائفة وغيرهم، وقال بأنّ الطائفة أجمعت على حجّيّة أخبار الثقات من الشيعة دون رواة الفرق الاُخرى.

وثانياً: أنّ الظاهر أنّ الشيخ الطوسيّ(رحمه الله) بنفسه فسّر كلام السيّد(قدس سره) بما ذكرناه، حيث ذكر في العدّة بعد دعوى الإجماع على حجّيّة خبر الواحد: (فإن قيل: أليس شيوخكم لا تزال يناظرون خصومهم في أنّ خبر الواحد لا يعمل به ويدفعونهم عن صحّة ذلك، حتّى أنّ منهم مَن يقول: لا يجوز ذلك عقلاً، ومنهم مَن يقول: لا يجوز ذلك؛ لأنّ السمع لم يرد به، وما رأينا أحداً منهم تكلّم في جواز ذلك، ولا

397

صنّف فيه كتاباً ولا أملى فيه مسألة، فكيف تدّعون أنتم خلاف ذلك؟! قيل له: الذين أشرت إليهم من المنكرين لأخبار الآحاد إنّما كلّموا مَن خالفهم في الاعتقاد ودفعوهم عن وجوب العمل بما يروونه من الأخبار المتضمّنة الأحكام التي يروون هم خلافها، وذلك صحيح على ما قدّمناه، ولم نجدهم اختلفوا فيما بينهم، وأنكر بعضهم على بعض بما يروونه، إلّا مسائل دلّ الدليل الموجب للعلم على صحّتها، فإذا خالفوهم فيها، أنكروا عليهم؛ لمكان الأدلّة الموجبة للعلم والأخبار المتواترة بخلافه.

فأمّا مَن أحال ذلك عقلاً، فقد دللنا فيما مضى على بطلان قوله، وبيّنّا أنّ ذلك جائز، فمن أنكره كان محجوجاً بذلك ...)(1).

والظاهر: أنّ مقصوده من شيخه الذي يقول بعدم حجّيّة خبر الواحد لأنّ السمع لم يرد به هو السيّد المرتضى(رحمه الله)، فقد فسّر ذلك بما أشرنا إليه: من احتمال إرادة مخاصمة العامّة بذلك. ولا ينبغي أن يحمل ذلك على كونه تفسيراً اجتهاديّاً، فإنّه تفسير تلميذ لكلام اُستاذه بعد طول معاشرته وخبرته، وهذه المسألة كانت محلاًّ للابتلاء في تمام أبواب الفقه، وليست هي مسألة زكاة مثلاً، أو أيّ مسألة اُخرى مرتبطة بكتاب آخر من كتب الفقه فقط حتّى يقال: لعلّ الشيخ لم يدرس على السيّد ذاك الكتاب، فحجّيّة خبر الواحد مسألة يكثر الابتلاء بها في كلّ أبواب الفقه من أوّلها إلى آخرها، فأيّ مقدار نفترض أنّه درس على اُستاذه لابدّ أنّه قد عرف ذوقه في مسألة خبر الواحد، وبعد الجزم بذلك يكون تفسيره حجّة في المقام في الكشف عن مراد السيّد. وبعد مثل هذه التفصيلات يحصل لنا الاطمئنان بأنّ مراد السيّد المرتضى(رحمه الله)ليس هو ظاهر كلامه، فلم تثبت لدينا دعوى الإجماع على عدم حجّيّة خبر الواحد.


(1) عدّة الاُصول، ج 1، ص 339 و340.