224

ثان لها فتدلّ على عدم حجّيّته، وهذا في صالح عدم حجّيّة باقي ظهورات الكتاب، وهذا ظهور ثالث فتدلّ أيضاً على عدم حجّيّته، وهذا ظهور رابع لها في صالح حجّيّة باقي ظهورات الكتاب، وهكذا إلى ما لا نهاية له. فللآية ظهورات لا متناهية، والأفراد منها في صالح عدم حجّيّة ظواهر الكتاب، والأزواج منها في صالح حجّيّتها، ولا يلزم من حجّيّة أيّ واحد من تلك الظهورات عدم حجّيّته، وإنّما يلزم منه عدم حجّيّة الظهور السابق عليه المردوع عنه بهذا الظهور اللاحق، وبالنتيجة تسقط هذه الآية عن الحجّيّة وتبقى باقي ظهورات الكتاب ثابتة على حجّيّتها. وذلك لأحد وجوه ثلاثة:

الأوّل: إنّ العرف لا يرى محصّلاً لكلام ينحلّ إلى ظهورات لا متناهية يردع كلّ واحد منها عمّا قبله، فيصبح هذا الكلام مجملاً ليس له ظهور في الردع عن باقي ظهورات الكتاب.

الثاني: إنّنا لو غضضنا النظر عمّا ذكرناه من إجمال الآية قلنا: إنّ لدينا سلسلة من الظهورات اللامتناهية، أوّلها ظهورات سائر الآيات غير هذه الآية الكريمة، وهي مردوعة بظهور هذه الآية المردوع بظهور آخر لها، وهكذا إلى ما لا نهاية له. والسيرة العقلائيّة قائمة على حجّيّة أيّ ظهور من الظهورات في حدّ ذاته، أي: أنّ المرتكز عند العقلاء هو العمل بكلّ ظهور لم يردعهم رادع عن مرتكزاتهم. ولا يمكن إثبات حجّيّة كلّ هذه الظهورات بالفعل بالسيرة؛ إذ حجّيّة الظهور الرادع يستحيل أن تجتمع مع حجّيّة الظهور المردوع عنه، ولو كانت الظهورات متناهية لكانت الحجّيّة تنصبّ على آخر السلسلة بوصفه ظهوراً لا رادع عنه؛ إذ هو في ذاته ولو خُلّي وطبعه حجّة، والمفروض عدم رادع عنه، والذي قبله وإن كان أيضاً حجّة لو خلّي وطبعه لكنّه مردوع عنه بالظهور الأخير، ولكن المفروض في المقام أنّ الظهورات ليست متناهية، عندئذ تنصبّ الحجّيّة على أوّل السلسلة، بنكتة أنّ

225

فرض الحجّيّة الفعليّة لأوّل السلسلة ـ وهو باقي ظهورات الآيات غير هذه الآية ـلا يعني تعبّداً لنا بما هو خلاف طبع العقلاء، وإنّما يعني سقوط الظهور الثاني عن الحجّيّة بالقطع بكذبه، بينما فرض الحجّيّة الفعليّة للظهور الثاني يعني التعبّد بعدم حجّيّة الظهور الأوّل، أي: التعبّد بما هو خلاف طبع العقلاء. فدوران الأمر بين هذين الفرضين أوجب فعليّة تأثير الارتكاز العقلائيّ على حجّيّة أوّل السلسلة بعد ما لم يكن بالإمكان استقرار الارتكاز على حجّيّة كلّ ما في السلسلة.

الثالث: إنّ ظهورات هذه الآية متكاذبة فيما بينها، فإنّ تنافيها في الحجّيّة الفعليّة يؤدّي إلى تكاذبها، فمثلاً الظهور الأوّل لها يدلّ على عدم حجّيّة ظهور باقي الآيات. وهذا السلب مع فرض سلب حجّيّة نفس ما يظهر من هذه الآية من السلب لغو(1)، فنقطع بكذب أحد السلبين، وهذا بخلاف باقي ظهورات الآيات، فلا تكاذب بينها وبين ظهور هذه الآية الرادع عنها؛ إذ من الممكن أن تكون تلك الظهورات مطابقة للواقع، ومع ذلك سلبت الحجّيّة عنها. إذن فظهورات هذه الآية تتساقط بالتعارض والتكاذب، ويبقى باقي ظهورات الكتاب حجّة.

وإن فرض الثاني ـ أي: أنّ هذه الآية ردعت عن الآيات الظاهرة لا عن ظهورات الآيات (ولعلّ هذا هو الظاهر من الآية بعد فرض تسليم كونها بصدد الردع عن الحجّيّة) ـ: فعندئذ لا تنحلّ هذه الآية إلى قضايا لا متناهية؛ لأنّ عدد الآيات الظاهرة متناه لا محالة، فهذه الآية تدلّ على عدم حجّيّة باقي الآيات


(1) لا يخفى أن كلّ سلب بالنسبة لما بعده من السلب حكم واقعيّ بالنسبة للحكم الظاهريّ، فيجمع بينهما بما يجمع بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ من دون تكاذب. ودعوى اللغويّة تكون كدعوى لغويّة الحكم الواقعيّ الذي نفاه الحكم الظاهريّ، ولو تمّت لسرت إلى باقي ظهورات آيات الأحكام فيقال: إنّها تلغو بسلب الحجّيّة عن الظهورات الدالّة عليها.

226

الظاهرة، ولكن لا تردع عن حجّيّة نفسها؛ لما عرفت: من استحالة ذلك، وحينئذ إن ادّعينا العلم بعدم الفرق بين آية وآية في حجّيّة الظهور بطل ردع الآية عن حجّيّة باقي الآيات الظاهرة أيضاً؛ لاستلزام ذلك المحال الذي عرفناه، وإن لم ندّع ذلك ـ وهو الذي ينبغي ـ تمّ مقصود الأخباريّ من الاستدلال بعدم حجّيّة ظهورات الكتاب بهذه الآية.

وهذا تمام الكلام فيما لو نهجنا المنهج الذي سلكه الأصحاب في المقام.

والتحقيق: أنّ هذا المنهج أساساً غير صحيح، فإنّنا لسنا بإزاء بحث منطقي نتكلّم فيه عن شمول اللفظ لنفسه وعدمه، وإنّما نحن بإزاء كلام عرفيّ لا يشمل نفسه بحسب الظهور العرفيّ. ولا أقصد بذلك أنّ كلّ لفظ يشمل نفسه بحسب البحث المنطقي لا يشمل نفسه بحسب الظهور العرفيّ، فلا بأس بالقول بشموله لنفسه عرفاً ما لم تكن قرينة على الخلاف، فقولنا مثلاً: (الكلمة لفظ) شامل للفظ (الكلمة) بلا إشكال، وإنّما نقول فيما نحن فيه بعدم شمول الآية لنفسها للقرينة؛ لأنّ الآية ـ بحسب الفرض ـ ظاهرة في أنّها بصدد الردع عن اتّباع المتشابهات، وتركيز هذا القانون بين المتشرّعة، وهو ترك العمل بالآيات المتشابهة، وهذا بنفسه قرينة على عدم شمولها لنفسها؛ إذ على فرض شمولها لنفسها لا يتحقّق ما هو الغرض منها: من الردع عن اتّباع المتشابهات.

وحينئذ إن ادّعينا القطع بعدم الفرق بين آية وآية في حجّيّة الظهور وعدمها بطل دليل الأخباريّ؛ لما مضى: من استحالة ردعها عن نفسها، وإلّا تمّ دليل الأخباريّ بناءً على شمول المتشابهات للظواهر.

هذا كلّه بناءً على تسليم أصل دلالة الآية الشريفة على الردع عن العمل بالمتشابهات.

ولكن الصحيح: أنّ هذه الآية ليست بصدد الردع عن العمل بالمتشابهات أصلاً. قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ

227

وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّاَ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلّاَ أُوْلُوا الألْبَاب﴾(1).

وهذه الآية ـ كما ترى ـ لا تدلّ على أكثر من عدم جواز الاقتصار على العمل بالمتشابهات ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وقطع صلتها بالمحكمات رغم أنّها اُمّ الكتاب، كما كان ذلك عمل المشاغبين في صدر الإسلام، ولازال عملهم إلى يومنا هذا. وليس الشيء المذموم في هذه الآية هو اتّباع المتشابهات في ضوء المحكمات، والاعتراف بأنّها اُمّ الكتاب، ومن دون قطع الصلة بين المتشابهات والمحكمات. وبتعبير آخر: إنّ الآية الشريفة لم تنه عن اتّباع المتشابهات بلسان (لا تتّبع المتشابهات) مثلاً، وإنّما جاءت بلسان التخصيص بعد القسمة كأن يقول أحد: (إنّ كتابي هذا ينقسم إلى قسمين منطق وحكمة، فالجالسون في الغرفة الفلانيّة درسوا المنطق). وهذا ظاهر في أنّ الجالسين في تلك الغرفة درسوا المنطق فقط؛ لأنّ التخصيص بعد القسمة يعطي عرفاً معنى أنّ مَن خصّص به أحد القسمين مقتصر على ذاك القسم. والآية المباركة من هذا القبيل، حيث قسّم الكتاب إلى قسمين: آيات محكمات واُخر متشابهات، ثُمّ ذكر أنّ الذين في قلوبهم زيغ يتّبعون أحد القسمين وهو المتشابهات، وهذا يعني أنّهم يقتصرون على العمل بالمتشابهات. ومن الواضح عدم جواز العمل بالمتشابهات حتّى مع فرض شمولها للظواهر لا على ضوء المحكمات والنصوص، فالعمل بالظواهر يجب أن يكون بعد مدارسة النصوص والمحكمات التي يحتمل قرينيّتها لفهم المقصود من تلك الظواهر، أو أنّ أصل التبعيض في الدين والعمل بقسم دون قسم أيضاً غير جائز.

فذمّ مثل هذه الطريقة التبعيضيّة لا يدلّ بوجه من الوجوه على ذمّ اتّباع المتشابه


(1) سورة 3 آل عمران، الآية: 7.

228

المقرون باتّباع المحكم وعلى ضوئه.

وهنا بحث آخر في مقام النقاش في الاستدلال بالآية الكريمة لعدم حجّيّة ظواهر الكتاب، وهو أنّه ما معنى المتشابه؟ فهم بعد أن تسالموا على أنّ المتشابه هو الكلام الذي له عدّة معان بعضها يشبه بعضاً اختلفوا في أنّ هذا الشبه الموجود بين المعاني هل هو الشبه في أصل علاقة تلك المعاني باللفظ حتّى تشمل كلمة المتشابه الظواهر، أو هو الشبه في درجة العلاقة باللفظ فلا تشمل الظواهر؛ لأنّ درجة علاقة المعنى الظاهر باللفظ أشدّ من المعاني الاُخرى، وليست المعاني متشابهة في درجة العلاقة باللفظ.

أقول: إنّنا حتّى إذا قلنا: إنّ درجة الشبه هو أصل علاقة المعنى باللفظ، فكلمة ﴿ابْتِغَاء تَأْوِيلِه﴾ (بناء على ما فسّروا به التأويل من حمل اللفظ على معنى غير قواعد اللغة وقواعد اللسان) قرينة على أنّه لا يقصد باتّباع المتشابه ما يشمل اتّباع الظاهر، فحتّى لو كان لكلمة المتشابه إطلاق يشمل الظاهر فهذا الإطلاق مقيّد بكلمة ﴿ابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ﴾ .

هذا كلّه بحسب ما تسالموا عليه: من أنّ المتشابه في الآية عبارة عن اللفظ المتشابه المعاني، والتأويل عبارة عن حمل اللفظ على غير ما تقتضيه قواعد اللغة.

إلّا أنّ هذا ممّا لا نسلّم به. وأوّل مَن ذكر أنّ المراد من التأويل هنا غير التأويل بالمعنى المصطلح هو ابن تيميّة، حيث ذكر: أنّ المراد بالتأويل في الآية المباركة ليس هو التأويل بالمعنى المصطلح، بل هو التأويل بمعنى الأوْل وما يرجع إليه الشيء ويؤوْل إليه. واستدلّ(1) على ذلك باستقراء آيات اُخرى جاءت فيها كلمة


(1) الذي يبدو ممّا هو منقول في تفسير المنار أنّ هذا الاستدلال ليس لابن تيميّة، وإنّما هو لمؤلّف تفسير المنار (محمّد رشيد رضا). أمّا ما ذكره ابن تيميّة فهو إبطال إرادة

229

التأويل، وأثبت أنّ التأويل فيها جاء بمعنى ما يؤوْل إليه.

 


معنيين آخرين من كلمة التأويل في المقام، لينحصر المقصود في إرادة معنى الأوْل والرجوع. أمّا المعنيان الآخران فأحدهما التأويل بمعنى التفسير، والثاني التأويل بمعنى صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح. ويقول بالنسبة للمعنى الأوّل بأنّه ليس مقصوداً في المقام، وليس فهم المتشابه من القرآن محصوراً بالله تعالى مثلاً؛ لأنّ القرآن نزل نوراً وهدىً وشفاءً للبشريّة، واُمرنا بتدبّره وتعقّله، ويذكر لذلك بعض الشواهد. ويقول بالنسبة للمعنى الثاني: إنّه لا يمكن صرف اللفظ في الآية الكريمة إليه؛ لأنّ هذا المعنى لم يكن بعد قد عرف في عهد الصحابة، بل ولا التابعين، بل ولا الأئمّة الأربعة، ولا كان التكلّم بهذا الاصطلاح معروفاً في القرون الثلاثة، بل ولا علمت أحداً منهم خصّ لفظ التأويل بهذا. راجع تفسير المنار، ج 3، ص 172 ـ 196.

فائدة: من الطريف جواب جدليّ على استدلال الأخباريّين بالآية المباركة نقل عن الدورة الأخيرة لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، وهو: أنّه بناءً على ما التزموا به من قطعيّة الكتب الأربعة، ومن فتح باب التمسّك بالروايات في تأويل القرآن مهما كانت غريبة ومهما كان السند ضعيفاً يقال لهم: قد روي في الكافي عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله(عليه السلام): «في قول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب﴾ قال: أمير المؤمنين والأئمّة(عليهم السلام) ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ قال: فلان وفلان وفلان، ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ أصحابهم وأهل ولايتهم، ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّاَ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم﴾ أمير المؤمنين والأئمّة(عليهم السلام)»(1).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير البرهان، ج 1، ص 270. والكافي، ج 1، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية، ح 14، ص 414 و415 بحسب الطبعة الجديدة، إلّا أنّه جاء في الطبعة الجديدة: (فلان وفلان)، ولعلّ كلمة (فلان) الثالثة ساقطة عن الطبعة.

230

والتحقيق: أنّ هذا الرجل وإن أصاب في المدّعى ولكنّه أخطأ في الدليل، فإنّ ورود التأويل في آيات اُخرى بهذا المعنى يكون منشأً لإمكان إرادة المعنى بهذا اللفظ لا تعيّن إرادته به، فيحتمل ذلك، ويحتمل وروده بالمعنى المصطلح الذي استعملت فيه كلمة (التأويل) في عدّة من النصوص والأخبار المقاربة لعهد القرآن الكريم، فغاية ما ينتج من هذا الاستقراء هي صيرورة التأويل في هذه الآية مجملاً لنا بغضّ النظر عن قرينة متّصلة، أو منفصلة تعيّن لنا المراد منها.

أمّا ما نثبت به نحن نفس المدّعى فهو وجود قرينة في نفس الآية المباركة على المعنى الذي ذكره، وهي فرض الاتّباع في قوله: ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾، فإنّ فرض اتّباع كلام هو فرض الأخذ بمدلوله المتعيّن، فإنّ الاتّباع بقول مطلق في نظر العرف يعني الأخذ بالمعنى المفهوم من الكلام لا الأخذ بأحد معنيين متساويين للكلام بلاقرينة. فمثلاً ماذا يفهم من الأوامر التي وردت في التمسّك بالكتاب والسنّة واتّباعها؟ هل يتوهّم أحد شمولها لحمل اللفظ على أحد معانيها المشتركة؟! إذن فمعنى اتّباع المتشابه هو اتّباع ما يظهر من المتشابه، واتّباع الظهور ليس تأويلاً بالمعنى المصطلح، فيتعيّن أن يكون المراد بالتأويل هنا الأوْل والرجوع.

يبقى الكلام في أنّ هذا الأوْل والرجوع ماذا يراد منه؟ والتحقيق: أنّ الآية الكريمة قسّمت الآيات إلى محكمات ومتشابهات، وليس المقصود بالمتشابه كون اللفظ متشابه المعنى بأن تكون للّفظ معان متعدّدة متشابهة في علاقتها باللفظ، أو في مقدار علاقتها به، بل المقصود به كون المعنى متشابهاً، أي: مجمل الحقيقة غير معلوم الحدود بحسب عالم التطبيق، وتصوّر ذاك المعنى بتصوّر مصداقه. فمثلاً: (استواء الرحمن على العرش) ليس لفظاً متشابه المعنى، لكن معناه بحسب التقريب إلى الذهن لا يخلو من غموض وإبهام، ولا يمكن تصوّر المصداق المناسب منه له تعالى، وما يؤوْل إليه المعنى من حقيقة الواقع والمصداق المتحقّق

231

بحسب الخارج، وهذا بخلاف الآيات المحكمة، فإنّها محدّدة المعنى سهلة التصوّر بحسب عالم التطبيق. والخلاصة: أنّ المقصود بالتأويل هو الأوْل والرجوع وما يؤوْل إليه المعنى في عالم التطبيق والمصداق. والمقصود بالمتشابه هو المتشابه من حيث المعنى ولا يمكن اتّباعه. والمراد بالمحكم ـ بقرينة تقابله للمتشابه ـ هو المحكم بلحاظ ما يؤوْل إليه المعنى في عالم المصداق وتجسيد المعنى لا بلحاظ المعنى.

وبما ذكرناه أيضاً يبطل تفسير التأويل بمعنى غامض وخفيّ بالنسبة لكلا قسمي الكتاب المحكمات والمتشابهات، وهو دعوى أنّ التأويل يكون بمعنى الوجود الجمعيّ للقرآن الذي اُشير إليه في قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾، حيث فرض إحكاماً ثُمّ تفصيلاً، فاستظهر من تلك الآية أنّ هناك وجودين للقرآن: وجوداً جمعيّاً ووجوداً تفصيليّاً، فالوجود التفصيليّ هو هذا القرآن الموجود بأيدينا، والوجود الجمعيّ هو تأويل هذا القرآن.

أقول: هذا المطلب لا يحتمل في هذه الآية؛ إذ إنّنا نتسائل ما هي الجهة التي بلحاظها فرضت الآية المتشابهة متشابهة؟ هل هي جهة المعنى، أو جهة التأويل؟ إن قلتم: إنّها جهة المعنى لزم أن تكون الآية المتشابهة متشابهة المعنى، وقد فرغنا عن أنّ المقصود هو التشابه بالأوْل لا بالمعنى. وإن قلتم: إنّها جهة التأويل لزم أن تكون الآيات المحكمة محكمة التأويل، بينما هي غير محكمة التأويل بناءً على تفسير التأويل بذاك الوجود الجمعيّ، فإنّ الوجود الجمعيّ للقرآن بتمامه متشابه، وممّا لا يمسّه إلّا المطهّرون مثلاً(1).


(1) كأنّ هذا المقطع الأخير من الكلام الذي يبحث تفسير التأويل بمعنى الرجوع إلى الوجود الجمعيّ للقرآن إشارة إلى ردّ ما ذكره المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ(رحمه الله)في تفسير الميزان، ج 3، ص 54 و55.

232

وعلى أيّ حال، فهذا بحث تفسيريّ بحت لا علاقة له بوظيفة الاُصوليّ؛ لأنّنا بيّنّا أنّ الاستدلال بالآية غير تامّ على كلّ حال.

 

إسقاط ظواهر القرآن بالسنّة:

وأمّا الوجه الثاني: فهو الأخبار المتوهّم دلالتها على النهي عن اتّباع ظواهر القرآن الكريم. وتمام الروايات التي رأيناها في المقام ترجع إلى طوائف ثلاث:

1 ـ ما تصدّى لبيان أنّ المراد من القرآن لا يفهمه إلّا الأئمّة(عليهم السلام)، وغيرهم يجب أن يأخذوا تفسير القرآن منهم(عليهم السلام).

2 ـ ما تصدّى لبيان عدم جواز الاستقلال عن المعصومين في فهم القرآن، فهو وحده ليس حجّة وإنّما هو أحد الثقلين.

3 ـ ما تصدّى للنهي عن تفسير القرآن بالرأي.

أمّا الطائفة الاُولى: فقد وردت بمضمونها عدّة روايات(1) مع اختلاف في أساليب التعبير. وهي تامّة من حيث الدلالة، فإنّ حصر الفهم بالأئمّة المعصومين(عليهم السلام)يعني إلغاء الحجّيّة، وسدّ باب الاستنباط العرفيّ وإعمال القواعد العرفيّة لاستخراج المعاني من القرآن من قِبَل غيرهم(عليهم السلام)، إلّا أنّ هذه الأخبار غير تامّة من حيث السند(2).


(1) راجع الوسائل، ج 18، ب 13 من أبواب صفات القاضي، ح 25 و38 و41 و64 و69 و73 و74.

(2) ومعه نشكّك في الردع، ونستصحب عدم الردع الثابت في أوّل الشريعة كما نقل عن الدورة الأخيرة لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

233

أضف إلى ذلك نكتتين قد يحصل بإضافتهما الاطمئنان بمجعوليّة هذه الروايات، أو كون المقصود غير ما يظهر منها:

الاُولى: إنّه توجد في رواة هذه الروايات ظاهرة مشتركة تناسب لسان هذه الروايات الصادرة منهم، وتلك الظاهرة هي ظاهرة تبعيد الناس عن ظاهر الشرع، وادّعاء اُمور باطنيّة وبعيدة عن ظواهر الشرع.

فهذا سعد بن طريف أحد هؤلاء الرواة يروي أنّ الفحشاء رجل، والمنكر رجل، وأنّ الصلاة تتكلّم(1)، ويقول عنه النجاشي: «حديثه يعرف وينكر»، ويضعّف من قِبَل أشخاص آخرين.

وجابر بن يزيد أحد هؤلاء الرواة يقول: (دخلت على الإمام الباقر(عليه السلام)وأنا شاب، فأعطاني كتاباً للحفظ عندي، وكتاباً آخر لحديث الناس به). ويقول أيضاً: (إنّ الإمام حدّثني بسبعين ألف حديث ولم يأذن لي بأن اُحدّث به، فأذهب إلى حفيرة واُحدّثها به)(2). ونحو ذلك من الاُمور التي لو ضممناها إلى شهادة الأكابر من سلفنا الصالح يحصل لنا الظنّ القويّ بأنّ مثل مذاق هذا الشخص يريد غلق


(1) راجع اُصول الكافي، ج 2، كتاب فضل القرآن، ح 1، ص 598.

(2) راجع معجم الرجال للسيّد الخوئيّ، ج 4، ص 21 و22. وجابر بن يزيد هو راوي الرواية 41 من صفات القاضي من الوسائل. و سعد بن طريف هو راوي الرواية 64 من ذاك الباب. وأمّا الرواية 38 فراويها معلّى بن خنيس صاحب الرواية الغريبة بشأن النيروز. وأمّا باقي روايات هذه الطائفة التي فيها ما رواه زرارة، وفيها ما رواه عبد الرحمن بن الحجّاج فهي من مراسيل العيّاشي ولا قيمة لها. نعم، رواية زيد الشحّام ـ وهي الرواية 25 من ذاك الباب ـ ليست مرسلة، ولم نعرف من زيد الشحّام ما يكون من قبيل هذه الغرائب، ولكن من المحتمل كون مقصوده بقوله: «إنّما يعرف القرآن مَن خوطب به» معرفة تمام القرآن وحكمه ودقائقه، على أنّ سند الحديث ضعيف بمحمّد بن سنان.

234

أبواب المعرفة وحكرها لنفسه، وجعل الإسلام أمراً عجيباً لا يصل إليه إلّا مَن كان مثله من الناس، فبحساب الاحتمالات يحصل الظنّ القويّ بكذب هذه الروايات، وكونها من إيحاءات هذا الذوق الذي كان اتّجاهاً عامّاً في جماعة من غير سلفنا الصالح من أمثال زرارة، ومحمّد بن مسلم من فقهاء ظاهر الشريعة الذين أخذنا عنهم أحكامنا، وذاك الاتّجاه هو مسلك تعقيد المطالب، وتأويل القضايا الدينيّة بما لا يناسب ذوق اُولئك السلف الصالح.

ومن هنا نحن ننبّه على مطلب عامّ، وهو: أنّه في جملة من الموارد تنفعنا في مقام تقدير رواية الراوي وتقييمها مراجعة حال الراوي، وتأريخه، ومجموع ما نقله من الروايات، فقد ترى ـ مثلاً ـ عدداً كبيراً من أحاديث متّفقة على مضمون مّا بحيث كان المفروض حصول العلم به بعنوان التواتر، لكن تكشف بالفحص ظاهرة مشتركة عن حال رواتها تناسب الإيحاء المشترك بمضمون تلك الأحاديث ممّا يسقطها عن درجة التواتر المفيد للعلم، فالاطّلاع على خصوصيّات الراوي وحاله ومزاجه، وما ينقل من سائر الروايات قد يدخل في عمليّة الاستنباط كعنصر من عناصر تقييم الرواية.

الثانية: إنّ جواز العمل بظواهر القرآن وعدمه من أهمّ المسائل، ومن المسائل الرئيسيّة بالنسبة للفقه ومعرفة الأحكام، ولا يوجد هناك موضوع دار حوله النزاع والبحث والجدل بين علماء الباطل من غير الشيعة أكثر من هذا البحث، فجميع الدواعي التأريخيّة والشرعيّة والواقعيّة كانت تقتضي أن تكون هذه المسألة أهمّ مسألة في مقام السؤال والجواب، وفي مقام الاستفادة والتحقيق. أضف إلى ذلك أنّ العمل بظواهر القرآن يوافق مقتضى الطبع العقلائيّ، وإيقاف هذا الطبع بحاجة إلى بيانات كثيرة وإعلامات متتالية، فلو كان أمر من هذا القبيل لكثر نقله وشاع وذاع، وليس حاله حال وجوب السورة ـ مثلاً ـ الذي لو لم يصل إلينا إلّا ضمن

235

ثلاث روايات أو أربع لم يكن غريباً. أفهل نفترض ـ مثلاً ـ أنّ هذا الأمر المهمّ والذي هو على خلاف الطبع لم يبيّن إلّا مرّات عديدة، وصدفة لم يكن يوجد شخص عند الإمام(عليه السلام)في تمام تلك المرّات يسمع الحديث إلّا شخص ضعيف، أو ذو اتّجاه معيّن، ومن غير أمثال زرارة ومحمّد بن مسلم، أو كان هناك سامعون من أمثالهم ولكنّهم صدفة لم ينقلوا الرواية، أو نقلوها وصدفة لم تصلنا من أمثالهم؟!!

فمجموعة هذه الاُمور لو ضمّ بعضها إلى بعض حصل بمقتضى حساب الاحتمالات الاطمئنان بأنّ مثل هذه الروايات مجعولة على الأئمّة(عليهم السلام)، ولو فرض صدورها عنهم فلابدّ أن يكون لها محمل آخر غير ما هو الظاهر منها.

وأمّا الطائفة الثانية ـ وهي الأخبار الدالّة على عدم الاستغناء في مقام فهم القرآن واستنباط الحلال والحرام من آيات الأحكام عن الأئمّة(عليهم السلام) ـ: فهي تامّة سنداً، وقد ورد بعضها بلسان تأنيب من يدّعي الاستغناء ولو عملاً عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) من فقهاء العامّة والمعاصرين لهم، وبعضها بلسان بيان أنّ حقائق القرآن وتمام معارفه موجودة عند الأئمّة(عليهم السلام)، وهم المطّلعون على تمام مزايا القرآن ونكاتها وخصوصيّات التخصيص، والنسخ، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد. وكلّ هذا صحيح وأجنبيّ عمّا نحن بصدده، ومرجع اللسانين إلى بيان أنّ الناس لا يستغنون عن الأئمّة(عليهم السلام) في مقام استنباط الأحكام، وهذا ممّا لا شكّ فيه، فلا يجوز لأحد الاستغناء عن الثقل الأصغر في مقام استنباط الأحكام، وهذان الثقلان متقارنان في عمليّة الاستنباط وفهم الشريعة، بمعنى أنّه لابدّ في مقام الأخذ من أحدهما ملاحظة الآخر أيضاً بحيث يلحظ مجموع الكتاب والسنّة كأنّهما كلام شخص واحد. فكما لا يجوز العمل ببعض القرآن بقطع النظر عن البعض الآخر وبدون التفات إلى مخصّصاته ومقيّداته في البعض الآخر، ولا يجوز العمل بالسنّة بقطع النظر عن القرآن، كذلك لا يجوز العمل بالقرآن بقطع

236

النظر عن السنّة. ومثل هذا لا يدلّ على عدم جواز العمل بظواهر القرآن الكريم، وإنّما يدلّ على وجوب الفحص قبل العمل بالظاهر، وهذا أمر مفروغ عنه ومتسالم عليه بين الاُصوليّ والأخباريّ.

وأمّا الطائفة الثالثة ـ وهي الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي ـ: فقد أجاب عنها علماؤنا الاُصوليّون بما في الكفاية وغيرها من الكتب المتأخّرة عنها: من أنّ التفسير ـ كما جاء في كتب اللغة ـ عبارة عن كشف القناع، ولا قناع في باب الظواهر حتّى يكشف، فلا تفسير في المقام. ولو سلّم أنّه تفسير فليس تفسيراً بالرأي، بل هو تفسير بالطريقة العرفيّة العامّة المتّفق عليها.

ولكن الصحيح: أنّ هذا المقدار من الجواب لا يكفي في المقام، فنحن إن لاحظنا الظهورات التصوّريّة واللغويّة فهي وإن كان في كثير من الموارد لا يصدق عليها كشف القناع، وذلك فيما لو فرض أنّ الوضع اللغويّ كان ثابتاً ثبوتاً عرفيّاً عامّاً، ولكن في بعض الموارد لا يكون الأمر كذلك، بل يكون الظهور مقنّعاً يقع البحث والخلاف في المعنى الموضوع له، ويكون المعنى مقنّعاً بمقنّعيّة نفس الظهور والوضع، ويكشف القناع بإعمال الصناعة لإثبات أنّ هذا اللفظ موضوع للمعنى الفلانيّ. وسوف يأتي في بحث صغرى حجّيّة الظهور ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان أنّه كيف نثبت في بعض الأحيان أصل الوضع بالصناعة في مورد الشكّ.

وإن لاحظنا الظهورات السياقيّة التصديقيّة فالأمر فيها أوضح بكثير، فبعض الظهورات السياقيّة ليس عليها قناع، وبعضها الآخر عليها قناع وبحاجة إلى كشف القناع بالبحث والفحص والاستنباط وإعمال الصناعة، سنخ ما فعلناه قبل صفحات في تفسير قوله تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾، حيث استخرجنا المراد بضمّ بعض ظواهرها إلى بعض لمعرفة ما يستفاد من المجموع من المعنى المناسب لتمام ظواهر الآية.

237

فهذا الجواب بحسب الحقيقة ليس جواباً فنّيّاً في المقام؛ لأنّه لم يلحظ فيه إلّا الظواهر التي ليس عليها قناع، ولا يختلف في فهمها أحد، ولعلّ الأخباريّين أيضاً لا يقولون بعدم جواز العمل بمثل هذه الظواهر من القرآن.

ونحن نجيب على الاستدلال بروايات النهي عن التفسير بالرأي بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: مأخوذ ممّا بيّنّاه في بحث حجّيّة الدليل العقليّ وعدمها، حيث استدلّ الأخباريّون هناك على عدم الحجّيّة بالروايات التي تنهى عن العمل بالرأي بقول مطلق في الأحكام الشرعيّة، وهنا استدلّوا على عدم حجّيّة ظهور القرآن بالروايات الناهية عن تفسير القرآن بالرأي، وقد قلنا هناك: إنّ كلمة (الرأي) وإن كان معناها اللغويّ الأصليّ هو النظر مثلاً، أو ما يقرب من ذلك في المعنى، إلّا أنّ الذي يطالع مجموع الروايات الواردة في باب الرأي، ويطالع عصر هذه الروايات يعرف أنّ هذه الروايات كانت ملقاة من قِبَل الأئمّة(عليهم السلام)على اُناس كانوا يعيشون ويفكّرون في جوٍّ علميّ خاصّ له مصطلحاته الخاصّة، وتعبيراته الخاصّة، وله مسائله المطروحة للبحث إثباتاً ونفياً. ومن أهمّ تلك المسائل التي راج بحثها وذكرها واختلف الناس بسببها هو مسألة الرأي. ففي عصر الصادقين(عليهما السلام)وجدت مدرسة علميّة في صفوف علماء السنّة بعنوان مدرسة الرأي في مقام الاستنباط والتفسير وإخراج الأحكام من النصوص، وكانت هذه الكلمة مصطلحاً لمذاهب استحدثت وراجت وعمّت وانتشر الحديث عنها وتشعّبت فروعها. وأصحاب الأئمّة كانوا يسمعون أبحاث السنّة وكانوا يعرفون آراءهم، وكان جملة منهم يفتي بآراء السنّة، ولعلّ بعضهم كانوا أعلم بآراء علماء السنّة منهم، فمحمّد بن مسلم كان يجلس في المسجد وكان يفتي أهل كلّ مذهب بمذهبهم، ويفتي أهل الحقّ بمذهب جعفر بن محمّد(عليه السلام)، فأصحاب الأئمّة(عليهم السلام)كانوا يعيشون هذا الجوّ وهذه المصطلحات. فمن يدّعي الاطمئنان بأنّ كلمة (الرأي) التي تردّد في كلام

238

الأئمّة(عليهم السلام)الملقاة على مثل هؤلاء الذين يعيشون في مثل هذا الجوّ لم يكن يفهم منها إلّا نفس ذلك المصطلح الذي كان عنواناً لاتّجاهات معيّنة ومشخّصة في الفقه والاستنباط والتفسير، ليس بمجازف.

ولو فرض أنّ شخصاً لم يحصل له الاطمئنان من ملاحظة مجموع هذه الظروف والملابسات التأريخيّة بأنّ المراد بالرأي هو المعنى المصطلح، واحتمل أنّ المراد به هو معناه اللغويّ، فأراد أن يجري أصالة بقاء ظهور اللفظ على معناه السابق، فسوف يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في بحث أوجه الوصول إلى صغرى الظهور: إنّ مثل هذا الأصل في مثل هذا المورد لا يأتي؛ لنكتة عامّة نبيّنها هناك إن شاء الله تعالى.

الوجه الثاني: مأخوذ من بحثنا في السيرة، وهو: أنّه لو سلّم شمول إطلاق مثل هذه الروايات لحمل اللفظ على المعنى الظاهر فهذا الإطلاق لا يصلح للردع عن حجّيّة الظهور، فإنّ إطلاق دليل وإن كان يصلح أن يكون بياناً لحكم شرعيّ نفياً أو إثباتاً فيما إذا كان ذلك الحكم الشرعيّ تعبّديّاً في نفسه كوجوب السورة وعدمها، ولكن حجّيّة ظهور القرآن الكريم ليست حكماً شرعيّاً ابتدائيّاً تعبّديّاً، وإنّما هي مطلب عقلائيّ على طبق القريحة العقلائيّة المركوزة المستحكمة في أذهانهم بارتكازهم الجبلّي والمناسبات التي فطروا عليها في تعايشهم، وقد قلنا في بحث السيرة: إنّ الردع عن السيرة يكون بملاك التحفّظ على الغرض، فلابدّ أن يكون مناسباً لمقدار استحكامها حتّى يحصل التحفّظ على الغرض. ومن هنا أشرنا سابقاً إلى أنّ إطلاق الآيات الناهية عن العمل بالظنّ مثلاً، لا يمكن أن يكون رادعاً عن حجّيّة خبر الواحد بعد فرض أنّها مورد للسيرة العقلائيّة. وعلى هذا فكيف يعقل الاكتفاء في الردع عن مثل السيرة العقلائيّة في باب حجّيّة الظهور المستحكمة الجذور في أذهانهم بإطلاق مثل هذه الروايات التي نحتاج إلى البحث في مقام بيان أنّه هل لها إطلاق، أو لا؟

239

الوجه الثالث: مأخوذ أيضاً من القوانين والاُصول التي نقّحناها في بحث السيرة، وهو: أنّنا نستدلّ في المقام بسيرة المتشرّعة، فسيرة المتشرّعة وأصحاب الأئمّة كانت قائمة على العمل بظهور القرآن جيلاً بعد جيل، ولو لم يكن هذا من المسلّمات في أيّام الأئمّة بل كان مشكوكاً لكثر السؤال عنه؛ لأنّها من المسائل ذات الأهمّيّة القصوى، ولو كثر السؤال كثر الجواب، وهو الجواب بالنفي بحسب فرض الأخباريّ، ولو كثر الجواب كذلك أصبح بالتالي عدم حجّيّته من المسلّمات، ولو كان عدم حجّيّته من المسلّمات لنقل من المتقدّمين مع أنّه لم ينقل من أحد عدم حجّيّة ظواهر القرآن الكريم إلّا من قبل الأخباريّين في العصور الأخيرة. وهذا أحد التطبيقات للقوانين الكلّيّة التي ذكرناها في بحث السيرة. وبعد ثبوت سيرة أصحاب الأئمّة على العمل بظواهر القرآن لا تكون الإطلاقات المفروضة في المقام من روايات المنع عن التفسير بالرأي رادعة عن السيرة، بل السيرة مقيّدة للإطلاق؛ لما ذكرنا في محلّه: من أنّ الحاجة إلى إحراز عدم الردع إنّما هي بالنسبة للسيرة العقلائيّة، وأمّا سيرة المتشرّعة فهي حجّة بالذات لا باعتبار عدم الردع عنها، فلو وجد في قبالها إطلاق أو عموم أو ظهور لكانت نفس السيرة دليلاً على تقييد ذلك الإطلاق، أو تخصيص ذلك العموم، أو تأويل ذلك الظهور.

وقد ظهر حتّى الآن: أنّه لا يصحّ الاستدلال بهذه الروايات على عدم حجّيّة ظواهر الكتاب الكريم.

 

الأخبار الدالّة على حجّيّة ظواهر الكتاب:

وتوجد هناك روايات اُخرى ـ في قبال ما يستدلّ به الأخباريّ ـ يستدلّ بها لحجّيّة ظهور الكتاب الكريم. وما استدلّ بها أو يمكن أن يستدلّ بها من الأخبار على حجّيّة ظهور الكتاب يمكن تقسيمها إلى أربع طوائف:

الطائفة الاُولى: الأخبار الآمرة بالتمسّك بالكتاب الكريم والأخذ به والعمل

240

بموجبه، فإنّها تدلّ على وجوب الأخذ بكلّ دلالة قرآنيّة نصّاً أو ظهوراً. وقد ذكرنا هذه الطائفة أيضاً فيما سبق في قبال بعض التفصيلات الاُخرى في حجّيّة الظهور كدليل على إبطال التفصيل.

ثُمّ لو لوحظت النسبة بين هذه الطائفة وروايات المنع عن تفسير القرآن بالرأي بعد تسليم دلالتها على نفي حجّيّة ظهور الكتاب وصلاحيّتها للردع عن ذلك، فالنسبة بينهما عموم من وجه، فمادّة الافتراق لتلك الأخبار هي تفسير المجمل بأحد معنييه، ومادّة الافتراق لهذه الأخبار هي الأخذ بالنصّ، ومادّة الاجتماع هي حمل الكلام على ظاهره، فتتعارضان في ذلك وتتساقطان، وبعده لا يمكن الرجوع إلى سيرة العقلاء بحجّة سقوط الرادع؛ لما مضى منّا في بحث السيرة: من أنّ سيرة العقلاء إنّما تصبح حجّة بالإمضاء، والإمضاء يستكشف من عدم الردع، فلابدّ من إحراز عدم الردع والجزم به، ومجرّد احتمال الردع يسقطها عن الحجّيّة؛ لأنّه يعني احتمال عدم الإمضاء، ولذا قلنا: (لو جاء دليل غير تام الحجّيّة صالح ـ على تقدير صدوره من المعصوم ـ للردع فمجرّد احتمال صدوره والردع به يكفي لسقوط السيرة عن الحجّيّة)، وما نحن فيه كذلك بعد فرض صلاحيّة تلك الأخبار على تقدير صدورها للردع، وإن كانت هي بالفعل غير حجّة لابتلائها بالمعارض.

أمّا استصحاب عدم الردع الثابت في أوّل الشريعة فهو عبارة عن استصحاب عدم النسخ، ويتوقّف على قبول استصحاب عدم النسخ في محلّه(1).


(1) عدم الردع بالمعنى الملازم للإمضاء يكون استصحابه من الأصل المثبت، فلابدّ من أن يكون المقصود استصحاب عدم نقض الإمضاء، وهذا رجوع إلى استصحاب عدم النسخ.

241

الطائفة الثانية: الأخبار الآمرة بعرض الشروط على كتاب الله التي تقول بسقوط الشرط المخالف للكتاب. وتقريب الاستدلال بها: أنّه لو لم تكن ظواهر الكتاب حجّة فكيف نستطيع أن نعرف أنّ هذا الشرط موافق للكتاب أو مخالف له؟! ولا يبقى لدينا إلّا خصوص النصوص، والنصوص القطعيّة قليلة جدّاً(1).

وتحقيق هذا التقريب ومدى صلاحيّته للمقابلة مع روايات النهي عن التفسير بالرأي لو تمّت دلالتها على مدّعى الأخباريّ، هو: أنّ هذه الطائفة الآمرة بعرض الشروط على الكتاب إن اُريد بالكتاب فيها لفظ الكتاب فهي دالّة عرفاً على أنّ ألفاظ الكتاب لها دلالة، ويجوز فهمها بحيث يجعل القرآن مقياساً ومعياراً لتمييز الشرط الصحيح عن الفاسد. أمّا إن اُريد بالكتاب فيها مدلول الكتاب والمراد منه فهذه الأخبار بنفسها لا تدلّ على كيفيّة تحصيل هذا المدلول، غاية الأمر لعلّ


(1) إن صحّ هذا البيان أمكن إسراؤه إلى الطائفة الاُولى بأن يقال: إنّ حملها على نصوص القرآن حمل لها على الفرد النادر. إذن هي كالصريح في الأمر بالالتزام بظواهر القرآن، فليست النسبة بينها وبين روايات المنع عن التفسير بالرأي نسبة العموم من وجه كما مضى، بل هي كالأخصّ مطلقاً، وبها تخصّص روايات المنع عن التفسير بتفسير المجمل بأحد معانيه أو الظاهر بما هو خلاف ظاهره.

والواقع: أنّ إشكال كون الحمل على خصوص النصوص حملاً على الفرد النادر غير وارد من أساسه، فإنّ مسألة لزوم الحمل على الفرد النادر أو تخصيص الأكثر إنّما ترد في العامّ الذي لا تكون نسبته إلى ما خرج أخفّ من نسبته إلى ما بقي باعتبار كون مفهومه مشكّكاً مثلاً. أمّا إذا كان كذلك كما لو قال: (أكرم العلماء) ثُمّ قال: (قصدت بذلك مَن هم وصلوا إلى مستوى الاجتهاد) لم يرد عليه: أنّ هذا تخصيص بالفرد النادر أو استثناء لأكثر الأفراد. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ مخالفة النصّ فرد بارز للمخالفة أكثر من مخالفة الظاهر، والأخذ بالنصّ فرد واضح من الأخذ بالكتاب أكثر من الأخذ بالظاهر.

242

الإطلاق المقاميّ والسكوت في مقام البيان ـ مثلاً ـ يدلّ على إمضاء الطريقة العرفيّة المتعارفة لاستكشاف المراد، لكن نفس الكلام لا يدلّ بظهوره اللفظيّ على أنّ تعيين المدلول والمراد بأيّ شيء يكون؟ وإنّما يدلّ على أنّ الشرط يجب أن لايكون مخالفاً لمدلول الكتاب. وعليه فتلك الأخبار التي يستدلّ بها الأخباريّون على أنّ تعيين المراد يكون بلحاظ الروايات لا بإعمال النظر لو تمّت دلالتها تكون حاكمة على هذه الطائفة، ومنقّحة لموضوعها، ومستوجبة لانحصار طريقة معرفة مدلول الكتاب بالروايات(1).

الطائفة الثالثة: هي الروايات الآمرة بعرض نفس أخبار الأئمّة(عليهم السلام)على


(1) هذا البيان لو تمّ أمكن إسراؤه إلى الطائفة الاُولى، فيقال: إنّ ما دلّ على الأمر بالأخذ بالكتاب قد يحمل على معنى الأخذ بما هو مراد من الكتاب. وروايات النهي عن التفسير بالرأي تنفي ثبوت كون ما يظهر من الكتاب ما لم نعرفه عن المعصومين مراداً من الكتاب، فتكون حاكمة على الروايات الدالّة على الأمر بالأخذ بالكتاب. وهذا لا ينافي العرضيّة المستفادة من بعض تلك الروايات بين الكتاب والسنّة كحديث الثقلين، فإنّه تكفي لانحفاظ العرضيّة نصوص الكتاب.

والصحيح: أنّ هذا البيان بحدّ ذاته غير تامّ بناءً على قبول دلالة الإطلاق المقاميّ على حجّيّة ظهور الكلام، فإنّ الذي يعارض روايات المنع عن التفسير بالرأي إنّما هو هذا الإطلاق المقاميّ، وهذا الإطلاق المقاميّ موضوعه هو ظهور الكتاب، وليس موضوعه هو المراد من الكتاب حتّى يكون ما ينفي ثبوت مراديّة الظهور حاكماً عليه بنفي موضوعه. فلا يقاس هذا الإطلاق ـ مثلاً ـ بإطلاق (أكرم العالم) الشامل لزيد العالم المحكوم لدليل ينفي تعبّداً عالميّة زيد، فإنّ هذا الإطلاق موضوعه العالم، والدليل الحاكم ينفي هذا الموضوع، بينما الأمر فيما نحن فيه ليس كذلك، ولعلّه لهذا لم يتعرّض اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في دورته الأخيرة لفكرة الحكومة في المقام بحسب ما يبدو من تقرير بحثه الذي ليس فيه تعرّض هنا للحكومة.

243

الكتاب، وجعل الكتاب معياراً لتمييز الأخبار الصحيحة عن الأخبار الكاذبة، على عكس ما يقوله الأخباريّون: من فرض أخبار الأئمّة أصلاً والكتاب فرعاً يفسّر بلحاظها. وقد ادّعي تواتر هذه الطائفة.

والإنصاف: أنّ هذه الطائفة من أقوى الأدلّة على حجّيّة ظواهر الكتاب الكريم، ولا يأتي هنا احتمالنا السابق في الطائفة الثانية؛ إذ المفروض في هذه الأخبار جعل القرآن مقياساً لصحّة الخبر وسقمه، فإذا فرض أنّ العبرة بالقرآن المفسّر بالخبر كان ذلك رجوعاً مرّة اُخرى إلى الخبر، فينتهي ذلك إلى جعل نفس الخبر مقياساً لصحّة الخبر وسقمه، وهذا ممّا لا معنى له ولا يحتمل. وهذا بخلاف باب الشروط، فهناك لا يكون تهافت في أن يكون مقياس صحّة الشروط وفسادها مخالفتها للقرآن المفسّر بالخبر وعدمها.

والحاصل: أنّ المتفاهم عرفاً من هذه الطائفة بشكل واضح لاخفاء عليه أنّ القرآن هو الأصل وأنّ الأخبار هي الفرع، وأنّ كلّ ما خالف الكتاب ـ سواء كانت مخالفة نصّيّة أو ظهوريّة ـ يجب طرحه ولا يجوز العمل به، بل هو ممّا لم يقولوه؛ لأنّهم تلامذة القرآن وأبناؤه، فلا يأمرون بشيء يخالف القرآن.

ولا يتوهّم اختصاص مفاد هذه الأخبار بالمخالفة النصّيّة، فإنّه:

أوّلاً: يصدق وجداناً عنوان المخالفة بالنسبة للظاهر كما يصدق بالنسبة للنصّ، فالأمر والنهي متخالفان، وإن أمكن تأويل أحدهما ببيان الرخصة في الفعل، والآخر ببيان الرخصة في الترك.

وثانياً: إنّ الذي يتتبّع هذه الأخبار يرى أنّ المقصود منها النظر إلى ما شاع وذاع وقتئذ من الكذب والافتراء والتزوير على الأئمّة(عليهم السلام) من قِبَل الكذّابين، وهؤلاء الكذّابون كانوا يكذبون عادة بما يخالف ظاهر القرآن لا بما يخالف نصّ القرآن؛ إذ لا يصدّق منه ما يخالف النصّ القطعيّ للقرآن الذي لا شائبة فيه.

244

إذن فهذه الروايات بحدّ ذاتها من أحسن الأدلّة على حجّيّة ظهور الكتاب، وإنّ الكتاب حجّة قبل الخبر لا حجّة بلحاظ الخبر.

نعم، هذه الطائفة تقع طرفاً للمعارضة مع الطائفة التي استدلّ بها الأخباريّون ـ لو تمّت ـ وتقدّم عليها إن صحّ ما ادّعي: من تواترها؛ وذلك لما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في بحث التعادل والتراجيح: من أنّ الخبر غير القطعيّ وإن كان حجّة في نفسه لا يعارض الخبر القطعيّ، كما لا يعارض القرآن(1).

الطائفة الرابعة: الأخبار التي جاء فيها الاستدلال من قِبَل الإمام(عليه السلام)بجملة من الآيات على جملة من الأحكام، فلو لم تكن ظواهر الكتاب الكريم حجّة فكيف يستدلّ بتلك الظواهر في قبال الآخرين؟!

والاستدلال بهذه الطائفة من الأخبار يتوقّف على أن نقول: إنّ مراد الإمام(عليه السلام)من الاستدلال بتلك الآيات على الحكم الشرعيّ هو الاحتجاج مع الطرف المقابل وإقناعه بإرجاعه إلى أصل مشترك بينه وبين الإمام(عليه السلام)، أمّا إذا قيل بأنّ من المحتمل كون ذلك تفسيراً من قِبَل الإمام(عليه السلام) للقرآن فلا يتمّ الاستدلال بهذه الأخبار، وهذا الاحتمال جار في أكثر روايات هذه الطائفة، نستثني منها رواية واحدة، وهي رواية عبد الأعلى مولى آل سام الذي سأل الإمام(عليه السلام) عن رجل انقطع ظفره فوضع عليه مرارة، فماذا يصنع بلحاظ المسح؟ قال(عليه السلام): هذا وأمثاله يعرف من كتاب الله ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج﴾ امسح على المرارة.


(1) وإن لم تتمّ دعوى التواتر كفى في تقديمها على روايات النهي عن التفسير بالرأي ـ لو تمّ دلالتها على مدّعى الأخباريّ ـ الأخصّيّة أو ما في حكمها، بناءً على عدم إمكان تخصيصها بما خالف نصّ الكتاب؛ لأنّ الكذّابين كانوا عادة لا يكذبون بما خالف نصّ الكتاب.

245

وتحقيق الكلام في هذه الرواية: أنّ ما فرض من هذا الحديث أنّه يعرف من كتاب الله إمّا أن يكون المقصود به هو مجرّد الأمر السلبيّ، وهو نفي وجوب المسح على البشرة، وإمّا الأمر الإيجابيّ أيضاً، وهو جعل البدل وهو المسح على المرارة:

فإن كان المقصود هو المسح على البدل ـ كما لعلّه هو ظاهر الرواية، ولهذا احتجّ على السائل بأنّه يعرف هذا من كتاب الله؛ إذ لو كان المراد هو معرفة الحكم السلبي لما تمّ هذا احتجاجاً على السائل، فإنّ السائل بحاجة إلى فهم الوظيفة الإيجابيّة ـ وجب إرجاع علم هذه الرواية إلى أهلها؛ لأنّ مثل هذا لايعرف من كتاب الله، فإنّ قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج﴾ ينفي الحكم الحرجيّ، ولا يشرّع ما هو البدل وما هي الوظيفة الاضطراريّة، فنفس الكتاب الكريم بقدر فهمنا نحن العوام لا يمكن أن نستنبط منه مثل هذا الحكم. نعم، الكتاب الكريم بواقعه الذي يفهمه الإمام(عليه السلام) لعلّه يستنبط منه هذا الحكم، فإن كان المقصود من الحكم الذي يعرف من كتاب الله هو البدل وجب أن يكون المراد من المعرفة معرفة الأئمّة(عليهم السلام).

وإن كان المقصود معرفة الحكم السلبيّ ـ وهو عدم وجوب المسح على البشرة ـ كان الحديث دالّاً على أنّ مثل هذا يعرفه الناس من الكتاب الكريم، فتكون هذه الرواية دالّة على حجّيّة ظواهر القرآن الكريم.

 

إنكار وجود الظهور في القرآن:

بقي الكلام في المسلك الآخر للأخباريّين، وهو دعوى عدم الظهور للكتاب الكريم. وهذه الدعوى لها وجهان: فتارةً يدّعى الإجمال الذاتيّ للقرآن، واُخرى يدّعى الإجمال العرضيّ له بلحاظ العلم الإجماليّ بالتخصيص والتقييد والتأويل ونحو ذلك.

246

أمّا الدعوى الاُولى ـ وهي دعوى الإجمال الذاتيّ ـ: فالإجمال الذاتيّ للقرآن يتصوّر من ناحيتين:

1 ـ دعوى أنّه إجمال وتعمّد مقصود من قِبَله تعالى لمصلحة في المقام رغم إمكان صبّ مطالبه في قوالب واضحة ومفهومة، ولنفرض أنّ تلك المصلحة ما اُشير إليها في بعض كلماتهم: من جعل الناس محتاجين إلى الإمام(عليه السلام)؛ إذ مع الوضوح يستغنون عن مراجعته(عليه السلام) مع أنّ نظام الاُمّة لا ينتظم ولا يتمّ إلّا بربطهم بالإمام(عليه السلام).

2 ـ دعوى أنّ طبع القضيّة كان يقتضي الإجمال، فإنّ القرآن الكريم هو كتاب الله، وكتاب كلّ شخص يناسب مقدار عظمة ذاك الشخص، فإذا فرض أنّ كتاب هندسة اُقليدس كان محلّ الإشكال والغموض والدقّة فما ظنّك بكتاب يؤلّفه مؤلّف هذا العالم على سعته وجبروته؟ فيجب أن يكون في أعلى مراتب الدقّة والشموخ النظريّ والفكريّ، ويجب أن يكون هذا الكتاب المعجز في جميع خصوصيّاته بالغاً حدّ الإعجاز في الدقّة، وعندئذ يصبح غير مفهوم لا محالة.

وكلتا هاتين الدعويين باطلتان:

أمّا دعوى الإجمال المتعمّد: فهو الذي يحكم العقل السليم ببطلانه بلا حاجة إلى استئناف بحث أو تأمّل في برهان؛ إذ لو أنّ شخصاً جاء إلى جماعة وادّعى لهم دعوى، ثُمّ تصدّى لبيان هذه الدعوى وإثباتها، فذكر بياناً لإثبات دعواه، وتعمّد في جعله غامضاً ومبهماً لا يفهمه أحد من اُولئك الذي ادّعى عليهم هذه الدعوى، لعدّ هذا الشخص ناقصاً غير ملتفت إلى مقتضيات الحال، فكيف ينسب مثل هذا إلى الله العليم الحكيم، ويدّعى أنّه تعمّد في إجمال القرآن الكريم الذي أنزله لهداية البشر وإثبات دعوى النبيّ(صلى الله عليه وآله)وإفهام الناس مع الاستدلال عليها بإعجاز القرآن؟!! فإنّ هذا خلف الفرض.

247

أمّا مسألة جعل الكتاب مبهماً وغامضاً كي تقع الحاجة إلى الإمام فلابدّ في المرتبة السابقة على ذلك من إثبات أصل النبوّة والرسالة كي يصبح الناس مستعدّين للرجوع إلى الإمام(عليه السلام) في مقام تفسير القرآن، والقرآن هو المتصدّي لإثبات أصل النبوّة والرسالة في المرتبة السابقة على الإمام، فلابدّ أن يكون واضحاً ومفهوماً في المرتبة السابقة على إثبات الإمام.

وأمّا دعوى الإجمال الذاتيّ الناشئ من طبع القضيّة: فأيضاً سخيفة غاية السخف:

أمّا أوّلاً: فلأنّ الكتاب تلحظ في مقام حصوله على أعلى درجات الكمال نكتة الغرض من ذلك الكتاب ومدى نجاحه في تحقيق الغرض، فإذا كتب شخص كتاباً في الهندسة فغرضه اكتشاف قوانين مطلقة لعالم الكون المادّيّ، فكلّما كان الكاتب أكثر دقّة وعمقاً في اكتشاف تلك القوانين، وأكثر قدرة على البرهنة عليها ودفع الشبهات عنها يكون أحسن وأكمل، وهذا ما يبعده عن فهم الناس الاعتياديّين، ولو فرض أنّه تعالى أنزل كتاباً بهذا الغرض للزم أن تكون دقّته فوق دقّة كتاب هندسة اُقليدس بما لا يتناهى من المراتب. أمّا لو فرض أنّ شخصاً ألّف كتاباً بقصد هداية البشر وتوجيههم إلى طريق الحقّ، وصنع الإنسان الصالح المؤمن السعيد في دنياه وآخرته، فعندئذ يقاس مقدار نجاح هذا الكاتب وكماله بمقدار حصول هذا الغرض وإحاطته بالجهات الدخيلة في ذلك، والقرآن بالغ في ذلك حدّ الإعجاز، ويتحدّى الناس بذلك حتّى يومنا هذا، وهذا يقتضي عكس ما ادّعيتم، فإنّ هذا الغرض لا يحصل ببيان الألغاز العلميّة والرموز الفنّيّة البعيدة عن فهم الناس؛ لأنّ هذه لا تخلق الناس الصالحين، بل لابدّ من ذكر تمام المؤثّرات الدخيلة في تغيير الإنسان روحيّاً وخلقيّاً وفكريّاً وعاطفيّاً وسائر النواحي الإنسانيّة، ولابدّ أن تكون المعاني واضحة ميسّرة، وملتقية مع عواطف الناس ومشاعرهم وأحاسيسهم، وقادرة على النفوذ إلى قلوب الناس كي تغيّر هذه القلوب وتخرجها من الظلمات

248

إلى النور. وهكذا كان الكتاب الكريم، ولذا كان المشركون يهتدون بسماع بضعآيات كانت تنفذ في قلوبهم وتنير بالإيمان عقولهم.

وأمّا ثانياً: فلأنّنا لا نتصوّر إعجازاً يؤدّي إلى هذا الغموض والإجمال في باب الأحكام الشرعيّة التي مرجعها إلى أنّ هذا حلال وهذا حرام؛ لأنّ الوجوب والحلّ والحرمة اُمور مفهومة لدى الناس، والإعجاز المتصوّر في الأحكام إنّما هو إعجاز بلحاظ ملاكات الأحكام الشرعيّة والمصالح والمفاسد التي يستند إليها الحكم الشرعيّ، ومن الواضح أنّ الإعجاز بلحاظ الملاكات لا دخل له بفهم نفس الأحكام الشرعيّة المبيّنة في القرآن الكريم.

وأمّا الدعوى الثانية ـ وهي دعوى الإجمال العرضيّ بلحاظ العلم الإجماليّ بابتلائه بورود التخصيصات والتقييدات والتأويل، ونحو ذلك من الاُمور ـ: فهي أيضاً ليست بشيء، وينقض ذلك بالسنّة الشريفة، فإنّ حالها حال الكتاب من حيث الابتلاء بالتخصيص والتقييد ونحوها. والصحيح أنّ هذا البيان غير تامّ، لا في القرآن ولا في السنّة؛ وذلك لما حقّقناه مفصّلاً في بحث العامّ والخاصّ: من أنّ هذا العلم الإجماليّ بالمخصّصات والمقيّدات، إنّما يقتضي وجوب الفحص عن المقيّد والمخصّص قبل العمل بالظهور، لا سقوط الظهور عن الحجّيّة رأساً، وتفصيل الحال سبق في بحث العامّ والخاصّ.

هذا تمام الكلام في تفصيل الأخباريّين بكلا معنييه بين ظهورات الكتاب وغيره، ومن المؤسف أن يوجد في علمائنا جماعة تنكر حجّيّة ظهور القرآن الكريم الذي هو كتاب الإسلام، وعزّنا وشرفنا، وعليه أساس ديننا، ولعمري أنّ تصوّر المطلب بتمام شؤونه وخصوصيّاته، يكفي في التصديق بوضوح بطلان القول بعدم حجّيّة ظهور الكتاب الكريم، بلا حاجة إلى استئناف بحث وبيان بيّنة وبرهان على المطلب.

وبه نختم الكلام عن المقام الأوّل من مقامي مبحث الظهور، وهو في البحث عن أصل كبرى حجّيّة الظهور.