80

نفوذ الحكم ما دلّ على عدم صحّة الائتمام بغير المؤمن، وذلك بأحد التقريبين الماضيين من الأولويّة، أو صنع جوّ تشريعي يمنع عن انعقاد الإطلاق في دليل القضاء.

وأمّا صدر المقبولة ورواية أبي خديجة، فلا علاقة لهما بشرط الإيمان بالذات، بل يدلّان على النهي التكليفي عن الترافع لدى طاغوت الزمان وأعوانه، والنهي التكليفي يدل بالالتزام العرفي على عدم نفوذ الحكم، بل مقبولة عمر بن حنظلة صريحة في عدم النفوذ، بل عدم جواز أخذ حقّه _ رغم كونه حقّاً _ عن طريق حكم الحاكم الجائر.

والحاصل أنّ صدر الروايتين أجنبي عمّا نحن فيه، ويدلّ على شرط آخر سنشير إليه في الشرط التاسع.

شرط عدم كونه طاغوتاً

الشرط التاسع: أن لا يكون مصداقاً لسلطان الجور وأياديه ولو فرض شيعياً، وذلك تمسّكاً بإطلاق النهي الوارد عن التحاكم إلى الطاغوت الدالّ على الحرمة التكليفية، وعلى عدم النفوذ بالملازمة _ كما أشرنا إليه في آخر الشرط الثامن _ وكون مورد صدور الروايات خصوص غير الشيعي لا يمنعنا عن فهم الإطلاق. كما لا يبعد فهم الإطلاق من قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً﴾(1). وإن أمكن التشكيك في إطلاقها بأنّ الآية بصدد التنكيل ببعض الناس بنحو القضية الخارجية ولم تكن ابتداءً في مقام بيان تحريم التحاكم إلى الطاغوت بحيث يتمّ فيها الإطلاق في موارد الشكّ.


(1) النساء: 60.

81

إلا أنّ الجواب عن هذ التشكيك هو أنّ تعليق الحكم على الطاغوت ينافي تخصيص الحكم بغير الشيعي؛ لأنّ هذا إلغاء لعنوان الطاغوت ومصير إلى عنوان آخر، لا تقييد بقيد إضافي حتی تحتاج إلى الإطلاق بمعنى مقدّمات الحكمة، كي يستشكل فيه بما ذكر.

وعلى أيّ حال فلا ينبغي الإشكال في ثبوت هذا الشرط، ولا في حرمة الترافع إلى الطاغوت وأياديه تكليفياً في الجملة.

الترافع إلى الطاغوت لإنقاذ الحق

لكن يقع الكلام في جواز أو حرمة الترافع إليهم بدافع انقاذ الحقّ عند العجز عن الترافع إلى حاكم العدل.

فمقتضى إطلاق بعض الروايات كالمقبولة ورواية أبي خديجة عدم الجواز، وإن كان بعضها الآخر وارداً في خصوص فرض إمكانية الرجوع إلى حاكم العدل، كرواية أبي بصير(1) التامّة ببعض أسانيدها بناءً على تمامية أبي بصير، ورواية أبي بصير(2) الضعيفة سنداً بعبداللّه بن بحر. وسيأتي ذكرهما قريباً.

وهناك وجوه لإثبات جواز الرجوع إلى قاضي الجور لأجل إنقاذ الحقّ عند عدم إمكانية الترافع إلى حاكم العدل:

الوجه الأول _ التمسّك ببعض الروايات التالية:

1_ ما رواه عطاء بن السائب عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «إذا كنتم في أئمّة


(1) وسائل الشيعة، ج18، الباب الأول من صفات القاضي، ح2.

(2) نفس المصدر، ح3.

82

جور فامْضوا(1) في أحكامهم ولا تشهروا أنفسكم فتقتلوا، وإن تعاملتم بأحكامنا كان خيراً لكم»(2). وإطلاقه لفرض إمكان الترافع إلى قاضي العدل يعالج بما سيأتي إن شاء اللّه من ذيل الرواية الثالثة الواردة في خصوص فرض إمكانية الترافع، إلا أنّ سند هذا الحديث ضعيف، فإنّ عطاء بن السائب لم يوثق. على أنّ هذا الحديث: تارةً ذكر في الفقيه(3) عن عطاء بن السائب، وسند الصدوق إلى عطاء بن السائب غير تام، فإنّ سنده عبارة: «عن الحسين بن أحمد بن إدريس عن أبيه عن محمد بن أبي الصهبان عن أبي أحمد محمد بن زياد الأزدي عن أبان الأحمر عن عطاء بن السائب»، بينما الحسين بن أحمد بن إدريس لم يرد توثيق بشأنه. وأُخرى في التهذيب(4) «عن محمد بن علي بن محبوب عن محمد بن إسماعيل بن بزيغ عن صالح بن عقبة عن عمرو بن أبي المقدام عن عطاء بن السائب»، وصالح بن عقبة _ سواء أريد به صالح ابن عقبة بن قيس بن سمعان كما هو الظاهر بقرينة رواية ابن بزيع عنه، أو أريد به صالح بن عقبة بن خالد الأسدي _ لم يوثّق، وضعّف ابن الغضائري الأول بقوله: «غالٍ كذّاب، لا يلتفت إليه»، وإن كان لا يلتفت إلى تضعيفه. وثالثةً في التهذيب(5) بسنده عن سعد بن عبداللّه عن محمد بن الحسين عن محمد


(1) هكذا في التهذيب الطبعة الجديدة. أمّا في الوسائل الطبعة الجديدة والفقيه الطبعة الجديدة فقد ورد: فاقضوا. والظاهر أنّ الصحيح هو نسخة التهذيب.

(2) وسائل الشيعة، ج 18، ص5، الباب الأول من صفات القاضي، ح 7، والباب 11 من آداب القاضي، ص165، ح2.

(3) ج 3، ص3، ح 3.

(4) ج 6، ص24، ح 536.

(5) ج 6، ص 325، ح 540.

83

ابن إسماعيل بن بزيع عن صالح بن عقبة عن عمرو بن أبي المقدام عن عطاء بن السائب، وهذا أيضاً كما ترى مبتلى بوجود صالح بن عقبة. ورابعةً رواه الصدوق في العلل _ على ما في الوسائل(1)_ عن أبيه عن سعد عن عمرو بن أبي المقدام، إلا أنّ لقاء سعد لعمرو بن أبي المقدام غير معقول، فالسند مبتلى بالإرسال، على أنّ الرواية من حيث الدلالة أجنبيّة عن المقام، فإنّها ظاهرة في المماشاة معهم في الأحكام تقيّة.

2_ ما رواه الشيخ بسنده إلى أحمد بن محمد بن عيسى عن علي بن مهزيار عن علي بن محمد قال: «سألته هل نأخذ في أحكام المخالفين ما يأخذوه منّا في أحكامهم؟ فكتب (عليه السلام): يجوز لكم ذلك إن شاء اللّه إذا كان مذهبكم فيه التقيّة منهم والمداراة لهم»(2). وأظنّ أنّ المقصود بعلي بن محمد هو الهادي (عليه السلام) الذي كان علي بن مهزيار من أصحابه، لا أنّه راوٍ روى لعلي بن مهزيار عن الإمام (عليه السلام)، وعليه فالسند من أحمد بن محمد بن عيسى إلى الإمام (عليه السلام) تام، ولكن يبقى الضعف الموجود في بعض أسانيد الشيخ إلى أحمد بن محمد بن عيسى؛ حيث نحتمل كون هذا الحديث بالسند الضعيف، إلا أنّ هذا معالج بنظرية التعويض.

وأمّا من حيث الدلالة، فهذه أيضاً أجنبية عن المقام، حيث إنّ ظاهرها السؤال عن أن نأخذ منهم وفق فقههم ما يأخذونه منّا كما في الشفعة بالجوار والعصبة _ على حدّ تعبير صاحب الجواهر (رحمه الله)(3) _ على أنّ الحديث غير مختصّ بفرض عدم إمكانية الرجوع إلى قاضي العدل، إلا أنّ هذا سيعالج إن شاء اللّه بما سيأتي في ذيل الرواية الثالثة.


(1) وسائل الشيعة، ج 18، الباب 11 من آداب القاضي، ذيل الحديث 2.

(2) نفس المصدر، ص165، ح 1.

(3) جواهر الكلام، ج 40، ص 35.

84

3_ ما عن علي بن فضّال بسند تام قال: «قرأت في كتاب أبي الأسد إلى أبي الحسن الثاني (عليه السلام) وقرأته بخطه سأله ما تفسير قوله تعالى: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَتُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ﴾؟(1) فكتب بخطّه: الحكّام القضاة، ثم كتب تحته هو أن يعلم الرجل أنّه ظالم فيحكم له القاضي فهو غير معذور في أخذه ذلك الذي قد حكم له إذا كان قد علم أنّه ظالم»(2)؛ فيدلّ بالمفهوم على أنّه إذا لم يكن قد علم أنّه ظالم فهو معذور في أخذه لحقّه عن هذا الطريق، وهذا الكلام يدل عرفاً على جواز الترافع عنده.

إلا أنّه قد يقال: لم يعلم كون المقصود من ذلك هو قاضي الجور.

وقد يجاب على ذلك بأنّنا نثبت كون المقصود من ذلك قاضي الجور بقرينة رواية أُخرى حملت الحكّام في الآية الشريفة على قضاة الجور، وهي ما عن أبي بصير «قال: قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): قول اللّه (عزوجل) في كتابه: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾. فقال: يا أبا بصير إنّ اللّه (عزوجل) قد علم أنّ في الأُمّة حكّاماً يجورون. أما إنّه لم يَعنِ حكّام أهل العدل، ولكنّه عنى حكّام أهل الجور. يا أبا محمد إنّه لو كان لك على رجل حقّ فدعوته إلى حكّام أهل العدل فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكّام أهل الجور ليقضوا له لكان ممّن حاكم إلى الطاغوت، وهو قول اللّه (عزوجل): ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾(3) (4).


(1) البقرة: 188. وتتمة الآية: ﴿لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ الْنّٰاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.

(2) وسائل الشيعة، ج 18، ص5، الباب الأول من صفات القاضي، ح 9.

(3) النساء: 60.

(4) وسائل الشيعة، ج 18، ص3، الباب الأول من صفات القاضي، ح3.

85

هذا، وقد يقال: إنّ رواية ابن فضّال بعد حمل الحكّام في الآية بقرينة رواية أبي بصير على حكّام الجور تصبح معارضة للروايات الناهية عن الترافع عند حكّام الجور بالتباين، وليست خاصّة بصورة عدم إمكانيّة الرجوع إلى قاضي العدل كي تخصّص روايات النهي بها، فلا يبقى فرق بين فرض إمكانيّة الرجوع إلى قاضي العدل وعدمها، وكذلك الحال في الروايتين السابقتين، فغاية ما يفترض فيهما هي الدلالة على جواز الترافع عند حكّام الجور من دون وجود ما يدل على اختصاصهما بصورة عدم إمكانيّة الرجوع إلى قاضي العدل، فلا موجب لتخصيص النهي بهما، ولا مبرر للتفصيل بين فرض إمكانيّة الرجوع إلى قاضي العدل وعدمها.

والجواب: أنّ بعض روايات النهي عن الترافع إلى قاضي الجور خاصّة بصورة إمكان الرجوع إلى قاضي العدل، كنفس رواية أبي بصير التي جعلناها قرينة على حمل الحكّام في الآية على حكّام الجور، وكرواية أبي بصير الأُخرى عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال في رجل كان بينه وبين أخٍ له مماراة في حقّ، فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه، فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء: «كان بمنزلة الذين قال اللّه (عزوجل): ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِه﴾ الآية»(1).

فإمّا أن نبني على قاعدة انقلاب النسبة، ونقيّد رواية ابن فضّال والروايتين السابقتين بما دلّ على النهي عن الترافع عند قضاة الجور مع إمكانيّة الترافع عند قضاة العدل، فتختصّ هذه الروايات بصورة عدم إمكانيّة الرجوع إلى قاضي العدل، ثم نقيّد روايات المنع المطلق عن الترافع إلى قاضي الجور بهذه الروايات.


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص3، الباب الأول من صفات القاضي، ح2.

86

وإمّا أن لا نبني على قاعدة انقلاب النسبة، فنقول بأنّ روايات المنع المطلق تعارضت مع هذه الروايات، وبعد التساقط رجعنا إلى روايات المنع المختصّة بفرض إمكانيّة الرجوع إلى قاضي العدل، ويبقى الرجوع إلى قاضي الجور بهدف استنقاذ الحقّ عند العجز عن الرجوع إلى قاضي العدل باقياً تحت أصالة الجواز؛ فإنّ كلامنا هنا في الجواز وعدمه، لا في النفوذ وعدم النفوذ حتى تجري أصالة عدم النفوذ لا أصالة البراءة.

هذا، وقد يقال في إبطال التمسّك برواية ابن فضّال لإثبات جواز الرجوع إلى قاضي الجور: إنّ ضعف سند رواية أبي بصير _ التي جعلناها قرينةً على حمل الحكّام في الآية على حكّام الجور _ بعبداللّه بن بحر الواقع في سند هذا الحديث يجعلنا لا نملك دليلاً على كون النظر في رواية ابن فضّال إلى حكّام الجور، فلعلّ المقصود من رواية ابن فضّال مجرّد تحريم العمل من قبل المحكوم له بحكم القاضي لو علم بينه وبين اللّه أنّه ليس هو على حقّ، وأنّ خصمه هو المحقّ وهذا ممّا لا غبار عليه، ولا علاقة له بما نحن بصدده.

إلا أنّ الصحيح هو أنّ حمل الحكّام في الآية الشريفة على حكّام الجور ليس بحاجة إلى الاستشهاد له برواية أبي بصير حتى يردّ ذلك بضعف سند تلك الرواية، بل الآية في نفسها واضحة في إرادة حكّام الجور؛ لأنّ الآية بصدد النهي عن الإدلاء بالأموال إلى الحكّام، ومن الواضح أنّ أخذ الرشا إنّما هو شأن حكّام الجور دون حكّام العدل.

ومع هذا فقد يقال: إنّ رواية ابن فضّال لا تغنينا شيئاً في المقام، فإنّها مشتملة على فقرتين:

الأُولى: قوله: «الحكّام القضاة» وهذا راجع إلى تفسير قوله تعالى: ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾.

87

والثانية: قوله: «هو أن يعلم الرجل أنّه ظالم، فيحكم له القاضي فهو غير معذور في أخذه ذلك الذي قد حكم له إذا كان قد علم أنّه ظالم»، وهذا لا علاقة له بقوله: ﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾، وإنّما هو راجع إلى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾، فهذا يعني أنّ الأكل بالباطل يكون من قبيل أنّ القاضي يحكم لصالح أحد المتخاصمين، وهو يعلم أنّه على باطل، وأنّ خصمه على حقّ، فيعمل بحكم القاضي، فهذا غير جائز، وهذا واضح لا شكّ فيه، ولم يؤخذ في موضوعه فرض كون القاضي جائراً، إلا إذا استُظهِر أنّ المراد بالقاضي هو المراد من كلمة الحكّام في الآية الشريفة.

4_ روايات جواز تغيير الشهادة أمام حاكم الجور بالشكل الذي يُقنعه بالقضاء الحقّ(1)، فلولا جواز المرافعة إلى حاكم الجور في الجملة لما كان موضوع لمسألة الشهادة أمامه بشيء من التغيير.

والجواب _ بغضّ النظر عن ضعف سندها وابتلائها بالمعارض(2) الذي ينهى عن التدليس حتى أمام محكمة الجور، وإن كان المعارض أيضاً ضعيفاً _: أنّ هذه الروايات قد فرض فيها أصل المرافعة أمام قاضي الجور مفروغاً عنه، فلعلّها كانت في مورد العسر والحرج، أو في مورد كان الرفع إلى القاضي من قبل الطرف الآخر الذي هو غير ملتزم بحكم الشريعة بحرمة الرفع إلى قاضي الجور، فأصبح الطرف المقابل أمام أمر واقع، ووصلت النوبة إلى الشهادة وإلى التغيير في الشهادة لأجل إحقاق الحقّ.

الوجه الثاني _ هو النقاش في أصل فرضيّة إطلاق يدل على النهي عن الترافع


(1) وسائل الشيعة، ج 18،ص230 _ 231، الباب 4 من الشهادات.

(2) نفس المصدر، ص247، الباب 18 من الشهادات، ح1.

88

إلى قاضي الجور، ولو مع العجز عن الترافع إلى قاضي العدل، فإنّ روايات النهي عن ذلك بعضها صريح في الاختصاص بصورة إمكانيّة الرجوع إلى قاضي العدل كروايتي أبي بصير الماضيتين، وبعضها الآخر لا توجد فيه صراحة من هذا القبيل كمقبولة عمر بن حنظلة ورواية أبي خديجة، ولكن قد ذكر فيها فور النهي عن التحاكم عند قضاة الجور الإرشاد إلى التحاكم عند قضاة العدل، ممّا قد يصلح للقرينيّة على عدم الإطلاق لفرض عدم إمكانيّة الرجوع إلى قاضي العدل، فإذا لم يتّم الإطلاق رجعنا إلى أصالة الجواز، فإنّ كلامنا في جواز الرجوع إلى قاضي الجور لاستنقاذ الحقّ، لا في نفوذ قضائه.

إلا أنّه قد يقال: لئن لم يتم إطلاق في الروايات لتحريم التحاكم عند قاضي الجور حينما نعجز عن الرجوع إلى قاضي العدل، فإنّنا نتمسّك في ذلك بإطلاق الآية الكريمة الناهية عن التحاكم إلى الطاغوت. قال اللّه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً﴾(1). فالآية الشريفة قد دلّت على أنّ الأمر بالكفر بالطاغوت يستوجب عدم التحاكم إليه، وهذا بإطلاقه يقتضي عدم جواز ذلك حتى عند العجز عن التحاكم إلى قاضي العدل.


(1) النساء: 59 _ 61.

89

وقد(1) يناقش في ذلك بأنّ الآية وردت بلسان القضية الخارجية لا الحقيقية؛ حيث تشير إلى طائفة من الناس بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾. ومن الواضح أنّ أولئك الناس الذين تشير إليهم الآية المباركة كانوا قادرين على التحاكم عند رسول اللّه (صلى الله عليه و آله)، فلا إطلاق في الآية لمن لا يقدر على التحاكم عند قاضي العدل. وصحيح أنّ ذكر الوصف المذكور في الآية وهو إرادة التحاكم عند الطاغوت مشعر بالعلّية، لكنّه _ بعد أن كانت القضيةخارجية _ لا يدل على أنّه هو تمام العلّة وعدم دخل أيّ وصف آخر _ كوصف القدرة على التحاكم عند قاضي العدل _ في العلّة، على أنّ ما قبل الآية _ من الأمر بردّ النزاع إلى اللّه والرسول _ وكذلك ما بعد الآية _ الوراد في تنكيل من قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل اللّه وإلى الرسول فصدّوا عن ذلك _ قد يكون صالحاً للقرينية على عدم الإطلاق والنظر إلى خصوص فرض إمكانيّة الردّ إلى اللّه والرسول.

هذا، وقد يقال: إنّ هناك آية أُخرى لا يبعد تمامية الإطلاق فيها، هي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا


(1) وقد يقال مضافاً إلى ما في المتن: إنّ المستفاد ممّا في الآية من التعليل بالأمر بالكفر بالطاغوت هو أنّ تحريم التحاكم إليه يكون بنكتة كون ذلك دعماً وتأييداً له، وهذه النكتة تكون أحياناً مفقودة؛ كما إذا كنّا نعيش في مجتمع تسوده سلطة الطاغوت بنحو لا يُرى أيّ أثر للتحاكم إليه من قبل هذين المترافعين وعدمه. وهذا البيان يأتي أيضاً في مقبولة عمر بن حنظلة، بل وقد يأتي في رواية أبي خديجة بناءً على استظهار نفس النكتة منها بمناسبات الحكم والموضوع. إلا أنّ النسبة بين ما يستفاد من هذا البيان وبين جواز الترافع عند الطاغوت حين العجز عن الترافع عند قاضي الحقّ عموم من وجه.

90

تُنصَرُونَ﴾(1). فهذه الآية تشمل ما نحن فيه حتى لو فسرت الآية بمعنى الركون إلى الظالم في ظلمه وبما هو ظالم لا مطلقاً، فإنّ التذرّع في تحصيل الحقّ إلى حاكم الجور _ الذي يكون إشغاله لمنصب الحكومة ظلماً _ ركون إلى الظالم في ظلمه، فهو حرام حتى مع العجز عن التحاكم إلى قاضي العدل وفق إطلاق الآية الكريمة، إلا أن يقال: بأنّ الركون يعطي معنى الاتّكاء على ركن ركين والارتباط بقدرة وهيمنة، ممّا لا يصدق على مجرّد الترافع عند شخص، فإن قيل هكذا لم يتم الإطلاق في الآية الكريمة للمقام، وكذلك لا يتم الإطلاق في الآية لو فسّر الركون بما فسّر به المرحوم العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) في تفسير الميزان من أنّه الاعتماد على شيء عن ميل إليه، لا مجرد الاعتماد(2). إلا أنّ هذا المعنى غير مذكور في كتب اللغة، ولكن العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) استشهد لذلك بتعديته بـ «إلى» لا بـ «على»، وقد يشهد له أيضاً ما جاء في تفسير علي بن إبراهيم من تفسيره بأنّه ركون مودّة ونصيحة وطاعة(3). وعلى أيّ حال فالظاهر أنّ هذا التفسير غير موجود في كتب اللغة.

الوجه الثالث _ هو التمسّك بقاعدة نفي الحرج، وهذا الوجه تام، إلا أنّه أخصّ من المدّعى؛ لأنّه خاصّ بفرض ما إذا كان الصبر على فوات حقّه حرجياً.

الوجه الرابع _ هو التمسّك بقاعدة نفي الضرر، فإنّ فوات الحقّ ضرر دائماً. وهذا الوجه في تماميّته وعدم تماميّته يتبع البحث الأصولي عن المباني في قاعدة نفي الضرر:

فمثلاً على مبنى أنّ القاعدة لا تدل على أكثر من تحريم الإضرار، أو وجوب تداركه من قبل مسبِّب الضرر لا يتم الاستدلال بها في المقام.


(1) هود: 113.

(2) راجع: تفسير الميزان ج 11، ص 53.

(3) تفسير علي بن إبراهيم، ج 1، ص 338.

91

وعلى مبنى دلالتها على نفي كلّ حكم يأتي من قبله الضرر، أو يوجب بقاء الضرر يتمّ الاستدلال بها في المقام.

وعلى مبنى أنّ نفس الحكم حينما يكون إضراراً يكون مرتفعاً بـ «لا ضرر» يتم الاستدلال بها في المقام لو كان التحاكم لديه لإنقاذ الحقّ عند انحصار الطريق بذلك حقّاً عرفياً للإنسان، فكان سلبه ضرراً عرفاً.

شرط الحرّية والكتابة والبصر

الشرط العاشر والحادي عشر والثاني عشر: الحرّية والكتابة والبصر. وذلك بناءً على احتمال دخلها في القضاء، وعدم دليل لفظي نتمسّك بإطلاقه، واستفادة أمثال هذه الشروط من مبنى الاقتصار على القدر المتيقّن، إمّا مع دعوى العلم بعدم الفرق كما ذكره السيد الخوئي(1)، أو مع وجود دليل لفظي نتمسّك بإطلاقه كما حقّقناه، فلا مجال لهذه الشروط.

نعم، في خصوص الحرّية قد يتمسّك لإثبات عدم جواز قضاء المملوك بما دلّ على عدم نفوذ شهادته، كما ورد بسند تام عن محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الذمّي والعبد يشهدان على شهادة، ثم يسلم الذمّي، ويعتق العبد. أتجوز شهادتهما على ما كانا أُشهدا عليه؟ قال: نعم. إذا علم منهما بعد ذلك خير جازت شهادتهما»(2). إلا أنّه معارض بما هو أقوى دلّ على نفوذ شهادته من قبيل ما ورد بسند تام عن عبدالرحمن بن الحجاج عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا بأس


(1) في مباني تكلمة المنهاج: ج 1، ص 11 _ 12.

(2) وسائل الشيعة، ج 18، ص 385، الباب 39 من الشهادات، ح1.

92

بشهادة المملوك إذا كان عدلاً»(1)، وورد مثله عن الباقر (عليه السلام) عن علي (عليه السلام) في قصّته مع شريح(2)، وقد يحمل ما دلّ على عدم نفوذ شهادة المملوك على التقيّة، وسيأتي بحث ذلك إن شاء اللّه عند ذكر شرائط البيّنة.

شرط الضبط

الشرط الثالث عشر: الضبط. واشتراط الجامع بينه وبين ما يؤدّي نتيجته إلی إمكانية أن يضبط له غيره ما لا يضبطه واضح. أمّا اشتراط ما يكون أكثر من ذاك ممّا لا يؤدّي انتفاؤه إلى انتفاء شرط آخر كالاجتهاد بناءً على اشتراطه، فحاله حال اشتراط البصر.

شرط عدم الصمم والخرس

الشرط الرابع عشر، والخامس عشر: عدم الصمم والخرس. والواقع أنّهما إن أضرّا بشرط آخر كالضبط وغيره فدليله دليل ذاك الشرط، وإلا فحال اشتراط عدمهما حال اشتراط البصر.

شرط العدالة

الشرط السادس عشر: العدالة.

والكلام في ذلك: تارةً يقع فيما هو الدليل على اشتراط العدالة في القضاء، وأُخرى فيما هو معنى العدالة المقصود بها في المقام، وثالثةً فيما هو الكاشف عن العدالة.


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص253، الباب 23 من الشهادات، ح1.

(2) نفس المصدر، ص 194، الباب 14 من كيفية الحكم، ح6.

93

أصل اشتراط العدالة

أمّا الدليل على اشتراط العدالة في القضاء فقد يستدلّ على ذلك بعدّة وجوه:

الوجه الأول _ هو التمسّك بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّـذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾(1) بدعوى أنّ الفاسق ظالم، فالتحاكم إليه ركون إلى الظالم. وهذا الوجه لو تم فإنّما يثبت حرمة التحاكم إلى الفاسق، وبالملازمة العرفيّة أو القطع بعدم الانفكاك يثبت عدم نفوذ قضائه، ولا يثبت شرط العدالة بناءً على وجود واسطة(2) بين العادل والفاسق.

هذا واختصاص الحرمة بغير موارد الحرج مثلاً _ كما لو انحصر إنقاذ الحقّ بالترافع إلى الحاكم، وكان في عدم إنقاذه حرج _ لا يوجب اختصاص الدلالة على عدم نفوذ القضاء بذلك، فإنّ الملازمة ثابتة بين حرمة ذلك في الجملة وعدم النفوذ مطلقاً.

وعلى أيّ حال فقد يقال: إنّ هذا الوجه _ وهو وجه تمسّك به السيد الخوئي في مباني تكملة المنهاج(3) _ لو تم للزم حرمة أيّ استعانة بالفاسق، فمثلاً استيجار حمّال لحمل الثقل، وبنّاء للبناء وهو فاسق غير جائز. ولا أظنّ السيد الخوئي أو أيّ واحد آخر يلتزم بذلك فقهياً.

وقد يقال: إنّ مطلق الاستعانة والاستخدام مثلاً لا يعدّ ركوناً، وإنّما الركون عبارة عن الاعتماد على فرد أو جهة بفرض سيطرة وهيمنة له أو لها، كما هو المفروض في باب القضاء حيث نتكلّم في نفوذه.

وقد يقال: إنّ الركون يعطي معنى الميل وسكون النفس على ما مضى من العلّامة


(1) هود: 113.

(2) وهو من يكون جديد العهد بالبلوغ أو بالتوبة ولم يحصل بعد على ملكة العدالة.

(3) ج 1، ص 11.

94

الطباطبائي (رحمه الله).

أو يقال كما مضى أيضاً: إنّه يعطي معنى الاتّكاء على قوّة وسيطرة وسكون النفس إليها والارتباط بها، ممّا لا يصدق بمجرّد الترافع عند شخص ما.

هذا وقد يقال: لعلّ المقصود بالآية الشريفة هو الركون إلى الظالم بما هو ظالم وبحيثية ظلمه، فلو ثبت أنّ تصدّي الفاسق للقضاء ظلم، فقد تدل الآية على حرمة الركون إليه بالتحاكم عنده، إلا أنّ هذا أوّل الكلام.

الوجه الثاني _ ما مضى من رواية أبي خديجة: «إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداری في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق...»(1)؛ بناءً على أنّ ذكر الوصف مشعر بالعليّة. وهذا الوجه لو تم فإنّما يدل على حرمة التحاكم عند الفاسق دون اشتراط العدالة بناءً علی وجود الواسطة بينهما. وقد استدلّ بهذا الوجه المحقّق العراقي (رحمه الله)(2)، ولو تمّت دلالة هذه الرواية، فقد مرّ منّا النقاش في سند هذه الرواية.

إلا أن يقال: إنّه لا حاجة بنا إلى خصوص هذا المتن لحديث أبي خديجة الضعيف سنداً، بل يمكن التمسّك بالمتن الآخر التامّ سنداً الذي ورد فيه: «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور...»(3) بدعوى أنّ أهل الجور أيضاً يعطي معنى الفاسق.

الوجه الثالث _ هو التمسّك بما مضى في آخر مبحث اشتراط العلم من عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر؛ فإنّه يدل على وصف العدالة، أو ما هو فوق العدالة، إلا أنّه إنّ تمّ سنداً فقد مضى النقاش فيه دلالةً، من حيث احتمال كون ذلك حكماً


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص100، الباب 11 من صفات القاضي، ح6.

(2) كتاب القضاء، ص7.

(3) وسائل الشيعة، ج 18، ص4، الباب الأول من صفات القاضي، ح5.

95

من قبل أمير المؤمنين (عليه السلام) بوصفه وليّاً للأمر على مالك الأشتر بوصفه منصوباً من قبله (عليه السلام)، فلا هو يدل على شرط شرعي للعدالة في القاضي، ولا على أنّ المنصوب بالنصب العامّ من قبل الأئمّة المتأخّرين لا يكون إلا من كان متّصفاً بالعدالة.

الوجه الرابع _ مقبولة عمر بن حنظلة: «... فإن كان كلّ واحد منهما اختار رجلاً من أصحابنا، فَرَضِيا أن يكونا الناظرين في حقّهما، واختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما...»(1)، فإنّ ظاهر ذلك هو الفراغ عن عدالتهما معاً؛ حيث ذكر الترجيح بالأعدليّة، فدليل النصب إن كان هو مقبولة عمر بن حنظلة فهذا الذيل يمنع عن إطلاق الصدر لغير العادل، وإن كان غير مقبولة عمر بن حنظلة فذيل المقبولة يقيّد إطلاقه، إلا أنّه لو وجدنا مورداً ما احتملنا سقوط هذا الشرط فيه _ كما في فرض صعوبة العثور على العادل _ فقد يقال: بأنّ ذيل المقبولة لا يثبت القيد في هذا المورد بالخصوص بالإطلاق؛ إذ لم يكن بصدد بيان شرط العدالة كي يتم فيه الإطلاق، إلا أنّ الظاهر أنّ دليل النصب بعد أن قيّد في الموارد المتعارفة بشرط العدالة بحكم ذيل المقبولة لا يبقى له إطلاق لغير العادل في موارد خاصّة؛ لأنّ احتمال انعقاد الإطلاق لفرض عدم العدالة بالنسبة لمورد نادر غير عرفي.

هذا، ويشبه المقبولة ما ورد عن موسى بن أكيل النميري، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سئل عن رجل يكون بينه وبين أخٍ له منازعة في حقّ، فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما، فحكما، فاختلفا، فيما حكما. قال: وكيف يختلفان؟ قال: حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره الخصمان. فقال: ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين اللّه،


(1) نفس المصدر، ص75، الباب 9 من صفات القاضي ، ح1.

96

فيمضي حكمه»(1). إلا أنّ هذه الرواية ضعيفة سنداً.

الوجه الخامس _ هو التعدّي من دليل شرط العدالة في إمام الجماعة إلى المقام. والروايات الواردة في إمام الجماعة، وإن كان أكثرها لا تدل على أكثر من النهي عن الائتمام بالفاسق، وهذا لا يمنع عن الائتمام بمن ليس فاسقاً ولا عادلاً، بناءً على تصوير وجود الواسطة بينهما، لكن فيها ما يستفاد منه شرط العدالة:

كما عن علي بن راشد قال: «قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إنّ مواليك قد اختلفوا فأُصلّي خلفهم جميعاً فقال: لا تصلّ إلا خلف من تثق بدينه»(2)، هكذا في نسخة الكافي وفي التهذيب زاد: (وأمانته)(3).

وما عن يزيد بن حماد عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «قلت له: أُصلّي خلف من لا أعرف؟ فقال: لا تصلّ إلا خلف من تثق بدينه...»(4) بناءً على أنّ الوثوق بالدين يساوق إحراز العدالة. وكلاهما ضعيفان سنداً.

وما عن سماعة بسند تام قال: «سألته عن رجل كان يصلّي، فخرج الإمام وقد صلّى الرجل ركعةً من صلاة فريضة، قال: إن كان إماماً عدلاً فلْيُصلّ أُخرى، وينصرف، ويجعلهما تطوّعاً، ولْيدخُلْ مع الإمام في صلاته كما هو، وإن لم يكن إمام عدل فليبنِ على صلاته كما هو، ويصلّي ركعةً أُخرى، ويجلس قدر ما يقول: أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، ثم ليتمّ صلاته معه على ما


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص88، الباب 9 من صفات القاضي، ح 45.

(2) قد يفهم من كلمة الوثوق بالدين _ بغضّ النظر عن عطف الأمانة _ الوثوق بصحّة اعتقاداته.

(3) وسائل الشيعة، ج5، ص389، الباب 10 من صلاة الجماعة، ح2.

(4) نفس المصدر، ص395، الباب 12 من صلاة الجماعة، ح1. وتمام الحديث مذكور في الكشّي وفي مجمع الرجال للقهبائي في ترجمة يونس بن عبدالرحمن.

97

استطاع، فإنّ التقيّة واسعة، وليس شيء من التقيّة إلا وصاحبها مأجور عليها إن شاء اللّه»(1). وعيب هذا الحديث إضماره، فلو قلنا بإضرار الإضمار فالظاهر أنّه لا تبقى لنا إلا الروايات المانعة عن الصلاة خلف الفاسق، وإن لم نقل بإضرار الإضمار _ باعتبار انصرافه في عرف هؤلاء الرواة إلى الإمام المعصوم كما هو الظاهر، ولو لأجل أنّهم عادةً كانوا يروون عن الإمام المعصوم _ ثبت بذلك شرط العدالة في إمام الجماعة. ويحتمل كون هذه الرواية مأخوذة من قبل من رواها عن سماعة، وهو عثمان بن عيسى من كتاب سماعة حيث إنّ له كتاباً يرويه عنه عثمان بن عيسى، وإنّ الضمير راجع إلى الإمام الذي روى عنه الروايات السابقة في ذلك الكتاب.

أمّا وجه التعدّي عن إمام الجماعة إلى المقام فهو إمّا عبارة عن القطع بلزوم التعدّي من إمامة الجماعة التي هي شبه قيادة، إلى القضاء الذي هو قيادة(2) حقيقةً، فلا يحتمل أن تكون العدالة شرطاً هناك، ولا تكون شرطاً هنا، أو عبارة عن


(1) نفس المصدر، ج5، ص458، الباب 56 من صلاة الجماعة، ح2.

(2) قد يقال: من المحتمل أنّ إمامة الجماعة اشترطت فيها العدالة لأنّها قيادة روحيّة. أمّا القضاء فليس عدا فصلاً للخصومة بتشخيص الحقّ، وتكفي في ذلك الوثاقة في الحكم، فالقطع بالملازمة غير موجود. كما قد يناقش في الملازمة العرفية بأنّ الملازمة يجب أن تكون بيّنة بالمعنى الأخصّ حتى توجب ظهوراً عرفيّاً، بينما المتكلّم الذي يذكر شرط العدالة في إمام الجماعة قد يكون غافلاً أصلاً عن موضوع القضاء، فكيف تتمّ لكلامه دلالة التزامية عرفية على اشتراطها في القضاء؟

ويمكن الجواب عن الأول بأنّ هذا قد يتم في قاضي التحكيم. أمّا منصب القضاء الذي يتحقّق بنصب ولي الأمر فهو شعبة من أرقى شعب القيادة قد لا يحتمل كونها أقلّ مقاماً وقدسيّة من إمامة الجماعة.

ويمكن الجواب على الثاني بأنّ المقصود هو دلالة قوله: «تشترط العدالة في إمامة الجماعة» بالملازمة العرفية على نكتة لهذا الاشتراط_ وطبعاً لا يمكن افتراض غفلة المتكلّم عن نكتة شرطه _ وتلك النكتة موجودة بشكل أقوى في القضاء، وهي نكتة كون إمامة الجماعة منصباً رفيعاً وقيادةً، ونحو ذلك.

98

أنّ جوّاً تشريعيّاً رافضاً لإمامة غير العادل يمنع عن انعقاد الإطلاق في دليل القضاء، الذي هو أهمّ من إمامة الجماعة بكثير، ومع عدم انعقاد الإطلاق يكون الأصل في قضاء الفاسق هو عدم النفوذ.

الوجه السادس _ أن نتعدّى من دليل اشتراط العدالة في الشاهد إلى القاضي، فلئن كان الشاهد _ الذي يكون دوره في فصل الخصومة، وإيصال الحقّ إلى مستحقّه أقلّ من دور القاضي _ تشترط فيه العدالة، فالقاضي بطريق أولى، إمّا أولوية قطعية، أو أولوية عرفية تُحقّق دلالة التزامية في دليل اشتراط العدالة في الشاهد.

أو يقال: إنّ جوّاً تشريعيّاً لا يقبل شهادة غير العادل لا يتم فيه إطلاق لدليل القضاء بالنسبه لقاض غير عادل.

هذا، والروايات الواردة في اشتراط العدالة في الشاهد أو عدم الفسق عديدة: من قبيل رواية محمد بن قيس التامّة سنداً عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: لا آخذ بقول عرّاف، ولا قائف، ولا لصّ، ولا أقبل شهادة الفاسق إلا على نفسه»(1). إلا أنّ هذا النمط من الحديث إنّما تتمّ دلالته على اشتراط العدالة لو قلنا بعدم الواسطة بين العادل والفاسق.

ومن قبيل رواية عبداللّه بن سنان التامّة سنداً قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): ما يردّ من الشهود؟ قال: فقال: الظنين والمتّهم، قال: قلت: الفاسق والخائن؟ قال: ذلك يدخل في الظنين»(2). وهذا النمط من الروايات _ وهي عديدة _ إنّما تدل على


(1) الفقيه، ج3، ص30، الباب من يجب ردّ شهادته ومن يجب قبول شهادته، ح 26. وذيل الحديث ورد في وسائل الشيعة، ج 18، ص290، الباب 41 من الشهادات، ح7.

(2) وسائل الشيعة، ج 18، ص274، الباب 30 من الشهادات، ح1.

99

اشتراط العدالة إمّا على مبنى عدم الواسطة بين الفسق والعدالة، أو بناءً على أنّ الظنين يشمل من لم تحرز فيه ملكة العدالة وإن لم يصدر منه فسق لعدم تهيّؤ أسبابه مثلاً؛ إذ لا فرق في الظنّ به بين أن يكون قد صدر منه ذنب أو أن لا يكون صدر منه الذنب بنكتة عدم تهيّؤ أسبابه له.

ومن قبيل: رواية عبداللّه بن أبي يعفور التامة سنداً، قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): بِمَ تُعرَفُ عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال: أن تعرفوه بالستر والعفاف وكفّ البطن والفرج واليد واللسان...»(1).

ورواية عبدالرحمن بن الحجّاج التامّة سنداً عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلاً»(2).

ورواية بريد بن معاوية التامّة سنداً عن أبي عبداللّه (عليه السلام) عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) في قصّة رجل من الأنصار قتل بخيبر: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) للطالبين بالدم: «أقيموا رجلين عدلين من غيركم أقيدوه برمّته...»(3).

على أنّه لو غضّ النظر عن الروايات فبالإمكان التعدّي إلى باب القضاء من مورد آية الشهادة على الوصيّة سواء تعدّينا منه إلى مطلق الشهادة أو لا؛ قال اللّه تعالى: ﴿يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اِثنٰانِ


(1) نفس المصدر، ص288، الباب 41 من الشهادات، ح 1.

(2) نفس المصدر، ص253، الباب 23 من الشهادات، ح 1.

(3) نفس المصدر، ص170، الباب 3 من كيفيّة الحكم، ح2، تحت الخط.

100

ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾(1).

وقد يتمسّك أيضاً بأية شهادة العدلين في الطلاق(2).

هذا، والظاهر أنّ اشتراط العدالة في الشاهد ليس مسألة خلافيّة، إلا أنّه لو كان دليلنا على ذلك عبارة عن مجرّد الإجماع فهذا لا يوجب التعدّي إلى المقام بالدلالة الالتزامية العرفية.

نعم، بناءً على الأولوية القطعية، أو ما قلناه من أنّ جوّاً تشريعيّاً من هذا القبيل لا يتمّ فيه الإطلاق لدليل القضاء، يتمّ التعدّي. وعلى أيّ حال فبعد ما عرفت من وجود دليل لفظي على اشتراط العدالة في الشهادة فالتعدّي إلى المقام حتى بالدلالة


(1) المائدة: 106، و تتمة الآية ما يلي: ﴿أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْـرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَـرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصٰابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمٰا مِنْ بَعْدِ الصَّلاٰةِ فَيُقْسِمٰانِ بِاللّٰهِ إِنِ اِرْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ وَلا نَكْتُمُ شَهٰادَةَ اللّٰهِ إِنّٰا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ﴾.

وقد يقال: إنّ قوله: ﴿أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْـرِكُمْ﴾ دليل على حمل العدالة في الآية على مجرّد الوثاقة؛ لأنّ فاسق المسلمين الثقة خير من غير المسلم العادل في دينه.

ولكن لا يبعد أن يكون الظاهر من الآية بقرينة قوله: ﴿إِنْ أَنْتُمْ ضَـرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ الاكتفاء بغير المسلمين عند العجز عن تحصيل شهود مسلمين باعتبارهم في أرض الغربة مثلاً؛ كما يدل على ذلك بعض الروايات: من قبيل ما عن هشام بن الحكم بسند تام عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في قول اللّه (عزوجل): ﴿أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ «إذا كان الرجل في أرض غربة ولايوجد فيها مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم في الوصية». وسائل الشيعة، ج 18، ص287، الباب 4 من الشهادات، ح3.

وما عن سماعة بسند تام قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن شهادة أهل الملّة، قال: فقال: لا تجوز إلا على أهل ملّتهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصية؛ لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد». وسائل الشيعة، ج 18، ص287، الباب4 من الشهادات، ح4.

(2) وهي قوله تعالى في سورة الطلاق: 2: ﴿فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فٰارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهٰادَةَ﴾.

101

الالتزامية العرفية في محلّه.

الوجه السابع _ ما دلّ على إعطاء نوع ولاية على الأيتام لخصوص العدل: كما ورد عن اسماعيل بن سعد الأشعري في سؤاله عن الرضا (عليه السلام) قال: «... وعن الرجل يموت بغير وصيّة، وله ولد صغار وكبار أيحلّ شراء شيء من خدمه ومتاعه من غير أن يتولّى القاضي بيع ذلك؟ فإن تولّاه قاضٍ قد تراضوا به ولم يستعمله الخليفة أيطيب الشراء منه أم لا؟ فقال: إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع فلا بأس إذا رضي الورثة بالبيع وقام عدل في ذلك»(1). وسند الحديث تام.

وقد يدل على ذلك أيضاً ما ورد عن محمد بن اسماعيل بن بزيع _ بسند تام _ قال: «مات رجل من أصحابنا ولم يوصِ، فرفع أمره إلى قاضي الكوفة، فصيّر عبدالحميد القيّم بماله، وكان الرجل خلّف ورثة صغاراً ومتاعاً وجواري، فباع عبدالحميد المتاع، فلمّا أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهنّ؛ إذ لم يكن الميّت صيّر إليه وصيّته، وكان قيامه فيها بأمر القاضي لأنّهنّ فروج. قال: فذكرت ذلك لأبي جعفر (عليه السلام) وقلت له: يموت الرجل من أصحابنا، ولا يوصي إلى أحد، ويخلّف جواري، فيقيم القاضي رجلاً منّا فيبيعهن، أو قال: يقوم بذلك رجل منّا فيضعف قلبه لأنّهن فروج، فما ترى في ذلك؟ قال: فقال: إذا كان القيّم به مثلك، أو مثل عبدالحميد فلا بأس»(2)، بناءً على أنّ قوله: «مثلك أو مثل عبدالحميد» يعني مثلهما في العدالة. فإذا كانت العدالة شرطاً في من أُعطيت له ولاية على الأيتام فما ظنّك بالقاضي؟ وذلك بأحد التقريبات الثلاثة المتقدّمة من الأولوية القطعية، أو الملازمة العرفية، أو عدم تمامية الإطلاق في جوّ


(1) وسائل الشيعة، ج12، ص270، الباب 16 من عقد البيع وشروطه، ح1.

(2) نفس المصدر، ح 2.

102

تشريعي من هذا القبيل.

ولا يعارض هذين الحديثين ما عن سماعة بسند تام قال: «سألته عن رجل مات، وله بنون وبنات صغار وكبار من غير وصية، وله خدم ومماليك وعقد كيف يصنعون الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال: إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كلّه فلا بأس»(1) بدعوى دلالة هذه الرواية على كفاية الوثاقة.

فإنّ هذه الرواية إن دلّت فإنّما تدل على كفاية الوثاقة في مجرّد التقسيم دون التصرفات، كالبيع الوارد في الروايتين السابقتين، ولو وردت في مورد التصرّفات لقيّدناها بالروايتين السابقتين الدالّتين على شرط العدالة.

ولا يعارضهما أيضاً ما عن علي بن رئاب قال: «سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) عن رجل بيني وبينه قرابة مات، وترك أولاداً صغاراً، وترك مماليك له غلماناً وجواري، ولم يوصِ، فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية فيتّخذها أُمّ ولد؟ وما ترى في بيعهم؟ فقال: إن كان لهم ولي يقوم بأمرهم باع عليهم ونظر لهم كان مأجوراً فيهم. قلت: فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية فيتّخذها أُمّ ولد؟ قال لا بأس بذلك إذا باع عليهم القيّم لهم الناظر فيما يصلحهم، وليس لهم أن يرجعوا عمّا صنع القيّم لهم الناظر فيما يصلحهم»(2).

وجه المعارضة: دعوى أنّ هذه الرواية دلّت على كفاية وجود قيّم لهم ناظر في مصالحهم من دون اشتراط العدالة.

والجواب: أوّلاً_ أنّ من المحتمل أن يكون المقصود بالولي والقيّم في هذه الرواية


(1) وسائل الشيعة، ج17، ص420، الباب 4 من موجبات الإرث، ح1،و ج13، ص474، الباب88 من أحكام الوصايا، ح2.

(2) نفس المصدر، ج13، ص474، الباب 88 من أحكام الوصايا، ح1.

103

الولي والقيّم الشرعيّين لا بمعناهما اللغوي _ أي من يلي أمرهم ويقيم قضاياهم _ أمّا من هو هذا القيّم أو الولي وماهي شرائطه؟ فلا نظر لهذه الرواية إلى ذلك.

وثانياً _ لو سلّم الإطلاق في هذه الرواية فما سبق يصلح لتقييدها.

وثالثاً _ أنّ هذه الرواية مرويّة بعدّة أسانيد كلّها ضعيفة:

1_ الشيخ الصدوق بسنده إلى الحسن بن محبوب عن علي بن رئاب، وفي طريق الصدوق إلى الحسن بن محبوب محمد بن موسى بن المتوكّل، ولا دليل على توثيقه.

2_ الكليني عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن ابن محبوب عن علي بن رئاب. وهذا السند ضعيف بسهل.

3_ سند الشيخ إلى سهل بن زياد عن ابن محبوب عن علي بن رئاب. وهذا أيضاً ضعيف بسهل بن زياد.

هذا تمام الكلام في أصل شرط العدالة في القاضي.

تحديد معنى العدالة

وأمّا الكلام في معنى العدالة، فالتردّد في ذلك يكون من أحد أنحاء ثلاثة:

1_ هل يكفي في العدالة عدم صدور المعصية من دون ملكة نفسانية، أو لا؟

2_ هل إنّ المعاصي الصغيرة تخلّ بالعدالة أو لا؟

3_ هل إنّ هناك شرطاً آخر غير ترك الذنوب أو ملكة تركها، باسم ترك ما ينافي المروءة أو لا؟

اشتراط الملكة وعدمه

أمّا اشتراط الملكة وعدمه في العدالة فقد يقال: إنّ مفهوم العدالة _ وهي لغةً بمعنى

104

الاستقامة، والمقصود به في المقام طبعاً العدالة في الدين، وذلك بقرينة ورودها في لسان مشرّع الدين وبلحاظ أحكام الدين _ يعطي معنى الملكة؛ فإنّ العدالة وصف حسب الفرض لإنسانٍ ما من إمام جماعة، أو شاهد، أو قاضٍ ونحو ذلك، واستقامة نفس الإنسان ليست بمجرّد عدم صدور معصية منه ولو من باب أنّ الفرص لم تسنح له، أو أنّه لم تمضِ على بلوغه سنّ التكليف أو على توبته مدّة تورّطه في المعصية، وإنّما استقامتها تكون بتطبّعها بترك المعاصي ووجود الرادع النفسي عن المعاصي والزلّات. هذا في كلّ ما ثبت فيه شرط العدالة بعنوانها. أمّا مثل عنوان «من تثق بدينه وأمانته» الذي مضی في بعض روايات صلاة الجماعة، فأيضاً يدل على اشتراط الملكة؛ إذ بدونها لا يحصل الوثوق. نعم، كلّما ورد اشتراط ترك الفسق فحسب لم يدل على اشتراط العدالة بمعنى الملكة.

وفي مقابل ذلك قد يستدلّ على كفاية عدم المعصية _ من دون شرط الملكة أو التطبّع النفسي _ بالروايات الواردة في قبول شهادة من يقام عليه الحدّ بعد توبته(1)، وفيه رواية واحدة تامّة السند، وهي ما عن عبداللّه بن سنان قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن المحدود إذا تاب أتقبل شهادته؟ فقال: إذا تاب _ وتوبته أن يرجع ممّا قال، ويكذّب نفسه عند الإمام وعند المسلمين، فإذا فعل _ فإنّ على الإمام أن يقبل شهادته بعد ذلك»(2) ونحن نعلم أنّ مجرّد التوبة لا يستلزم رجوع الملكة، وإنّما التوبة تجعل الذنب كأنّه لم يتحقّق، فيصبح حاله حال من هو قريب العهد بالبلوغ الذي لم يصدر منه معصية لا على أساس الملكة، بل على أساس الصدفة.


(1) راجع وسائل الشيعة، ج18، ص282_ 284، الباب 36 و37 من أبواب الشهادات.

(2) نفس المصدر، ج18، ص283، الباب 37 من أبواب الشهادات، ح1.