232

بإيراد الإمام (عليه السلام) إشكالاً رابعاً على شريح أيضاً _ يحتمل أن يكون إشكاله عليه: أنّه لِمَ لم يقضِ وفق علم الإمام؟ فالمتيقّن من هذا الحديث هو حجّية علم الإمام في القضاء، ولا يثبت جواز قضاء الفقيه بعلمه إلا أن يتعدّى إلى الفقيه: إمّا بدعوى أن المقصود من إمام المسلمين هو ولي الأمر، لا خصوص الإمام المعصوم، أو بدعوى التمسّك ابتداءً بدليل ولاية الفقيه وأنّ ما للإمام للفقيه. وقد عرفت في الوجه السابق النقاش في ذلك، حيث قلنا إنّ مقياسية العلم ليست من الأحكام الولائية حتى تنتقل إلى الفقيه بقانون ولاية الفقيه، بل هي من الأحكام الفقهية، ولا أقّل من احتمال ذلك، ولا دليل لنا على قاعدة مطلقة تقول: إنّ كلّ ما للإمام فهو للفقيه.

لا يقال: إنّ قضاء القاضي بأيّ لون من الألوان هو نوع ولاية للقاضي، فقضاء الإمام بعلمه هو حكم ولائي فينتقل إلى الفقيه بحكم ولاية الفقيه.

فإنّه يقال: إنّ انتقال هذه الولاية إلى الفقيه يعني أنّ الفقيه يقضي بعلم الإمام لو شهد لديه الإمام بشيء؛ أي: إنّ علم الإمام هو أحد مقاييس القضاء حتى في قضاء الفقيه، ولا يختص بقضاء الإمام نفسِه، أمّا أنّ مطلق علم القاضي هو أحد مقاييس القضاء، أو أنّ خصوص علم الإمام هو أحد المقاييس، فهذا حكم فقهي شرعي، وليس حكماً ولائياً كي يتمسّك بدليل ولاية الفقيه لإثبات كون المقياس هو مطلق علم القاضي.

هذا، وصاحب الجواهر (رحمه الله) استدلّ بهذا الحديث على نفوذ علم الإمام المعصوم فحسب، لا على نفوذ مطلق علم القاضي، فكأنّه ينظر إلى الوجه الثاني من وجهي الاستشهاد اللذين أشرنا إليهما.

233

الدليل العاشر _ الروايتان الواردتان(1) بشأن قصّة النبي (صلى الله عليه و آله) في شرائه للناقة من الأعرابي، حيث وقع الخلاف بينه وبين الأعرابي في الرواية الأولى حول أداء الثمن، وفي الرواية الثانية حول أصل بيع الناقة، وكان حُكْم أمير المؤمنين (عليه السلام) فيهما أن قتل الأعرابي. والرواية الأُولى تامّة سنداً، والثانية غير تامّة سنداً.

أمّا وجه الاستدلال فبالإمكان أن يقال: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد حكم في مورد الحديث بعلمه أو بعلم رسول اللّه (صلى الله عليه و آله)، وهذا دليل على نفوذ علم المعصوم في القضاء، فإن تمّ التعدّي إلى الفقيه بواسطة مبدأ ولاية الفقيه تعدّينا إليه، وإلا _ كما ناقشنا في ذلك في الوجه السابق _ لم يدل هذا الوجه على أكثر من نفوذ علم المعصوم، وهو غير المقصود.

وعلى أيّ حال فيرد عليه لو اقتصرنا على التمسّك بعمل الإمام (عليه السلام): أنّ بالإمكان حمل عمل أمير المؤمنين (عليه السلام) على تنفيذ القتل بشأن من كذّب الرسول (صلى الله عليه و آله)، لا على القضاء بمعنى خصم النزاع، وإن كان قد ارتفع به النزاع تكويناً.

وبتعبير آخر: لعلّ هذا الحكم لم يكن قضاء بمعنى فصل النزاع في حقوق الناس، بل كان إجراءً لحدّ هو من حقوق اللّه، وقد مضت _ في الدليل السادس _ الإشارة إلى أنّ التعدّي من حقوق اللّه إلى حقوق الناس غير صحيح، كما أنّ أمر أمير المؤمنين (عليه السلام) للأعرابي في إحدى الروايتين بتسليم الناقة إلى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) يمكن حمله على إرشاده إلى وظيفته الشرعية.

نعم، بالإمكان أن يجعل الدليل على نفوذ علم المعصوم في القضاء أصل قاعدة


(1) راجع وسائل الشيعة، ج 18، ص200 _ 201، الباب 18 من كيفيّة الحكم، ح 1 و 2، والفقيه، ج 3، الباب 46، ص60 _ 62، ح1 و2

234

وجوب تصديق الإمام فيما يقول وكفر مكذّبه مثلاً، كما استدلّ به في الجواهر جاعلاً هذا الحديث شاهداً على تلك القاعدة بقوله: «ولذا قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) خصم النبي (صلى الله عليه و آله) لمّا تخاصما إليه في الناقة وثمنها».

وهذا أيضاً يرد عليه: أنّ هذا إنّما يدل على أنّنا لو شاهدنا المعصوم قضى بعلمه وجب علينا التسليم. أمّا أنّه هل يجوز له أن يقضي بعلمه فيقضي بالفعل بعلمه أو لا يجوز له، فلا يقضي إلا بالبينات والأيمان، فلا توجد أيّ ملازمة بين وجوب تصديقه وكفر مكذّبه وبين جواز أن يقضي هو بعلمه.

هذا، والصحيح دلالة هذا الحديث على القضاء بعلم المعصوم؛ لأنّ فيه تخطئة القضاء وفق صالح الأعرابي وتصويب قضاء علي (عليه السلام): إمّا صريحاً كما في الحديث الأول التام سنداً؛ حيث جاء في ذيله أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) قال للقرشي الذي أراد الحكم لصالح الأعرابي: «هذا حكم اللّه، لا ما حكمت به»، أو تلويحاً كما في الحديث الثاني الذي قال فيه النبي (صلى الله عليه و آله) للأعرابي بعد أن أراد ثلاثة أشخاص الحكم لصالح الأعرابي: «إجلس حتى يأتي اللّه بمن يقضي بيني وبين الأعرابي بالحقّ» فأقبل علي بن أبي طالب (عليه السلام)....

هذا، وقد يقال: إنّ الحديث دلّ على نفوذ علم غير المعصوم أيضاً؛ لأنّ من خطّأه النبي (صلى الله عليه و آله) في قضائه لم يكن معصوماً، فكأنّه يقول له: كان المفروض بك أن يحصل لك العلم بما قلت وتقضي وفقه.

ولكنّ الواقع أنّ الحديث إنّما دلّ على أنّه مع علم المعصوم ودعواه يجب القضاء وفقه، وهذا لا يدل على نفوذ علم القاضي من أيّ طريق حصل.

الدليل الحادي عشر _ ما أُشير إليه في بعض كلمات الأصحاب من قصّة رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) مع الأعرابي في شرائه لفرس منه ثم إنكار الأعرابي لذلك، وشهادة

235

خزيمة لصالح النبي (صلى الله عليه و آله) اعتماداً على تصديق رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) وتسميته من قبل رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) لذلك بذي الشهادتين(1). وذلك بدعوى الملازمة العرفية بين صحّة الشهادة اعتماداً على علم المعصوم المستلزمة لجواز اجتماع شاهدين أو أكثر على المدّعى اعتماداً على علم المعصوم ممّا يؤدّي في روحه إلى فصل الخصومة بعلم المعصوم، وصحّة القضاء ابتداءً بالاعتماد على علم المعصوم، فيثبت نفوذ علم المعصوم في القضاء، ثم يتعدّى إلى الفقيه بدليل ولاية الفقيه، ولكن قد عرفت ما في التعدّي. على أنّ الحديث غير ثابت؛ لأنّ له سنداً غير تام وسنداً تامّاً إلى معاوية بن وهب، لكن لم نعرف سند معاوية بن وهب إلى القصّة.

الدليل الثاني عشر _ ما عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «أُتي عمر بامرأة قد تزوّجها شيخ، فلمّا أن واقعها مات على بطنها، فجاءت بولد، فادّعى بنوه أنّها فجرت، وتشاهدوا عليها، فأمر بها أن ترجم، فمرّ بها على علي (عليه السلام) فقالت: يا ابن عمّ الرسول (صلى الله عليه و آله) إنّ لي حجّةً، قال: هاتي حجّتك فدفعت إليه كتاباً، فقرأه، فقال: هذه المرأة تعلمكم بيوم تزوّجها ويوم واقعها، وكيف كان جِماعُهُ لها رُدّوا المرأة، فلمّا كان من الغد دعا بصبيان أتراب، ودعا بالصبي معهم، فقال لهم: العبوا حتى إذا ألهاهم اللعب قال لهم: اجلسوا، حتى إذا تمكّنوا صاح بهم فقام الصبيان، وقام الغلام، فاتّكى على راحتيه، فدعا به علي (عليه السلام) وورّثه من أبيه، وجلد إخوته المفترين حدّاً حدّاً، فقال عمر: كيف صنعت؟ فقال: عرفت ضعف الشيخ في تكاة الغلام على راحتيه». وعن الأصبغ ابن نباته قال: «أُتي عمر بامرأة» ثم ذكر نحوه(2). وكلا السندين غير تام.


(1) راجع وسائل الشيعة، ج 18، ص201، الباب 18 من كيفيّة الحكم، ح 3، والكافي ج 7، ص 400 _ 401، باب النوادر، ح1.

(2) وسائل الشيعة، ج 18، ص207 _ 208، الباب 21 من كيفيّة الحكم، ح3.

236

أمّا أنّ ابن الشيخ الضعيف سيكون ضعيفاً فهذا بحاجة إلى فحص علمي، فإن ثبت خطؤه سقط هذا الحديث عن الاعتبار حتى لو كان تامّاً سنداً، وأمّا لو فرضت صحّة ذلك علميّاً فهذا الحديث _ بغضّ النظر عن ضعف سنده _ قد يقال أيضاً بأنّ مفاده غريب؛ إذ معنى صحّة هذه القضيّة علميّاً ليس هو عدم تطرّق احتمال ثبوت الزنا؛ إذ قد يكون ضعف الطفل مستنداً إلى علّة أُخرى فيه مباشرةً، أو بالوراثة من أبيه غير هذا الشيخ من شيخ آخر، أو شابٍ مبتلىً بالضعف، أو ما شاكل ذلك. وعلى أيّ حال فبالنسبة لدلالة الحديث قد يقال: إنّه يدل على نفوذ علم القاضي الحاصل عن طريقٍ شاهده الناس أيضاً لا العلم الخاص بالقاضي، واحتمال اختصاص ذلك بعلم الإمام غير وارد، فإنّ احتمال الخصوصيّة لعلم الإمام في مورد هذه الرواية غير وارد عرفاً؛ إذ الإمام (عليه السلام) اعتمد في علمه هذا على طريقة عامّة شاهدَها الآخرون، ولم يكن طريقاً خاصّاً يحتمل فيه الخطأ أو الكذب بالنسبة لغير المعصوم، ولا يحتمل ذلك بالنسبة للمعصوم.

وقد يقال: إنّ الشيء الخاص بالإمام (عليه السلام) هنا هو علمه بتلك القضيّة العلميّة التي كانت مخفيّة على الناس وهو أنّ ولد الشيخ الضعيف يصبح ضعيفاً.

ولكن مع هذا قد يقال: إنّ هذا يدل على نفوذ علم القاضي مطلقاً، لا خصوص الإمام؛ لأنّ الظاهر من القصّة _ وبيان وجه الحكم من قبله (عليه السلام) لأُناس لم يكونوا يرونه وقتئذٍ إماماً _ أنّ القضية تستبطن تعليم الناس ضمناً طريقة الحكم، أو يقال: إنّه بعد أن تؤخذ القاعدة _ قاعدة تبعيّة الطفل لأبيه الكبير السن الضعيف في الضعف _ مفروغاً عنها من الإمام (عليه السلام) تكون مشاهدة وضع الصبي حينما قام موجبة لعلم حسّي عام، أي يستطيع كلّ أحد أن يعلمه، وفي مثله لا تحتمل عرفاً خصوصيّة لعلم المعصوم، فالحديث يدل على نفوذ علم القاضي مطلقاً إذا كان حسّيّاً أو قريباً

237

من الحسّ وكان عامّاً، وهذا في واقعه في قوّة عدم الدلالة على نفوذ علم القاضي؛ فإنّ نفوذ العلم الذي يستطيع أن يعلمه كلّ أحد لا ينبغي أن يكون مورداً للشكّ في الارتكاز العرفي؛ إذ ما أسهل تحويله إلى عشرات الشهود؛ لأنّ المفروض أنّه ممّا يستطيع أن يعلمه كلّ أحد.

وعلى أيّ حال فضعف سند الحديث قد أسقطه عن الحجّية على كلّ تقدير.

الدليل الثالث عشر _ ما ورد بسند تام عن سليمان بن خالد، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:«في كتاب علي (عليه السلام) أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه، فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟ قال: فأوحى اللّه إليه: احكم بينهم بكتابي وأضفهم إلى اسمي فحلّفهم به، وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(1)؛ إذ يمكن الاستدلال بهذا الحديث على نفوذ علم القاضي الناشى‏ء من الحس كما سنشير إليه بعد صفحات.

الدليل الرابع عشر _ ما ورد من قضاء أمير المؤمنين (عليه السلام) بكون الابن للمرأة التي كان لبنها أثقل من لبن الأُخرى والبنت للأُخرى، والحديث وارد ضمن متن لطيف لم نعرف سنده في ذكر قصّة وقعت في زمان عمر بن الخطاب، ووارد بسند تام ضمن متن آخر في قصّة وقعت على عهد علي (عليه السلام)، والأول مذكور في سفينة البحار(2) والثاني مذكور في الوسائل(3).

ولو ساعد العلم والتجربة على ذلك كي لا يسقط الحديث بالقطع بكذبه كان العلم في مورد الحديث _ بعد الفراغ عن قاعدة أثقليّة لبن الولد بأخذها من الإمام المعصوم (عليه السلام) _ علماً حسيّاً عامّاً يستطيع كلّ أحد أن يعرفه بالتجربة غير خاص


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص167، الباب الأول من كيفيّة الحكم، ح1.

(2) سفينة البحار، ج2، ص435، مادة قضى.

(3) وسائل الشيعة، ج 18، ص210، الباب 21 من كيفيّة الحكم، ح6.

238

بالقاضي، وفي مثل هذا الفرض لا يرد عرفاً احتمال اختصاص الحكم بعلم الإمام، إذاً فالحديث يدل على نفوذ علم القاضي حينما يكون حسّياً وعامّاً، ولايدل على أكثر من ذلك. وقد مضى في وجه سابق أنّ هذا في قوّة عدم الدلالة على نفوذ علم القاضي، وإن شئت قلت: إنّ كلّ دليل دلّ على نفوذ علم المعصوم من قبيل ما مضى من قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) للأعرابي أو غيره من الروايات نحن نجعله دليلاً على نفوذ علم كلّ قاضٍ إذا كان علماً حسياً أو قريباً من الحسّ وكان عامّاً _ أي بإمكان كثير من الناس أن يعلمه _ وذلك لعدم احتمال الفرق عرفاً بين علم المعصوم وغيره إلا من إحدى ناحيتين: الأُولى كون علم المعصوم لعصمته كالعلم الحسّي أو القريب من الحسّ، والثانية كون علم المعصوم حينما يخبر به عامّاً، أي بإمكان كلّ أحد أن يعلمه عن طريق اعتماده على علم المعصوم؛ لعدم احتمال الخطأ في علم المعصوم، فإذا علم القاضي غير المعصوم أيضاً بعلم حسّي عام لم يكن يحتمل العرف الفرق في الحجّية بينه وبين علم المعصوم في القضاء، فإن قلنا: إنّ لهذا العلم حجّيةً ارتكازيّةً، وينبغي خروجه عن محلّ البحث؛ إذاً فأدلّة نفوذ علم المعصوم لا تفيدنا شيئاً، وإلا فأدلّة نفوذ علم المعصوم تفيدنا بقدر إثبات حجّية علم القاضي الحسّي العامّ لا أكثر من ذلك، ولا نستطيع أن نتعدّى إلى علم القاضي الفقيه غير الحسّي أو غير العام بمبدأ ولاية الفقيه حتى لو فسّرناها بمعنى (كلّ ما للإمام فهو للفقيه)؛ إذ لم يثبت أنّ للإمام أن يحكم بغير العلم الحسّي العامّ.

نعم، الإمام كلّ علمه هو علم حسّي عام بنكتة عصمته عن الخطأ.

الدليل الخامس عشر _ ما ورد في كتاب بصائر الدرجات للصفّار (رحمه الله) قال: «حدّثنا أحمد بن محمد، عن عمر بن عبدالعزيز، عن بكار بن كرام، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: أنّ جويرية بن عمر العبدي خاصمه رجل في فرس أُنثى فادّعيا جميعاً الفرس، فقال

239

أمير المؤمنين (عليه السلام): لواحد منكما البيّنة؟ فقالا: لا، فقال لجويرية: أعطه الفرس، فقال له: يا أمير المؤمنين، بلا بيّنة؟! فقال له: واللّه لأنا أعلم بك منك بنفسك، أتنسى صنيعك بالجاهليّة الجهلاء فأخبره بذلك»(1). والحديث غير تام سنداً ودلالةً.

أمّا من حيث السند فلو اعتمدنا على بصائر الدرجات كفى في ضعف السند وجود عمر بن عبدالعزيز الذي لا دليل على وثاقته غير وروده في أسانيد تفسير علي بن إبراهيم. وأمّا بكار بن كرام فلو كان هو مصحّف بكار بن كردم فبكار بن كردم قد روى عنه محمد بن أبي عمير الذي لا يروي إلا عن ثقة.

وأمّا من حيث الدلالة فبناءً على كون هذا قضاءً لا أمراً إرشادياً له بالعمل بالواقع فقد علّل هذا القضاء بكونه أعلم منه بنفسه، وهذا هو علم المعصوم، ولم يعلم كون المقصود التعليل بمجرّد العلم.

وعلى أيّ حال فقد تحصّلت بكلّ ما ذكرناه تماميّة بعض الأدلّة غير الإجماع على نفوذ علم القاضي خلافاً لما في الجواهر من دعوى أنّه لا تتحصّل من غير الإجماع دلالة على نفوذ علم القاضي، وأنّ أقصى ما يمكن تحصيله من غير الإجماع عدم جواز الحكم بخلاف العلم.

هذا تمام الكلام في أدلّة حجّية علم القاضي.

أدلّة عدم الحجّية

وأمّا أدلّة عدم حجّية علم القاضي فعمدتها ما يلي:

الأول _ من الواضح تاريخياً أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) كان يكتفي في ترتيب آثار الإسلام من الطهارة ومصونيّة الدم والمال بالظاهر ولم يكن يحكم وفق علمه المستمدّ من


(1) بصائر الدرجات، ج 5، ص267، الباب 11، ح 11

240

الغيب الذي يعلمه اللّه تعالى، وكذلك في باب المرافعات لم يتّفق أن يقضي وفق علمه الإلهي، بل كان يقضي وفق البيّنات والأيمان.

ولا يخفى أنّ ترتيب آثار الإسلام على ظاهر الحال لا علاقة له بباب القضاء في حقوق الناس، واحتمال الفرق موجود، فلو كان هذا وحده لما أمكن إثبات عدم نفوذ العلم في حقوق الناس والمرافعات بذلك.

على أنّ من المحتمل أن يكون موضوع آثار الإسلام في هذه الدنيا عبارة عن إظهار الإسلام ولو كان في علم اللّه كاذباً.

نعم، هاتان المناقشتان لا تجريان فيما هو المسلّم به من أنّه (صلى الله عليه و آله) لم يكن يعتمد في خصمه للمرافعات على علمه الإلهي، بل كان يطلب البيّنة واليمين.

ولكن هناك مناقشتان أُخرَيان جاريتان في ذلك أيضاً:

إحداهما _ ما قد يقول القائل _ كما جاء في كلام المحقّق الآشتياني (رحمه الله) في المقام _ من منع علم المعصوم بجميع جزئيات أفعال المكلفين وأقوالهم، غاية الأمر أنّهم قادرون على العلم بها وإن شاؤوا علموا. وتنقيح ذلك راجع إلى بحث كيفيّة علم المعصوم.

والثانية _ أنّ عدم قضاء المعصوم بعلمه الغيبي لا يستلزم عدم نفوذ علمه الناشيء من الأسباب الاعتياديّة، واحتمال الفرق موجود، ومحل البحث كما مضى في صدر المبحث هو الثاني دون الأول.

الثاني _ ما جاء عن طريق أهل السنّة من حديث ورد في السنن الكبرى للبيهقي(1)، وفيه _ ضمن ذكر قصّة الملاعنة الراجعة لامرأة _: «قال ابن شداد بن الهاد لابن عباس: أهي المرأة التي قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): لو كنت راجماً أحداً بغير بيّنة لرجمتها.


(1) ج 7، ص 407

241

فقال ابن عباس: لا، تلك المرأة(1) أعلنت السوء في الإسلام».

فهذا يعني أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) لا يرجم بغير بيّنة، وظاهر الحال أنّه (صلى الله عليه و آله) كان متيقّناً ببغيها، وإلا فما معنى أنّه لو كان راجماً من غير بيّنة لرجمها؟!

ويمكن النقاش في هذا الحديث _ إضافةً إلى سقوطه سنداً، وعدم كفايته لو تم سنداً للتعدّي من حقوق اللّه إلى مرافعات الناس لاحتمال الفرق _ بأنّ مناسبات الحكم والموضوع العرفيّة توحي باحتمال كون «لو الامتناعيّة» الواردة على الرجم بغير بيّنة ناظرةً إلى الرجم بالعلم الناشيء عن غير الحس أو ما يقرب من الحسّ _ وأعني بما يقرب من الحسّ ما يشترك فيه عامّة الناس لو اطلعوا على المدرك _ فلا تدل الرواية على عدم نفوذ العلم على الإطلاق؛ أي حتى الناشى‏ء من الحسّ أو ما يقرب منه، وليس هذا حصراً كاملاً بتمام معنى الكلمة؛ ألا ترى أنّه لا يُفهم منه عرفاً عدم نفوذ الإقرار مثلاً.

الثالث _ روايات حصر القضاء بالبيّنات والأيمان، وعمدتها ما يلي:

1_ ما ورد بسند تام عن سليمان بن خالد _ وقد روى عنه الأزدي والبجلي _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «في كتاب علي (عليه السلام) أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟، قال: فأوحى اللّه إليه: احكم بينهم بكتابي وأضفهم إلى اسمي فحلّفهم به، وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(2). وبمضمونه غيره(3) ممّا هو غير تام سنداً، وهذا يدل بالإطلاق على حصر مقياس القضاء بالبيّنة واليمين.

وهذا لو تمّ فإنّما يتمّ دليلاً على عدم نفوذ العلم غير الناشيء من الحس أو ما يقرب


(1) وورد في بعض النسخ: تلك امرأة.

(2) وسائل الشيعة، ج 18، ص167، الباب الأول من كيفيّة الحكم، ح1.

(3) راجع نفس الباب.

242

منه، وذلك لما جاء فيه من كلمة: «لم أرَ ولم أشهد» على أنّه قد يقال: إنّ من المحتمل عرفاً كون هذه الكلمة ذكراً لمصداق من مصاديق العلم، فلا تدل الرواية على عدم نفوذ العلم أصلاً، وإنّما تدل على حصر مقياس القضاء بالبيّنة واليمين في فرض عدم العلم، فهذه الرواية غير دالّة على عدم نفوذ العلم، بل هي دالّة على نفوذ العلم في الجملة لظهورها في الفراغ عن صحّة القضاء بما رأى وشهد، وهذا يعني نفوذ العلم ولو خصوص الحسّي منه حتى في غير النبي بناءً على تعدّي العرف في العلم المحسوس بالحس المتعارف من النبي إلى غيره.

2_ ما جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) بسند غير تام: «أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنّة ماضية من أئمّة الهدى»(1). وقد يناقش في الدلالة بإبداء احتمال كون علم القاضي _ خصوصاً لو كان عن حس أو ما يقرب منه _ داخلاً في قوله: «شهادة عادلة».

3_ ما جاء بسند تام عن هشام بن الحكم عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار»(2).

فيقال: إنّ حصر القضاء بالبيّنة والأيمان دليل على عدم جواز القضاء بالعلم، وحمله على الحصر الإضافي _ أي: بالإضافة إلى الأدلّة غير العلميّة، أو بالإضافة إلى القضاء بالواقع اعتماداً على العلم الإلهي الذي جاء في بعض الروايات أنّه سيقضي به القائم ؟عج؟(3) بلا سؤال بيّنة ويمين _ خلاف الإطلاق.


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص168، الباب الأول من كيفيّة الحكم، ح6.

(2) نفس المصدر، ص169، الباب 2 من كيفيّة الحكم، ح1.

(3) نفس المصدر، ص168، الباب الأول من كيفيّة الحكم، ح4 و5.

243

والصحيح أنّ هذا الحديث لو دلّ على عدم نفوذ علم القاضي فإنّما يدل على عدم نفوذ علمه الحدسي لا الحسّي، وذلك لأنّ وضوح أنّ البيّنة واليمين إنّما ينفعان القاضي بواسطة علمه الحسّي بهما _ على أشدّ تقدير _ لا يُبقي للكلام ظهوراً في إلغاء العلم الحسّي للقاضي، فإنّ كون علم رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) الحسّي نافذاً عند تعلقه بالبيّنة واليمين، وغير نافذ عند تعلّقه بالواقع _ بينما الثاني أقرب إلى الواقع من الأول _ مستبعد إلى حدّ لا ينعقد للحديث ظهور في ذلك، بل لو قلنا: إنّ ارتكاز حجّية البيّنة في تشخيص حقوق الآدميّين يشمل حتى البيّنة التي عُلمت بالعلم الحدسي، وهذا يكوّن إطلاقاً مقاميّاً لقوله: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» لإثبات حجّية البيّنة التي عُلمت بالحدس سقط الحديث حتى عن الدلالة على عدم نفوذ علم القاضي الحدسي.

ثم إنّ دلالة الحديث على عدم نفوذ علم القاضي مطلقاً أو في خصوص العلم الحدسي لو تمّت فهي معارضة بدلالة أدلّة القضاء بالحقّ التي دلّت على نفوذ علم القاضي.

الرابع _ ما ورد بسند تام عن داود بن فرقد قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: إنّ أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) قالوا لسعد بن عبادة: أرأيت لو وجدت على بطن امرأتك رجلاً ما كنت صانعاً به؟ قال: كنت أضربه بالسيف، قال: فخرج رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) فقال: ماذا يا سعد؟ فقال سعد: قالوا: لو وجدت على بطن امرأتك رجلاً ما كنت صانعاً به؟ فقلت: أضربه بالسيف، فقال: يا سعد فكيف بالأربعة الشهود؟ فقال: يا رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) بعد رأي عيني وعلم اللّه أن قد فعل؟ قال: إي واللّه بعد رأي عينك وعلم اللّه أن قد فعل. إنّ اللّه جعل لكلّ شيء حدّاً، وجعل لمن تعدّى ذلك الحدّ حدّاً»(1).


(1) نفس المصدر، ص310، الباب 2 من مقدّمات الحدود، ح1

244

وجه الاستدلال هو أنّه وإن كان مورد الحديث هو علم الزوج، وليس علم القاضي، لكن الحديث قد جعل الأربعة شهود حدّاً لثبوت الزنا، ومقتضى إطلاقه أنّه حدّ لذلك حتى في مقابل علم القاضي، وهذا الكلام يمكن أن يقال به بلحاظ كلّ الروايات التي جعلت الأربعة شهود حدّاً لثبوت الزنا من قبيل ما عن الحلبي بسند تام عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «حدّ الرجم أن يشهد أربع أنّهم رأوه يدخل ويخرج»(1) ونحوه غيره من الروايات(2). ولكن لئن قال قائل في مثل هذه الرواية من الإطلاقات: إنّها منصرفة عن فرض العلم، فدعوى هذا الانصراف لا تتأتّى في رواية داود بن فرقد؛ لأنّه جعل الحدّ هو الأربعة شهود في مقابل العلم، وهذا يوجب استحكام الإطلاق وعدم ثبوت الانصراف. نعم، مورد الحديث هو علم الزوج لا علم القاضي، ولكن المورد لا يخصّص الوارد.

والجواب: أنّ إجراء الحدّ هو شأن القاضي يجريه بعد ثبوت الأربعة شهود، وليس شأن الزوج، وغاية ما هنا أن يكون الزوج واحداً من الشهود، ولم يذكر في الحديث كون الأربعة شهود حدّاً في مقابل علم القاضي، بل الإطلاق أيضاً غير وارد في هذا الحديث؛ إذ لم يذكر مثلاً: (أنّ حد ثبوت الزنا هو الأربعة شهود)، وإنّما ذكر: «أنّ اللّه جعل لكلّ شيء حدّاً»، ولعلّ علم القاضي هو أحد الحدود.

وأمّا التمسّك بإطلاقات مثل ما مضى من حديث الحلبي فقد يقول القائل بشأنه: إنّ مقتضى المناسبات العرفيّة هو احتمال أن يكون المقصود هو أنّ حدّ ثبوت الزنا _ إن لم يكن متيقناً _ هو الأربعة شهود، أمّا إذا كان القاضي يعلم به فلا دلالة


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص371، باب 12 من حدّ الزنا، ح 1.

(2) المذكورة في نفس المصدر والباب.

245

لهذه الإطلاقات على عدم نفوذ العلم.

وقد يقال في مقابل ذلك: إنّ الأمر على العكس، فلهذا الحديث وأمثاله إطلاق قويّ نافٍ لنفوذ علم القاضي؛ لأنّ المتعارف في شهادة ثلاثة من العدول _ إن كانت عدالتهم ثابتة باليقين لا بمجرّد ظاهر الحال _ هو حصول العلم بالصدق، فافتراض كون الحدّ هو أربعة شهود له ظهور إطلاقي قويّ في عدم نفوذ علم القاضي. إلا أنّ هذا لو تمّ فاحتمال الخصوصيّة في باب الزنا وارد، ولا يمكن التعدّي إلى سائر الحدود فضلاً عن باب المرافعات الذي هو محلّ بحثنا.

الخامس _ أنّ أصل التركيز على البيّنة في باب القضاء في الشريعة الإسلامية _ رغم أنّ خبر العدل الواحد ولو لم يضمّ إلى خبر عدل آخر ولا إلى يمين كثيراً ما يورث العلم ولو بضمّ بعض القرائن، وكثيراً ما يحصل للقاضي العلم بمقتضى القرائن أو خبر الثقة من دون خبر العدل الواحد أيضاً _ يفهم منه عدم نفوذ علم القاضي.

وهذا الوجه إن دلّ فإنّما يدل على عدم نفوذ علم القاضي غير المستند إلى الحسّ ولا ما يقرب من الحس؛ لأنّه هو الذي يكثر حصوله مع عدم البيّنة لا العلم المستند إلى الحسّ أو ما يقرب منه.

وهذا الوجه بهذا المقدار قاصر عن إثبات عدم حجّية العلم غير الحسّي أيضاً فضلاً عن العلم الحسّي، فإنّ خبر الواحد كما يورث كثيراً العلم كذلك يتفق كثيراً عدم إفادته للعلم، وهذا كافٍ في التركيز على البيّنة في الشريعة الإسلامية من دون أن يكون ذلك دالّاً على عدم حجّية العلم غير الحسي. نعم لو كان حصول العلم بخبر الواحد أمراً غالبياً وعدمه نادراً أمكن أن يقال: إنّ التركيز على البيّنة يدل على عدم حجّية العلم غير الحسّي.

إلا أنّه بالإمكان تطوير هذا الوجه بأن يقال: إنّه لم يرد إلينا خبر واحد _ ولو مرسل _

246

يصرّح بنفوذ علم القاضي؛ بينما هنا أبواب كثيرة ورد في بعضها من الأخبار ما شاء اللّه بشأن البيّنة وشروطها وأحكامها، والمفروض بمقاييس القضاء أن يرد ذكرٌ لها في الروايات ولو نادراً كما ورد ذكر البيّنة واليمين، ولم يرد ولو في حديث واحد ذكر لمقياسية علم القاضي غير الحسّي، فعلم القاضي الحسّي لو كان حجّةً كان من المعقول أن لا يرد نصّ خاصّ متصدٍ لبيان حجّيته؛ لأنّ حجّيته ارتكازية عند العقلاء، أمّا العلم الحدسي فلا ارتكاز لحجّيته؛ إذ من المعقول عند العرف والعقلاء افتراض عدم السماح للقاضي بالقضاء به؛ لأنّه يكثر فيه الخطأ. أفليس ورود الأخبار الكثيرة حول البيّنة وشروطها واليمين وعدم ورود نصّ واحد على نفوذ العلم الحدسي دليلاً قاطعاً على أنّ المقياس في نظر الشريعة عندما لا يوجد علم حسّي هو البيّنة واليمين دون العلم الحدسي؟! وبهذا الوجه يقيّد إطلاق مثل أدلّة القضاء بالحقّ والعدل المقتضي لنفوذ علم القاضي مطلقاً. فالنتيجة هي التفصيل بين العلم المستند إلى الحسّ أو ما يقرب من الحسّ والعلم غير المستند إلى الحسّ، فالأول نافذ، والثاني غير نافذ.

لا يقال: إنّ حجّية العلم الطريقي في إثبات متعلّقه عقليّة ومرتكزة عند العقلاء أيضاً ولو كان حدسياً، فإذا دلّ الدليل على وجوب القضاء بالحقّ والعدل كان علم القاضي ولو حدساً حجّة لإثبات كون القضاء الفلاني قضاءً بالحقّ والعدل، وكان هذا علماً طريقياً، فحجّيته واضحة ومرتكزة كحجّية العلم الحدسي، ولعلّه لهذا لم يرد نص خاص به.

فإنّه يقال: إنّ دليل وجوب القضاء بالحقّ والعدل وإن كان مقتضی إطلاقه القضاء بذلك ولو عن طريق العلم الحدسي، ولكن هذا لا يعني أنّ تمام الموضوع للقضاء هو ذات الحقّ من دون أن يكون قيام الحجّة عليه جزءاً للموضوع، بل المرتكز عند العقلاء خلاف ذلك؛ أي أنّ من قضى بالحقّ بلا حجّة يعتبر آثماً، لا

247

لمجرّد التجرّي، بل لعدم تماميّة موضوع جواز القضاء، فصحيح أن العلم بالحقّ أو أي حجّة أُخرى عليه طريق لإثبات أحد جزئي موضوع القضاء، لكنّه في نفس الوقت دخيل في موضوع القضاء في ارتكاز العقلاء، وعندئذٍ نقول: إنّ العلم إن كان حسّياً فهو كافٍ في جواز القضاء بالارتكاز، فعدم ورود نصّ متصدٍّ لبيان حجّيته أمر طبيعي. أمّا إذا كان حدسيّاً فعدم كفايته في القضاء أمر معقول ومحتمل عقلائيّاً؛ لكثرة الخطأ فيه، ولو كان كافياً في القضاء لكان المترقب ذكره في أحاديث مقاييس القضاء كما ذكرت البيّنة واليمين.

التفصيل بين العلم الحسي والحدسي

فالنتيجة إذاً هي التفصيل بين العلم الحسّي والعلم الحدسي، فالعلم الحسّي للقاضي حجّة أوّلاً: بالارتكاز غير المردوع عنه، وثانياً: بإطلاقات الأمر بالقضاء بالحقّ والعدل، وثالثاً: بما مضى من حديث سليمان بن خالد: «كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟» الدالّ على جواز القضاء بما رأى وشهد؛ بينما العلم الحدسي للقاضي غير حجّة بالبيان الذي عرفت.

ويمكن الاستدلال على هذا التفصيل بوجهين آخرين:

الأول _ ما مضى من حديث سليمان بن خالد عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «في كتاب علي (عليه السلام) أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟ قال: فاوحى اللّه إليه: احكم بينهم بكتابي وأضفهم إلى اسمي فحلّفهم (تحلفهم) به، وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(1). بناءً على أنّ قوله: «فيما لم أرَ ولم أشهد» إشارة إلى مطلق العلم الحسّي أو ما يقرب من الحسّ، أو أنّ العرف يتعدى


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص167، الباب الأول من كيفيّة الحكم، ح1

248

من فرض الرؤية إلى مطلق العلم الحسّي أو ما يقرب من الحسّ، وحينئذٍ فالحديث دلّ على حصر القضاء باليمين والبيّنة في غير مورد العلم الحسّي أو ما يقرب من الحسّ والقصّة وإن وقعت في زمن الأنبياء السالفين، لكنّ الظاهر من نقلها في هذا الحديث إمضاء ما فيها من حكم، والظاهر من البيّنة الواردة في آخر الحديث _ حسب ما هو متعارف في باب القضاء _ هو شهادة عدلين لا مطلق ما أفاد العلم.

وقد يقال في مقابل هذا البيان: إنّه كما يمكن تقييد إطلاقات الحكم بالحق والعدل بهذا الحديث كذلك يمكن العكس؛ بأن يقال: إنّ هذا الحديث حصر بإطلاقه مقياس القضاء في غير موارد العلم الحسّي باليمين والبيّنة، ونحن نقيّد هذا الإطلاق بعطف العلم غير الحسي على اليمين والبيّنة؛ لدلالة أدلّة الحكم بالحقّ والعدل على حجّيته، وليس تقييد تلك الأدلّة أولى من تقييد هذا الحديث.

هذا، ولكن قد يقال: إنّ المفهوم من قوله: «كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد» أنّه كان المركوز في ذهن هذا النبي أنّ القضاء أوّلاً وبالذات ينبغي أن يكون بالعلم الحسّي، فتحيّر في كيفيّة القضاء في غير مورد وجود العلم الحسّي، فاستفسر، فجاء الجواب بالقضاء باليمين والبيّنة. وهذا مع ما نعلمه من كثرة حصول العلم غير الحسّي للقاضي يعتبر كالمتصدّي بالخصوص لعدم حجّية العلم غير الحسّي، فتعيّن تقييد إطلاقات الحكم بالحق والعدل.

ولكنّ الإنصاف أنّ هذا الوجه غير تام؛ فإنّ قوله: «كيف أقضي في ما لم أرَ ولم أشهد؟»كما يحتمل فيه كونه ذكراً للرؤية والشهادة بما هي فرد للعلم الحسّي أو ما يقرب من الحسّ، كذلك يُحتمل فيه كونه ذكراً لها بما هي فرد للعلم، فصحيح أنّ المتيقن من ذلك هو العلم الحسّي، فلو أُريد الاستدلال بهذا الحديث على حجّية علم القاضي لم يدل على أكثر من حجّية العلم الحسّي أو ما يقرب من الحسّ، ولكن

249

ليست فيه دلالة على عدم حجّية العلم الحدسي.

الثاني _ الروايات الدالّة على أنّ الشهادة يجب أن تكون عن حسّ أو ما يقرب منه، بدعوى التعدّي من الشهادة إلى القضاء لعدم احتمال الفرق، أو أهونيّة الشهادة من القضاء عرفاً، كالحديث الوارد تارةً عن علي بن غياث، وأُخرى عن علي بن غراب عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لا تشهدنّ بشهادةٍ حتى تعرفها كما تعرف كفّك»(1). وما عن المحقّق في الشرائع عن النبي (صلى الله عليه و آله) وقد سئل عن الشهادة قال: «هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد، أودع»(2). فإذا تعدينا من باب الشهادة إلى باب القضاء قيّدنا بذلك إطلاقات القضاء بالحقّ والعدل، إلا أنّ هذه الروايات غير تامّة سنداً، ولو تمّت قلنا: إنّ احتمال الفرق عقلاً بين باب الشهادة وباب القضاء وارد، فلا يمكن التعدّي إلى باب القضاء عقلاً، كما أنّ احتمال الفرق عرفي فلا يمكن التعدّي من تلك الروايات _ لو تمّت سنداً _ إلى باب القضاء بدعوى إلغاء العرف الخصوصيّة. ووجه الفرق المحتمل عقلاً وعرفاً بين البابين هو أنّ الشاهد ليس أمره دائراً بين أن يشهد بالحقّ أو بالباطل، فلو كان علمه غير حسّي فليسكت ولا يشهد، ولكن ماذا يصنع القاضي فيما يكون علمه غير حسّي، وقد قام الدليل القضائي من اليمين أو البيّنة على خلاف علمه؟ فأمره دائر بين قضائه بعلمه وقضائه بما يعلم بخطئه. أمّا احتمال أن يحرم عليه القضاء، ويجب عليه السكوت فهو غير وارد لا في الفقه الإسلامي ولا في المرتكزات العرفيّة العقلائيّة.


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص235، الباب 8 من الشهادات، ح3، و الباب 20، ص250، ح1.

(2) نفس المصدر، ص251، الباب 20 من الشهادات.

250

علم القاضي مع شاهد واحد

يبقى الكلام في أنّ علم القاضي الذي يمكنه أن يشهد به لو لم نقل بنفوذه في القضاء بأن يقضي به بلا حاجة إلى البيّنة، فهل نقول بنفوذه كشاهد بأن يصحّ له القضاء بمجرّد أن ينضمّ إليه شاهد آخر، أو لا؟

لا موضوع لهذا البحث بناءً على مسلك الفقه الوضعي القائل بعدم اشتراط تعدد الشاهد في البيّنة.

أمّا لو فُرض شرط التعدّد افتراضاً فالمفهوم من الفقه الوضعي هو عدم نفوذه كجزء من البيّنة حينما نحتاج إليها، فإنّ نكتة عدم نفوذ علم القاضي عندهم هي أنّ للخصم أن يناقش الدليل، فإذا كان الدليل هو علم القاضي أصبح القاضي خصماً، أو أنّ القاضي إذا كان شاهداً في نفس الوقت فقد تأثّر بشهادته، فلا يصلح للقضاء وفصل الخصومة كما مضى ذلك في أوّل بحث قضاء القاضي بعلمه. وهذه الوجوه _ كما ترى _ تأتي أيضاً في ما إذا فرض القاضي أحد الشاهدين في البيّنة.

وعلى أيّ حالٍ فمن وجهة نظر فقهنا الإسلامي بالإمكان أن يقال: إنّ أدلّة حجّية الشهادة في باب القضاء منصرفة عن شهادة نفس القاضي، فهي تبيّن حجّية شهادة من يشهد لدى القاضي لا شهادة نفس القاضي، فالذهن لا ينتقل من الشهادة أو البيّنة إلى شهادة الإنسان لدى نفسه.

وفي مقابل ذلك قد يقال: إنّ وضوح عدم الفرق عقلائيّاً بين شهادة القاضي وشهادة أيّ عدلٍ آخر، وعدم تصوّر أيّ ضعفٍ في شهادة العدل حينما يصبح قاضياً يجعل العرف يفهم من دليل نفوذ البيّنة في باب القضاء الإطلاق، وكيف يحتمل العرف الفرق مثلاً بين أن يقضي هذا القاضي وفق شهادته وشهادة عدل آخر إلى جانبه، أو أن يذهب هو بصحبة ذاك العدل إلى قاضٍ آخر كي يحكم هو بشهادتهما؟!

251

فإن تمّ هذا الكلام ثبتت حجّية البيّنة التي يكون القاضي جزءاً منها، وإن لم يتمّ هذا الكلام، فقد يقال: إنّه لا دليل على حجّية البيّنة حتى مع غضّ النظر عمّا أشرنا اليه من إمكانيّة دعوى الانصراف؛ إذ لا إطلاق حَكَمي في أدلّة نفوذ البيّنة في باب القضاء لشهادة القاضي، فمثلاً قوله (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» إنّما هو بصدد بيان حصر مدرك قضائه بالبيّنات والأيمان، أمّا ما هي شروط البيّنات؟ وهل تكفي شهادة نفس القاضي عن أحد فردي البيّنة؟ فليس الحديث بصدد بيان ذلك. وما مضى من حديث سليمان بن خالد الدالّ على القضاء بالبيّنات والأيمان قد فرض فيه عدم رؤية القاضي للواقعة؛ حيث قال النبي: «يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟» فكيف يمكن افتراض تماميّة الإطلاق الحَكَمي فيه لشهادة نفس القاضي؟! وما ورد من أحاديث كون البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر(1) إنّما هي بصدد بيان من عليه البيّنة لا بصدد بيان شرائط البيّنة، وأنّه هل يجوز أن يكون القاضي جزءاً من البيّنة أو لا؟ وما ورد من قبول شهادة المحدود بعد التوبة(2)، أو قبول شهادة المسلم على الكافر(3) أو نحو ذلك أيضاً _ كما ترى _ ليس بصدد البيان من هذه الناحية، فإذا لم يتمّ إطلاق حَكَمي في أدلّة الحجّية القضائية للبيّنة وصلت النوبة إلى اليمين.

وقد يُقال: إنّما تصل النوبة إلى اليمين لو قلنا بانصراف البيّنات في قوله (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» إلى بيّنة لا يكون القاضي جزءاً منها: أمّا لو لم نقل بالانصراف ولم يتمّ الإطلاق أيضاً فقد بقينا حائرين لا ندري ماذا نصنع؟ إذ لا يوجد


(1) راجع وسائل الشيعة، ج 18، الباب 3 من كيفيّة الحكم.

(2) راجع نفس المصدر، الباب 36 و 37 و 38 من الشهادات.

(3) نفس المصدر.

252

دليل على حجّية البيّنة؛ لعدم الإطلاق حسب الفرض، ولا دليل على حجّية اليمين؛ لأنّ اليمين إنّما تصل النوبة إليه بعد عدم البيّنة الحجّة، ونحن نحتمل في المقام كون البيّنة حجّةً، فإنّه وإن لم يدل الدليل على حجّيتها لكنّه لم يدل أيضاً على عدم حجّيتها.

والجواب على ذلك: أنّ المفهوم عرفاً ممّا دلّ على كون اليمين هو المرجع بعد فقد البيّنة الحجّة كونه حجّةً بعد فقد البيّنة التي تتوفّر فيها الحجّية القضائية الفعلية، والمفروض في المقام أنه لم تصبح حجّية البيّنة فعليةً؛ لأنّها لم تصل إلينا.

وفي الختام لا بأس بأن نشير إلى أنّ الكتابة والقرائن اللتين جعلهما الفقه الوضعي من طرق الإثبات في باب القضاء، ووقع البحث المفصّل حولهما عندهم، تكون كلمتنا الإسلامية بشأنهما أنّهما متى ما أوجبتا العلم الذي يُعَدُّ من الحسّ أو ما يقرب من الحسّ دخلتا في القضاء بالعلم وإلا فلا عبرة بهما.

253

طرق الإثبات في الفقه الإسلامي

2

 

 

البيّنة

 

 

  1- معنى المدّعي والمنكر

  2- شرائط البيّنة

  3- هل تجري البيّنة واليمين على عكس القاعدة؟

  4- مدى نفوذ بيّنة المنكر

  5- تعارض البيّنتَين

 

 

255

البيّنة

الطريق الثاني: البيّنة.

قد اتّفقت كلمة الشريعة الإسلامية والفقهاء الوضعيين على أنّ القاعدة الأوليّة في باب القضاء هي مطالبة المدّعي بالبيّنة، ومطالبة المنكر باليمين، ففي الحديث بسند تام عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه»(1).

وقال أحمد نشأت في كتابه رسالة الإثبات المكتوب وفق القضاء الوضعي:

«وممّا تقدم يمكن وضع القاعدة الآتية: المكلّف بالإثبات هو من يدّعي خلاف الثابت أصلاً أو عرفاً، أو خلاف الظاهر، أو خلاف قرينة قانونيّة غير قاطعة، أو خلاف قرينة قضائيّة....

والقاعدة الرومانيّة: أنّ المدّعي هو المكلف بالإثبات، وأنّ المنكر لا يلزم بإثبات....

والقاعدة الإنجليزية: أنّ من يدّعي حقّاً أو يدفعه، أي يدّعي التخلّص منه عليه الإثبات.


(1) وسائل الشيعة، ج18، الباب 3 من كيفيّة الحكم، ح1

256

41_ أمّا القاعدة الفرنسية، فكما جاء في المادّة 1315 من القانون المدني الفرنسي (التي تقابل عندنا المادّة 289 من القانون المدني القائم، وهي: «على الدائن إثبات الالتزام، وعلى المدين إثبات التخلّص منه» وبمعناها المادّة 214 / 278 من القانون المدني السابق) هي: من يطالب بتنفيذ تعهّد وجب عليه إثباته، ومن ادّعى التخلّص وجب عليه إثبات الدفع الذي انقضى به ذلك التعهّد...»(1).

وعلى أيّ حالٍ، فالكلام في البيّنة يقع ضمن عدّة أبحاث:

1_ معنى المدّعي الذي عليه البيّنة في مقابل المنكر.

2_ شرائط البيّنة.

3_ هل يوجد مورد للاستثناء من القاعدة المعروفة، أي قاعدة «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»؟ وما هو ذلك المورد؟

4_ هل تقبل البيّنة من المنكر؟

5_ تعارض البيّنات.


(1) رسالة الإثبات، ج 1، ص70 _ 71، الفقرة 39 إلى41