222

أقول: الظاهر أنّ عبيداللّه هو عبداللّه، فإمّا إنّ هذا محمول على اختلاف النسخ، أو تعدّد الاسم ونحو ذلك، ويؤيّد هذا كلام النجاشي نفسُه في عمران البرقي الجنابي حيث قال: عمران البرقي الجنابي (أو الجبابي أو الجبائي) أبو محمد جدّ محمد بن أبي القاسم عبداللّه بن عمران...(1).

هذا ويظهر من مجموع هذه النصوص: أنّ هناك شخصاً واحداً هو علي بن محمد بن بندار وهو علي بن محمد بن عبداللّه؛ إذ عرفت أنّ النجاشي لقّب جدّ علي بن محمد وهو عبداللّه والمكنّى بأبي القاسم ببندار، فإذا افترضنا أنّ علي بن محمد الذي ينقل عنه الكليني كثيراً وروى عنه الحديث الذي نحن بصدده هنا هو نفسه علي بن محمد بن بندار الذي روى عنه كثيراً أيضاً وهو علي بن محمد بن عبداللّه الذي روى عنه كثيراً أيضاً، فقد ثبتت بذلك وثاقته؛ لما مضى من تصريح النجاشي بوثاقة علي بن أبي القاسم عبداللّه بن عمران البرقي المقصود به علي بن محمد بن عبداللّه بن عمران البرقي، والذي هو متّحد مع علي بن محمد بن بندار، وبهذا تثبت وثاقة المعنون بكلّ هذه العناوين الثلاثة الواردة في الكافي، وهذا ما استظهره السيد الخوئي في رجاله؛ حيث استظهر وحدة أسماء الثلاثة المروي عنهم في الكافي من قبل الكليني مباشرةً.

نعم، استظهر مغايرة العنوان الرابع _ وهو علي بن محمد بن عبداللّه القمّي _ الوارد في روايتين في الكافي للعناوين السابقة.

وشاهده على المغايرة أنّه روى في الكافي في باب الإجمال في الطلب من كتاب المعيشة قبل الروايتين مباشرة رواية علي بن محمد عن سهل، ثم ذكر رواية علي بن محمد بن عبداللّه القمّي عن أحمد بن أبي عبداللّه، ثم ذكر الرواية الثانية عنه (والضمير


(1) نفس المصدر، ص 207

223

راجع إلى أحمد بن أبي عبداللّه يعني أنّ الراوي هو علي ابن محمد بن عبداللّه القمّي، عن أحمد بن أبي عبداللّه) عن ابن فضّال، ثم ذكر مباشرةً رواية أُخرى عن علي بن محمد، عن ابن جمهور يقول السيد الخوئي: «والظاهر من هذه العبارة أنّ علي بن محمد بن عبداللّه القمي مغاير لمن ذكر قبله وبعده، واللّه العالم»(1).

أقول: الرواية عن علي بن محمد بعد الروايتين ليست قرينة على التعدّد؛ لأنّ الرواية الثانية من الروايتين ابتدأت بكلمة (عنه)، والضمير راجع إلى أحمد بن أبي عبداللّه، فهو (رحمه الله) مضطرّ بعد ذلك إذا أراد الحديث عن علي بن محمد إلى تكرار الاسم، وإذا كرّر الاسم جاز حذف الجدّ واللقب اعتماداً على ما سبق.

وعلى أي حال فالقرينة التي نحن أشرنا إليها أقوى، فإنّها تشير إلى أنّ المقصود بعلي ابن محمد بن عبداللّه القمّي هو علي بن محمد بن عبداللّه بن أُذينة، وهذا يعني أنّه غير علي بن محمد بن عبداللّه بن عمران.

أمّا ما استظهره السيد الخوئي من وحدة العناوين الثلاثة في عبارة الكافي فلا يبعد صحّة استظهار الوحدة بين علي بن محمد وعلي بن محمد بن بندار حتى لو كان علي بن محمد بن عبداللّه شخصاً آخر، وذلك لأنّ كثرة نقل الكليني عن علي بن محمد بن بندار تكون قرينةً على انصراف علي بن محمد في لسانه في الكافي إليه كما قاله السيد الخوئي (رحمه الله)، ونقلُهُ عن علي بن محمد بن عبداللّه وإن كان كثيراً أيضاً، ولكن نقله عن علي بن محمد بن بندار أكثر منه إلى حدّ الضعف تقريباً، وبهذا تثبت وثاقة علي بن محمد الوارد في حديثنا.

أمّا وحدة علي بن محمد بن عبداللّه وعلي بن محمد بن بندار بدعوى الانصراف


(1) معجم رجال الحديث، ج 12، ص 166

224

أيضاً لكثرة نقله عن علي بن محمد بن بندار فغير واضحة. صحيح أنّ شخصاً واحداً كان مسمّىً بعبداللّه وببندار، لكن احتمال أن يكون علي بن محمد _ الذي هو ابن لعبداللّه المسمّى ببندار _ معروفاً بعلي بن محمد بن بندار، ويكون علي بن محمد بن عبداللّه القمّي (أو قُل: علي بن محمد بن عبداللّه بن أُذينة) هو المعروف بعلي بن محمد بن عبداللّه وارد لا رافع له.

والحاصل أنّ عنوان (علي بن محمد) مطلق، بمعنى تجريده عن ذكر قيوده الواقعية (لا بمعنى المطلق الحَكَمي)، ومطلق من هذا القبيل منصرف إلى من يكثر ذكره في كلام المُطلِق، ولكن (علي بن محمد بن عبداللّه) و(علي بن محمد بن بندار) قيّد كلّ منهما بقيد غير قيد الآخر أي نسب أحدهما إلى عبداللّه، ونسب الآخر إلى بندار، واحتمال كون الدافع إلى ذلك التمييز بينهما _ رغم أنّ بنداراً مسمّىً بعبداللّه _ موجود؛ بأن يكون أحدهما مشهوراً بهذا الاسم والآخر بذاك الاسم.

وقد تحصّل من كل ما ذكرناه أنّه متى ما روى الكليني عن علي بن محمد بن بندار فهو عبارة عن علي بن محمد بن عبداللّه، الذي مضى عن النجاشي توثيقه، ومتى ما روى عن علي بن محمد بن عبداللّه، أو علي بن محمد بن عبداللّه القمّي فلا دليل على التوثيق، ومتى ما روى عن علي بن محمد فلا يبعد انصرافه إلى علي بن محمد ابن بندار الثقة.

هذا تمام الكلام في علي بن محمد الوارد في أوّل سند حديثنا.

وقد ورد بعده محمد بن أحمد المحمودي عن أبيه، ولا دليل على وثاقة محمد بن أحمد المحمودي عدا توقيع الإمام أبي محمد العسكري (عليه السلام) بنقل الكشي عن بعض الثقات، وقد جاء فيه: (واقرأه علی المحمودي فما أحمدناله لطاعته) كما لا دليل على حُسن حال أبيه عدا ما نقله الكشي عن ابن مسعود عن المحمودي أنّ أبا جعفر (عليه السلام)

225

كتب إليه بعد وفاة أبيه: (قد مضى أبوك رضي الله عنه وعنك وهو عندنا على حالة محمودة، ولن تبعد من تلك الحالة).

وأمّا يونس فلا إشكال في جلالته.

وأمّا الراوي المباشر وهو الحسين بن خالد فسواء كان المقصود به الحسين بن خالد الصيرفي، وهو المعروف بالحسين بن خالد، أوكان المقصود به الحسين بن أبي العلاء بقرينة روايته عن الصادق (عليه السلام) فهو ثقة؛ إذ روى عن الثاني الأزدي والبجلي، وروى عن الأول كلّ الثلاثة.

وعلى أيّ حال فقد اتّضح بهذا العرض أنّ سند الحديث لا يخلو من إشكال؛ لعدم ثبوت دليل واضح على وثاقة أبي المحمودي.

وأمّا الدلالة _ فقد يقال: إنّ الرواية إنّما دلّت على نفوذ علم الحاكم في حقوق اللّه؛ لأنّ الحقّ إذا كان للّه فالواجب على الإمام إقامته _ على حدّ تعبير الرواية _ أمّا حقوق الناس فليست مورداً لما في هذه الرواية من الحكم بنفوذ العلم، بل قد تدل على التفصيل بينهما.

ولكن قد يقال: إنّ الظاهر من التفصيل الوارد في الرواية بين حقوق اللّه وحقوق الناس وتعليله بكون الإمام أميناً للّه، أنّ الفرق بينهما إنّما هو أنّ الأول للّه فيجريه الحاكم بلا حاجة إلى مطالبة أحد إيّاه، وأمّا الثاني فبما أنّه للناس فإجراؤه إنّما يكون عند مطالبة ذي الحق به، والظاهر من ذلك أنّها من حيث نفوذ العلم سيّان.

هذا، ولكن الواقع أنّ هناك احتمالاً آخر في الحديث وهو أن يقصد به أنّ الإمام أمين اللّه في خلقه، فاللّه يعتمد على علمه في حقوقه من دون بيّنة ومن دون مطالبة أحد بإجراء الحقّ أمّا حقوق الناس فهي للناس ولم يكن هو أميناً للناس، فلابدّ من السير فيها وفق القوانين المعتبرة في حقوق الناس من رفع النزاع أو مطالبة الحقّ،

226

ولعلّ منها البيّنة وعدم الاكتراث بعلم القاضي. فالحديث دالّ على نفوذ العلم في حقوق اللّه، ومجمل بالنسبة لحقوق الناس.

هذا، ورغم الإجمال قد يصلح دليلاً لما قد ينسب إلى البعض من القول بالتفصيل بنفوذ العلم في حقوق اللّه دون حقوق الناس، وذلك بناءً على إثبات كون القاعدة الأوليّة عدم نفوذ العلم في باب القضاء، خرج منه العلم في حقوق اللّه بهذا الحديث. وقد يتعدّى منه إلى حقوق الناس بالأولويّة بدعوى أنّ حقوق اللّه مبنيّة على المسامحة والعفو، بخلاف حقوق الناس، وهذه الدعوى في ذاتها قد تكون دليلاً للتفصيل العكسي الذي قد ينسب إلى البعض.

والواقع أنّ كلا التفصيلين لا أساس صحيح لهما، فهذا الأخير لا يعدو أن يكون استحساناً، والحديث قد عرفت عدم تماميّته سنداً.

وقد يقال: إنّ هذه الرواية إنّما دلّت على نفوذ علم الإمام؛ إذ تقول: «الواجب على الإمام...»، ولم تدل على نفوذ علم القاضي مطلقاً، ولذا ذكرها صاحب الجواهر (رحمه الله) في عداد أدلّة نفوذ علم الإمام في القضاء، لا في عداد أدلّة نفوذ علم القاضي على الإطلاق، وهذا الكلام مبني على حمل كلمة (الإمام) على الإمام المعصوم دون مطلق ولي الأمر الشرعي للمجتع.

وإن تمّ هذا الحمل فبالإمكان التخلّص عن هذا الإشكال بالتعدّي إلى الفقيه، إمّا تمسّكاً بعموم التعليل بأنّه أمين اللّه في خلقه بناءً على صدق هذا العنوان على الفقيه بعد فرض الإيمان بولاية الفقيه، وإمّا تمسّكاً _ ابتداءً _ بأدلّة ولاية الفقيه بدعوى أنّها جعلت ما للإمام للفقيه ومنها الحكم بالعلم، بل ولعلّه يمكن التعدّي إلى غير الفقيه ممّن أعطاه الفقيه هذا المنصب ببيان: أنّه إذا كان للإمام حقّ إعطاء هذا المنصب بما فيه من الحكم بالعلم لغيره، فللفقيه أيضاً حقّ إعطائه لغيره؛ لأنّ ما

227

للإمام للفقيه.

هذا، ولكن الظاهر أنّ الوجه الثاني للتعديّ غير تامّ في المقام؛ لأنّ دليل ولاية الفقيه لم يرد بعنوان «ما للإمام للفقيه» حتى يتمسّك بإطلاقه، ويقال: إنّه كان للإمام أن يقضي بعلمه فكذلك للفقيه، وإنّما الدليل أثبت أنّ ما للإمام بعنوان الولاية فهو للفقيه، وكون العلم مقياساً للقضاء وعدمه حكم شرعي فقهي ليس راجعاً إلى مسألة الولاية بحيث لو رأى ولي الأمر مثلاً المصلحة في القضاء بالعلم قضى به، ولو رأى عدم المصلحة في ذلك لم يقضِ به، ولا أقلّ من احتمال ذلك، فإذا ثبت في علم الإمام كونه مقياساً للقضاء لم يبرّر مبدأ ولاية الفقيه التعدّي من ذلك إلى الفقيه فضلاً عن غير الفقيه المنصوب من قبل الفقيه.

يبقى الوجه الأول وهو إن تمّ يختصّ بالفقيه، ولا يتعدّى منه إلى غير الفقيه المنصوب من قبل الفقيه.

وتبقى نقطة واحدة في هذه الرواية، وهي أنّ هذه الرواية دلّت على أنّ حدّ السرقة من حقوق الناس؛ ولذا ليس للقاضي إجراؤه قبل مطالبة ذي الحقّ بذلك. فقد يقال: إنّ هذه نقطة ضعف في الرواية، فالمفهوم لدينا فقهيّاً والمستفاد من الآية الشريفة أنّه من حقوق اللّه، قال اللّه تعالى: ﴿وَالسّٰارِقُ وَالسّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا جَزٰاءً بِمٰا كَسَبٰا نَكٰالاً مِنَ اللّٰـهِ وَاللّٰـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(1). وكذلك المستفاد من روايات قطع يد السارق بمجرّد الإقرار على خلاف فيما بينها في كفاية الإقرار مرّةً واحدةً، أو اشتراط الإقرار مرتين(2)؛ إلا أنّ بالإمكان الإجابة عن هذا بأنّ كون حدّ من الحدود


(1) المائدة: 38.

(2) لاحظ الروايات في وسائل الشيعة، ج 18، الباب 3 من حدّ السرقة، والرواية الأُولى من الباب 32، من مقدّمات الحدود.

228

من حقوق اللّه أو من حقوق الناس أمر قابل للتشكيك، فتارةً يكون حدّ من الحدود من حقوق اللّه محضاً كما في حدّ الزنا، وأُخرى يكون من حقوق الناس بمعنى أنّه ما لم يطالب به صاحبه لا يُجرى، كما ورد ذلك في بعض الروايات بالنسبه لحد القذف(1). وحدّ السرقة ليس من هذا القبيل، فبالإمكان اجراؤه بمجرّد الإقرار مرّةً أو مرتين على ما تقتضيه روايات الإقرار بالسرقة، وثالثةً يكون أمراً بين أمرين، فهو من حقوق اللّه بمعنى أنّ مجرّد الإقرار به يكفي في جواز إجراء الحدّ عليه من قبل الحاكم، كما هو المستفاد من روايات الإقرار بالسرقة، ولكنّه من حقوق الناس بمعنى أنّ من حقّ صاحبه أن يعفو عنه قبل أن يصل الأمر إلى الإمام؛ وإن كان لا يحقّ له العفو بعد وصوله إليه، والسرقة من هذا القبيل على ما دلّ عليه حديث الحلبي التامّ سنداً عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن الرجل يأخذ اللصّ يرفعه، أو يتركه؟ فقال: إنّ صفوان بن أُميّة كان مضطجعاً في المسجد الحرام فوضع رداءه وخرج يهريق الماء فوجد رداءه قد سرق حين رجع إليه فقال: من ذهب بردائي؟ فذهب يطلبه فأخذ صاحبه فرفعه إلى النبي (صلى الله عليه و آله)، فقال النبي (صلى الله عليه و آله): إقطعوا يده، فقال الرجل: تقطع يده من أجل ردائي يا رسول اللّه؟ فقال: نعم. قال: فأنا أهبه له، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): فهلّا كان هذا قبل أن ترفعه إليّ. قلت: فالإمام بمنزلته إذا رفع إليه؟ قال: نعم. قال: وسألته عن العفو قبل أن ينتهي إلى الإمام، فقال: حسن»(2)، وورد بسند تام عن الحسين بن أبي العلا عن أبي عبداللّه (عليه السلام) نحوه وإن كانت القصّة الواردة في هذا الحديث فيها نقطة ضعف، وهي أنّ من يسرق من الأماكن العامّة ومن غير حرز لا تقطع


(1) رأيت في ذلك حديثين: أحدهما الرواية الأُولى من الباب 32 من مقدّمات الحدود، من وسائل الشيعة، ج18، ص 344، والثاني الرواية الواردة في الباب 6 من حدّ القذف من ذاك المجلّد ص 440.

(2) وسائل الشيعة، ج 18، ص329، الباب 17 من مقدّمات الحدود.

229

يده، بينما جاء في هذه القصة الحكم بقطع يد السارق عباءة صفوان بن أُميّة التي كانت في المسجد الحرام، ولعلّ هناك خطأ من الراوي، ويكون الأصح ما جاء في ذكر هذه القصّة في مرسلة الصدوق(1) من افتراض أنّ صفوان كان نائماً فلعلّه كان نائماً على عباءته، وعدّ هذا كالحرز.

وعلى أيّ حال فهناك رواية أُخرى تامّة سنداً تدل على أنّ المسروق منه له حقّ العفو عن السارق قبل رفعه إلى الإمام لا بعد رفعه، وهو ما عن سماعة بن مهران عن أبي عبداللّه (عليه السلام)، قال: «من أخذ سارقاً، فعفا عنه فذلك له، فإذا رفع إلى الإمام قطعه، فإن قال الذي سرق له: أنا أَهبُه لم يدعْه الإمام حتى يقطعه إذا رفعه إليه، وإنّما الهبة قبل أن يرفع إلى الإمام، وذلك قول اللّه (عزوجل): ﴿وَالْحٰافِظُونَ لِحُدُودِ اللّٰهِ﴾(2)فإذا انتهى الحدّ إلى الإمام فليس لأحد أن يتركه»(3).

الدليل التاسع _ ما ورد بسند تام عن عبدالرحمن بن الحجّاج قال: «دخل الحكم ابن عتيبة وسلمة بن كهيل على أبي جعفر (عليه السلام) فسألاه عن شاهد ويمين، فقال: قضى به رسول اللّه (صلى الله عليه و آله)، وقضى به علي (عليه السلام) عندكم بالكوفة، فقالا: هذا خلاف القرآن، فقال: وأين وجدتموه خلاف القرآن، قالا: إنّ اللّه يقول: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾(4)، فقال: قول اللّه: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾هو لا تقبلوا شهادة واحد ويميناً؟! ثم قال: إنّ عليّاً (عليه السلام) كان قاعداً في مسجد الكوفه، فمرّ به عبداللّه بن قفل التميمي ومعه درع طلحة، فقال علي (عليه السلام): هذه درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة.


(1) نفس المصدر، ص509، الباب 18 من حدّ السرقة، ح4.

(2) التوبة: 112.

(3) وسائل الشيعة، ج 18، ص330، الباب 17 من مقدّمات الحدود، ح3.

(4) الطلاق: 2.

230

فقال له عبداللّه بن قفل: اجعل بيني وبينك قاضيك الذي رضيته للمسلمين، فجعل بينه وبينه شريحاً، فقال علي (عليه السلام): هذه درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة، فقال له شريح: هات على ما تقول بيّنة، فأتاه بالحسن فشهد أنّها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة، فقال شريح: هذا شاهد واحد ولا أقضي بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر، فدعا قنبر فشهد أنّها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة، فقال شريح: هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك. قال: فغضب علي (عليه السلام)، وقال: خذها فإنّ هذا قضى بجور ثلاث مرّات. قال: فتحوّل شريح وقال: لا أقضي بين اثنين حتى تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرّات، فقال له: ويلك _ أو ويحك _ إنّي لمّا أخبرتك أنّها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة فقلت: هات على ما تقول بيّنة، وقد قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): حيث ما وجد غلول أُخذ بغير بيّنة. فقلت: رجل لم يسمع هذا الحديث فهذه واحدة، ثم أتيتك بالحسن فشهد، فقلت: هذا واحد ولا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر، وقد قضى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) بشهادة واحد ويمين فهذه ثنتان، ثم أتيتك بقنبر، فشهد أنّها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة، فقلت: هذا مملوك، وما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلاً. ثم قال: ويلك _ أو ويحك _ إنّ إمام المسلمين يؤمَنُ من أمورهم على ما هو أعظم من هذا»(1). ورواه الصدوق باسناده التام عن محمد ابن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام)، واقتصر على قصّة علي (عليه السلام) مع شريح وزاد في آخرها: «ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): إنّ أوّل من ردّ شهادة المملوك رمع»(2).

ولو شكّك في السند الأول باستبعاد لقاء عبدالرحمن بن الحجاج لأبي جعفر الباقر (عليه السلام)


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص194، الباب 14 من كيفيّة الحكم، ح6.

(2) الفقيه، ج 3، ص63 _ 64، بحسب الطبعة الجديدة للآخوندي، الباب 46 من أبواب القضايا والأحكام، ح4.

231

فنقله لهذه القصّة قد لا تجري فيه أصالة الحسّ، فهذا التشكيك لا يأتي في السند الثاني؛ لأنّ محمد بن قيس قد لقي أبا جعفر (عليه السلام)، وروى عنه.

قوله: «أُخذت غلولاً يوم البصرة...» الغلول بمعنى الخيانة، والظاهر أنّ المقصود هو أنّ درع طلحة في يوم البصرة كانت من الغنائم فأخذها أحدهم قبل قسمة الغنائم خيانةً وغلولاً، وقد قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): حيث ما وجد غلول أُخذ بغير بيّنة، فكأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) أمر _ اهتماماً بمنع الغلول في الحرب _ بقبول قول أمير الحرب، أو بقبول قول أي واحد من المحاربين في كون ما عثر عليه غلولاً، وأسقط حجّية اليد في مقابل قول أمير الحرب أو في مقابل قول أيّ واحد منهم، وبما أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان في حرب البصرة إمام الحرب فلا معنى لمطالبته بالبيّنة. وهذا الحديث دليل على جواز اغتنام ما حواه العسكر في حرب البغاة.

قوله: «خذها... » جاء في رواية الصدوق التي أشرنا إليها: «خذوا الدرع...» وكأنّ المقصود بذلك أمر أصحابه (عليه السلام) بأخذ الدرع رغم قضاء شريح؛ لأنّ شريحاً قضى بالجور.

قوله: «ويلك _ أو ويحك _ إنّ إمام المسلمين يؤمَن من أمورهم على ما هو أعظم من هذا» هذا المقطع هو محلّ الشاهد، ووجه الاستشهاد: إمّا هو القول بأنّ هذه العبارة إشارة الى إشكال آخر على شريح: وهو أنّه كان المفروض بشريح أن يحصل له العلم بصحّة كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) وأن يحكم بعلمه. وإمّا هو التمسّك ابتداء بعموم هذه القاعدة، وهي قاعدة أنّ إمام المسلمين يؤمَن من أمورهم على ما هو أعظم من هذا؛ بدعوى أنّ نفوذ قضاء الإمام بعلمه مصداق لائتمان الإمام على أمور المسلمين.

وعلى الوجه الأول يدل الحديث على نفوذ علم القاضي إطلاقاً، وعلى الوجه الثاني يدل على نفوذ علم الإمام، بل على الوجه الأول _ أي على تقدير التمسّك

232

بإيراد الإمام (عليه السلام) إشكالاً رابعاً على شريح أيضاً _ يحتمل أن يكون إشكاله عليه: أنّه لِمَ لم يقضِ وفق علم الإمام؟ فالمتيقّن من هذا الحديث هو حجّية علم الإمام في القضاء، ولا يثبت جواز قضاء الفقيه بعلمه إلا أن يتعدّى إلى الفقيه: إمّا بدعوى أن المقصود من إمام المسلمين هو ولي الأمر، لا خصوص الإمام المعصوم، أو بدعوى التمسّك ابتداءً بدليل ولاية الفقيه وأنّ ما للإمام للفقيه. وقد عرفت في الوجه السابق النقاش في ذلك، حيث قلنا إنّ مقياسية العلم ليست من الأحكام الولائية حتى تنتقل إلى الفقيه بقانون ولاية الفقيه، بل هي من الأحكام الفقهية، ولا أقّل من احتمال ذلك، ولا دليل لنا على قاعدة مطلقة تقول: إنّ كلّ ما للإمام فهو للفقيه.

لا يقال: إنّ قضاء القاضي بأيّ لون من الألوان هو نوع ولاية للقاضي، فقضاء الإمام بعلمه هو حكم ولائي فينتقل إلى الفقيه بحكم ولاية الفقيه.

فإنّه يقال: إنّ انتقال هذه الولاية إلى الفقيه يعني أنّ الفقيه يقضي بعلم الإمام لو شهد لديه الإمام بشيء؛ أي: إنّ علم الإمام هو أحد مقاييس القضاء حتى في قضاء الفقيه، ولا يختص بقضاء الإمام نفسِه، أمّا أنّ مطلق علم القاضي هو أحد مقاييس القضاء، أو أنّ خصوص علم الإمام هو أحد المقاييس، فهذا حكم فقهي شرعي، وليس حكماً ولائياً كي يتمسّك بدليل ولاية الفقيه لإثبات كون المقياس هو مطلق علم القاضي.

هذا، وصاحب الجواهر (رحمه الله) استدلّ بهذا الحديث على نفوذ علم الإمام المعصوم فحسب، لا على نفوذ مطلق علم القاضي، فكأنّه ينظر إلى الوجه الثاني من وجهي الاستشهاد اللذين أشرنا إليهما.

233

الدليل العاشر _ الروايتان الواردتان(1) بشأن قصّة النبي (صلى الله عليه و آله) في شرائه للناقة من الأعرابي، حيث وقع الخلاف بينه وبين الأعرابي في الرواية الأولى حول أداء الثمن، وفي الرواية الثانية حول أصل بيع الناقة، وكان حُكْم أمير المؤمنين (عليه السلام) فيهما أن قتل الأعرابي. والرواية الأُولى تامّة سنداً، والثانية غير تامّة سنداً.

أمّا وجه الاستدلال فبالإمكان أن يقال: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد حكم في مورد الحديث بعلمه أو بعلم رسول اللّه (صلى الله عليه و آله)، وهذا دليل على نفوذ علم المعصوم في القضاء، فإن تمّ التعدّي إلى الفقيه بواسطة مبدأ ولاية الفقيه تعدّينا إليه، وإلا _ كما ناقشنا في ذلك في الوجه السابق _ لم يدل هذا الوجه على أكثر من نفوذ علم المعصوم، وهو غير المقصود.

وعلى أيّ حال فيرد عليه لو اقتصرنا على التمسّك بعمل الإمام (عليه السلام): أنّ بالإمكان حمل عمل أمير المؤمنين (عليه السلام) على تنفيذ القتل بشأن من كذّب الرسول (صلى الله عليه و آله)، لا على القضاء بمعنى خصم النزاع، وإن كان قد ارتفع به النزاع تكويناً.

وبتعبير آخر: لعلّ هذا الحكم لم يكن قضاء بمعنى فصل النزاع في حقوق الناس، بل كان إجراءً لحدّ هو من حقوق اللّه، وقد مضت _ في الدليل السادس _ الإشارة إلى أنّ التعدّي من حقوق اللّه إلى حقوق الناس غير صحيح، كما أنّ أمر أمير المؤمنين (عليه السلام) للأعرابي في إحدى الروايتين بتسليم الناقة إلى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) يمكن حمله على إرشاده إلى وظيفته الشرعية.

نعم، بالإمكان أن يجعل الدليل على نفوذ علم المعصوم في القضاء أصل قاعدة


(1) راجع وسائل الشيعة، ج 18، ص200 _ 201، الباب 18 من كيفيّة الحكم، ح 1 و 2، والفقيه، ج 3، الباب 46، ص60 _ 62، ح1 و2

234

وجوب تصديق الإمام فيما يقول وكفر مكذّبه مثلاً، كما استدلّ به في الجواهر جاعلاً هذا الحديث شاهداً على تلك القاعدة بقوله: «ولذا قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) خصم النبي (صلى الله عليه و آله) لمّا تخاصما إليه في الناقة وثمنها».

وهذا أيضاً يرد عليه: أنّ هذا إنّما يدل على أنّنا لو شاهدنا المعصوم قضى بعلمه وجب علينا التسليم. أمّا أنّه هل يجوز له أن يقضي بعلمه فيقضي بالفعل بعلمه أو لا يجوز له، فلا يقضي إلا بالبينات والأيمان، فلا توجد أيّ ملازمة بين وجوب تصديقه وكفر مكذّبه وبين جواز أن يقضي هو بعلمه.

هذا، والصحيح دلالة هذا الحديث على القضاء بعلم المعصوم؛ لأنّ فيه تخطئة القضاء وفق صالح الأعرابي وتصويب قضاء علي (عليه السلام): إمّا صريحاً كما في الحديث الأول التام سنداً؛ حيث جاء في ذيله أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) قال للقرشي الذي أراد الحكم لصالح الأعرابي: «هذا حكم اللّه، لا ما حكمت به»، أو تلويحاً كما في الحديث الثاني الذي قال فيه النبي (صلى الله عليه و آله) للأعرابي بعد أن أراد ثلاثة أشخاص الحكم لصالح الأعرابي: «إجلس حتى يأتي اللّه بمن يقضي بيني وبين الأعرابي بالحقّ» فأقبل علي بن أبي طالب (عليه السلام)....

هذا، وقد يقال: إنّ الحديث دلّ على نفوذ علم غير المعصوم أيضاً؛ لأنّ من خطّأه النبي (صلى الله عليه و آله) في قضائه لم يكن معصوماً، فكأنّه يقول له: كان المفروض بك أن يحصل لك العلم بما قلت وتقضي وفقه.

ولكنّ الواقع أنّ الحديث إنّما دلّ على أنّه مع علم المعصوم ودعواه يجب القضاء وفقه، وهذا لا يدل على نفوذ علم القاضي من أيّ طريق حصل.

الدليل الحادي عشر _ ما أُشير إليه في بعض كلمات الأصحاب من قصّة رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) مع الأعرابي في شرائه لفرس منه ثم إنكار الأعرابي لذلك، وشهادة

235

خزيمة لصالح النبي (صلى الله عليه و آله) اعتماداً على تصديق رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) وتسميته من قبل رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) لذلك بذي الشهادتين(1). وذلك بدعوى الملازمة العرفية بين صحّة الشهادة اعتماداً على علم المعصوم المستلزمة لجواز اجتماع شاهدين أو أكثر على المدّعى اعتماداً على علم المعصوم ممّا يؤدّي في روحه إلى فصل الخصومة بعلم المعصوم، وصحّة القضاء ابتداءً بالاعتماد على علم المعصوم، فيثبت نفوذ علم المعصوم في القضاء، ثم يتعدّى إلى الفقيه بدليل ولاية الفقيه، ولكن قد عرفت ما في التعدّي. على أنّ الحديث غير ثابت؛ لأنّ له سنداً غير تام وسنداً تامّاً إلى معاوية بن وهب، لكن لم نعرف سند معاوية بن وهب إلى القصّة.

الدليل الثاني عشر _ ما عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «أُتي عمر بامرأة قد تزوّجها شيخ، فلمّا أن واقعها مات على بطنها، فجاءت بولد، فادّعى بنوه أنّها فجرت، وتشاهدوا عليها، فأمر بها أن ترجم، فمرّ بها على علي (عليه السلام) فقالت: يا ابن عمّ الرسول (صلى الله عليه و آله) إنّ لي حجّةً، قال: هاتي حجّتك فدفعت إليه كتاباً، فقرأه، فقال: هذه المرأة تعلمكم بيوم تزوّجها ويوم واقعها، وكيف كان جِماعُهُ لها رُدّوا المرأة، فلمّا كان من الغد دعا بصبيان أتراب، ودعا بالصبي معهم، فقال لهم: العبوا حتى إذا ألهاهم اللعب قال لهم: اجلسوا، حتى إذا تمكّنوا صاح بهم فقام الصبيان، وقام الغلام، فاتّكى على راحتيه، فدعا به علي (عليه السلام) وورّثه من أبيه، وجلد إخوته المفترين حدّاً حدّاً، فقال عمر: كيف صنعت؟ فقال: عرفت ضعف الشيخ في تكاة الغلام على راحتيه». وعن الأصبغ ابن نباته قال: «أُتي عمر بامرأة» ثم ذكر نحوه(2). وكلا السندين غير تام.


(1) راجع وسائل الشيعة، ج 18، ص201، الباب 18 من كيفيّة الحكم، ح 3، والكافي ج 7، ص 400 _ 401، باب النوادر، ح1.

(2) وسائل الشيعة، ج 18، ص207 _ 208، الباب 21 من كيفيّة الحكم، ح3.

236

أمّا أنّ ابن الشيخ الضعيف سيكون ضعيفاً فهذا بحاجة إلى فحص علمي، فإن ثبت خطؤه سقط هذا الحديث عن الاعتبار حتى لو كان تامّاً سنداً، وأمّا لو فرضت صحّة ذلك علميّاً فهذا الحديث _ بغضّ النظر عن ضعف سنده _ قد يقال أيضاً بأنّ مفاده غريب؛ إذ معنى صحّة هذه القضيّة علميّاً ليس هو عدم تطرّق احتمال ثبوت الزنا؛ إذ قد يكون ضعف الطفل مستنداً إلى علّة أُخرى فيه مباشرةً، أو بالوراثة من أبيه غير هذا الشيخ من شيخ آخر، أو شابٍ مبتلىً بالضعف، أو ما شاكل ذلك. وعلى أيّ حال فبالنسبة لدلالة الحديث قد يقال: إنّه يدل على نفوذ علم القاضي الحاصل عن طريقٍ شاهده الناس أيضاً لا العلم الخاص بالقاضي، واحتمال اختصاص ذلك بعلم الإمام غير وارد، فإنّ احتمال الخصوصيّة لعلم الإمام في مورد هذه الرواية غير وارد عرفاً؛ إذ الإمام (عليه السلام) اعتمد في علمه هذا على طريقة عامّة شاهدَها الآخرون، ولم يكن طريقاً خاصّاً يحتمل فيه الخطأ أو الكذب بالنسبة لغير المعصوم، ولا يحتمل ذلك بالنسبة للمعصوم.

وقد يقال: إنّ الشيء الخاص بالإمام (عليه السلام) هنا هو علمه بتلك القضيّة العلميّة التي كانت مخفيّة على الناس وهو أنّ ولد الشيخ الضعيف يصبح ضعيفاً.

ولكن مع هذا قد يقال: إنّ هذا يدل على نفوذ علم القاضي مطلقاً، لا خصوص الإمام؛ لأنّ الظاهر من القصّة _ وبيان وجه الحكم من قبله (عليه السلام) لأُناس لم يكونوا يرونه وقتئذٍ إماماً _ أنّ القضية تستبطن تعليم الناس ضمناً طريقة الحكم، أو يقال: إنّه بعد أن تؤخذ القاعدة _ قاعدة تبعيّة الطفل لأبيه الكبير السن الضعيف في الضعف _ مفروغاً عنها من الإمام (عليه السلام) تكون مشاهدة وضع الصبي حينما قام موجبة لعلم حسّي عام، أي يستطيع كلّ أحد أن يعلمه، وفي مثله لا تحتمل عرفاً خصوصيّة لعلم المعصوم، فالحديث يدل على نفوذ علم القاضي مطلقاً إذا كان حسّيّاً أو قريباً

237

من الحسّ وكان عامّاً، وهذا في واقعه في قوّة عدم الدلالة على نفوذ علم القاضي؛ فإنّ نفوذ العلم الذي يستطيع أن يعلمه كلّ أحد لا ينبغي أن يكون مورداً للشكّ في الارتكاز العرفي؛ إذ ما أسهل تحويله إلى عشرات الشهود؛ لأنّ المفروض أنّه ممّا يستطيع أن يعلمه كلّ أحد.

وعلى أيّ حال فضعف سند الحديث قد أسقطه عن الحجّية على كلّ تقدير.

الدليل الثالث عشر _ ما ورد بسند تام عن سليمان بن خالد، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال:«في كتاب علي (عليه السلام) أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه، فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟ قال: فأوحى اللّه إليه: احكم بينهم بكتابي وأضفهم إلى اسمي فحلّفهم به، وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(1)؛ إذ يمكن الاستدلال بهذا الحديث على نفوذ علم القاضي الناشى‏ء من الحس كما سنشير إليه بعد صفحات.

الدليل الرابع عشر _ ما ورد من قضاء أمير المؤمنين (عليه السلام) بكون الابن للمرأة التي كان لبنها أثقل من لبن الأُخرى والبنت للأُخرى، والحديث وارد ضمن متن لطيف لم نعرف سنده في ذكر قصّة وقعت في زمان عمر بن الخطاب، ووارد بسند تام ضمن متن آخر في قصّة وقعت على عهد علي (عليه السلام)، والأول مذكور في سفينة البحار(2) والثاني مذكور في الوسائل(3).

ولو ساعد العلم والتجربة على ذلك كي لا يسقط الحديث بالقطع بكذبه كان العلم في مورد الحديث _ بعد الفراغ عن قاعدة أثقليّة لبن الولد بأخذها من الإمام المعصوم (عليه السلام) _ علماً حسيّاً عامّاً يستطيع كلّ أحد أن يعرفه بالتجربة غير خاص


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص167، الباب الأول من كيفيّة الحكم، ح1.

(2) سفينة البحار، ج2، ص435، مادة قضى.

(3) وسائل الشيعة، ج 18، ص210، الباب 21 من كيفيّة الحكم، ح6.

238

بالقاضي، وفي مثل هذا الفرض لا يرد عرفاً احتمال اختصاص الحكم بعلم الإمام، إذاً فالحديث يدل على نفوذ علم القاضي حينما يكون حسّياً وعامّاً، ولايدل على أكثر من ذلك. وقد مضى في وجه سابق أنّ هذا في قوّة عدم الدلالة على نفوذ علم القاضي، وإن شئت قلت: إنّ كلّ دليل دلّ على نفوذ علم المعصوم من قبيل ما مضى من قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) للأعرابي أو غيره من الروايات نحن نجعله دليلاً على نفوذ علم كلّ قاضٍ إذا كان علماً حسياً أو قريباً من الحسّ وكان عامّاً _ أي بإمكان كثير من الناس أن يعلمه _ وذلك لعدم احتمال الفرق عرفاً بين علم المعصوم وغيره إلا من إحدى ناحيتين: الأُولى كون علم المعصوم لعصمته كالعلم الحسّي أو القريب من الحسّ، والثانية كون علم المعصوم حينما يخبر به عامّاً، أي بإمكان كلّ أحد أن يعلمه عن طريق اعتماده على علم المعصوم؛ لعدم احتمال الخطأ في علم المعصوم، فإذا علم القاضي غير المعصوم أيضاً بعلم حسّي عام لم يكن يحتمل العرف الفرق في الحجّية بينه وبين علم المعصوم في القضاء، فإن قلنا: إنّ لهذا العلم حجّيةً ارتكازيّةً، وينبغي خروجه عن محلّ البحث؛ إذاً فأدلّة نفوذ علم المعصوم لا تفيدنا شيئاً، وإلا فأدلّة نفوذ علم المعصوم تفيدنا بقدر إثبات حجّية علم القاضي الحسّي العامّ لا أكثر من ذلك، ولا نستطيع أن نتعدّى إلى علم القاضي الفقيه غير الحسّي أو غير العام بمبدأ ولاية الفقيه حتى لو فسّرناها بمعنى (كلّ ما للإمام فهو للفقيه)؛ إذ لم يثبت أنّ للإمام أن يحكم بغير العلم الحسّي العامّ.

نعم، الإمام كلّ علمه هو علم حسّي عام بنكتة عصمته عن الخطأ.

الدليل الخامس عشر _ ما ورد في كتاب بصائر الدرجات للصفّار (رحمه الله) قال: «حدّثنا أحمد بن محمد، عن عمر بن عبدالعزيز، عن بكار بن كرام، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: أنّ جويرية بن عمر العبدي خاصمه رجل في فرس أُنثى فادّعيا جميعاً الفرس، فقال

239

أمير المؤمنين (عليه السلام): لواحد منكما البيّنة؟ فقالا: لا، فقال لجويرية: أعطه الفرس، فقال له: يا أمير المؤمنين، بلا بيّنة؟! فقال له: واللّه لأنا أعلم بك منك بنفسك، أتنسى صنيعك بالجاهليّة الجهلاء فأخبره بذلك»(1). والحديث غير تام سنداً ودلالةً.

أمّا من حيث السند فلو اعتمدنا على بصائر الدرجات كفى في ضعف السند وجود عمر بن عبدالعزيز الذي لا دليل على وثاقته غير وروده في أسانيد تفسير علي بن إبراهيم. وأمّا بكار بن كرام فلو كان هو مصحّف بكار بن كردم فبكار بن كردم قد روى عنه محمد بن أبي عمير الذي لا يروي إلا عن ثقة.

وأمّا من حيث الدلالة فبناءً على كون هذا قضاءً لا أمراً إرشادياً له بالعمل بالواقع فقد علّل هذا القضاء بكونه أعلم منه بنفسه، وهذا هو علم المعصوم، ولم يعلم كون المقصود التعليل بمجرّد العلم.

وعلى أيّ حال فقد تحصّلت بكلّ ما ذكرناه تماميّة بعض الأدلّة غير الإجماع على نفوذ علم القاضي خلافاً لما في الجواهر من دعوى أنّه لا تتحصّل من غير الإجماع دلالة على نفوذ علم القاضي، وأنّ أقصى ما يمكن تحصيله من غير الإجماع عدم جواز الحكم بخلاف العلم.

هذا تمام الكلام في أدلّة حجّية علم القاضي.

أدلّة عدم الحجّية

وأمّا أدلّة عدم حجّية علم القاضي فعمدتها ما يلي:

الأول _ من الواضح تاريخياً أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) كان يكتفي في ترتيب آثار الإسلام من الطهارة ومصونيّة الدم والمال بالظاهر ولم يكن يحكم وفق علمه المستمدّ من


(1) بصائر الدرجات، ج 5، ص267، الباب 11، ح 11

240

الغيب الذي يعلمه اللّه تعالى، وكذلك في باب المرافعات لم يتّفق أن يقضي وفق علمه الإلهي، بل كان يقضي وفق البيّنات والأيمان.

ولا يخفى أنّ ترتيب آثار الإسلام على ظاهر الحال لا علاقة له بباب القضاء في حقوق الناس، واحتمال الفرق موجود، فلو كان هذا وحده لما أمكن إثبات عدم نفوذ العلم في حقوق الناس والمرافعات بذلك.

على أنّ من المحتمل أن يكون موضوع آثار الإسلام في هذه الدنيا عبارة عن إظهار الإسلام ولو كان في علم اللّه كاذباً.

نعم، هاتان المناقشتان لا تجريان فيما هو المسلّم به من أنّه (صلى الله عليه و آله) لم يكن يعتمد في خصمه للمرافعات على علمه الإلهي، بل كان يطلب البيّنة واليمين.

ولكن هناك مناقشتان أُخرَيان جاريتان في ذلك أيضاً:

إحداهما _ ما قد يقول القائل _ كما جاء في كلام المحقّق الآشتياني (رحمه الله) في المقام _ من منع علم المعصوم بجميع جزئيات أفعال المكلفين وأقوالهم، غاية الأمر أنّهم قادرون على العلم بها وإن شاؤوا علموا. وتنقيح ذلك راجع إلى بحث كيفيّة علم المعصوم.

والثانية _ أنّ عدم قضاء المعصوم بعلمه الغيبي لا يستلزم عدم نفوذ علمه الناشيء من الأسباب الاعتياديّة، واحتمال الفرق موجود، ومحل البحث كما مضى في صدر المبحث هو الثاني دون الأول.

الثاني _ ما جاء عن طريق أهل السنّة من حديث ورد في السنن الكبرى للبيهقي(1)، وفيه _ ضمن ذكر قصّة الملاعنة الراجعة لامرأة _: «قال ابن شداد بن الهاد لابن عباس: أهي المرأة التي قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): لو كنت راجماً أحداً بغير بيّنة لرجمتها.


(1) ج 7، ص 407

241

فقال ابن عباس: لا، تلك المرأة(1) أعلنت السوء في الإسلام».

فهذا يعني أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) لا يرجم بغير بيّنة، وظاهر الحال أنّه (صلى الله عليه و آله) كان متيقّناً ببغيها، وإلا فما معنى أنّه لو كان راجماً من غير بيّنة لرجمها؟!

ويمكن النقاش في هذا الحديث _ إضافةً إلى سقوطه سنداً، وعدم كفايته لو تم سنداً للتعدّي من حقوق اللّه إلى مرافعات الناس لاحتمال الفرق _ بأنّ مناسبات الحكم والموضوع العرفيّة توحي باحتمال كون «لو الامتناعيّة» الواردة على الرجم بغير بيّنة ناظرةً إلى الرجم بالعلم الناشيء عن غير الحس أو ما يقرب من الحسّ _ وأعني بما يقرب من الحسّ ما يشترك فيه عامّة الناس لو اطلعوا على المدرك _ فلا تدل الرواية على عدم نفوذ العلم على الإطلاق؛ أي حتى الناشى‏ء من الحسّ أو ما يقرب منه، وليس هذا حصراً كاملاً بتمام معنى الكلمة؛ ألا ترى أنّه لا يُفهم منه عرفاً عدم نفوذ الإقرار مثلاً.

الثالث _ روايات حصر القضاء بالبيّنات والأيمان، وعمدتها ما يلي:

1_ ما ورد بسند تام عن سليمان بن خالد _ وقد روى عنه الأزدي والبجلي _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «في كتاب علي (عليه السلام) أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟، قال: فأوحى اللّه إليه: احكم بينهم بكتابي وأضفهم إلى اسمي فحلّفهم به، وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(2). وبمضمونه غيره(3) ممّا هو غير تام سنداً، وهذا يدل بالإطلاق على حصر مقياس القضاء بالبيّنة واليمين.

وهذا لو تمّ فإنّما يتمّ دليلاً على عدم نفوذ العلم غير الناشيء من الحس أو ما يقرب


(1) وورد في بعض النسخ: تلك امرأة.

(2) وسائل الشيعة، ج 18، ص167، الباب الأول من كيفيّة الحكم، ح1.

(3) راجع نفس الباب.

242

منه، وذلك لما جاء فيه من كلمة: «لم أرَ ولم أشهد» على أنّه قد يقال: إنّ من المحتمل عرفاً كون هذه الكلمة ذكراً لمصداق من مصاديق العلم، فلا تدل الرواية على عدم نفوذ العلم أصلاً، وإنّما تدل على حصر مقياس القضاء بالبيّنة واليمين في فرض عدم العلم، فهذه الرواية غير دالّة على عدم نفوذ العلم، بل هي دالّة على نفوذ العلم في الجملة لظهورها في الفراغ عن صحّة القضاء بما رأى وشهد، وهذا يعني نفوذ العلم ولو خصوص الحسّي منه حتى في غير النبي بناءً على تعدّي العرف في العلم المحسوس بالحس المتعارف من النبي إلى غيره.

2_ ما جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) بسند غير تام: «أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنّة ماضية من أئمّة الهدى»(1). وقد يناقش في الدلالة بإبداء احتمال كون علم القاضي _ خصوصاً لو كان عن حس أو ما يقرب منه _ داخلاً في قوله: «شهادة عادلة».

3_ ما جاء بسند تام عن هشام بن الحكم عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار»(2).

فيقال: إنّ حصر القضاء بالبيّنة والأيمان دليل على عدم جواز القضاء بالعلم، وحمله على الحصر الإضافي _ أي: بالإضافة إلى الأدلّة غير العلميّة، أو بالإضافة إلى القضاء بالواقع اعتماداً على العلم الإلهي الذي جاء في بعض الروايات أنّه سيقضي به القائم ؟عج؟(3) بلا سؤال بيّنة ويمين _ خلاف الإطلاق.


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص168، الباب الأول من كيفيّة الحكم، ح6.

(2) نفس المصدر، ص169، الباب 2 من كيفيّة الحكم، ح1.

(3) نفس المصدر، ص168، الباب الأول من كيفيّة الحكم، ح4 و5.

243

والصحيح أنّ هذا الحديث لو دلّ على عدم نفوذ علم القاضي فإنّما يدل على عدم نفوذ علمه الحدسي لا الحسّي، وذلك لأنّ وضوح أنّ البيّنة واليمين إنّما ينفعان القاضي بواسطة علمه الحسّي بهما _ على أشدّ تقدير _ لا يُبقي للكلام ظهوراً في إلغاء العلم الحسّي للقاضي، فإنّ كون علم رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) الحسّي نافذاً عند تعلقه بالبيّنة واليمين، وغير نافذ عند تعلّقه بالواقع _ بينما الثاني أقرب إلى الواقع من الأول _ مستبعد إلى حدّ لا ينعقد للحديث ظهور في ذلك، بل لو قلنا: إنّ ارتكاز حجّية البيّنة في تشخيص حقوق الآدميّين يشمل حتى البيّنة التي عُلمت بالعلم الحدسي، وهذا يكوّن إطلاقاً مقاميّاً لقوله: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» لإثبات حجّية البيّنة التي عُلمت بالحدس سقط الحديث حتى عن الدلالة على عدم نفوذ علم القاضي الحدسي.

ثم إنّ دلالة الحديث على عدم نفوذ علم القاضي مطلقاً أو في خصوص العلم الحدسي لو تمّت فهي معارضة بدلالة أدلّة القضاء بالحقّ التي دلّت على نفوذ علم القاضي.

الرابع _ ما ورد بسند تام عن داود بن فرقد قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: إنّ أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) قالوا لسعد بن عبادة: أرأيت لو وجدت على بطن امرأتك رجلاً ما كنت صانعاً به؟ قال: كنت أضربه بالسيف، قال: فخرج رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) فقال: ماذا يا سعد؟ فقال سعد: قالوا: لو وجدت على بطن امرأتك رجلاً ما كنت صانعاً به؟ فقلت: أضربه بالسيف، فقال: يا سعد فكيف بالأربعة الشهود؟ فقال: يا رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) بعد رأي عيني وعلم اللّه أن قد فعل؟ قال: إي واللّه بعد رأي عينك وعلم اللّه أن قد فعل. إنّ اللّه جعل لكلّ شيء حدّاً، وجعل لمن تعدّى ذلك الحدّ حدّاً»(1).


(1) نفس المصدر، ص310، الباب 2 من مقدّمات الحدود، ح1

244

وجه الاستدلال هو أنّه وإن كان مورد الحديث هو علم الزوج، وليس علم القاضي، لكن الحديث قد جعل الأربعة شهود حدّاً لثبوت الزنا، ومقتضى إطلاقه أنّه حدّ لذلك حتى في مقابل علم القاضي، وهذا الكلام يمكن أن يقال به بلحاظ كلّ الروايات التي جعلت الأربعة شهود حدّاً لثبوت الزنا من قبيل ما عن الحلبي بسند تام عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «حدّ الرجم أن يشهد أربع أنّهم رأوه يدخل ويخرج»(1) ونحوه غيره من الروايات(2). ولكن لئن قال قائل في مثل هذه الرواية من الإطلاقات: إنّها منصرفة عن فرض العلم، فدعوى هذا الانصراف لا تتأتّى في رواية داود بن فرقد؛ لأنّه جعل الحدّ هو الأربعة شهود في مقابل العلم، وهذا يوجب استحكام الإطلاق وعدم ثبوت الانصراف. نعم، مورد الحديث هو علم الزوج لا علم القاضي، ولكن المورد لا يخصّص الوارد.

والجواب: أنّ إجراء الحدّ هو شأن القاضي يجريه بعد ثبوت الأربعة شهود، وليس شأن الزوج، وغاية ما هنا أن يكون الزوج واحداً من الشهود، ولم يذكر في الحديث كون الأربعة شهود حدّاً في مقابل علم القاضي، بل الإطلاق أيضاً غير وارد في هذا الحديث؛ إذ لم يذكر مثلاً: (أنّ حد ثبوت الزنا هو الأربعة شهود)، وإنّما ذكر: «أنّ اللّه جعل لكلّ شيء حدّاً»، ولعلّ علم القاضي هو أحد الحدود.

وأمّا التمسّك بإطلاقات مثل ما مضى من حديث الحلبي فقد يقول القائل بشأنه: إنّ مقتضى المناسبات العرفيّة هو احتمال أن يكون المقصود هو أنّ حدّ ثبوت الزنا _ إن لم يكن متيقناً _ هو الأربعة شهود، أمّا إذا كان القاضي يعلم به فلا دلالة


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص371، باب 12 من حدّ الزنا، ح 1.

(2) المذكورة في نفس المصدر والباب.

245

لهذه الإطلاقات على عدم نفوذ العلم.

وقد يقال في مقابل ذلك: إنّ الأمر على العكس، فلهذا الحديث وأمثاله إطلاق قويّ نافٍ لنفوذ علم القاضي؛ لأنّ المتعارف في شهادة ثلاثة من العدول _ إن كانت عدالتهم ثابتة باليقين لا بمجرّد ظاهر الحال _ هو حصول العلم بالصدق، فافتراض كون الحدّ هو أربعة شهود له ظهور إطلاقي قويّ في عدم نفوذ علم القاضي. إلا أنّ هذا لو تمّ فاحتمال الخصوصيّة في باب الزنا وارد، ولا يمكن التعدّي إلى سائر الحدود فضلاً عن باب المرافعات الذي هو محلّ بحثنا.

الخامس _ أنّ أصل التركيز على البيّنة في باب القضاء في الشريعة الإسلامية _ رغم أنّ خبر العدل الواحد ولو لم يضمّ إلى خبر عدل آخر ولا إلى يمين كثيراً ما يورث العلم ولو بضمّ بعض القرائن، وكثيراً ما يحصل للقاضي العلم بمقتضى القرائن أو خبر الثقة من دون خبر العدل الواحد أيضاً _ يفهم منه عدم نفوذ علم القاضي.

وهذا الوجه إن دلّ فإنّما يدل على عدم نفوذ علم القاضي غير المستند إلى الحسّ ولا ما يقرب من الحس؛ لأنّه هو الذي يكثر حصوله مع عدم البيّنة لا العلم المستند إلى الحسّ أو ما يقرب منه.

وهذا الوجه بهذا المقدار قاصر عن إثبات عدم حجّية العلم غير الحسّي أيضاً فضلاً عن العلم الحسّي، فإنّ خبر الواحد كما يورث كثيراً العلم كذلك يتفق كثيراً عدم إفادته للعلم، وهذا كافٍ في التركيز على البيّنة في الشريعة الإسلامية من دون أن يكون ذلك دالّاً على عدم حجّية العلم غير الحسي. نعم لو كان حصول العلم بخبر الواحد أمراً غالبياً وعدمه نادراً أمكن أن يقال: إنّ التركيز على البيّنة يدل على عدم حجّية العلم غير الحسّي.

إلا أنّه بالإمكان تطوير هذا الوجه بأن يقال: إنّه لم يرد إلينا خبر واحد _ ولو مرسل _

246

يصرّح بنفوذ علم القاضي؛ بينما هنا أبواب كثيرة ورد في بعضها من الأخبار ما شاء اللّه بشأن البيّنة وشروطها وأحكامها، والمفروض بمقاييس القضاء أن يرد ذكرٌ لها في الروايات ولو نادراً كما ورد ذكر البيّنة واليمين، ولم يرد ولو في حديث واحد ذكر لمقياسية علم القاضي غير الحسّي، فعلم القاضي الحسّي لو كان حجّةً كان من المعقول أن لا يرد نصّ خاصّ متصدٍ لبيان حجّيته؛ لأنّ حجّيته ارتكازية عند العقلاء، أمّا العلم الحدسي فلا ارتكاز لحجّيته؛ إذ من المعقول عند العرف والعقلاء افتراض عدم السماح للقاضي بالقضاء به؛ لأنّه يكثر فيه الخطأ. أفليس ورود الأخبار الكثيرة حول البيّنة وشروطها واليمين وعدم ورود نصّ واحد على نفوذ العلم الحدسي دليلاً قاطعاً على أنّ المقياس في نظر الشريعة عندما لا يوجد علم حسّي هو البيّنة واليمين دون العلم الحدسي؟! وبهذا الوجه يقيّد إطلاق مثل أدلّة القضاء بالحقّ والعدل المقتضي لنفوذ علم القاضي مطلقاً. فالنتيجة هي التفصيل بين العلم المستند إلى الحسّ أو ما يقرب من الحسّ والعلم غير المستند إلى الحسّ، فالأول نافذ، والثاني غير نافذ.

لا يقال: إنّ حجّية العلم الطريقي في إثبات متعلّقه عقليّة ومرتكزة عند العقلاء أيضاً ولو كان حدسياً، فإذا دلّ الدليل على وجوب القضاء بالحقّ والعدل كان علم القاضي ولو حدساً حجّة لإثبات كون القضاء الفلاني قضاءً بالحقّ والعدل، وكان هذا علماً طريقياً، فحجّيته واضحة ومرتكزة كحجّية العلم الحدسي، ولعلّه لهذا لم يرد نص خاص به.

فإنّه يقال: إنّ دليل وجوب القضاء بالحقّ والعدل وإن كان مقتضی إطلاقه القضاء بذلك ولو عن طريق العلم الحدسي، ولكن هذا لا يعني أنّ تمام الموضوع للقضاء هو ذات الحقّ من دون أن يكون قيام الحجّة عليه جزءاً للموضوع، بل المرتكز عند العقلاء خلاف ذلك؛ أي أنّ من قضى بالحقّ بلا حجّة يعتبر آثماً، لا