45

أصالة البراءة

1

 

 

البراءة العقليّة

 

○ نظريّة قبح العقاب بلا بيان.

○ نظريّة حقّ الطاعة.

○ تأريخ البراءة العقليّة.

○ مناشئ الالتزام بالبراءة العقليّة.

 

 

 

 

47

 

 

 

 

أمّا المقام الأوّل: فيقع فيه البحث عن البراءة العقليّة.

نظريّة قبح العقاب بلا بيان:

والمعروف بين محقّقي العصر الثالث من عصور علم الاُصول عدم الخلاف في حكم العقل بالبراءة، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وهذه القاعدة بحسب الحقيقة تحتلّ مركزاً أساساً في التفكير الاُصوليّ في هذا العصر الثالث، بل يمكن أن نعتبر هذه القاعدة أحد الركنين الأساسين اللذين قام عليهما التفكير الاُصوليّ في هذا العصر في باب الأدلّة العقليّة، والركن الآخر مضايف هذه القاعدة وهي قاعدة حسن العقاب مع البيان التي مرجعها إلى حجّيّة القطع، فإنّ الفكر الاُصوليّ في هذا العصر افترض أوّلاً: أنّ مولويّة المولى شيء مفروغ عنه، وأنّ المولويّة سنخ حقيقة واحدة لا زيادة فيها ولا نقصان مفروغ عن ثبوتها لمولانا تبارك وتعالى. وبعد فرض ذلك يتكلّم في أنّ هذا المولى هل يكون القطع بتكاليفه وأحكامه حجّة أو لا، فأجابوا بالإيجاب، وفرضوا أنّ هذه الحجّيّة من اللوازم الذاتيّة ـ بالمعنى الذي يذكر في كتاب البرهان ـ للقطع بما هو كشف تامّ وإن اختلفوا في أنّه هل هي من لوازم الماهيّة كالزوجيّة بالنسبة للأربعة، أو من لوازم الوجود كالحرارة بالنسبة للنار؟

 

48

وترتّب على ذلك منطقيّاً القاعدة المضايفة لقاعدة حجّيّة القطع ـ وهي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ إذ لمّا كانت الحجّيّة من ذاتيّات القطع بما هو كاشف تامّ، فبانعدام الكشف التامّ تنعدم الحجّيّة لا محالة، ولا معنى لكون ذاتيّ شيء ثابتاً في ذات شيء آخر، ومعنى انعدام الحجّيّة هو كون العقاب قبيحاً؛ لأنّ العقاب بلا حجّة قبيح، فبهذا ترتّبت القاعدة الثانية، وهي قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ومن هنا التزموا بأنّ الظنّ يستحيل أن يكون حجّة من دون جعل؛ لأنّ حجّيّته بنفسه خلف قاعدة قبح العقاب بلا بيان وتخصيص لها، وتخصيص القانون العقليّ غير معقول، وحصول غير الذاتيّ بلا سبب أيضاً غير معقول.

وتفرّع على ذلك في تفكيرهم الاُصوليّ أنّهم حاروا في أنّه كيف تصبح الأمارات منجّزة مع أنّها ليست إلاّ ظنوناً، واللابيان الذي فرض موضوعاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ثابت عندها. وتخصيص القاعدة العقليّة محال. وثبوت غير الذاتيّ بلا سبب محال. ومن هنا التزموا بأنّ الأمارات قد جعلت فيها البيانيّة والطريقيّة، ونشأت من هنا مباني جعل الطريقيّة والكاشفيّة بعرضها العريض الذي تكلّم عنه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) وغيره من المحقّقين، كلّ ذلك لأجل أن يقولوا: إنّ منجّزيّة الأمارة تكون من باب رفع موضوع القانون العقليّ، ومن باب التخصّص لا التخصيص؛ لأنّ الشارع جعل الأمارة كاشفاً تامّاً، وعلماً، فلا محذور في تنجّز الواقع به. وتحيّروا بنحو أشدّ في باب الاُصول التي لا يقال فيها بجعل العلم والبيان(1)، حتّى أنّ الشيخ الأعظم(قدس سره)ذهب إلى أنّ العقاب عند وجوب الاحتياط



(1) نعم، قال المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في الاُصول التنزيليّة: إنّها جعلت علماً بلحاظ الشأن الثالث من شؤون العلم، فلو كفى هذا لرفع اللابيان، وقلنا بأنّ المستفاد من (لا تنقض اليقين) التعبّد بالكاشفيّة، فماذا يقال في الاُصول العمليّة غير التنزيليّة؟!

49

الشرعيّ يكون على نفس ترك الاحتياط لا على ترك الواقع؛ لعدم بيان الواقع.

ونشأ من فكرة جعل الأمارة علماً وكاشفاً تامّاً تخيّل أنّ التفرقة بين الأمارات والاُصول إنّما هي في اللسان. ورتّبت على هذا ما رتّبوها على الفرق بين الأمارات والاُصول كحكومة الأمارات على الاُصول إلى غير ذلك من الآثار المنبثّة في المباحث العقليّة.

 

نظريّة حقّ الطاعة:

وهذا المنهج لتحقيق هذه المطالب باطل أساساً، فإنّنا بحسب الحقيقة يجب أن نتكلّم في الرتبة السابقة في حدود نفس المولويّة التي فرضوها غير قابلة للزيادة والنقصان، وأمراً محدّداً غير مشكّك، فقالوا: إنّه متى ما ثبتت هذه الحقيقة غير المشكّكة ترتّب على ذلك قانونان: حجّيّة القطع، وعدم حجّيّة الاحتمال، ونحن نقول: إنّ المولويّة أمر مشكّك، وتحقيق حالها هو الذي يتحكم في كلّ هذه الاُمور، فإنّ معنى المولويّة إنّما هو ثبوت حقّ الطاعة، وحقّ الطاعة قد يفرض ثبوته في الأحكام المقطوعة والمشكوكة معاً، فلا يبقى مجال لقبح العقاب بلا بيان؛ إذ ترك التكليف المشكوك عندئذ مخالف للحقّ، والعقاب على مخالفة الحقّ ليس قبيحاً، وقد يفرض اختصاصه بقسم خاصّ من الأحكام المقطوعة ـ وهو ما يهتمّ بها المولى اهتماماً شديداً، أو ما تتوقّف عليه حياة المولى مثلاً ـ فلو حصل القطع بحكم ليس في تلك الدرجة من الأهمّيّة لا يكون حجّة. ولا يصحّ أن يقال: إنّ الحجّيّة ذاتيّة للقطع فلا تنفكّ عنه، فإنّ هذا قلب لجوهر المسألة، وإنّما المسألة مسألة المولويّة، فلا حجّيّة القطع قاعدة برأسها، ولا قاعدة قبح العقاب بلا بيان قاعدة برأسها فضلاً عمّا تفرّعت عليهما من الآثار المنبثّة في التفكير الاُصوليّ.

وخلاصة الكلام: أنّ المولويّة تتصوّر بأنحاء كثيرة ودرجات مختلفة، فلو اُريد

50

الالتزام بقانون قبح العقاب بلا بيان يجب أن يفسّر بعدم ثبوت حقّ المولويّة بلا بيان، والتفكير في هذه المطالب يجب أن يبدأ من الالتفات إلى دائرة مولويّة المولى سعة وضيقاً.

والشيء الذي ندركه بعقلنا العمليّ هو أنّ الله ـ تعالى ـ مولانا في التكاليف المقطوعة والمظنونة والمشكوكة والموهومة، فله حقّ الطاعة حتّى مع عدم العلم لو لم يثبت عندنا الترخيص من قِبله ورضاه بفوات التكاليف الواقعيّة في ظرف الشكّ بالنحو الذي فصّلناه في الترخيص الظاهريّ، وبهذا ننتهي إلى أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا أساس لها؛ لأنّ العقاب يكون عقاباً على حقّه، وليس العقاب على الحقّ قبيحاً.

وبما أنّ إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان يبدو في هذا الزمان غريباً؛ لأنّ هذه القاعدة لقّنت تلقيناً شديداً ومتواصلاً في الكتب الدراسيّة وغيرها منذ أكثر منمئة سنة إلى يومنا هذا، فلهذا لابدّ لنا من التغلّب على هذا التركّز الذهنيّ الموجود للقاعدة لأجل رفع الاستيحاش من إنكارها، وبيان أنّها ليست من البديهيّات، وليست من مدركات العقل الفطريّ بل إنّما هي من منتجات علم الاُصول. فنتكلّم في هذه القاعدة من ناحيتين:

الاُولى: من الناحية التأريخيّة، وأنّ هذه القاعدة هل هي من القواعد التي أدركها العلماء في كلّ عصر وزمان بالنحو المفهوم في هذا العصر، أو أنّها بهذا النحو لم تكن موجودة في ذهن العلماء قبل سبعمئة سنة أو أكثر، ونبيّن أنّ هذه القاعدة مستحدثة، اختلف محدثوها في حدودها وشؤونها بنحو يدلّ على أنّها أبعد ما تكون عن الفطريّة والبداهة.

والثانية: من الناحية الإثباتيّة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وبيان المنشأ لالتزام الأكابر بهذه القاعدة، وحلّ هذا المنشأ حلاًّ صناعيّاً.

51

 

تأريخ البراءة العقليّة:

أمّا الناحية الاُولى: فالبراءة العقليّة لا نعرف لها عيناً ولا أثراً قبل الشيخ المفيد(قدس سره). نعم، الصدوق(رحمه الله) صرّح بأنّ الأصل هو الإباحة، لكن كلامه قابل للانطباق على الإباحة الثابتة بالنصوص والروايات، ولا يعلم ولا يظنّ بأن يكون نظره إلى قاعدة عقليّة في المقام.

وأمّا الشيخ المفيد والشيخ الطوسيّ(قدس سرهما) فهما ذهبا إلى عكس هذه القاعدة، وذلك في مسألة الحظر والإباحة، حيث إنّ هناك مسألة في الاُصول القديم وانقطع عنوانها بعد الرسائل ـ وهي مسألة الحظر والإباحة ـ وقد ذهب علماء الاُصول القائلون بالتحسين والتقبيح العقليين، بأنّ العقل تارة يحكم بقبح الشيء بمستوىً شديد وهو التحريم العقليّ، أو بمستوىً خفيف وهو الكراهة، أو بحسنه الشديد وهو الوجوب، أو الخفيف وهو الاستحباب. وأمّا إذا لم يدرك العقل وجود مصلحة ولا مفسدة ولم يتبيّن له شيء يقتضي حسنه ولا قبحه، فهل يحكم العقل هنا بالقبح وهو الحظر، أو عدم القبح وهو الإباحة؟

وقع الخلاف في ذلك، وذهب الشيخ الطوسيّ، وكذا الشيخ المفيد (على ما في العدّة) إلى التوقّف، بمعنى أنّ العقل لا يحكم بالثبوت ولا بالنفي؛ لأنّه شاكّ فلا موجب لحكمه بأحد الطرفين. وفرّع الشيخ الطوسيّ في (العدّة) على التوقّف وجوب الاحتياط بحكم العقل؛ لأنّ الإقدام على ما لا يؤمن المحذور والمفسدة فيه قبيح كالإقدام على ما يعلم بوجود المفسدة فيه. ففي مقام الحكم وإن كان العقل يتوقّف ولكن في مقام العمل يلزم المكلّف بالاحتياط، ثمّ يقول: وهذه القاعدة ـ أي: قاعدة وجوب الاحتياط بحكم العقل ـ لا نرفع اليد عنها إلاّ بما ثبت في الشرع من النصّ القائل عنهم(عليهم السلام): (إنّ كلّ شيء حلال حتّى يأتي فيه النهي).

52

وهذا الكلام من الشيخ الطوسيّ الذي يضيفه إلى شيخه وهو المفيد (رضوان الله عليهما) واضح في خلاف فكرة قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وأمّا ابن زهرة فبعد مئة سنة بعد الشيخ الطوسيّ(رحمه الله) ذكر في (الغنية) الحكم بالبراءة العقليّة لكن لا بمعنى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، بل من باب قبح التكليف بما لا يطاق، ومن الواضح أنّ هذا أجنبيّ عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولهذا قيل عليه: لماذا لا يطاق التكليف بغير المعلوم؟! بل يطاق امتثاله ولو بالاحتياط، وقد تعرّض الشيخ الأعظم(قدس سره)لكلام ابن زهرة ووجّهه بأنّ مقصوده من التكليف بما لا يطاق، التكليف بما لا يطاق امتثاله بقصد الامتثال؛ لأنّه مع الشكّ لا يتحقّق قصد الامتثال(1). هذا ما وجّه به الشيخ الأعظم كلام ابن زهرة. فكأنّ ابن زهرة كان يعتقد بقبح التكليف بما لا يطاق امتثاله بقصد الامتثال. وعلى أيّة حال فكلامه ـ كما ترى ـ غير مربوط بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وأمّا المحقّق الذي هو من تلامذة تلامذة من كان معاصراً لابن زهرة وهو ابن إدريس، فقرّب البراءة ببيانين:

أحدهما: ما ذكره في أحد كتابيه(2): من أنّ البراءة عبارة عن استصحاب حال العقل، حيث إنّ الإنسان بحسب حالته السابقة كان بريء الذمّة فيستصحب هذه البراءة حتّى ترتفع بدليل. وجرى هذا الكلام في كلام كثير ممّن تأخّر عن المحقّق، وشاع إرجاع البراءة إلى الاستصحاب، وكانوا يقولون بحكم العقل بالاستصحاب بلحاظ كاشفيّة الحالة السابقة في نظرهم لا بلحاظ باب الحسن والقبح، فالبراءة عندهم غير مربوطة بالمعنى الذي نتكلّم عنه من قبح العقاب بلا بيان.



(1) الفرائد، ص 204 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة (رحمت الله).

(2) أي: المعارج والمعتبر.

53

ثانيهما: ما ذكره في كتابه الآخر من أنّ الفقيه يقوم بعمليّتين: إحداهما: أن يحصر ما هي الأدلّة التي يعتمد عليها الشارع في مقام إيصال الأحكام كالكتاب والسنّة والإجماع. والثانية: أن يحصل له بالفحص القطع بأنّ هذا الحكم المشكوك لم يدلّ عليه أيّ واحد من هذه الأدلّة، وعندئذ يقول: هذا التكليف غير موجود؛ لأنّ التكليف بما لا دلالة عليه من قِبل الشارع تكليف بما لا يطاق، فإن قيل: لعلّ هناك دلالة ولم تصل إلينا؟ قُلنا: هذا خلاف العمليّة الاُولى؛ لأنّنا فرضنا حصر الدلالات.

وفرق هذا الكلام عمّا مضى من كلام ابن زهرة أنّه بناءً على هذا الكلام لو فرض احتمال وجود دلالة اُخرى لم تصل وبطلت العمليّة الاُولى، فلا قبح في التكليف، وظاهر كلام ابن زهرة كان هو دعوى قبح التكليف بما لا طريق لنا إلى العلم به بالفعل. وعلى أيّة حال فهذا ـ كما ترى ـ غير مربوط بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وبعد زمان المحقّق شاع إدراج البراءة في الاستصحاب، وترتّب عليه جعل البراءة من الأدلّة الظنّيّة، حيث إنّ الاستصحاب عندهم دليل ظنّي فتنزّلت البراءة عن كونها دليلاً قطعيّاً على الحكم ـ كما كان يعتقده ابن ادريس ـ إلى كونها دليلاً ظنّيّاً عليه، فحجّيّة البراءة إنّما هي من باب إفادتها الظنّ كما صرّح بذلك صاحب المعالم والشيخ البهائيّ في (الزبدة)(1)، فإلى أيّام صاحب (المعالم) وصاحب



(1) لم أرَ ذلك بحسب فحصي الناقص في الزبدة. أمّا ما رأيته في المعالم فهو ما جاء في نقله لأدلّة القائلين بحجّيّة الاستصحاب، حيث نقل الدليل الرابع من أدلّتهم وهو: (أنّ العلماء مطبقون على وجوب إبقاء الحكم مع عدم الدلالة الشرعيّة على ما تقتضيه البراءة الأصليّة، ولا معنى للاستصحاب إلاّ هذا).

54

(الزبدة) لم يقل أحد بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وإنّما قالوا بالبراءة من باب الظنّ،واعترف بذلك الشيخ الأعظم(قدس سره) في (الرسائل)، فإنّه ذكر: أنّ ظاهر كلمات صاحب (المعالم) والشيخ البهائيّ أنّ أعتبار أصالة البراءة من باب الظنّ، بل تسرّبت هذه الفكرة إلى بعض المحقّقين من العصر الثالث كالمحقّق القمّيّ(رحمه الله) حيث نقل عنه الشيخ الأعظم بعض كلمات توهم بذلك، أو تشعر به.

وقاعدة قبح العقاب بلا بيان إنّما طرحت من قبل الاُستاذ الوحيد(قدس سره) ولدى بعض الممهّدات والإرهاصات لهذه المدرسة، وحتّى بعد أن طرحت هذه القاعدة وقرّبها الشيخ محمّد تقي في حاشيته على المعالم، وشريف العلماء على ما في تقرير بحثه، وبعدهما الشيخ الأعظم نابغة هذا العصر في كتابه كان الاتّجاه إلى فهمها لغويّاً لا إلى فهمها عقليّاً، ولهذا كانوا يشكّكون دائماً في إطلاقها وعدم إطلاقها، ووقع الإشكال من قِبل جملة من المحقّقين في شمول هذه القاعدة لموارد الشبهة المفهوميّة، كما إذا قال المولى: (الغناء حرام) وشكّ في حرمة حداء الإبل من ناحية الشكّ في دائرة المفهوم؛ لأنّ البيان موجود من قِبل الشارع، غاية الأمر أنّه مجمل. وجاء من تعمّق في هذه القاعدة بشكل أكثر، وقال: إنّ البيان هنا ليس موجوداً؛ لأنّ مرادنا من البيان ليس ما هو ظاهر عرفاً من الكلام الدالّ على معنىً في نفسه، بل الكلام الدالّ عند السامع، والمفروض أنّ الكلام لم يدلّ عند السامع. انظروا إلى الأوّلين الذين لم يجروا البراءة في الشبهة المفهوميّة كيف انساقوا مع طبع ظهور اللفظ وكأنّهم عاملوا معها معاملة الدليل اللفظيّ، أو أنّ عقلهم لم يدرك القبح في مثل ذلك، ثمّ جاء آخرون وقالوا: إنّ القاعدة لا تجري في الشبهات الموضوعيّة؛ لأنّ البيان هو ما يكون راجعاً إلى المولى، وما يرجع إلى المولى قد تمّ في المقام، وليس من وظيفة المولى أن يقول مثلاً: هذا خمر، وهذا

55

خمر، وإنّما من وظيفته أن يقول: الخمر حرام، وقد قال. ثمّ جاء من تعمّق في القاعدة أكثر من ذلك وقال: ليس المراد بالبيان ما هو ظاهره ـ أي: الكلام الصادر من الشارع ـ بل المراد به هو العلم والوصول، فمرجع القاعدة إلى قاعدة قبح العقاب بلا علم وبلا وصول، ولا فرق في ذلك بين الشبهة الموضوعيّة والشبهة الحكميّة.

إذن، فهذه القاعدة بعد أن طرحت في الكتب الاُصوليّة لم تكن واضحة عندهم، بل كان يقع الإشكال في إطلاقها وعمومها. وكان المعيار الارتكازيّ في الإشكال هو ظهور القاعدة، أي: كانوا يتعاملون معها معاملة الدليل اللفظيّ، واستظهار شيء منها، وعلى أساس الاستظهار كانوا يعلمون أنّ لها إطلاقاً أو لا.

إذن، فهذه القاعدة وإن عشنا نحن أهمّيّتها وجلالتها إلاّ أنّها ليست بهذا المستوى من الجلالة في الواقع، وكيف تكون هذه القاعدة من بديهيّات العقل السليم مع أنّها لم تدرك، ولم تذكر من قِبل أحد من العلماء العقلاء إلى أيّام الاُستاذ الوحيد(رحمه الله)، وبعد أن طرحت وادّعيت اُدّعيت بشكل مشوّش ومرتبك، فترى بين حين وآخر يدّعي بعض خروج بعض الموارد عنها، والآخر يدّعي عدم الخروج، كلّ هذا يقتضي أن تكون هذه القاعدة غير بديهيّة، وإنّما هي ـ لو كانت صحيحة ـ نظريّة ثابتة عند بعض الأشخاص دون بعض، وليست كما قال المحقِّق العراقيّ(رحمه الله)بمستوىً لا يتوهّم إنكارها ممّن له أدنى مسكة(1).

إن قلت: كم من المطالب التي لم يدركها المحقِّقون السابقون وأدركها المتأخّرون، كوجوه التوفيق بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ، والفرق بين الواجب



(1) راجع نهاية الأفكار القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 199.

56

المشروط والمعلّق، والمطلق والمنجّز، فليكن ما نحن فيه من هذا القبيل.

قلت: عدم إدراك السابقين لمثل تلك المطالب يكون لأحد وجهين:

الأوّل: دقّة المطلب وعمقه، فتفلسف اجتماع الحكم الظاهريّ والواقعيّ مثلاً ليس إلاّ أمراً دقيقاً يناسب عدم إدراك السابقين له من هذه الجهة، والمفروض أنّ البراءة العقليّة حكم من أحكام العقل العمليّ المدرك للحسن والقبح وأمر بديهيّ، فلا يعقل فيه هذا المنشأ لعدم الإدراك.

والثاني: عدم تصوّرهم لأطراف المطلب والتفاتهم إليها حتّى يدركوا حكماً في المقام، فلم يكونوا قد تصوّروا انقسام الحكم إلى واقعيّ وظاهريّ حتّى يدركوا وجه الجمع بينهما، ولم يكونوا قد تصوّروا: أنّ الحكم مشروطٌ تارةً ومعلّق اُخرى، أو مطلق تارةً ومنجّزٌ اُخرى كي يدركوا الفرق بين المشروط والمعلّق، أو بين المطلق والمنجّز. لكن الالتفات إلى تصوّرات القضيّة فيما نحن فيه كان حاصلاً لهم، فإنّك تراهم تكلّموا في الحظر والإباحة، والشكّ في المصلحة والمفسدة، وأنّ الأصل هل هو البراءة أو الاحتياط، أو هو الحظر أو الإباحة أو التوقّف على اختلاف تعبيراتهم، وما إلى ذلك(1).

فالذي يتلخّص من كلّ هذا أنّ هذه القاعدة من شؤون نفس تطوّر الفكر الاُصوليّ لا من الأحكام العقليّة البديهيّة.



(1) وقد يتّفق أنّ الأمر البديهيّ يقع التشكيك فيه أو الإنكار من قِبل بعض لشبهة حصلت له، كالماركسيّين الذين أنكروا استحالة اجتماع النقيضين لأجل شبهات حصلت لهم إن كانوا حقّاً فاهمين المعنى الذي يقصده القائلون باستحالة اجتماع النقيضين، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل أيضاً، فإنّ القدماء الذين لم يعترفوا بقبح العقاب بلا بيان لم يذكروا أيّ شبهة حول المطلب.

57

 

مناشئ الالتزام بالبراءة العقليّة:

وأمّا الناحية الثانية: فقد ذكرت البراءة العقليّة في لسان الأصحاب بتقريبين:

أحدهما: تقريب ساذج ـ ذكره جملة من المحقّقين كالشيخ الأعظم(قدس سره) وغيره ممّن سبقه كشريف العلماء وصاحب الحاشية على المعالم ومن لحقه ـ وهو أنّنا لمّا نلاحظ الموالي والعبيد العرفيّين نرى أنّه لو كان للمولى أمر لم يطّلع عليه العبد ولم يمتثل، فقال له المولى: (لِمَ لمْ تفعل كذا؟) يقول له العبد: (ما علمت بصدور الأمر منك بذلك) فلو قال له المولى: (لِمَ لمْ تحتط؟) يقول له العبد: (ما علمت أنّك أوجبت الاحتياط) ـ فعندئذ على حدّ تعبير المحقّق الشريف(رحمه الله) ـ تنقطع حجّة المولى، وليس للمولى حقّ أن يعاقبه. هذا ما يدركه العقلاء في اُمورهم، وهو المسمّى بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

أقول: كأنّهم فرضوا المولويّة شيئاً محدوداً معيّناً، فلمّا رأوا جريان البراءة في المولويّات الثابتة لدى المجتمعات تخيّلوا أنّها لا تنفّك عن المولويّة، فأجروها بالنسبة للمولى الحقيقيّ أيضاً، مع أنّه لا مجال لمثل هذا القياس؛ لأنّ المولويّة مقولة بالتشكيك، وتفترق مولويّة الله ـ تعالى ـ فرقاً جوهريّاً عن مولويّة الموالي العرفيّة.

وتوضيح المقصود: أنّ المولويّة عبارة عن ثبوت حقّ الطاعة، وهو قد يكون ذاتيّاً ولا يحتاج إلى جعل جاعل، وذلك منحصر في من هو مالكنا وخالقنا، وقد يكون جعليّاً مجعولاً من قِبل المولى الحقيقيّ كمولويّة الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام)، أو من قِبل نفس الأفراد الموَلّى عليهم كمولويّة السلاطين الذين تمّت سلطنتهم على يد نفس الرعيّة وباختيارهم، أو من قِبل نفس هذا المولى جبراً وإكراهاً كمولويّة السلاطين الذين تسلّطوا بالإجبار والإكراه لا برضا الرعيّة ورغبتهم، أو من قِبل

58

مولىً جعليّ آخر فرغ عن مولويّته في المرتبة السابقة، وينتهي أمر جعل مولويّته إلى مولىً من أحد الأقسام الثلاثة الاُولى. والمولويّة المجعولة تتبع في سعة دائرتها وضيقها نفس جعل الجاعل، والمولويّات العرفيّة تجعل فيها المولويّة وحقّ الطاعة في خصوص الأحكام المقطوعة، ولذا لو خالف العبد في غير الأحكام المقطوعة لم يكن للمولى عقابه، فيا ترى هل أنّ المولويّة الذاتيّة الثابتة للّه ـ تعالى ـ كتلك المولويّات المجعولة لدى العرف تختصّ بالأحكام المقطوعة أو لا؟ ومجرّد ثبوت البراءة في تلك المولويّات المجعولة لا يوجب قياس المولويّة الذاتيّة بذلك.

وفي أكبر الظنّ أنّ نكتة اشتباه الأكابر في المقام هي أنّهم لمّا تخيّلوا أنّ المولويّة شيء واحد محدّد لا يقبل التشكيك تغلّب وجدانهم في باب المولويّات العرفيّة المجعولة على وجدانهم في باب المولويّة الحقيقيّة، وأوجب ذلك التباس الأمر في نظرهم الشريف. والصحيح: أنّ العقل العمليّ في باب مولويّته ـ تعالى ـ يحكم بسعة دائرة المولويّة وشمولها للأحكام المظنونة والمشكوكة والموهومة(1).

 


(1) وقد يتراءى للذهن أنّه من الواضح أنّ المولى ـ سبحانه ـ لو لم يصدر أمراً بشيء واحتملنا كون ذلك الشيء مطلوباً له رغم عدم الأمر، لم يجب علينا عقلاً الإتيان به، ولم نستحقّ العقاب على تركه، وليس هذا إلاّ عبارة عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولكن الواقع أنّ هذا قد يكون على أساس أنّ أغراض المولى البالغة في الضعف مرتبة لا تحرّك المولى نحو بيانها لا يحكم العقل بوجوب امتثالها، وهذا غير قاعدة قبح العقاب بلا بيان المفروض جريانها فيما احتملنا صدور الأمر من المولى به، ولكن لم يصلنا الأمر صدفة لضياع الأخبار أو لأيّ سبب آخر. وقد يقول قائل: إذا كان المفهوم وفق المولويّات العرفيّة قبح العقاب بلا بيان لضيق دائرة المولويّة فيها، فتتمّ البراءة لديهم، فلولا منع الشارع عن

59

والثاني: تقريب أعمق من التقريب السابق جيء به على يد المحقّق النائينيّ(رحمه الله)ومدرسته، وهو: أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان مرجعها إلى قاعدة قبح العقاب بلا مقتض للتحريك؛ وذلك لأنّ الأشياء الخارجيّة بوجوداتها الواقعيّة لا تقتضي العزم والإرادة في عالم النفس، وبالتالي حركة الإنسان نحو ذلك الأمر أو نحو الفرار منه، وإنّما المقتضي للعزم والإرادة في عالم النفس، وبالتالي لحركة الإنسان نحو ذلك الشيء، أو الفرار منه، إنّما هو الأشياء الخارجيّة بوجوداتها العلميّة في عالم النفس، فالعطشان قد يموت من العطش مع وجود الماء خلفه وهو لا يشربه لأنّه لا يدري به، وإذا علم بذلك حصل له العزم وأراد تحصيله وتحرّك نحو شربه. والسبع قد يباغت الإنسان فيأكله لأنّه بوجوده الواقعيّ ليس محرّكاً للإنسان نحو الفرار، وإنّما يكون محرّكاً بوجوده الواصل، فإذا علم به الإنسان فرّ منه. نعم قد يحتاط الإنسان في غير مورد العلم، فلا يجتاز مسبعة الأسد مثلاً، ولكن هذا يكون بنكتة اُخرى واصلة إليه، فالمحرّك بالآخرة هو الوجود الواصل، وهكذا الحال في


العمل بالبراءة في الشرعيّات فالناس بطبعهم الأوّليّ سيتعدّون من العرفيّات إلى الشرعيّات ويعملون بالبراءة فيها، فسكوت الشارع دليل على إمضاء البراءة.

إلاّ أنّ هذا الكلام لو تمّ فإنّما يثبت البراءة الشرعيّة لا البراءة العقليّة، نعم تثبت بذلك البراءة الشرعيّة التي هي بمستوى البراءة العقليّة، أي: أنّ أدلّة الاحتياط لو تمّت ترفع موضوعها، ولو سقطت بالتعارض مع روايات البراءة كانت هذه البراءة هي المرجع.

وقد يقال: إنّ هذا الكلام من أساسه غير صحيح؛ لأنّ الفرق بين المولويّة الذاتيّة والمولويّات العرفيّة في السعة والضيق لعلّه واضح بالفطرة ممّا يمنع الناس عن التعدّي إلى الشرعيّات.

60

التكاليف المولويّة، فإنّها إنّما تقتضي التحريك بوجودها العلمىّ والواصل في اُفق النفس دون مجرّد وجودها بحسب الواقع، وبذلك يظهر قبح العقاب بلا بيان،إذ مع عدم البيان لا مقتضي للتحريك حتّى يقول المولى للعبد: (لماذا لم تتحرّك؟)(1).

والتحقيق: أنّ هذا التقريب لا يرجع إلى محصّل. بيان ذلك: أنّ المحرّك على قسمين: محرّك ذاتيّ، ومحرّك مولويّ، ومقصودنا بالأوّل ما يقتضي التحريك على أساس الملائمة أو المنافرة لطبع الإنسان بمرتبة من مراتب وجوده من عقله، أو طبعه الحيوانيّ، أو غير ذلك، ومن هذا القبيل تحريك الماء للعطشان نحو شربه، وتحريك الأسد للإنسان نحو الفرار، ومقصودنا بالثاني ما يقتضي التحريك على أساس الحسن والقبح، وحقّ المولى ولابدّيّة الطاعة وترك المعصية بحكم العقل العمليّ.

أمّا المحرّك الذاتيّ وهو الملائمة والمنافرة للطبع ففي الحقيقة إنّما يكون محرّكاً بوجوده العلمىّ إذا كانت الملائمة والمنافرة بدرجة تغلب على ما قد يكون في التحرّك من التعب والمؤونة مثلاً، فالعطشان الذي لا يجد ماءً إلاّ تحت الأرض بالحفر قد يكون عطشه بمقدار يكون تحملّه للعطش أسهل من تحملّه لمؤونة الحفر، فلا يتحرّك نحو الحفر، وقد يكون بمقدار يتحرّك نحو الحفر رغم ما فيه من المؤونة والشدّة.

ثمّ الغرض الواصل إلى درجة المحرّكيّة عند القطع هل يكون محرّكاً عند عدم القطع أو لا؟ الصحيح: أنّه تارةً تفرض الغفلة نهائيّاً عن الأمر كالعطشان الغافل رأساً عن احتمال وجود الماء خلفه، وعندئذ لا معنى للتحريك، فإنّ الشيء بمجرّد وجوده الواقعيّ لا يكون مؤثّراً في النفس وموجداً للعزم والإرادة وبالتالي محرّكاً



(1) راجع أجود التقريرات، ج 2، ص 186.

61

نحو ذلك الأمر، واُخرى يفرض احتماله لذلك لا غفلته عنه نهائيّاً، وعندئذ كون وجوده الاحتماليّ الذي هو أيضاً وصول كالعلم وإن كان بمرتبة نازلة محرّكاً أو لا، مربوط بدرجة اهتمامه بذلك الغرض، فقد لا يكون عطشه بمقدار يحرّكه نحو النظر إلى خلفه بمجرّد احتمال وجود الماء خلفه، وقد يكون عطشه بمقدار يحرّكه نحو حفر الأرض بمجرّد احتمال وجود عين ماء هناك.

وأمّا المحرّك المولويّ وهو حكم المولى فبعد أن عرفت أنّ التحريك المولويّ قائم على أساس الحسن والقبح وحكم العقل بلابدّيّة الطاعة وترك المعصية عملاً بحقّ المولى تعرف أنّ كونه محرّكاً بوجوده الاحتماليّ وعدمه متفرّع على مقدار سعة حقّ المولويّة وتلك اللابدّيّة، فإن فرض ثبوت حقّ المولويّة في الأحكام المحتملة ثبت هذا المقتضي للتحريك، وإلاّ فلا، وهذا ليس مطلباً صناعيّاً يجب أن يبيّن في صياغة فنّيّة، وإنّما هو أمر ساذج يجب أن يراجع فيه كلّ إنسان عقله العمليّ كي يرى أنّه هل يحكم عقله بحقّ الطاعة في الحكم المشكوك أو لا؟ فأيّ حاجة إلى ما صنعوه من تطويل المسافة واصطنعوه من صورة الاستدلال والصناعة للمطلب؟!

ونحن نسأل المحقّق النائينيّ(رحمه الله) عن مراده بقبح العقاب بلا مقتض للتحريك، فهل المراد هو المقتضي الذاتيّ للتحريك، أو المراد هو المقتضي المولويّ للتحريك؟ فإن كان المراد هو الأوّل فانتفاء المقتضي الذاتيّ للتحريك لا يقبّح العقاب، وإلاّ لزم قبح عقاب الفسّاق والفجّار؛ إذ لا يوجد لديهم مقتض ذاتيّ للطاعة وترك المعصية، وإن كان المراد هو الثاني، فعدم المقتضي المولويّ للتحريك عند الشكّ أوّل الكلام(1)، فإنّه مربوط بسعة دائرة حقّ المولى وضيقه.



(1) ومن الطريف ما جاء في أجود التقريرات من الاستدلال على عدم محرّكيّة الاحتمال بتساوي نسبة الاحتمال إلى طرفي الوجود والعدم.

62

ونحن نقول بصراحة وبعبارة ساذجة من دون صورة صناعيّة: إنّ عقلنا العمليّ يحكم بأنّ المولى له حقّ الطاعة في التكاليف المحتملة ما لم يرد ترخيص ظاهريّ من قِبل المولى.

هذا تمام الكلام في البراءة العقليّة، وقد ظهر عدم تماميّة ما استدلّ به عليها كما ظهر من خلال الكلام المنشأ الذي أدّى إلى تكوّن مثل هذا الاعتقاد في أذهان العلماء والمحقّقين، وهو الغفلة عن ما مضى من الفرق بين حقّ المولويّة الحقيقيّة وحقّ المولويّات العرفيّة، وعدم الالتفات إلى أنّ المولويّة مقولة بالتشكيك، فقاسوا تلك المولويّة بهذه المولويّات.

63

أصالة البراءة

2

 

 

البراءة الشرعيّة

 

○ أدلّة البراءة الشرعيّة.

○ أدلّة الاحتياط.

○ علاج التعارض بين أدلّة البراءة والاحتياط.

○ تنبيهات.

 

 

 

 

65

 

 

 

 

 

 

 

وأمّا المقام الثاني: فيقع فيه البحث عن البراءة الشرعيّة، وهي على قسمين:

أحدهما: ما يكون في مستوى البراءة العقليّة، أعني: البراءة التي اُخذ في موضوعها عدم البيان بنحو يرتفع حتّى ببيان الاحتياط، كما هو الحال في البراءة العقليّة عند من يقول بها.

وثانيهما: ما يكون في مستوىً أرفع، وهو ما اُخذ في موضوعها عدم البيان بنحو لا يرتفع إلاّ ببيان نفس الحكم، فلو لم يبيّن الحكم لكن بيّن وجوب الاحتياط وقع التعارض بين دليل البراءة ودليل الاحتياط، ونحن نذكر ـ إن شاء الله ـ أدلّة البراءة الشرعيّة، ونشير في كلّ واحد منهما إلى ما يكون على مستوى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وما يكون أرقى من القاعدة.

 

أدلّة البراءة الشرعيّة

 

البراءة في الكتاب الكريم

فمن الأدلّة التي استدلّ بها على البراءة الشرعيّة الكتاب، وفيه آيات:

66

 

الآية الاُولى:

قوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا﴾(1). وتقريب الاستدلال بها أن يقال: إنّ اسم الموصول يحتمل فيه بدواً عدّة احتمالات:

1 ـ أن يكون المراد به التكليف ـ أي: لا يكلّف الله نفساً تكليفاً إلاّ التكليف الذي آتاها ـ ويكون إيتاء التكليف وإعطاؤه بمعنى إيصاله إلى المكلّف خارجاً.

2 ـ أن يكون المراد به المال، وإيتاؤه عبارة عن الرزق، أي: لا يكلّف الله نفساً مالاً إلاّ المال الذي رزقه إيّاه.

3 ـ أن يكون المراد به الفعل. وإيتاء الفعل وإعطاؤه عبارة عن الإقدار عليه، أي: لا يكلّف الله نفساً بفعل إلاّ الفعل الذي أقدره عليه.

4 ـ أن يكون المراد به الجامع بين هذه الاُمور، ويكون المراد بالإيتاء إعطاء كلّ بحسبه، فإعطاء التكليف إيصاله، وإعطاء المال رزقه، وإعطاء الفعل الإقدار عليه.

والآية الشريفة على الاحتمال الأوّل والرابع تدلّ على البراءة، وعلى الثاني والثالث أجنبيّة عنها. والمتعيّن من الاحتمالات هو الرابع، فإنّ الاحتمال الأوّل وهو إرادة التكليف بالموصول لا يناسب مورد الآية؛ إذ في صدر الآية أمر الأزواج أن ينفقوا في العدّة بمقدار قدرتهم وسعتهم الماليّة، ثمّ قال: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا﴾.

وأمّا الاحتمال الثاني، وهو أن يراد بالموصول المال، فهو:

أوّلاً: خلاف إطلاق اسم الموصول في نفسه، ومجرّد خصوصيّة المورد لا



(1) سورة 65 الطلاق، الآية: 7.

67

توجب التقييد، غاية الأمر أنّها توجب كون المال قدراً متيقّناً في مقام التخاطب، والقدر المتيقّن في مقام التخاطب لا يضرّ بالإطلاق كما حقّق في محلّه.

وثانياً: أنّنا يمكن أن نستشعر من سياق الآية أنّ هذه الجملة قد سيقت مساق بيان كبرىً كلّيّة للمورد، فهذا الظهور يناسب أوسعيّة الكبرى وعدم مطابقتها للصغرى في مدى سعة دائرة الموضوع (1).

وأمّا الاحتمال الثالث وهو أن يراد بالموصول الفعل، فهو أيضاً خلاف الإطلاق ومقدّمات الحكمة، فيتعيّن الرابع، وبه يتمّ الاستدلال بإطلاق الآية الشريفة على البراءة.

وأورد على ذلك الشيخ الأعظم(قدس سره)(2): بأنّه يلزم من حمل الآية على المعنى الرابع أن يكون اسم الموصول بلحاظ شموله للتكليف مفعولاً مطلقاً؛ لأنّه مادّة الفعل، وبلحاظ شموله للمال أو للفعل مفعولاً به؛ لأنّه أمر آخر مغاير لمادّة الفعل، فتكون هيئة الربط بين الفعل والمفعول مستعملة في نسبتين متباينتين؛ لأنّ نسبة الفعل إلى المفعول المطلق غير نسبة الفعل إلى المفعول به، فنسبة الفعل إلى المفعول المطلق هي نسبة الشيء إلى طور من أطواره، وشأن من شؤونه، ونتيجة من نتائجه. وأمّا نسبة الفعل إلى المفعول به فهي نسبة المغاير إلى المغاير. والمفعول به



(1) قلت له (رضوان الله عليه): إنّ انتزاع الكبرويّة في المقام يناسب حتّى فرض كون المراد بالموصول خصوص المال، فإنّ مورد الآية مورد خاصّ من التكليف بالمال المأتيّ. فقال (رضوان الله عليه): نعم، ولكن يختلف مقدار انتزاع الكبرويّة والسعة، والابتعاد عن خصوصيّة المورد باختلاف الأذواق.

(2) راجع الرسائل بحث الآية الاُولى من آيات البراءة، ص 193 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة (رحمت الله).

68

شيء يفرض له نحو من الثبوت في المرتبة السابقة على طرّو الفعل، كما في ضربت زيداً ودرست كتاباً، فلزم استعمال الهيئة في معنيين، وهو كاستعمال اللفظ في معنيين غير ممكن، أو غير صحيح، فيتعيّن حمل الموصول على المعنى الثالث، وهو الفعل بعد أن كان حمله على المعنى الأوّل غير مناسب للمورد، وحمله على المعنى الثاني لا يناسب كلّيّة الكبرى.

وقد تصدّى المحقّق العراقيّ و المحقّق النائينيّ(قدس سرهما) لدفع هذا الإشكال، فكلّ منهما أجاب بجواب:

أمّا المحقّق العراقيّ فقد أجاب على الإشكال(1): بأنّنا ننتزع جامعاً بين النسبتين تكون هي نسبة الفعل إلى الجامع بين المفعول المطلق والمفعول به، وتحمل الآية على هذا المعنى بمقتضى الإطلاق.

ويرد عليه: أنّه إن أراد بذلك تصوير نسبة ثالثة تكون من حيث سعة أطرافها وضيقها بمقدار مجموع النسبتين فتتعين إرادتها في المقام بالإطلاق ومقدّمات الحكمة. قلنا: إنّ مقدّمات الحكمة لو اُجريت بلحاظ النسبة ورد عليه أنّ هذه النسبة إن تمّ تصويرها في نفسها مباينة مفهوماً للنسبتين الاُوليين، ومقدّمات الحكمة إنّما تجري فيما لو تعيّنت إرادة معنىً واحد من اللفظ، ودار الأمر بين ثبوت قيد إضافي في عالم الثبوت وعدمه، فيدفع القيد بمقدّمات الحكمة، لا فيما لو كان للّفظ معنيان متباينان أحدهما أوسع صدقاً من الآخر ودار الأمر بين إرادة هذا وإرادة ذاك، كأن نفرض أنّ كلمة الدابّة لها معنيان: أحدهما: الحمار،



(1) راجع المقالات، ج 2، ص 53، ونهاية الأفكار القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 202، وراجع تعليقه على فوائد الاُصول في الجزء الثالث منه المطبوع مع التعليقة، ص 331.

69

والآخر: مطلق ما يدبّ على وجه الارض، فعندئذ لا يمكننا أن نثبت بالإطلاق كون المراد هو الثاني، هذا حال إجراء مقدّمات الحكمة في نفس النسبة كما يقصده المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1).

وأمّا إن اُريد إجراؤها في طرفي النسبة، حيث إنّهما سعة وضيقاً يساويان النسبة، فتجري المقدّمات في الطرفين وتثبت بالملازمة سعة النسبة، ورد عليه: أنّ الطرفين مكتنفان بما يصلح للقرينيّة، وهو الهيئة المفروض اشتراكها بين نسبة وسيعة ونسبة ضيّقة، وضيقها قرينة على ضيق ما اُريد من الطرفين.

وإن أراد بذلك: أنّ نسبة الفعل إلى المفعول به ونسبته إلى المفعول المطلق بينهما جزء مشترك، من قبيل اشتراك الإنسان بين الإنسان الأسود والإنسان الأبيض، والهيئة موضوعة لذلك القدر المشترك ومستعملة فيه من دون فرض نسبة ثالثة في المقام، وما به الامتياز لإحدى النسبتين منفيّ بمقدّمات الحكمة، ورد عليه: أنّ خصوصيّات النسب ـ كما حقّقنا في بحث المعاني الحرفيّة ـ مقوّمة لتلك النسب وذاتيّة لها، وكلّ نسبة مباينة للنسبة الاُخرى مفهوماً، فالجامع بينهما لا يكون إلاّ جامعاً انتزاعيّاً ومعنىً اسميّاً لا واقع النسبة، فإنّ أيّ واقع نسبة فرضنا عدم ثبوت خصوصيّتي هاتين النسبتين له تكون نسبة ثالثة مباينة لهما.

وأمّا المحقّق النائينيّ(رحمه الله) فقد أجاب على الإشكال بأنّه إنّما يلزم كون اسم الموصول في الآية الشريفة مفعولاً به ومفعولاً مطلقاً لو فرض إرادة التكليف منه بالمعنى المصدريّ مضافاً إلى إرادة المال والفعل، ولكن يمكن إرادة التكليف منه بمعنى اسم المصدر، فإنّ التكليف تارةً يعتبر بما هو حدث، واُخرى يعتبر بما هو



(1) بل مقصود المحقّق العراقيّ(رحمه الله) إجراؤها في أطراف النسبة كما يظهر بمراجعة المقالات ونهاية الأفكار.