70

نتيجة الحدث، وبهذا الاعتبار يكون مغايراً للمعنى الأوّل، فعندئذ لا يكون مفعولاً مطلقاً، بل يكون مفعولاً به؛ لأنّ المفعول المطلق هو ما كان نفس مصدر الفعل ومادّة الفعل، وهذا غير مادّة الفعل بالاعتبار(1).

وهذا الجواب أيضاً غير صحيح؛ وذلك لأنّه وإن كان بالإمكان إيجاد فرد بالاعتبار مغاير للمعنى الحدثيّ وهو النتيجة، إلاّ أنّ إطلاق اسم الموصول في نفسه لا يثبت وجود مثل هذا الاعتبار من قِبل المتكلّم، بل لابدّ من قيام قرينة على اعتبار المتكلّم ذلك حتّى يتمسّك بإطلاق اسم الموصول لشموله.

وبكلمة اُخرى: إنّ اسم الموصول يشمل بمقتضى الإطلاق كلّ ما هو فرد للمفعول له في نفسه، إمّا حقيقةً أو اعتباراً، فشمول الإطلاق للتكليف متوقّف على كونه فرداً للمفعول به في الرتبة السابقة على الإطلاق، ولم يعلم كونه فرداً له لا حقيقة لعدم المغايرة الحقيقيّة بينه وبين المصدر، ولا اعتباراً لعدم العلم باعتبار المتكلّم في المقام فرداً مغايراً للحدث يسمّى بالنتيجة.

والتحقيق في المقام: هو أنّ اسم الموصول هنا لا يصحّ جعله مفعولاً مطلقاً بقطع النظر عن محذور الجمع بين النسبتين؛ وذلك لأنّ المستفاد من الآية الشريفة هو أنّ التكليف إنّما يتعلّق بشيء يكون متّصفاً بإيتاء الله إيّاه للعبد، ولا يتعلّق بشيء غير متّصف بالإيتاء، وهذا يعني فرض ثبوت الإيتاء في الرتبة السابقة على التكليف، وتوقّف التكليف على ذلك، فما هو المراد بالموصول يكون أمراً ثابتاً مأتيّاً بقطع النظر عن التكليف، وقد تعلّق التكليف به، فكيف يعقل أن يفرض مفعولاً مطلقاً ليس له نحو من الثبوت بقطع النظر عن فعله، ويكون ثبوته بنفس ثبوت الفعل، ويكون طوراً من أطوار الفعل ونتيجة من نتائجه، كما في ضربت ضرباً، ودرست درساً.



(1) راجع تقرير الشيخ الكاظميّ، ج 3، ص 121، وأجود التقريرات، ج2، ص169.

71

ولا منشأ لتوهّم صيرورته في المقام مفعولاً مطلقاً عدا تخيّل أنّ المراد بالفعل في قوله: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ﴾ هو نفس المراد بالموصول، أعني: التكليف بمعناه الاصطلاحيّ المساوق لجعل الحكم، وليس الأمر كذلك، بل المراد به هو التكليف بمعناه اللغويّ، وهو جعل الإنسان في الكلفة والمشقّة وتثقيل كاهله، وإنّما يعبّر عن الحكم الشرعيّ بالتكليف باعتبار التعبير عن السبب بمسبّبه وبما ينشأ عنه، والتكليف بهذا المعنى اللغويّ يتعلّق بالتكليف بمعنى الحكم الشرعيّ على حدّ تعلّقه بالمال والفعل ـ أي: أنّه يتعلّق به تعلّق الفعل بالمفعول به، لا بالمفعول المطلق ـ لوضوح المغايرة بينهما، إذن فالاسم الموصول إذا حملناه بالإطلاق ومقدّمات الحكمة على الجامع بين المال والفعل والتكليف، كانت نسبة الفعل إليه نسبة الفعل إلى المفعول به، ولا يلزم من ذلك الجمع بين النسبتين، وبذلك يتمّ الاستدلال بالآية الشريفة على البراءة تمسّكاً بإطلاق الموصول(1).



(1) وقد جاءت في المقالات، ج 2، ص 53 كلمة مختصرة تشير إلى إمكان حمل النسبة في الآية على نسبة الفعل إلى المفعول به رغم فرض شمول إطلاق الموصول للتكليف، وكنتُ أحدس أنّ هذا إشارة إلى جواب المحقّق النائينيّ(رحمه الله)عن الإشكال، فالمحقّق العراقيّ(قدس سره) له جوابان عن الإشكال أحدهما: ما مضى عنه في المتن، والثاني: ما مضى عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في المتن، ثمّ رأيت في نهاية الأفكار التي هي تقرير لبحث المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 203 ذكراً لما ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من حمل التكليف في قوله: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ﴾ على معنى الكلفة والمشقّة، وعليه ففي أكبر الظنّ أنّ تلك الكلمة المختصرة الواردة في المقالات إشارة إلى ذلك، فللمحقّق العراقيّ جوابان على الإشكال: أحدهما ما مضى عنه، والثاني حمل النسبة على نسبة الفعل إلى المفعول به بنكتة حمل التكليف على معنى الكلفة والمشقّة.

72

إن قلت: إنّ الإيتاء وإن كان قد يستعمل في إيصال التكليف للإنسان، إلاّ أنّ هذا استعمال مجازيّ، فلا يمكن إثباته بالإطلاق في الآية.

قلت: إنّ هذا خلاف الإنصاف، فإنّ الإيتاء بمعنى الإعطاء المضايف تقريباً للأخذ لا يكون مفهومه مقيّداً بالمصداق المادّيّ للإعطاء، وكما أنّ الاُمور المادّيّة قابلة للإعطاء والأخذ كذلك الاُمور المعنويّة قابلة للإعطاء والأخذ، ويستعمل فيها الإعطاء والأخذ بلا عناية أصلاً، وقد استعمل الإيتاء كثيراً في القرآن الكريم في الاُمور المعنويّة، كالملك والحكم والنبوّة والعلم والهدى والرحمة. نعم لم يستعمل صريحاً في الأحكام والفرائض، ولكن لا يبعد أن يكون هو المقصود في قوله تعالى: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾(1)، وكذلك قوله تعالى: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّة﴾(2)، فإنّ سياق الحديث القرآنيّ يناسب أن يكون المقصود بما آتيناكم الشريعة والأحكام، وفسّر بذلك في الروايات. نعم، لعلّ من الملحوظ في سائر الموارد نكتة كون المأتيّ به في مصلحة الشخص، وهذه النكتة موجودة فيما نحن فيه ـ أي: الأحكام ـ فإنّها خير للبشر وهداية له من الضلالة والعمى إلى السعادة والرشاد. وكذلك كلمة الأخذ أيضاً التي هي في قبال كلمة الإعطاء والإيتاء استعملت في الروايات في الأحكام؛ كما في قوله: (يونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟) وخلاصة الكلام: أنّه ليست هناك أيّ عناية في استعمال الإيتاء والأخذ في الأحكام ومعالم الدين(3).

 


(1) سورة 59 الحشر، الآية: 7.

(2) سورة 2 البقرة، الآية: 63 و 93، وسورة 7 الأعراف، الآية: 171.

(3) لا ينبغي الإشكال في أنّ الإيتاء الذي هو بمعنى الإعطاء لا يختصّ بالاُمور

73

إن قلت: إنّ غاية ما يستفاد من الآية هي أنّ الله ـ سبحانه ـ لا ينجّز على العباد التكاليف إلاّ إذا بيّنها لهم، وهذا غير ما نحن بصدده، فإنّ كلامنا ليس في فرض عدم البيان من الله، ونحن نعلم أنّ الله ـ تعالى ـ قد بيّن تمام الأحكام على لسان


المادّيّة، بل يستعمل بمعناه الحقيقيّ في الاُمور المعنويّة أيضاً، وإعطاء كلّ شيء بحسبه، وليس إعطاء الملك والنبوّة والرحمة ونحو ذلك إلاّ أمثلة لإعطاء الاُمور المعنويّة وإيتائها، ولكن الكلام إنّما هو في استعمال الإيتاء بمعناه الحقيقيّ في مورد الإعلام، وكون الإعلام مصداقاً حقيقيّاً للإيتاء، وواقع الأمر هو أنّه حينما ينسب الإيتاء بمعنى الإعلام إلى الاُمور الذهنيّة فلا إشكال في كونه حقيقة، فإنّ إيتاء كلّ شيء بحسبه، وإيتاء الاُمور الذهنيّة إلى الذهن، أو إعطاؤها إيّاه هو إعلامها إيّاه، ومن هنا كان استعمال الإيتاء في مورد العلم أو الحكمة بأن يقال: (آتاه الله العلم)، أو يقال: (آتاه الله الحكمة) استعمالاً حقيقيّاً. أمّا إذا نسب الإيتاء إلى واقع خارجيّ لا إلى الواقع الذهنيّ وقصد به الإعلام والإيصال إلى الذهن، فهذا مجاز لا محالة، فإنّ إيتاء الواقع الخارجيّ وإعطاءهُ ليس عبارة عن إعلامه، وإعلامه إنّما يكون إيتاء لصورته الذهنيّة، ومن هنا يتّضح أنّ نسبة الإيتاء إلى التكليف بوصفه معرفة من المعارف وصورة علميّة في ذهن من يعلم به تكون على نحو الحقيقة لا المجاز. أمّا نسبته إلى واقع التكليف، بمعنى إعلامه وإيصال صورته إلى الذهن فمجاز. ومن هنا يتّضح أنّ فرض شمول الآية المباركة للإيتاء بمعنى الإعلام لا يتمّ على نحو الحقيقة؛ إذ لو فرض شمول (ما) الموصولة في الآية للتكليف فالمقصود بذلك هو واقع التكليف لا الصورة العلميّة للتكليف؛ لأنّ واقع التكليف هو الذي ينقسم إلى ما علم به، وما لم يُعلم به، فيمكن حصر ثبوت المشقّة بالقسم الذي علم به. أمّا الصورة العلميّة للتكليف فلا تنقسم إلى هذين القسمين، إذن ففرض شمول الإيتاء في الآية للإعلام خلاف الظاهر، ولا يتمّ الإطلاق عندئذ في الموصول، والآية أجنبيّة عن البراءة الشرعيّة.

74

رسوله(صلى الله عليه وآله) والأئمّة الطاهرين(عليهم السلام)، وإنّما نشأ شكّنا في التكليف من ناحية احتمال استتار البيان علينا باعتبار ظلم الظالمين، وهذا لا يكون مشمولاً للآية الكريمة.

قلت: هذا أيضاً خلاف الإنصاف، فإنّ الآية لا تقول: (لا يكلّف الله نفساً إلاّ ما بيّنه في نفسه) بل تقول: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا﴾، فلابدّ من فرض الإيتاء لكلّ نفس نفس بحسب القضيّة الحقيقيّة، فلابدّ أن يكون المقصود بالإيتاء هو الإيصال بالمعنى المفيد في مورد الكلام، لا مجرّد البيان وإن لم يصل.

بقي الكلام في أنّ الآية الشريفة هل تدلّ على البراءة الشرعيّة التي هي على مستوى البراءة العقليّة عند مدّعيها ـ أي: أنّه يكفي في رفع موضوعها بيان إيجاب الاحتياط، أو تدلّ على ثبوت البراءة ما لم يبيّن نفس التكليف ولم يصل إلى العبد ـ فلو دلّ دليل على إيجاب الاحتياط لا على نفس التكليف وقعت المعارضة بينهما.

والتحقيق في ذلك: أنّه لابدّ أن يُرى أنّ النسبة بين الفعل وما أثبتنا إرادته من الموصول بالإطلاق وهو التكليف هل هي نسبة السببيّة، أو نسبة المورديّة؟ فإن كانت النسبة هي نسبة السببيّة كان معنى الآية: أنّ الله ـ تعالى ـ لا يوجد كلفة على العباد ناشئة من تكليف غير واصل سواءً سمّينا الموصول عندئذ بالمفعول به أو لا، وإن كانت النسبة هي نسبة المورديّة كان معنى الآية: أنّ الله ـ تعالى ـ لا يوجد كلفة على العباد بإزاء تكليف لم يصل، أي: لا يكلّفه بذلك الحكم.

فإن فرض الأوّل: كفى في ارتفاع موضوع البراءة في حدودها المستفادة من الآية وصول دليل إيجاب الاحتياط، ولا تعارض الآية دليل الاحتياط لو تمّ في نفسه، فإنّ الكلفة الحاصلة عندئذ نشأت من إيجاب الاحتياط الواصل لا من الحكم غير الواصل.

وإن فرض الثاني: فالآية بنفسها تنفي إيجاب الاحتياط، وتعارض دليل إيجابه؛ لأنّ وجوب الاحتياط ينجّز الواقع ويصحّح العقاب على الواقع، فيصبح الإنسان مبتلى بالواقع مع أنّ الواقع غير مأتيّ به للإنسان، وهذا خلاف الآية

75

الكريمة الدالّة على أنّ الواقع غير الواصل لا يقع مورداً للابتلاء بالنسبة للمكلّف.

والظاهر من المعنيين هو الثاني، وكون نسبة الفعل في الآية إلى الموصول نسبة السببيّة خلاف الظاهر في نفسه، مضافاً إلى أنّه لا يجتمع مع إرادة المال من الموصول، ولابدّ من كون المال مراداً من الموصول حتّى يلائم مورد الآية، وكون نسبة الفعل إلى المال نسبة النشوئيّة والسببيّة خلاف الفهم العرفيّ، فإنّ الذوق العرفيّ يعتبر المال الواجب إنفاقه مورداً للكلفة لا منشأ للكلفة، فبقرينة ذلك نعرف أنّ نسبة الفعل إلى التكليف أيضاً في الآية نسبة المورديّة(1). هذا تمام الكلام في هذه الآية الشريفة. والإنصاف أنّها خير دليل على البراءة الشرعيّة بمعنى لا يرتفع موضوعه بإيجاب الاحتياط.

ولا حاجة إلى تتميم الاستدلال بالآية، أو تأييده بورود خبر في المقام، وهو ما رواه عبد الأعلى، قال: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): (أصلحك الله هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟) قال: فقال: «لا»، قلت: (فهل كلّفوا المعرفة؟) قال: «لا، على الله البيان، لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها، ولا يكلّف الله نفساً إلاّ ما آتاها...»(2).



(1) لا يخفى أنّ النسبة النشوئيّة وإن كانت لا تناسب المال ولكنّها تناسب الفعل، وكان أحد محتملات الموصول أن يكون المراد به هو الفعل، وهذا أيضاً يناسب مورد الآية، فإذا فرضنا كون هذا الاحتمال أظهر من احتمال إرادة المال؛ لأنّه يحفظ كلّيّة الكبرى، أو فرضناه مساوياً للاحتمال الأوّل، فإثبات الجمع بينهما بالإطلاق لا يمكن؛ لأنّ احتمال نشوئيّة النسبة صالح للقرينيّة على عدم إرادة المال، إلاّ أن يقال: إنّ عدم إرادة المال مع كونه منظوراً إليه في المورد غير عرفيّ رغم كفاية إرادة الفعل في شمول الآية للمورد.

(2) اُصول الكافي، ج 1، باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة، ح 5، ص 163 بحسب الطبعة الجديدة.

76

وتقريب الاستدلال بهذا الحديث: أنّه وإن كان المفروض في مورد الحديث هو عدم القدرة؛ لأنّه نفى وجود أداة ينالون بها المعرفة ولابدّ من حمله على معرفة المطالب الإلهيّة وشؤونه ـ جلّ جلاله ـ بنحو التفصيل الذي يكون خارجاً عن قدرة العباد ما لم يبيّن لهم الله ـ تعالى ـ تلك التفاصيل، ولكنّه إنّما وقع في الحديث الاستشهاد بالآية الشريفة بعد قوله: «على الله البيان»، وهذا يدلّ عرفاً على أنّ الإيتاء في الآية الشريفة شامل للبيان، كما يكون شاملاً للإقدار على الفعل وإعطاء المال، وأنّ الموصول شامل للتكليف كما يكون شاملاً للمال والفعل، فتدلّ الآية على عدم التكليف بلا بيان وهو المقصود.

ويرد عليه: أنّ هذا إنّما يتمّ لو كان المقصود بالبيان بيان التكليف، فالظاهر عندئذ من الحديث هو تعليل عدم كون العباد ملزمين بالمعرفة بعدم بيان تكليفهم بالمعرفة والاستشهاد لهذا التعليل بالآية الشريفة، فالنظر في الاستشهاد بها يكون إلى عنوان عدم بيان التكليف لا إلى عدم القدرة على المكلف به، وإن كان عدم القدرة أيضاً مفروضاً في الحديث، لكنّ الظاهر من هذا الحديث بقرينة الاستشهاد بقوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَا﴾ هو كون المقصود بالبيان بيان نفس التفاصيل الذي تتوقّف عليه القدرة على المعرفة، ولا أقلّ من الإجمال، فالنظر على هذا الفرض في الاستشهاد بالآية ليس إلى عنوان عدم بيان التكليف الذي هو الموضوع للبراءة، بل النظر في ذلك إلى عدم بيان التفاصيل باعتبار كونه موجباً لعدم القدرة والوسع، فالحديث إنّما يكون شاهداً لشمول الآية لباب عدم القدرة على الفعل.

وعلى أيّة حال، فقد عرفت أنّ الاستدلال بالآية الشريفة في نفسه تامّ بلا حاجة إلى فرض ضمّ هذا الحديث.

77

 

الآية الثانية:

قوله تعالى:﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾(1). وتقريب الاستدلال بها: أنّ خصوصيّة الرسول ملغاة بحسب الارتكاز العرفيّ، ويكون موضوع الحكم المستفاد من الآية عرفاً مطلق البيان، والرسول إنّما ذكر باعتبار كونه مبيّناً للحكم، إذن فالآية تدلّ على مضمون قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وقد استشكل في ذلك تارةً بأنّ الآية إنّما تدلّ على نفي العذاب لا على نفي الاستحقاق وعدم الإلزام الذي هو المقصود، ونفي الفعليّة أعمّ من ذلك، واُخرى بأنّ المقصود بالعذاب العذاب الدنيويّ الواقع في الاُمم السابقة لا العذاب في الآخرة، والظاهر أنّ هذا إنّما استفيد ممّا في الآية الشريفة من التعبير بصيغة الماضي؛ إذ ليس هنا شاهد آخر على كون الآية في مقام التحدّث عن الاُمم الماضية والعذاب الواقع في تلك الأزمنة.

ويندفع الأوّل بأنّه إنّما كان له مجال لو كان النفي داخلاً على العذاب ابتداءً بأن يقول: (لا نعذّب)، أو (ما عذّبنا) كما هو طبع القضيّة ابتداءً في مقام الإخبار عن عدم العذاب، فإنّ ما يقصد الإخبار عن عدمه يدخل النفي عليه، والعدول عن هذا التعبير إلى إدخال أداة النفي على مادّة الكون بتعبير نفي كونه معذّباً أو كونه ليعذّب، فهذا لا يناسب نفي الفعليّة فحسب، بل هذا العدول إلى التعبير الثاني نكتة في نظر العرف لظهور الكلام في نفي الشأنيّة، وأنّ كون المتكلّم ووجوده لا يناسب هذا الفعل، كما في قولك: (لم أكن لأخون صديقي)، أو (لم أكن خائناً لصديقي)، أو (لم أكن



(1) سورة 3 الإسراء، الآية: 15.

78

لأعصي الله)، أو (عاصياً لله)، وهذا السياق من التعبير في مورد عدم الشأنيّة وارد في جملة الآيات القرآنيّة(1).

ومن هنا يظهر دفع الوجه الثاني بعد ما عرفت من أنّه لا شاهد على كون الآية بصدد التحدّث عن العذاب الواقع في الاُمم السالفة عدا التعبير بصيغة الماضي، ووجه الاندفاع هو أنّ التعبير بالماضي يكون بنكتة أنّ المقصود هو نفي الشأنيّة لا نفي الفعليّة، والشأنيّة منفيّة من أوّل الأمر.



(1) قد يقول قائل: إنّ هذا السياق لو كان يناسب نفي الاستحقاق فحسب لا نفي خصوص الفعليّة، لزم عدم مناسبة هذا السياق للمورد في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون﴾(1) بداهة أنّ وجود الرسول(صلى الله عليه وآله)فيه لا ينفي الاستحقاق، وإنّما ينفي الفعليّة، وكذلك الاستغفار لا يرفع استحقاق العقاب، وإنّما يرفع فعليّة العقاب منّةً من الله ـ تعالى ـ على العباد.

والجواب: أنّ المدّعى ليس هو كون هذا السياق مناسباً لنفي الاستحقاق فحسب، بل المدّعى كونه مناسباً لنفي الشأنيّة فحسب، ونفي الشأنيّة في العقاب الاُخرويّ يكون بنفي الاستحقاق، إلاّ أنّ قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِم﴾ ينظر إلى العقاب الدنيويّ، ونفي الشأنيّة في العقاب الدنيوي ليس بنفي الاستحقاق فحسب، بل هناك تأثيرات وضعيّة ونظم خاصّة مرتبطة بشأنيّة إنزال العذاب في الدنيا، فالله ـ تعالى ـ يخبر بأنّه ليس من شأنه إنزال العذاب الذي هو بدافع هداية الآخرين على الاُمّة مع وجود الرسول فيهم رغم استحقاق الاُمّة؛ لما فيه من هلاك الرسول معهم المرسل لهداية الناس، وليس من شأنه أيضاً إنزال العذاب في الدنيا وهم يستغفرون؛ لأنّ العذاب في الدنيا يكون بدافع الهداية، والاستغفار هداية وحصول للمقصود، فلا معنى لإنزال العذاب.


(1) سورة 8 الأنفال، الآية: 33.

79

على أنّ سياق الآية يناسب أن يكون النظر إطلاقاً، أو اختصاصاً إلى العذاب الاُخرويّ؛ إذ فيما قبل الآية(1) يتحدّث عن يوم القيامة، وفي نفس هذه الآية يتكلّم عن قانونين: أوّلهما: قانون اُخرويّ، قال تعالى: ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾، فالقاعدة الاُولى هي: أنّ غير العاصي لا يعذّب بعذاب العاصي، وكلّ شخص تكون هدايته وضلاله له وعليه، وهذا من قوانين جزاء الآخرة، بل لا ينطبق على عذاب الدنيا أصلاً، فإنّ الذي لا يتعدى العاصي إلى غيره إنّما هو عذاب الآخرة الذي بابه باب الحسن والقبح، دون عذاب الدنيا الذي بابه باب الآثار الوضعيّة، فقد يكون الأثر الوضعيّ أعمّ وأشمل من المعصية، ويبتلي به غير العاصي بواسطة عصيان العاصي، كما صرّحت جملة من الأخبار بذلك، وأشار إليه قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً﴾(2). والقاعدة الثانية هي عدم العذاب من دون بعث الرسول المفروض التعدّي منه إلى مطلق البيان، فمقتضى السياق كون هذا ناظراً أيضاً إلى عالم الآخرة.

والتحقيق: مع ذلك كلّه عدم تماميّة الاستدلال بالآية الشريفة على البراءة الشرعيّة لا المساوية درجة مع البراءة العقليّة ولا الأرقى منها؛ وذلك لأنّ عدم البيان على قسمين: تارةً يكون بمعنى عدم بيان المولى لمطلوبه ـ أي: عدم إبرازه ـ واُخرى يكون بمعنى عدم الوصول بعد فرض صدور أصل البيان، وبعث الرسول



(1) والآيتان اللتان وقعتا قبل هذه الآية ما يلي: ﴿وَكُلّ إِنسَان أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾.

(2) سورة 8 الأنفال، الآية: 25.

80

يكون من القسم الأوّل من البيان الذي هو أعمّ من الوصول إلى كلّ فرد فرد، وبعد فرض عدم الموضوعيّة لبعث الرسول كما يقتضيه الارتكاز العرفيّ نتعدّى إلى مطلق البيان بالمعنى الأوّل، فتدلّ الآية الشريفة على عدم شأنيّة العذاب عند عدم إبراز المولى لمطلوبه، وهذا ممّا يستقلّ به العقل، فإنّ العقل حاكم بأنّ الغرض الذي ليس في أهمّيّته لدى المولى بدرجة يحرّك المولى نحو إبرازه وتحصيله بالبيان ويبقى ساكتاً عنه لا يجب على العبد تحصيله، ونحن إنّما أنكرنا قبح العقاب عند عدم البيان بمعنى عدم الوصول، لا بمعنى عدم الإبراز، وكم فرق بين هذه الآية التي علّقت العذاب على بعث الله ـ تعالى ـ للرسول، فدلّت على أنّه يشترط في العذاب صدور البيان من الله، والآية السابقة التي أضافت البيان إلى النفس، فدلّت على اشتراط وصول البيان إلى كلّ نفس نفس؛ لأنّ القضيّة انحلاليّة.

 

الآية الثالثة:

قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ﴾(1). دلّت الآية على عدم مؤاخذة العبد عند عدم البيان، وهو المقصود بالبراءة، وليس المراد نفي مجرّد الفعليّة؛ لما عرفت من أنّ هذا التركيب يستعمل في نفي الشأنيّة، وليس المقصود من نفي الشأنيّة نفي إمكان صحّة العقاب ذاتاً، حتّى يقال: إنّنا لم ننكر صحّة العقاب ذاتاً؛ إذ قلنا بعدم قبح العقاب بلا بيان، فيكون العقاب بمجرّد عدم جعل البراءة صحيحاً، أو يقال: إنّه يصحّ العقاب ولو لأجل صحّة جعل الاحتياط، وإنّما المقصود من نفي الشأنيّة أنّه ليس من شأن هذا المولى بما هو مولىً رؤوف بعباده أن يؤاخذهم، ويجعلهم في ضيق بلحاظ أمر مّا ما لم يبيّن لهم،



(1) سورة 9 التوبة، الآية: 115.

81

وهذا عرفاً من ألسنة بيان جعل البراءة والعذر.

وقد اُورد على الاستدلال بهذه الآية بوجوه:

الأوّل: سنخ ما مضى في الآية السابقة من أنّها في مقام التحدّث عن معاملته ـ تعالى ـ مع الاُمم السابقة في العذاب الدنيويّ، ولا علاقة لها بعذاب الآخرة.

وقد ظهر جوابه ممّا سبق، فإنّه لا منشأ لذلك عدا الإتيان بصيغة الماضي، وهذا لا يوجب الحمل على التحدّث عمّا مضى في الاُمم السابقة، فإنّه لمّا كان بصدد نفي الشأنيّة الثابت من أوّل الأمر دون الفعليّة ناسب الإتيان بصيغة الماضي.

الثاني: أنّ الآية دلّت على نفي قسم من أقسام العذاب لا تمام أقسامه، وهذا ـ في الحقيقة ـ إنّما يرد على أحد الاحتمالين في الآية. وتوضيح ذلك: أنّ الإضلال تارةً يفسّر بمعنى النسبة إلى الضلال كما يقال: (فسّقت زيداً)، أي: نسبته إلى الفسق، واُخرى يفسّر بمعنى إيجاد الضلال، فعلى الأوّل لا إشكال في دلالة الآية على البراءة، فإنّ ظاهر قوله: (لا أنسبهم إلى الضلال ما لم يحصل لهم البيان) هو أنّهم معذورون من قِبلي. وأمّا على الثاني فليس المقصود بالضلال خروج الإنسان من دائرة التديّن إلى دائرة عدم التدّين الذي هو مربوط باختيار نفس الإنسان(1)،



(1) بل يحتمل أن يكون هذا مقصوداً، ويكون وزان هذه الآية وزان الآيات الناسبة لهداية الناس وضلالهم إلى الله، وهما بالفعل منتسبان إلى الله بمعنىً لا ينافي الاختيار. ولا يخفى أنّ الآية لو حملت على هذا المعنى، أو على معنى النسبة إلى الضلال فدلالتها على البراءة ليست بحاجة إلى ضمّ مقدّمة كون السياق دالّاً على نفي الشأنيّة لا فعليّة العذاب، ويكفي في الدلالة أنّها نفت الضلال بمعنى عدم التديّن، وهذا لا يكون إلاّ مع فرض جعل البراءة. أمّا لو حملت على معنى الخذلان والضلال عن رحمة الله فنحن بحاجة إلى ضمّ تلك المقدّمة لتتميم الدلالة؛ لأنّ نفي فعليّة الخذلان أعمّ من نفي الاستحقاق.

82

وإنّما المقصود نوع من أنواع العذاب وهو ـ على حدّ تعبير أصحاب هذا الاحتمال ـ الخذلان والطرد عن كثير من أبواب الرحمة، فالآية دلّت على نفي بعض أقسام العذاب، ولكن لم تدلّ على نفي العقاب إطلاقاً، ولعلّ هذا هو مقصود الشيخ الأعظم(قدس سره)من قوله: (إنّ توقّف الخذلان على البيان غير ظاهر الاستلزام للمطلب، اللّهمّ إلاّ بالفحوى)(1).

والإنصاف: أنّ هذا الإشكال أيضاً في غير محلّه، فإنّنا إن سلّمنا أنّ المراد بالإضلال نوع خاصّ من العقاب، قلنا: إنّ الخصوصيّة ملغاة بالارتكاز العرفيّ، كما كانت خصوصيّة الرسول في الآية السابقة ملغاة بذلك، والعرف يفهم من ذلك تعليق طبيعيّ العقاب على البيان بلا حاجة إلى التمسّك بالفحوى والأولويّة حتّى يستشكل في ذلك.

الثالث: أنّ هذه الآية إن دلّت على البراءة فإنّما تدلّ على ما يساوق البراءة العقليّة، فإنّ بيان الاحتياط أيضاً بيان لما يتّقون، فهذه الآية لا تعارض دليل الاحتياط، بل يرتفع موضوعها بدليل الاحتياط، وحيث إنّ الأصحاب كانوا يعتقدون بقبح العقاب بلا بيان بحكم العقل لم يكن يهمّهم إثبات ما يساوق البراءة العقليّة في الرتبة بدليل شرعيّ، وإنّما كان مقصودهم خصوص إثبات البراءة التي هي أرقى مرتبة من البراءة العقليّة، ولا يرتفع موضوعها ببيان الاحتياط، فاُشكل على هذه الآية بهذا الإشكال: وهو عدم دلالتها على ما هو أرقى من البراءة العقليّة.

أقول: كأنّ هذا نشأ من تخيّل أنّ المراد بالموصول في قوله: ﴿مَا يَتَّقُون﴾ هو



(1) الرسائل، بحث آيات البراءة، ص 194 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة (رحمت الله).

83

ذات الحكم، فيقال: إنّه لا فرق بين بيان الحكم الواقعيّ وبيان الحكم الظاهريّ، فبيان وجوب الاحتياط الذي هو حكم ظاهري أيضاً بيان لما يتّقون ورافع لموضوع الآية.

والتحقيق: أنّ الظاهر من الموصول ليس هو الحكم، فإنّ الحكم ليس ممّا يتّقى منه، وهو ثابت على أيّ حال بجعل الشارع، وإنّما الذي يتّقى منه إمّا هو العقاب، وإمّا هو مخالفة الحكم ـ أي: فعل الحرام ـ والمقصود بالموصول ليس هو العقاب، فإنّ الآية جعلت العقاب متأخّراً رتبةً عن البيان، والمفروض تعلّق البيان بما يتّقون، فيجب أن يكون ما يتّقى منه ثابتاً في الرتبة السابقة على البيان والتنجّز، فليس هو العقاب، فيتعيّن الثاني وهو فعل الحرام، فإذا اتّضح لك أنّه يجب أن يفرض ما يتّقى شيئاً ثابتاً يتّقى منه في الرتبة السابقة على البيان والتنجّز، وهو عبارة عن موضوع المنع الشرعيّ، قلنا: من الواضح أنّ الذي يتّقى منه قبل التنجّز، أي: يحسن الاتّقاء منه بمجرّد الاحتمال ـ وإن كان غير منجّز ـ إنّما هو موضوع المنع الواقعيّ لا موضوع المنع الظاهريّ، فإنّ الممنوع ظاهراً بما هو كذلك لا يتّقى منه قبل التنجّز(1). فالرافع لموضوع الآية إنّما هو بيان الحكم الواقعيّ، فدلّت الآية



(1) وبكلمة اُخرى: إنّ المقصود بالاتّقاء في الآية الذي يبيّن ليس هو الاتّقاء من مخالفة التنجيز حتّى يقال: لا فرق بين تنجيز الواقع بوصول الحكم الواقعيّ وتنجيزه بوصول الحكم الظاهريّ، فإنّ المفروض في الآية أنّ التنجيز متأخّر رتبةً عن بيان ما يتّقى، وإنّما المقصود هو نفس الفعل الذي يحسن اتّقاؤه قبل التنجيز، وليس هذا إلاّ ما هو محرّم واقعاً.

أقول: حمل الاتّقاء على الاتّقاء الحسن وليس الاتّقاء الواصل إلى مستوى اللزوم خلاف الظاهر، والظاهر أنّ المقصود ممّا يتّقون ما يكون مطلوباً للمولى بدرجة اللزوم اتّقاء العبد عنه، وهذا قبل التنجيز لا يكون إلاّ في متعلّق الحرمة الواقعيّة دون الظاهريّة.

84

على البراءة الشرعيّة بالمرتبة الأرقى التي لا يرتفع موضوعها ببيان الاحتياط.

ويؤيّد ذلك ما ورد في حديثين من تفسير قوله: ﴿حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُون﴾ بأنّه حتّى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه(1)، فقد فسّر الموصول بالموضوع ـ أي: الفعل والترك ـ


(1) الكافي، ج 1، باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة، ح 3، وح 5، ص163. والحديث الأوّل ضعيف سنداً، فهو ما رواه الكلينيّ(رحمه الله) عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن ابن فضّال، عن ثعلبة بن ميمون، عن حمزة بن محمّد الطيّار، عن أبي عبد الله(عليه السلام) في قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُون﴾ «قال: حتّى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه». والسند إلى ثعلبة بن ميمون تامّ،ولكن حمزة بن محمّد الطيّار لا يدلّ على وثاقته عدا ما ورد في الكشّي بسند تامّ عن هشام بن الحكم «قال: قال لي أبو عبد الله(عليه السلام): ما فعل ابن الطيّار؟ قال: قلت: (مات). قال: رحمه الله ولقّاه نضرة وسروراً، فقد كان شديد الخصومة عنّا أهل البيت». وما ورد فيه أيضاً بسند تامّ عن أبي جعفر الأحول، عن أبي عبد الله(عليه السلام) «فقال: ما فعل ابن الطيّار؟ فقلت: (توفّي). فقال: رحمه الله، أدخل الله عليه الرحمة، ونضرة، فإنّه كان يخاصم عنّا أهل البيت». ولو سلّمنا تماميّة دلالتهما على التوثيق يبقى الكلام في مدى الوثوق بكون المقصود بابن الطيّار فيهما هو حمزة بن محمّد الطيّار. وقد جزم السيّد الخوئيّ(رحمه الله)(1) بأنّ هذين الحديثين راجعان إلى أبيه محمّد الطيّار، بدليل ما جاء فيهما من موته في زمان الإمام الصادق(عليه السلام). وأمّا حمزة فقد أدرك الإمام الكاظم(عليه السلام)، وروى عنه على ما ورد في الروضة من حديث عن حمزة الطيّار «قال: كنت عند أبي الحسن الأوّل(عليه السلام) فرآني أتأوّه. فقال: ما لك؟ قلت: ضرسي. فقال: لو احتجمت. فاحتجمتُ فسكن، فأعلمته. فقال لي: ما


(1) راجع معجم رجال الحديث، ج 6، الرقم 4062 و4032.

85


تداوى الناس بشيء خير من مصّة دم، أم مزعة عسل. قال: قلت: جعلت فداك ما المزعة عسل؟ قال: لعقة عسل»(1). وأيضاً روى عن حمزة محمّد بن سنان الذي لم يدرك الإمام الصادق(عليه السلام)على ما ورد في اُصول الكافي عن محمّد بن سنان، عن حمزة بن الطيّار، عن أبي عبد الله(عليه السلام)قال: «لو بقي اثنان لكان أحدهما الحجّة على صاحبه»(2)، إذن فهاتان الروايتان المادحتان راجعتان إلى أبيه محمّد بن عبد الله الطيّار، ونفهم من هاتين الروايتين أنّ الطيّار كان لقباً لعبد الله أبي محمّد بن الطيّار، كما يؤيّد ذلك أيضاً ما رواه في التهذيب ـ ج 4، ح 9 ـ عن عبد الله بن بكير، عن محمّد بن الطيّار وإن ورد نفس الحديث في الاستبصار ـ ج 2، ح 9 ـ عن عبد الله بن بكير، عن محمّد الطيّار، وعن بعض نسخ الاستبصار: محمّد بن جعفر الطيّار ولعلّه خطأ.

ويشهد أيضاً لرجوع الروايتين المادحتين إلى محمّد أبي حمزة لا إلى حمزة ما جاء فيهما من (مخاصمته عنّا أهل البيت) الدالّ على أنّه كان من المناظرين، وهذه صفة محمّد لا صفة حمزة بناءً على ما رواه الكشّي عن حمزة بن الطيّار قال: «سألني أبو عبد الله(عليه السلام)عن قراءة القرآن؟ فقلت: ما أنا بذلك. قال: لكن أبوك. قال: وسألني عن الفرائض؟ فقلت: وما أنا بذلك. فقال: لكن أبوك. ثمّ قال: إنّ رجلاً من قريش كان لي صديقاً، وكان عالماً قارئاً، فاجتمع هو وأبوك عند أبي جعفر(عليه السلام)، وقال: ليقبل كلّ واحد منكما على صاحبه،


(1) روضة الكافي، الحديث 231.

(2) اُصول الكافي، ج 1، كتاب الحجّة ب 6، أنّه لو لم يبق في الأرض إلاّ رجلان لكان أحدهما الحجّة، ح 2.

86


ويسأل كلّ واحد منكما صاحبه. ففعلا، فقال القرشيّ لأبي جعفر(عليه السلام): قد علمت ما أردت، أردت أن تعلمني أنّ في أصحابك مثل هذا. قال: هو ذاك، فكيف رأيت ذلك؟».

أقول: يكفينا في عدم ثبوت تماميّة الحديث الذي نحن بصدده الشكّ في أنّ الروايتين المادحتين ـ لو تمّت دلالتهما على الوثاقة ـ هل هما راجعتان إلى حمزة أو إلى أبيه؟

وأمّا الحديث الثاني، فهو ما رواه الكلينيّ عن عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن حمّاد، عن عبد الأعلى «قال: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): أصلحك الله هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟ قال: فقال: لا. قلت: فهل كلّفوا المعرفة؟ قال: لا، على الله البيان ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَا﴾، و ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا﴾. قال: وسألته عن قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُون﴾. قال: حتّى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه». وسند الحديث إلى عبد الأعلى تامّ، وعبد الأعلى مشترك بين أشخاص عديدين ثبتت وثاقة بعضهم، ولم تثبت وثاقة بعض آخر، إلاّ أنّه لا شكّ في انصراف عبد الأعلى إلى أحد شخصين مشهورين الأوّل: عبد الأعلى بن أعين العجليّ(1) الذي قال الشيخ المفيد بشأنه في رسالته العدديّة: (هو من فقهاء أصحاب الصادقين(عليهما السلام)، والأعلام والرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام، والذين لا يطعن عليهم، ولا طريق إلى ذمّ واحد منهم، وهم أصحاب الاُصول المدّونة والمصنّفات المشهورة). والثاني عبد الأعلى مولى آل سام، وهو كثير الرواية ولا دليل على


(1) راجع بشأنه معجم رجال الحديث، ج 9، رقم 6221، وبحسب الطبعة الحديثة لمعجم الرجال راجع المجلّد العاشر، رقم 6231.

87


وثاقته(1). وقد ورد حديث صفوان بن يحيى الذي لا يروي إلاّ عن ثقة عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الله(عليه السلام) «قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): كلّ معروف صدقة»(2)، إلاّ أنّنا لم نعلم أنّ المقصود به عبد الأعلى مولى آل سام، فلعلّ المقصود به عبد الأعلى بن أعين. وقد يدّعى وحدة الشخصين، أي: أنّ عبد الأعلى بن أعين هو مولى آل سام؛ وذلك بدليل ما ورد في الكافي ـ الجزء 5، كتاب النكاح، باب فضل الأبكار ـ عن عبد الأعلى بن أعين مولى آل سام، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، وفي التهذيب ـ ج 7، الحديث 1598 ـ عن عبد الأعلى بن أعين مولى آل سام عن أبي عبد الله(عليه السلام)، وعندئذ قد يجمع بين كون هذا مولى آل سام، وكون ابن أعين عجليّاً، أي: مولاهم، كما ورد في رجال الشيخ، أو بجليّاً كما عن بعض نسخ رجال الشيخ، بافتراض أنّ آل سام يكون من عجل أو بجيلة.

إلاّ أنّ السيّد الخوئيّ(رحمه الله) ناقش في ذلك بإبداء احتمال أن يكون عبد الأعلى مولى آل سام غير عبد الأعلى العجليّ، مع اتّفاقهما في اسم الأب ـ أي: أنّ (أعين) كان اسماً لوالد عبد الأعلى العجليّ ولوالد عبد الأعلى مولى آل سام ـ وذكر أنّه يشهد للتعدّد أنّ الشيخ ذكر كلاًّ منهما مستقلاًّ في أصحاب الصادق(عليه السلام)، وهو أمارة التعدّد.

ويرى السيّد الخوئيّ(رحمه الله)(3) أنّ اسم عبد الأعلى من دون تقييد ينصرف إلى عبد الأعلى بن أعين العجليّ، فإن تمّ هذا الانصراف حتّى في مقابل عبد الأعلى مولى آل سام لما


(1) راجع بشأنه معجم رجال الحديث، ج 9، رقم 6230.

(2) الوسائل، ج 6، ب 41 من الصدقة، ح 1، ص 321.

(3) راجع معجم رجال الحديث، ج 9، الرقم 6220.

88

فإنّه الذي يرضيه ويسخطه لا بالحكم الشرعيّ، وما يرضيه ويسخطه هو الذي يكون مركزاً لمبادئ الإرادة والكراهة، وهو متعلّقات الأحكام الواقعيّة لا متعلّقات الأحكام الظاهريّة.

ولا يتعدّى العرف في اقتناص النتيجة من هذه الآية من بيان الحكم الواقعيّ إلى بيان الاحتياط، كما كان يتعدّى من الرسول في الآية الثانية إلى مطلق البيان ولو عن طريق الرسول، فإنّ من المحتمل عرفاً كونه في مقام بيان عدم جعل الاحتياط، فكيف يتعدّى إلى بيان الاحتياط؟! ومع عدم التعدّي يتحقّق للآية الظهور في بيان عدم جعل الاحتياط.

 

الآية الرابعة:

قوله تعالى: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِم يَطْعَمُهُ إلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِير فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَ عَاد فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(1). وتقريب الاستدلال بها: أنّ الله ـ تعالى ـ لقّن نبيّه(صلى الله عليه وآله) كيفيّة المحاجّة مع اليهود فيما يرونه محرّماً، وذلك بنفي الحرمة بدليل عدم وجدانه فيما اُوحي إليه، وفرق بين جعل الدليل عدم الوجود فيما اُوحي إليه وجعله عدم الوجدان، فإنّه على الثاني يكون ظاهراً في أنّ عدم الوجدان بنفسه


مضى عن المفيد(رحمه الله) من أنّه من الأعلام والرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والذين هم من أصحاب الاُصول والمصنّفات المشهورة، فقد تمّ سند الحديث الذي نحن بصدده، وإلاّ فلا.

(1) سورة 6 الأنعام، الآية: 145.

89

كاف للحكم بالنفي بلا حاجة إلى عدم الوجود، وفي خصوص المورد وإن كان عدم الوجدان مساوقاً لعدم الوجود؛ إذ لا يحتمل وجوده فيما اُوحي إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله) إليه، لكن هذا لا يغيّر من ظهور الكلام في أنّ العبرة بنفس عدم الوجدان، فيدلّ على البراءة عند عدم الوجدان.

والتحقيق في المقام: أنّ عدم الوجدان بما هو ليس موضوعاً للعذر كما هو واضح، وإنّما العبرة في الحقيقة بما هو مسبّب عن عدم الوجدان، وهو عبارة عن أحد أمرين: عدم العلم، والعلم بالعدم، فإنّ عدم الوجدان قد يوجب عدم العلم، وقد يوجب العلم بالعدم، والحكم بالعذر عند عدم الوجدان يكون في نفسه ظاهراً في البراءة عند الشكّ، لنكتةِ إنّ عدم الوجدان غالباً يوجب عدم العلم لا العلم بالعدم، لكن في خصوص ما نحن فيه يكون وضوح سببيّة عدم الوجدان للعلم بالعدم لا لعدم العلم، نكتة مكتنفة بالآية صالحة للقرينيّة لكون المراد من الآية بيان معذريّة عدم الوجدان باعتبار أدائه إلى العلم بالعدم، وبهذا ينهدم ذاك الظهور.

ولو قطعنا النظر عن هذا الإشكال قلنا: إنّ عدم الوجدان على قسمين: أحدهما: عدم الوجدان مع فرض وصول تمام الأحكام إلى الإنسان والفحص فيها كما هو الحال في مورد الآية، وعندئذ لا يتصوّر منشأ لعدم الوجدان إلاّ الغفلة والنسيان ونحو ذلك. وثانيهما: عدم الوجدان لأجل عدم وصول قسم كبير من تراث الشيعة وأخبار الشريعة إلينا لظلم الظالمين، وهذا هو محلّ الابتلاء غالباً في باب البراءة، والآية الشريفة بعد تسليم دلالتها على البراءة إنّما تدلّ عليها في القسم الأوّل، وهو عدم الوجدان مع فرض حضور تمام الأحكام لدى الإنسان كما هو مورد الآية، ولا يقال: إنّ مقتضى إطلاق الآية ثبوت البراءة في كلا القسمين، فإنّ الآية الشريفة لم تكن بصدد بيان الحكم بالبراءة على موضوع عدم الوجدان حتّى يتمسّك بإطلاق الكلام الدالّ على كون عدم الوجدان تمام الموضوع، وإلاّ لزم نقض

90

الغرض، بل إنّما هي بصدد بيان الاحتجاج على اليهود في نفي حرمة ما حرّموه بعدم الوجدان فيما اُوحي إليه(صلى الله عليه وآله)، ولو فرض أنّه بحسب الواقع تكون البراءة مختصّة بالقسم الأوّل الذي هو مفروض الآية كان الاحتجاج تامّاً والغرض حاصلاً، ولا يلزم نقض الغرض.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه: أنّ المهمّ من الآيات الدالّة على البراءة من القرآن الكريم هي الآية الاُولى والثالثة.

 

حدود البراءة المستفادة من الكتاب:

ولنبحث الآن عن معرفة حدود البراءة المستفادة من الكتاب الكريم، فإنّ ذلك في نفسه مفيد، ويفيد أيضاً في مقام عرض أخبار البراءة والاحتياط على الكتاب الكريم، وملاحظة النسبة بين الكتاب الكريم الدالّ على البراءة وأخبار الاحتياط، وهنا نطرح ثلاثة أسئلة:

1 ـ هل البراءة المستفادة من الكتاب الكريم تعمّ الشبهة الموضوعيّة والحكميّة، أو تختصّ بإحداهما؟

2 ـ هل البراءة المستفادة من الكتاب الكريم تعمّ الشبهة الوجوبيّة والتحريميّة، أو تختصّ بإحداهما؟

3 ـ هل البراءة المستفادة من الكتاب الكريم تختصّ بما بعد الفحص، أو تعمّ ما قبل الفحص؟

ولنتكلّم في مقام الجواب على هذه الأسئلة في كلّ واحدة من الآيات الماضية، فنقول:

أمّا الآية الاُولى ـ وهي قوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا﴾ ـ: فبالنسبة للسؤال الأوّل قد يتخيل أنّها مختصّة بالشبهة الحكميّة؛ لأنّ الإيتاء من

91

قِبَله ـ تعالى ـ يكون بالنسبة للأحكام الكلّيّة دون الموضوعات الخارجيّة، لكن التحقيق: أنّ هذا مبنيّ على حمل الإيتاء على إيتائه ـ تعالى ـ بما هو مولىً لا إيتائه بما هو مكوّن الكون ومعطي كلّ شيء، فإنّ الإيتاء المولويّ هو الذي يختصّ بالأحكام، وحمل الإيتاء على هذا المعنى خلاف مورد الآية الذي هو المال، فلابدّ من حمله على الإيتاء التكوينيّ الذي يعمّ إيتاء المال بمعنى رزقه، وإيتاء الفعل بمعنى الإقدار عليه، وإيتاء الحكم بمعنى إيصاله، سواء كانت الشبهة حكميّة أو موضوعيّة.

وبالنسبة للسؤال الثاني لا إشكال في إطلاق الآية للشبهة الوجوبيّة والتحريميّة، ولا وجه لفرض اختصاصها بإحداهما.

وبالنسبة للسؤال الثالث نقول: إنّها مختصّة بما بعد الفحص، فإنّنا وإن قلنا: إنّ الإيتاء في الأحكام بمعنى الإيصال لكن الإيتاء إنّما استعمل في مفهومه الجامع الذي يكون الإيصال أحد مصاديقه، و هو الإعطاء الذي يكون في المال بالرزق، وفي الفعل بالإقدار، ومن المعلوم أنّه يكفي في إعطاء الحكم جعله في معرض الوجدان بحيث لو فتّش عنه لوجده، ولا يتوقّف صدق إعطائه على حصول هذا التفتيش والوجدان، وهذا الاختصاص بما بعد الفحص له أثر كبير في مقام ملاحظة النسبة بين هذه الآية وأخبار الاحتياط، فإنّه لو كانت الآية مطلقة من هذه الناحية كما كانت مطلقة من النواحي الاُخرى، وكان إخراج ما قبل الفحص منها بحاجة إلى تقييد خارجيّ، فأخبار الاحتياط ـ إن تمّت دلالتها ـ تتقدّم على هذه الآية، سواء فرضنا اختصاصها بالشبهات الحكميّة التحريميّة، أو اختصاصها بمطلق الشبهات الحكميّة، أو شمولها للحكميّة والموضوعيّة أيضاً، فإنّها ـ على أيّ تقدير ـ أخصّ من هذه الآية؛ إذ الآية إنّما دلّت على البراءة ونفي الاحتياط بالإطلاق، لكون ما آتاها شاملاً بالإطلاق للمال المرزوق والفعل المقدور والحكم المعلوم،

92

فتقيّد الآية بإخراج الثالث عنها بأخبار الاحتياط، ولكنّ لمّا كانت الآية بنفسها مختصّة بما بعد الفحص فأخبار الاحتياط ـ ولو فرض اختصاصها بالشبهات الحكميّة التحريميّة ـ تكون أعمّ من وجه من الآية؛ إذ ما قبل الفحص ليس داخلاً في الآية، وهو داخل في إطلاق أخبار الاحتياط، بل هو قدر متيقّن منها.

وأمّا الآية الثانية ـ وهي قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ ـ: فقد عرفت أنّها إنّما تدلّ على البراءة في فرض عدم صدور البيان بمعنى أصل الإبراز، وبمجرّد احتمال صدور البيان يرتفع موضوع التمسّك بها فضلاً عن ورود دليل على الاحتياط(1).

وأمّا الآية الثالثة ـ وهي قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُون﴾ ـ: فبالنسبة للسؤال الأوّل نقول: إنّها مختصّة بالشبهة الحكميّة؛ لما فيها من جعل الغاية البيان الظاهر في الخطاب الذي هو في دائرة الأحكام، فيكون ذلك قرينة على كون المغيّى هي البراءة في الشبهات الحكميّة.

وبالنسبة للسؤال الثاني قد يقال: إنّها مختصّة بالشبهة التحريميّة؛ لأنّ الاتّقاء بمعنى الاجتناب المطعّم بالتحذّر والتخوّف، والاجتناب يطلق عرفاً في باب الأفعال، وشموله للاجتناب عن الترك يحمل مؤونة زائدة.



(1) وبعد فرض التسليم تكون الآية مخصوصة بما بعد الفحص، فإنّ بعث الرسول ليس كناية عن الوصول النهائيّ، بل كناية عن حصول البيان في معرض الوصول بحيث لو فحص لوجد البيان، فإنّ هذا هو شأن الرسول، وليس شأنه الإيصال النهائيّ، والآية مطلقة للشبهات الوجوبيّة والتحريميّة، ومختصّة بالشبهات الحكميّة؛ لأنّ شأن الرسول إنّما هو تبليغ الحكم، إلاّ إذا قطعنا بالتعدّي إلى الشبهات الموضوعيّة كما قطعنا بالتعدّي من الرسول إلى مطلق البيان، وعهدة دعوى القطع بالتعدّي على مدّعيه.

93

وعلى أيّة حال، فنحن لا نحتاج إلى إثبات هذا الاختصاص، فإنّ الآية إن لم تكن مختصّة بالشبهات التحريميّة فلا أقلّ من كون الشبهة التحريميّة قدراً متيقّناً من نفس مفهوم هذا الكلام، فإنّ الاتّقاء والاجتناب إن سُلّم شموله للاجتناب عن الترك فشموله له وللاجتناب عن الفعل ليس على حدّ سواء، بل نسبة المفهوم إلى المصداق الثاني ـ أعني: الاجتناب عن الفعل ـ أوضح إلى حدّ يجعله قدراً متيقّناً من نفس الخطاب، وهذا يكفي في ترتّب الفائدة التي نقصدها من فرض اختصاص الآية بالشبهة التحريميّة التي ستظهر إن شاء الله.

وبالنسبة للسؤال الثالث نقول: إنّها مختصّة بما بعد الفحص، فإنّنا وإن قلنا: إنّ اللام في قوله: ﴿يُبَيِّنَ لَهُم﴾أوجبت فرقاً بين هذه الآية والآية الثانية، فجعلتها ظاهرة في إرادة الوصول لا مجرّد الوصول، كما في الآية الثانية، لكن ليس المستفاد عرفاً من البيان لهم أن يطرق المولى أبواب بيوتهم ويخبرهم بالحكم واحداً بعد واحد، وإنّما المستفاد عرفاً من ذلك بيان الحكم بمعنى جعله بين أيديهم بحيث لو فحصوا لوجدوه.

إذن فهذه الآية من أنفس الأدلّة في قبال أخبار الاحتياط بناءً على تماميّة دلالتها، فإنّها أخصّ حتّى من أخصّ مضمون يفترض في أخبار الاحتياط، وهو ما يختصّ بالشبهة الحكميّة التحريميّة؛ إذ يشمل ذلك ما قبل الفحص وما بعده، والآية مختصّة بما بعد الفحص، فتقدّم على دليل الاحتياط بالأخصّيّة، بل لو فرضنا تساوي الآية وأخبار الاحتياط من هذه الناحية فأخصّ مضامين الاحتياط ساقط عن الحجّيّة بمعارضة الكتاب الكريم، فإنّ الخبر المعارض للكتاب في غير فرض القرينيّة ساقط عن الحجّيّة، كما حقّقناه في بحث خبر الواحد.

بل لو سلّمنا كون الآية أعمّ من أخبار الاحتياط أمكن أن يقال: إنّ سياقها آب عن التخصيص بتقريب أنّ لسانها لسان: ما كان الله ليفعل كذا، وليس من شأننا

94

العذاب قبل البيان، ولا يناسبنا ذلك، وهذا لا يناسب التخصيص وإخراج بعض الموارد عنه.

وأمّا الآية الرابعة ـ وهي قوله تعالى: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِم يَطْعَمُه...﴾ ـ: فقد عرفت عدم دلالتها على البراءة رأساً، إلاّ أنّنا نقول: إنّها ـ على تقدير دلالتها ـ تكون مختصّة بالشبهة الحكميّة، كما أنّها مختصّة بالشبهة التحريميّة، أو أنّ القدر المتيقّن منها في نطاق نفس العبارة هو الشبهة التحريميّة، ومختصّة أيضاً بما بعد الفحص.

أمّا اختصاصها بالشبهة الحكميّة فلإضافة الوجدان إلى دائرة الوحي، وما يوجد في دائرة الوحي إنّما هو الجواب على الشبهات الحكميّة لا الجواب على الشبهات الموضوعيّة.

وأمّا اختصاصها بالشبهات التحريميّة، أو كونها قدراً متيقّناً منها فلما ترى من أنّ الشبهة التحريميّة هي مورد الآية بصريح قوله: ﴿مُحَرَّماً عَلَى طَاعِم يَطْعَمُه﴾، فإن اُلغيت الخصوصيّة عرفاً، فكونها قدراً متيقّناً ممّا لا إشكال فيه.

وأمّا اختصاصها بما بعد الفحص فلأنّه أضاف عدم الوجدان إلى دائرة الوحي، وظاهر عدم الوجدان المضاف إلى دائرة مّا هو عدم الوجدان فيها بعد الفحص، فمثلاً لو قيل: ما وجدت هذا الخبر في الوسائل، فمعناه أ نّي فحصت فيه وما وجدت، لا أ نّي لم أجد ولو من باب عدم الفحص.