456

ولعلّ هذا هو الوجه في أنّهم لم يؤجّلوا البحث عن إشكال الأخبار مع الوسائط إلى آخر أدلّة حجّيّة خبر الواحد التي منها الأدلّة اللبّيّة، فذكروه في ذيل البحث عن آية النبأ التي هي أوّل الأدلّة اللفظيّة في المقام، وإن كان الأنسب تأخيره إلى آخر الأدلّة اللفظيّة.

هذا. والأدلّة اللفظيّة لو كانت بلسان الإخبار عن الجعل المنسجم لفرض وحدة الجعل، ولفرض تعدّد الجعول لم يبق أيضاً مجال للإشكال؛ لأنّ إطلاق الدليل للخبر مع الواسطة يبقى حجّة مادمنا نحتمل صدقه لمعقوليّة حجّيّة الخبر مع الواسطة، ولو بتعدّد الجعول. فالإشكال إذن إنّما ينحصر في فرض الدليل اللفظيّ الذي يكون بلسان جعل الحجّيّة، أو بلسان الإخبار عن جعل واحد.

وقد تعارف لدى المحقّقين(رحمهم الله) الجواب على الإشكال بتوضيح عدم اتّحاد الحكم والموضوع، أو تأخّر الموضوع عن الحكم بلحاظ المعنون الواقع مع تسليمهم بكون الخبر خبراً مع الواسطة، واتّحاد الحكم والموضوع، أو تأخّر الموضوع عن الحكم عنواناً.

والتحقيق: أنّ الخبر مع الواسطة يرجع دائماً إلى الخبر بلا واسطة، وبهذا ينهدم موضوع الإشكال.

فالكلام يقع هنا في مقامين:

 

إرجاع الخبر غير المباشر إلى المباشر:

المقام الأوّل: في رجوع الخبر مع الواسطة إلى الخبر بلا واسطة ممّا يهدم أصل موضوع الإشكال، وهذا ما غفل عنه الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم.

والثاني: في تحقيق حال الإشكال، وتمحيص كلمات الأعلام بعد غضّ النظر عن رجوع الإخبار مع الواسطة إلى الإخبار بلا واسطة.

457

أمّا المقام الأوّل: فلإرجاع الإخبار مع الواسطة إلى الإخبار بلا واسطة تقريبان، أوّلهما هو المرضيّ عندنا دون الثاني.

التقريب الأوّل: أنّ الشيخ الكلينيّ(رحمه الله) مثلاً الذي ينقل خبراً ببعض الوسائط الثقات عن الإمام المعصوم(عليه السلام)، فهو وإن كان بالمطابقة ينقل خبراً بالوسائط عن الإمام لكنّه ينقل لنا بالملازمة قضيّة مانعة الخلوّ، وهي: أنّه إمّا أنّ أحد الوسائط الثقات قد كذب (والمقصود بالكذب مخالفة الواقع)، أو أنّ الإمام(عليه السلام)قد قال كذا، وأنّ الحكم الشرعيّ هو كذا، وإخباره عن هذه القضيّة التي هي على نحو مانعة الخلوّ إخبار عن حسّ وبلا واسطة؛ لأنّه قد سمع الراوي المباشر له حسّاً عند نقله لهذا الخبر، فلو لم يكن كاذباً، ولم يكن أحد الوسائط الآخرين كاذباً فالحكم ثابت من الإمام حتماً، ولو لم يكن الحكم صادراً من الإمام فقد كذب الراوي المباشر، أو أحد الوسائط الآخرين؛ إذ لا شكّ لدى الكلينيّ(رحمه الله) في صدور هذا الخبر عن الراوي المباشر له. وكلّ قضيّة مانعة الخلوّ تنحلّ إلى قضيّتين شرطيّتين مقدّمهما نفي أحد الطرفين وتاليهما إيجاب الطرف الآخر. إذن فالكلينيّ(رحمه الله)يخبر عن حسّ بقضيّة شرطيّة، وهي: أنّه لو لم يكذب أحد الوسائط فقد صدر هذا الحكم من الإمام(عليه السلام)، فيشمله دليل حجّيّة خبر الثقة؛ إذ لا فرق في حجّيّة خبر الثقة بين الإخبار عن كلام الإمام مطلقاً، والإخبار عنه على تقدير، كما في المقام حيث أخبرنا الكلينيّ عن كلام الإمام على تقدير عدم كذب أحد الوسائط الثقات، وهذا التقدير ثابت لنا بنحو ملفّق من الوجدان والتعبّد؛ لأنّ هذا الحديث إمّا أنّه لم يصدر من أحد من الوسائط فهم غير كاذبين وجداناً، أو صدر من بعضهم، أو جميعهم فهم غير كاذبين تعبّداً، فإذا ثبت الشرط بنحو ملفّق بين الوجدان والتعبّد، أو قل: ثبت الشرط بالتعبّد؛ لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات، فقد ثبت الجزاء، وهو صدور هذا الحكم من الإمام.

458

وإن شئت فقل: إنّ الثقات قبل الكلينيّ لو سألنا أيّ واحد منهم هل كذبت في القضيّة الفلانيّة لقال: لا. فيثبت عدم كذبه بإخباره عن ذلك تعبّداً، وإذا أخبر عن عدم كذب نفسه فقد أخبر ولو بالقوّة بأنّه إن كانت ملازمة بين عدم كذبه وقول الإمام فقد قال الإمام كذا، وهذه الملازمة ثابتة باخبار الشيخ الكلينيّ، فيثبت المطلوب، وهو قول الإمام(عليه السلام)(1).

 


(1) إنّ روح الكلام الذي ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) يمكن أن تصبّ في عدّة صيغ:

الاُولى: أن يتمسّك بالمقارنة بين عدم كذب الوسائط وكلام الإمام المخبر بها من قبل الكلينيّ، بأن يقال: إنّ كلام الكلينيّ له دلالة التزاميّة على المقارنة بين عدم كذب الوسائط وصدور النصّ من الإمام، وعدم كذب الوسائط على تقدير السكوت ثابت بالوجدان، وعلى تقدير النطق ثابت بالتعبّد، وبهذا يثبت صدور النصّ من الإمام، والظاهر أنّ هذا هو مقصود اُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

وقد يورد عليه: تارةً: بأنّ هذا يعني التمسّك بالدلالة الالتزاميّة من دون حجّيّة الدلالة المطابقيّة، وهذا خلف قانون تبعيّة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة.

وأجاب على ذلك اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ـ على ما نقله السيّد الهاشميّ حفظه الله في تقريره عنه ـ بأنّ هذه التبعيّة إنّما تعني أنّ ملاك حجّيّة المطابقيّة ـ وهو الكشف عن المعنى المطابقيّ ـ لو بطل لانهارت حجّيّة الالتزاميّة أيضاً؛ لأنّ ملاك الكاشفيّة فيهما واحد، وفي المقام لم يحدث شيء من هذا القبيل.

واُخرى: بأنّ المدلول الالتزاميّ دائماً هو الحصّة الخاصّة المقيّدة بالملزوم، فالإخبار عن شرب زيد للسمّ إخبار بالملازمة عن موته الحاصل من شرب السمّ لا مطلق الموت، وفي المقام أيضاً يكون المدلول الالتزاميّ عبارة عن نصّ المعصوم على تقدير عدم كذب صفّار ـ مثلاً ـ لا مطلقاً، بل مقيّداً بصدور الإخبار من صفّار، فلابدّ من إثبات صدوره منه، وهذا رجوع مرّة اُخرى إلى المحذور.

459


وأجاب اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على ذلك ـ على ما نقله السيّد الهاشميّ حفظه الله في تقريره ـ بأنّ كبرى كون المدلول الالتزاميّ الحصّة الخاصّة ممنوعة في محلّها، ولو سلّمت لم تضرّ في المقام؛ لأنّ المدلول الالتزاميّ في المقام هو القضيّة الشرطيّة، وهي: أنّه لو لم يكذب صفّار فقد قال الإمام كذا، فهذه القضيّة الشرطيّة هي التي تتقيّد بإخبار صفّار، بمعنى أنّ الكلينيّ يخبر عن ثبوت هذه القضيّة الشرطيّة مقترنة بإخبار صفّار، وهذا لا يضرّنا، فإنّ هذا لا يعني أنّ الشرط في القضيّة الشرطيّة أصبح مقيّداً بإخبار صفّار كي نحتاج إلى إثبات صدور الخبر من صفّار ويعود المحذور.

الثانية: أن يتمسّك بالملازمة العقليّة، وهي ليست بين عدم كذب الوسائط وصدور النصّ من الإمام، فإنّ عدم كذب الوسائط لو كان على أثر السكوت لا يلزم صدور النصّ، وإنّما هي ملازمة بين عدم كذب الوسائط مع النطق من ناحية وصدور النصّ من الإمام من ناحية اُخرى، وبما أنّ عدم كذب الوسائط على تقدير النطق والإخبار ثابت بالتعبّد فكلام الكلينيّ الحاكي عن النطق حاك بالملازمة عن صدور النصّ من الإمام. والإشكال بتبعيّة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة قد عرفت جوابه.

وقد يورد على هذا التقريب بأنّ الملازمة إنّما هي بين مجموع إخبار صفّار ـ مثلاً ـ وعدم كذبه من ناحية وبين كلام الإمام من ناحية اُخرى، فإخبار صفّار جزء من الملزوم، فلابدّ من إثباته كي يثبت اللازم، وهو كلام الإمام، وإثباته بخبر الكلينيّ بواسطة دليل الحجّيّة يعني الرجوع إلى المحذور مرّة اُخرى.

والجواب: أنّ إخبار صفّار وإن كان جزءاً من الملزوم لكنّنا لسنا بحاجة إلى إثباته كي يعود المحذور، فإنّ ثبوت الجزء الآخر ـ وهو عدم كذب صفّار أو عدم كذبه على تقدير إخباره ـ كاف في أن يكون نقل الكلينيّ للجزء الأوّل ـ وهو إخبار صفّار ـ نقلاً بالملازمة لصدور النصّ من الإمام.

460

ولم تلزم من ذلك وحدة العارض والمعروض، أو الموضوع والحكم؛ لأنّ الأثر الشرعيّ الذي هو جزء الموضوع ليس هنا عبارة عن الحجّيّة كي يلزم اتّحاده مع الحكم المستفاد من الآية، وإنّما هو عبارة عن الحكم المنقول عن المعصوم(عليه السلام).

كما لم يلزم أيضاً ثبوت الموضوع بعد الحكم؛ لأنّ الحجّيّة لم تكن دخيلة في


الثالثة: أن يقال رأساً: إنّنا نعلم علماً يقيناً أنّ هؤلاء الثقات بما فيهم الكلينيّ نفسه الذي سمعناه ـ مثلاً ـ إن لم يكذبوا كذباً مقارناً للنطق فقد قال الإمام كذا؛ إذ لا نحتمل سكوتهم جميعاً؛ لأنّنا نعلم علماً يقيناً بإخبار الكلينيّ، فهذه الملازمة ثابتة لنا بالوجدان، وعدم كذبهم على تقدير نطقهم ثابت بالتعبّد، إذن فيثبت بذلك قول الإمام.

أو قل: إنّنا نعلم علماً يقيناً بالمقارنة بين عدم كذب هؤلاء الثقات بما فيهم الكلينيّ وقول الإمام؛ إذ لا نحتمل سكوتهم جميعاً؛ لأنّنا نعلم علماً يقيناً بإخبار الكلينيّ، وعدم كذبهم ثابت لنا؛ إذ من سكت منهم لم يكذب وجداناً، ومن تكلّم منهم لم يكذب تعبّداً، إذن فيثبت بذلك قول الإمام.

وهناك وجه آخر لحلّ الإشكال نقله السيّد الهاشميّ عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، وهو: أنّ حجّيّة خبر الثقة إنّما تكون على أساس كاشفيّة الوثاقة عن عدم كذب المخبر الجامع بين عدم كذبه من باب السالبة بانتفاء الموضوع أو السالبة بانتفاء المحمول، وهذه الكاشفيّة مصبّها وثاقة المخبر لا إخبار الثقة، وهي كما تقتضي الكشف عن صدق ما أخبر به المخبر، كذلك وبنفس الدرجة تقتضي الكشف عن عدم صدور الإخبار من الثقة إذا ما أحرز عدم صدق القضيّة وعلم الثقة بذلك، وبمجرّد وجدان الخبر مع الواسطة نعلم بقضيّة شرطيّة هي: أنّه إن لم يكذب كلّ واحد من هؤلاء الثقات الواقعين في سند هذا الخبر فقد صدر هذا الخبر من الإمام. والشرط ثابت تعبّداً، فإنّ مقتضى وثاقة كلّ واحد منهم هو أنّه لم يكذب، فيثبت الجزاء، ومعه يرتفع موضوع الإشكال من رأس، فإنّه كان مبنيّاً على افتراض طوليّة الإخبارين الموضوعين لدليل الحجّيّة.

461

إثبات الخبر، وإنّما كانت دخيلة في إثبات الشرط في القضيّة الشرطيّة التي أخبر بها، وكم فرق بينهما.

التقريب الثاني: مبنيّ على مبنى مَن يقول بكون المجعول في باب الأمارات هو العلم تعبّداً، ولنفترض لأجل التسهيل أنّ الكلينيّ(رحمه الله) قد أخبرنا بخبر عن المعصوم بواسطة شخص واحد ثقة، وهو الصفّار مثلاً، وعندئذ نقول: إنّ الكلينيّ قد أخبر بالملازمة بكونه عالماً بقول الإمام؛ لأنّ خبر الصفّار حجّة له ومورث للعلم التعبّديّ له، وإخباره عن علمه بقول الإمام وإن كان إخباراً حدسيّاً وليس حسّيّاً؛ لأنّ حجّيّة الخبر ثبتت بالاجتهاد، لكن هذا الحدس مصدّق من قبلنا أيضاً بحسب الفرض، والحدس المشترك بين المخبر والسامع بحكم الحسّ، ولا يسقط الخبر عن الحجّيّة لدى السامع.

وإذا ثبت أنّ الشيخ الكلينيّ أخبرنا بكونه عالماً بقول الإمام فقد ثبت لنا قول الإمام لأحد وجهين:

الأوّل: أنّه مستعدّ للإخبار ابتداءً بقول الإمام؛ إذ الأمارة عند القائلين بجعل العلم والطريقيّة تقوم مقام العلم الموضوعيّ.

والثاني: أنّه يكفينا نفس إخباره عن علمه بقول المعصوم، فإنّ كلّ خبر عن شيء ليس في الحقيقة إلّا إخباراً عن علم المخبر بذلك الشيء، ونحو ذلك من الاُمور النفسيّة كقصد الحكاية.

ويرد على هذا التقريب: أنّ المستظهر من الدليل اللفظيّ لحجّيّة الخبر والمقطوع به من الدليل اللبّيّ لها إنّما هو حجّيّة الخبر بما له من الكشف الذاتيّ، والعلم التعبّديّ بما هو كذلك ليس له كشف أصلاً، فلا يكون الإخبار عنه، أو الإخبار عمّا علم به حجّة لإثبات الواقع. فمثلاً لو أخبرنا مخبر بطهارة شيء اعتماداً على أصالة الطهارة ـ بناءً على أنّ أصالة الطهارة توجب العلم التعبّديّ ـ لم يثبت ذلك لنا شيئاً

462

زائداً على المقدار الثابت لنا بالأصل.

والخبر مع الواسطة له مستوى من الكشف الذاتيّ قبل التعبّد بكون الخبر علماً، فإن أفادنا هذا الكشف الذاتيّ بغضّ النظر عن العلم التعبّديّ للمخبر، وذلك بحلّ إشكال الخبر مع الواسطة بطريق آخر غير مسألة كون المخبر عالماً تعبّداً، صحّ لنا العمل بهذا الخبر، وإن لم يفدنا ذلك؛ لأنّنا لم نعرف علاجاً آخر لحلّ مشكلة الخبر مع الواسطة، فكون المخبر عالماً تعبّداً بما يخبر به لا يحلّ لنا إشكالاً في المقام؛ لأنّ علمه التعبّديّ لا يفيدنا كشفاً ذاتيّاً أصلاً، وما لخبره من كشف ذاتيّ لا يمتّ إلى علمه التعبّديّ بصلة، وإنّما هو كشف للخبر مع الواسطة، والمفروض عدم حجّيّة الخبر مع الواسطة، فإرجاعه إلى الخبر بلا واسطة عن طريق العلم التعبّديّ للمخبر لا قيمة له.

وبكلمة اُخرى: إنّ هذا الخبر بما هو خبر مع الواسطة له كشف ذاتيّ، لكن المفروض عدم حجّيّته بما هو كذلك، وبما هو علم تعبّديّ للمخبر لا كشف ذاتيّ له، فلا يشمله دليل الحجّيّة الظاهر في كون حجّيّة خبر الواحد بما له من كشف ذاتيّ.

على أنّه لو تمّ هذا الوجه لم يتمّ في تمام الموارد بحسب مباني مَن يقول بجعل الطريقيّة والعلم؛ وذلك لأنّه قد يفترض أنّ الوسيط غير ثقة لدى المخبر وإن كان ثقة لدينا، أو أنّ المخبر هو لا يؤمن بحجّيّة خبر الثقة وإن كنّا نحن مؤمنين بها، وعندئذ لا يتمّ هذا الجواب بناءً على مبناهم: من أنّ دليل الحجّيّة إنّما يكون حاكماً على دليل حرمة القول بغير علم عند الوصول، إذن فلا يصحّ للكلينيّ مثلاً الإخبار عن قول الإمام لا بشكل مطلق ولا بأن يقول: (لو كان الصفّار ثقة، وخبر الثقة حجّة، فالإمام قال كذا). أمّا عدم جواز إخباره عن قول الإمام بشكل مطلق فواضح. وأمّا عدم جواز إخباره عن قول الإمام بصيغة الشرط فلأنّنا نقول: هل المقصود بذلك الإخبار المشروط ؟ أو المقصود به الإخبار بالملازمة والقضيّة

463

الشرطيّة؟ فإن كان المقصود هو الثاني كان كذباً، لوضوح عدم الملازمة بين وثاقة الصفّار وحجّيّة خبر الثقة من ناحية، وصدور الكلام من الإمام من ناحية اُخرى، وإن كان المقصود هو الأوّل لم يجز هذا الإخبار؛ لأنّ هذا إخبار فعليّ وقع في زمان عدم وصول الحجّيّة وإن كان مدلوله ضيّقاً لكونه إخباراً على تقدير، وقد فرضنا أنّ دليل الحجّيّة لا حكومة له قبل الوصول على دليل حرمة القول بغير علم.

نعم، إذا قال: (لو علمت بوثاقة صفّار وحجّيّة خبر الثقة لأخبرت بقول الإمام)، كان هذا الكلام صحيحاً، لكنّه لا يفيدنا شيئاً؛ لأنّه ليس إخباراً بقول الإمام. هذا ويصحّ للكلينيّ الإخبار عن علمه بقول الإمام على شكل الإخبار بالقضيّة الشرطيّة، وعلى شكل الإخبار المشروط بأن يقول مثلاً: (لو كان الصفّار ثقة، وخبر الثقة حجّة، فإنّي عالم بأنّ الإمام قال كذا) لكن هذا لا يفيدنا شيئاً؛ لأنّنا وإن قلنا في مقام بيان الوجه الثاني من وجهي الاستفادة من العلم التعبّديّ للمخبر: إنّه يكفي الإخبار عن العلم؛ لأنّ روح الإخبار عن شيء إنّما هو الإخبار عن العلم به. لكنّا نقول أيضاً: إنّ روح الإخبار عن الشيء إنّما هو الإخبار عن العلم الفعليّ لا الإخبار عن العلم المعلّق بنحو القضيّة الشرطيّة، أو الإخبار المشروط بحيث يكون هو بنفسه شاكّاً في علمه بذلك الشيء(1).

 


(1) قد يقال: إنّ الإخبار عن العلم بقول الإمام إذا كان على نحو الإخبار بالقضيّة الشرطيّة، أو كان على شكل الإخبار المشروط، فهذا وإن لم يكن عبارة عن روح الإخبار بقول الإمام بشكل مطلق لكنّه عبارة عن روح الإخبار بقول الإمام بشكل مشروط بأن يكون الإخبار بقول الإمام مضيّقاً ومحصوراً بخصوص دائرة فرض وثاقة صفّار وحجّيّة خبر الثقة، غاية ما هناك أنّ هذا الإخبار لم يكن جائزاً؛ لأنّنا فرضنا عدم حكومة دليل الحجّيّة قبل الوصول على دليل حرمة القول بغير علم، ولكن الإخبار عن العلم بقول الإمام

464

ولو سلّمنا كفاية إخباره عن العلم المعلّق بأحد الشكلين بدعوى أنّ المعلّق عليه ثابت لدينا فيثبت لنا بذلك تحقّق العلم للكلينيّ، قلنا: إنّ هذا لا يتمّ فيما لو كانت وثاقة الصفّار أو حجّيّة خبر الثقة ثابتة لنا بالاستصحاب؛ لأنّ هذا الاستصحاب لا يثبت لنا علم الكلينيّ بقول الإمام؛ لعدم حجّيّة مثبتات الاُصول(1)، وهذا الاستصحاب لم يكن مجعولاً بشأن الكلينيّ؛ لأنّه إنّما يكون مجعولاً بشأن من له يقين سابق وشكّ لاحق، والمفروض أنّ الكلينيّ قاطع مثلاً بعدم وثاقة صفّار، أو


مشروطاً أو بنحو القضيّة الشرطيّة جائز رغم أنّه هو روح الإخبار المشروط بقول الإمام؛ وذلك لعدم ورود إشكال الحاجة إلى الحكومة.

والواقع: أنّ الوصول إلى هذه النتيجة الغريبة ـ وهي عدم جواز الإخبار بشيء مع جواز ما هو روحه من الإخبار بالعلم به ـ هو ضريبة الإسراف في نفي حكومة دليل الحجّيّة غير الواصل على دليل حرمة القول بغير علم.

والذي ينبغي في المقام هو: أن يكون معنى عدم حكومة دليل الحجّيّة غير الواصل على دليل حرمة القول بغير العلم هو عدم حكومته عليه في تجويز الإخبار المطلق، فلو أخبر بشكل مطلق كان عاصياً رغم ثبوت دليل الحجّيّة في علم الله، لا عدم حكومته عليه في تجويز الإخبار المشروط.

(1) لو قلنا بحجّيّة الاستصحاب التعليقيّ في مثل المقام لأمكن القول بأنّ خبر الكلينيّ لو كان في زمان وثاقة صفّار، أو حجّيّة خبر الثقة لكان الكلينيّ عالماً، والآن كما كان، بل بالنسبة لاستصحاب الوثاقة لسنا بحاجة إلى الاستصحاب التعليقيّ، كما أنّ الأصل ليس مثبتاً، فإنّ ثبوت العلم للكلينيّ أثر شرعيّ لوثاقة الراوي؛ إذ الحكم المجعول في باب خبر الثقة هو العلم والطريقيّة بناءً على مبنى جعل العلم والطريقيّة، وهذا الحكم موضوعه مركّب من الخبر ووثاقة المخبر، فاستصحاب وثاقة المخبر الذي أخبر الكلينيّ يثبت لا محالة علم الكلينيّ من دون ابتلاء بالأصل المثبت، ولا بالاستصحاب التعليقيّ.

465

عدم حجّيّة خبر الثقة. نعم، لو كان عدم قوله بوثاقة صفّار أو حجّيّة خبر الثقة من باب غفلته عن الاستصحاب لم يرد في هذا الفرض هذا الإشكال. لكن يبقى ما قلنا: من أنّ روح الإخبار عن شيء إنّما هو الإخبار عن العلم الفعليّ، أمّا مع شكّ نفس المخبر في علمه فلا يجدي مجرّد الإخبار عن العلم المعلّق بشكل القضيّة الشرطيّة أو الإخبار المشروط؛ لأنّ هذا ليس هو روح الإخبار عن شيء.

 

موقف الأصحاب تجاه المشكلة:

وأمّا المقام الثاني: فقد أفاد المحقّقون ـ قدّس الله أسرارهم ـ عن الإشكال أجوبة ثلاثة:

الجواب الأوّل: أنّه وإن كان دليل الجعل الواحد لا يشمل الأخبار مع الواسطة بحسب الفرض لأنّها تحتاج إلى جعول متعدّدة كي لا يرد ما مضى من الإشكال، لكنّا نقطع بعدم الفرق بين أثر وأثر، فإذا كان خبر الواحد حجّة بالنسبة لسائر الآثار غير أثر الحجّيّة، فنحن نقطع بكونه حجّة بالنسبة لأثر الحجّيّة أيضاً ولو بجعل مستقلّ.

ويرد عليه: أنّه مادام تعدّد الواسطة يوجب ضعف قرينيّة الخبر لا محالة بحساب الاحتمالات فاحتمال الفرق بين الإخبار بلا واسطة والإخبار مع الواسطة موجود، فإذا كان الخبر بلا واسطة فهذا يعني أنّ الوسيط بيننا وبين الإمام ليس عدا شخص واحد، وهذا الخبر قرينة لنا على صدور الحكم من الإمام رغم احتمال مخالفة كلام الوسيط للواقع. أمّا إذا تعدّدت الواسطة فكان هذا المخبر قد أخبرنا بواسطة شخص آخر عن الإمام، فهنا تضعف القرينيّة؛ لأنّ خبر الشخص المباشر لنا يحتفظ بما فيه من درجة احتمال المخالفة للواقع، ويضاف إلى ذلك أنّه على تقدير موافقة كلامه للواقع وصحّة نقله عن ذاك الشخص الآخر يأتي احتمال

466

مخالفة نقل ذاك الشخص الآخر للواقع، فالقيمة الاحتماليّة لموافقة الخبر للواقع قلّت لا محالة. وهذا الكلام يتكرّر كلّما ازدادت الوسائط، ويتناسب الضعف طرديّاً مع كثرة الوسائط، فإذا كان وجود الواسطة في الخبر مؤثّراً في ضعف قيمته فلا محالة يكون احتمال الفرق موجوداً، فحجّيّة الخبر بلا واسطة لا تستلزم حجّيّة الخبر مع الواسطة.

نعم، احتمال الفرق إنّما يرد بلحاظ الأدلّة اللفظيّة بحجّيّة الخبر، أمّا بلحاظ الأدلّة اللبّيّة فلا يوجد احتمال الفرق. ولكن الإشكال من أوّل الأمر لم يكن وارداً بلحاظ الأدلّة اللبّيّة، بل كان مختصّاً بالأدلّة اللفظيّة كما مضى بيانه.

الجواب الثاني: ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من أنّ متعلّق الحكم هو طبيعة الأثر لا خصوص أثر الحجّيّة كي يلزم اتّحاد الحكم والموضوع. ولا يقصد(رحمه الله)بكون القضيّة طبيعيّة، المعنى الذي يقصد في قولهم: (إنّ الإنسان نوع قضيّة طبيعيّة)، أي: أنّه لم تلحظ فيها جهة انطباقها على الأفراد، فالحكم فيها لا يسري إلى الأفراد، بل يقف على الطبيعة في عالم تباينها مع الأفراد وعدم انطباقها عليها، وهو عالم الذهن مثلاً. وإنّما يقصد(رحمه الله) بكون الحكم على الطبيعة: أنّ الحكم لم ينصب في القضيّة ابتداءً على الأفراد، بل انصبّ على الطبيعة وسرى إلى الأفراد باعتبار انطباقها عليها، فإذا انصبّ الحكم ابتداءً على طبيعة الأثر المغايرة لأفراده ـ وإن كانت تنطبق عليها ـ فهذا كاف في المغايرة التي لابدّ منها بين الموضوع والحكم، فالحجّيّة فرد من أفراد الأثر، وفي نفس الوقت الحجّيّة حكم ولكن ليس موضوع هذا الحكم نفس الحجّيّة كي يلزم اتّحاد الحكم والموضوع، وإنّما موضوعه طبيعيّ الأثر وهو غير الحجّيّة، وهو وإن كان منطبقاً على الحجّيّة، وكان هذا الانطباق موجباً لسريان الحكم إلى هذا الفرد، إلّا أنّ سريان الحكم إلى الأفراد لا يعني جعلاً جديداً للحكم وعروضاً للحكم على الموضوع مرّة ثانية، وإنّما

467

الحكم بحسب عالم الجعل يعرض على موضوعه مرّة واحدة، والملحوظ في عالم الجعل هو طبيعة الأثر المغاير أو المقدّم والمؤخّر. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه كلام المحقّق الخراسانيّ(قدس سره).

ويرد عليه: أنّ مصبّ الإشكال ليس هو عالم الجعل، ولا مجال فيه للإشكال سواء فرضناه منصبّاً على طبيعيّ الأثر، أو على الأفراد. وإنّما مصبّ الإشكال هو عالم الفعليّة بافتراض أنّ وحدة الجعل توجب في عالم الفعليّة انطباق هذا الحكم الواحد على نفسه؛ لأنّ فعليّة الحكم بأيّ معنى تفسّر ـ على خلاف في تفسيره بيننا وبين الأصحاب ـ تعني انطباق الحكم بمعنى من معاني الانطباق على فرد الموضوع الذي صار فعليّاً، وقد فرضنا أنّ الجاعل جعل حكماً واحداً، فحينما يصبح هذا الحكم بنفسه فرداً من أفراد الموضوع يلزم اتّحاد الحكم والموضوع، أو المنطبق والمنطبق عليه.

أمّا في عالم الجعل ـ وبغضّ النظر عن مرحلة الفعليّة ـ فلا مجال للإشكال أصلاً بجميع أنحاء صور الجعل. وتوضيح المقصود: أنّ جعل الحكم على شيء يتصوّر على أنحاء ثلاثة:

الأوّل: جعله على الطبيعة كقوله: (أكرم العالم)، وإن شئت فسمّه بالجعل على نحو الإطلاق. وهذا لا يستلزم في المقام مع غضّ النظر عن فعليّة الحكم أيّ إشكال، وذلك لما قاله المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): من أنّ طبيعيّ الموضوع غير فرد الموضوع، إذن لم يلزم اتّحاد الحكم والموضوع.

والثاني: جعله على الأفراد، لكن لا بمعنى جعله على نفس الأفراد، بل بمعنى جعله على عنوان الأفراد، أعني: العنوان الذي يطلق على الأفراد بما هي متكثّرة، ويلحظ به الأفراد بعنوان وحدانيّ كعنوان (كلّ عالم) في قولنا: (أكرم كلّ عالم)، وهذا العنوان يفترق عن العنوان السابق، فإنّ العنوان السابق لم تكن تلحظ فيه

468

جهة تكثّر الأفراد، وإنّما كانت تلحظ فيه الجهة المشتركة بعد تجريدها عن الخصوصيّات الفرديّة بخلاف هذا العنوان، ولذا ترى أنّ هذا العنوان يطلق على المتكثّر بما هو متكثّر بخلاف العنوان السابق فيقال: (هؤلاء كلّ العلماء)، ولا يقال: (هؤلاء العالم)، وإن شئت فسمّ هذا الجعل بالجعل على نحو العموم. وهذا أيضاً ليس في المقام مصبّاً للإشكال إذا غضّ النظر عن عالم الفعليّة؛ لأنّ الموضوع ـ وهو العنوان العامّ الملحوظ فيه جهة الكثرة ـ مغاير على أيّ حال للمعنونات الخاصّة الفرديّة تغاير كلّ عنوان لمعنونه، فإذا انطبق على نفس الحكم فهذا لا يعني اتّحاد الحكم والموضوع.

والثالث: جعل الحكم على نفس الأفراد بلا توسيط أيّ واحد من العنوانين كجعله على زيد وعمرو وبكر ... وغيرهم من الأفراد. وهذا الطرز من الجعل يساوق لا محالة تعدّد الجعل، ومع فرض تعدّد الجعل لا مجال لتوهّم الإشكال في المقام.

وإنّما الإشكال يكون بحسب عالم الفعليّة، فيقال: إنّ هذا الجعل الواحد ينطبق لا محالة بحسب عالم الفعليّة على الأفراد، ومن تلك الأفراد نفس الحجّيّة، فلزم اتّحاد الحكم والموضوع، والمنطبق والمنطبق عليه بأيّ نحو فسّرنا هذا الانطباق وهذه الفعليّة على الخلاف الموجود بيننا وبينهم في تفسير ذلك.

ويمكن ذكر الإشكال بتقريب آخر، وهو: أنّه لو سلّمنا إمكان عروض الشيء على نفسه نقول في خصوص باب الحجّيّة: إنّ هذا محال لاستلزامه اللغويّة؛ إذ الحجّيّة بنفسها لا مساس لها بالعمل ولذا تحتاج إلى متعلّق يمسّ العمل كأن يقال: إنّ الحكم الفلانيّ الذي يمسّ العمل ثبت بحجّيّة خبر الثقة. أمّا لو فرض أنّ الشيء الذي يثبت بالحجّيّة هو نفس الحجّيّة بأن عرضت على نفسها ـ لو أمكن عروض الشيء على نفسه ـ فهذا لغو؛ إذ لا تتحقّق بذلك الصلة بالعمل؛ إذ المفروض أنّ

469

الحجّيّة لا مساس لها بالعمل، ولذا احتاجت إلى معروض يمسّ العمل.

الجواب الثالث: ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ الحكم الثابت على عنوان بنحو القضيّة الحقيقيّة ينحلّ بحسب عالم الانطباق والفعليّة إلى أحكام عديدة، فتكون حجّيّة موضوعاً لحجّيّة اُخرى، وخبر ثابت بحجّيّة موضوعاً لحجّيّة اُخرى.

وهذا الجواب في غاية المتانة، وقد عالج الإشكال في مورده الصحيح وهو عالم الفعليّة لا الجعل، فدفع الإشكال بأنّ الحكم الواحد له فعليّات عديدة بعدد الموضوع بعضها موضوع لبعض، وكذلك بعضها يثبت الخبر ويصير موضوعاً لفعليّة اُخرى(1)، فارتفع بذلك كلا الإشكالين.

إلّا أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) لم يكتف بهذا الجواب، بل ذكر جواباً آخر أيضاً عن خصوص الإشكال الأوّل، وهو لزوم اتّحاد الحكم والأثر الذي هو موضوع له(2)، ونحن نوضّح الجواب بهذه الصياغة:

وهي أن يقال: إنّ هذا الإشكال إنّما يرد على مبنى المشهور: من جعل الحكم المماثل، فإنّ الحكم المماثل ـ بالكسر ـ في كلّ حلقة من حلقات سلسلة الخبر مع


(1) هذه الصياغة للجواب تناسب مبنى المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في تصوير الفعليّة، أمّا على مبنانا: من عدم ثبوت وجود آخر للحكم باسم الفعليّة، وإنّما الذي يتحقّق عند ثبوت الموضوع هو طرفيّة هذا الفرد للحكم، فيصاغ الجواب كما يلي: إنّ الجعل الواحد قد خلق بانطباقه على فرد فرداً من الأثر أو الخبر، فتجدّد له الانطباق على هذا الفرد الجديد، وببركة هذا الانطباق الجديد خلق فرد آخر، فانطبق عليه أيضاً، وهكذا، فالجعل الكلّيّ للحجّيّة قد انطبق مرّات عديدة على الأثر الذي هو فرد جزئيّ للحجّيّة خلق في الرتبة السابقة على انطباق الحكم عليه، وكذلك انطبق هذا الجعل مرّات عديدة على خبر خلق بهذا الجعل في المرتبة السابقة على انطباقه عليه.

(2) راجع فوائد الاُصول للشيخ الكاظميّ(رحمه الله)، ص 64.

470

الواسطة بحاجة إلى حكم مماثل ـ بالفتح ـ لا محالة كي يعقل جعل مماثله، وليس الحكم المماثل ـ بالفتح ـ هنا إلّا نفس ما جعل في دليل الحجّيّة، وهذا يعني اتّحاد المماثل والمماثل، أو اتّحاد الحجّيّة والأثر، أو الحكم والموضوع. أمّا بناءً على ما هو المختار عند المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من جعل الطريقيّة والعلم الاعتباريّ فلا حاجة إلى ثبوت أثر خاصّ في جميع حلقات السلسلة كي يلزم اتّحاد الحكم والأثر؛ وذلك لأنّ الاعتبار سهل المؤونة، فجعل العلم بالاعتبار أمر ممكن سواء ترتّب على متعلّقه أثر أو لا. نعم، لابدّ من رفع اللغويّة كي لا تلزم استحالة اللغويّة، ويكفي في رفع اللغويّة الانتهاء إلى الأثر ولو في آخر السلسلة، وهذا ثابت في المقام للانتهاء في آخر السلسلة إلى نقل الحكم عن الإمام(عليه السلام) ولو بعد ألف واسطة. هذا مرام المحقّق النائينيّ(قدس سره) في المقام، وإن كانت العبارة الموجودة في تقرير بحثه لا تفي بذلك.

ويرد عليه: أنّ الالتزام بمبنى جعل العلم والطريقيّة لا يدفع لزوم إشكال اتّحاد الحكم والموضوع في المقام، ولأجل توضيح ذلك نذكر مقدّمتين:

المقدّمة الاُولى: أنّ العلم الاعتباريّ يختلف عن العلم الوجدانيّ في أمرين:

الأوّل: أنّ العلم الوجدانيّ يسري إلى تمام آثار المعلوم ولوازمه، والعلم الاعتباريّ لا يسري إلى ذلك إلّا بقدر إسراء الشارع له؛ لأنّ العلم الاعتباريّ ليس إلّا عبارة عن اعتبار الشارع للشكّ في أمر مّا علماً به، وهذا لا يلازم عقلاً اعتبار الشكّ في أثره ولازمه علماً بذلك الأثر واللازم، وأمر توسيع هذا الاعتبار وتضييقه بيد نفس المعتبر. ويأتي البحث مفصّلاً عن ذلك في باب الاُصول المثبتة إن شاء الله.

الثاني: أنّ العلم الوجدانيّ لا يعقل أن يتعلّق به علم آخر؛ لأنّه بنفسه معلوم بالعلم الحضوريّ، فالعلم بشيء ليس إلّا نفس العلم بذلك الشيء، كما أنّه لا يعقل

471

عادةً تعلّق الشكّ أو الظنّ بالعلم الوجدانيّ. وأمّا العلم الاعتباريّ فمن المعقول تعلّق العلم والظنّ والشكّ به؛ إذ ليس العلم الاعتباريّ إلّا عبارة عن اعتبار الشارع لشكّ الشخص علماً، وذاك الشخص قد يعلم بذلك وقد يظنّ به أو يشكّ فيه، وليس العلم بالعلم بشيء في العلم الاعتباريّ علماً بذلك الشيء.

المقدّمة الثانية: أنّ جعل الحجّيّة في الأخبار مع الواسطة ـ بناءً على مبنى جعل العلم الاعتباريّ ـ لابدّ أن يتصوّر على أساس جعل العلم بالعلم، وتتكرّر كلمة العلم بحسب تكرّر الوسائط، فصفّار ـ مثلاً ـ حينما أخبر عن الإمام(عليه السلام) جعل الشارع شكّنا في قول الإمام علماً اعتباراً، ولكنّنا لم نكن مطّلعين على ذلك لعدم اطّلاعنا على خبر صفّار، ولمّا أخبر أحمد بن محمّد عن خبر صفّار، جعل الشارع شكّنا في علمنا بقول الإمام علماً اعتباراً، ولكنّنا أيضاً لم نكن مطّلعين على ذلك إلى أن أخبرنا الكلينيّ مباشرة ـ مثلاً ـ بخبر أحمد بن محمّد، فعلمنا وجداناً بعلمنا الاعتباريّ المتعلّق بعلمنا الاعتباريّ المتعلّق بقول الإمام. وقد عرفت أنّ العلم بالعلم بشيء ليس علماً بذلك الشيء في باب العلم الاعتباريّ، فنحن لسنا عالمين بقول الإمام والحكم الشرعيّ لا وجداناً ولا اعتباراً، فلابدّ لمثل المحقّق النائينيّ(قدس سره)أن يلتزم في مقام تصوير حجّة الخبر مع الواسطة بأنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان موضوعه ليس هو مجرّد عدم العلم التكوينيّ أو الاعتباريّ بالحكم، بل يدخل في موضوعه أيضاً عدم العلم التكوينيّ بالعلم الاعتباريّ بالحكم، وكذلك عدم العلم التكوينيّ بالعلم الاعتباريّ بالعلم الاعتباريّ بالحكم وهكذا.

إذا عرفت هاتين المقدّمتين قلنا: إنّ خبر من يخبر عن الواسطة له كشفان: كشف قويّ عن إخبار الواسطة، وكشف عن كلام الإمام. فهنا نطرح سؤالاً عن أنّ جعل الحجّيّة لخبر الكلينيّ ـ مثلاً ـ هل هو باعتبار حيثيّة كشفه عن قول الإمام،

472

أي: أنّه حجّة ابتداء في إثبات قول الإمام؟ أو باعتبار كشفه عن إخبار الواسطة؟ والأوّل خلف من وجهين؛ لأنّ المفروض هو حجّيّة الخبر في إثبات مؤدّاه، ومؤدّاه خبر الوسيط لا قول الإمام؛ ولأنّ المفروض إثبات الحجّيّة لتمام أخبار الوسائط، ولو كان خبر الكلينيّ حجّة في إثبات قول الإمام ابتداء لم تكن حاجة إلى حجّيّة أخبار الوسائط. إذن فقد تعيّن الثاني، أي: أنّ خبر الكلينيّ إنّما يكون حجّة باعتبار كشفه عن إخبار الواسطة. وعليه نقول: هل أنّ خبر الكلينيّ جعله الشارع علماً اعتباراً بنفس خبر أحمد بن محمّد، ولم يوسّع دائرة الاعتبار إلى أثر خبر أحمد بن محمّد وهو العلم بخبر صفّار كي يتحقّق العلم بالعلم، أو جعله علماً اعتباراً بخبر أحمد بن محمّد وبما له أثر؟! لابدّ من اختيار الثاني؛ لأنّ اختيار الأوّل يقطع سلسلة تعلّق العلوم بعضها ببعض ونصبح غير عالمين بالعلم بالعلم بقول المعصوم؛ لما مضى: من أنّ العلم الاعتباريّ بشيء لا يسري إلى آثاره ولوازمه، وإذا اخترنا الثاني كان إشكال اتّحاد الحكم والموضوع ثابتاً على حاله؛ لأنّ جعل العلم والطريقيّة لخبر الكلينيّ كان باعتبار أثر خبر أحمد بن محمّد الذي هو العلم والطريقيّة، فكلّ من الحكم والموضوع عبارة عن العلم والطريقيّة.

وقد ظهر ممّا ذكرناه: عدم صحّة توجيه كلام المحقّق النائينيّ(قدس سره)بقياس العلوم الاعتباريّة بالعلوم التكوينيّة، بتقريب أنّه لو فرض أنّ الكلينيّ وأحمد بن محمّد والصفّار كانوا معصومين لا يحتمل بشأنهم الكذب والاشتباه كان العلم بخبر الكلينيّ يولّد العلم بخبر أحمد بن محمّد على حدّ البرهان الإنّي، والعلم بخبر أحمد بن محمّد يولّد العلم بخبر صفّار، وهو يولّد العلم بكلام الإمام، فبالتالي يحصل العلم بكلام الإمام، ولكن بما أنّهم لم يكونوا معصومين ولم يفد كلامهم العلم، فالعلم بخبر الكلينيّ أولد احتمال خبر أحمد بن محمّد، واحتمال خبر أحمد بن محمّد أولد احتمال خبر صفّار، واحتمال خبر صفّار أولد احتمال كلام الإمام على

473

تفاوت بين الاحتمالات من ناحية القوّة والضعف، وهذه الاُمور المتولّد بعضها من بعض نقصها أنّها لم تبلغ مرتبة العلم كما في الفرض الأوّل حتّى يحصل العلم بقول الإمام، ولكن الشارع تدارك هذا النقص في كلّ مرتبة من مراتب هذه السلسلة بجعل العلم التعبّديّ، فأصبح حال هذا الفرض هو حال الفرض الأوّل، وكما أنّه حصل بالتالي في الفرض الأوّل العلم بقول الإمام كذلك الحال في الفرض الثاني، بفرق أنّ العلم بقول الإمام الحاصل في الفرض الأوّل تكوينيّ وفي الفرض الثاني تعبّديّ.

والوجه في فساد هذا التقريب هو: أنّه لو كان العلم بخبر الكلينيّ يولّد العلم التعبّديّ بخبر أحمد بن محمّد، وهو يولّد العلم التعبّديّ بخبر صفّار، وهو يولّد العلم التعبّديّ بخبر الإمام، صحّ تنظير ذلك بالعلوم التكوينيّة، لكن الأمر ليس كذلك، فإنّ كلّ علم في هذا الفرض الثاني يكشف عن العلم بخبر سابق لا أنّه يولّد العلم بخبر سابق. ويقع الكلام في هذا الكشف فنقول: لو جعل الشارع خبر الكلينيّ طريقاً إلى خصوص خبر أحمد بن محمّد لا إلى طريقيّته وعلميّته، انقطعت سلسلة تعلّق العلوم بعضها ببعض، ولم ينكشف لنا العلم بخبر صفّار، ولو جعله طريقاً إلى طريقيّته وعلمه لزم اتّحاد الحكم والموضوع، والجواب عن ذلك إنّما يكون بالانحلال.

ثُمّ إنّ المحقّق النائينيّ(قدس سره) بعد أن ذكر عدم ورود الإشكال الأوّل على مبناه: من جعل الطريقيّة والعلم، أفاد: أنّه يمكن تطوير الإشكال وتغييره بنحو يرد حتّى على مبنى الطريقيّة، وذلك بأن يبدّل لزوم اتّحاد الحكم والموضوع بلزوم اتّحاد الحاكم والمحكوم.

وتوضيح ذلك: أنّ الحكومة على قسمين: حكومة واقعيّة، وهي: ما كان الحاكم فيها في فرض العلم بالمحكوم ولا يكون في طول الشكّ فيه، كحكومة قوله: (لا

474

ربا بين الوالد وولده) على دليل حرمة الربا بتضييق دائرة موضوعه تعبّداً، أو حكومة قوله: (الطواف بالبيت صلاة) على دليل بعض أحكام الصلاة بتوسيع دائرة موضوعها تعبّداً. وحكومة ظاهريّة، وهي: ما كان الحاكم فيها في طول الشكّ في المحكوم، كحكومة أدلّة اعتبار الأمارات والاُصول على أدلّة الأحكام الواقعيّة، حيث اُخذ في موضوعها الشكّ في تلك الأحكام، ومعنى حكومتها على تلك الأحكام أنّها مثبتة أو نافية لها ظاهراً لدى الشكّ. هذه مصطلحات له(قدس سره) في باب الحكومة.

وذكر في المقام على هذا الأساس: أنّه يلزم اتّحاد الحاكم والمحكوم، فإنّ دليل وجوب تصديق خبر الكلينيّ ـ مثلاً ـ يكون حاكماً بالحكومة الظاهريّة على الحكم الواقعيّ المترتّب على خبر الكلينيّ وهو وجوب تصديق أحمد بن محمّد، فلزم أن يكون وجوب التصديق حاكماً على نفسه. وذكر(رحمه الله): أنّ مثل هذه الحكومة الظاهريّة حكومة الأصل السببيّ على الأصل المسبّبيّ، ويرد عليها نفس الإشكال، حيث إنّ دليل كلّ واحد منها عين دليل الآخر وهو قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ»، والجواب في كلا الموردين يكون بالانحلال.

أقول: يرد على تنظيره للأصل السببيّ والمسبّبيّ بما نحن فيه، وتخيّل كون حكومة الأصل السببيّ على المسبّبيّ حكومة ظاهريّة ما اتّضح في بحثنا في قيام الأمارات والاُصول مقام القطع: من أنّ حكومة أصل على أصل حكومة واقعيّة لا ظاهريّة(1)، فلم يؤخذ في موضوع أحدهما الشكّ في الآخر، وإنّما الأصل السببيّ


(1) والحكومة الواقعيّة تعني نفي المحكوم واقعاً، فحكومة دليل الاستصحاب على نفسه بلحاظ الأصل السببيّ والمسبّبيّ ترجع بروحها إلى عدم دلالة الدليل إلّا على الأصل السببيّ دون المسبّبيّ، فلا يأتي إشكال اتّحاد الحاكم والمحكوم.

475

يفني موضوع الأصل المسبّبيّ من دون شكّ فيه، لا أنّه ينفيه نفياً ظاهريّاً لدى الشكّ فيه.

ويرد على أصل ما أفاده هنا: من أنّ تبديل صيغة الإشكال بلزوم وحدة الحاكم والمحكوم بدلاً عن صيغة اتّحاد الحكم والموضوع يوجب سريان الإشكال حتّى على مبنى الطريقيّة:

أوّلاً: أنّ هذين الإشكالين متلازمان من حيث الورود وعدمه على مبنى الطريقيّة؛ وذلك لأنّ حجّيّة خبر الكلينيّ المثبت لخبر أحمد بن محمّد إن فرض كونها باعتبار الأثر المترتّب على ما هو المخبر به ـ أعني: حجّيّة خبر أحمد بن محمّد ـ لزم اتّحاد الحكم والموضوع. وإن فرض كونها باعتبار قول الإمام والأثر المترتّب على آخر السلسلة، فحجّيّة خبر الكلينيّ ليست حاكمة على حجّيّة خبر أحمد بن محمّد، وإنّما هي حاكمة على ذلك الحكم الواقعيّ الذي وقع في آخر السلسلة، فلم يلزم اتّحاد الحاكم والمحكوم.

وثانياً: أنّ روح حكومة الأمارات والاُصول على الأحكام الواقعيّة بمعنى إثباتها أو نفيها ليست إلّا عبارة عن تنجيز تلك الأحكام والآثار أو التعذير عنها، ولا تتصوّر فيها الحكومة بأحد معنييها المدوّنين في اُصول المحقّق النائينيّ(قدس سره): من التصرّف في عقد الموضوع أو التفسير، حتّى يلزم تصرّف الشيء في نفسه أو تفسير الشيء لنفسه. وأنت ترى أنّ في الحكومة الظاهريّة قد يكون المحكوم غير موجود بحسب الواقع أصلاً كي يتصرّف في موضوعه أو يفسّر، فإطلاق الحكومة على باب الأمارات والاُصول بالنسبة للأحكام الواقعيّة لا يزيد على مجرّد اصطلاح. ولبّ المطلب: أنّ دليل حجّيّة الأمارات والأصل ينجّز الأثر الواقعيّ أو يعذّر عنه، والأثر الواقعيّ فيما نحن فيه هو الحجّيّة، وحكم الأمارة أيضاً هو الحجّيّة. فهذا الإشكال ليس بحسب الواقع إلّا عبارة اُخرى عن إشكال اتّحاد

476

الحكم والموضوع اُسبغت عليه مصطلحات المحقّق النائينيّ(قدس سره)، وإسباغمصطلحات خاصّة على إشكال لا يجعله إشكالاً آخر.

بقي في المقام شيء، وهو: أنّنا قلنا: إنّ الإشكال بكلا تقريبيه في المقام أعني: تقريب اتّحاد الحكم والموضوع، وتقريب تأخّر الموضوع عن الحكم، لا يردان بحسب عالم الجعل، وإنّما يردان بحسب عالم الفعليّة. ونقول هنا: إنّ هناك تقريباً ثالثاً يرد بحسب عالم الجعل، وهو ما ذكره المحقّق العراقيّ(قدس سره): من أنّ الجاعل ينظر إلى موضوع حكمه نظرة الموضوع وإلى محموله نظرة المحمول، أي: أنّه ينظر إلى الأوّل نظر كونه في مرتبة سابقة متقدّمة على المحمول، وإلى الثاني نظر تأخّره عن الأوّل، وهذا النظر منه إلى الموضوع يحدّد ذاتاً ذلك الموضوع ويقصره عن قابليّة الانطباق على نفس المحمول والحكم. وهذا الإشكال يذكره المحقّق العراقيّ(رحمه الله) فيما نحن فيه، ويذكره أيضاً في بحث أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه، وفي بحث أخذ الأمر في متعلّق الأمر. ونحن ذكرنا تفصيل هذا الإشكال مع جوابه في باب التعبّديّ والتوصّليّ ولا نعيده هنا، وإنّما كان المقصود مجرّد الإشارة إليه(1).


(1) إنّ روح الجواب الذي اختاره المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في المقام هو مختار الاُستاذ الشهيد(رحمه الله)، وقد مضى ذكره في بحث التعبّديّ والتوصّليّ، وهو: أنّ الجعل الواحد على موضوع عامّ له عدّة انطباقات بحسب عدد أفراد الموضوع، وبعض هذه الأفراد يرى في طول انطباق الجعل على فرد آخر، وهذا ليس مستحيلاً، وإنّما المستحيل هو وجود جعل واحد ذي انطباق واحد على ما يرى في طول ذاك الجعل. والمحقّق العراقيّ(رحمه الله) أراد أن يطبّق نظير هذا الكلام في باب التعبّديّ والتوصّليّ، ولكن اُستاذنا الشهيد(قدس سره) بيّن في بحث التعبّديّ والتوصّليّ الفرق بين البابين فراجع.

477

 

2 ـ آية النفر:

الآية الثانية: آية النفر، وهي قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون﴾(1). ووجه الاستدلال بها هو أن يقال: إنّه إن كان الحذر عند إنذار المنذر واجباً حتّى مع عدم حصول العلم من خبره، فخبره حجّة، والمقدّم يثبت بالآية الشريفة، فيثبت التالي وهو حجّيّة خبر الواحد. فهذا الاستدلال له ركنان:

الأوّل: دعوى الملازمة بين وجوب الحذر والحجّيّة. والدليل على ذلك هو: أنّه لو لم يكن خبر المنذر حجّة لما ترتّب عليه تنجّز الواقع، ولو لم يترتّب عليه تنجّز الواقع لما ترتّب عليه احتمال العقاب، ولو لم يترتّب عليه احتمال العقاب لما ترتّب عليه وجوب الحذر؛ إذ لا معنى للحذر عن العقاب مع عدم احتمال العقاب.

والثاني: دعوى دلالة الآية الشريفة على وجوب الحذر حتّى مع عدم العلم. وللاستدلال بالآية الشريفة على وجوب الحذر تقريبات ثلاثة:

الأوّل: أنّ الآية الشريفة دلّت على مطلوبيّة الحذر، ومطلوبيّة الحذر تلازم وجوبه؛ إذ لولا احتمال العقاب وترقّبه لا معنى للحذر ولمطلوبيّته واستحبابه، ومع احتمال العقاب وترقّبه يجب الحذر.

أمّا مطلوبيّة الحذر فتثبت بكلمة (لعلّ) الدالّة بحسب وضعها على إنشاء الترجّي. ومقتضى الظهور التصديقيّ وأصالة التطابق بين عالم الثبوت والإثبات أن يكون إنشاء الترجّي ناشئاً من داعي الترجّي، ولكن داعي الترجّي بالنسبة إليه تعالى مستحيل، فيحمل على داعي المطلوبيّة الذي هو أقرب الدواعي إلى داعي الترجّي.


(1) سورة التوبة، الآية: 122.

478

الثاني: أنّ الآية الشريفة دلّت على وجوب الإنذار، ومقتضى إطلاقها وجوبه حتّى عند عدم كونه موجباً لحصول العلم، ولولا وجوب الحذر لَلَغى وجوب الإنذار، فقد دلّت الآية بدلالة الاقتضاء على وجوب الحذر حتّى مع عدم حصول العلم، صوناً لكلام الحكيم عن اللغويّة.

الثالث: أنّ الآية الشريفة دلّت على وجوب الإنذار، وعلى كون غاية ذلك الحذر. ومن المعلوم أنّ اهتمام الموجب بنفس الغاية ليس بأقلّ من اهتمامه بمقدّماتها. فإن فرض أنّ تلك الغاية لم تكن من الأفعال الاختياريّة كما في قولنا: (اشرب الدواء لعلّك تُشفى)، فالكلام وإن دلّ على شدّة اهتمامه بالغاية لكن لا معنى لوجوبها؛ لأنّ المفروض عدم كونها فعلاً اختياريّاً. وأمّا إن كانت فعلاً اختياريّاً كما نحن فيه، فإيجاب مقدّمتها لأجلها يدلّ على وجوبها؛ لما قلنا: من أنّ الاهتمام بها لا يقلّ عن الاهتمام بمقدّمتها. ومقتضى إطلاق الكلام كون وجوب الإنذار ثابتاً حتّى عند فرض عدم كونه موجباً للعلم، فيثبت وجوب الغاية حتّى عند هذا الفرض.

أقول: إنّ الأصحاب(قدس سرهم) سواء القائلين بتماميّة الاستدلال بهذه الآية، والقائلين بعدم تماميّة الاستدلال بها ركّزوا كلامهم على مدى دلالة الآية على وجوب الحذر وعدمها. وأمّا الملازمة بين وجوب الحذر والحجّيّة فأخذوها أمراً متسالماً عليه من الطرفين.

والتحقيق: أنّ هذا الأمر المتسالم عليه غير صحيح، إذ لم يرتّب وجوب الحذر على إخبار المخبر، وإنّما رتّب وجوب الحذر على إنذار المنذر، ولا معنى للإنذار إلّا لدى تنجّز الحكم سابقاً وقبل الإنذار حتّى يتمّ استحقاق العقاب في الرتبة السابقة على الإنذار، كي يعقل الإنذار بالعقاب. وفي زمن نزول الآية كان الناس في مختلف البلاد جاهلين بالأحكام، والأحكام منجّزة عليهم في المرتبة السابقة على الإنذار بالعلم الإجماليّ، أو بكون الشبهة قبل الفحص، وكان مقتضى القاعدة إيجاب الفحص على الجميع، ولكن كان ذلك موجباً لاختلال النظام فسقط عنهم الفحص بهذا النحو، واُمروا

479

بأن ينفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين، ولينذروا الباقين بعد الرجوع حتّى يحذروا عن العقاب في دائرة الاُمور المنذر بها. فغاية ما تدلّ عليها الآية الكريمة هي رفع تنجيز الحكم عليهم في غير دائرة الاُمور المنذر بها، لا أنّ التنجيز في دائرة الاُمور المنذر بها يكون في طول الإنذار، فالعلم الإجماليّ أو كون الشبهة قبل الفحص كان يقتضي التنجيز في دائرة أوسع، ولم يكن يعقل الاحتياط بالنسبة لاُولئك الأشخاص الذين هم في تلك المرتبة من الجهل، فأثر تنجيز الأحكام عليهم إنّما هو وجوب الفحص لا الاحتياط، وقد رفع عنهم الفحص بأزيد من مقدار نفر طائفة من كلّ فرقة، فقد قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّة﴾، وهذا يعني تقليص التنجيز وحصره في دائرة ما يأتي به المنذرون، لا إضفاء التنجيز على إنذار المنذرين؛ لما عرفت: من أنّ الإنذار إنّما هو في طول التنجيز، وليس العكس.

وبعد تسليم الملازمة بين وجوب الحذر والحجّيّة ننتقل إلى البحث عن مدى دلالة الآية الشريفة على وجوب الحذر بأحد الوجوه الثلاثة المتقدّمة:

أمّا الوجه الأوّل ـ وهو التمسّك بمطلوبيّة الحذر المستلزمة للوجوب، والمدلول عليها بكلمة (لعلّ) الدالّة على الترجّي المحمولة دلالتها التصديقيّة على داعي المطلوبيّة ـ: فقد أورد عليه المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)بأنّ كلمة لعلّ ليست موضوعة للترجّي بمعنى ترقّب المحبوب، بل هي موضوعة لمطلق الترقّب بقطع النظر عن كون المترقّب محبوباً أو لا. وقال بأنّ الاستعمالات الصحيحة في لغة العرب قد تكفّلت موارد يكون متعلّق (لعلّ) مبغوضاً غير محبوب، كما في قوله: «لَعَلَّكَ عَنْ بَابِكَ طَرَدْتَنِي»، ونحو ذلك من فقرات دعاء أبي حمزة وغيرها. ونقل(قدس سره)أيضاً مدّعاه عن بعض أرباب اللغة.

هذا ما ذكره(رحمه الله) في مقام الإيراد على الوجه الأوّل، لكنّه ذكر بعد ذلك في مقام تصحيح الاستدلال بكلمة (لعلّ): أنّها وإن لم تكن موضوعة لترقّب المحبوب،

480

لكنّها تدلّ لا محالة على الترقّب، ومن المعلوم أنّه لا معنى لترقّب الحذر إلّا لدى احتمال العقاب، ولا منشأ لاحتمال العقاب لولا وجوب الحذر.

أقول: إنّ استدلاله بكلمة (لعلّ) على الحجّيّة بعد تفسيرها بمعنى الترقّب غير صحيح، لا لأنّ الترقّب بشأن الله مستحيل، كي يجاب عليه بحمل كلمة (لعلّ) على الترقّب بلحاظ نظر المخاطبين، أو الترقّب الشأنيّ وكون الشيء في معرض الوقوع، بل لأنّ ترقّب الحذر في كلّ مورد لا يتوقّف على الحجّيّة، بل يكفي فيه احتمال حصول العلم فيه، فكأنّه قال: لعلّهم يعلمون فيحذرون.

نعم، بالإمكان تصحيح الاستدلال بالآية المباركة بوجه آخر غير ما ذكره، وهو: أنّ كلمة لعلّ وإن لم تدلّ لغة على محبوبيّة متعلّقها لكن متعلّقها في خصوص مورد الآية محبوب، والمستفاد من مجموع الكلام هو ترقّب المحبوب لا ترقّب المبغوض مثلاً، وذلك بقرينة السياق، أعني: جعل ذلك غاية للشيء المطلوب، وهو الإنذار، ولا أقصد بذلك أنّ غاية الواجب واجبة، كي يرجع إلى الوجه الثالث الذي سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ النقاش فيه، وإنّما المقصود أنّ جعله غاية للمطلوب قرينة على أنّه ترقّب للأمر المحبوب، وعندئذ: إمّا أن نحمل ذلك على مجرّد داعي المحبوبيّة والمطلوبيّة؛ لاستحالة الترقّب والترجّي بشأن الله تعالى، أو نبقيه على ظهوره في ترقّب المحبوب وترجّيه: إمّا لمنع استحالة ذلك بشأنه تعالى(1)، أو


(1) لعلّه ينظر(رحمه الله) إلى إمكانيّة الترقّب، أو الترجّي، أو الاحتمال بالمعنى الرياضي للاحتمال، وإن كان لا يمكن ذلك بمعناه النفسيّ. فعند ما يتحدّث المولى عن عنوان كلّيّ ثمانون بالمئة من أفراده يتّصف بصفة كذا مثلاً، أو عشرون بالمئة منها لا يتّصف بتلك الصفة، فمن الصحيح أن يقول: يترقّب بشأن الفرد من هذا العنوان بقدر ثمانين بالمئة أن يكون متّصفاً بصفة كذا. والمدلول اللغويّ لكلمة (لعلّ) لا يأبى عن الانطباق على ذلك.