37

الظاهريّ، ويكون منحفظاً معه، فيجتمعان في مرتبة واحدة.

وهذا الجواب لا يرجع إلى محصّل؛ إذ بعد فرض أنّه اُخذ في موضوع الحكم الظاهريّ ما هو في طول الحكم الواقعيّ لا يعقل اجتماعهما في رتبة واحدة، بل دائماً يوجدان في رتبتين طوليّتين لا يصعد هذا إلى تلك المرتبة، ولا ينزل ذاك إلى هذه المرتبة.

والصحيح في الجواب عن هذا الوجه أمران:

الأوّل: أنّ التأخّر الذي يمكن توهّمه للشكّ في الشيء عن نفس ذلك الشيء هو التأخّر الطبعيّ، والتحقيق عدم تأخّر الشكّ في الشيء عن ذلك الشيء بالتأخّر الطبعيّ، فإنّ ميزان التأخّر الطبعيّ هو: أن يكون الشيء بحيث مهما انعدم ذاك انعدم هذا، دون العكس، لا من باب كون الأوّل لازماً للثاني، مثاله: تأخّر الاثنين عن الواحد وتأخّر المعلول عن جزء العلّة. وهذه النكتة كما ترى غير موجودة فيما نحن فيه، فإنّه قد يشكّ في الشيء بدون أن يكون ذلك الشيء موجوداً(1).

الثاني: أنّا لو سلّمنا تعدّد الرتبة فهو لا يفيد شيئاً في المقام، فإنّ مشكلة التضادّ لا ترتفع بتعدّد الرتبة، ولذا لو اُخذت الحرمة ـ مثلاً ـ موضوعاً للوجوب، وجعل وجوب شيء مشروطاً بحرمته، لم ترتفع مشكلة التضادّ بين الوجوب والحرمة، كما هو واضح بالوجدان، كما أنّ مشكلة نقض الغرض لا ترتفع بذلك؛ إذ لو كان في الفعل غرض لزوميّ، وكان الحكم الظاهريّ المتأخّر عن الحكم الواقعيّ عبارة عن الإباحة مثلاً، فإن لم تترتّب على هذه الإباحة التوسعة على المكلّف، بأن لا يكون


(1) نعم، الشكّ في الشيء لا ينفكّ عن المشكوك بالذات، وبالإمكان أن يقال بتأخّره عن المشكوك بالذات تأخّر العارض عن معروضه، لكن لا ينبغي أن يوجب هذا توهّم تأخّر الشكّ عن المشكوك بالعرض الذي هو المفيد في المقام.

38

له مانع شرعيّ عن الترك، فهذا خلف المفروض في الحكم الظاهريّ، ومستلزم للغويّة الحكم الظاهريّ. وإن ترتّب عليه ذلك كان هذا لا محالة نقضاً للغرض، فإنّ تأثير ذلك في ترك العبد للواجب وتفويت الغرض المترتّب عليه غير مربوط بفرض اتّحاد رتبة الحكم وتعدّدها.

وأمّا التفسير الثاني: فهو ما ذكره المحقّق النائينيّ(قدس سره) بعد نقله للتفسير الأوّل وإيراده عليه بما مضى عن المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من الإيراد، حيث أفاد: أنّ هذا الكلام قد اُسيء فهمه وليس معناه ما ذُكر. وإنّما معناه شيء آخر، فذكر(قدس سره)كلاماً يكون بحسب ما في التقرير معقّداً، ومشوّشاً بتشويش كثير، والذي يتحصّل منه: أنّ الحكم الظاهريّ يكون في طول الحكم الواقعيّ بمعنى أنّ الحكم الواقعيّ هو الذي يقتضي الحكم الظاهريّ ويكون سبباً لوجوده، وبدونه لا يعقل تحقّق الحكم الظاهريّ. وعلى هذا فيستحيل كون الحكم الظاهريّ دافعاً للحكم الواقعيّ ومانعاً عنه وموجباً لانتفائه؛ إذ الشيء لا يكون مانعاً عمّا يتوقّف عليه، وإلّا لزم من وجوده عدمه.

هذا حاصل ما يستفاد من عبارة التقرير وإن لم يكن لها صورة فنّيّة بهذا المقدار(1).

 


(1) الذي أستفيده من عبارة التقريرين هو: أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) مؤمن بأنّ تعدّد الرتب يرفع مشكلة التنافي، ويورد على التفسير الأوّل لتعدّد الرتب في المقام ـ وهو كون الحكم الظاهريّ في طول الشكّ، والشكّ في طول الحكم الواقعيّ ـ بمنع الصغرى؛ لأنّ الحكم الواقعيّ موجود في رتبة الحكم الظاهريّ وإن لم يكن الحكم الظاهريّ موجوداً في تمام رتب الحكم الواقعيّ. وحينئذ أصبح بصدد بيان تعدّد الرتب في المقام بمعنى آخر، وهو: أنّ الحكم الظاهريّ بيان للوظيفة تجاه الحكم الواقعيّ والموقف من الحكم الواقعيّ، وهذا هو تفسير الطوليّة في المقام بينهما، وهذا هو معنى قوله(رحمه الله): «إنّ الشكّ اُخذ في

39

ويرد عليه: أنّه لا ثمرة في افتراض كون الحكم الظاهريّ في طول الحكم الواقعيّ ومتوقّفاً عليه أصلاً؛ إذ لو سلّم التضادّ بين الحكمين بقطع النظر عن هذا التوقّف لم يمكن رفع الإشكال بدعوى التوقّف؛ إذ غاية ما يقتضيه التوقّف هي: أنّ الحكم الظاهريّ لا يصير مانعاً عن الحكم الواقعيّ، لكن الحكم الواقعيّ يصير مانعاً عن الحكم الظاهريّ. وبعبارة اُخرى نقول: إنّ كون أحد الضدّين موجباً لوجود الضدّ الآخر مستحيل؛ لاستلزامه اجتماع الضدّين، فلابدّ من دفع التضادّ قبل دعوى التوقّف والطوليّة، ومع دفع التضادّ في الرتبة السابقة على ذلك لا تبقى ثمرة لتسليم هذه الطوليّة أو عدمه.

 


موضوع الحكم الظاهريّ لا بما هو صفة من الصفات وحالة من حالات المكلّف، بل بما هو موجب لتحيّر المكلّف من حيث العمل».

والحاصل: أنّ البراءة والاحتياط هما في مرتبة قبح العقاب بلا بيان، أي: أنّهما يحقّقان تنجيز الحكم الواقعيّ أو التعذير عنه، وليسا في رتبة نفس الحكم الواقعيّ، إذن لا تنافي بينهما وبين الحكم الواقعيّ. هذا مضافاً إلى ما له(رحمه الله) من بيان آخر لنفي التنافي بالنسبة لأصالة الاحتياط، وهو: أنّها إن وافقت الواقع فهي عين الواقع، وإن خالفت الواقع فليست إلّا خيالاً باطلاً.

ويرد عليه: أنّ الطوليّة حتّى بهذا المعنى لا علاقة لها برفع التنافي، ولا تستوجب عدم كون الحكم الظاهريّ نقضاً للغرض، وعدم كون البراءة العقليّة نقضاً للغرض ناتج من أنّها ليست عملاً للشارع حتّى يقال: إنّ الشارع نقض غرضه، وإنّما هو حكم للعقل. وأمّا البراءة الشرعيّة فهي فعل الشارع، ولم نعرف حتّى الآن كيف لا تكون نقضاً للغرض، ولا علاقة للطوليّة بهذا المعنى بنفي كونها نقضاً للغرض، كما أنّ كون أصالة الاحتياط عند المخالفة خيالاً باطلاً ممنوع.

40

 

المختار في المسألة:

بقي الكلام فيما هو المختار في دفع إشكال التنافي بين الحكمين بحسب العقل النظريّ، فنقول: تارةً نتكلّم بناءً على طريقيّة الأحكام الظاهريّة، واُخرى بناءً على سببيّتها وكون الأمارة سبباً لحدوث المصلحة، فهنا مقامان من الكلام:

المقام الأوّل: في دفع الإشكال بناءً على طريقيّة الأحكام الظاهريّة، ومعنى طريقيّتها أنّه ليست لها مبادئ وراء مبادئ الأحكام الواقعيّة، ويتّضح ذلك مشروحاً من ثنايا الكلام. ويظهر ارتفاع الإشكال بذكر مقدّمات ثلاث:

المقدّمة الاُولى: أنّ عدم تعيّن متعلّق الغرض لا يوجب توسعة دائرة الغرض، وإنّما يوجب توسعة دائرة المحرّكيّة بلا فرق في ذلك بين الغرض التكوينيّ والتشريعيّ. مثلاً لو تعلّق الغرض التكوينيّ للشخص بإكرام العالم، وتردّد العالم بين جماعة كلّهم جهلاء ما عدا واحد منهم، فهذا الشخص قد يكون مهتـمّاً بإكرام العالم إلى درجة تبعثه نحو إكرام كلّ هؤلاء حفاظاً على إكرام العالم، ولكن هذا لا يعني توسعة دائرة غرضه، فغرضه لا زال متعلّقاً بإكرام العالم، أمّا إكرام الجاهل فلا غرض له فيه، وتردّد العالم بين جماعة لا يوجب سراية حبّه إلى إكرام باقي الأشخاص الذين هم في الواقع جهلاء ولا يحبّ إكرامهم لا حبّاً نفسيّاً ولا حبّاً مقدّميّاً، أمّا الأوّل فلأنّ ملاك الحبّ النفسيّ للإكرام عنده إنّما هو العلم، ولم يسر العلم إلى الجهلاء حتّى يحبّ إكرامهم. وأمّا الثاني فلأنّ إكرام الجاهل ليس مقدّمة لإكرام العالم. فإكرامه لتمام هؤلاء الجماعة ليس من باب توسعة الغرض، وإنّما هو من باب محرّكيّة نفس ذلك الغرض إلى إكرام الجميع، فكما أنّ ذاك الغرض يحرّكه نحو إكرام من يقطع بعالميّته، وهذا التحريك يكون بواسطة القطع، كذلك يحرّكه ـ لشدّة اهتمامه به ـ نحو إكرام من يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليه، وهذا

41

التحريك يكون بواسطة ذاك الاحتمال. هذا في مثال الغرض التكوينيّ.

وقس عليه الغرض التشريعيّ، فإنّ تعلّق غرض المولى بإكرام عبده للعالم، وتردّد العالم لدى العبد بين جماعة، فقد يأمره المولى ـ لشدّة اهتمامه بغرضه ـ بإكرام الجميع، وهذا لا يعني توسعة دائرة الغرض، بل يعني توسعة دائرة المحرّكيّة، وإنّما الفرق أنّ الغرض هنا تشريعيّ وهناك تكوينيّ، فكان التحرّك هناك إلى إكرام الجميع مباشرة، وهنا إلى تشريع وجوب الاحتياط والأمر بإكرام الجميع. ولتوهّم وقوع التوسعة في دائرة الغرض منشآن:

الأوّل: توهّم أنّ إكرام الجهلاء أصبح مقدّمة لإكرام العالم الذي وقع بينهم. ولكن نقول كما مضى: إنّ إكرام الجاهل لم يصبح مقدّمة لإكرام العالم، وإنّما أصبح مقدّمة لحصول العلم بإكرام العالم.

والثاني: أنّ توسعة دائرة الغرض مقدّمة لوصول المولى إلى غرضه من إكرام العالم؛ إذ بذلك يجب على العبد إكرام كلّ الجماعة، فيحصل ضمناً إكرام العالم، ولولا ذلك لم يتنجّز على العبد شيء، فيترك الإكرام، وبالتالي يخسر المولى غرضه.

وفيه: أنّ توسعة غرض المولى ليست اختياريّة للمولى حتّى يوسّعها مقدّمة لحصول إكرام العالم، وإنّما الحبّ أمر قهريّ يحصل من ملاك ومصلحة يراها المحبّ في المتعلّق. وقد حقّقنا فيما مضى: أنّ حصول الحبّ بملاك ومصلحة يراها المحبّ في نفس الحبّ محال.

هذا مضافاً إلى أنّ هذه التوسعة بلا موجب، فإنّه يكفي في تحرّك العبد إبراز المولى شدّة اهتمامه بإكرام العالم بحيث لا يرضى بفواته حتّى في هذه الحال، فتتحقّق بذلك المحرّكيّة العقليّة نحو إكرام الجميع.

وهذا هو الفرق في النتيجة بين القول بكون الحكم الظاهريّ من باب إبراز شدّة

42

الاهتمام وناشئاً من نفس ملاكات الواقع، والقول بكون الحكم الظاهريّ ناشئاً من ملاك في نفس الحكم، فإنّه على الثاني لا يوجب التحريك؛ لما مضى: من أنّ المحرّكيّة العرضيّة تابعة للمحرّكيّة الذاتيّة، وإذا كان الملاك في نفس الحكم فقد وصل المولى إلى غرضه بنفس الحكم، ولا يبقى شيء يوجب التحرّك الذاتيّ للعبد المخلص نحو الامتثال، وفرض الإخلاص على العبد غير المخلص بالعقل العمليّ، والإنذار بالنار والتبشير بالجنّة لا يزيد على الإخلاص الحقيقيّ، وإنّما هو مكمّل للإخلاص الحقيقيّ ومتمّم لنقصانه، فإذا لم يكن الإخلاص الحقيقيّ في العبد المخلص حقيقة محرّكاً نحو شيء فلا يتحرّك بفرض الإخلاص عليه والمحرّكيّة العرضيّة، بينما على الأوّل ـ أعني: كون الحكم الظاهريّ مبرزاً لاهتمام المولى بغرضه الواقعيّ ـ تكون المحرّكيّة الذاتيّة في العبد المخلص موجودة؛ إذ لو عرف العبد باهتمام المولى بغرضه حتّى في ظرف الشكّ يتحرّك بإخلاصه نحو الاحتياط، فالمحرّكيّة العرضيّة أيضاً موجودة للحكم الظاهريّ.

المقدّمة الثانية: أنّ التزاحم على ثلاثة أقسام:

الأوّل: تزاحم الملاكين في موضوع واحد، كما إذا كانت في فعل مّا مصلحة ومفسدة، فلا محالة يقع بينهما الكسر والانكسار، ويكون الحبّ أو البغض الفعليّ على طبق الأهمّ، ولا يبقى للآخر إلّا الحبّ أو البغض الشأنيّ، أي: لولا ابتلائه بالمعارض لكان موجباً للحبّ أو البغض، فإنّ اجتماع الحبّ والبغض على شيء واحد مستحيل، وهذا يسبّب تعارض دليلين يكشف كلّ منهما عن ملاك يزاحم ملاك الآخر في موضوعه. وهذا القسم من التزاحم لا يختصّ بالحكمين الإلزاميّين، فقد يجتمع في شيء واحد ملاك للحرمة ـ مثلاً ـ مع ملاك للإباحة ويقع بينهما الكسر والانكسار.

الثاني: تزاحم مبادئ الحكم في موضوعين بلحاظ عالم الامتثال لضيق قدرة

43

المكلّف، كما في مثال إزالة النجاسة عن المسجد والصلاة مع ضيق الوقت. وفي هذا القسم أيضاً يقدّم ما هو الأهمّ، لكن لا يوجب تقديمه سقوط مبدئ الحكم بالنسبة للآخر عن الفعليّة. وفي هذا القسم لا يعقل التزاحم بين الحكم الإلزاميّ والحكم الترخيصيّ؛ إذ لا امتثال للحكم الترخيصيّ. وهذا القسم هو التزاحم المصطلح عند المحقّق النائينيّ(رحمه الله).

الثالث: تزاحم الحكمين بلحاظ عالم المحرّكيّة، كما لو وجب إكرام العالم وحرم إكرام الجاهل، وتردّد العالم والجاهل بين مجموعة بعضهم عالم وبعضهم جاهل، فيقع التزاحم بلحاظ الأفراد لا في التأثير في تحقّق الحبّ والبغض الفعليّين؛ إذ هما على موضوعين لا على موضوع واحد، ولا بين المبادئ بلحاظ عالم الامتثال؛ إذ المكلّف قادر على امتثال كليهما، بل يقع التزاحم في عالم المحرّكيّة. وهنا أيضاً يقدّم الأهمّ، فيجعل المولى الحكم الظاهريّ على طبق ما هو الأهمّ الذي لا يرضى المولى بفواته حتّى في هذه الحال. وتقديم الأهمّ في هذا القسم أيضاً لا يوجب سقوط مبادئ الآخر عن الفعليّة، فإنّ تقديم أحد المتزاحمين إنّما يوجب سقوط الآخر عمّا تزاحما فيه وهي المحرّكيّة في المقام لا المبادئ.

المقدّمة الثالثة: أنّ مبدأ الإباحة قد يقبل التزاحم بالمعنى الثالث بينه وبين مبدأ الأحكام الإلزاميّة، فإنّ الإباحة تارةً تنشأ من عدم مبادئ الوجوب والحرمة، واُخرى تنشأ من تعلّق المبادئ بمشي المكلّف بحسب مقتضى طبعه بقطع النظر عن الإيجاب والتحريم المولويّين، والتزاحم بين مبادئ الإلزام ومبادئ الإباحة في القسم الأوّل غير معقول؛ لعدم المزاحمة بين المقتضي واللا اقتضاء. ولكنّه في القسم الثاني معقول، كما لو اقتضى ملاك لوجوب إكرام العالم وملاك آخر لجري المكلّف على مقتضى طبعه في إكرام الجاهل، ووقع الاشتباه بينهما، فيجعل المولى

44

الحكم الظاهريّ وفق الأهمّ منهما الذي يريد حفظه في هذه الحالة.

وإذا اتّضحت هذه المقدّمات قلنا: إنّه لا إشكال في الجمع بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ، لا بلحاظ التضادّ، ولا بلحاظ نقض الغرض:

أمّا بلحاظ التضادّ: فتارةً نفترض الحكم الظاهريّ إلزاميّاً، واُخرى نفترضه ترخيصيّاً:

أمّا إذا افترضناه إلزاميّاً: فلا تضادّ بينه وبين الترخيص الواقعيّ أصلاً، فإنّ الأحكام الظاهريّة الإلزاميّة تكون عند احتمال الحكم الواقعيّ الإلزاميّ تحفّظاً على الأحكام الواقعيّة الإلزاميّة، بناءً على ما هو المفروض من الطريقيّة. وقد عرفت في المقدّمة الاُولى: أنّ الغرض لا يتّسع بعدم تعيّن مصبّه، فلم يسر مبدأ الإلزام إلى موارد الترخيص الواقعيّ، كي يلزم التضادّ بلحاظ المبادئ. كما عرفت في المقدّمة الثانية: أنّ تقديم الأهمّ بحسب عالم المحرّكيّة لا يوجب زوال المهمّ، وإنّما يوجب زوال محرّكيّته. إذن فتقديم جانب الإلزام بالحكم الظاهريّ لم يوجب زوال الترخيص الواقعيّ كي يلزم التصويب.

وأمّا إذا افترضناه ترخيصيّاً: فالأمر أيضاً كذلك. فإنّ هذا الحكم الترخيصيّ جاء للتحفّظ على ملاك الإباحة الواقعيّة وأهمّيّته من ملاك الحكم الإلزاميّ، فقدّم عليه بدون أن يلزم من ذلك زوال الحكم الواقعيّ، أو اجتماع الضدّين. وهذا متصوّر في الحكم الترخيصيّ على ما عرفته في المقدّمة الثالثة: من أنّ الترخيص لا يجب أن يكون دائماً ناشئاً من عدم ملاك للحكم الإلزاميّ، بل قد يكون ناشئاً من ملاك في كون المكلّف في سعة من قبل مولويّة المولى وجارياً على ما يقتضيه طبعه بقطع النظر عن إلزام المولى.

وأمّا بلحاظ نقض الغرض: فأيضاً يظهر اندفاع هذا الإشكال ممّا ذكرناه؛ إذ تبيّن ممّا مضى: أنّ ما وقع من نقض الغرض إنّما هو نقض الغرض للتحفّظ على

45

غرض أهمّ، ونقول: إنّ ما فيه المحذور إنّما هو نقض الغرض لا بملاك التزاحم، وأمّا نقض الغرض بملاك المزاحمة لغرض أهمّ فلا محذور فيه، بل لابدّ منه.

هذا. وقد ظهر ممّا ذكرناه معنى ما كنّا نقوله: من أنّ الحكم تارةً يكون بدرجة من الأهمّيّة في حال الشكّ بحيث لا يرضى المولى بفواته في هذه الحالة، واُخرى لا يكون بتلك الدرجة ويرضى بتركه في هذه الحالة، فمعناه أنّه تارةً تكون مصلحة الحكم الإلزاميّ غير مزاحمة لمصلحة الحكم الترخيصيّ بحيث يرضى المولى بفواتها في سبيل درك مصلحة الحكم الترخيصيّ، واُخرى تكون مزاحمة لها بهذا النحو(1).

 


(1) لا يخفى أنّ افتراض أنّ الغرض والحبّ والبغض لا يتّسع بوقوع التردّد في المصداق قد يكون على ظاهره قابلاً للمناقشة، توضيح ذلك: إنّ الحبّ والبغض الراجعين إلى الأعيان لا إشكال في أنّهما يسريان من الصورة الكلّيّة إلى الصورة الجزئيّة بواسطة مراتب الانكشاف، فمن أحبّ كلّيّ الإنسان الكريم ـ مثلاً ـ ثُمَّ اعتقد ـ ولو خطأً ـ أنّ زيداً إنسان كريم سرى حبّه إلى زيد، وهذا واضح لا غبار عليه. وإنّما الكلام فيما يتعلّق الحبّ والبغض بإيجاده وهو الفعل، فلو أنّ أحداً أحبّ إكرام الإنسان الكريم، واعتقد أنّ زيداً كريم فهل يسري حبّه إلى صورة إكرام زيد التي هي أضيق من صورة إكرام الكريم، أو لا؟

إنّ القول بعدم السريان يجب أن يرجع إلى إحدى دعويين:

الدعوى الاُولى: دعوى أنّ الحبّ لا يسري من الجامع إلى الحصص، فالحبّ إذا تعلّق بإكرام الإنسان الكريم لا يسري إلى إكرام هذا الكريم وإكرام ذاك الكريم.

وهذه الدعوى إضافة إلى أنّها خلاف الوجدان يمكن البرهنة على بطلانها، بأنّ نكتة حبّ صورة الجامع ـ وهي فناء الصورة في ذي الصورة المشتمل على المصلحة بالمعنى المعقول من الفناء ـ موجودة في الحصّة أيضاً، فهي أيضاً فانية بالمعنى المعقول من الفناء في ذي الصورة المشتمل على المصلحة، فإنّ المصلحة إذا كانت في الجامع على شكل

46


مطلق الوجود إذن كلّ فرد من الأفراد يكون مشتملاً على المصلحة، وإذا كانت في الجامع على شكل صرف الوجود، فكلّ فرد مشتمل على المصلحة على تقدير عدم باقي الأفراد، وهذا يؤدّي إلى سريان الحبّ من الجامع إلى كلّ حصّة على تقدير عدم باقي الحصص (وهذا القيد ـ أعني: قيد على تقدير ـ قيد للمحبوب لا الحبّ، وإن شئت فعبّر عنه بحبّ القضيّة الشرطيّة) وقد مضى من اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث اجتماع الأمر والنهي الاعتراف بسريان الحبّ من الجامع إلى الحصّة.

الدعوى الثانية: دعوى أنّ الحبّ إنّما يسري من الجامع إلى واقع الحصّة لا بواسطة مراتب الانكشاف.

وهذه أيضاً واضحة البطلان، بداهة أنّ من أحبّ إكرام الصديق ثُمّ اعتقد في زيد خطأً أنّه عدوّه، بينما كان في الواقع من أشدّ المحبّين له، لا يحبّ إكرامه، ولا تكون صورة ـ إكرام زيد ـ الذي هو حصّة من إكرام الصديق محبوبة له، وهذا يعني أنّ الملاك في حبّ الصورة إنّما هو مطابقة الصورة لذي الصورة وفناؤها بالمعنى المعقول من الفناء في رؤية المحبّ لا في الواقع، والبرهان على ذلك هو: أنّ الفناء بالمعنى المعقول ـ وهو النظر إلى الشيء بالحمل الأوّليّ لا بالحمل الشائع ـ إنّما يتمّ بلحاظ رؤية المحبّ ونظره، أمّا الفناء الواقعيّ فلا معنى له أصلاً.

هذا، والسريان بواسطة الانكشاف في الأعيان الخارجيّة ـ كسريان حبّ كلّيّ الإنسان الكريم إلى زيد الذي اعتقدنا كرمه ـ لئن كان أكثر وجدانيّة من السريان في باب الأفعال، فلعلّ السرّ في ذلك أنّه في باب الأعيان لا يوجد إلّا الحبّ دون المحرّكيّة، ولكن في باب الأفعال الحبّ سيستتبع التحريك، فقد يتوهّم أنّ حبّ الجامع إنّما ولَّد التحريك نحو الحصّة من دون سريان الحبّ إلى الحصّة، والحاصل أنّه قد يقع الاشتباه بين الحبّ

47


والتحريك في باب الأفعال، بينما لا مورد لهذا الاشتباه في باب الأعيان.

ثُمّ إذا فرغنا عن بطلان كلتا الدعويين لم يبق مجال لتوهّم عدم توسّع دائرة الحبّ بسبب توسّع دائرة التردّد في المصداق إلّا بإحدى دعويين:

الدعوى الاُولى: أنّ يقال: إنّ الحبّ يسري من الجامع إلى الحصّة بواسطة الانكشاف، شريطة أن يكون الانكشاف مطابقاً للواقع.

وهذا غير صحيح؛ لأنّ الفناء بالمعنى المعقول ـ وهو النظر إليه بالحمل الأوّليّ لا بالحمل الشائع ـ الذي هو سرّ تعلّق الحبّ بالصورة متقوّم بذات الانكشاف، بغضّ النظر عن مطابقته للواقع أو مخالفته له.

الدعوى الثانية: أن يقال: إنّ الحبّ إنّما يسري من الجامع إلى الحصّة بواسطة الانكشاف التامّ وهو العلم، أمّا الاحتمال والتردّد فقد يوسّع من دائرة المحرّكيّة حينما توجد أهمّيّة قصوى للمحبوب ولكن لا يوسّع من دائرة الحبّ.

وهذه الدعوى لا برهان على خلافها، وإنّما يمكن نفيها بالوجدان الحاكم بأنّ تلك الأهمّيّة توجب مباشرة توسيع دائرة الحبّ، وبسبب توسّع دائرة الحبّ تتّسع دائرة المحرّكيّة.

إلّا أنّ هذه الملاحظة لو تمّت فهي لا تضرّ بصحّة الجمع الذي اختاره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ؛ وذلك لأنّ هذا الكلام إنّما يأتي في الأفعال المباشرة، وفي الأحكام المولويّة حينما تكون على شكل القضيّة الخارجيّة، ويكون أمر تشخيص المصداق بيد المولى، والمولى يأمر بالمصاديق وفق تشخيصه، أمّا الحكم المولويّ الذي يكون على شكل القضيّة الحقيقيّة، فهو يعني الحبّ والبغض القائمين على الجامع، أمّا ما يسري في نفس المولى إلى الصور الخاصّة بسبب علمه بالانطباق أو تردّده

48

ثمّ إنّ ما ذكرناه إلى الآن كان مبنيّاً على فرض أنّه لا يوجد عنصر دخيل في الحكم الواقعيّ ـ الذي نبحث عن أنّه هل ينافي الحكم الظاهريّ، أو لا؟ ـ غير المبادئ، والتشريع، والخطاب، وقد ظهر أنّ كلّ هذا لا ينافي الحكم الظاهريّ.

ولكن هناك عنصر آخر قد يدّعى دخله في الحكم، وهو عبارة عن كون الخطاب بداعي البعث والتحريك. وعندئذ قد يقال: إنّ هذا العنصر ينافي الحكم الظاهريّ؛ لعدم إمكانيّة اجتماع داعي البعث والتحريك مع الترخيص في الخلاف، فإذا ثبت الترخيص في الخلاف فقد ثبت انتفاء داعي البعث والتحريك، وهذا يخالف فرض اشتراك العالم والجاهل في الحكم بناءً على أنّ ما ثبت بدليل الاشتراك ليس هو مجرّد الاشتراك في المبادئ والجعل والخطاب فقط، بل ذلك كلّه مع داعي البعث والتحريك، فإذا لم يعقل بعث وتحريك من كان حكمه الظاهريّ الترخيص لزم من جعل الحكم الظاهريّ التصويب.

ونحن نجيب على هذا الإشكال تارةً على سبيل الإجمال، واُخرى على سبيل التفصيل:

أمّا الجواب الإجماليّ: فهو أنّ غاية ما يمكن تسليمه هي: أنّ المقدار المشترك


في الانطباق فليس العبد مسؤولاً عنه، ولذا لو علم المولى خطأ بانطباق ما فيه الغرض على مصداق وعلم العبد بخطأ المولى، فعلى العبد أن يعمل وفق علمه هو. وهذا بخلاف الحكم الذي كان على شكل القضيّة الخارجيّة وأمر المولى فيه وفق تشخيصه، فعلى العبد عندئذ أن يعمل وفق تشخيص المولى وإن علم خطأه. هذا، والتردّد الذي هو محلّ الكلام إنّما هو تردّد العبد وليس تردّد المولى، ومن الواضح أنّ تردّد العبد لا علاقة له باتّساع دائرة حبّ المولى بلحاظ المصاديق، وإنّما له علاقة بإبراز المولى شدّة اهتمامه بغرضه إلى حدّ لا يرضى بفواته حتّى في هذه الحالة، وهذا هو روح جعل الاحتياط.

49

بين العالم والجاهل إضافة إلى المبادئ والجعل والخطاب هو كون الإبراز بداعي البعث والتحريك، بمقدار ما يقتضيه نفس هذا الإبراز، أي: بداعي سدّ باب عدم التحريك من ناحية عدم الإبراز، وهذا المقدار قد حصل لا محالة؛ لأنّ هذا الباب قد انسدّ بالإبراز، وليس الشيء الواجب اشتراكه هو داعي البعث والتحريك الفعليّين، وإلّا لكان الحكم الواقعيّ منافياً للوظيفة العقليّة أيضاً؛ إذ لا يعقل بعث من تمّت عنده البراءة العقليّة.

وإن شئت فقل: إنّه يجب أن يكون المراد من الإشكال في الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ أنّه يلزم من وجود الحكم الظاهريّ انتفاء شيء من الحكم الواقعيّ مشترك بين العالم والجاهل حتّى في مورد البراءة العقليّة، فيكون عدم لزوم الاشتراك في داعي البعث والتحريك الفعليّين مفروغاً عنه؛ لعدم ثبوته في فرض البراءة العقليّة، وإنّما القدر المشترك هو داعي البعث بمقدار سدّ باب العدم من ناحية عدم الإبراز، وهذا ثابت حتّى مع البراءة الشرعيّة.

وأمّا الجواب التفصيليّ: فتوضيحه ـ بعد وضوح أنّه لا دليل مباشرة على اشتراك العالم والجاهل في البعث بعنوانه ـ: أنّ دعوى دخول داعي البعث والتحريك في القدر المشترك بين العالم والجاهل يجب أن تنشأ من أحد اُمور ثلاثة:

الأوّل: أن يقال: إنّ المفهوم من كلمة (الحكم) يشتمل على داعي البعث والتحريك، أي: أنّه لا تصدق هذه الكلمة عرفاً إلّا إذا اُبرزت المبادئ الموجودة في نفس المولى بالخطاب بداعي البعث والتحريك، وهذا بحث إثباتيّ تظهر ثمرته فيما إذا رتّب حكم على عنوان (الحكم).

وتضمّ إلى هذه الدعوى دعوى أنّ معقد إجماع المخطّئة على الاشتراك هو عنوان (الحكم)، فقالوا: إنّ الحكم مشترك بين العالم والجاهل وإنّه لا تصويب في الحكم.

50

وبمجموع هاتين المقدّمتين يثبت أنّ داعي البعث والتحريك داخل في القدر المشترك بين العالم والجاهل.

ويرد عليه:

أوّلاً: إنّ إجماع الإماميّة على بطلان التصويب إنّما ثبت متصيّداً من ذوق العلماء وكلماتهم في الموارد والمسائل المختلفة، وليست هناك عبارة معيّنة في معقد الإجماع نتمسّك بظهورها.

وثانياً: إنّنا نمنع دخل داعي البعث والتحريك في صدق عنوان (الحكم) عرفاً بأزيد ممّا يقتضيه نفس الخطاب من البعث والتحريك، وهو سدّ باب العدم من ناحية عدم الخطاب، وهذا المقدار ثابت حتّى مع وجود الحكم الظاهريّ؛ لأنّ المفروض أنّ الخطاب قد صدر وقد تمّ سدّ باب العدم من هذه الناحية.

وثالثاً: إنّنا لو سلّمنا أنّ معقد الإجماع هو (الحكم)، وسلّمنا كون (الحكم) ظاهراً في داعي البعث والتحريك الفعليّين، قلنا: إنّ ظواهر معقد الإجماع ليست كظواهر الآيات والأخبار، فإنّه يأتي في محلّه ـ إن شاء الله ـ أنّ ظهور معقد الإجماع ليس حجّة، وليس حاله حال ظهور الآيات والأخبار(1).

الثاني: أن يقال: إنّ صيغة الحكم كقوله: (صلِّ) ظاهرة في كونها بداعي البعث والتحريك، وهذا أيضاً بحث إثباتيّ عرفيّ تظهر ثمرته في دلالة الخطاب على ثبوت الملاك بشأن غير القادر وعدمه. فإن دلّ الخطاب على داعي البعث


(1) أظنّ أنّه(رحمه الله) عدل في محلّه عن هذا الرأي، حيث إنّه بعد فرض ثبوت الملازمة بين الإجماع والحكم الشرعيّ بأيّ سبب من الأسباب يكون ظهور معقد الإجماع ظهوراً لأحد المتلازمين، وبمقتضى حجّيّة مثبتات الأمارات يثبت الملازم الآخر وهو الحكم الشرعيّ على طبقه.

51

والتحريك فقد يقال بعدم شموله للعاجز؛ لعدم إمكانيّة بعثه، فلا يدلّ على ثبوت الملاك بشأنه، فيكون مقتضى الأصل الأوّليّ في الأحكام عدم ثبوت ملاكاتها بشأن العاجز، وإن لم يدلّ على كونه بهذا الداعي شمل العاجز، ويكون الأصل الأوّليّ في الأحكام ثبوت ملاكاتها بشأن العاجز، وتترتّب على ثبوت الملاك بشأن العاجز آثار منها عدم جواز التعجيز.

وعلى أيّ حال، فقد تدّعى في المقام دلالة الخطاب على البعث والتحريك، ولذا يكون مختصّاً بالقادر، وتضمّ إلى هذه الدعوى دعوى إجماع الإماميّة(1)على اشتراك ما هو المستفاد من الخطاب بين العالم والجاهل. إذن فالبعث والتحريك يجب أن يكونا ثابتين بشأن الجاهل، وهذا لا ينسجم مع الترخيص الظاهريّ في الخلاف.

والواقع: أنّه إن فرضت دعوى دلالة الخطاب على ذات البعث والتحريك فهذا غير معقول، فإنّ البعث والتحريك أثر للخطاب وفي طوله ولا يعقل كشف الخطاب عنه. وأمّا دعوى دلالة الخطاب على داعي البعث والتحريك فقد تفترض أنّها دلالة عقليّة، واُخرى تفترض أنّها دلالة عرفيّة:

أمّا الدلالة العقليّة: فمن المعلوم أنّ وجود الخطاب إنّما يدلّ عقلاً على وجود


(1) وحتّى لو لم نضمّ إليها دعوى الإجماع على الاشتراك أمكن القول بأنّ الخطابات الواقعيّة عادة لها إطلاق لفرض الجهل، بحيث لا نستطيع أن نثبت بدليل الحكم الظاهريّ عدم الحكم الواقعيّ في مورده، خاصّة في الشبهات الموضوعيّة التي لا يمكن نفي الحكم الواقعيّ فيها إلّا بنفي الموضوع، ولا يدلّ دليل الحكم الظاهريّ على عدم الموضوع، وعليه يقع التصادم بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ، إلّا أن نفترض أنّنا نرفع يدنا بالنسبة لحالة الجهل عن ظهور الخطاب على تقدير وجوده في داعي البعث، جمعاً بينه وبين الحكم الظاهريّ.

52

داعي المحرّكيّة بالمقدار الذي يترتّب عليه من المحرّكيّة دون المقدار المترتّب على غيره من المقدّمات؛ إذ صدور أيّ فعل من العاقل المختار إنّما يدلّ عقلاً على وجود داعي أثره في نفس الفاعل دون داعي أثر آخر، وهذا يعني أنّ الخطاب إنّما دلّ عقلاً على داعي سدّ باب عدم التحريك من قبله، وهذا المقدار ثابت حتّى مع وجود الحكم الظاهريّ كما هو واضح.

وأمّا الدلالة العرفيّة: فالتحقيق أنّ الخطاب إنّما يدلّ عرفاً على كونه بداعي المحرّكيّة الفعليّة على تقدير الوصول، ولهذا يختصّ بالقادر؛ إذ لا تعقل المحرّكيّة الفعليّة بشأن غير القادر على تقدير الوصول، ولذا ترى أنّه لا يصحّ أن يقال: (صلّ سواء قدرت أو لا)(1). وأمّا دلالته عرفاً على أزيد من ذلك فممنوعة، وهذا المقدار


(1) إن قلت: كذلك لا يصحّ أن يقال: (صلّ سواء قامت الحجّة على عدم وجوب الصلاة أو لا)، فلئن دلّ عدم صحّة قولنا: (صلِّ سواء قدرت أو لا) على عدم إمكان اتّجاه الحكم إلى العاجز، كذلك يدلّ عدم صحّة قولنا: (صلِّ سواء قامت الحجّة على عدم وجوب الصلاة أو لا) على عدم إمكان ثبوت الحكم الواقعيّ عند تحقّق الحكم الظاهريّ على نفيه.

قلت: ما نحسّه عرفاً من عدم صحّة القول: (صلِّ سواء قامت الحجّة على عدم وجوب الصلاة أو لا) إنّما هو من قبيل ما نحسّه عرفاً: من عدم صحّة القول: (صلِّ سواء جرت البراءة العقليّة لنفي التنجيز أو لا)، أو (صلِّ سواء قطعت بعدم وجوبها أو لا)، أو (صلِّ سواء أتيت بالصلاة أو لا). وكلّ هذا ليس من قبيل: (صلِّ سواء قدرت أو لا)، وإنّما السرّ في عدم مقبوليّة التصريح بالتسوية في هذه الأمثلة: إنّ التصريح بالتسوية بين فرضين في الحكم يفيد عرفاً عدم التعرّض لحال طرف التسوية من حيث الوجود والعدم، أي: عدم اقتضاء الخطاب لهما وجوداً أو عدماً، بينما يكون من الواضح أنّ (صلّ) يقتضي وجود

53

ثابت حتّى مع وجود الحكم الظاهريّ؛ إذ على تقدير الوصول ينتفي الحكم الظاهريّ ويكون الحكم الواقعيّ محرّكاً بالفعل.

ثمّ لو سلّمنا دلالة الخطاب على داعي المحرّكيّة الفعليّة مطلقاً، أي: حتّى على تقدير عدم الوصول، قلنا: هل المقصود مطلق المحرّكيّة ولو لم تكن بدرجة الإلزام، أو المقصود هو المحرّكيّة بدرجة الإلزام؟ فإن قصد الأوّل فهذا ثابت مع وجود الحكم الظاهريّ، فإنّ الحكم عند احتماله يكون محرّكاً في الجملة بعنوان حسن الانقياد وإن لم يكن بدرجة اللزوم، نعم لو كان الحكم الظاهريّ لزوميّاً أيضاً في قبال الحكم الواقعيّ ـ كما لو كان الحكم الواقعيّ هو الوجوب والحكم الظاهريّ هو الحرمة ـ يكون الحكم الواقعيّ ساقطاً عن المحرّكيّة رأساً، لكن هذا الإشكال لم ينشأ من الحكم الظاهريّ بما هو حكم ظاهريّ بل يكون ثابتاً حتّى لو قطع العبد بحرمة ما هو واجب في الواقع(1). وإن قصد الثاني ـ أي: ضرورة فعليّة التحريك الإلزاميّ حتّى مع عدم الوصول ـ لزم عدم انحفاظ الحكم الواقعيّ في موارد قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

 


الإتيان بالصلاة وعدم تركها، وهذا هو السرّ في عدم صحّة قولنا: (صلِّ سواء أتيت بالصلاة أو لا)، وكذلك يقتضي الخطاب بمرتبة من الاقتضاء وصوله وعدم قيام الحجّة على خلافه، وهذا هو السرّ في عدم صحّة قولنا: (صلِّ سواء جرت البراءة العقليّة أو لا)، أو (صلِّ سواء قطعت بعدم وجوبها أو لا)، أو (صلِّ سواء قامت الحجّة على عدم وجوب الصلاة أو لا).

(1) ومن هنا نستطيع أن نقول: إنّه كما لا إشكال في ثبوت الحكم الواقعيّ عند القطع بخلافه كذلك إذن لا إشكال من هذه الناحية في ثبوت الحكم الواقعيّ الوجوبيّ عند كون الحكم الظاهريّ هو الحرمة.

54

الثالث: أن يقال: إنّ داعي البعث والتحريك داخل فيما يحكم العقل بوجوب امتثاله، أي: إنّ ما يجب امتثاله عقلاً ويكون ـ على حدّ تعبيرنا ـ داخلاً في دائرة حقّ المولويّة إنّما هو الحكم المبرز بالخطاب الذي يكون بداعي البعث والتحريك، وهذا بحث ثبوتيّ، وتضمّ إلى هذه الدعوى دعوى قيام الإجماع على اشتراك كلّ ما هو دخيل في وجوب الامتثال وحقّ المولويّة على تقدير الوصول بين العالم والجاهل، فلا يصحّ ـ مثلاً ـ ما ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في مقام الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ: من تخصيص القدر المشترك بين العالم والجاهل بمجرّد الإنشاء والاعتبار؛ إذ لا يجب امتثال مجرّد الإنشاء ولو على تقدير الوصول. وممّا يكون دخيلاً في وجوب الامتثال وحقّ المولويّة هو كون الخطاب والإبراز بداعي البعث والتحريك، فلو لم يكن بهذا الداعي لم يجب امتثاله. إذن داعي البعث والتحريك مشترك بين العالم والجاهل، وهذا لا يجتمع مع الحكم الظاهريّ المرخّص في الخلاف.

والجواب: بعد وضوح أنّ افتراض تعلّق غرض المولى بذات البعث والتحريك نفسيّاً ليس دخيلاً في حكم العقل بوجوب الامتثال، وإنّما الذي يؤثّر في حكم العقل بوجوب الامتثال هو تعلّق الغرض المقدّميّ بالبعث والتحريك بأن يكون داعي البعث والتحريك بنحو المقدّميّة، ويكون الغرض الأصليّ متعلّقاً بالمحرّك إليه، والحاصل: أنّ غرض المولى المتعلّق بفعل من الأفعال لا يشترط عقلاً في وجوب امتثاله تعلّق غرض نفسيّ للمولى بالبعث والتحريك، وإنّما الشرط العقليّ في وجوب امتثاله هو أن يكون بدرجة تحرّك المولى نحو الخطاب بداعي البعث، فأغراض المولى التي ليست بدرجة تحرّك المولى نحو الخطاب بداعي البعث لا يحكم العقل بوجوب تحرّك العبد نحو إنجازها، أقول بعد وضوح هذا:

إنّ الدخيل في حكم العقل بوجوب الامتثال هو تعلّق داعي البعث المقدّميّ

55

بالخطاب بقدر مقدّميّته، أي: أنّه يشترط في كون الحكم على تقدير الوصول واجب الامتثال كونه بنحو يوجب تعلّق الداعي المقدّميّ بالتحريك بالخطاب لو كانت للخطاب مقدّميّة، وهذا المقدار ثابت حتّى مع وجود الحكم الظاهريّ على خلاف الحكم الواقعيّ، فإنّ الخطاب على تقدير مقدّميّته للتحريك يكون التحريك به مطلوباً بنحو المقدّميّة، غاية الأمر أنّه ساقط عن المقدّميّة بالفعل.

ولو سلّمنا لزوم وجود داعي التحريك بالفعل ولو نفسيّاً فلابدّ من الاكتفاء بمطلق التحريك الثابت مع وجود الحكم الظاهريّ لا خصوص التحريك بدرجة اللزوم، وإلّا سرى الإشكال إلى موارد قبح العقاب بلا بيان أيضاً(1).

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: أ نّ ما ذكرناه تامّ في فرض انسداد باب العلم، أي: عدم تمكّن المكلّف من تحصيل العلم بالحكم الواقعيّ، أمّا في مورد جعل المولى الحكم


(1) قد تكرّر الاستشهاد في الجواب الإجماليّ والتفصيليّ بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولكن الظاهر أنّ هذا الاستشهاد في غير محلّه؛ إذ بإمكان الخصم أن يدّعي أنّ الحكم، أو الخطاب، أو ما يجب امتثاله ليس مقيّداً بداعي البعث الفعليّ كي ينقض بمورد قاعدة قبح العقاب بلا بيان، أو بمورد قطع العبد خطأ بعدم الحكم، وليس مقيّداً بداعي البعث الفعليّ على تقدير الوصول كي يتمّ الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ عند عدم تماميّة الوصول، بل هو مقيّد بداعي البعث الفعليّ على تقدير عدم وجود المعذّر العقليّ.

فالمهمّ في المقام في جانب الحكم والخطاب دعوى أنّ المفهوم من كلمة الحكم عرفاً، أو المفهوم من صيغة الخطاب عرفاً إنّما هو داعي البعث الفعليّ على تقدير الوصول، وفي جانب ما يجب امتثاله عقلاً أنّه إنّما يكون مقيّداً عقلاً بداعي البعث بمقدار سدّ باب العدم من ناحية عدم الخطاب لا أكثر من ذلك من دون الاستشهاد على ذلك كلّه بمورد البراءة العقليّة، اللّهمّ إلّا إذا كان المقصود مجرّد التنبيه على الوجدان العرفيّ أو العقليّ.

56

الظاهريّ مع فرض تمكّن العبد من تحصيل العلم بالحكم الواقعيّ فقد يقال: إنّه لم يقع تزاحم بين أغراض المولى حتّى يتمّ ما ذكرناه من الجواب؛ إذ يمكن التحفّظ على كلا الغرضين اللزوميّ والترخيصيّ المتعلّقين بالمباحات وغير المباحات بتحصيل العلم ورفع الاشتباه؛ إذ بذلك يتميّز المباح من غيره، فينحفظ الغرض المتعلّق بالتوسعة في جانب المباح والغرض اللزوميّ المتعلّق بغيره.

ولكن تتميم الجواب ـ حينئذ ـ يكون بفرض أنّ تحصيل العلم وتركه الذي هو أيضاً أحد المباحات قد تعلّق غرض المولى بتوسعة حال المكلّف بالنسبة إليه وجريه على وفق طبعه بدون أن يكون ملزماً بأحد الطرفين، وعندئذ يقع التزاحم بين الأغراض اللزوميّة والأغراض الإباحيّة بما فيها هذا الغرض، فيتمّ ما مضى من الجواب حرفاً بحرف.

الأمر الثاني: أنّ هنا إشكالين آخرين واردين على مبدأ المخطّئة غير مرتبطين بالإشكال في الحكم الظاهريّ بما هو حكم ظاهريّ:

الإشكال الأوّل: أنّ ثبوت الحكم الواقعيّ في فرض العلم بالخلاف لغو؛ لعدم قابليّته في هذه الحالة للمحرّكيّة أصلاً، ولا يمكن قياسه بالحكم الواقعيّ في فرض الشكّ؛ لصلاحه للتحريك ولو لم يبلغ درجة اللزوم؛ وذلك لثبوت حسن الانقياد عند الشكّ. ويمكن تسرية هذا الإشكال ببعض الملاحظات إلى بعض موارد اُخرى، وهذا الإشكال غير مربوط بالحكم الظاهريّ؛ لتحقّقه بفرض القطع بالعدم.

الإشكال الثاني: أنّه لو ثبتت ظاهراً حرمة ما هو واجب واقعاً مثلاً، أو حصل للمكلّف خطأً العلم بحرمته فبقاء الحكم الواقعيّ عندئذ تكليف بغير المقدور، بمعنى أنّ المنقاد بوصفه منقاداً غير قادر على امتثاله؛ لأنّ فرض انقياده مساوق لفرض تركه ذاك العمل؛ لحرمته ظاهراً، أو لعلمه بحرمته، ولا يمكنه الجمع بين هذا الانقياد والحكم الواقعيّ. وهذا الإشكال غير مربوط بالحكم الظاهريّ؛ لما عرفت:

57

من تحقّقه بمجرّد فرض القطع بالحرمة.

ويأتي عين هذا الإشكال أيضاً فيما لو لم يقطع العبد بحرمة ما هو واجب واقعاً، بل كان يحتمل وجوبه ولم تنجّز الحرمة عليه ظاهراً لكن قطع بحرمة مقدّمته أو تنجّزت عليه حرمتها ظاهراً.

والجواب عن الإشكال الأوّل: أنّه لا يلزم محذور اللغويّة في الحكم، لا بلحاظ المبادئ، ولا بلحاظ الإبراز. والأوّل واضح؛ لأنّ الملاك ثابت في المتعلّق تكويناً، والحبّ والبغض ناشئان عن الملاك قهراً، فإشكال اللغويّة إنّما ينبغي أن يكون بلحاظ الإبراز. والجواب عليه: أنّ المولى لو لم يعلم بعدم ترتّب الفائدة على حكمه بالنسبة لجميع المكلّفين لم يكن الإبراز لغواً؛ إذ هو لم يخصّص الإبراز بالنسبة لشخص خاصّ، وإنّما أبرز له في ضمن الإبراز للمجموع، والمفروض ترتّب الفائدة على ذلك ولو بالنسبة لبعض الأفراد، ولم يكن إطلاق الإبراز مستوجباً لمؤونة زائدة تحتاج إلى غرض عقلائيّ متعلّق به بالخصوص.

أمّا لو علم المولى بأنّ عبيده جميعاً سوف يقطعون بخلاف حكمه مثلاً، ولن يترتّب أيّ أثر على حكمه ومع ذلك أبرز الحكم، فعندئذ لا محيص عن الالتزام بثبوت مصلحة في نفس الإبراز، ولا يكون هذا حاله حال القول بثبوت الملاك في نفس الحكم الواقعيّ دون متعلّقه، فإنّ روح الحكم هنا ثابتة، وإنّما كان الإبراز محتاجاً إلى مصلحة في نفسه لعدم قابليّته للتحريك، وهذا بخلاف ذاك الفرض المساوق لانتفاء روح الحكم.

والجواب عن الإشكال الثاني: أنّه لا يشترط في الحكم إلّا أمران:

الأوّل: كونه بداعي سدّ باب العدم من ناحيته، وهذا ثابت في محلّ الفرض، وإنّما ثبت العدم من باب آخر، وهو علمه بالحرمة مثلاً.

والثاني: القدرة، ولكن لم تكن القدرة مشروطة بعنوانها حتّى يقال فيما نحن

58

فيه بانتفاء الحكم؛ للزوم تكليف العاجز. وإنّما قلنا: إنّ ظاهر الخطاب عرفاً كونه بداعي المحرّكيّة الفعليّة على تقدير الوصول، وهذا لا يتطلّب عدا اشتراط القدرة على تقدير الوصول، وهي ثابتة فيما نحن فيه؛ إذ على تقدير وصول الحكم الواقعيّ إليه يرتفع العلم بالحرمة، أو الحكم الظاهريّ بالحرمة، ويكون قادراً على امتثال الوجوب. وهكذا الكلام في مقدّمة الواجب التي تخيّل حرمتها(1).

المقام الثاني: في دفع الإشكال بناءً على السببيّة، أعني: سببيّة الأمارة لحدوث المصلحة.

والجواب على الإشكال في هذا الفرض منحصر في افتراض أنّ الأمارة ليست سبباً لحدوث الملاك في نفس مصبّ ملاك الواقع وهو ذات الفعل، كي يلزم التنافي بين المبدأين، وإنّما هي سبب لحدوث الملاك في عنوان آخر مباين لعنوان مصبّ الحكم الواقعيّ تمام التباين، أي: لا توجد بينهما في عالم العناوين أيّ جهة اشتراك إطلاقاً، وإن اتّحدا بحسب الخارج، وذلك عبارة عن عنوان الانقياد للأمارة(2) وسلوكها وموافقتها، وبهذا يرتفع محذور اجتماع الضدّين؛ إذ الحكمان


(1) وإن شئت قلت: إنّ اشتراط القدرة إمّا هو على أساس لغويّة تكليف العاجز، أو على أساس قبحه، أو على أساس استحالته. أمّا اللغويّة فترجع إلى الإشكال الأوّل الذي مضى جوابه. وأمّا القبح ـ لو سلّم ـ فهو عبارة عن قبح تحريك من هو عاجز عن الحركة. كما أنّ الاستحالة عبارة عن استحالة تحريك العاجز، وقد عرفت أنّ الخطاب إنّما يدلّ على داعي التحريك الفعليّ على تقدير الوصول.

(2) قد يقال: إنّ هذا التقريب إنّما يتصوّر فيما إذا كان الحكم الظاهريّ إلزاماً، فيحمل على إرادة الإلزام بسلوك الأمارة، أمّا إذا كان ترخيصاً فهو لا محالة ترخيص في مخالفة الواقع، ولا معنى للسلوك هنا. إذن فهذا الجواب ناقص.

59

المتضادّان واردان على عنوانين متباينين، وقد حقّقنا في محلّه عدم استحالة اجتماع الأمر والنهي في مورد واحد إذا تعلّقاً بعنوانين متباينين في عالم العناوين. نعم، لو انحصر امتثالهما خارجاً في مورد واحد وقع التنافي بينهما بلحاظ التنجّز والامتثال. والمفروض فيما نحن فيه عدم تنجّز كليهما؛ إذ الحكم الواقعيّ قبل وصوله ليس منجّزاً(1)، وبعد وصوله يرتفع الحكم الظاهريّ، فلا منافاة بينهما بلحاظ التنجّز والامتثال أيضاً. أمّا إشكال نقض الغرض فحلّه: إنّ غرض الحكم الواقعيّ نقض لأجل الغرض الأهمّ الموجود في سلوك الأمارة، ولا محذور في نقض الغرض لأجل غرض أهمّ بل لابدّ منه.

 


وقد نقل الأخ السيّد علي أكبر ـ حفظه الله ـ من الدورة الأخيرة لدرس اُستاذنا (رضوان الله عليه) الإشكال على هذا التقريب، بأنّه إذا تمّ في مثل ما إذا كان الفعل حراماً في الواقع وقامت الأمارة على وجوبه فلا يتمّ في فرض ما إذا كان الحكم الواقعيّ هو الحرمة والظاهريّ هو الإباحة؛ لأنّ هذه الإباحة التي لها ملاك حقيقيّ إن كان متعلّقها نفس العنوان الذي تعلّق به الحكم الواقعيّ لزم وحدة العنوان، وإن كان متعلّقها هو ما يلازم ذلك العنوان من قبيل عنوان اتّباع الأمارة، فهي غير مؤمّنة عن الإقدام على العنوان الآخر الملازم له المحتمل فيه الحرمة.

إلّا أنّ الظاهر أنّ هذا الإشكال سواء كان بالصيغة التي ذكرناها أو بالصيغة التي نقلناها عن الأخ يمكن دفعه، وذلك بأن يقصد بكون المصلحة في سلوك الأمارة الترخيصيّة المصلحة في نفس أن يصحّ له العمل على طبقها، مثال ذلك: افتراض كون المصلحة في تقليد غير الأعلم الصالح لقيادة المجتمع في مقابل تقليد الأعلم غير الصالح للقيادة رغم أنّ تقليد الأعلم أحفظ للمصالح الواقعيّة في متعلّقات الأحكام.

(1) هذا إنّما يتمّ على مبنى القوم: من قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولا يتمّ على مبنانا، ولعلّه(رحمه الله) كان ناظراً في هذا الكلام إلى مبنى القوم.

60

هذا. وما ذكرناه: من فرض الملاك في سلوك الأمارة مأخوذ من الشيخ الأعظم(قدس سره)إلّا أنّه ذكر ذلك في مقام الجواب عن الإشكال بلحاظ العقل العمليّ، لا فيما نحن فيه: من دفع إشكال العقل النظريّ. وقد ذكره الشيخ(رحمه الله)بصياغة سيأتي ـ إن شاء الله ـ أنّ الاقتصار على المقدار الذي ذكره لا يصلح جواباً عن ذلك ما لم تبدّل تلك الصياغة بالصياغة التي ذكرناها.

 

الإشكال من ناحية العقل العمليّ:

وأمّا القسم الثاني من قسمي الإشكال في الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ: فهو الإشكال فيه بلحاظ العقل العمليّ من ناحية أنّ تفويت المصلحة على العبد وإلقاءه في المفسدة قبيح من الحكيم.

وهذا الإشكال لم يبق له موضوع بناءً على ما بيّنّا: من كون ما نحن فيه من باب تزاحم الأغراض وتقديم ما هو الأهمّ، وإنّما يتّجه الإشكال بناءً على غير هذا المبنى.

وقد تصدّى الشيخ الأعظم(قدس سره) لدفع الإشكال بمحاولة تصوير سببيّة للأمارة لوجود الملاك بنحو يتدارك به ما فات، وفي نفس الوقت لا يورّطنا في محذور التصويب، فذكر(قدس سره) للسببيّة أقساماً ثلاثة:

القسم الأوّل: ما سمّي بالتصويب الأشعريّ وجعل أردأ أنحاء التصويب، وهو القول بأنّ الأفعال ـ بغضّ النظر عن قيام الأمارات والاُصول ـ لا حكم لها ولا تشتمل على ملاك من ملاكات الأحكام، وإنّما قيام الأمارة أو الأصل هو السبب لتحقّق ذلك.

القسم الثاني: ما أسموه بالتصويب المعتزليّ وقالوا: إنّه خلاف الإجماع، وهو الالتزام بأنّ الأفعال بذاتها تشتمل على مصالح ومفاسد وتكون محكومة بحكم من

61

الأحكام، ولكن بقيام الأمارة أو الأصل على الخلاف تتبدّل الملاكات والأحكام إلى ما يوافق الأمارة أو الأصل.

القسم الثالث: ما عبّر عنه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بالمصلحة السلوكيّة، وهو القول بأنّ قيام الأمارة والأصل سبب لثبوت الملاك في جري العمل على طبقه، من دون أن يتبدّل الملاك الموجود في ذات الفعل أو حكمه.

هذا. وإنّما نلتزم بالمصلحة السلوكيّة بمقدار ما أوجبته الأمارة من فوات ملاك الواقع؛ لأنّ المصلحة السلوكيّة إنّما أثبتناها بالدلالة الالتزاميّة لدليل حجّيّة الأمارة المنضمّ إلى حكم العقل بقبح التفويت، وهذا لا يدلّ على أزيد من ذلك، فلو صلّى الجمعة وفقاً للأمارة مثلاً، ثُمّ انكشف خطأ الأمارة وأنّ الواجب هو الظهر، وكان ذلك بعد ذهاب وقت الفضيلة فالمصلحة السلوكيّة تثبت بمقدار الفضيلة الفائتة، ولو لم ينكشف الأمر إلّا بعد القضاء فالمصلحة السلوكيّة تكون بمقدار تدارك مصلحة الوقت أيضاً.

وبناءً على اختيار هذا القسم من السببيّة نكون قد جمعنا بين عدم التصويب وعدم ورود إشكال تفويت الملاك. أمّا الأوّل فلأنّ المفروض بقاء المتعلّق على ما عليه من مصلحة وحكم. وأمّا الثاني فلأنّ المفروض تدارك ما فات بالمصلحة السلوكيّة.

هذا ما يظهر من كلام الشيخ الأعظم(رحمه الله) في المقام.

ثُمّ أورد(رحمه الله) على نفسه بأنّ المصلحة المفروضة في العمل بالأمارة إن لم تكن تساوي المصلحة الفائتة لم يحصل التدارك التامّ، وإن كانت تساويها لزم انقلاب الواجب التعيينيّ إلى الواجب التخييريّ؛ إذ الملاك نسبته إلى الواجب الواقعيّ والجري على وفق الأمارة واحدة، فلا وجه لوجوب أحدهما تعييناً، فلزم التصويب في التعينيّة.