305

السابقة على الشيخ الطوسيّ بحاجة إلى الفحص الكامل عن وصفها كي نطّلع بقدر الإمكان على عدد العلماء الموجودين في تلك الأزمنة في كلّ عصر، ومقدار طول باعهم وسعة اطّلاعهم ومستوى فهمهم وذكائهم، كي يعرف بذلك مدى قيمة إجماعاتهم.

وهذه النكات الستّ هي النكات المهمّة في المقام لإتمام النكات(1)، وقد تكتشف بالتحقيق والتدقيق نكات اُخرى غير مهمّة.

وإذا وجد مورد يسلم فيه الإجماع عن النكات الخمس أو الستّ فيكون مورثاً للقطع، يقع الكلام عندئذ بشأن الإجماع المفترض فيه، تارةً في الإجماع الثابت محصّلاً، واُخرى في الإجماع المنقول:

 

الإجماع المحصّل:

أمّا الإجماع المحصّل: فهناك نقاش صغرويّ فيه، باعتبار أنّنا لسنا قادرين على الاطّلاع على آراء الجميع بالنسبة لأيّ عصر من العصور، ولا نقطع بعدم وجود


(1) أفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في الحلقة الثانية من كتابه (دروس في علم الاُصول) ما نصّه:

«ويتأثّر حساب الاحتمالات في الإجماع بعوامل عديدة، منها: نوعيّة العلماء المتّفقين من الناحية العلميّة ومن ناحية قربهم من عصر النصوص. ومنها: طبيعة المسألة المتّفق على حكمها وكونها من المسائل المترقّب ورود النصّ بشأنها، أو من التفصيلات والتفريعات. ومنها: درجة ابتلاء الناس بتلك المسائل وظروفها الاجتماعيّة، فقد يتّفق أنّها بنحو يقتضي توفّر الدواعي والظروف إشاعة الحكم المقابل لو لم يكن الحكم المجمع عليه ثابتاً في الشريعة حقّاً. ومنها: لحن كلام اُولئك المجمعين في مقام الاستدلال على الحكم ومدى احتمال ارتباط موقفهم بمدارك نظريّة موهونة. إلى غير ذلك من النكات والخصوصيّات».

306

فقيه وقتئذ يخالف الرأي الذي وصلنا من ذاك العصر إلّا في الضروريّات وما يتلو تلوها، فكم من فقيه لم يكتب فتواه، وكم ممّن كتب فتواه لم يصل كتابه إلينا. وغاية الأمر أن نفترض أنّ أقوال العلماء الذين وصلت إلينا أقوالهم أورثت لنا القطع بأنّ العلماء الآخرين الذين كانوا واقعين في خطّهم والتلامذة الذين تربّوا على أيديهم أيضاً كانوا يرتأون نفس الرأي، ولكن كيف نعرف آراء الآخرين الذين كانوا معاصرين لأساتذتهم وكانت لهم تحقيقات وأتباع إلّا أنّهم انقرضوا وانتهت مدرستهم وبقي هذا الخط العامّ؟! مثل ما وقع في الزمان القريب، حيث كان الشيخ هادي الطهرانيّ في عصر المحقّق الخراسانيّ والسيّد محمّد كاظم اليزديّ، وكانت له آراء وطلاّب ولكن انقرضت مدرسته وبقي هذا الخطّ الموجود الآن.

ولكن لا يخفى أنّنا لا نؤمن بالإجماع بما هو إجماع على أساس بعض المباني القديمة من الإجماع الدخوليّ أو اللطفيّ كي يقال: من المحتمل كون مَن لم نعرف رأيه هو الإمام، أو من المحتمل كون مَن لم نعرف رأيه مخالفاً لهذا القول، فلم يلزم الإجماع على الخطأ، وإنّما نؤمن بالإجماع على أساس حساب الاحتمالات واستبعاد اشتباه الجميع، فقد يحصل العلم من نفس آراء الجماعة الذين وصلت إلينا آراؤهم(1).

ثمّ إنّنا لو اكتشفنا مدرك الإجماع بتصريحهم بذلك، أو بأيّ طريق آخر: فإن كان المدرك تامّاً عندنا، كفى لنا مدركاً للحكم، وإن كان فاسداً عندنا، فمعنى ذلك


(1) أفاد (رضوان الله عليه) فيما لم أحضره في الدورة الأخيرة ـ على ما نقل عنه ـ: أنّه بما ذكرنا يظهر أنّه قد يتمّ الإجماع حتّى في مورد الخلاف فيما إذا كان المخالف نوع شخص لا يطعن بحساب الاحتمالات، بخلاف ما إذا كان المخالف ممّن هو في صميم المرتكزات الشرعيّة والمتشرّعيّة، كالمفيد والصدوق ونحوهما.

307

أنّنا قطعنا بخطئهم في نكتة إفتائهم بما أفتوا به، فلا معنى لإجراء حساب الاحتمالات لنفي الخطأ، وبالتالي لا يفيدنا إجماعهم شيئاً. وكذلك الحال فيما إذا احتملنا مدركيّة ذاك المدرك لهم، فإنّ معنى ذلك احتمال نكتة إفتائهم بما أفتوا به، ومع فرض احتمال الخطأ بالفعل لا معنى لكاشفيّة الإجماع. نعم، قد ينفعنا حساب الاحتمالات لنفي مدركيّة هذا المدرك، ونستبعد كون جميعهم معتمدين على هذا المدرك الفاسد، وعدم التفاتهم جميعاً ـ من باب الصدفة ـ إلى فساده(1).

وإذا لم نجد ما نحتمل كونه مدركاً للمجمعين فهنا قد يكشف إجماعهم بحساب الاحتمالات عن مدرك صحيح لم يصلنا وبه يثبت الحكم. وتوضيح ذلك(2): أنّنا إذا افترضنا أنّ علماء الإماميّة في عصر الغيبة الصغرى، أو بعده إلى فترة، كزمان المفيد والطوسيّ ممّن يعبّر عنهم بـ (قدماء الأصحاب) قد أجمعوا على رأي واحد ولم نجد لهم مدركاً، فعندئذ يقال: إنّه ليس من المحتمل إفتاء هؤلاء بلا مدرك، فإذا لم يكن من المحتمل غفلة هؤلاء عن أنّ هذا الرأي لا يكون موافقاً للقاعدة كي لا


(1) كما أنّه قد ينفعنا حساب الاحتمالات لإثبات صحّة المدرك الذي تمسّكوا جميعاً به إذا كنّا شاكّين في صحّته وفساده.

وأفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) فيما لم أحضره في دورته الأخيرة ـ على ما هو منقول عنه ـ: أنّ كشف الإجماع عن صحّة المدرك الذي تمسّكوا به يبتلي غالباً ببعض نقاط الضعف السابقة. نعم، لو افترضنا أنّ حدوس الفقهاء في المسألة كانت قريبة من الحسّ لكان للتمسّك بذلك وجه، كما إذا استظهروا جميعاً من اللفظ معنىً واحداً من دون إعمال قواعد التعارض والكبريات الظهوريّة المعقّدة، ففي مثل ذلك يحصل الوثوق عادةً بذاك الظهور لولا وجود نكتة خاصّة تمنع عن حصول الوثوق.

(2) من هنا إلى آخر بحث الإجماع المحصّل مأخوذ ممّا نقل عنه (رضوان الله عليه) ممّا لم أحضره في دورته الأخيرة.

308

يحتاج إلى مدرك خاصّ، فعندئذ يحصل الجزم بوجود مدرك لم يصلنا، وهذا المدرك إن كان هو دليلاً لفظيّاً لدوّنوه حتماً في مقام الاستدلال أو في مقام جمع الأحاديث، إذن فالمدرك ليس هو دليلاً لفظيّاً من هذا القبيل، بل هو ارتكاز عامّ في الطبقة التي كانت فوقهم من أصحاب الأئمّة(عليهم السلام)، وهذا الارتكاز يكشف بصورة إجماليّة عن جامع السنّة، أعني: قول المعصوم وفعله وتقريره.

والارتكاز المذكور شيء قريب من الحسّ لو لم يكن حسّيّاً، والخطأ فيه غير محتمل عادةً(1)، فيحصل بذلك القطع بالحكم الشرعيّ لكن ضمن شروط وتحفّظات يجب أخذها بعين الاعتبار.

وهناك إشكالات قد تتّجه إلى حجّيّة الإجماع نذكر منها ما يلي:

الإشكال الأوّل: أنّ فقهاء عصر الغيبة كانوا محرومين من مصاحبة الإمام، فليس إجماعهم كاشفاً عن رأي المعصوم.

والجواب: أنّنا نمتلك وسيطاً بين إجماع الفقهاء الأقدمين ورأي المعصوم، وهو الارتكاز لدى الرواة والأصحاب من المعاصرين للأئمّة(عليهم السلام)بالبيان الذي مضى.

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) من أنّ غاية ما يمكن أن يقال في تقريب حجّيّة الإجماع: أنّه من الغريب افتراض إفتائهم بلا رواية، إذن فقد عرفوا رواية تامّة لم تصلنا، ولكن توجد في قبال ذلك غرابة اُخرى، وهي أنّه لماذا لا نرى تلك الرواية في مدوّناتهم؟ على أنّه لا ضمان لنا لافتراض أنّ ما تمّ عندهم من حديث سنداً ودلالة يتمّ عندنا أيضاً سنداً ودلالة لو وصلنا.


(1) يحتمل أن يكون المقصود بذلك أنّ الارتكاز قائم على أساس الحسّ، كما يحتمل أن يكون المقصود به أنّ الإجماع قائم على أساس الإحساس بالارتكاز، وكلاهما صحيح.

309

وقد ظهر جواب هذا أيضاً بما حقّقنا: من أنّ الوسيط بين الإجماع والسنّة هو الارتكاز لا الرواية، وهذا الاستغراب بنفسه دليل على أنّ المدرك لم يكن رواية، بل كان ارتكازاً.

الإشكال الثالث: من قِبَل بعض مَن حصر الدليل الشرعيّ بالكتاب والسنّة بدعوى استفادة ذلك من روايات حصر المرجعيّة بالقرآن والسنّة، والإجماع خارج عن هذا الحصر.

وقد سبق الكلام في هذا الحصر في بحث حجّيّة الدليل العقليّ، ونقول هنا بعد فرض تسليم الحصر: إنّنا لا نرى الإجماع في عرض الكتاب والسنّة، بل نراه كاشفاً بواسطة الارتكاز عن السنّة وهي الحجّة.

هذا. ويمكن تلخيص أهمّ الخصوصيّات التي يجب أن تتواجد حتّى تتمّ كاشفيّة الإجماع في أربعة اُمور:

الأوّل: أن يكون الإجماع مشتملاً على فتاوى الأقدمين من فقهائنا الإماميّة، فإن لم تكن المسألة إجماعيّة عند الأقدمين فلا يفيدنا مجرّد إجماع الفقهاء المتوسّطين.

الثاني: أن لا يعلم استناد أصحاب الإجماع على مدرك معيّن، بل لايحتمل ذلك أيضاً احتمالاً معتدّاً به؛ إذ لو كان كذلك لكان تمحيص هذا الإجماع بتمحيص ذاك المدرك. نعم، قد يكون الإجماع مقوّياً ومؤدّياً لدليليّة الدليل.

الثالث: أن لا تكون هناك قرائن تنفي وجود الارتكاز الذي أردنا كشفه بواسطة الإجماع، وإلّا لكانت مزاحمة لكاشفيّة الإجماع، ومن أمثلة ذلك ما ذكرناه في مسألة طهارة الكتابيّ، حيث استندنا على قرائن عديدة تدلّ على عدم وجود الارتكاز على نجاسة الكتابيّ، من قبيل سنخ الأسئلة الواردة في الروايات على ألسنة الرواة، كالسؤال عن جواز الأكل معهم إذا علمنا بأنّهم يشربون الخمر.

310

الرابع: أن تكون المسألة مسألة لا يترقّب حلّها إلّا ببيان من الشارع، كنجاسة الثعلب مثلاً، أمّا ما كان يترقّب حلّها بغير تصدّي الشارع، كما إذا كانت المسألة عقليّة أو تطبيقيّة، فمن المحتمل أنّ المجمعين اعتمدوا على غير الدليل الشرعيّ.

ثُمّ الإجماع الذي تتوفّر فيه هذه الاُمور قد يكون لمعقده قدر متيقّن وإطلاق، وينبغي أن يلتفت إلى أنّ كاشفيّة الإجماع عن القدر المتيقّن في المعقد أقوى من كاشفيّته بلحاظ الإطلاق، وإن كان الإجماع قائماً على المطلق فإنّ خطأ المجمعين في تشخيص أصل الارتكاز أبعد من خطئهم في حدود هذا الارتكاز. هذا تمام الكلام في الإجماع المحصّل.

 

الإجماع المنقول:

وأمّا الإجماع المنقول ـ بعد فرض الفراغ عن أنّ الإجماع لو كان محصّلاً لكان كاشفاً عن الحكم الشرعيّ ـ: فهنا نتكلّم تارةً في نقل الكاشف وهو الإجماع، واُخرى في نقل المنكشف وهو الحكم اعتماداً على الإجماع، وثالثة في نقل جزء الكاشف بأن ينقل الناقل ـ مثلاً ـ أقوال عشرة من العلماء وكان الكاشف لدينا قول مئة مثلاً، فأضفنا إلى العشرة ما حصّلناه من قول تسعين من العلماء كي يتمّ الكاشف، فالكلام يقع في ثلاثة مسائل:

 

1 ـ نقل الكاشف:

المسألة الاُولى: في نقل الكاشف وهو أقوال العلماء، وثبوت الحكم بذلك يتوقّف على أمرين: أحدهما: حجّيّة هذا النقل لإثبات أقوال العلماء، والثاني: الملازمة بين أقوالهم والحكم الشرعيّ أو ما يقوم مقام الملازمة، كي ننتقل عن هذا الطريق إلى ثبوت الحكم الشرعيّ، أمّا مجرّد أقوال العلماء ما لم ينته إلى الحكم

311

الشرعيّ بالملازمة مثلاً، فمن الواضح أنّه لا معنى لحجّيّتها. فالكلام يقع هنا في مقامين:

المقام الأوّل: في ثبوت أقوال العلماء بخبر الواحد وعدمه. لا إشكال في ثبوتها به إلّا من ناحية كثرة التسامحات الواقعة من قِبَل ناقلي الإجماع، كما أشار إليها الشيخ الأعظم(قدس سره) في الرسائل، وقد اُشير في بعض الكتب إلى أنّ عُشراً من معشار ما وقع من المسامحات كثير فضلاً عن جميعها.

وجميع تلك المسامحات ترجع إلى المسامحة في إحدى نقاط ثلاث:

الاُولى: المسامحة في معقد الإجماع. فالإجماع واقع على كبرى من الكبريات، وهذا الناقل ينقل الإجماع على شيء يراه نتيجة لتلك الكبرى، بينما هي نتيجة لكبرى اتّفاقيّة وصغرى خلافيّة.

والثانية: المسامحة في حدود الإجماع. فالناقل يحصل له القطع بالحكم بسبب مقدار من الأقوال فيسمّي ذلك إجماعاً.

والثالثة: المسامحة في أصل الإجماع. فيرى الناقل ـ مثلاً ـ مقداراً من الأقوال، فيقطع بموافقة الآخرين على ذلك، أو يرى مدرك الحكم في غاية الوضوح، فلا يحتمل مخالفة أحد في ذلك فينقل الإجماع.

ولو اكتفينا بهذا المقدار من البيان في تقريب الإشكال فقد يجاب عليه بأنّ ظاهر كلام الناقل هو نقل الإجماع بلامسامحة، وظهور الكلام حجّة ما لم يثبت خلافه، ففي أيّ مورد عرفنا مسامحة الناقل في النقل يسقط نقله عن الاعتبار، وتبقى لنا الموارد التي لم نعلم فيها بذلك فنتمسّك فيها بظاهر النقل، ولم يثبت تغيّر مصطلحهم في الإجماع بأن يفترض أنّهم أصبحوا يقصدون بالإجماع المعنى المسامحي له، بل الظاهر من كلماتهم في الاُصول بقاؤهم على المصطلح السابق في الإجماع. إذن فما يصدر منهم في الفقه من نقل الإجماع مع المسامحة إنّما هو

312

خروج عن المصطلح ومجاز في التعبير، وليس من باب تغيير المصطلح، وعليه فمهما شككنا في هذا التجوز أخذنا بظاهر الكلام.

ولكن التحقيق: أنّ هذا الإشكال مسجّل على نقل الإجماع؛ وذلك لأنّنا حينما رأينا سبعين بالمئة ـ مثلاً ـ من نقول الإجماع مشتملة على المسامحة أوجب ذلك الاطمئنان بوقوع المسامحة في الجملة ضمن الثلاثين الباقية، فتتعارض الظهورات الثلاثون فيما بينها وتتساقط(1).

لايقال: إنّ العلم الإجماليّ بالتسامح وإن كان موجوداً ولكن يوجد أيضاً في نفس الوقت العلم الإجماليّ بعدم التسامح في بعضها، فيكون نقلهم للإجماع مثمراً عن طريق هذا العلم الإجماليّ.

فإنّه يقال: لو ثبت هذا العلم الإجماليّ لم يكن منجّزاً في المقام؛ لأنّ بعض


(1) بل لا حاجة إلى فرض العلم الإجماليّ في المقام، فإنّ ما شاهدناه: من المسامحة في الموارد السبعين مثلاً، إمّا يعني: كثرة تورّطهم في الخطأ والغفلة في خصوص نقل الإجماع، وبه تسقط أصالة عدم الغفلة العقلائيّة، ودليل حجّيّة خبر الواحد لو كان يدلّ على نفي احتمال الغفلة فإنّما هو أيضاً في حدود أصالة عدم الغفلة العقلائيّة، فهو أيضاً لايشمل المقام، أو يعني: أنّه جرى دأبهم وديدنهم في باب نقل الإجماع على المسامحة في التعبير وإرادة خلاف الظاهر، وعند هذا يسقط البناء العقلائيّ على حجّيّة الظهور، وليس هذا حاله حال مجرّد الظنّ الشخصيّ بالخلاف الذي لا يسقط الظهور عن الحجّيّة، وما ذكرناه هنا هو سنخ ما ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)بالنسبة لفرض جريان دأب الشارع وديدنه على كثرة الاعتماد على المقيّدات والمخصّصات المنفصلة: من أنّ أصالة الظهور العقلائيّة تسقط عندئذ، ولكن يبقى لنا التمسّك بسيرة المتشرّعة القائمة على العمل بالعمومات والإطلاقات الشرعيّة، بفرق أنّه فيما نحن فيه ـ وهو الإجماعات المنقولة ـ لا معنى للتمسّك بسيرة المتشرّعة، فتسقط الإجماعات عن الحجّيّة.

313

أطرافه لا يستنبطن إلزاماً جديداً، إمّا لثبوت الإلزام بقطع النظر عن الإجماع، أو لكونه إجماعاً على الترخيص لا الإلزام.

نعم، لو وجد نقل للإجماع سالم عن الطرفيّة للعلم الإجماليّ بالخلاف بسبب الاطّلاع ـ مثلاً ـ على الاهتمام الكثير لناقله بالفحص والتتبّع عن واقع الحال، لم يرد عليه هذا الإشكال.

المقام الثاني: في أنّه بعد فرض حجّيّة نقل الإجماع لو كان ذلك يؤدّي ولو بالملازمة إلى أثر شرعيّ كيف يمكن أن نثبت في المقام الانتهاء إلى الأثر الشرعيّ؟

والإشكال في المقام هو: أنّنا لو بنينا على افتراض الملازمة بين الإجماع والحكم الشرعيّ كان نقل الإجماع نقلاً بالملازمة للحكم الشرعيّ وكان حجّة، ولكنّنا قلنا فيما سبق: إنّ كشف الإجماع والتواتر ونحوهما عن صحّة الحكم المجمع عليه، أو صدق الخبر المتواتر ليس بالملازمة، وإنّما هو بحساب الاحتمالات، وحساب الاحتمالات إنّما يؤثّر أثره في الإجماع أو التواتر المعلومين وجداناً، أمّا مجرّد نقل الإجماع أو التواتر فلا يكوّن لنا حساباً للاحتمال مؤدّياً إلى إثبات صحّة المصبّ. وبتعبير آخر: إنّ الملازمة لم تكن بين الإجماع أو التواتر وصحّة الحكم أو الخبر كي يثبت الثاني بنقل الأوّل، وإنّما كانت الملازمة بين العلم بالإجماع أو التواتر والعلم بصحّة الحكم أو الخبر، ونقل الإجماع والتواتر لم يورث العلم بحسب الفرض.

ويوجد لحلّ هذا الإشكال عدّة طرق:

الأوّل: أنّنا لو بنينا على مبنى جعل الطريقيّة والعلم التعبّديّ، فخبر الواحد الدالّ على التواتر أو الإجماع قد جعل من قِبَل الشارع علماً تعبّداً، ومعنى ذلك ترتيب تمام آثار العلم وفرض أنفسنا عالمين بما أخبر به الثقة. فيثبت بذلك تعبّداً العلم

314

بصحّة الخبر أو الحكم الشرعيّ؛ إذ لو كنّا عالمين حقّاً بالتواتر أو الإجماع لعلمنا بصحّة الخبر أو الحكم الشرعيّ بلا إشكال.

ويرد عليه: أنّنا لو سلّمنا مبنى جعل الطريقيّة فنتيجته ـ كما يتّضح بمراجعة ما مضى في بحث قيام الأمارات مقام العلم ـ إنّما هي التنجيز والتعذير المترتّبين على العلم الطريقيّ، والتعبّد بالآثار الشرعيّة المترتّبة على العلم الموضوعيّ، دون التعبّد بالآثار والملازمات التكوينيّة للعلم، فمن كان علمه بحياة ولده يورث له السرور، ودلّ خبر الواحد على حياته لم يكن معنى حجّيّة هذا الخبر أن يتعبّد بكونه مسروراً ويرتّب الآثار الشرعيّة للسرور مثلاً.

الثاني: أنّه وإن لم تكن هناك ملازمة بين الإجماع أو التواتر وصحّة المصبّ ولكن تكفينا الملازمة بين العلم بالإجماع أو التواتر والعلم بصحّة المصبّ؛ لأنّ إخبار الثقة بالإجماع أو التواتر كاشف عن استعداده للإخبار بالحكم أو الخبر، وهذا الإخبار وإن لم يكن إخباراً عن الحسّ، لكنّه إخبار عن حدس يقرب من الحسّ، وهو الحدس الذي يشترك فيه جميع الناس وهو حجّة بلا إشكال. وهذا البيان إنّما يتمّ فيما إذا كان ما نقله: من الإجماع أو التواتر، بمستوى لو ثبت لأوجب لدى عامّة الناس العلم بصحّة المجمع عليه أو الخبر المتواتر، دون ما لو كان بمستوى يراه بعض الناس تواتراً مفيداً للعلم أو عدداً كافياً من آراء الفقهاء للحدس القطعيّ بالحكم، ولا يراه عامّة الناس كذلك؛ إذ عندئذ لو فرضنا أنّ الناقل كان ممّن يرى كفاية ذلك في ثبوت الحكم أو الخبر فلا يعدو إخباره عن كونه إخباراً عن حدس غير قريب من الحسّ.

ولو كان ما نقله: من الإجماع أو التواتر، بمستوى يوجب العلم لعامّة الناس بصدق الخبر أو صحّة الحكم، كفى ذلك في ثبوت الخبر والحكم، ولو فرض الناقل صدفة غير قاطع بصحّة الخبر المتواتر أو الحكم المجمع عليه لابتلائه بالوسوسة

315

وكونه بطيئاً في حصول القطع والقناعة؛ لأنّ العبرة في باب حجّيّة خبر الثقة إنّما هي باستعداده للتأكيد على الخبر على تقدير الحالة الاعتياديّة للعقلاء. وهذا حاصل في المقام، ولا يضرّ بذلك عدم تأكّده هو من الخبر على أساس وسوسة غير اعتياديّة.

أمّا إذا افترضنا أنّ ما أخبر به: من عدد آراء العلماء وأخبار الناس، لم يكن كافياً لدى عامّة الناس ـ على تقدير علمهم به ـ لحصول العلم بالمجمع عليه أو المخبر به، ولكنّه كان كافياً لذلك لدى بعض الناس ومنهم المنقول إليه، ففي حدود هذا المقدار من البيان الذي بيّنّاه تأتي شبهة أنّ هذا لا يكفي لإثبات الحكم أو الخبر سواء اقتنع الناقل بذلك أو لا، أمّا إذا لم يقتنع الناقل به فواضح؛ إذ ليس لديه إخبار بالحكم أو الخبر، وليس عدم قناعته به لأجل وسوسة غير اعتياديّة؛ لما افترضناه: من أنّ المقدار المنقول لايكفي التأكّد منه لدى عامّة الناس لحصول العلم بمصبّ الإجماع أو الخبر، وأمّا إذا اقتنع الناقل به فلا يعدو إخباره بذلك عن كونه إخباراً عن حدس غير قريب من الحسّ.

الثالث: أنّ نقل الإجماع أو التواتر أو نحو ذلك ممّا لو ثبت بالعلم المنقول إليه لَعَلِم بالحكم أو الخبر كاف لثبوت ذاك الحكم أو الخبر لديه، سواء كان ثبوت ذلك لدى عامّة الناس كافياً للعلم بالحكم أو الخبر، أو لم يكن كذلك إلّا لدى بعض الناس. وتوضيح ذلك: أنّه لا يحتمل عدم تحقّق ذاك الحكم أو الخبر إلّا من زاويتين:

الاُولى: أن يكون ما نقل إليه من الإجماع أو التواتر غير ثابت في الواقع.

والثانية: عدم ثبوت الحكم أو الخبر رغم الإجماع والتواتر.

والاحتمال الثاني مرفوض من قِبل المنقول إليه بالقطع واليقين بحسب الفرض، والاحتمال الأوّل منفيّ بحجيّة خبر الثقة.

316

الرابع: أن يقال: إنّنا حتّى الآن فرضنا أنّه لا ملازمة بين الإجماع أو التواتر وصحّة الحكم أو الخبر، وإنّما الملازمة بين العلم بهذا والعلم بذاك، ومن هنا برز الإشكال بتقريب: أنّ الإخبار عن الإجماع أو التواتر ليس إخباراً بالملازمة عن الحكم أو الأمر المنقول بالتواتر، ولكنّا نقول الآن: صحيح أنّه لا ملازمة بين الإجماع أو التواتر وصحّة المصبّ، فليس من المستحيل عقلاً الانفكاك بينهما، ولكن الملازمة الاتّفاقيّة أو العاديّة بالمعنى الذي شرحناه فيما سبق ممّا لا تنكر، فنحن نعلم أنّ اتّفاق الآراء أو الأخبار ضمن ظروف معيّنة: من عدم توفّر أسباب الخطأ أو دواعي الكذب، يلازم صحّة الحكم وصدق الخبر، وهذه الظروف والشروط محرزة ـ ولو ببركة حساب الاحتمالات ـ في كلّ إجماع أو تواتر مورث للعلم. إذن فالملازمة بين الإجماع أو التواتر مع تلك الشروط أو الظروف وبين صدق الخبر أو الحكم ثابتة، وقد أخبر المخبر بالإجماع أو التواتر عن حسّ، والمفروض أنّ ما أخبر به لو علمناه لعلمنا بصحّة مصبّه، وهذا يعني أنّنا نعتقد أنّه سنخ إجماع وتواتر ملازم في الصدق لصدق الحكم أو الخبر، فالإخبار عنه إخبار بالملازمة عن الحكم والخبر.

ويمكن الإيراد على ذلك بأنّ علمنا بتحقّق الشروط والظروف الدخيلة في الملازمة إنّما هو في طول حساب الاحتمالات، وحساب الاحتمالات يجري في كلّ فرد من الإجماعات والتواترات حتّى المستقبليّة، لكن على شكل القضيّة الخارجيّة لا الحقيقيّة. فصحيح أنّنا نعلم بأنّ التواتر لا يخطأ وأنّ علمنا هذا شامل حتّى للتواترات المستقبليّة، ولكن ليس علمنا هذا على نهج القضيّة الحقيقيّة سنخ علمنا بأنّ كلّ نقيض لو وجد يستحيل انفكاكه عن عدم النقيض الآخر، وإنّما علمنا هذا ناتج عن إجراء حساب الاحتمالات على كلّ فرد فرد من التواترات الماضية والحاليّة والمستقبليّة، ولا يشمل الأفراد الفرضيّة كما هو الحال في القضايا

317

الحقيقيّة. إذن فحينما يخبرنا المخبر بالتواتر ولا يورث لنا إخباره بذلك القطع بحصول التواتر لا نستطيع أن نقول: إنّ هذا الفرد المفترض من التواتر لو وقع حقّاً فهو ملازم لصدق الخبر، وذلك رغم علمنا بنحو القضيّة الخارجيّة بأنّ كلّ تواتر ثابت في زمان من الأزمنة محيط بظروف وشروط ملازمة للصدق، فإنّ كون هذا الفرد المفترض من تلك الأفراد الخارجيّة غير معلوم.

والتحقيق(1): أنّ الملازمة العاديّة أو الاتّفاقيّة ثابتة بنحو القضيّة الحقيقيّة. وتوضيح ذلك: أنّنا نجري حساب الاحتمالات بشأن هؤلاء العلماء أو هؤلاء الناس ـ سواء اتّفقوا بالفعل على رأي واحد أو إخبار واحد أو لا ـ لإثبات أنّه لم تتوفّر فيهم جميعاً أسباب الخطأ في رأي واحد، أو دواعي الكذب في خبر معيّن، وبهذا يثبت ـ حتّى فيما لو لم يفتوا ولم يخبروا ـ بأنّهم مكتنفون بشروط وظروف بحيث لو أفتوا بفتوى واحدة لما أمكن خطأُهم جميعاً، ولو أخبروا بخبر موحّد لكان خبرهم مستلزماً للصدق. إذن فلو أخبرنا مخبر ثقة باتّفاقهم على الرأي أو توافقهم على الإخبار، فقد أخبرنا بما يلازم صحّة الحكم وصدق الخبر، وهذا إخبار بالملازمة عن صحّة الحكم أو الخبر(2).

 


(1) هذا مأخوذ من المنقول عمّا لم أحضره في الدورة الأخيرة.

(2) ما ذكره(رحمه الله) في دورته الأخيرة: من ثبوت الملازمة العاديّة أو الاتّفاقيّة بين التواتر أو الإجماع وصحّة الخبر أو المجمع عليه، متين، وهو ينتج حجّيّة نقل الإجماع والتواتر فيما إذا كانت الملازمة لدى عامّة الناس، بل وحتّى فيما إذا كانت الملازمة لدى خصوص المنقول إليه. ولكن لا بأس بإلفات النظر إلى أنّ نكتة حجّيّة مثبتات الأمارات نسبتها إلى فرض كون الملازمة بين المعلومين أو بين العلمين على حدّ سواء، فلا خصوصيّة لفرض الملازمة بين المعلومين، فإنّ نكتة حجّيّة مثبتات الخبر: إمّا هي استعداد

318

 

2 ـ نقل المنكشف:

المسألة الثانية: في نقل المنكشف وهو رأي المعصوم(عليه السلام)، فلو فرضنا أنّ الناقل نقل رأي المعصوم اعتماداً على الإجماع ـ وهنا أيضاً نغضّ النظر عن فرض المسامحات في نقل الإجماع، كي لا يرجع الإشكال الذي ذكرناه في المقام الأوّل من بحث المسألة الاُولى ـ فعندئذ نقول: إنّ نقله لرأي المعصوم اعتماداً على


الثقة للإخبار عن اللازم أو إبرازه لهذا الاستعداد عن طريق إخباره بالملزوم، وهذا ثابت في موارد كون الملازمة ثابتة لدى عامّة الناس، وهذا الاستعداد كما هو موجود لدى الملازمة بين المعلومين كذلك هو موجود لدى الملازمة بين العلمين. وإمّا هي ما مضى: من أنّ المنقول إليه لا يحتمل نفي المدلول الالتزاميّ إلّا بنفي المدلول المطابقيّ أو رغم تحقّق المدلول المطابقيّ. والثاني منفيّ لديه بالوجدان، والأوّل منفيّ لديه بخبر الثقة. فقد أصبح الخبر بذلك كاشفاً في نظر المنقول إليه عن المدلول الالتزاميّ بمستوى كشفه عن المدلول المطابقيّ. وهذا البيان يتمّ كلّما تمّت الملازمة لدى المنقول إليه ولو لم تتمّ لدى عامّة الناس، وهذا البيان أيضاً ـ كما ترى ـ لا يختصّ بفرض الملازمة بين المعلومين بل يأتي في فرض الملازمة بين العلمين على أساس علمه بعدم الانفكاك بين المعلومين رغم عدم استحالة الانفكاك. فروح المطلب في حجّيّة مثبتات الأمارة ليست هي الملازمة بين المعلومين، بل هي أحد البيانين اللذين نسبتهما إلى فرض الملازمة بين المعلومين أو العلمين على حدّ سواء.

والبيانان يجب أن يرجعا بروحهما إلى بيان واحد؛ إذ لا قيمة لاستعداد المخبر للإخبار بالملازم لو التفت، ولا لكون المنقول إليه لا يحتمل نفي المدلول الالتزاميّ من دون نفي المدلول المطابقيّ إلّا كمنبّه على روح واحدة، وهي كون نسبة الكشف إلى المدلول المطابقيّ والالتزاميّ على حدّ سواء.

319

الإجماع لا يفيدنا شيئاً غير ما كان يفيدنا نقله للإجماع، فإنّ نقله لقول المعصوم حدسيّ واستنتاج من الإجماع بحسب الفرض، فإن كان مقدار الآراء التي يعتمد عليها هذا النقل كافياً لدى المنقول إليه للكشف عن رأي المعصوم على أساس الملازمة بين المعلومين أو على أساس الملازمة بين العلمين، فقد ثبت لديه رأي المعصوم، وإن لم يكن ذلك كافياً لدى المنقول إليه، فلا فائدة لنقل رأي المعصوم الذي عرفناه معتمداً على حدس غير مقبول لدى المنقول إليه.

 

3 ـ نقل جزء الكاشف:

المسألة الثالثة: في نقل جزء الكاشف، كما لو نقل الثقة اتّفاق عشرة من العلماء على رأي ولم يكن هذا كافياً لدينا في الكشف عن رأي المعصوم، فضممنا ذلك إلى أقوال عشرة آخرين عرفناها وجداناً أو بنقل ثقة آخر، وكان مجموع الآراء العشرين كافياً لدينا للكشف عن الحكم الشرعيّ، فهل يثبت بذلك الحكم الشرعيّ، أو لا؟

ذكر المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله): أنّ دليل الحجّيّة لا يشمل جزء الكاشف؛ لأنّ دليل الحجّيّة يدلّ على التنزيل، والتنزيل يكون بلحاظ الأحكام الشرعيّة، والمنقول في المقام لا هو حكم شرعيّ ولا هو موضوع لحكم شرعيّ. نعم، لو كان النقل نقلاً لتمام الكاشف الملازم للحكم الشرعيّ، قلنا: إنّ هذا نقل بالملازمة للحكم الشرعيّ، فيتمّ التنزيل بلحاظ الدلالة الالتزاميّة، أمّا جزء الملازم للحكم فليس ملازماً له كي يكون نقله نقلاً بالالتزام للحكم الشرعيّ(1).

ويرد عليه: أنّ الحكم الشرعيّ وإن لم يكن لازماً لجزء الكاشف على الإطلاق


(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 69 و70.

320

لكنّه لازم له على تقدير تحقّق الجزء الآخر، فالناقل ينقل بالملازمة الحكم الشرعيّ على تقدير تحقّق الجزء الآخر، وقد أحرزنا الجزء الآخر بالوجدان أو بالتعبّد. وبكلمة اُخرى: إنّ الصور العقليّة المتصوّرة في المقام ثلاث:

1 ـ عدم تحقّق مجموع جزءي الكاشف.

2 ـ الإجماع على ما هو الخطأ واقعاً.

3 ـ كون هذا الرأي رأي المعصوم.

والاحتمال الأوّل منفيّ بإخبار الثقة عن أحد الجزءين، وثبوت الجزء الآخر بالوجدان أو بخبر ثقة آخر. والاحتمال الثاني غير محتمل بحسب الفرض. إمّا على أساس الملازمة بين المعلومين، أو على أساس الملازمة بين العلمين. فينحصر الأمر في الاحتمال الثالث.

 

الإجماع المركّب:

بقي الكلام في الإجماع المركّب، وخلاصة القول فيه: أنّه تارةً نفترض أنّ صاحب كلّ من القولين أو الأقوال ينفي الاحتمال الآخر غير القولين أو الأقوال بدليل خاصّ غير دليل القول الذي اختاره، واُخرى نفترض أنّ دليله على نفي رأي جديد ليس إلّا نفس دليله على ما اختاره من القول، فلو شكّ فيه لَشكّ حتّى في نفي الرأي الجديد. ففي الفرض الأوّل قد وجد إلى صفّ الإجماع المركّب إجماع بسيط على نفي رأي جديد، وهو يكفي لنفيه بحسب الفرض. وفي الفرض الثاني لا نافي لرأي جديد إلّا الإجماع المركّب، فإن بنينا على حجّيّة الإجماع من باب دخول المعصوم في المجمعين، أو قاعدة اللطف، فنفس البيان يتمّ في الإجماع المركّب أيضاً. أمّا لو بنينا على حجّيّة الإجماع على أساس استحالة خطأ الجميع، فمن يؤمن بالاستحالة يجب أن يرى أنّه هل يؤمن بها في خصوص

321

الإجماع البسيط، أو حتّى في الإجماع المركّب. فعلى الثاني يلتزم بنفي الرأي الجديد في المقام، بخلافه على الأوّل.

أمّا نحن فقد قلنا: إنّ الكشف قائم في المقام على أساس حساب الاحتمالات وتعاضد القرائن الناقصة بعضها بالبعض، وهذا لا يأتي في الإجماع المركّب؛ لأنّنا قد أحرزنا خطأ ما عدى رأي واحد من الآراء، فقد خسرنا قسماً من القرائن الناقصة الدخيلة ـ بحسب الفرض ـ في تماميّة الكشف، والمفروض أنّهم لم يتّفقوا على نفي الرأي الجديد بغضّ النظر عن أدلّة أقوالهم المختلفة كي يبقى الكشف عن نفي الرأي الجديد ثابتاً رغم الخطأ في دليل ما اختاروه من القول(1).

وفي ختام البحث عن الإجماع نشير إلى أنّ الإجماع حينما يكون حجّة إنّما يثبت به المتيقّن إرادته من معقد الإجماع، أمّا ظهور معقد الإجماع فليس حجّة في مقام إثبات الحكم الشرعيّ؛ وذلك لأنّ ظهور معقد الإجماع ـ بعد فرض عدم انفكاك الأمر المجمع عليه عن الحكم الشرعيّ ـ ظهور للشهادة من قِبل المجمعين على حكم الشرع، ولا دليل على حجّيّة ظهور شهادتهم عليه. وبكلمة اُخرى: إنّ


(1) قد يفترض أنّ الأقوال الساقطة وإن خرجت من الحساب بلحاظ المضعّف الكمّيّ لكنّها قد تؤثّر بلحاظ المضعّف الكيفيّ. فلو كانت الأقوال الموافقة لكلّ واحد من الرأيين ـ مثلاً ـ عشرة فصحيح أنّنا اكتشفنا خطأ عشرة من الأقوال، وسقطت تلك الأقوال من الحساب الكمّيّ، ولكن افتراض غفلة عشرين عالماً عن الدليل الصحيح للرأي الصحيح في مسألة واحدة يستبطن مضعّفاً كيفيّاً يضمّ إلى المضعّف الكمّيّ الموجود في العشرة الباقية، وينشأ المضعّف الكيفيّ من اشتراك جميع الأقوال في جهة مشتركة، وهي الغفلة عن دليل الوجه الصحيح لو أخطأت جميعاً. لكن عملاً لا أظنّ أن نحصل على مورد بحيث تكون لهذا المضعّف الكيفيّ قيمة تذكر مادامت الأقوال منصبّة على رأيين مختلفين.

322

الاحتجاج بكلام شخص له أو عليه إنّما هو في طول ثبوت كون ذلك الكلام كلاماً له، فإذا نقل الراوي الثقة من المولى كلاماً مثلاً، ثبت أوّلاً ـ ولو بالتعبّد ـ أنّ هذا الكلام كلام للمولى، ثُمّ يصبح ظهور هذا الكلام حجّة للعبد على المولى، وللمولى على العبد، ولا يكون هذا الظهور حجّة بين المولى والعبد في المرتبة السابقة على ثبوت كون هذا الكلام كلامه أو في عرضه، فإنّ موضوع الحجّيّة لشخص أو عليه إنّما هو ظهور كلامه، وفيما نحن فيه لم يثبت في المرتبة السابقة على حجّيّة الظهور كلام للمولى له هذا الظهور، كي يكون هذا الظهور حجّة على المولى وعلى العبد(1).

هذا تمام الكلام في الإجماع، ولنلحق ببحث الإجماع بحثي التواتر والشهرة:


(1) لم يتعرّض اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) لمسألة حجّيّة ظهور معقد الإجماع وعدمها في أثناء البحث، وإنّما هو من إفادته خارج البحث. وعلى أيّ حال فما ذكره (رضوان الله عليه) هنا ينقض بروايات الرواة عن الأئمّة(عليهم السلام)، حيث لا إشكال في الأخذ بظواهرها مع أنّها من ظواهر شهادة الشاهد على كلام الشارع، وليست ظواهر كلام فرغنا عن كونه كلام الشارع.

أمّا الجواب عليه بأنّنا أوّلاً نثبت تعبّداً بخبر الثقة أنّ هذا كلام المولى، ثُمّ نتمسّك بظهور ما ثبت كونه كلام المولى، فيرد عليه: أنّ هذا إنّما يتمّ في موردين: أحدهما: ما لو عرفنا أنّ الناقل التزم بنقل ألفاظ الإمام(عليه السلام). والثاني: ما لو كان كلام الناقل صريحاً في أنّ كلام الإمام كان يساوي العبارة التي ذكرها في مقام النقل في الظهور تماماً. بينما الغالب أنّه ليس النقل نقلاً للعبارة، ولا هناك تصريح بمساواة عبارة الإمام وعبارته التي جاء بها في مقام النقل بالمعنى في الظهور، وإنّما هناك ظهور في ذلك، ومقتضى البيان الذي ذكره الاُستاذ (رضوان الله عليه) هو عدم حجّيّة هذا الظهور.

وأمّا الحلّ فهو أنّ دليل حجّيّة الخبر تعبّداً سواء كان عبارة عن بناء العقلاء، أو عن الدليل اللفظيّ يفهم منه حجّيّة الخبر. فبحجّيّة هذا الظهور يحرز تعبّداً ظهور كلام المولى أو صريحه، وعندئذ يحتجّ للمولى وعليه بظهور كلامه أو صريحه.

323

 

التواتر

أمّا بحث التواتر: فأساس حصول العلم في التواتر هو ما عرفته في باب الإجماع: من تراكم احتمالات الصدق وتعاضدها فيما بينها إلى أن تنقلب إلى القطع وضعف احتمال كذب المجموع بضرب القيم الاحتماليّة لكذب كلّ واحد بعضها في البعض الآخر ممّا يؤدّي إلى ضآلة احتمال كذب الخبر، إضافة إلى الضعف الناشئ من فرضيّة تماثل الصدف. وتوضيح ذلك: أنّ ضعف مخالفة الخبر المتواتر للواقع ينشأ من أمرين:

الأوّل: ما نسمّيه بالمضعّف الكمّيّ، وهو التكثّر العدديّ للأخبار المؤدّي إلى ضرب القيم الاحتماليّة للكذب بعضها في بعض، ولابدّ في حساب ذلك من النظر إلى أصل قيمة كذب كلّ خبر، فإنّ نتيجة ضرب الكسور الضئيلة أصغر من نتيجة ضرب الكسور الكبيرة. فكلّما كان احتمال الكذب منذ البدء أضعف، كان الوصول إلى العلم بتراكم الأخبار أسرع.

والثاني: ما نسمّيه بالمضعّف الكيفيّ، وهو الضعف الناشئ من تماثل الصدف المتكرّرة ووحدة مصبّ الخطأ أو مصبّ داعي الكذب، فتجمّع دواعي الكذب أو أسباب الخطأ على نقطة واحدة أبعد من انقسامها على نقاط متعدّدة، فمثلاً لو صمّم آلاف من الناس الكذّابين على اختلاق قصّة كاذبة، فاختلق كلّ واحد منهم قصّة غير قصّة الآخر لم تكن في ذلك غرابة. أمّا لو اختلق كلّ واحد منهم عين قصّة الآخر صدفة، ومن دون اطّلاع على ما اختلقه الآخر، لعدّ ذلك من أعجب الغرائب؛ لأنّ الناس مختلفون عادةً في أفكارهم وظروفهم ومصالحهم والإيحاءات التي يجدونها في أنفسهم وما إلى ذلك، فاتّفاقهم رغم كلّ هذا على اختلاق قصّة واحدة على أساس توارد الخواطر على شيء واحد بعيد غاية البُعد.

324

وكلّما تقاربت الصدف في التماثل أكثر فأكثر كان المضعّف الكيفيّ أقوى وأسرعتأثيراً في خلق العلم في النفس.

ويمكن تقسيم الأخبار المتكثّرة بلحاظ المضعّف الكمّيّ والكيفيّ إلى خمسة أقسام:

القسم الأوّل: أن لا توجد وحدة أو تقارب في المخبر به. كما لو نظرنا إلى كتاب معيّن ورد فيه عدد كبير من الأحاديث إلى حدّ لم نحتمل كذب الجميع رغم ورودها في اُمور شتّى ولا توحّد ولا تقارب بين مضامينها.

وحصول العلم في هذا القسم أبطأ منه بكثير في الأقسام الآتية؛ لعدم وجود المضعّف الكيفيّ بشكل ملحوظ، وإن كان يوجد بالدقّة المضعّف الكيفيّ بمقدار مّا ولو باعتبار وحدة زمان صدور تلك الأخبار أو اشتراكها في جامع مّا ككونها جميعاً من روايات الأحكام، ونحو ذلك من الوحدات المناسبة لاستبعاد الكذب والاشتباه. ولو لاحظنا مقداراً من الأخبار نسبتها إلى تمام العالم وخصوصيّاته مقاربة لنسبة أخبار هذا الكتاب إلى زمانه القصير وشعبته الخاصّة بأن كانت كلّ شعبة من شعب أخبار العالم أقلّ بقليل من العدد المورث للقطع بعدم كذب الجميع، ولكن المجموع كان عدداً هائلاً ـ طبعاً من غير الأخبار المقطوعة الصدق ـ إلى حدّ يقطع عادةً بعدم كذب الجميع، كان هذا قطعاً حاصلاً من محض المضعّف الكمّيّ من دون مضعّف كيفيّ إلّا بمقدار اشتراك كلّ هذه الأخبار في جامع الخبريّة(1).

 


(1) نقل عمّا لم أحضره في الدورة الأخيرة لاُستاذنا الشهيد: العدول عن كفاية المضعّف الكمّيّ وحده في الخبر المتواتر الذي لو تمّ لكان معناه أنّه لا يشترط في التواتر وحدة المصبّ، وهذا أمر غريب لا يقول به الأصحاب، ووجه العدول عنه: أنّنا لو حصلنا ـ مثلاً ـ على مئة خبر من الأخبار التي لا تصبّ في مصبّ واحد باختيارها عشوائيّاً، فمجرّد المضعّف الكمّيّ الذي هو عبارة عن ضرب القيم الاحتماليّة لكذب هذه الأخبار

325

القسم الثاني: أن تكون الأخبار المتكثّرة متوحّدة فيما بينها من مدلول تحليليّ تضمّنيّ أو التزاميّ، كشجاعة مَن نقلت عنه قضايا كثيرة تدلّ على الشجاعة مع فرض أنّ مصبّ داعي الكذب المحتمل هو المدلول المطابقيّ لتلك الأخبار لا المدلول التحليليّ.

وهذا القسم أقوى وأسرع في إيجاد العلم من القسم الأوّل؛ وذلك على أساس ما يتمتّع به من المضعّف الكيفيّ باعتبار التقارب الموجود في مصبّ داعي الكذب في هذه الأخبار؛ لأنّ المداليل المطابقيّة يوجد بينها شيء من التقارب، ولهذااشتركت في المدلول التحليليّ.

 


بعضها في بعض لا يكفي لذوبان ناتج الضرب في النفس رغم ضآلته؛ وذلك لأنّنا يوجد لدينا إلى صفّ ذلك علم إجماليّ بوجود مئة خبر كاذب ضمن مجموع الأخبار الكثيرة جدّاً، فكلّ مئة من الأخبار نختارها عشوائيّاً نحتمل لا محالة انطباق المعلوم بالإجمال عليه، وذوبان هذا الاحتمال في بعض أطراف العلم الإجماليّ دون بعض ترجيح بلا مرجّح، وذوبانه في كلّ الأطراف خلف فرض العلم الإجماليّ. إذن فلابدّ في مقام ذوبان احتمال الكذب من مضعّف كيفيّ يعالج مشكلة الترجيح بلا مرجّح، وذلك على أساس وحدة المصبّ.

نعم، لا نمنع عن حصول الاطمئنان بصدق بعض الأخبار المئة إجمالاً؛ لأنّ المضعّف الكمّيّ وحده كاف في ضآلة احتمال كذب الجميع بضرب احتمالات الكذب بعضها في بعض.

أمّا حجّيّة هذا الاطمئنان فبما أنّ حجّيّته ليست عقليّة ولو كانت حجّة فإنّما هي حجّة عقلائيّة، فدعوى حجّيّة هذا الاطمئنان الإجماليّ الناشئ من تجميع الاحتمالات في دائرة واسعة عهدته على مدّعيه.

وهذا الكلام المنقول عن دورته الأخيرة موجود أيضاً في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة من كتابه في الاُصول.

326

القسم الثالث: عين الثاني بفرق أنّنا نفرض أن مركز داعي الكذب المحتمل هو المدلول التحليليّ وهو الغالب.

وهذا أقوى وأسرع تأثيراً في حصول القطع من القسم السابق؛ لأقوائيّة المضعّف الكيفيّ فيه؛ لأجل الوحدة الحقيقيّة الموجودة في مصبّ داعي الكذب المحتمل في الأخبار، بينما في القسم الأوّل لم يكن عدا التقارب في المصبّ.

القسم الرابع: أن تتطابق الأخبار حتّى في المدلول المطابقيّ، كما لو نقلت قضيّة واحدة دالّة على شجاعة زيد ـ مثلاً ـ بنقول كثيرة، وفرضنا أنّ مركز داعي الكذب المحتمل هو المدلول المطابقيّ للقضيّة لا المدلول التحليليّ وهو الشجاعة مثلاً.

وهذا أقوى وأسرع تأثيراً في حصول العلم من القسم الثالث؛ وذلك لأنّ مصبّ داعي الكذب المحتمل وإن كان واحداً في القسم الثالث كما هو واحد في القسم الرابع(1) ولكن القسمين يختلفان في مصبّ الاشتباه والخطأ المحتمل، ففي القسم الثالث لو فرض خطأ الناقلين، فمركز الأخطاء ليس واحداً؛ لأنّ المفروض تعدّد القصص المنقولة، بينما في القسم الرابع لوفرض الخطأ في النقل كان مركز الأخطاء واحداً؛ إذ كلّهم نقلوا قصّة واحدة، وبهذا اتّضح السرّ في أقوائيّة التواتر المعنويّ من


(1) قد يقال: إنّ دائرة الوحدة في مصبّ داعي الكذب المحتمل في القسم الرابع أوسع منها في القسم الثالث؛ إذ دائرة الوحدة في المصبّ في القسم الثالث كانت عبارة عن المدلول التحليليّ، وهنا عبارة عن المدلول المطابقيّ، وهذا كاف في الأقوائيّة.

إلّا أنّ هذا لا يصلح تفسيراً لأقوائيّة القسم الرابع من الثالث بعنوانهما؛ إذ قد يفرض أمران متواتران أحدهما بالتواتر الإجماليّ والثاني بالتواتر المعنويّ مع كون المدلول التحليليّ في الأوّل بقدر المدلول المطابقيّ في الثاني سعة، وفي مثل هذا الفرض يجب أن يتجلّى الفرق الحقيقيّ بين القسمين بعنوانهما في درجة القوّة، وهذا إنّما يكون بالنكتة التي أفادها اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في المتن: من وحدة مصبّ الاشتباه في الرابع دون الثالث.

327

التواتر الإجماليّ لاختصاصه بمضعّف كيفيّ آخر.

القسم الخامس: عين الرابع إلّا أنّنا نفرض أنّ مصبّ داعي الكذب المحتمل هو المدلول التحليليّ لا المطابقيّ وهو الغالب.

وحصول العلم هنا أسرع منه في القسم الرابع؛ لاشتراكه معه في المضعّفات السابقة واختصاصه بمضعّف كيفيّ آخر، وهو: أنّه بعد أن فرض أنّ مركز داعي الكذب ـ على فرض ثبوته ـ هو المدلول التحليليّ لا المطابقيّ، فتطابقهم على مدلول مطابقيّ واحد ـ على تقدير الكذب ـ يشكّل غرابة اُخرى؛ إذ هو يعني وحدة في مركز الخيالات وتبادر الأفكار على شكل الصدفة والاتّفاق، وهذه الوحدة تشكّل مضعّفاً كيفيّاً جديداً.

وهذا هو السرّ في أنّ التواتر اللفظيّ أقوى من التواتر المعنويّ؛ لأنّ مصبّ داعي الكذب هو المعنى، فالتوافق على اللفظ المنقول وحدة إضافيّة على وحدة مصبّ داعي الكذب.

ولا نجعل التواتر اللفظيّ قسماً سادساً، فإنّ اللفظ المنقول في الحقيقة عبارة عن أفعال كثيرة اتّفق النقل في جميعها، فلو فرضت في باب نقل الفعل دون اللفظ أفعال بعدد الأفعال الثابتة في اللفظ لم يكن فرق من هذه الناحية بينهما في استبعاد الخلاف.

وقد يحصل التواتر في نقل قصّة معيّنة في خصوصيّاتها زماناً ومكاناً وغير ذلك، وهذا يؤثّر في البطء في حصول العلم؛ لوقوع التزاحم بين حسابين للاحتمال، فإنّ توافقهم على الكذب أو الخطأ في أصل القصّة صدفة وإن كان بعيداً ولكن يلزم من كونهم صادقين أن يكون أكثرهم خاطئين في الخصوصيّات، وهذا في نفسه أمر بعيد أيضاً، ومع هذا يكون التواتر غالباً تامّاً ويحصل العلم بغلبة حساب الاحتمال الأوّل على الثاني؛ لأنّ مركز داعي الكذب أو سبب الخطأ على الأوّل واحد بينما الخطأ على الثاني وقع في نقاط مختلفة، وقد مضى أنّ وحدة المصبّ وتماثل الصدف يؤثّر في قوّة الاستبعاد.

328

 

التواتر مع الواسطة:

بقي الكلام في التواتر مع الواسطة(1)، وهو ـ على ما ذكره الأصحاب ـ مشروط بحصول التواتر في كلّ طبقة متأخّرة على كلّ نقل من نقول الطبقة المتقدّمة. فلو فرضنا أقلّ التواتر مئة والناقلون المباشرون للقضيّة كانوا مئة، فقد قالوا: إنّه لابدّ في الطبقة الثانية أن يتواتر نقل كلّ واحد من اُولئك بمئة نقل، وفي الطبقة الثالثة أن يتواتر كلّ نقل في الطبقة الثانية بمئة نقل، وهكذا الحال إلى أن ينتهي الأمر إلينا.

أقول: إنّ هذا التصوير للتواتر مع الواسطة وإن كان صحيحاً لكن وقوعه خارجاً لا يعدو عادةً أن يكون أمراً خياليّاً.

ونحن لدينا ـ بحسب مبنانا في فهم التواتر ـ صورة اُخرى للتواتر غير المباشر، وهي: أن نأخذ كلّ خبر واحد من الأخبار الذي يحكي عن القضيّة بواسطة أو بوسائط، ونضيف قيمته الاحتماليّة إلى الخبر الآخر الذي يحكي أيضاً عن القضيّة بالواسطة أو الوسائط، وهكذا تتعاضد القيم الاحتماليّة ويتضاءل احتمال الكذب والخطأ في الجميع بالضرب إلى أن يحصل العلم بسبب ذوبان الاحتمال الضئيل في النفس. نعم، حصول العلم هنا أبطأ منه في الخبر بلاواسطة؛ لأنّ القيمة الاحتماليّة للخبر مع الواسطة أضعف منها للخبر بلا واسطة. وأكثر ما تثبت لدينا من تواترات إنّما تستعمل فيها هذه الطريقة لا الطريقة الاُولى.


(1) بحث التواتر مع الواسطة أخذته ممّا نقل عن القسم الذيلم أحضره من الدورة الأخيرة.

329

 

الشهرة

وأمّا بحث الشهرة: فقد نقصد بالشهرة الشهرة الروائيّة التي جعلت إحدى المرجّحات في باب الخبرين المتعارضين، ويأتي البحث عنها في باب التعادل والتراجيح إن شاء الله. واُخرى نقصد بها عمل المشهور بالخبر الذي يجعل جابراً للسند. ويأتي البحث عنه في باب حجّيّة خبر الواحد إن شاء الله. وثالثة يقصد بها الشهرة الفتوائيّة ويبحث عن مدى إثباتها لتلك الفتوى، وهذه هي المقصودة بالبحث في المقام.

والاعتماد على الشهرة الفتوائيّة تارةً يكون على أساس حصول العلم والاطمئنان، واُخرى على أساس التعبّد:

أمّا على أساس العلم والاطمئنان فالكلام فيها هو الكلام في الإجماع: من أنّ حصول القطع بذلك يكون على أساس حساب الاحتمالات، وأنّه يفترق ذلك عن باب التواتر بوجود عوائق خمسة عن حصول العلم بذلك، وتزيد الشهرة على الإجماع بضعف كمّيّ باعتبار أقلّيّة عدد المفتين، وبضعف كيفيّ باعتبار أنّ وجود المخالف يزاحم الحساب المتحصّل من آراء الموافقين(1).

هذا. وما نجده أحياناً من إفتاء المشهور بما نقطع بخطئه يضعّف لدينا قيمة الشهرة أيضاً(2).

وأمّا على أساس التعبّد فقد ذكر في مقام الاستدلال على حجّيّة الشهرة اُمور ثلاثة:

الأوّل: مقبولة عمر بن حنظلة، وفيها ـ بعد فرض السائل تساوي الراويين في


(1) هذا فيما لو عرفنا وجود المخالف.

(2) كما أنّ خطأ المشهور يضعّف لدينا قيمة الإجماع أيضاً.