126

إن كان الدليل على إمضاء السيرة كون الشارع هو أحد العقلاء وسيّدهم ثبتت بذلك صحّة النكتة أيضاً.

وإن كان الدليل على الإمضاء ما مضى: من أنّ السيرة تؤدّي إلى نقض غرض المولى فكان على المعصوم الردع عنها، فتأثير السيرة إنّما كان بمقدار العمل الواقع وقتئذ، ولا يمكن إثبات إمضاء النكتة.

وهناك وجه آخر لإثبات إمضاء السيرة، وهو التمسّك بوجوب تعليم الأحكام والحقائق الإسلاميّة على الرسول والإمام. وهذا لا يفرّق فيه بين المقدار الذي كان السكوت عنه ناقضاً للغرض وغيره. فبهذا الوجه لو تمّ يتمّ إثبات إمضاء النكتة بسعتها؛ إذ لو لم تصحّ لكان على الإمام(عليه السلام)الردع عنها من باب وجوب إيصال الحقائق الإسلاميّة وأحكام الإسلام. وهذا الوجه صحيح في الجملة(1).

 

التحرّج عن الإفتاء وفق الصناعة

وأمّا البحث عن تلك الحالة النفسيّة: فقد ذكرنا في أوّل بحث السيرة: أنّ هناك حالة نفسيّة عند كثير من الفقهاء تمنعهم عن إعمال مرّ الصناعة في مقام استنباط الحكم الشرعيّ في كثير من الموارد. ولعلّ هذه الحالة النفسيّة هي السبب للتفتيش عن أساليب استدلاليّة تلائم تلك الحالة النفسيّة، كدعوى حجّيّة الشهرة والإجماع


(1) إن كان المدرك للدلالة على الإمضاء هو العقل بلحاظ نقض الغرض ووجوب التبليغ، فلا يبعد التفصيل بين ما لو كان اقتضاء النكتة لسعة دائرة العمل في المستقبل مترقّباً وقتئذ، أو لا. فعلى الأوّل كان السكوت دليلاً على الإمضاء، بخلافه على الثاني. وإن كان المدرك للدلالة على الإمضاء هو العرف ـ بأن يقال: إنّ السكوت من قِبَل معصوم شأنه بيان الحقائق الإسلاميّة وأحكام الإسلام يدلّ عرفاً على الإمضاء ـ فقد يقال: إنّ هذا يثبت إمضاء تمام النكتة.

127

المنقول، وانجبار الخبر ووهنه بعمل الأصحاب وإعراضهم، بل قد جاء في كلمات الشيخ(رحمه الله) ما هو أشدّ من ذلك حيث يقول في بعض الروايات الصحيحة: إنّه لا يمكن الأخذ بها؛ لكونها على خلاف القواعد وموجبة لتخصيصها، فلا يؤخذ بها ما لم تعتضد بعمل المشهور. ولعلّ من القواعد التي اصطنعت على هذا الأساس هي مسألة السيرة والارتكاز، ولذلك كلّما بطلت تلك القوانين السابقة في أذهانهم توسّعوا في هذا القانون كي يفي بتلك الحالة النفسيّة، ويقوم مقام تلك القوانين. ففي كلّ مورد منعتهم حالة التحرّج عن الإفتاء فيه بمرّ الصناعة، ولا يمكنهم التمسّك بمثل الإجماعات المنقولة يتمسّكون بأذيال السيرة والارتكاز.

والكلام تارةً يقع في أصل هذه الحالة التحرّجيّة، واُخرى في هذا النزوع والاتّجاه نحو مناهج للاستدلال تناسب هذه الحالة، فنتكلّم في أمرين:

الأمر الأوّل: إنّ هذا التحرّج يصلح نشوؤه من أحد اُمور ثلاثة:

الأوّل: الاطمئنان أو العلم الشخصيّ ببطلان هذا الحكم الذي هو مقتضى الصناعة، فلا محالة يتحرّج عن الإفتاء به. وبما أنّ هذه الحال والاطمئنان لا يمكن نقلها تكويناً إلى الآخرين فيفتّش عن دليل على طبق مذاقه كي يثبت به مطلوبه للآخرين، ويوجب لهم الاطمئنان بذلك.

الثاني: أن يرى الفقيه: أنّه وإن كان شاكّاً في الحكم الفلانيّ لكن هذا الشكّ يكون على خلاف العادة والعرف؛ لتوفّر مقتضيات الاطمئنان عنده، فلا يمكنه ترتيب آثار الشكّ لنفسه بالرجوع إلى القواعد المؤمّنة، والأمارات والاُصول العقليّة والنقليّة، ولا يمكنه ترتيب آثار اليقين من الإفتاء بذلك الحكم.

أمّا ترتيب آثار الشكّ: من الرجوع إلى القواعد المؤمّنة، فقاعدة قبح العقاب بلا بيان إنّما يستقلّ بها العقل عند عدم تماميّة البيان بحسب مقتضى الطبع والعادة، دون ما إذا كان البيان تامّاً بحسب الطبع والعادة، ومع ذلك بقي الفقيه شاكّاً في

128

الحكم لوسوسة، أو نزوع خاصّ إلى التشكيك.

وأمّا القواعد النقليّة فلانصراف أدلّة أحكام الشكّ الواقعيّة والظاهريّة عن مثل هذا الشكّ. كما أنّ أدلّة أحكام القطع الموضوعيّ منصرفة عن قطع القطّاع.

وأمّا ترتيب آثار اليقين فانصراف عنوان الشكّ عن شكّه لا يوجب كونه متيقّناً بالإلزام حتّى يمكنه ترتيب آثار الإلزام والإفتاء بالإلزام.

وعلى أيّ حال، فيقع هذا الفقيه في التحرّج في هذه الحالة عن الإفتاء بمرّ الصناعة من الرجوع عن الأدلّة العقليّة والنقليّة المؤمّنة.

وكلا هذين الوجهين صحيح بعد فرض تماميّة الصغرى.

الثالث: أن يحصل للفقيه علم إجماليّ ببطلان بعض الأحكام من عدّة أحكام. وحينئذ إن كانت القواعد تفي بإبطال قسم من تلك الأحكام بقدر المعلوم بالإجمال فلا أثر عندئذ لهذا العلم الإجماليّ. وأمّا إن كانت تلك الأحكام كلّها مطابقة لمقتضى الصناعة فيقال مثلاً: إنّ هذا القانون أو هذا الحديث يلزم من الأخذ به تأسيس فقه جديد، فعندئذ يجب إجراء قوانين باب العلم الإجماليّ والتعارض.

فبالنسبة لنفس العلم الإجماليّ نقول بوجوب الاحتياط إن كان متعلّقاً بحكم إلزاميّ.

وبالنسبة للأدلّة الجارية في أطراف هذا العلم نقول: إنّها إن كانت أمارات سقطت بالتعارض. وإن كانت اُصولاً سقطت أيضاً إن كانت كلّها نافية للتكليف، بخلاف ما لو وجدت فيها اُصول مثبتة بمقدار المعلوم بالإجمال. وإن كان بعضها أمارة وبعضها أصلاً، وكان علم إجماليّ على الخلاف في خصوص دائرة الأمارات بقيت الاُصول سليمة عن المعارض فيؤخذ بها، إلّا إذا كان هناك علم إجماليّ أيضاً في خصوص دائرة الاُصول، وكانت الاُصول نافية للتكليف. وإن لم يكن علم إجماليّ على الخلاف في خصوص دائرة الأمارات فيؤخذ بالأمارات،

129

وهي تثبت بلازمها بطلان تلك الاُصول أو بعضها. فإن كان لازمها بطلان أصلمعيّن بالخصوص ـ كما لو علم إجمالاً بكذب هذه الأمارة أو ذاك الأصل بالخصوص ـ سقط ذاك الأصل عن الحجّيّة. وإن كان لازمها بطلان بعض تلك الاُصول بنحو الإجمال فهذا يوجب تعارض الاُصول في نفسها إن كانت نافية للتكليف، وإلّا فيؤخذ بالأمارات والاُصول معاً.

الأمر الثاني: إنّ هذا النزوع والاتّجاه نحو وجدان دليل وفق ما تقتضيه تلك الحالة النفسيّة لعلّه ـ والله العالم ـ من نتائج المنطق الارسطيّ القائل بأنّ الشيء لابدّ أن يكون ضروريّاً أو مكتسباً منتهياً إلى الضروريّ، فخلف هذا المنطق في الأذهان في مختلف العلوم ـ ومنها علم الفقه ـ تخيّل أنّ الإنسان غير الساذج لا ينبغي له تسليم أيّ دعوى لا تكون ضروريّة ولا منتهية إلى الضروريّات. ومن هنا يحاول الفقيه أن يجد دليلاً وفق مقصوده كي لا يكون مدّعياً لشيء بلا دليل. ولكن الواقع أنّ العلم ليس دائماً ناشئاً من البرهان، بل قد ينشأ عن علّة أثّرت في النفس تكويناً فأوجدت العلم بلا برهان. والعلم بنفسه أمر حادث قائم بممكن حادث تسيطر عليه قوانين العلّيّة والمعلوليّة، ومهما وجدت علّته يوجد العلم قهراً سواء علمت تلك العلّة أو لا، وليس حصول العلم بحاجة إلى التفتيش عن علّته كي نجدها فيوجد العلم، وليست نسبة العلم إلى علّته إلّا كنسبة الحرارة إلى علّتها، فكما أنّ الحرارة توجد بوجود علّتها سواء فتّشنا عن علّتها ووجدناها أو لا، كذلك الحال في العلم، فلا موجب لهذا النزوع والاتّجاه. نعم، لو اُريد إعطاء صفة الحجّيّة المنطقيّة للعلم يجب التفتيش عن علّته، وملاحظة مدى انطباقها على قوانين المنطق القديم(1). هذا تمام الكلام في بحث السيرة وما ألحقناه به.

 


(1) الظاهر أنّ هذا البيان صدر من اُستاذنا(رحمه الله) بعد استكشافه لمنطق حساب

130

والآن حان وقت الشروع في البحث عن حجّيّة الأمارات الشرعيّة التي يعتمد عليها في مقام استنباط الحكم الشرعيّ وهي عديدة:

 


الاحتمالات وعدم برهانيّة كثير من العلوم الموضوعيّة للإنسان، وقبل انتهائه إلى تحقيقاته النهائيّة في منطق حساب الاحتمالات وما أسماه أخيراً بالمنطق الذاتيّ، أمّا بعد ذلك فمن الواضح أنّ هذا البيان غير صحيح، فصحيح أنّ العلم موجود حادث وممكن يتبع علّته لكن العلم في غير الضروريّات إنّما يكون موضوعيّاً إذا انتهى إمّا إلى البرهان، أو إلى قوانين حساب الاحتمالات المنقّحة في بحث المنطق الذاتيّ، وإن لم ينته إلى هذا ولا ذاك، فهو علم غير موضوعيّ ناتج عن وهم، أو عن مقاييس لم يكن ينبغي للإنسان أن يحصل له العلم منها. ونفس التفتيش عن علّة هذا العلم قد يوضّح للإنسان أنّ علمه هل هو موضوعيّ، أو لا؟ فإن عرف أنّه غير موضوعيّ فقد تصبح نفس هذه المعرفة سبباً لزوال ذاك العلم. والإنسان الذي يعلم بشيء ميّال إلى معرفة سبب علمه، ومدى موضوعيّته، وعن طريق معرفة السبب يستطيع أن ينقل علمه إلى الآخرين، فليس من الصحيح القول بأنّه لا حاجة إلى التفتيش عن سبب العلم؛ لأنّه إن حصلت علّته حصل وإلّا فلا، كما لا يخفى.

131

الأمارات الظنّيّة

2

 

 

الظهور

 

○كبرى حجّيّة الظهور.

○وسائل إثبات الظهور.

 

 

 

133

 

 

 

 

 

 

 

الأمارة الاُولى: الظهور. والكلام فيها يقع تارةً كبرويّاً في حجّيّة الظهور، واُخرى صغرويّاً في طريق إثبات الظهور، فهنا مقامان:

 

كُبرى حجّيّة الظهور

أمّا المقام الأوّل: فهو في البحث عن كبرى حجّيّة الظهور، ويقع البحث فيها في جهات أربع:

الاُولى: في البحث عن نفس حجّيّته، وأنّ أيّ قسم من أقسام الحجّيّة هو الثابت للظهور؟

والثانية: في البحث عن موضوع هذه الحجّيّة وهو الظهور، وأنّه ما معنى الظهور الذي هو موضوع للحجّيّة؟

والثالثة: في البحث عن درجة أصالة الظهور ونسبتها إلى سائر الاُصول اللفظيّة، كأصالة العموم، وأصالة عدم القرينة.

والرابعة: في البحث عن تحديد هذه الحجّيّة سعةً وضيقاً، وبيان التفصيلات فيها كالتفصيل بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد وغير ذلك، وبيان ما هو التحقيق فيها.

134

 

1 ـ إثبات أصل الحجّيّة

أمّا الجهة الاُولى: فيقع البحث فيها في مرحلتين:

الاُولى: في أنّه هل تكون للظهور حجّيّة ذاتيّة كالقطع، أو لا؟

والثانية: في أنّه بناءً على عدم الحجّيّة الذاتيّة له هل دلّ دليل على الحجّيّة التعبديّة له، أو هو باق على ما يقتضيه الأصل: من عدم الحجّيّة؟

 

الحجّيّة الذاتيّة للظهور:

أمّا المرحلة الاُولى: فقد عرفت فيما سبق أنّ معنى ثبوت الحجّيّة الذاتيّة للقطع هو كون حقّ مولويّة المولى موجباً للعمل به، وأنّ من طبّق تمام أعماله نفياً وإثباتاً وفق القطع بالحكم اللزوميّ للمولى والقطع بعدمه كان مؤدّياً لحقّ المولى بحكم العقل العمليّ.

ويمكن دعوى مثل ذلك في باب الظهور بأن يقال: إنّ العقل العمليّ يحكم بأنّ العبد الذي طبّق تمام أعماله نفياً وإثباتاً وفق الطريقة التي اتّخذها المولى في مقام إيصال الحكم إلى العبد يعدّ عبداً مخلصاً لمولاه ومؤدّياً حقّه، وقوانين اللغة طريقة اتّخذها المولى في مقام إيصال أحكامه. نعم، هناك فرق بين القطع والظهور، وهو أنّ حجّيّة القطع غير قابلة للردع عنها؛ لأنّ القاطع لا يحتمل خطأ قطعه، فلا معنى لأن يقال للعبد القاطع بالإباحة مثلاً: إنّي أوجبت عليك الاحتياط بالترك. ولكن حجّيّة الظهور قابلة للردع عنها، فبإمكان المولى ـ مثلاً ـ إيجاب الاحتياط عند دلالة الظهور على الإباحة؛ لأنّ احتمال مخالفة الظهور للواقع وارد. فالحجّيّة الذاتيّة للظهور تنتهي بوصول الردع عنه، وتكون معلّقة على عدم وصول الردع.

ومن هنا قد يقال بعدم الحجّيّة الذاتيّة للظهور بالفعل لوصول الردع، إمّا بلسان

135

دليل البراءة، أو الاحتياط عند عدم العلم، وإمّا بلسان الآيات الرادعة عن العملبغير العلم. والرجوع إلى البراءة إنّما هو في فرض انحلال العلم الإجماليّ الكبير بالأحكام بعلم صغير، كأن يدّعى علم إجماليّ بوجود تكاليف في الوسائل ـ مثلاً ـ بمقدار ما يعلم إجمالاً وجوده من الأحكام مطلقاً، فينحلّ العلم بالنظر إلى الأخبار الخارجة عن كتاب الوسائل.

والتحقيق: أنّه لا مجال لجعل ما ردع عن اتّباع غير العلم ردعاً عن حجّيّة الظهور بنحو الحجّيّة الذاتيّة؛ إذ معنى حجّيّة الظهور ذاتاً هو أنّ نفس ظهور كلام المولى بما هو ظهور لكلامه موضوع لحقّ المولويّة، والمطلوب بالذات في دائرة العقل العمليّ هو العمل بظهور كلام المولى، ونحن قد علمنا بالظهور، فعملنا به يكون اتّباعاً للعلم لا للظنّ والشكّ.

وأمّا الإشكال برادعيّة مثل البراءة فالذي يمكن جعله جواباً عنه أحد أمرين:

إمّا دعوى التوسعة في جانب المعلوم، وهي دعوى قريبة جدّاً، بأن يقال: إنّ المراد من: (رفع ما لا يعلم) هو رفع ما لا يعلم من خطابات المولى، فإذا علمنا بخطاب المولى الظاهر في حكم إلزاميّ فقد حصلت الغاية، فينقطع الأصل.

وإمّا دعوى التوسعة في جانب العلم، بأن يقال: إنّ الغاية ليست هي العلم بما هو علم، بل هي العلم بما هو حجّة(1)، فيقوم مقامه كلّ حجّة دلّت على الحكم الإلزاميّ.

هذه غاية ما يمكن أن يقال في توجيه الحجّيّة الذاتيّة للظهور.

وهذه الحجّيّة لا يمكن البرهنة عليها؛ إذ مرجعها إلى دعوى أنّ حقّ المولويّة بنفسه يقتضي العمل بظواهر كلام المولى. وحقّ المولويّة وسعة دائرته وضيقها من مدركات العقل العمليّ، ولا يمكن البرهنة على مدركات العقل العمليّ، فتبقى عهدة دعوى الحجّيّة الذاتيّة للظهور على مدّعيها.


(1) أو بما هو حجّة ذاتاً.

136

 

الحجّيّة التعبّديّة للظهور:

وأمّا المرحلة الثانية: وهي أنّه بعد فرض عدم الحجّيّة الذاتيّة للظهور هل يكون حجّة تعبّداً، أو لا؟ فلا ينبغي الإشكال في حجّيّة الظهور تعبّداً على تقدير عدم كونه حجّة ذاتاً، على خلاف في أنّ حقيقة التصرّف الشرعيّ الذي يمنح الحجّيّة التعبديّة للشيء هل هو عبارة عن جعل حكم حقيقة كما هو المشهور، أوعن الإخبار بشدّة الاهتمام بأغراضه بدرجة لا يرضى بفوتها من ناحية ترك العمل بالشيء الفلانيّ الذي جعله حجّة كما هو الحقّ. فعلى أيّ تقدير لا إشكال في أنّ الظهور إن لم يكن حجّة ذاتاً فقد جعله الشارع حجّة تعبّداً، والدليل على الحجّيّة التعبديّة للظهور تارةً هو سيرة المتشرّعة، واُخرى هو السيرة العقلائيّة:

 

الاستدلال بسيرة المتشرّعة:

أمّا سيرة المتشرّعة: فهي أتقن دليل في المقام وأحسنه، ونقول في تقريبه: إنّه لو لم يكن الظهور حجّة عند أصحاب الأئمّة(عليهم السلام) لكان للظهور بديل يعملون به، كالاحتياط، أو الأخذ دائماً بخلاف الظاهر، أو القرعة، أو غير ذلك، ولكان يصلنا هذا البديل ولو عن طريق الآحاد، فإنّه مهمّ في الغاية في تأريخ الفقه، وقد مضى تفصيل الكلام في هذا الاُسلوب من إثبات السيرة المعاصرة لزمان المعصوم في بحث السيرة.

وتمسّك المتشرّعة بظواهر كلمات الشارع هل هو سيرة لهم ناشئة في طول استفادة الحكم الشرعيّ كما يكون الأمر كذلك في غالب سير المتشرّعة، أو أنّه تطبيق للسيرة العقلائيّة مع الغفلة عن احتمال عدم الإمضاء؟ لا إشكال في أنّ عملهم ابتداءً كان تطبيقاً للسيرة العقلائيّة، ولكن من القريب جدّاً أن يكون عملهم في الزمان المتأخّر عن وعي والتفات وإثبات رضا الشارع بالاستيذان منه أو بعدم

137

ردعه لعملهم في المرحلة الاُولى مثلاً، فإنّ المسائل الاُصوليّة كانت منتشرة عندئذ ومبحوثة عند الناس وملتفتاً إليها عند الشيعة، فالظاهر أنّ الشيعة راجعوا الأئمّة(عليهم السلام) في ذلك، أو على الأقلّ عملوا بالظواهر في طول عدم ردع الشارع عن السيرة قبل هذا، فسيرتهم عقلائيّة ابتداءً ومتشرّعيّة بقاءً.

وهنا لا مجال للإشكال بأنّ هذه السيرة مردوعة من قِبَل الشارع بآيات النهي عن العمل بغير العلم، أو أدلّة البراءة، أو نحو ذلك؛ لأنّنا نتكلّم عن سيرة المتشرّعة لا العقلائيّة، وهي بنفسها في طول الحكم الشرعيّ، ونستكشف الحكم الشرعيّ منها من باب كشف المعلول عن علّته، ونخصّص بذات الحكم أدلّة حرمة العمل بغير العلم، وأدلّة البراءة ونحوها بناءً على شمولها لمحلّ الكلام(1).

 


(1) المقصود بتطبيق سيرة المتشرّعة على المقام يمكن أن يكون أحد أمرين:

الأوّل: ما عرفته في المتن من دعوى سيرة المتشرّعة بمعناها الخاصّ، أعني: السيرة النابعة ولو بقاءً عن كونهم متشرّعين.

وقد يؤيّد وجود سيرة للمتشرّعة بالمعنى الخاصّ على العمل بالظهور في قبال سيرة العقلاء، بوجود مورد افتراق لها عن سيرة العقلاء كما في مورد مخصّصيّة القياس ومقيّديّته للظهور بناءً على عقلائيّة القياس في مقام العامّ والمطلق، فالعقلاء بما هم عقلاء قد لا يعملون بالظهور في مثل هذا المورد، ولكن المتشرّعة العارفين بردع الشارع عن القياس يعملون بالظهور في ذلك.

إلّا أنّ هذا التأييد في غير محلّه؛ لأنّ العقلاء في مورد مخصّصيّة القياس بانون على الحجّيّة اللولائيّة للظهور، أي: أنّه لولا حجّيّة المخصّص فالظهور حجّة. فمن المحتمل أنّ المتشرّعة حينما عرفوا تحقّق ما علّقت عليه الحجّيّة العقلائيّة وهو عدم حجّيّة المخصّص عملوا بالظهور بطبعهم العقلائيّ.

138


الثاني: دعوى سيرة المتشرّعة بمعناها العامّ، أي: السيرة الملتزم بها عامّة المتشرّعين، ولو فرض كونها نابعة عن كونهم عقلاء. وسيرة المتشرّعة بهذا المعنى حتّى إذا كانت حدوثاً وبقاءً نابعة من الطبع العقلائيّ فبقاؤها يكون في طول رضا الشارع؛ إذ لو لم يرض بها لهدمها، فلا مجال في المقام للإشكال باحتمال الردع بآيات النهي عن العمل بغير العلم، أو أدلّة البراءة مثلاً؛ إذ لو كفى هذا لهدم السيرة لانهدمت ولما كانت ثابتة في زمان الأئمّة(عليهم السلام) بينما المفروض خلافه، ولو لم يكف ذلك للهدم ولم يرض بها الأئمّة(عليهم السلام)لهدموها ببيانات اُخرى، فاستمرارها معلول لرضا الشارع، وكاشف إنّيّ عن رأي الشريعة.

وقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ السيرة تارةً هي عقلائيّة، واُخرى متشرّعيّة بالمعنى الخاصّ، وهي التي التزموا بها بما هم متشرّعة، وثالثة متشرّعيّة بالمعنى العامّ، وهي التي التزم بها المتشرّعة إن كان التزامهم بها مأخوذاً من العقلاء.

والاستدلال بالسيرة العقلائيّة يتوقّف على مقدّمتين:

1 ـ إنّ الشارع لو لم يرض بها لردع عنها.

2 ـ إنّه لو ردع عنها لوصل الردع إلينا.

والاستدلال بسيرة المتشرّعة بالمعنى الخاصّ ليس بحاجة إلى شيء من هاتين المقدّمتين؛ لأنّها مأخوذة من الشارع.

والاستدلال بسيرة المتشرّعة بالمعنى العامّ يتوقّف على المقدّمة الاُولى؛ لأنّها مأخوذة من العقلاء لا من الشارع. ولا يتوقّف على المقدّمة الثانية؛ لأنّ نفس استقرارها يدلّ على عدم الردع؛ إذ لو ردع الشارع عن ذلك لانهدمت سيرة المتشرّعة، وكلا القسمين مشتركان في أنّه لو كان على خلاف السيرة إطلاق أو عموم أو ظهور كانت السيرة مقيّدة للإطلاق ومخصّصة للعموم وموجبة لتوجيه الظهور وتأويله، وليس الإطلاق أو العموم أو

139

 

الاستدلال بالسيرة العقلائيّة:

وأمّا السيرة العقلائيّة: فالذي ادّعاه الأصحاب(قدس سرهم) في المقام هو أنّ العقلاء قد قامت سيرتهم على الحجّيّة التعبّديّة للظهور، وأنّ الشارع قد أمضى ذلك.

ونحن نتكلّم تارةً في الجملة الاُولى من كلامهم، واُخرى في الجملة الثانية منه:

أمّا الجملة الاُولى ـ وهي قولهم: إنّ سيرة العقلاء قامت على الحجّيّة التعبّديّة للظهور ـ: فالمراد من ذلك أحد أمرين:

الأوّل: ما لعلّه الظاهر من كثير من كلماتهم، وهو: أنّ العقلاء يعملون دائماً في اُمورهم المعاشيّة ومقاصدهم وأغراضهم التكوينيّة على طبق الظهور. فترى أنّ من يسأل الطبيب عن دوائه ويفتيه بشيء مّا لا يعتني باحتمال إرادة الطبيب خلاف الظاهر، ولا يقتصر على النصّ الصريح من الطبيب المصون عن احتمال الخلاف، بل يعمل بظواهر كلامه. وكذلك من يراجع المهندس، أو الصديق، أو من هو طرف له في معاملة مّا، أو أيّ شخص آخر في أيّ حاجة من حاجاته يبني على ظاهر الكلام. وعلى هذا قام أساس معاش الناس وأغراضهم.

ولكن هذا الوجه في غاية الضعف؛ إذ إنّ هذا العمل غير مرتبط بجعل الحجّيّة أصلاً، وليس العاقل يجعل حجّيّة لظاهر كلام الطبيب، أو المهندس، أو غيرهما حتّى يعمل به، وإنّما يعمل بالظواهر باعتبار مقدار أهمّيّة أغراضه ودرجة محرّكيّتها له. فإذا كان غرضه في غاية الأهمّيّة بحيث يحرّكه نحو سدّ


الظهور رادعاً عنها. أمّا الأوّل فواضح. وأمّا الثاني فلأنّ المفروض أن يصل من الشارع ردع يهدم سيرة المتشرّعة، ويمنع عن وجودها بينما المفروض ثبوتها واستقرارها.

140

باب الاحتمال الضعيف للفوت عمل بالاحتياط، وإذا كان بمستوى لا يحرّكه إلى أكثر من العمل بالظاهر، ولا يجذبه نحو مراعاة احتمال خلاف الظاهر عمل بالظاهر بلاحاجة إلى جعل حجّيّة له. وإنّما هذا الجعل لغو وفضول من الكلام(1).

الثاني: إنّ كلّ عاقل من العقلاء لو سألته عن حال عبد طبّق تمام أعماله على طبق ظواهر كلام مولاه لأجاب بأنّه نِعْم العبد، وأنّه مخلص لمولاه، وليس مقصّراً بشأن مولاه.

وهذا الوجه إن قصد به أنّ كلّ عاقل يمدح هذا العبد ويحكم بعدم تقصيره بغضّ النظر عن أنّه هل جعل مولاه حجّيّة للظهور في حقّه أو لا، فهذا في الحقيقة يرجع:

إمّا إلى حكم العقلاء بالحجّيّة الذاتيّة للظهور. وهذا خلاف فرضهم، فالمدّعى لهم قيام السيرة العقلائيّة على الحجّيّة التعبّديّة للظهور، ولهذا يبحثون عن أنّ العقلاء هل جعلوا للظهور الطريقيّة، أو التنزيل، أو غير ذلك.

أو إلى أنّ كلّ عاقل بنفسه يجعل ظهور كلام أيّ مولى من الموالي حجّة على عبده، فيمدح ذاك العبد بعمله بظاهر كلام مولاه ويثني عليه. وهذا كما ترى فضول من الكلام، فإنّ جعل الحجّيّة على العبد وعدمه إنّما هو من وظيفة مولى ذاك العبد، فإن شاء جعله حجّة له، وإن لم يشأ لم يجعله حجّة له، ولا أثر لجعل شخص آخر ظاهر كلام مولى حجّة على عبده، وهو لغو صرف.

وإن قصد به أنّ كلّ عاقل من العقلاء لو تقمّص قميص المولويّة لجعل ظاهر


(1) نعم، يمكن تتميم هذا الوجه بإضافة نكتة سيأتي بيانها من قِبَل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بعد شرح كيفيّة إثبات إمضاء الشارع للسيرة العقلائيّة في المقام.

141

كلامه حجّة لعبده، فهذا كلام صحيح لا إشكال فيه(1).

وأمّا الجملة الثانية ـ وهي قولهم: إنّ الشارع قد أمضى هذه السيرة العقلائيّة ـ: فلإثبات هذا الإمضاء طريقان:

الأوّل: إثبات ذلك من باب قياس المساواة، أو الأولويّة باعتبار أنّ الشارع أحد العقلاء بل سيّدهم فلا محالة يسلك سلوك العقلاء.

وقد مضى إبطال هذا الوجه في بحث السيرة. ونقول في المقام: إنّ هذا الوجه لو تمّ في نفسه في محلّه لا يمكن تطبيقه على ما نحن فيه؛ لأنّ بناء الشارع على التقطيع في مقام البيان، والاعتماد دائماً على القرائن المنفصلة، والمخصّصات والمقيّدات المستقلّة، بينما بالنسبة لسائر العقلاء يكون التقطيع حالة استثنائيّة، ونحن لم نر عاقلاً غير الشارع كان بناؤه على التقطيع كي نرى أنّه هل جعل الظهور حجّة فيقاس الشارع به، أو لا؟

الثاني: أنّ بناءهم على الحجّيّة فيما بينهم وجريهم عليها، واعتمادهم دائماً على الظهور يوجب تكوّن عادة وقريحة في نفوسهم بحيث يمشون عليها في الشرعيّات أيضاً، فلو لم يكن ذلك ممضى عند الشارع لكان يردع عنه؛ لأنّ ذلك يشكّل خطراً على أغراض المولى ولو على مستوى مشي كثير من المتشرّعة لا تمامهم وفق هذه السيرة.

ولا يقال: إنّ الردع قد حصل بأدلّة البراءة.


(1) وهنا معنى آخر يمكن أن يقصد في المقام، وهو: أنّ العقلاء حينما يجعلون مولويّة عقلائيّة لأحد على أحد يجعلون مولويّته في دائرة ظواهر كلامه، ولا يعطونه مولويّة أوسع بحيث تقتضي احتياط العبد حتّى بلحاظ الاحتمالات المخالفة للظهور. وهذا المعنى أيضاً صحيح لا إشكال فيه.

142

لأ نّا نقول بالتوسعة في متعلّق العلم الذي اُخذ غاية للأصل، وأنّ المقصود به هو خطابات المولى(1).

ولا يقال أيضاً بالردع بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم. فإنّك قد عرفت أنّ الردع يكون لأجل دفع الخطر عن أغراض المولى. إذن فكلّما كانت السيرة أقوى وأشدّ يجب أن يكون الردع أقوى وأصرح كي يقابل تلك السيرة، ويؤثّر في التفات الناس وارتداعهم. وهذه السيرة العظيمة المستحكمة للعقلاء على العلم بالظهور لا يمكن ارتداعهم عنها، والتفاتهم بحسب الغالب إلى عدم رضا الشارع بها في الشرعيّات بهذه الإطلاقات التي لا يلتفت أحد إلى الردع بها إلّا أفراد نادرون.

هذا. وإشكال الردع عن السيرة بمثل هذه الإطلاقات مشترك بين ما نحن فيه، ومسألة إثبات حجّيّة خبر الواحد بالسيرة. وتوجد أجوبة اُخرى مشتركة بين البابين كهذا الجواب، وسيأتي ذكرها وتحقيقها صحّةً وبطلاناً في بحث خبر الواحد إن شاء الله تعالى.

وهنا جواب آخر عن هذا الإشكال يختصّ بما نحن فيه، وهو: أنّ هذه الإطلاقات بنفسها ظهورات فكيف تردع عن حجّيّة الظهور؟ بينما في بحث خبر الواحد يجعل ظهور قوله: ﴿لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾الذي ليس خبراً واحداً رادعاً عن العمل بخبر الواحد. فلا يأتي فيه هذا الجواب.

ويمكن إبطال هذا الجواب في المقام بأنّ هذا المحذور العقليّ ـ وهو عدم إمكانيّة الردع عن الظهور بالظهور؛ لعدم إمكانيّة ردع الشيء بنفسه ـ إنّما يثبت في ردع هذه الإطلاقات عن نفسها، فنفهم بقرينة هذا المحذور العقليّ أنّها لا تردع عن نفسها، وأمّا ردعها عن باقي الظهورات فلا محذور فيه، فنأخذ بذلك.


(1) وإن لم نقل بذلك فحال أدلّة البراءة حال الآيات الناهية عن العمل بغير علم.

143

نعم، يمكن أن يدّعى القطع بعدم الفرق بين هذا الظهور وباقي الظهورات. فإمّا أنّها حجّة جميعاً، أو أنّ شيئاً منها ليس بحجّة. فحجّيّة هذه الإطلاقات بالنسبة لباقي الظهورات تستلزم ما هو غير معقول: من حجّيّتها بالنسبة لنفسها، فتسقط عن الحجّيّة رأساً.

ثُمّ إنّ الطريق الذي ذكرناه في مقام إثبات الإمضاء، وهو: أنّه لولا الإمضاء للزم الردع دفعاً لتشكّل الخطر على أغراض المولى الناشئ من اعتياد الناس وحصول قريحة يمشون عليها، تترتّب عليه فائدة، وهي: أنّنا لا نحتاج في مقام إثبات الحجّيّة إلى استقرار العقلاء على الحجّيّة، بل يكفي استقرار بنائهم على العمل بالظهور في أغراضهم التكوينيّة ومصالحهم ومفاسدهم، فإنّ هذا أيضاً يوجب الاعتياد والتطبّع بذلك.

إذن لا نحتاج إلى التدقيق في تحقّق بناء العقلاء على حجّيّة الظهور أو نحو ذلك، كخبر الواحد، وفتوى أهل الخبرة، كي يستشكل بأنّ عملهم بذلك ليس من باب الحجّيّة عندهم، بل لاُمور مختلفة يوجد واحد منها في غالب الموارد من الاطمئنان، أو الاحتياط، أو الغفلة، أو تقديم الأهمّ عند التزاحم. فإنّه يكفينا ما هو ثابت بالحسّ والوجدان: من عمل العقلاء بذلك، ولا شغل لنا بأنّه من أيّ باب؟ فإنّه على أيّ حال يوجب العادة والتطبّع على العمل بالظهور(1) والمشي على ذلك


(1) كان يرى (رضوان الله عليه) أنّ تكوّن العادة والقريحة الموجبة للعمل بخبر الواحد ـ مثلاً ـ له تقريبان:

الأوّل: إنّه يتمركز في الذهن من كثرة جريان عمل العقلاء جيلاً بعد جيل على طبق خبر الواحد أنّ هذا فعل حسن وأدب عامّ، وأنّ مخالفة خبر الثقة عمل غير عقلائيّ، فلا ينبغي صدورها من العاقل، فيعملون بخبر الواحد في الشرعيّات.

144

في الشرعيّات، فلو لم يرض الشارع بذلك لشكّل ذلك خطراً على أغراضه فعليه الردع. كما أنّه لا نحتاج أيضاً إلى التدقيق في خبرويّة المفتي بالأحكام الشرعيّة والمفتي بغير ذلك من سائر الفنون المتعارفة، كي يقال: إنّ هناك فرقاً بينهما، وهو: أنّ أهل سائر الفنون المتعارفة أخذوا علومهم من الحسّ أو ما يقرب إليه، ويقلّ فيها الخطأ، بخلاف فتوى المفتي في الشرعيّات. فإنّ تكوّن العادة والقريحة كما عرفت يوجب على أيّ حال مشي العقلاء ولو غفلة في الشرعيّات على هذا المنوال، وهذا يشكّل خطراً على أغراض المولى لابدّ له من الردع على تقدير عدم رضاه به.

 


الثاني: إنّ نفس جريان العمل جيلاً بعد جيل على ذلك يوجب الاعتياد على ذلك بغضّ النظر عن تمركز العنوان المذكور في التقريب الأوّل في الذهن.

وكان يرى(رحمه الله) أنّه على كلا التقريبين يشترط في حصول العادة بالشكل الذي يؤدّي إلى التوسعة والتعدّي إلى موارد الشرعيّات التي لم تكن نكتة ذاك الجري تقتضي التعدّي إليها: أن لا تكون نكتة العمل والأدب والحسن واضحاً وملتفتاً إليه عند العقلاء، وإنّما تكون هي المحرّكة لهم لا شعوريّاً والثابتة في أذهانهم من وراء الستار، وبشكل غير ملتفت إليه تفصيلاً، وعندئذ تحصل العادة والتوسعة والتجاوز إلى الموارد التي لا توجد فيها تلك النكتة.

ولا يقال: إنّ نكتة العمل بخبر الواحد ـ وهي عدم كون الغرض بمقدار من الأهمّيّة يحرّك أكثر من ذلك ـ تكون ملتفتاً إليها في كثير من الموارد، وهي الموارد التي يكون الغرض فيها تافهاً جدّاً.

فإنّه يقال: إنّ المقصود بعدم الالتفات إلى النكتة تفصيلاً هو عدم الالتفات إلى جامع النكتة وحدودها، لا عدم الالتفات حتّى إلى قدر متيقّن في دائرة تلك النكتة.

145

 

المقارنة بين السيرتين:

ثُمّ إنّ سيرة العقلاء وسيرة المتشرّعة كما تفترقان ملاكاً من حيث إنّ الثانية تكون معلولة للحكم الشرعيّ، والاُولى تكشف عن الحكم الشرعيّ بقرينة عدم الردع، كذلك تفترقان في النتيجة. ولنذكر لكلّ من مادّتي الافتراق مثالاً، فنقول:

أمّا تماميّة سيرة المتشرّعة دون سيرة العقلاء فكما لو فرض قيام حجّة عقلائيّة في قبال الظهور قد ردع الشارع عنها، كما لو كان القياس حجّة عند العقلاء بمستوى يوجب تقييد الإطلاق، ففي هذا الفرض سوف لن تكون سيرة عقلائيّة بالفعل على العمل في مجالات الشريعة بالإطلاق الذي يخالفه القياس ما لم يرد من الشارع إضافة إلى نفي حجّيّة القياس نفي مانعيّته عن حجّة اُخرى في قباله، بينما لا إشكال في ثبوت سيرة المتشرّعة على العمل بالإطلاق الذي كان في مقابله القياس؛ إذ لو كان غير هذا لذاع واشتهر.

وهذا الفرق في النتيجة بين سيرة العقلاء وسيرة المتشرّعة مبتن على الاقتصار على مجالات السيرة العقلائيّة العمليّة.

أمّا لو قلنا: إنّ عدم ردع الشارع يدلّ على إمضاء النكتة المرتكزة في أذهان العقلاء فبالإمكان إثبات حجّيّة الظهور بنفس السيرة العقلائيّة؛ وذلك لأنّ بناء العقلاء وارتكازهم ثابت على نكتة لتلك السيرة، وهي الحجّيّة الاقتضائيّة للظهور بحيث لولا وجود حجّة اُخرى في مقابله كان ينبغي أن يكون الظهور حجّة.

نعم، إيمانهم بهذه النكتة لا يجرّهم كعقلاء عملاً في مجالات الشريعة إلى العمل بالظهور الإطلاقيّ الذي خالفه القياس. ونكتة ذلك أنّهم من ناحية يحتملون كون القياس مانعاً شرعيّاً عن حجّيّة الظهور، كما قيل في الظنّ المخالف للظهور: إنّه يسقطه عن الحجّيّة رغم عدم حجّيّة نفس الظنّ.

146

ومن ناحية اُخرى ليست أذهانهم مأنوسة بحجّيّة الظهور عند وجود القياس المقيّد، فغاية ما يتحقّق منهم بعد ردع الشارع هي الارتداع عن العمل بالقياس، لا الأخذ بالظهور الذي في قباله.

نعم، ثبت متشرّعيّاً عمل الأصحاب بالظهور المخالف للقياس. وهذا معنى ما قلناه: من أنّه إذا صار القرار على الاقتصار في سيرة العقلاء على دائرة العمل فالذي يدلّنا على حجّيّة الظهور في مثل هذا الفرض هو سيرة المتشرّعة لا العقلاء. وإذا صار القرار على التعدّي إلى النكتة الارتكازيّة لم يبق من هذه الناحية فرق عمليّ بين التمسّك في حجّيّة الظهور بسيرة المتشرّعة والتمسّك فيها بسيرة العقلاء(1).

 


(1) الظاهر أنّ إيمان العقلاء بالحجّيّة اللولائيّة للظهور، أي: حجّيّته لولا حجّيّة ما يقيّده أو يخصّصه، يجرّهم إلى العمل بالظهور في الشرعيّات رغم مخالفته للقياس المقيّد أو المخصّص بعد فرض وصول ردع الشارع عن القياس إليهم؛ لأنّ ما علّقت عليه الحجّيّة في نظرهم قد تحقّق، ويغفلون عن مسألة إمكانيّة جعل الشارع للقياس رغم عدم حجّيّته مانعاً عن حجّيّة الظهور، كغفلتهم عن احتمال عدم رضا الشارع في كلّ سيرهم، وفرضيّة إمكان مانعيّة القياس عن حجّيّة الظهور حتّى إذا كان هو غير حجّة إن كانت موجودة في أذهانهم ولو ارتكازاً منعت ذلك عن ارتكاز الحجّيّة اللولائيّة في ذهنهم، أي: حجّيّة الظهور لولا حجّيّة القياس المخالف له، وإن لم تكن موجودة في أذهانهم إذن سوف يترجمون ارتكازهم بالعمل بالظهور عند ما يعرفون عدم حجّيّة القياس. والتفكيك بين الارتكاز والسيرة العمليّة إنّما يعقل فيما إذا كان مورد تطبيق الارتكاز عملاً وقتئذ منتفياً، كملكيّة المعدن بحيازة كمّيّات كبيرة بواسطة الوسائل الكهربائيّة مثلاً.

ثُمّ إنّه قد نقلت عنه (رضوان الله عليه) في دورته التي لم أحضرها فرضيّة اُخرى

147


لإبراز مورد تفيدنا سيرة المتشرّعة ما لم نكن نستفيده لو انحصر الأمر بسيرة العقلاء.

وتوضيح ذلك: إنّ لإثبات إمضاء السيرة العقلائيّة من قبل الشارع طريقين:

أحدهما: جعل السكوت دليلاً على الإمضاء ببرهان استحالة نقض الغرض.

والثاني: التمسّك بظهور حال الشارع بما هو ذومنصب وصاحب أغراض، ويكون سكوته مفوّتاً لأغراضه المنصبيّة، فظاهر حاله في السكوت هو الرضا، بل بالإمكان جعل ذلك الظهور ظهور حال له بما هو متكلّم فيقال: إنّ المتكلّم الذي جرى ديدنه على الاقتصار في مقام إيصال مرامه على ظواهر الكلام، وعدم الالتزام بالنصوص الصريحة، والإكثار من الاعتماد على الظهور، يكون ظاهر حاله بما هو متكلّم أنّه أراد من السامعين الاعتماد على ظواهر الكلام، فهذا الظهور بنفسه يصبح ظهوراً لفظيّاً بل من أقوى الظهورات اللفظيّة، ولكن لا يمكن الاعتماد على هذا الظهور، سواء فرضناه ظهور حال للشارع بما هو شارع، أو ظهور حال له بما هو متكلّم لإثبات حجّيّة الظهور؛ لأنّه بنفسه ظهور. نعم، لو أمكننا إثبات حجّيّة هذا الظهور بالذات ثُمّ التعدّي من هذا الظهور إلى ظهورات اُخرى من باب دلالة هذا الظهور على حجّيّتها لم يكن به بأس. فلو أنّ أحداً أراد أن يعتمد في مقام إثبات حجّيّة الظهور على سكوت الشارع عن العمل بالظهور بدلالته الحاليّة المنصبيّة أو الكلاميّة على الحجّيّة لا بدلالته العقليّة ببرهان استحالة نقض الغرض، عجز عن التمسّك بحجّيّة الظهور بسيرة العقلاء؛ إذ كان عليه أن يثبت أوّلاً حجّيّة هذا الظهور بالذات، وهذا ليس طريقه عبارة عن الرجوع إلى السيرة العقلائيّة، فإنّ السيرة العقلائيّة بحاجة إلى إمضاء، والإمضاء يثبت ـ بحسب الفرض ـ بالسكوت عن طريق دلالته الحاليّة على الإمضاء، وحجّيّة هذه الدلالة هي محلّ البحث، وإنّما طريقه عبارة عن الرجوع إلى سيرة المتشرّعة بناءً على أنّ لسيرة المتشرّعة قدراً متيقّناً وهو الظهورات

148


القويّة مثلاً، وهذا الظهور الحاليّ من الظهورات القويّة الداخلة في القدر المتيقّن مثلاً، فنثبت حجّيّته بسيرة المتشرّعة التي ليست بحاجة إلى إثبات الإمضاء بالسكوت؛ لما عرفت: من أنّ سيرة المتشرّعة هي في طول رضا الشارع. وإذا ثبتت حجّيّة هذا الظهور ودخولها في القدر المتيقّن من سيرة المتشرّعة أمكن أن نتمسّك بهذا الظهور لإثبات حجّيّة باقي الظهورات التي يعتمد عليها العقلاء؛ لأنّ ظاهر حال الشارع بما هو ذومنصب أو بما هو متكلّم رضاه بعمل العقلاء في الظهورات. وقد ثبتت أوّلاً بسيرة المتشرّعة حجّيّة هذا الظهور.

هذا ما يستفاد ممّا نقل عن اُستاذنا(رحمه الله) في دورته الأخيرة، وكأنّه(رحمه الله) لم يكن ابتداءً بصدد بيان مستقلّ لفائدة سيرة المتشرّعة في مقابل سيرة العقلاء بالنسبة لحجّيّة الظهور، ولذا ترى أنّ هذا الكلام يفيد شيئين كلّ منهما يناسب مقاماً:

أحدهما: بيان فائدة للتمسّك بسيرة المتشرّعة لا تترتّب على مجرّد سيرة العقلاء، ويكفي في ذلك القول بأنّه لو لم نبن على تطبيق قانون استحالة نقض الغرض في المقام إذن لا سبيل لإثبات حجّيّة الظهور بسيرة العقلاء؛ لأنّها بحاجة إلى الإمضاء، ولا يمكن استفادة الإمضاء بقانون نقض الغرض؛ لأنّ المفروض عدم التمسّك به، ولا بظهور الحال؛ لأنّ الكلام في حجّيّة الظهور، ولكن بالإمكان إثبات حجّيّة الظهور بسيرة المتشرّعة؛ لأنّها ليست بحاجة إلى الإمضاء.

ثانيهما: بيان وجه لتعميم حجّيّة الظهور لو قيل بأنّ سيرة المتشرّعة لم تثبت لنا شمولها لكلّ الظهورات بل لها قدر متيقّن، وذلك بدعوى إدخال ظهور الحال هذا في القدر المتيقّن وإثبات حجّيّته، ثُمّ إثبات حجّيّة ما هو خارج عن القدر المتيقّن بهذا الظهور.

أقول: إنّ إرجاع ظهور الحال هذا إلى الظهورات اللفظيّة غير صحيح حتّى إذا كان

149

وأمّا تماميّة سيرة العقلاء دون سيرة المتشرّعة فتكون في موارد عديدة، ونذكر منها مورداً واحداً، ونختار ذلك المورد بالخصوص لكونه بحثاً مفيداً لم يطرق عادة، وهو البحث عن حجّيّة ظهور الفعل.

فالفعل الصادر من الشخص نتصوّر له تارةً دلالة تكوينيّة من باب كشف المعلول عن علّته كدلالة الفعل على الشجاعة أو الجبن، وهذا خارج عمّا نحن فيه. وهذه الدلالة إن كانت علميّة كان العلم حجّة، وإن كانت ظنّيّة دخلت في باب الظنّ العامّ. واُخرى دلالة لغويّة ومربوطة بباب الوضع كدلالة الألفاظ على معانيها، وذلك كالقيام الذي وضع للاحترام.

والكلام هنا في حجّيّة هذه الدلالة الثانية، فمثلاً لو أمر المولى عبده بإكرام كلّ من قصد المولى احترامه ثُمّ رأى العبد قيام مولاه لزيد، فهل يثبت له تعبّداً وجوب إكرام زيد، أو لا؟ لا يمكننا إثبات حجّيّة ذلك بسيرة المتشرّعة، فإنّنا إنّما استكشفنا سيرة المتشرّعة في زمان الشارع على حجّيّة ظهور الألفاظ من أنّه يلزم


ظهور حال للمتكلّم بما هو متكلّم؛ فإنّ هذا ليس ظهور حال بما هو متكلّم بكلام مشخّص كي يصبح ظهوراً لفظيّاً لذاك الكلام، وإنّما هو ظهور حال له بما صدرت منه: من كلمات كثيرة، والظهور المقتنص من مجموع عبائر منفصل بعضها عن بعض، والذي هو جديد غير مستبطن ولو بشكل متقطّع في مجموع العبائر لا يمكن أن يكون ظهوراً لفظيّاً، وإنّما هو ظهور حاليّ. غاية ما هناك أنّ الظهور الحاليّ للإنسان قد يكون بما له من منصب مثلاً، وقد يكون بما هو متكلّم، وهذا لا يعني دائماً أنّه يرجع إلى الظهور اللفظيّ. إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ حجّيّة ظهور الحال والفحوى غير الراجعة إلى الظهور اللفظيّ ليست داخلة في القدر المتيقّن لو فرضنا أنّ سيرة المتشرّعة لها قدر متيقّن وأنّه لم يثبت لنا تحقّقها في كلّ موارد الظهور.

150

من عدمها تال فاسد تأريخيّاً، أمّا ظهور الفعل الذي لم يتّفق في شرعيّاتنا، أو اتّفق نادراً فلا يلزم من فرض عدم السيرة على العمل به تال فاسد تأريخيّاً. ومن الممكن أنّهم كانوا يرجعون في مورد ظهور الفعل إلى الاُصول العمليّة، وليس ذلك تالياً فاسداً بحسب التأريخ، ولكنّا نثبت حجّيّة ذلك بسيرة العقلاء(1).

 


(1) قد يقال: إنّ دلالة الفعل دلالة غير قطعيّة على حكم كلّيّ إلهيّ لعلّها لم تتّفق أصلاً في تأريخ فقهنا. ولكن دلالة الفعل على صغرى من صغريات الحكم الشرعيّ كثيرة من قبيل دلالة المعاطاة في الموارد المختلفة على العقود.

وقد تضاف إلى دلالة الفعل دلالة الفحوى بمعنى ظهور الحال من قبيل إذن الفحوى، فيقال: إنّ حجّيّتها بحاجة إلى سيرة العقلاء، ولا تكفينا سيرة المتشرّعة. ويقصد بهذا الكلام أحد معنيين:

الأوّل: دعوى عدم إمكانيّة إثبات حجّيّة ظهور الحال بسيرة المتشرّعة؛ لعدم كثرة ابتلاء المتشرّعة بمواردها بحيث يمكن إثبات سيرة المتشرّعة.

والجواب: إنّ إثبات الحكم الكلّيّ الإلهيّ بظهور الحال وإن لم يكن كثيراً بل لعلّه منعدم، ولكن إثبات الصغريات بظهور الحال ـ كما في موارد إذن الفحوى في التصرّف ـ كثير.

والثاني: دعوى أنّ إثبات سيرة المتشرّعة في ذلك بحاجة إلى التمسّك بسيرة العقلاء، فإنّه بعد فرض استقرار سيرة العقلاء على ذلك وكشف معاصرتها لزمان المعصوم بالطريق السادس الذي مضى منّا في بحث طرق اكتشاف السيرة المعاصرة للمعصوم، يقال: لو لم يكن المتشرّعة ملتزمين بسيرة العقلاء لكان ذلك ملفتاً للنظر وموجباً للتناقل ولوصل إلينا، ولولا سيرة العقلاء على العمل بظهور الحال لم يكن عدم التزام المتشرّعة به ملفتاً للانتباه، كي نثبت بعدم وصول ذلك إلينا قيام سيرة المتشرّعة على حجّيّة ظهور الحال.

ومن الموارد التي قد تعدّ من موارد الاستفادة من سيرة العقلاء وعدم كفاية سيرة