111

فيعلم أنّ الأوّل علّة للثاني(1)، فنستكشف من ذلك ثبوت هذه السيرة في زمن الشارع. نعم، هذا الاستكشاف مشروط بدفع احتمال وجود مانع في زمان الشارع عن تأثير المقتضي في تحقّق هذه السيرة؛ وذلك لأنّ تجربة المقارنة بين (أ) و (ب) إنّما تثبت أنّ (أ) مقتض لــ (ب) ولا تثبت عدم وجود مانع صدفة يمنع عن تأثير فرد خاصّ من (أ). ويمكن إحراز عدم مانعيّة سائر المقارنات في زمان الشارع فيما نحن فيه باعتبار أنّ المانعيّة في باب السير العقلائيّة مانعيّة مفهومة، فلا تحتمل مانعيّة أيّ شيء عنها، وليست كالمانعيّة في الاُمور التكوينيّة من قبيل مانعيّة الرطوبة عن إحراق النار ـ مثلاً ـ التي لا يمكن إثباتها أو نفيها إلّا بالتجربة، فإنّ المانعيّة في باب السير العقلائيّة مرتبطة بوعي البشر واختياره(2)، فقد تنفى بحكم العقل بلاحاجة إلى التجربة. وبهذا الطريق ننفي مانعيّة المقارنات في زمان الشارع عن تحقّق السيرة على حجّيّة الظهور.


(1) أو هما معلولان لشيء ثالث.

(2) لا يخفى أنّه كما أنّ المانعيّة في باب السير العقلائيّة مانعيّة مفهومة، فكثيراً مّا يمكن القطع بانتفائها في زمان الشارع رغم أنّنا لم نعش ذاك الزمان، كذلك أصل الاقتضاء والعلّيّة في السير العقلائيّة أمر مفهوم، فكثيراً مّا يمكن القطع بثبوت السيرة الموجودة في زماننا في زمان المعصوم أيضاً بلاحاجة إلى هذه البيانات، وهذا ما أشرنا إليه في تعليقتين سابقتين.

وبالنسبة لحجّيّة الظهور ليست العلّة في قيام السيرة عليها مجرّد كون اللغة هي أساس التفهيم والتفهّم، بل العلّة هي كون حجّيّة الظهور بلحاظ ما فيه من الكشف النوعيّ تطابق عادة نتيجة التزاحمات بين الأغراض العقلائيّة عند الشكّ. ولا نشكّ أنّ نفس هذه الحالة كانت موجودة في زمن المعصوم؛ لأنّها نابعة عن الأغراض العقلائيّة المتعلّقة لنا التي لا تختلف حساباتها بالفوارق الحاصلة باختلاف الزمان والمكان، تلك الفوارق التي هي أيضاً مفهومة لنا.

112

الطريق الخامس: أن يكون لما يراد إثبات وجود السيرة على طبقه في زمان الإمام(عليه السلام) بديل بحيث لابدّ من أن تكون السيرة قائمة إمّا على هذا أو على ذاك، ويكون ذلك البديل بحيث لو كانت السيرة قائمة عليه في زمن المعصوم لنقل ذلك إلينا؛ لتشكيله ظاهرة اجتماعيّة كبيرة مع كونه في نفسه ممّا يبحث عنه ويهتمّ به اهتماماً كبيراً، كما هو الحال في باب حجّيّة الظهور، فإنّه لو لم تكن السيرة في ذلك الزمان على العمل بالظهور لكان هناك طريق آخر لتلقّي الأحكام؛ لأنّهم كانوا ملزمين بالعمل بالأحكام مثلنا، فحتماً كانوا يتّخذون مسلكاً لتلقّي الأحكام. فلو لم يكن ذاك المسلك هو الأخذ بالظهور وكان مسلكاً آخر بدلاً عن العمل بالظهور لشكّل ذلك ظاهرة اجتماعيّة واسعة، وكان ذلك في غاية الأهمّيّة يهتمّ به منذ البدء كلّ من باحث أو كتب في الفقه أو الاُصول، ولوصل ذلك إلينا حتماً، بينما لم يصلنا شيء من هذا القبيل إطلاقاً.

لايقال: إنّ العمل بالظهور أيضاً يشكّل ظاهرة اجتماعيّة مهمّة، ولم يصلنا نقل عن أنّهم فيما سبق كانوا يعملون بالظهور.

فإنّه يقال: صحيح أنّ هذا أيضاً سلوك اجتماعيّ مهمّ، ولكن قد يكون عدم نقله لأجل الاعتماد في وصوله إلى نفس استمرار السيرة، أو لأجل كون استقرار السيرة عليه بالفعل مانعاً عن الالتفات التفصيليّ إلى أهمّيّته(1).

وبالإمكان أن نمثّل أيضاً بتملّك الفرد للمعدن؛ إذ لو لم تكن عليه السيرة في


(1) كأنّ المقصود إثبات سيرة المتشرّعة بالمعنى الأعمّ بعد فرض ثبوت سيرة العقلاء أو احتمالها على الأقلّ من دون احتمالها بالنسبة للبديل، فيقال: إنّ سيرة المتشرّعة لو كانت هي عين سيرة العقلاء لم تجلب انتباهاً كي تنقل، أو أنّها قد لا تنقل اعتماداً على نفس السيرة العقلائيّة، ولو كانت غيرها لنقلت.

113

زمان الإمام(عليه السلام) لانعقدت السيرة على طريق آخر للاستفادة من المعدن، وكان ذلك يشكّل ظاهرة اجتماعيّة كبيرة؛ لكثرة حاجة الناس إلى الاستفادة من المعدن، ولكان يصل ذلك إلينا. فقيام السيرة على تملّك المستخرج للمعدن في زمان الشارع الذي لم يمكننا إثباته بالطريق الثالث أمكننا إثباته بهذا الطريق(1).

هذا تمام الكلام في المرحلة الاُولى(2).

وهذه المرحلة كنّا بحاجة إليها في باب الأمارات لو فرضنا السيرة فيها سيرة عقلائيّة بما هم عقلاء، ولم نفترض حجّيّتها ذاتيّة كذاتيّة حجّيّة القطع عندنا، بمعنى أنّ من طبّق تمام أعماله عليها لم يكن مقصّراً في مقام العبوديّة بحكم العقل العمليّ.

أمّا بناءً على هذا الوجه الذي مضت الإشارة إليه فليس الحكم حكماً عقلائيّاً يجب إثبات تحقّق سيرة العقلاء عليه في زمن المعصوم، وإنّما قامت سيرة العقلاء على ذلك من باب حكم العقل بذلك، فهو بنفسه أمر واقعيّ يدركه العقل العمليّ كالوجوب والإمكان اللذين يدركهما العقل النظريّ. فالعقل العمليّ أدرك ـ بحسب


(1) هذه هي الطرق الخمسة لإثبات السيرة بحسب ما أفاده(رحمه الله) في الدورة التي حضرتها، وقد مضى منّا طريق سادس لإثبات السيرة العقلائيّة.

(2) نقل الأخ السيّد علي أكبر ـ حفظه الله ـ عن الدورة الأخيرة لدرس اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): أنّ هذه الوجوه الخمسة التي ذكرناها لإثبات المرحلة الاُولى ـ وهي أصل تحقّق السيرة في زمن المعصوم ـ إنّما هي الوجوه العامّة التي يمكن التمسّك بها والتي تنضبط بالضوابط. وهنا وجوه اُخرى صغيرة متناثرة ليست لها ضوابط، فمثلاً ألسنة الروايات والجواب من قبل الإمام تكشف عن السيرة والارتكاز في كثير من الأحايين إثباتاً ونفياً، ولهذا نحن استفدنا من الأدلّة التي يتمسّك بها على نجاسة أهل الكتاب أنّ السيرة وقتئذ لم تكن قائمة على نجاسة أهل الكتاب، إلى غير ذلك من الخصوصيّات الحديثيّة والتأريخيّة التي يترك أمر تفصيلاتها إلى الفقه. انتهى.

114

الفرض ـ أنّ دائرة حقّ المولويّة لا تكون واسعة بحيث تشمل لزوم إطاعة المولى فيما قامت الأمارة على نفيه، فإن تمّ ذلك ثبت جواز الاعتماد على الأمارة بلاحاجة إلى إثبات السيرة في زمن المعصوم، كما هو الحال في حجّيّة القطع مع فارق واحد، وهو: أنّ حكم العقل بحجّيّة القطع تنجيزيّ، وحكمه بحجّيّة الأمارات وإن كان ذاتيّاً بمعنى عدم الحاجة إلى جعل المولى لكنّه معلّق على عدم وصول ردع الشارع عنها إلينا، فلو وصلنا من المولى المنع عن العمل بالظهور أو تجويز مخالفة الظهور سقطت حجّيّته. ولا نحتاج أيضاً في إثبات الحجّيّة بناءً على هذا الفرض إلى المرحلة الثانية وهي إثبات إمضاء الشارع؛ وذلك لكفاية عدم وصول الردع إلينا في حكم العقل بالحجّيّة.

ولا بأس بأن نشير قبل الدخول في بحث المرحلة الثانية إلى مدى إمكان الاعتماد في حجّيّة الأمارات على هذه الدعوى، أعني: دعوى إرجاع السيرة في باب الأمارات إلى حكم العقل العمليّ، فنقول:

إن تمّت هذه الدعوى وخلت عمّا سيأتي ـ إن شاء الله ـ من شائبة الإشكال يبقى الكلام في كفايتها لإثبات المقصود؛ وذلك لأنّنا لو سلّمنا أنّ العقل العمليّ أدرك أنّ من حقّ المولى على العبد أن يعمل بمقاصده التي تظهر للعبد من ظاهر كلام المولى، أو من خبر الثقة ـ مثلاً ـ ما لم يردع المولى عن ذلك، فهذا الحكم من قِبَل العقل لا يصلح أن يكون حاكماً على أدلّة الاُصول أو مخصّصاً لها؛ إذ ليس حكماً مجعولاً من قِبَل الشارع كما لو جعل المولى خبر الواحد أو الظهور حجّة، كي يقال: إنّه حاكم أو مخصّص لمثل (رفع ما لا يعملون) أو «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام»، وإنّما هذا حكم من قِبَل العقل المدرك لحجّيّة الظهور أو خبر الواحد. وإطلاق مثل حديث الرفع بنفسه ظهور مشمول لهذا الحكم، وهو يدلّ على عدم اعتناء المولى بأغراضه المشكوكة المدلول عليها بالظهور أو خبر الواحد، أي:

115

أنّه يدلّ على نفي حجّيّة تلك الظهورات والأخبار الآحاد.

نعم، هذا الإشكال إنّما يكون فيما إذا لم يكن هناك مانع عن جريان البراءة من علم إجماليّ ونحوه، فلابدّ من فرض الكلام فيه بعد فرض انحلال العلم الإجماليّ بوجود الأحكام بوجه من الوجوه.

ويمكن دفع هذا الإشكال في خصوص باب الظواهر بدعوى أنّ ظاهر (رفع ما لا يعلمون) بحسب الفهم العرفيّ هو رفع ما لا يعلم من ظواهر خطاب المولى، فيكون وصول كلام المولى الظاهر في حكم إلزاميّ داخلاً في مصاديق الغاية عرفاً.

لكن هذه الدعوى لا مجال لها بالنسبة لخبر الثقة بأن يقال: إنّ الغاية تشمل عرفاً وصول خبر الثقة الدالّ على حكم إلزاميّ(1).

هذا مضافاً إلى أنّ أصل هذه الدعوى لا تخلو عن إشكال(2).

كما أنّ أصل دعوى حكم العقل العمليّ بالحجّيّة الذاتيّة لظهور كلام المولى مثلاً، لا تخلو عن إشكال أيضاً.


(1) لا يخفى أنّ وضوح بطلان هذه الدعوى في خبر الثقة ينبع من وضوح بطلان أصل دعوى الحجّيّة الذاتيّة في خبر الثقة. وبقدر ما يميل الإنسان إلى دعوى الحجّيّة الذاتيّة لطريق من طرق إيصال المقصود، أو دعوى شدّة رسوخ الحجّيّة العقلائيّة تقوّى في الذهن دعوى انصراف الغاية في (رفع ما لا يعلمون) إلى ما يشمل العلم بذاك الطريق، فإنّ نكتة الانصراف إنّما هي كون هذا طريقاً ذاتيّاً إلى مقاصد المولى، أو طريقاً عقلائيّاً راسخاً في غاية الرسوخ. إذن فالفرق الأصليّ بين باب الظهور وباب خبر الثقة ليس هو في دعوى كون وصوله مصداقاً للغاية وعدمه، وإنّما هو في أصل مدى وضوح دعوى الحجّيّة الذاتيّة.

(2) لو تمّت أصل دعوى الحجّيّة الذاتيّة تمّت دعوى انصراف الغاية في (رفع ما لا يعلمون) إلى ما يشمل وصول تلك الحجّة.

116

ووجه الإشكال في كلّ ما كان من قبيل هذه الدعاوى هو: أ نّا وإن كنّا ندرك مثل هذا الحكم ونحسّ به بشكل واضح، وهو: أنّ الإنسان الذي يخالف ظهور كلام المولى ولا يعمل به يستحقّ العقاب، والذي يعمل بظاهر كلام المولى يكون قد أدّى إليه حقّه، ولكن لا سبيل لنا إلى إثبات أنّ هذا مدرك للعقل العمليّ في المقام المجرّد عن الشوائب والخصوصيّات، فإنّنا نحتمل أنّ ما يشعرنا بقبح مخالفة ظاهر كلام المولى هو قوّة العقل العمليّ منضمّة إلى ارتكاز حجّيّة الظهور في أذهان العقلاء ارتكازاً عميقاً طويلاً في تأريخ البشريّة وقيام سيرتهم على ذلك.

نعم، هذه الدعوى ـ أعني: دعوى رجوع ذلك إلى حكم العقل العمليّ ـ تؤيّد وتؤكّد حجّيّة الظهور. وإن شئت فقل: إنّ هذا الحكم إمّا عقليّ صرف، أو لا: فإن كان الأوّل فقد ثبتت حجّيّة الظهور، وإلّا فهو من نتائج ارتكاز جعل الحجّيّة في أذهان العقلاء الذي أصبح بدرجة من الوضوح بحيث يتخيّل كونه عقليّاً صرفاً.

 

إثبات موافقة الشارع للسيرة:

وأمّا المرحلة الثانية: فهي عبارة عن إثبات موافقة الشارع للسيرة بعد فرض ثبوتها في زمانه، والكلام في ذلك تارةً يقع بلحاظ سيرة المتشرّعة، واُخرى بلحاظ سيرة العقلاء:

أمّا سيرة المتشرّعة: فمفروض الكلام إنّما هو سيرة أصحاب الأئمّة الذين كانوا متمكّنين من أخذ الحكم من الإمام(عليه السلام) بطريق الحسّ أو ما يقرب من الحسّ، وكان دأبهم على هذا الطريق بحيث يكون افتراض اتّفاقهم عملاً على شيء خطأ مساوقاً للغفلة، والخطأ في الحسّ، أو ما يقرب منه، بأن يكون غفلة عن الفحص عن الحكم الشرعيّ ولو من باب الذهول عن احتمال كون ما يفعله خلاف الشرع، أو غفلة عن فهم ظاهر كلام الإمام ونحو ذلك. أمّا الذين يعتمدون الاجتهاد والاستنباط عادة في فهم

117

الحكم فاتّفاقهم ليس عبارة عمّا هو محلّ الكلام من سيرة المتشرّعة، وإنّما هو عبارة عن الإجماع الذي سيأتي البحث عنه ـ إن شاء الله ـ في غير هذا المقام.

والشرط الذي ذكرناه لتحقيق سيرة المتشرّعة: من كونهم يأخذون عادة الحكم من الإمام عن طريق الحسّ أو ما يقرب من الحسّ، كان متوفّراً في كثير من أصحاب الأئمّة(عليهم السلام) المعاشرين لهم ولأصحابهم، والمتكلّمين معهم ومع أصحابهم في مختلف المسائل.

فإذا تحقّقت السيرة من قبل أمثال هؤلاء الذين يكون خطأُهم خطأً عن حسّ أو ما يقرب من الحسّ فلا إشكال في أنّ سيرتهم تكشف عن الحكم الشرعيّ؛ لأنّ اتّفاق هؤلاء الجماعة على الغفلة بعيد بحساب الاحتمالات الناتج من ضرب قيمة احتمال ثبوت عامل الغفلة في أيّ واحد منهم في قيمة احتمال ثبوته في الآخر، ومن الواضح أنّ الاحتمال يضعف بالتدريج بالضرب إلى أن يصبح موهوماً، وقد حقّقنا في بحث المنطق الذاتيّ أنّ الاحتمال الموهوم يزول من النفس تلقائيّاً وفق شروط معيّنة، فيحصل القطع بعدم اجتماعهم على الغفلة بعد أن كان احتمال اجتماعهم على الغفلة أوهن من أيّ احتمال آخر في المقام؛ لأنّ الغفلات المتعدّدة بحاجة إلى علل وعوامل متعدّدة، بينما الانتباه المتعدّد تكفيه علّة واحدة عامّة تقتضي التفات الجميع، فلا يجري فيه الحساب الذي أجريناه في جانب الغفلة. ولو فرضنا عدم زوال هذا الاحتمال الموهوم فلا شكّ في حصول الاطمئنان بخلافه، والاطمئنان حجّة(1).

لايقال: إنّ الاطمئنان ليس حجّة بدليل لفظيّ، وإنّما هو حجّة بالسيرة العقلائيّة.


(1) صحيح أنّه لو كان فرضنا لعدم زوال الاحتمال الموهوم من باب إنكار كونه أهون من الاحتمالات الاُخرى التي تكون في قباله، فكلّ واحد من هذه الاحتمالات يطمأنّ بخلافه، لكن لا حجّيّة لسائر الاطمئنانات؛ لعدم ترتّب أثر شرعيّ عليها كي يقع التعارض بينها.

118

فإنّه يقال: إنّ الاطمئنان حجّة بحكم العقل العمليّ، فإنّ ما كنّا نحتمله في باب الظهورات: من ذاتيّة الحجّيّة لها، نقول به جزماً في باب الاطمئنان. هذا مضافاً إلى أ نّا نقطع بالحكم الشرعيّ؛ لكونه لازماً أعمّ لباقي المحتملات، أي: ملائماً لذاك الاحتمال الموهوم أيضاً وهو غفلة الجميع، وهذا يوجب زوال احتمال عدم الحكم الشرعيّ. وتحقيق ذلك موكول إلى بحث المنطق الذاتيّ.

وأمّا سيرة العقلاء: فلا يمكن استكشاف الحكم الشرعيّ منها من ناحية أصل تكوّنها على حدّ استكشاف العلّة من المعلول كما مضى ذلك في سيرة المتشرّعة، فإنّ هذا في السيرة العقلائيّة غير معقول، فإنّ فرض غفلتهم(1) هنا لا يساوق فرض اجتماع علل عديدة؛ إذ من المحتمل كون قيام سيرتهم على ذلك ناشئاً من علّة مشتركة، وهي تلك القريحة العقلائيّة واستدعاء طبعهم العقلائيّ لذلك.

ولكن مع هذا يمكن استكشاف الحكم الشرعيّ بواسطة السيرة العقلائيّة بضمّ قضيّتين شرطيّتين إليها:

الاُولى: أنّه لو لم يكن الشارع قد أمضى هذه السيرة لردع عنها.

والثانية: أنّه لو ردع عنها لوصل ذلك إلينا.

وبما أنّ التالي في الشرطيّة الثانية باطل، إذن فالمقدّم فيها الذي هو التالي في الشرطيّة الاُولى باطل، وبه يبطل المقدّم في الشرطيّة الاُولى، فيثبت الإمضاء.

وعليه فيقع الكلام في اُمور ثلاثة:

الأوّل: الشرطيّة الاُولى.

والثاني: الشرطيّة الثانية.


(1) يعني غفلة المتشرّعة منهم.

119

والثالث: بطلان التالي في الشرطيّة الثانية.

أمّا الأمر الأوّل: فبرهانه هو استحالة نقض الغرض(1). وهذا البرهان إنّما يأتي فيما لو كانت السيرة العقلائيّة تمتدّ من مواردهم العرفيّة إلى موارد الأحكام الشرعيّة؛ إذ مع فرض عدم الامتداد ليس سكوت الشارع لو لم يكن يقبل بالعمل بتلك السيرة في أحكامه نقضاً للغرض، فإنّ أغراض المولى إنّما هي كامنة في أحكامه، وقد فرض عدم امتداد السيرة إلى باب الأحكام. أمّا كيف تمتدّ السيرة إلى باب الحكم الشرعيّ فهذا ما يكون بأحد وجوه:

الوجه الأوّل: أن يكون ذلك من باب العادة، فيقال مثلاً: إنّ العقلاء بما أنّه جرت سيرتهم على رجوع الجاهل إلى العالم في شتّى الفنون صار ذلك عادة لهم، فيجرون على ذلك في باب الأحكام الشرعيّة جرياً على طبق العادة بلا التفات إلى صحّة ذلك وعدمها.

وهذا الوجه متصوّر في تمام أقسام السيرة بلا فرق بين السيرة الفقهيّة، كالسيرة على التملّك بالحيازة، والسيرة الاُصوليّة، أي: السيرة التي تكشف عن الحجّيّة، سواء قلنا بالمبنى المشهور: من أنّ الحجّيّة تكون عبارة عن مجرّد إنشاء ظاهريّ ناشئ من ملاك في نفس الإنشاء، أو قلنا بما هو الصحيح: من أنّ روح الحكم الظاهريّ ـ بعد فرض عدم السببيّة ـ عبارة عن تعيين درجة اهتمام المولى بالأغراض الواقعيّة، فإنّ الجري العمليّ والسيرة بأيّ نحو كان يقتضي تكوّن الاعتياد على طبقه.


(1) وكذلك يمكن الاستدلال على الإمضاء بالسكوت بغضّ النظر عن استحالة نقض الغرض بأنّ السكوت ظاهر في الإمضاء، ولا فرق في حجّيّة الظهور بين ظهور الكلام، وظهور السكوت هذا في غير إثبات حجّيّة نفس الظهور. وقد نقل هذا عن الدورة الأخيرة من درسه(رحمه الله).

120

الوجه الثاني: أن يكون ذلك من باب إيمان العقلاء بصحّة النكتة التي قامت على أساسها السيرة، مثلاً قد يقال: إنّ العقلاء بنوا على التملّك بالحيازة؛ لما رأوا: من توقّف نظام المعاش على ذلك، والمتشرّعون منهم أيضاً مشوا على هذا الطريق إيماناً منهم بصحّة هذه النكتة، فعملوا على طبقها في مورد الحكم الشرعيّ بلا التفات إلى موافقة الشارع وعدمها، إمّا غفلة، أو إهمالاً.

والفرق بين هذا الوجه والوجه السابق: أنّ الجري على طبق السيرة في مورد الحكم الشرعيّ في هذا الوجه لا يفرض عملاً ميكانيكيّاً بحسب العادة كما في الوجه الأوّل، بل يفرض عملاً عن وعي وشعور بلحاظ الإيمان بصحّة نكتتها. نعم، اُغفل في الحساب مسألة موافقة الشارع وعدمها.

وهذا الوجه إنّما يتمّ في السيرة الفقهيّة كما في مثال التملّك بالحيازة دون السيرة الاُصوليّة، ولو أخذنا فيها بمبنى المشهور: من افتراض أنّ روح الحجّيّة والحكم الظاهريّ عبارة عن جعل شرعيّ بملاك في نفس الجعل؛ وذلك لأنّه لو افترض أنّ سيرة العقلاء جرت على أنّ كلّ من تقمّص بقميص المولويّة جعل خبر الواحد حجّة على عبده، وأنّهم آمنوا بصحّة هذه النكتة، لم يمكن افتراض أنّ إيمانهم بصحّة هذه النكتة يجعلهم يمشون على هذا الطريق في موارد الأحكام الشرعيّة مع إغفال موافقة الشارع وعدمها، فإنّ الحجّيّة ـ بحسب الفرض ـ عبارة عن جعل وتشريع للمولى، ولا معنى لافتراض البناء على ثبوت هذا الجعل من قبل المولى لصحّة نكتته مع إغفال موافقة نفس المولى، فلا معنى لفرض العقلاء خبر الواحد في الشرعيّات حجّة إلّا من باب العادة وهو الوجه الأوّل، أو من باب إثبات موافقة الشارع لهم في النكتة وهو الوجه الثالث.

الوجه الثالث: أن يكون ذلك من باب إيمان العقلاء بصحّة نكتة السيرة مع الاعتقاد بموافقة الشارع عليها من باب أنّه لا يخطأ، فمع فرض عدم الخطأ تجب

121

في نظرهم الموافقة؛ إذ المفروض صحّة النكتة في نظرهم. وهذا الوجه يتمّ في السيرة الفقهيّة المبنيّة على الإيمان منهم ولو ارتكازاً بنكتة عامّة موجودة في قريحة تمام العقلاء، كما في مسألة التملّك بالحيازة.

وأمّا في السيرة الاُصوليّة: فإن آمنّا بمبنى المشهور من كون روح الحجّيّة عبارة عن نفس جعل ما من قبل المولى لمصلحة في الجعل، فأيضاً يمكن إجراء هذا الوجه فيها بدعوى أنّ العقلاء يدركون بقريحتهم العامّة مصلحة إعاشيّة اجتماعيّة في نفس هذا الجعل مثلاً، ويعتقدون بصحّة هذه النكتة وبموافقة الشارع عليها لأنّه لا يخطأ.

أمّا بناءً على ما هو المختار: من أنّ روح الحكم الظاهريّ عبارة عن تعيين درجة الاهتمام بالأغراض، فقد مضى أنّ السيرة على هذا لا تكون مرتكزة على أساس نكتة مدركة بالقريحة العامّة للعقلاء فحسب، بل تكون مرتكزة على أساس نكتتين: إحداهما مدركة بالقريحة العامّة للعقلاء، وهي مطابقة الخبر للواقع ثمانين بالمئة مثلاً، والاُخرى نكتة لا تكون كذلك بل تكون شخصيّة قد تختلف من شخص لآخر، فلا توجد في شخص مّا وإن كان الغالب وجودها في الأشخاص، وهي درجة اهتمام الشخص بأغراضه، فإنّ هذا إنّما يكون بملاك خاصّ لكلّ واحد واحد، فمن المحتمل مخالفة الشارع للآخرين في درجة الاهتمام بأغراضه. فهذا المقدار لا يكفي في المقام للحصول على النتيجة.

نعم، قد يضمّ إلى ذلك شيء آخر فيأتي هذا الوجه في المقام عند انضمامه إليه، وذلك عبارة عن دعوى جزم العقلاء بموافقة الشارع من باب حمل الشيء على الأعمّ الأغلب، فإنّ هذا قد يوجب القطع، فقد يقيس العقلاء الشارع على غالب العقلاء ويجزمون بموافقته.

هذا. وقد عرفت ممّا ذكرناه: أنّ ثمرة تشقيق السيرة العقلائيّة إلى الأقسام التي ذكرناها في أوّل البحث تظهر في مقام إثبات الشرطيّة الاُولى.

122

وأمّا الأمر الثاني ـ وهو أنّه لو ردع الشارع لوصلنا الردع ـ: فدليله مقتضى الطبع والعادة. توضيح ذلك:

إنّ المفروض أنّ ردع الشارع يكون بملاك دفع الخطر المتشكّل بسبب السيرة العقلائيّة على أغراضه، ومن الواضح أنّه إذا استقرّت سيرة العقلاء على شيء وارتكز في أذهانهم أمر سيطبّقونه على موارد الأحكام الشرعيّة وهو خطأ في نظر الشرع، فدفع هذا الخطر عن غرض المولى لا يتمّ ببيان واحد أو بيانين، بل لابدّ من بيانات عديدة تستلزم عادة الوصول إلى غالب الناس على اختلاف مراتب الوصول، فيصل البيان إلى بعض بنحو الجزم، وإلى بعض آخر بنحو الاحتمال. وإذا تشكّل في أذهان جماعة احتمال كون ما استقرّت سيرتهم عليه خلاف الشرع وتنبّهوا إلى ذلك ببركة تلك البيانات، فهذا يثير من جديد أسئلة عن هذا الحكم، فتكثر البيانات مرّة اُخرى ببركة الأجوبة التي تصدر على تلك الأسئلة، ومع كثرة البيانات إلى هذا الحدّ يستبعد عدم وصولها إلينا، خاصّة وإنّ الرواة يهتمّون بضبط هذه البيانات لأهمّيّتها بحسب التأريخ؛ لكونها ردعاً عن سيرة عقلائيّة متمركزة وعلى خلاف طبع العقلاء، وأهمّيّتها بحسب الشرع، فالرواية التي ترد في بيان حكم واضح يمكن أن لا يهتمّ بنقلها باعتقاد عدم أهمّيّتها اعتماداً على وضوح الحكم، أو دلالة العمومات عليه، أو نحو ذلك، وهذا بخلاف الروايات الرادعة عن مثل هذه السيرة، فاختفاء كلّ واحد من هذه البيانات علينا موهون في نفسه، وبضمّه إلى اختفاء بيان آخر يضعف الاحتمال نتيجة لضرب القيم الاحتماليّة، وهكذا إلى أن يصبح احتمال اختفاء المجموع ممّا يطمأنّ بعدمه(1). فعدم وصول


(1) أو يقطع بعدمه على اعتبار أنّ احتمال تماثل الصدف أضعف من باقي أطراف العلم الإجماليّ.

123

تلك البيانات ولو بنحو الموجبة الجزئيّة دليل على عدم صدورها رأساً.

وأمّا الأمر الثالث ـ وهو عدم الوصول ـ: فليس المقصود بذلك نفي خصوص الوصول الحجّة، بل نفي مطلق الوصول ولو بطريق ضعيف، فلو وصل الردع ضمن روايات ضعيفة كفى في سقوط السيرة عن الحجّيّة، فإنّ حساب الاحتمالات إنّما دلّ على أنّه يصلنا عادة من كلّ عشرين حديثاً حديثان ـ مثلاً ـ خصوصاً عند توفّر دواعي الضبط. أمّا أنّ ما يصلنا سيكون رواته ثابتي الوثاقة لدينا فهذا ممّا لا يدلّ عليه حساب الاحتمالات، فقد يكون ما وصلنا ضعيفاً من حيث السند صدفة، فيجب الرجوع عندئذ إلى دليل ثالث غير الحديث الواصل وغير السيرة.

وقد ظهر ممّا ذكرنا: أنّ حجّيّة السيرة العقلائيّة مشروطة: أوّلاً بأن تكون السيرة جارية في الموارد الشرعيّة كي تشكّل خطراً على أغراض المولى. وثانياً بعدم وصول الردع ولو بروايات ضعيفة السند.

كما ظهر ممّا ذكرناه: أنّ العبرة إنّما هي بالسيرة المعاصرة لزمان الشارع. أمّا في سيرة المتشرّعة فالأمر واضح؛ لأنّنا استكشفنا الحكم الشرعيّ منها من باب استكشاف العلّة من المعلول. ببيان: أنّ هذه السيرة إمّا نشأت من الغفلة، أو من السماع، والأوّل باطل بحساب الاحتمالات، فيتعيّن الثاني.

وأمّا السيرة المتأخّرة عنهم(عليهم السلام) فلا يمكن بشأن أصحابها السماع من الإمام(عليه السلام)، فهي إمّا أن تكون ناشئة من التسامح، أو من السماع من الفقهاء، أو غير ذلك، دون السماع من المعصوم كما هو واضح.

وأمّا في السيرة العقلائيّة فوجود سيرة في زمن متأخّر عن زمان الإمام لا يدلّ على موافقة الإمام لها بافتراض أنّه لو لم يرض بها لأصدر بيانات تصلح للردع عنها في الزمان المتأخّر؛ وذلك لأنّهم(عليهم السلام)إنّما يتحفّظون على الأحكام بالطريق الاعتياديّ لا بإعمال الغيب.

124

ثمّ إنّ ما ذكرناه هو البيان الصحيح لإثبات حجّيّة السيرة العقلائيّة لا ما يستشمّ من كلام المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله): من استكشاف موافقة الشارع باعتباره رئيس العقلاء وسيّدهم، فهو أيضاً داخل ضمن هذه السيرة بمقتضى كونه عاقلاً.

فإنّ هذا يرد عليه:

أوّلاً: إنّ السيرة العقلائيّة كما مضى ليست دائماً مبتنية على نكتة مدركة بالقريحة العامّة لهم، بل قد تكون مبتنية ـ مثلاً ـ على غرض شخصيّ تطابقوا فيه صدفة، وعندئذ من المحتمل أن لا تكون حالة الشارع مطابقة في ذلك لحالتهم.

وثانياً: إنّه حتّى لو كانت سيرتهم قائمة على نكتة ثابتة عندهم بقريحتهم العامّة فليس من الواجب أن تكون تلك النكتة عقليّة بحتة دائماً، بل قد تكون راجعة إلى باب الانفعالات والعواطف ونحو ذلك من الاُمور الخارجة عن دائرة العقل المؤثّرة في سلوك العقلاء، وعندئذ كيف يكون مجرّد كون الشارع سيّد العقلاء وأعقلهم دليلاً على موافقته لهم في ذلك؟!

وثالثاً: سلّمنا أنّ النكتة دائماً هي عقليّة ولا ترجع إلى باب الإحساسات والعواطف ولكن من المحتمل خطأ العقلاء فيما أدركوه. فإنّ كون الشارع أعقل العقلاء يكون منشأ لاحتمال عدم الإمضاء لسيرتهم؛ لأنّ الأعقل كثيراً مّا يكتشف خطأ العاقل ويلتفت إلى ما يمنعه من قبول ما قبله العقلاء الاعتياديّون، فمن المحتمل أنّ ما به امتياز عقل الشارع عن عقل غيره أوجب امتيازه عنهم في السلوك.

بقي الكلام في كيفيّة استنتاج النتيجة ممّا مضى شرحه من المرحلتين، فنقول:

أمّا سيرة المتشرّعة: فإن قامت على عدم الالتزام بشيء مّا دلّت على عدم وجوبه، وإن قامت على الالتزام به: فتارةً نعلم أنّ هذه السيرة تكون على أساس نكتة مرتكزة في أذهان المتشرّعة من وجوب أو استحباب أو إباحة، واُخرى لا

125

نعلم بذلك. ففي الفرض الأوّل تثبت صحّة تلك النكتة أيضاً بنفس البيان الذيتثبت به صحّة العمل، فنقول:

لولا أخذ تلك النكتة من الشارع لكان ارتكازها من باب الغفلة، وغفلة المجموع لا يمكن أن تفسّر بعلّة عامّة مشتركة، فهي مساوقة لاجتماع علل كثيرة للغفلة بلحاظ كثرة الأفراد الغافلين، وهذا ممّا يطمئنّ بحساب الاحتمالات، أو يقطع بخلافه، فيتعيّن تلقّيها من الشارع.

وفي الفرض الثاني لا يدلّ نفس العمل الخارجيّ على أكثر من الجواز بالمعنى الأعمّ المقابل للحرمة، فإن فرض أنّ ذلك الفعل الذي قامت عليه السيرة يمكن تفسير توافقهم عليه بنكتة طبيعيّة عامّة، لم تدلّ السيرة إلّا على الجواز بالمعنى الأعمّ، وإلّا دلّت على الاستحباب؛ لأنّ فرض توافقهم عليه من دون رجحان شرعيّ مساوق لفرض اجتماع علل كثيرة صدفة بلحاظ الأشخاص الكثيرين أوجب توافقهم على ذلك. وهذا يطمأنّ أو يقطع بعدمه. وهذا بخلاف فرض الرجحان الشرعيّ. أمّا الوجوب فلا يثبت.

وأمّا سيرة العقلاء: فلا شكّ في أنّه يستكشف من سكوت الإمام رضاه بالعمل بالمقدار الواقع في زمانه. أمّا إذا كانت هناك نكتة عامّة في أذهان العقلاء قامت على أساسها السيرة، وكان العمل الخارجيّ بالمقدار الثابت في ذاك الزمان من المحتمل صحّته بدون صحّة تلك النكتة، فهل يمكن إثبات إمضاء النكتة، وبالتالي تصحيح تطبيقاتها الجديدة التي لم تكن تتحقّق في زمن الشارع، أو لا؟ مثاله: أنّه قامت السيرة في زمان الشارع على تملّك المعدن بالحيازة، والمقدار الواقع من ذلك في ذلك الزمان هو الاستخراج المحدود وفق قدرات الآلات اليدويّة، ولكن هذه السيرة كانت مرتكزة على أساس اعتقاد عامّ وهو اعتقاد كون حيازة المعدن مملّكة مطلقاً، فهل يمكن إثبات إمضاء هذه النكتة، فتثبت بذلك ملكيّة الاستخراجات اللامحدودة في زماننا، أو لا؟

126

إن كان الدليل على إمضاء السيرة كون الشارع هو أحد العقلاء وسيّدهم ثبتت بذلك صحّة النكتة أيضاً.

وإن كان الدليل على الإمضاء ما مضى: من أنّ السيرة تؤدّي إلى نقض غرض المولى فكان على المعصوم الردع عنها، فتأثير السيرة إنّما كان بمقدار العمل الواقع وقتئذ، ولا يمكن إثبات إمضاء النكتة.

وهناك وجه آخر لإثبات إمضاء السيرة، وهو التمسّك بوجوب تعليم الأحكام والحقائق الإسلاميّة على الرسول والإمام. وهذا لا يفرّق فيه بين المقدار الذي كان السكوت عنه ناقضاً للغرض وغيره. فبهذا الوجه لو تمّ يتمّ إثبات إمضاء النكتة بسعتها؛ إذ لو لم تصحّ لكان على الإمام(عليه السلام)الردع عنها من باب وجوب إيصال الحقائق الإسلاميّة وأحكام الإسلام. وهذا الوجه صحيح في الجملة(1).

 

التحرّج عن الإفتاء وفق الصناعة

وأمّا البحث عن تلك الحالة النفسيّة: فقد ذكرنا في أوّل بحث السيرة: أنّ هناك حالة نفسيّة عند كثير من الفقهاء تمنعهم عن إعمال مرّ الصناعة في مقام استنباط الحكم الشرعيّ في كثير من الموارد. ولعلّ هذه الحالة النفسيّة هي السبب للتفتيش عن أساليب استدلاليّة تلائم تلك الحالة النفسيّة، كدعوى حجّيّة الشهرة والإجماع


(1) إن كان المدرك للدلالة على الإمضاء هو العقل بلحاظ نقض الغرض ووجوب التبليغ، فلا يبعد التفصيل بين ما لو كان اقتضاء النكتة لسعة دائرة العمل في المستقبل مترقّباً وقتئذ، أو لا. فعلى الأوّل كان السكوت دليلاً على الإمضاء، بخلافه على الثاني. وإن كان المدرك للدلالة على الإمضاء هو العرف ـ بأن يقال: إنّ السكوت من قِبَل معصوم شأنه بيان الحقائق الإسلاميّة وأحكام الإسلام يدلّ عرفاً على الإمضاء ـ فقد يقال: إنّ هذا يثبت إمضاء تمام النكتة.

127

المنقول، وانجبار الخبر ووهنه بعمل الأصحاب وإعراضهم، بل قد جاء في كلمات الشيخ(رحمه الله) ما هو أشدّ من ذلك حيث يقول في بعض الروايات الصحيحة: إنّه لا يمكن الأخذ بها؛ لكونها على خلاف القواعد وموجبة لتخصيصها، فلا يؤخذ بها ما لم تعتضد بعمل المشهور. ولعلّ من القواعد التي اصطنعت على هذا الأساس هي مسألة السيرة والارتكاز، ولذلك كلّما بطلت تلك القوانين السابقة في أذهانهم توسّعوا في هذا القانون كي يفي بتلك الحالة النفسيّة، ويقوم مقام تلك القوانين. ففي كلّ مورد منعتهم حالة التحرّج عن الإفتاء فيه بمرّ الصناعة، ولا يمكنهم التمسّك بمثل الإجماعات المنقولة يتمسّكون بأذيال السيرة والارتكاز.

والكلام تارةً يقع في أصل هذه الحالة التحرّجيّة، واُخرى في هذا النزوع والاتّجاه نحو مناهج للاستدلال تناسب هذه الحالة، فنتكلّم في أمرين:

الأمر الأوّل: إنّ هذا التحرّج يصلح نشوؤه من أحد اُمور ثلاثة:

الأوّل: الاطمئنان أو العلم الشخصيّ ببطلان هذا الحكم الذي هو مقتضى الصناعة، فلا محالة يتحرّج عن الإفتاء به. وبما أنّ هذه الحال والاطمئنان لا يمكن نقلها تكويناً إلى الآخرين فيفتّش عن دليل على طبق مذاقه كي يثبت به مطلوبه للآخرين، ويوجب لهم الاطمئنان بذلك.

الثاني: أن يرى الفقيه: أنّه وإن كان شاكّاً في الحكم الفلانيّ لكن هذا الشكّ يكون على خلاف العادة والعرف؛ لتوفّر مقتضيات الاطمئنان عنده، فلا يمكنه ترتيب آثار الشكّ لنفسه بالرجوع إلى القواعد المؤمّنة، والأمارات والاُصول العقليّة والنقليّة، ولا يمكنه ترتيب آثار اليقين من الإفتاء بذلك الحكم.

أمّا ترتيب آثار الشكّ: من الرجوع إلى القواعد المؤمّنة، فقاعدة قبح العقاب بلا بيان إنّما يستقلّ بها العقل عند عدم تماميّة البيان بحسب مقتضى الطبع والعادة، دون ما إذا كان البيان تامّاً بحسب الطبع والعادة، ومع ذلك بقي الفقيه شاكّاً في

128

الحكم لوسوسة، أو نزوع خاصّ إلى التشكيك.

وأمّا القواعد النقليّة فلانصراف أدلّة أحكام الشكّ الواقعيّة والظاهريّة عن مثل هذا الشكّ. كما أنّ أدلّة أحكام القطع الموضوعيّ منصرفة عن قطع القطّاع.

وأمّا ترتيب آثار اليقين فانصراف عنوان الشكّ عن شكّه لا يوجب كونه متيقّناً بالإلزام حتّى يمكنه ترتيب آثار الإلزام والإفتاء بالإلزام.

وعلى أيّ حال، فيقع هذا الفقيه في التحرّج في هذه الحالة عن الإفتاء بمرّ الصناعة من الرجوع عن الأدلّة العقليّة والنقليّة المؤمّنة.

وكلا هذين الوجهين صحيح بعد فرض تماميّة الصغرى.

الثالث: أن يحصل للفقيه علم إجماليّ ببطلان بعض الأحكام من عدّة أحكام. وحينئذ إن كانت القواعد تفي بإبطال قسم من تلك الأحكام بقدر المعلوم بالإجمال فلا أثر عندئذ لهذا العلم الإجماليّ. وأمّا إن كانت تلك الأحكام كلّها مطابقة لمقتضى الصناعة فيقال مثلاً: إنّ هذا القانون أو هذا الحديث يلزم من الأخذ به تأسيس فقه جديد، فعندئذ يجب إجراء قوانين باب العلم الإجماليّ والتعارض.

فبالنسبة لنفس العلم الإجماليّ نقول بوجوب الاحتياط إن كان متعلّقاً بحكم إلزاميّ.

وبالنسبة للأدلّة الجارية في أطراف هذا العلم نقول: إنّها إن كانت أمارات سقطت بالتعارض. وإن كانت اُصولاً سقطت أيضاً إن كانت كلّها نافية للتكليف، بخلاف ما لو وجدت فيها اُصول مثبتة بمقدار المعلوم بالإجمال. وإن كان بعضها أمارة وبعضها أصلاً، وكان علم إجماليّ على الخلاف في خصوص دائرة الأمارات بقيت الاُصول سليمة عن المعارض فيؤخذ بها، إلّا إذا كان هناك علم إجماليّ أيضاً في خصوص دائرة الاُصول، وكانت الاُصول نافية للتكليف. وإن لم يكن علم إجماليّ على الخلاف في خصوص دائرة الأمارات فيؤخذ بالأمارات،

129

وهي تثبت بلازمها بطلان تلك الاُصول أو بعضها. فإن كان لازمها بطلان أصلمعيّن بالخصوص ـ كما لو علم إجمالاً بكذب هذه الأمارة أو ذاك الأصل بالخصوص ـ سقط ذاك الأصل عن الحجّيّة. وإن كان لازمها بطلان بعض تلك الاُصول بنحو الإجمال فهذا يوجب تعارض الاُصول في نفسها إن كانت نافية للتكليف، وإلّا فيؤخذ بالأمارات والاُصول معاً.

الأمر الثاني: إنّ هذا النزوع والاتّجاه نحو وجدان دليل وفق ما تقتضيه تلك الحالة النفسيّة لعلّه ـ والله العالم ـ من نتائج المنطق الارسطيّ القائل بأنّ الشيء لابدّ أن يكون ضروريّاً أو مكتسباً منتهياً إلى الضروريّ، فخلف هذا المنطق في الأذهان في مختلف العلوم ـ ومنها علم الفقه ـ تخيّل أنّ الإنسان غير الساذج لا ينبغي له تسليم أيّ دعوى لا تكون ضروريّة ولا منتهية إلى الضروريّات. ومن هنا يحاول الفقيه أن يجد دليلاً وفق مقصوده كي لا يكون مدّعياً لشيء بلا دليل. ولكن الواقع أنّ العلم ليس دائماً ناشئاً من البرهان، بل قد ينشأ عن علّة أثّرت في النفس تكويناً فأوجدت العلم بلا برهان. والعلم بنفسه أمر حادث قائم بممكن حادث تسيطر عليه قوانين العلّيّة والمعلوليّة، ومهما وجدت علّته يوجد العلم قهراً سواء علمت تلك العلّة أو لا، وليس حصول العلم بحاجة إلى التفتيش عن علّته كي نجدها فيوجد العلم، وليست نسبة العلم إلى علّته إلّا كنسبة الحرارة إلى علّتها، فكما أنّ الحرارة توجد بوجود علّتها سواء فتّشنا عن علّتها ووجدناها أو لا، كذلك الحال في العلم، فلا موجب لهذا النزوع والاتّجاه. نعم، لو اُريد إعطاء صفة الحجّيّة المنطقيّة للعلم يجب التفتيش عن علّته، وملاحظة مدى انطباقها على قوانين المنطق القديم(1). هذا تمام الكلام في بحث السيرة وما ألحقناه به.

 


(1) الظاهر أنّ هذا البيان صدر من اُستاذنا(رحمه الله) بعد استكشافه لمنطق حساب

130

والآن حان وقت الشروع في البحث عن حجّيّة الأمارات الشرعيّة التي يعتمد عليها في مقام استنباط الحكم الشرعيّ وهي عديدة:

 


الاحتمالات وعدم برهانيّة كثير من العلوم الموضوعيّة للإنسان، وقبل انتهائه إلى تحقيقاته النهائيّة في منطق حساب الاحتمالات وما أسماه أخيراً بالمنطق الذاتيّ، أمّا بعد ذلك فمن الواضح أنّ هذا البيان غير صحيح، فصحيح أنّ العلم موجود حادث وممكن يتبع علّته لكن العلم في غير الضروريّات إنّما يكون موضوعيّاً إذا انتهى إمّا إلى البرهان، أو إلى قوانين حساب الاحتمالات المنقّحة في بحث المنطق الذاتيّ، وإن لم ينته إلى هذا ولا ذاك، فهو علم غير موضوعيّ ناتج عن وهم، أو عن مقاييس لم يكن ينبغي للإنسان أن يحصل له العلم منها. ونفس التفتيش عن علّة هذا العلم قد يوضّح للإنسان أنّ علمه هل هو موضوعيّ، أو لا؟ فإن عرف أنّه غير موضوعيّ فقد تصبح نفس هذه المعرفة سبباً لزوال ذاك العلم. والإنسان الذي يعلم بشيء ميّال إلى معرفة سبب علمه، ومدى موضوعيّته، وعن طريق معرفة السبب يستطيع أن ينقل علمه إلى الآخرين، فليس من الصحيح القول بأنّه لا حاجة إلى التفتيش عن سبب العلم؛ لأنّه إن حصلت علّته حصل وإلّا فلا، كما لا يخفى.

131

الأمارات الظنّيّة

2

 

 

الظهور

 

○كبرى حجّيّة الظهور.

○وسائل إثبات الظهور.

 

 

 

133

 

 

 

 

 

 

 

الأمارة الاُولى: الظهور. والكلام فيها يقع تارةً كبرويّاً في حجّيّة الظهور، واُخرى صغرويّاً في طريق إثبات الظهور، فهنا مقامان:

 

كُبرى حجّيّة الظهور

أمّا المقام الأوّل: فهو في البحث عن كبرى حجّيّة الظهور، ويقع البحث فيها في جهات أربع:

الاُولى: في البحث عن نفس حجّيّته، وأنّ أيّ قسم من أقسام الحجّيّة هو الثابت للظهور؟

والثانية: في البحث عن موضوع هذه الحجّيّة وهو الظهور، وأنّه ما معنى الظهور الذي هو موضوع للحجّيّة؟

والثالثة: في البحث عن درجة أصالة الظهور ونسبتها إلى سائر الاُصول اللفظيّة، كأصالة العموم، وأصالة عدم القرينة.

والرابعة: في البحث عن تحديد هذه الحجّيّة سعةً وضيقاً، وبيان التفصيلات فيها كالتفصيل بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد وغير ذلك، وبيان ما هو التحقيق فيها.

134

 

1 ـ إثبات أصل الحجّيّة

أمّا الجهة الاُولى: فيقع البحث فيها في مرحلتين:

الاُولى: في أنّه هل تكون للظهور حجّيّة ذاتيّة كالقطع، أو لا؟

والثانية: في أنّه بناءً على عدم الحجّيّة الذاتيّة له هل دلّ دليل على الحجّيّة التعبديّة له، أو هو باق على ما يقتضيه الأصل: من عدم الحجّيّة؟

 

الحجّيّة الذاتيّة للظهور:

أمّا المرحلة الاُولى: فقد عرفت فيما سبق أنّ معنى ثبوت الحجّيّة الذاتيّة للقطع هو كون حقّ مولويّة المولى موجباً للعمل به، وأنّ من طبّق تمام أعماله نفياً وإثباتاً وفق القطع بالحكم اللزوميّ للمولى والقطع بعدمه كان مؤدّياً لحقّ المولى بحكم العقل العمليّ.

ويمكن دعوى مثل ذلك في باب الظهور بأن يقال: إنّ العقل العمليّ يحكم بأنّ العبد الذي طبّق تمام أعماله نفياً وإثباتاً وفق الطريقة التي اتّخذها المولى في مقام إيصال الحكم إلى العبد يعدّ عبداً مخلصاً لمولاه ومؤدّياً حقّه، وقوانين اللغة طريقة اتّخذها المولى في مقام إيصال أحكامه. نعم، هناك فرق بين القطع والظهور، وهو أنّ حجّيّة القطع غير قابلة للردع عنها؛ لأنّ القاطع لا يحتمل خطأ قطعه، فلا معنى لأن يقال للعبد القاطع بالإباحة مثلاً: إنّي أوجبت عليك الاحتياط بالترك. ولكن حجّيّة الظهور قابلة للردع عنها، فبإمكان المولى ـ مثلاً ـ إيجاب الاحتياط عند دلالة الظهور على الإباحة؛ لأنّ احتمال مخالفة الظهور للواقع وارد. فالحجّيّة الذاتيّة للظهور تنتهي بوصول الردع عنه، وتكون معلّقة على عدم وصول الردع.

ومن هنا قد يقال بعدم الحجّيّة الذاتيّة للظهور بالفعل لوصول الردع، إمّا بلسان

135

دليل البراءة، أو الاحتياط عند عدم العلم، وإمّا بلسان الآيات الرادعة عن العملبغير العلم. والرجوع إلى البراءة إنّما هو في فرض انحلال العلم الإجماليّ الكبير بالأحكام بعلم صغير، كأن يدّعى علم إجماليّ بوجود تكاليف في الوسائل ـ مثلاً ـ بمقدار ما يعلم إجمالاً وجوده من الأحكام مطلقاً، فينحلّ العلم بالنظر إلى الأخبار الخارجة عن كتاب الوسائل.

والتحقيق: أنّه لا مجال لجعل ما ردع عن اتّباع غير العلم ردعاً عن حجّيّة الظهور بنحو الحجّيّة الذاتيّة؛ إذ معنى حجّيّة الظهور ذاتاً هو أنّ نفس ظهور كلام المولى بما هو ظهور لكلامه موضوع لحقّ المولويّة، والمطلوب بالذات في دائرة العقل العمليّ هو العمل بظهور كلام المولى، ونحن قد علمنا بالظهور، فعملنا به يكون اتّباعاً للعلم لا للظنّ والشكّ.

وأمّا الإشكال برادعيّة مثل البراءة فالذي يمكن جعله جواباً عنه أحد أمرين:

إمّا دعوى التوسعة في جانب المعلوم، وهي دعوى قريبة جدّاً، بأن يقال: إنّ المراد من: (رفع ما لا يعلم) هو رفع ما لا يعلم من خطابات المولى، فإذا علمنا بخطاب المولى الظاهر في حكم إلزاميّ فقد حصلت الغاية، فينقطع الأصل.

وإمّا دعوى التوسعة في جانب العلم، بأن يقال: إنّ الغاية ليست هي العلم بما هو علم، بل هي العلم بما هو حجّة(1)، فيقوم مقامه كلّ حجّة دلّت على الحكم الإلزاميّ.

هذه غاية ما يمكن أن يقال في توجيه الحجّيّة الذاتيّة للظهور.

وهذه الحجّيّة لا يمكن البرهنة عليها؛ إذ مرجعها إلى دعوى أنّ حقّ المولويّة بنفسه يقتضي العمل بظواهر كلام المولى. وحقّ المولويّة وسعة دائرته وضيقها من مدركات العقل العمليّ، ولا يمكن البرهنة على مدركات العقل العمليّ، فتبقى عهدة دعوى الحجّيّة الذاتيّة للظهور على مدّعيها.


(1) أو بما هو حجّة ذاتاً.