587

ولا تتناهى عظمته وقدرته وحكمته وعلمه وجزاؤه الحسن، ورضوانه وجنّته التي عرضها السماوات والأرض، كان ذلك منعّشاً للآمال. ومهما اقترب الإنسان من هدف من هذا القبيل،اشتدّت رغبته إليه، وأحسّ ببعد منتهاه وعمق أغواره، وكأنّ الاُمور المعنويّة تصبح حسّيّة لديه، وكأنّ الاُمور الغيبية تصبح حاضرة عنده «... فهم والجنّة كمن قد رآها، فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون ...»(1).

 

4 ـ التضحية:

إنّ من أهمّ ما يؤثّر في تزكية النفس وتقوية الروح والاقتراب إلى الله سبحانه وتعالى هي: التضحية في سبيل المبدأ والعقيدة والإسلام، وكذلك في سبيل كلّ خير للناس وللمؤمنين. وأقصد بالتضحية: تقديم مصلحة المبدأ أو الإسلام أو المؤمنين على مصلحة الشخص؛ فإنّ هذا يكسر في النفس طوق ضيق الأُفق المبتلى به الإنسان عادة في بداية أمره المتلخص في أنّه لا يرى إلاّ مصالحه الشخصيّة. وأساس الانحراف لدى الإنسان انطواؤه على مصالحه الخاصّة من ناحية، وضعف الإرادة من ناحية أُخرى. والتضحية تعالج كلتا هاتين المشكلتين. وكلّما كانت التضحية أكبر، كان أثرها في صفاء النفس وارتفاع الروح وعلوّ الهمّة أقوى، حتّى يصل الأمر إلى التضحية بالنفس، فكيف بمن يضحّي بكلّ غال ونفيس، وبالنفس وبالأ هل والمال والعيال والأطفال ثمّ يقول: «... هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله ...»(2).

وقبل التضحية يتحقّق مشهد من مشاهد التقابل بين مصلحة المجتمع أو مصلحة الإسلام أو رضا الله تعالى أو سبيل الجنّة من ناحية، والمصالح الشخصيّة التافهة


(1) المصدر السابق.

(2) بحار الأنوار 45/46.

588

من ناحية أُخرى، فيرى الإنسان الاعتيادي الواقف في بداية الطريق نفسه متحيّراً ومخيّراً بين الجنّة والنار، أو بين الخير والشرّ، أو بين نوعين من المصالح، وهذا المشهد حينما يكون قويّاً يخلق في نفسه هزّاً عميقاً عظيماً، وينتهي ـ عادة ـ إلى تبدّل الحالة النفسيّة إمّا إلى جانب الارتقاء والسعادة والسموّ الروحي، أو إلى جانب السقوط في الهاوية والشقاء والخسران، وكلّما كان مشهد التقابل بين المصلحتين أقوى، كانت الهزّة النفسيّة أشدّ، والتكامل أو السقوط أقوى وأعظم. ونذكر لذلك مثلين:

أحدهما: من أُولئك الذين كانوا من أهل السعادة، فأثّر فيهم هذا المشهد وأحدث تلك الهزّة، وانتهى إلى الانتقال الفجائي إلى الكمال وطيران الروح في سماء المعالي والفضيلة، ألا وهو: حرّ بن يزيد الرياحيّ(رحمه الله)، فأنت تعلم أنّ حرّاً(رحمه الله) لم يكن في بداية أمره يعتبر من الصالحين، بل ارتكب تلك الجريمة النكراء، وهي: أنّه جعجع بالحسين(عليه السلام) وأصحابه وأهل بيته في وسط الطريق، ومنعهم عن الرجوع، وألجأهم إلى سلوك المخاطر، ولكنّ الذي غيّر نفسيّته الوضيعة، وأوصلها إلى خير مراتب الكمال فجأةً، هو ما أحسّ به دفعةً من مشهد الصراع النفسي بين الحقّ والباطل، حينما انكشف له أنّ أقلّ الأمر الذي سيقع هو: قتال شديد، أيسره أن تسقط الرؤوس، وتطيح الأيدي، فدار أمره بين الاحتفاظ بالحياة الرخيصة والأمن لدى طاغية الوقت، وبين ترك الدنيا وزخرفها والانتقال إلى صفّ الهدى والتضحية في سبيل إمام المتّقين الحسين(عليه السلام)، وأخذته الهزّة في جميع أعماقه هزةً عظيمة، وارتعدت فرائصه، فقال له مهاجر بن أوس: «...إنّ أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل هذا، ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة؟ لما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟

فقال له الحرّ (معبّراً عن مشهد وقوعه بين الطريقين): إنّي والله اُخيّر نفسي بين

589

الجنّة والنار، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قطّعت وأُحرقت».

فأدركته السعادة، وحصل له ذاك التحوّل الدفعي الذي انتهى به الأمر بعد حالة الشقاء إلى حالة استحقّ بها رثاء الحسين(عليه السلام) إيّاه بعد استشهاده ـ على ما في التأريخ ـ بقوله وهو يمسح وجهه: «أنت الحرّ كما سمّتك اُمّك، وأنت الحرّ في الدنيا، وأنت الحرّ في الآخرة».

ورثاه رجل من أصحاب الحسين(عليه السلام) وقيل: بل رثاه عليّ بن الحسين(عليه السلام)قائلا:

لنعم الحرّ حرّ بني رياح
صبورٌ عند مختلف الرماحِ
ونعم الحرّ إذ نادى حسيناً
فجاد بنفسه عند الصباحِ
فيا ربّي أضفه في جنان
وزوّجه مع الحورالملاحِ(1)

و ثانيهما: من كان في النقطة المقابلة للمثل الأوّل الذي ذكرناه، فهو ـ أيضاً ـ شهد في نفس تلك القصّة وهي قصّة الحسين(عليه السلام) مشهد التقابل العنيف بين مصالح المبدأ والإسلام والفضيلة من ناحية، ومصالحه الشخصية الدنيئة من ناحية أُخرى وهزّ ذلك مشاعره، ولكنّه تحول إلى شقاء لا نهاية له. فقصّة واحدة حوّلت الشخص الأوّل إلى سعادة أبديّة بسبب مشهد التقابل بين المصلحتين والموازنة بينهما، وحوّلت الشخص الثاني بنفس السبب إلى شقاء أبديّ ألا وهو: عمر بن سعد، رأى نفسه مخيّراً بين الدنيا والآخرة، وعبّر هو عن هذا المشهد بأروع تعبير؛ إذ قال:

فوالله ما أدري وإنّي لحائرٌ
أُفكّر في أمري على خطرينِ
أأترك ملك الري والريُّ منيتي
أم أرجعُ مأثوماً بقتل حسينِ
حسينُ ابن عمّي والحوادثُ جمّةٌ
ولكنّ ملك الريّ قرةُ عيني


(1) بحار الأنوار: 45 / 10 ـ 14. وفي نقل آخر ورد البيتان الأوّلان عن الحسين(عليه السلام). المصدر السابق: 44 / 319.

590

فكان تأثير هذا المشهد وهذا الاهتزاز العميق في نفسه أن سقط إلى الهاوية، واختار الشقاء وقال:

وما عاقلٌ باع الوجود بدين

بل انتهى إلى الشكّ والزندقة وقال:

يقولون إنّ الله خالق جنّة *** ونار وتعذيب وغلّ يدينِ

وإن صدقوا فيما يقولون إنّني *** أتوبُ إلى الرحمن من سنتينِ

وإن كذبوا فزنا بدنيا هنيئة *** وملك عقيم دائم الحجلين(1)

والروايات المؤكِّدة لضرورة ترجيح كفّة الفضيلة والعمل الصالح على كفّة اللذّة الدنيويّة لدى تحقّق مشهد للتزاحم بينهما، كثيرة وبألسن مختلفة:

منها: ما ورد بلسان تقديم الآخرة على الدنيا، وذلك من قبيل:

1 ـ ما في حديث المناهي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «...ألا ومن عرضت له دنيا وآخرة، فاختار الدنيا على الآخرة، لقي الله ـ عزّوجّل ـ يوم القيامة وليست له حسنة يتّقي بها النار. ومن اختار الآخرة، وترك الدنيا، رضي الله عنه، وغفر له مساوئ عمله»(2).

2 ـ ما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)، عن آبائه، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد لم يره»(3).

ومنها: ما ورد بلسان تقديم رضا الربّ أو الدين على هوى النفس أو المصالح الشخصيّة والمادّية، وذلك من قبيل:

1 ـ ما عن الباقر(عليه السلام) قال: قال الله عزّ وجلّ: «وعزّتي وجلالي، وعظمتي


(1) رياحين الشريعة 4 / 238.

(2) وسائل الشيعة 15 / 209، الباب 9 من جهاد النفس، الحديث 1.

(3) المصدر السابق: ص 210، الحديث 3.

591

وبهائي؛ وعلوّ ارتفاعي، لا يؤثّر عبد مؤمن هواي على هواه في شيء من أمر الدنيا إلاّ جعلت غناه في نفسه، وهمّته في آخرته، وضمنت السماوات والأرض رزقه، وكنت له من وراء تجارة كلّ تاجر»(1) وسند الحديث تامّ، ومتنه يسطع منه نور الإمامة، وتشعّ منه العظمة الربّانيّة.

2 ـ عن الباقر(عليه السلام) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال لعليّ(عليه السلام): «يا عليّ، أُوصيك في نفسك بخصال، فاحفظها، ثُمّ قال: اللهمّ أعنه. أمّا الأُولى فالصدق، لا يخرجنّ من فيك كذبة أبداً. والثانية الورع، لا تجترئنّ على خيانة أبداً. والثالثة الخوف من الله كأنّك تراه. والرابعة كثرة البكاء من خشية الله ـ عزّ وجلّ ـ يبنى لك بكلّ دمعة بيت في الجنّة، والخامسة بذل مالك ودمك دون دينك. والسادسة الأخذ بسنتي في صلاتي وصيامي وصدقتي: أمّا الصلاة فالخمسون ركعة. وأمّا الصوم فثلاثة أيّام في كلّ شهر: خميس في أوّله، وأربعاء في وسطه، وخميس في آخره. وأمّا الصدقة فجهدك حتّى يقال: أسرفت، ولم تسرف. وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الزوال وعليك بقراءة القرآن على كلّ حال، وعليك برفع يديك في الصلاة وتقليبهما، وعليك بالسواك عند كلّ صلاة، عليك بمحاسن الأخلاق فاركبها، عليك بمساوئ الأخلاق فاجتنبها، فإن لم تفعل فلا تلومنّ إلاّ نفسك»(2).

والشاهد في قوله: «والخامسة بذل مالك ودمك دون دينك» وسند الحديث تامّ، ومتنه يتشعشع بنور النبوّة.

ولئن اتّضح أنّ وقوع مشهد التزاحم بين المصلحتين، أو التردّد بين الطريقين: طريق النجاة، وطريق الهلاك حينما يكون فجأةً وقويّاً ينتهي ـ عادة ـ إلى هزّة


(1) وسائل الشيعة: 15 / 279، الباب 32 من جهاد النفس، الحديث 2.

(2) المصدر السابق: ص 181 ـ 182، الباب 4 من جهاد النفس، الحديث 2.

592

المشاعر دفعةً هزّةً عظيمة، ومن ثُمّ ينتهي إمّا إلى السعادة العظمى، أو إلى الدرك الأسفل، ترتّبت على ذلك عدّة نصائح، لابدّ من الأخذ بها:

الاُولى: لا ينبغي للإنسان أن يبقى غافلا عن هذا النمط من الامتحان إلى أن يقع فيه؛ لأنّ اتخاذ التصميم لسلوك أحد الطريقين لدى التزاحم العنيف الهازّ للمشاعر من الأعماق، يكون فورياً، كما اتّفق لحرّ بن يزيد من ناحية، ولعمر بن سعد من ناحية أُخرى في القصّتين اللتين أشرنا إليهما. وهنا يكمن خطر الانزلاق إلى درك لا يُرى عمقه، ولا يدرك غوره، انزلاقاً أبديّاً لا يعود صاحبه إلى خير. فعلى الإنسان أن يكون ـ دائماً ـ على أُهبة الاستعداد لامتحان من هذا القبيل، وأن يطالع ـ دائماً ـ ما حوله من المكتنفات؛ كي يستطيع أن يتنبّأ الواقعة قبل الوقوع، ولا يفاجأ بالأمر، وعندئذ يكون أقدر على اختيار الطريق الصحيح، وإنجاء نفسه من الهلكة.

والثانية: لا ينبغي للإنسان أن ينتظر وقوع حالة من هذا القبيل على وفق الصُدف والمفاجأة الخارجة عن اختياره، وهو لا يعلم ماذا ستتمّ له من سعادة أو شقاء، بل ينبغي له أن يخلق هو ظروفاً مؤدّية إلى أمر من هذا القبيل، على أن يدبّر الظروف بالحدود التي يرى في نفسه القدرة على تحمل المشهد الناجم منها، وعلى ترجيح جانب الخير، فمثلا من يصعب عليه إنفاق المال بإمكانه أن يتعمّد الفحص عن مواضع الإنفاق التي تهزّ المشاعر: من أيتام معوزين، أو مشروع خير يدعو ضمير الإنسان نحو التفاعل معه، ـ زائداً على الواجبات الفقهيّة التي لابدّ له من الالتزام بها ـ ويقرن ذلك بزمان حاجة ماسّة شخصيّة له بما لديه من المال، كي يقع بين نداء النفس الأمّارة التي يدعوها إلى تلبية مآربه الشخصيّة، ونداء الوجدان الذي يدعوه إلى مساعدة المحتاجين المعدمين، أو المشروع الإسلامي النافع، مع ترتيب المقارنات والمكتنفات الخارجيّة والنفسيّة من قبل الطرفين بنحو يساعده

593

على تقديم جانب الخير، فيرجّح عند ذلك جانب السعادة، ويسلك طريق النجاة. وبهذا يكون أوّلا قد نمّى عزيمة الخير في نفسه، واستطاع إيصال نفسه إلى بعض مستويات الكمال، وثانياً حقّق لنفسه أُهبة الاستعداد لمشهد تزاحم أكبر من ذلك، قد يتّفق له في المستقبل من دون اختياره، ولا يفاجأ بذلك.

وأيضاً من يصعب على نفسه الاعتراف بالحقّ بحضور الناس حينما يعتبر ذلك الاعتراف كسراً لنفسه، وتنازلا لخصمه، مشيناً له في بعض الأعراف الاجتماعيّة، ومبرزاً لجهله الذي كان خافياً على الناس الذين ينظرون إليه كمفكّر ألمعيٍّ ومحقّق عبقريّ، ينبغي أن يعقد لنفسه حواراً في بعض معتقداته مع من يحتمل أن يغلبه، ويوضّح له خطأ رأيه بحضور فئة من الناس، وبمستوى يحدس أنّه قادر على تحمّل انكسار أُبّهته قبالهم، وتجرّع مرارة الاعتراف بالحقّ لديهم، فيفعل ذلك لأجل النتائج التي أشرنا إليها. وما إلى ذلك من الأمثلة التي يمكن أن تفترض.

والثالثة: ينبغي للإنسان أن يجرّب نفسه ويقيّمها بين حين وحين بإيجاد مشهد تزاحم وهمي بين المصلحتين؛ كي يعرف مدى استعداده لتغليب جانب الخير، ويقيّم مدى مرتبة الكمال أو النقص ـ لا سمح الله ـ التي وصلت إليها نفسه. وأذكر لذلك مثلين:

1 ـ حدّثني اُستاذي الشهيد الصدر(رحمه الله) عن حالات المرحوم الشيخ عليّ القميّ(قدس سره)المتعبّد الزاهد المعروف في النجف الأشرف أنّه قال له شخص ذات يوم: لو ظهر الإمام صاحب الزمان عجّل الله فرجه، وأمرك بأن تحلق لحيتك، وتمشي في الطرقات والأسواق بمشهد من الناس بهذه الحالة علناً، ونهاك أن توضّح للناس كونك مأموراً بهذا الحلق من قبل الإمام(عليه السلام)، فهل أنت مستعدّ نفسيّاً لتنفيذ ذلك؟ علماً بأنّ هذا إراقة لماء وجهه أمام الناس تماماً. فكان يبكي خشية أن لا يكون مستعدّاً لذلك.

594

2 ـ كتبت من ذكرياتي عن حياة اُستاذنا الشهيد الصدر(قدس سره) في ترجمتي له ما يلي:

حدّثني(رحمه الله) ذات يوم: أنّه حينما كتب كتاب (فلسفتنا) أراد طبعه باسم جماعة العلماء في النجف الأشرف، بعد عرضه عليهم متنازلا عن حقّه في وضع اسمه الشريف على هذا الكتاب، إلاّ أنّ الذي منعه عن ذلك أنّ جماعة العلماء أرادوا إجراء بعض التعديلات في الكتاب، وكانت تلك التعديلات غير صحيحة في رأي أُستاذنا الشهيد، ولم يكن يقبل بإجرائها فيه، فاضطرّ أن يطبعه باسمه. قال(رحمه الله): إنّي حينما طبعت هذا الكتاب لم أكن أعرف أنّه سيكون له هذا الصيت العظيم في العالم، والدويُّ الكبير في المجتمعات البشريّة ممّا يؤدّي إلى اشتهار من ينسب إليه الكتاب، وأنا الآن اُفكّر أحياناً أ نّي لو كنت مطّلعاً على ذلك، وعلى مدى تأثيره في إعلاء شأن مؤلّفه لدى الناس، فهل كنت مستعدّاً لذلك أو لا؟ وأكاد أبكي خشية أ نّي لو كنت مطّلعاً على ذلك لم أكن أستعدّ لطبعه بغير اسمي.

رحمك الله يا أبا جعفر، وهنيئاً لك هذه الروح الطاهرة والمعنويّات العالية العظيمة، في حين كنت تعيش في مجتمع يتكالب أكثر أبنائه على سفاسف الدنيا، أو زعاماتها، أو كسب مديح الناس وثنائهم، أو جمع ما يمكنهم من حطام الدنيا ونعيمها من حلال أو حرام(1).

والرابعة: التزاحم بين المصلحتين يتدرّج في الإنسان ـ عادة ـ من صغر سنّه وضعف قدراته ومقامه وارتباطاته إلى ما بعد ذلك، فكلّما كبر سنّه واتّسع نشاطه وزادت قدراته، وارتفع مقامه، وتوسّعت ارتباطاته، اشتدّ التزاحم، وقويت المصلحتان اللتان تمّ الاصطكاك بينهما. فلو أردنا أن نأخذ مثلا من الحوزة العلميّة قلنا: إنّ طالب العلم الاعتيادي قد يكون التزاحم عنده عبارة عن مكابرة له في


(1) راجع مباحث الاُصول، الجزء الأوّل من القسم الثاني: 45.

595

البحث مع شخص فيما يعلم أنّ الحقّ مع صاحبه، ولكن حينما يصبح مرجعاً للتقليد يقع التزاحم بين مصلحة الحقّ التي تقتضي التنازل لصاحب له عن المرجعيّة، ومصالحه الشخصيّة التي تنجم من هذا المقام.

ولو أردنا أن نأخذ مثلا من الحياة الماليّة قلنا: قد يقع التصادم بين ولدين في مقتبل عمرهما على دينار واحد بينهما، ولكن حينما يقوى عود التجارات الواسعة لهذا ولذاك، قد يقع التصادم بينهما في الظهور بمظهر الحقّ، على رغم علمه بالبطلان في صفقة واحدة تدرّ عليه بالحقّ تارة وبالباطل أُخرى أرباحاً هائلة، تنوء مفاتحها بالعصبة أُولي القوّة.

فعلى الإنسان أن يعوّد نفسه على تقديم المصلحة الإسلاميّة والأخلاقيّة على المصلحة الشخصيّة من أوّل يوم، فإذا قدر على ذلك قدر عليه في اليوم الثاني؛ لأنّ الفارق ضئيل، وهكذا إلى آخر يوم، في حين أنّه لو لم يربّ نفسه على ذلك من أوّل الأمر إلى أن وصل إلى تزاحمات كبيرة ومصلحتين متصادمتين عظيمتين، فسوف ينهار قبال إغراء المصالح الشخصيّة، ولا يقدر على إنجاء نفسه.

والخامسة: موضوع العناوين الثانويّة يقع فيه كثير من الخلط واللبس في إيهام النفس بحقّانيّة احدى الكفّتين في مقابل الاُخرى حيث تقتضي المصلحة الحقيقيّة الإسلاميّة أو الأخلاقيّة أحياناً اتّخاذ موقف ليس في صالحه الشخصي، فيعمد الشخص فوراً إلى دعوى أنّ العنوان الثانوي يتطلّب منه اتّخاذ الموقف الآخر؛ كي لا ينكسر مثلا، ويبقى قادراً على نصر الإسلام، أو إلى القول بأنّه يجب عليه ترك الجهاد، لأنّه يعرضه للقتل، في حين أنّ الإسلام بحاجة إلى حياته، أو إلى الغيبة والوقيعة والهتك بحجّة أنّ فلاناً وجب فضحه، وجازت غيبته، وما إلى ذلك، فهذا مزلّة لنفوس الكبار، ومزلقة لأقدام العظام، يجب التوجّه إلى ذلك بدقّة كاملة.

596

 

5 ـ المحاسبة والموازنة:

ونحن قد بحثنا المحاسبة في الحلقة الثالثة من هذا الكتاب، فهنا نختصر الكلام عن ذلك، ونخصّصه بذكر أقسام المحاسبة.

وتوضيح المقصود: أنّ أصحاب الأموال اعتادوا على أن يحسبوا أموالهم وأرباحهم وخسائرهم بين حين وحين؛ لأنّ الاطلاع على المحصول يؤثّر أوّلا في مدى الصرف وكيفيّة الصرف، وثانياً في مدى الاهتمام بالدخل ومعالجة الخسائر الماضية والخسائر المستقبليّة المحتملة.

وكذلك ـ الحال تماماً ـ ينبغي أن يكون في محاسبة الإنسان نفسه بلحاظ رأس ماله الأصلي، وهو: العمر، ومدى أرباحه من رأس المال هذا أو خسائره.

وقد ورد في وصايا رسول الله(صلى الله عليه وآله) لأبي ذر:

«يا أبا ذرّ، حاسب نفسك قبل أن تحاسب؛ فإنّه أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن...»(1).

والقرآن يقول: ﴿وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَد ...﴾(2).

وتنقسم المحاسبة والموازنة إلى عدّة أقسام:

الأوّل: محاسبة الأعمال التي صدرت عن الشخص المحاسِب بالقياس إلى ما ينبغي وما لا ينبغي، فإن صدر عنه الخير شكر الله عليه واستزاد منه، وإن صدر عنه الشرّ تاب إلى الله منه وتداركه. ولو ترك هذه المحاسبة كثُرت أخطاؤه وهو لا يعلم.

وقد ورد عن الصادق(عليه السلام): «انّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: ايتوا بحطب، فقالوا: يا رسول الله، نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب.


(1) وسائل الشيعة 16 / 98، الباب 96 من جهاد النفس، الحديث 7.

(2) السورة 59، الحشر، الآية: 18.

597

فقال(صلى الله عليه وآله)فليأت كلّ إنسان بما قدر عليه، فجاؤوا به حتّى رموا بين يديه بعضه على بعض، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): هكذا تجتمع الذنوب. ثُمّ قال: إيّاكم والمحقّرات من الذنوب، فإنّ لكلّ شيء طالباً ألا وإنّ طالبها يكتب ﴿مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْء أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَام مُبِين﴾»(1).

وما في ذيل الحديث من «محقّرات الذنوب» قد فسّر في حديث آخر عن زيد الشحّام بسند تامّ، عن الصادق(عليه السلام): «اتّقوا المحقّرات من الذنوب، فإنّها لا تغفر، قلت: وما المحقّرات؟ قال: الرجل يذنب الذنب فيقول: طوبى لي إن لم يكن لي غير ذلك»(2).

والثاني: محاسبة النفس على نواياها ودوافعها الكامنة، فإنّ من يغفل عن ذلك، ويقتصر على النظر إلى ظواهر عمله، فقد يغفل عمّا معه من الرياء، وعن الشرك الخفي، وعن الدوافع المادّيّة، ويحسب أنّه يحسن صنعاً ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالاَْخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾(3)﴿... إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء ...﴾(4).

والثالث: موازنة نفسه بين مدى ما هو واصل إليه الآن من المقام ومن الدرجات المعنويّة والقيم والأخلاق، وبين ما كان واصلا إليه في وقت سابق؛ كي يعرف مدى رقيّه أو نزوله.

والرابع: موازنة نفسه بين مدى ما هو واصل إليه الآن من مقام ودرجات ومُثل


(1) وسائل الشيعة 15 / 311، الباب 43 من جهاد النفس، الحديث 3، والآية: 12 في السورة 36، يس .

(2) وسائل الشيعة 15 / 310، الباب 43 من جهاد النفس، الحديث 1.

(3) السورة 18، الكهف، الآيتان: 103 ـ 104.

(4) السورة 2، البقرة، الآية: 284.

598

عليا، وبين ما ينبغي أن يصل إليه؛ كي يعرف مدى النقص الموجود فعلا والذي ينبغي أن يملأه ويكمّله.

والخامس: أن يوكّل محاسبة نفسه إلى أخ له مؤمن معتمد عارف؛ لأنّ الشخص قد يغفل عن نقائص نفسه وأخطائه، وقد يكون صاحبه أقدر على أن يكشف له أخطاءه والمؤمن مرآة المؤمن(1).

 

6 ـ التفكير في العواقب:

فإنّ التفكير في عاقبة الخير الدنيويّة والأُخرويّة يرغّب الإنسان نحو الخير، والتفكير في عاقبة الشرّ الدنيويّة والأُخرويّة يبعّد الإنسان عن الشرّ، وكذلك التفكير في الدنيا وفنائها يزهّد الإنسان عن محرّماتها وشبهاتها، ويهوّنها في نفس الإنسان، والتفكير في الآخرة ونعيمها وجحيمها ودوامها يرغّب الإنسان نحو العمل الصالح، ويزهّد عن الظلم والفساد.

 

7 ـ الجوّ الصالح:

لا إشكال في أنّ الجوّ يؤثّر في الإنسان تأثيراً بالغاً، فإن كان صالحاً صلح الفرد، وإن كان فاسداً فسد الفرد؛ ولهذا لو أصبح الجوّ العام صالحاً تحت نظام الإسلام أثّر في عامّة الأفراد، وكان الغالب فيهم هو الخير والصلاح، ولو أصبح جوّاً منحرفاً عن الإسلام الصحيح فبقدر انحرافه يؤثّر في عموم الأفراد.

وكذلك الأجواء الخاصّة لها تأثيرها الكبير في الأفراد من جوّ العائلة إلى جوّ المدرسة إلى جوّ الأصدقاء والإخوان... إلى غير ذلك.


(1) نسب المجلسي(رحمه الله) جملة «المؤمن مرآة المؤمن» إلى الرسول(صلى الله عليه وآله) في بحار الأنوار 74 / 268.

599

وينبغي الاهتمام الكامل بالنسبة لتربية الأطفال بتهذيب جوّ البيت والعائلة، وتربية الاُمّ التي هي المدرسة الأُولى للطفل في الأعراف المتشرعيّة، ثُمّ اختيار خير مدرسة له يتوفّر فيها أكبر قدر ممكن من الجوّ الصالح، والإشراف من قبل وليّ صالح عليه وعلى تحركاته ومجالساته وما شابه ذلك.

وقد مضى منّا الحديث عن ضرورة تربية الأطفال والأولاد ضمن البحث عن توفير العادة الصالحة. ولكن بقيت علينا الإشارة إلى مدّة الاهتمام بتربية الولد وهي تتحدّد بالسنّ الذي يتقبّل التربية والتأديب من وليّه، ولعلّه لا حدّ دقيق لذلك. ويختلف الأمر باختلاف الأولاد، إلاّ أنّ هنا حدّين غالبيين: أحدهما حدّ البلوغ، والآخر حدّ ريعان الشباب. كما أنّ هناك طائفتين من الروايات، فكأنّ احداهما تنظر إلى الحدّ الثاني وإلى أعلى مستويي إمكان المواصلة مع الأولاد في التربية، والأُخرى تنظر إلى الحدّ الأوّل وإلى أقل المستويين.

فممّا ينظر إلى أطول الحدين: ما عن الصادق(عليه السلام): «الغلام يلعب سبع سنين، ويتعلّم الكتاب سبع سنين، ويتعلّم الحلال والحرام سبع سنين»(1).

وأيضاً عنه(عليه السلام): «دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدّب سبع سنين، والزمه نفسك سبع سنين، فإن أفلح وإلاّ فلا خير فيه»(2).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام): «يربّى الصبيّ سبعاً، ويؤدّب سبعاً، ويستخدم سبعاً. ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة،وعقله في خمس وثلاثين، وما كان بعد ذلك فبالتجارب»(3).

وعن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «الولد سيّد سبع سنين، وعبد سبع سنين، ووزير سبع سنين، فإن


(1) وسائل الشيعة 21 / 475، الباب 83 من أحكام الأولاد، الحديث 1.

(2) المصدر السابق: الحديث 4.

(3) المصدر السابق: الحديث 5.

600

رضيت خلائقه لإحدى وعشرين سنة وإلاّ فاضرب على جنبيه، فقد أعذرت إلى الله»(1).

وممّا ينظر إلى أقصر الحدّين: ما عن الصادق(عليه السلام): دع ابنك يلعب سبع سنين، وألزمه نفسك سبعاً، فإن أفلح وإلاّ فإنّه ممّن لا خير فيه(2).

وأيضاً عنه(عليه السلام): «أمهل صبيّك حتّى يأتي له ستّ سنين، ثمّ ضمّه إليك سبع سنين، فأدّبه بأدبك، فإن قبل وصلح وإلاّ فخلّ عنه»(3).

 

8 ـ معرفة الإسلام:

بوصفه نظاماً كاملا شاملا مُسعداً للحياة من ناحية، وبوصفه برنامجاً روحيّاً مكمّلا للإنسان، وموصلا له وصولا معنويّاً لحضيرة القدس والحضور من ناحية أُخرى، ومؤمّناً لسعادة الآخرة مادّيّاً متجسّداً في الجنّة، ومعنويّاً متجسّداً في رضوان الله ولقائه بعين البصيرة (لا الباصرة) من ناحية ثالثة، فكلّما اتّسعت هكذا معرفة بالإسلام تفصيلا، اتّسع أثرها في تزكية النفس وتربية الروح. أمّا المعرفة الإجماليّة فإن أثّرت ـ وأثرها ناقص ـ جرّت الإنسان بالنهاية إلى السعادة، وإن لم تؤثّر جرّت الإنسان إلى الشقاء الأبدي؛ لأنّ من ينحرف عن رضون الله على رغم العلم بالحقيقة ولو إجمالا أشقى ممّن ينحرف عن جهل.

وأمّا إبداء الإسلام كوصفة مؤمّنة لحياة الآخرة فحسب، فهي ليست إلاّ وصفة ناقصة، ليس من يعطيها للمريض الروحي طبيباً حاذقاً، ولا توجب ـ عادة ـ


(1) المصدر السابق: ص 476، الحديث 7.

(2) وسائل الشيعة 21 / 473، الباب 82 من أحكام الأولاد، الحديث 1. صحّحنا المتن من الكافي 6 / 46 بحسب طبعة الآخوندي.

(3) المصدر السابق: الحديث 2. وطبيعيّ أنّ هذه التحديدات ليست حدّيّة، فقد تزيد وقد تنقص.

601

الإفاقة المرجوّة؛ لأنّها أغفلت حاجتين ماسّتين يحسُّ بهما الإنسان في أعماق نفسه وفي ضميره ووجدانه، ولو إحساساً غامضاً وإجماليّاً: أحدهما إحساسه ببرمجة حياة سعيدة هنيئة آمنة مطمئنة، والثاني إحساسه بالعطش الروحي، والحاجة إلى الارتواء من معين القرب إلى الله، والفوز برضاه والذوبان فيه. والوصفة الناقصة لا تجلب رغبة المريض، ولا تشجّعه على العلاج، فلابدّ للطبيب الحاذق من إعطاء الوصفة الكاملة الناجعة؛ كي يؤثّر في الأعماق، ويحيي القلوب الميّتة بإذن الله.

 

9 ـ التدريب:

لا يتمّ التكامل في غير المعصوم إلاّ بالتدريب وترويض النفس. وها هو إمامنا المعصوم عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) يقول على ما في نهج البلاغة في كتابه لعثمان بن حنيف: «... وإنّما هي نفسي أُروّضها بالتقوى؛ لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق...» ويقول(عليه السلام) في نهاية الكتاب: «... طوبى لنفس أدّت إلى ربّها فرضها، وعركت بجنبها بؤسها، وهجرت في الليل غمضها، حتّى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها، وتوسّدت كفّها في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربّهم شفاههم، وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم ﴿... أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾»(1).

وينصح للتدريب بعِدَّة أُمور منها:

1 ـ إيجاد دورات أخلاقيَّة ونوبات متقطِّعة زمنيَّاً للتدريب، كما هو المألوف في نظام الإسلام: من افتراض مناسبات معيَّنة لأعمال الخير والعبادات والمساعدات


(1) نهج البلاغة: 574 و 579، والكتاب 45 إلى عثمان بن حنيف، والآية: 22 من السورة 58، المجادلة.

602

والاهتمامات الحسنة، وهي مناسبات زمانيَّة أحياناً، ومكانيَّة أُخرى، ومرتبطةبأُمور أُخرى غير الزمان والمكان ثالثة، فالأعياد في الإسلام وشهر رمضان ونحو ذلك من ناحية، والأماكن المقدَّسة من ناحية أُخرى، ومناسبة الاستطاعة أو مناسبات الظفر بنعمة من الله تستوجب الشكر، أو الابتلاء ببلاء يستوجب التوبة والإنابة والدعاء والاقتراب إلى الله، أو ذنب ـ لا سمح الله ـ يستوجب الإنابة والتوبة وغُسل التوبة وما إلى ذلك، كلُّ هذه فرص ومناسبات اتَّخذها الإسلام كوسيلة للتدريب على الخير وتزكية النفس.

2 ـ التدرُّج من السهل إلى الصعب على النفس: من أخلاق فاضلة، وأعمال حسنة، ومن القليل إلى الكثير.

3 ـ الأدعية والأذكار وقراءة القرآن والصلوات ـ وخاصَّة صلاة الليل ـ وما إلى ذلك ممَّا يساعد على الحضور والخلوة.

وتوضيح المقصود: أنَّ العبادات على قسمين:

أحدهما: العبادات التي لا تنسجم ـ عادةًـ مع الدرجة الكاملة للحضور والخلوة مع الله، كالدرس والتدريس حينما يكونان عبادتين، بل وحتّى الكسب والتجارة؛ إذ بإمكان الشخص أن يجعلهما عبادة لله، وذلك عن طريق جعل غاياتهما غايات إلهيَّة، كالإنفاق على العيال الواجب أو المستحب، أو الإنفاق على المحتاجين، أو على المشاريع الإسلاميَّة وما إلى ذلك.

والثاني: العبادات التي تساعد على مستوى أكبر من الحضور والخلوة مع الله، كالصلاة والمناجاة والدعاء والتوبة، والبكاء من خشية الله، أو من الخشوع قبال عظمة الله وما إلى ذلك.

وحصر العبادة في القسم الثاني والانسحاب من الأُمور الحياتيَّة والاجتماعيَّة، ليس من تعاليم الشريعة الإسلاميَّة، فإنَّ شريعة الإسلام لا توافق على حالة الترهبن وما إلى ذلك.

603

ولكنَّ القسم الثاني من العبادة حينما يؤتى بها بحالة الخشوع والحضور والخلوة مع الله، يكون أكثر تأثيراً في تربية النفس من القسم الأوّل، ولهذا لابدَّ للإنسان الحريص على تكميل نفسه وتزكيتها من تخصيص بعض من أوقاته يوميَّاً بذلك، ومسألة التأكيد على صلاة الليل داخلة في هذا المضمار.

 

10 ـ توفير الحاجات النفسيَّة والجسديَّة:

من أهمِّ ما يحقِّق للنفس فرصة التربية توفير ما يلبّي الحاجات النفسيّة والجسديَّة عن طُرقها المشروعة؛ كي تفرغ النفس للتزكية والتكامل، ولا تتَّجه النفس في إشباع الحاجات إلى الطرق غير المشروعة. ومن هذا الباب الأدب الإسلامي في التبكير بالزواج في مقتبل العمر، ومن هذا الباب ـ أيضاً ـ الأدب الإسلامي في تأجيل الصلاة لدى مدافعة الأخبثين حتّى يتمَّ دفعهما، وكذلك ينفع دفع الحاجات وعلاجها قبل العبادة لحضور القلب.

وهذا المحفِّز هو أحد الأُمور التي تتوفَّر بأفضل الأنحاء وأكملها حينما يكون الإسلام هو الذي يحكم المجتمع.

 

11 ـ نظام العقوبات:

ولنظام العقوبات أثر بالغ في التربية: من الحدود، والتعزيرات، والقصاص، والديات، والكفارات. وهذا أحد الأُمور التي تتوفَّر بأفضل الأنحاء حينما يكون الإسلام هو الحاكم في المجتمع.

 

12 ـ المربِّي:

ومن الأُمور الهامَّة المؤثِّرة في تزكية النفس وتربيتها، تسليمُ الشخص نفسه بيد مربٍّ يكون أعلى مستوىً بدرجات رفيعة من المربَّى. وهذا من قبيل ما مضى في

604

المحفِّز الثاني: من اتِّخاذ القدوة، بفرق: أنَّ النظر في المحفِّز الثاني ـ وهو القدوة ـ كان إلىممثِّليَّته للصفات الحسنة والمُثل العليا بالاقتداء بأوصافه وأعماله ونواياه وأهدافه، والنظر في هذا المحفِّز يكون إلى الرجوع إليه والاسترشاد به، وقبول نصائحه وإرشاداته.

 

13 ـ الضمير أو الوجدان أو الفطرة:

قال الله تعالى: ﴿وَنَفْس وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾(1).

وقال عزَّ من قائل: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾(2).

وقال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾(3).

وقال عزَّ اسمه: ﴿وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللوَّامَةِ﴾(4).

وقال جلَّ وعلا: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ...﴾(5).

وقال ـ أيضاً ـ في كتابه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾(6).

وقال ـ أيضاً ـ في الكتاب: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً﴾(7).


(1) السورة 91، الشمس، الآيتان: 7 ـ 8 .

(2) السورة 90، البلد، الآية: 10.

(3) السورة 76، الإنسان، الآية: 3.

(4) السورة 75، القيامة، الآية: 2.

(5) السورة 30، الروم، الآية: 30.

(6) السورة 7، الأعراف، الآية: 172.

(7) السورة 17، الإسراء، الآية: 67.

605

إنّ الله عزَّ وجلَّ خلق في النفس البشريَّة مَحْكمةً اسمها: الضمير أو الوجدان، أو الفطرة، تدرك أوَّلاً كثيراً من الحقائق الراجعة إلى الفضيلة والرذيلة، ممَّا يكون حسنها وقبحها أمرين واقعيين، وغير مأخوذين من مجرَّد الشهرة أو العادة أو التأديب الاجتماعي وغير ذلك، وتؤنِّب وتلوم ثانياً الإنسان لدى مخالفة تلك الحقائق، وتحسِّسه بالوخز عندها، وتحسِّسه بالرضا والارتياح لدى موافقتها. وهذا من أعظم نعم الله على العباد، ولولاه لما انفتح على البشر أيُّ باب من أبواب الهداية.

وكأنَّ الآيات الأربع الأُولى تشير إلى هذه القوَّة المودعة في النفس.

وهناك قوَّة اُخرى قريبة من قوَّة الضمير، قد تُسمَّى بالفطرة وهي لم تكن مدركاتها مباشرة عملية بمعنى الحسن والقبح أو الفضيلة والرذيلة، ولكنَّها تدرك مصدر المسؤوليَّة العمدة والأساس في الإنسان، ألا وهو الله سبحانه وتعالى، أو الدين والمبدأ. وكأنَّ الآيات الثلاث الأخيرة تشير إلى هذه القوَّة. وهي وإن كانت في الحقيقة جزءاً من قوَّة العقل النظري لا العملي، لكن لشدَّة التصاقها بقوَّة الضمير والعمل قد تحشر في صفِّ تلك القوَّة. ويُسمّى الجميع بالضمير أو الوجدان تارة، وبالفطرة أُخرى.

ويحتمل كون الآيات الثلاث الأُولى إشارة إلى الضمير والفطرة معاً. وتشير إلى الفطرة ما ورد عن النبيِّ(صلى الله عليه وآله): «كلُّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه يهوِّدانه وينصِّرانه»(1).

وهناك قوَّة ثالثة في النفس قريبة من الاُوليين، وهي: مركز الاطمئنان والسكون والارتياح تارة، والاضطراب أو الرعب أُخرى. ويمكن تسميتها بالقلب أو الفؤاد، وقد يقصد بهما مركز الإدراك المرتبط بالضمير أو الفطرة.


(1) بحار الأنوار 3 / 281.

606

ولعلَّ المعنى الأوَّل هو المقصود بمثل قوله تعالى:

1 ـ ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(1).

2 ـ ﴿... قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ...﴾(2).

3 ـ ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً ...﴾(3).

4 ـ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ...﴾(4).

5 ـ ﴿... سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرَّعْبَ...﴾(5).

ولعلّه المقصود بالنفس المطمئنّة في قوله تعالى: ﴿يَا أَ يَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾(6).

ولعلّ المعنى الثاني هو المقصود بمثل قوله تعالى:

1 ـ ﴿... وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(7).

2 ـ ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الاَْرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَْبْصَارُ وَلكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾(8).

3 ـ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾(9).


(1) السورة 28، القصص، الآية: 10.

(2) السورة 2، البقرة، الآية: 260.

(3) السورة 3، آل عمران، الآية: 151.

(4) السورة 13، الرعد، الآية: 28.

(5) السورة 8، الأنفال، الآية: 12.

(6) السورة 89، الفجر، الآيات: 27 ـ 30.

(7) السورة 16، النحل، الآية: 78.

(8) السورة 22، الحج، الآية: 46.

(9) السورة 50، ق، الآية: 37.

607

4 ـ ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾(1).

5 ـ ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاَْبْصَارَ وَالاَْفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾(2).

6 ـ ﴿... وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاَْبْصَارَ وَالاَْفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾(3).

وهذه القوى الثلاث: أعني أوَّلاً الضمير أو الوجدان، وثانياً الفطرة، وثالثاً القلب أو الفؤاد، هي خير أدوات لهداية البشر ﴿ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً ...﴾(4).

ووظيفتنا تجاه هذه النعم القيِّمة والتي تصلح أن تكون خير محفِّز للخيرات والفضائل والحسنات والكمالات، هي جلاؤها وصقلها، وتقويتها، ونفض الغبار عنها.

وإن شئت توضيحاً أكثر من ذلك قلنا: إنّ الضمير المودع من قبل الله سبحانه وتعالى في نفس كلِّ فرد من أفراد البشر، لا يخطأ في فهمه وإدراكه، وهي الجوهرة الربَّانيَّة والرسول الباطني الذي أُرسل لهداية البشر، بمعونة العقل النظري في النظريّات المحتاج إليها للوصول إلى النتائج الخارجيّة: من إدراك الخالق، أو معرفة الرسول، وما شابه ذلك، ولكن هذا الضمير على رغم ماله في حدِّ ذاته من صفاء ونور وجلاء، يبتلى هو أو يبتلى الإنسان بالقياس إليه بمشكلتين:

الأُولى: أنّ الشهرة أو العادة أو العقل الجمعي أو القرار الاجتماعي على شيء لأجل المصالح أو لأجل نزعات نفسيَّة أو لأيِّ عامل آخر وما إلى ذلك، تخلق في النفس في كثير من الأحيان قناعات معيَّنة، وقد تُسمَّى أو يُسمّى بعضها بالمشهورات أو الآراء المحمودة، فيقع الاشتباه في النفس ـ أحياناً ـ بين هذه


(1) السورة 7، الأعراف، الآية: 179.

(2) السورة 23، المؤمنون، الآية: 78.

(3) السورة 32، السجدة، الآية: 90، والسورة 67، الملك، الآية: 23.

(4) السورة 2، البقرة، الآية: 138.

608

الإدراكات التي دخلت من العوامل الغريبة إلى النفس، وبين الإدراكات التي هي من صميم النفس، والتي تنبع من الضمير أو الفطرة اللذين لا يخطأان، فلابدَّ من التيقُّظ الكامل في التشخيص بينهما. ومن العلائم التي تنفع كثيراً في الفصل بينهما: أنَّ المدرك بالضمير أو الفطرة، يكون ـ عادةً ـ أعمَّ شمولاً وانتشاراً بين أصناف الناس المختلفة؛ لأنَّها نبعت من النفس البشريَّة التي هي أمر مشترك بين الجميع ولكن القناعات الناتجة من العوامل الخارجيَّة والغريبة على النفس تكون ـ عادةً ـ أقرب إلى الاختلاف باختلاف الظروف والبيئات.

والثانية: أنَّ هذه الجوهرة الربَّانيّة تقع ـ أحياناً ـ تحت الغبار، فيخفت نورها، أو ينطفئ لا سمح الله. والغبار الذي يغطِّي هذه الجوهرة بستار رقيق أحياناً وكثيف أُخرى غباران:

أحدهما: غبار الشبهات والمغالطات التي قد يتخيّل الإنسان كونها براهين عقليَّة فيذعن لها، وبهذا يغطِّي وجدانه وضميره أو فطرته. وعلاج ذلك إذكاء العقل النظري وتنميته وشدَّة الالتفات والتيقُّظ.

وثانيهما: غبار الشهوات أو المعاصي، والتي إذا كثرت أوجبت الرين على القلب كما ورد في القرآن:﴿كَلاَّ بَل رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبُون﴾(1).

والعلاج الوحيد لذلك بعد الالتجاء إلى الله تعالى التقوى والورع، فكلَّما زادت التقوى خفَّ الغبار والرين إلى أن يرتفع، بل قد يقوى ويشتدُّ نور الضمير والوجدان نتيجة للتقوى أكثر من أصله الذي كان، فتنعكس فيه الحقائق أكثر من ذي قبل، وقد يكون هذا ممَّا يشير إليه قوله تعالى: ﴿...وَاتَّقُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ ...﴾(2)، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿... إنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ...﴾(3)، وقوله عزَّ من قائل:


(1) السورة 83، المطففين، الآية: 14.

(2) السورة 2، البقرة، الآية: 282.

(3) السورة 8، الأنفال، الآية: 29.

609

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾(1).

ولا ينبغي أن نغفل عن الدعاء والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى للتوفيق لذلك؛ لأنّ التوفيق من الله؛ فإنَّ الله ـ تعالى ـ يقول: ﴿... وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَد أَبَداً ...﴾(2)، فلو أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ أراد أن يذكي ضميرنا ووجداننا وعقلنا انتهينا إلى كلِّ خير، ولو أنّ الله ـ تعالى ـ أوكلنا إلى أنفسنا طرفة عين لهلكنا، وكلُّ مساعينا إن هي إلاّ مقدّمات إعدادية للإفاضة من الله سبحانه وتعالى قد تفضَّل الله ـ تعالى ـ علينا بإقدارنا عليها، وأمرنا بالالتزام بها.

وقد ورد في الحديث عن ابن أبي يعفور قال: «سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول ـ وهو رافع يده إلى السماء ـ: ربِّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً، لا أقلّ من ذلك ولا أكثر، قال: فما كان بأسرع من أن تحدر الدموع من جوانب لحيته، ثُمّ أقبل عليَّ فقال: يابن أبي يعفور، إنّ يونس بن متى وكَّلَه الله ـ عزَّوجلَّ ـ إلى نفسه أقلَّ من طرفة عين فأحدث ذلك الذنب.

قلت: فبلغ به كفراً أصلحك الله؟

قال: لا، ولكنّ الموت على تلك الحال هلاك»(3).

وطبعاً يحمل الذنب في الحديث على معنى ترك الأولى، ممَّا يحسبه الأنبياء والأوصياء والمعصومون بالنسبة لأنفسهم ضلالة ونقصاناً للدرجة، وعلى هذا الأساس ورد في القرآن: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(4).


(1) السورة 29، العنكبوت، الآية: 69.

(2) السورة 24، النور، الآية: 21.

(3) أُصول الكافي 2 / 581، باب دعوات موجزات، الحديث 15.

(4) السورة 37، الصافات، الآيتان: 143 ـ 144.

610

اللّهمَّ لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبداً بحقِّ محمَّد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

وفي نهاية البحث أُشير إلى أمرين:

الأمر الأوَّل: أنَّ من المحتمل أن يكون أُسلوب إتمام الحجَّة على العبد في يوم القيامة، أو ـ في الأقلّ ـ أحد أساليب إتمام الحجَّة عليه في ذلك اليوم، عبارةً عن مجموع أمرين:

أ ـ تقوية الذاكرة، قال الله تعالى: ﴿ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى﴾(1).

وفي الحديث عن خالد بن نجيح، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: « إذا كان يوم القيامة دُفِعَ إلى الإنسان كتابُه، ثُمَّ قيل له: اقرأ. قلت: فيعرف ما فيه؟ فقال: إنَّ الله يذكّره، فما من لحظة ولا كلمة ولا نقل قدم ولا شيء فعله إلاّ ذكره كأنّه فعله تلك الساعة؛ فلذلك قالوا: ﴿ ... يَا وَيْلَنَا مَالِهذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إلاّ أَحْصَاهَا ... ﴾»(2).

ولعلّ ما في يوم القيامة من أمثال تجسُّم الأعمال، أو تطاير الكتب أو شهادة الجوارح، أو شهادة الأرض أو نحو ذلك، يكون جميعاً مساعدة للذاكرة، أو دعماً وتأييداً لها.

ب ـ إذكاء الضمير والوجدان، كي يحاسب الإنسان نفسه بنفسه، وتتمُّ الحجَّة عليه بذلك، قال الله تعالى: ﴿اقْرَأْ كتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾ (3).

الأمر الثاني: أنَّ ما ذكرناه: من أنَّ تصفية القلب وإذكاء الضمير يساعدان على


(1) السورة 79، النازعات، الآية: 35.

(2) بحار الأنوار 7 / 315، والآية: 49 في السورة 18، الكهف. إلاّ أنّ الوارد في القرآن: ﴿ يَا وَيْلَتَنَا ﴾.

(3) السورة 17، الإسراء، الآية: 14.

611

انعكاس الحقائق في مرآة القلب والضمير، لا نقصد بذلك الاستغناء عن التعلُّم المألوف بحجَّة أنَّنا ـ إذن ـ نلازم التقوى، فيزوِّدنا الله ـ تعالى ـ بنور العلم كما قال في محكم كتابه: ﴿...وَاتَّقُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ...﴾(1) فلا حاجة إلى إتعاب النفس بالتعلُّم.

فإنَّ عدم الحاجة إلى التعلُّم لا نعهده في غير المعصومين(عليهم السلام)، ونحن قد أُمرنا من قبل الشريعة بالتعلُّم، قال الله تعالى: ﴿... فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَـآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(2).

وروايات التعلُّم لعلَّها فوق حدِّ الإحصاء، وكنموذج له نذكر ما يلي:

1 ـ عن ابن نباتة قال: قال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب(عليه السلام): «تعلَّموا العلم ؛ فإنَّ تعلُّمه حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة...» (3).

2 ـ وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): « أربع يلزمن كلَّ ذي حجىً وعقل من اُمّتي. قيل: يا رسول الله ما هنَّ؟ قال: استماع العلم، وحفظه، ونشره عند أهله، والعمل به»(4).

3 ـ وعن قتادة، عن الصادق(عليه السلام): « لست أُحبُّ أن أرى الشابَّ منكم إلاَّ غادياً في حالين: إمَّا عالماً، أو متعلّماً، فإن لم يفعل فرَّط، فإن فرَّط ضيَّع، فإن ضيَّع أثم، وإن أثم سكن النار والذي بعث محمَّداً(صلى الله عليه وآله) بالحقِّ »(5).

4 ـ وعن الرضا(عليه السلام)، عن آبائه، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله)يقول: طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم، فاطلبوا العلم من مظانِّه، واقتبسوه


(1) السورة 2، البقرة، الآية: 282.

(2) السورة 9، التوبة، الآية: 122.

(3) بحار الأنوار: 1 / 166.

(4) المصدر السابق: ص 168.

(5) المصدر السابق: ص 170.