461

 

 

 

 

الفصل التاسع والعشرون

ا لتــواضــع

 

قال الله تعالى:

1 ـ ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَْرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً﴾(1).

2 ـ ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾(2).

3 ـ ﴿وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الاَْرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَال فَخُور * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الاَْصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾(3).

التواضع هو: عقد القلب على صَغار النفس المؤثر في عواطفه وميوله وجوارحه في مقابل الله سبحانه وتعالى، وفي مقابل رسله وأوليائه المعصومين، وفي مقابل المؤمنين. ويقابله التكبُّر، وهو: التعالي على الله سبحانه، وهذا كفر بالله، أو على رسوله أو الإمام، وهذا كفر بالرسول أو الإمام، أو على المؤمنين، وهذا هو


(1) السورة 25، الفرقان، الآية: 63.

(2) السورة 17، الإسراء، الآية: 37.

(3) السورة 31، لقمان، الآيتان: 18 ـ 19.

462

التكبُّر المألوف بين المسلمين الذين لم يهذِّبوا أنفسهم، وهي معصية عظيمة.

وفرق التكبُّر عن الكِبر هو: أنّ الكِبْر مجرّد تعاليه على غيره في نفسه. أمّا التكبُّر فهو: إظهار الكِبْر وإبرازه بجوارحه. وفرق الكبر عن العُجْب: أنّ الكِبْر يكون بالقياس إلى غيره، وهو الله أو الرسول والإمام أو المؤمنون. والعُجْب ما يكون في الإنسان من رؤيته إلى نفسه بالعظمة والزهو والتبختر بذلك ولو من دون قياس بغيره، وهذا ـ أيضاً ـ من المعاصي العظيمة.

وقد ورد في روايات عديدة: أنَّ الكِبْر خاصٌّ بالله سبحانه وتعالى، ويحرم منازعته فيه.

والسرُّ في ذلك واضح، وهو: أنَّ الوحيد الخالي من كلِّ نقص هو الله تعالى، فهو الذي يستحقُّ الكبرياء.

فعن العلاء بن فضيل بسند تام، عن الصادق(عليه السلام)، عن أبيه الباقر(عليه السلام): «العِزّ رداء الله، والكِبْر إزاره، فمَنْ تناول شيئاً منه أكبَّه الله في جهنَّم»(1).

وعن معمر بن عطاء، عن الباقر(عليه السلام) قال: «الكِبْر رداء الله، والمتكبِّر ينازع الله رداءه»(2).

وعن ليث المرادي، عن الصادق(عليه السلام) قال: «الكِبْر رداء الله، فمَنْ نازع الله شيئاً من ذلك أكبَّه الله في النار»(3).

وبما أنَّ الكبرياء تختصّ بالله ـ سبحانه وتعالى ـ فكأنَّه لهذا جعل الكِبْر في بعض الروايات مساوقاً لأدنى الإلحاد. فعن حكيم قال: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن


(1) الكافي: 2 / 309.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق: ص 310.

463

أدنى الإلحاد فقال: إنَّ الكِبْر أدناه»(1).

والعُجب من جملة أسباب الكبر، فإنَّ من أُعجب بنفسه تعالى على غيره. والروايات في ذمّ العُجْب كثيرة، وذلك من قبيل:

1 ـ ما عن الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) بينما موسى(عليه السلام) جالساً إذ أقبل إبليس وعليه برنس ذو ألوان، فلمَّا دنا من موسى(عليه السلام) خلع البرنس، وقام إلى موسى فسلّم عليه، فقال له موسى: مَنْ أنت ؟

فقال: أنا إبليس.

قال: أنت فلا قرّب الله دارك.

قال: إنِّي إنَّما جئت لأُسلِّم عليك لمكانك من الله.

قال: فقال له موسى(عليه السلام): فما هذا البرنس ؟

قال: به أختطف قلوب بني آدم.

فقال موسى (عليه السلام): فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه ؟

قال: إذا أعجبته نفسه، واستكثر عمله، وصغر في عينه ذنبه (يعني: أنَّ هذه الحالة توجب الغرور والغفلة وعدم الاكتراث بعظمة الذنب. فمن الطبيعي أن يستحوذ الشيطان على صاحبها). وقال: قال الله عزّوجلَّ لداود(عليه السلام): يا داود بشِّر المذنبين، وأنذر الصدّيقين.

قال داود: كيف أُبشّر المذنبين، وأُنذر الصدّيقين؟

قال: يا داود بشّر المذنبين أ نِّي أقبل التوبة، وأعفو عن الذنب (يعني: ليتوبوا)، وأنذر الصدّيقين ألاّ يعجبوا بأعمالهم؛ فإنَّه ليس عبدٌ أنصِبه للحساب إلاَّ هلك»(2).

2 ـ وعن أحدهما(عليهما السلام) قال: «دخل رجلان المسجد أحدهما عابد والآخر


(1) المصدر السابق: ص 309.

(2) الكافي 2 / 314.

464

فاسق، فخرجا من المسجد والفاسق صدِّيق والعابد فاسق؛ وذلك أنَّه يدخل العابد المسجد مدلاًّ بعبادته يدلُّ بها، فتكون فكرته في ذلك، وتكون فكرة الفاسق في التندم على فسقه ويستغفر الله عزّوجلّ ممَّا صنع من الذنوب»(1).

ويشبه هذا الحديث ما نقله في المحجَّة(2) عن إحياء العلوم من «أنَّ رجلاً في بني إسرائيل يقال له: خليع بني إسرائيل؛ لكثرة فساده، مرَّ برجل آخر يقال له: عابد بني إسرائيل، وكانت على رأس العابد غمامة تظلُّه، فلمَّا مرَّ الخليع به قال الخليع في نفسه،: أنا خليع بني إسرائيل وهذا عابد بني إسرائيل، فلو جلست إليه لعلَّ الله يرحمني، فجلس إليه. فقال العابد في نفسه: أنا عابد بني إسرائيل، وهذا خليع بني إسرائيل، كيف يجلس إليَّ. فأنف منه وقال له: قم عنّي. فأوحى الله إلى نبيِّ ذلك الزمان مرهما فليستأنفا العمل، فقد غفرت للخليع، وأحبطت عمل العابد. وفي حديث آخر: فتحولت الغمامة إلى رأس الخليع».

وأيضاً من أسباب التكبُّر الإحساس بالصَغار والذلِّ والهوان، فكأنَّه يريد أن يجبر ذلك بالكِبْر، أو ينتقم من الناس الذين يرى نفسه حقيراً عندهم بالتكبر عليهم كما ورد في الحديث عن الصادق(عليه السلام): «ما من رجل تكبَّر أو تجبَّر إلاَّ لذلَّة وجدها في نفسه»(3).

ومن أسباب علاج الكِبْر علاج سببه؛ فإن كان سببُ الكِبْرِ الإحساسَ بالذلِّ والصَغار، فليعرف صاحبه أنّ الله ـ تعالى ـ خَلَقَ البشر عزيزاً كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ...﴾(4)، وقال: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾(5).


(1) المصدر السابق: ص 314.

(2) المحجة 6 / 239.

(3) الكافي 2 / 312.

(4) السورة 17، الإسراء، الآية: 70.

(5) السورة 44، الدخان، الآية: 49.

465

وإنَّما الإنسان هو الذي يذلُّ نفسه بالكفر أو العصيان. وليس الذلُّ ـ حقيقةً ـ عبارةً عن النقصان في المال أو الولد، أو سلامة البدن، أو صباحة الوجه، أو الجاه والجلال عند أهل الدنيا أو ما إلى ذلك. وإن كان ذلُّه بالفسق، فعليه ترك الفسق. وإن كان سبب الكِبْرِ إعجابَه بنفسه، فليدقِّق في معايبه ونقائصه يرها أكثر من كماله، بل قد ينكشف له أنَّ إعجابه لم يكن بالكمال، بل بالنقص، كالإعجاب بتغلُّبه على حقِّ فلان بالمكر والظلم، فيرى نفسه بذلك ذكيّاً أو شجاعاً، ولو كان إعجابه ـ حقّاً ـ بكمال، فليلتفت إلى أنَّ عاقبة الأمر مستورة عنه. وقد يؤدِّي نفس هذا الإعجاب أو أيِّ سبب آخر إلى فقده لذلك الكمال كما ورد في مصباح الشريعة عن الصادق(عليه السلام): «العَجب كلُّ العجب ممَّن يُعْجب بعمله وهو لا يدري بما يُختَم له. فمن اُعجب بنفسه وفعله فقد ضلَّ عن نهج الرشاد، وادَّعى ما ليس له، والمدّعي من غير حقٍّ كاذب وإن خفي دعواه وطال دهره، فإنَّه أوَّل ما يُفعَل بالمعجب نزع ما أُعجب به ؛ ليعلم أنَّه عاجز حقير ويشهد على نفسه؛ لتكون الحُجَّة عليه أوكد كما فُعِلَ بإبليس ...»(1).

وما أقرب الكِبْر إلى العلماء غير الربَّانيين. وتوضيح ذلك: أنَّ العالم الربَّاني هو العالم الذي تجتمع فيه صفتان:

الأُولى: أن يكون مهمُّ علمه الذي يعتني به وينمِّيه معرفةَ نفسه ومعرفة ربِّه «مَنْ عرف نفسه فقد عرف ربَّه ...»(2). وهذا العلم لا يزيد العالم إلاَّ خضوعاً وخشوعاً؛ لأنَّه بغوره في معرفة النفس تنكشف له نقائصه التي لا تتناهى(3) أمام ما يغور فيه


(1) المحجة 6 / 275.

(2) البحار 2 / 32، الحديث 22.

(3) فمعرفته بنقائصه تمنعه عن الكِبْر.

466

ـ أيضاً ـ من عظمة الربِّ التي لا تتناهى(1) وتكون باقي علومه في حاشية هذا العلم الأصلي. فأوَّل العلم معرفة الجبَّار، وآخر العلم تفويض الأمر إليه.

والثانية: أن يقترن علمه بتهذيب النفس؛ فإنَّ العلم بلا تهذيب للنفس يضرُّ ولا ينفع، فإنَّ العلم سيف ذو حدَّين؛ لأنَّ معرفة الأُمور كما تُعين الشخص في وضع الشيء في محلِّه؛ إذ لولا العلم بالشيء وبمحله لما استطاع إحراز وضع الشيء في محلِّه، كذلك تُعينه في وضع الشيء في غير محلِّه؛ إذ لولا العلم بالشيء وبمحلِّه وغير محله لما استطاع إتقان وضع الشيء في غير محلِّه. ويبقى تهذيب النفس وعدمه هو الذي يُعيِّن للعالم أن يصرف علمه في جانب العدل أو في جانب الظلم، ألا ترى أنَّ علم الأسلحة ـ مثلاً ـ يستفيد منه العادل لإقامة العدل ولحرب أعداء الله، ويستفيد منه الظالم للظلم ولمحاربة المؤمنين. وهذا معنى ما قلنا: من أنَّ العلم سيف ذو حدّين. والعلم إن لم يقترن بتهذيب النفس أوجب التكبُّر، وإن اقترن بتهذيب النفس أوجب التواضع؛ لأنَّه مهما تقدّم الإنسان في العلم انكشف أمامه واد أوسع للجهل، وعرف حقيقة قوله تعالى: ﴿... وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً﴾(2)وعرف أنَّ ما أُوتي من العلم إنَّما هو بتوفيق الرب وليس من تلقاء نفسه، ومتى ما أراد الله أن ينزعه عنه لنزعه، فهو ليس بأعظم من الرسول(صلى الله عليه وآله) الذي قال له الله تعالى: ﴿وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً * إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً﴾(3).

وأيضاً ما أقرب الكِبْر إلى العبُّاد والزُّهاد المغرورين بعبادتهم وزهدهم دون المخلصين في عملهم. وقد ورد في الحديث عن الصادق(عليه السلام) قال: «أتى عالم عابداً


(1) فيخضع لدى ما يرى نفسه لا شيء في مقابل الربّ. وهذا ـ أيضاً ـ يمنعه عن الكِبْر.

(2) السورة 17، الإسراء، الآية: 85.

(3) السورة 17، الإسراء، الآيتان: 86 ـ 87 .

467

فقال له: كيف صلاتك ؟

فقال: مثلي يُسأل عن صلاته ؟ ! وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا.

قال: فكيف بكاؤك ؟

قال: أبكي حتّى تجري دموعي.

فقال له العالم: فإنَّ ضحكك وأنت خائف أفضل من بكائك وأنت مدلٌّ، إنّ المدلَّ لا يصعد من عمله شيء»(1).

أمّا مَنْ كان عابداً لله عن علم ووعي، ولم تكن عبادته عبادةَ الجهلاء، وكان مخلصاً في عمله، فهو بعيدٌ عن الكِبْر أشدّ البعد.

وناهيك ـ إذن ـ من الأنبياء والمرسلين. ومن هنا نرى أن العلاَّمة المجلسي (رحمه الله)يأوّل الرواية الواردة في قِصَّة يوسف الصدّيق على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام، فقد ورد في الكافي عن الصادق(عليه السلام) قال: «إنَّ يوسف(عليه السلام) لمَّا قدم عليه الشيخ يعقوب(عليه السلام) دخله عزُّ المُلْك، فلم ينزل إليه، فهبط جبرئيل(عليه السلام)، فقال: يا يوسف ابسط راحتك (يعني: باطن الكفّ) فخرج منها نور ساطع فصار في جوّ السماء، فقال يوسف(عليه السلام): يا جبرئيل ما هذا النور الذي خرج من راحتي ؟ فقال: نزعت النبوَّة من عقبك عقوبة لما لم تنزل إلى الشيخ يعقوب، فلا يكون من عقبك نبيّ»(2).

قال المجلسي(رحمه الله): «ينبغي حمله على أنَّ ما دخله لم يكن تكبُّراً وتحقيراً لوالده؛ لكون الأنبياء مُنزَّهين عن أمثال ذلك، بل راعى فيه المصلحة؛ لحفظ عزَّته عند عامَّة الناس؛ لتمكِّنه من سياسة الخَلْق، وترويج الدين؛ إذ كان نزول الملك عندهم لغيره موجباً لذُلِّه. وكان رعاية الأدب للأب مع نبوَّته ومقاساة الشدائد لحبّه أهمَّ


(1) الكافي 2 / 313.

(2) الكافي 2 / 311 ـ 312.

468

وأولى من رعاية تلك المصلحة، فكان هذا منه(عليه السلام) تركاً للأولى، فلذا عوتب عليه، وخرج نور النبوَّة من صلبه؛ لأنَّهم لرفعة شأنهم وعلوِّ درجتهم يعاتبون بأدنى شيء. فهذا كان شبيهاً بالتكبُّر ولم يكن تكبُّراً»(1).

أقول: هذا الحمل إنَّما يكون بعد فرض صدق الرواية، إلاَّ أنَّ صدق الرواية عندي بعيد.

وعلى أيّ حال، فعلى عكس ما قلناه: من أنَّ العلم والعبادة يوجبان الكِبْر حينما لا يكونان جامعين للشرائط، نقول هنا: إنَّهما يوجبان التواضع والخشوع حينما يكونان إلهيين واجدين للشرائط. وإن أردت أن تقف على حقيقة ذلك، فاستمع إلى حقيقة العلم وحقيقة العبوديَّة وأثرهما عن لسان الإمام الصادق(عليه السلام) في رواية طريفة مرويَّة في البحار(2) عن عنوان البصري (وكان شيخاً كبيراً قد أتى عليه أربع وتسعون سنة) قال: «كنت أختلف إلى مالك بن أنس سنين، فلمَّا قدم جعفر الصادق(عليه السلام) المدينة اختلفت إليه، وأحببت أن آخذ عنه كما أخذت عن مالك، فقال لي يوماً: إنِّي رجل مطلوب، ومع ذلك لي أوراد في كلِّ ساعة من آناء الليل والنهار، فلا تشغلني عن وردي، وخذ عن مالك، واختلف إليه كما كنت تختلف إليه. فاغتممت من ذلك، وخرجت من عنده، وقلت في نفسي: لو تفرَّس فيَّ خيراً لما زجرني عن الاختلاف إليه والأخذ عنه. فدخلت مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله)وسلَّمت عليه، ثُمَّ رجعت من الغد إلى الروضة وصلَّيت فيها ركعتين، وقلت: أسألك يا الله يا الله أن تعطف عليَّ قلب جعفر، وترزقني من علمه ما أهتدي به إلى صراطك المستقيم. ورجعت إلى داري مغتماً، ولم أختلف إلى مالك بن أنس؛ لما أُشرب قلبي من حبِّ جعفر، فما خرجت من داري إلاّ إلى الصلاة المكتوبة حتّى


(1) مرآة العقول 10 / 215.

(2) البحار 1 / 224 ـ 226.

469

عيل صبري، فلمَّا ضاق صدري تنعَّلت وتردَّيت وقصدت جعفراً وكان بعدما صلَّيت العصر، فلمَّا حضرت باب داره استأذنت عليه، فخرج خادم له فقال: ما حاجتك ؟ فقلت: السلام على الشريف فقال: هو قائم في مصلاَّه. فجلست بحذاء بابه، فما لبثت إلاّ يسيراً إذ خرج خادم فقال: ادخل على بركة الله. فدخلت وسلَّمت عليه، فردَّ السلام، وقال: اجلس غفر الله لك، فجلست، فأطرق مليَّاً ثُمَّ رفع رأسه وقال: أبو مَنْ ؟ قلت: أبو عبدالله، قال: ثبَّت الله كنيتك، ووفَّقك يا أبا عبدالله، ما مسألتك ؟ فقلت في نفسي: لو لم يكن لي من زيارته والتسليم غير هذا الدعاء لكان كثيراً، ثُمَّ رفع رأسه ثُمَّ قال: ما مسألتك ؟

فقلت: سألت الله أن يعطف قلبك عليَّ، ويرزقني من علمك، وأرجو أنّ الله ـ تعالى ـ أجابني في الشريف ما سألته.

فقال: يا أبا عبدالله ليس العلم بالتعلُّم إنَّما هو نور يقع في قلب مَنْ يريد الله ـ تبارك وتعالى ـ أن يهديه(1)، فإن أردت العلم فاطلب أوَّلاً في نفسك حقيقة العبوديَّة(2)، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يفهِّمك.

قلت: يا شريف، فقال: قل: يا أبا عبدالله، قلت: يا أبا عبدالله ما حقيقة العبوديَّة ؟

قال: ثلاثة أشياء: أن لايرى العبد لنفسه فيما خوَّله الله مُلكاً؛ لأنَّ العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به، ولايدبِّر العبد لنفسه تدبيراً (3) وجملة اشتغاله فيما أمره تعالى به ونهاه عنه، فإذا لم يرَ العبد لنفسه فيما خوَّله الله ـ تعالى ـ مُلكاً، هان عليه الإنفاق فيما أمره الله ـ تعالى ـ أن


(1) كأنَّه إشارة إلى ما قلناه: من أنَّ رأس العلم معرفة النفس والربِّ.

(2) قال الله تعالى: ﴿... وَاتقُوا اللهَ وَيعلِّمُكُمُ اللهُ...﴾ السورة 2، البقرة، الآية: 282.

(3) يُحمل على معنى التوكُّل غير المنافي لمأموريتنا بالتذرّع بالأسباب الظاهرية بالقدر المعقول.

470

ينفق فيه، وإذا فوَّض العبد تدبير نفسه على مدبِّره، هان عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه، لايتفرَّغ منهما إلى المراء والمباهاة مع الناس، فإذا اكرم الله العبد بهذه الثلاثة، هان عليه الدنيا وإبليس والخَلْق، ولا يطلب الدنيا تكاثراً وتفاخراً، ولا يطلب ما عند الناس عزَّاً وعلوَّاً (1)، ولا يدع أيامه باطلاً. فهذا أوَّل درجة التُقى، قال الله تبارك وتعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاَْرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(2).

قلت: يا أبا عبدالله أوصني.

قال: أُوصيك بتسعة أشياء، فإنَّها وصيَّتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى، والله أسأل أن يوفِّقك لاستعماله(3): ثلاثة منها في رياضة النفس، وثلاثة منها في الحلم، وثلاثة منها في العلم، فاحفظها وإيَّاك والتهاون بها.

قال عنوان: ففرَّغت قلبي له.

فقال: أمَّا اللواتي في الرياضة: فإيَّاك أن تأكل ما لا تشتهيه(4)؛ فإنَّه يورث الحماقة والبله، ولا تأكل إلاَّ عند الجوع، وإذا أكلت فكل حلالاً، وسمِّ الله، واذكر حديث الرسول(صلى الله عليه وآله): ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرَّاً من بطنه، فإن كان ولابدَّ فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسه.

وأمَّا اللواتي في الحلم فمَنْ قال لك: إن قلت واحدة سمعت عشراً، فقل: إن قلت عشراً لم تسمع واحدة، ومَنْ شتمك فقل له: إن كنت صادقاً فيما تقول فأسأل(5) الله أن يغفر لي، وإن كنت كاذباً فيما تقول فالله أسأل أن يغفر لك، ومَنْ


(1) فيا تُرى إنّ عالمـاً عابداً كهذا هل يعقل بشأنه التكبُّر ؟ !

(2) السورة 28، القصص، الآية: 83 .

(3) الظاهر أنَّ الصحيح لاستعمالها.

(4) كأنَّ المقصود: الأكل من دون شهيَّة الأكل.

(5) لعلَّ الصحيح: أسأل، أي: من دون حرف الفاء.

471

وعدك بالخنى(1) فعده بالنصيحة والدعاء.

وأمَّا اللواتي في العلم: فاسأل العلماء ما جهلت، وإيَّاك أن تسألهم تعنُّتاً وتَجْرِبة، وإيّاك أن تعمل برأيك شيئاً، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلاً، واهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً. قم عنِّي يا أبا عبدالله فقد نصحت لك، ولا تفسد عليَّ وردي؛ فإنِّي امرؤ ضنين بنفسي، والسلام على مَنْ اتَّبع الهدى». انتهى الحديث.

وممَّا يمنع تورُّط العلماء بالله في التكبُّر علمهم بأنَّ العلم حُجَّة، ومن هنا يكون أمر العالم من هذه الناحية أخطر من أمر الجاهل. وقد ورد في الحديث عن الصادق(عليه السلام): «...أنَّه يُغفَر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يُغفَر للعالم ذنب واحد...»(2).

وعن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «مَنْ ازداد علماً ولم يزدد هدىً لم يزدد من الله إلاّ بعداً»(3).

وعنه(صلى الله عليه وآله): « أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه »(4).

وعن مسعدة بن زياد بسند صحيح، عن الصادق(عليه السلام)، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)«أنَّ عليَّاً(عليه السلام) قال: إنَّ في جهنَّم رحىً تطحن خمساً، أفلا تسألون ما طحنها ؟ فقيل له: فما طحنها يا أميرالمؤمنين ؟ قال: العلماء الفجرة، والقُرَّاء الفسقة والجبابرة الظلمة، والوزراء الخونة، والعرفاء الكذبة...»(5).

وأختم حديثنا عن التواضع بذكر رواية مسعدة بن صدقة عن الصادق(عليه السلام)قال: «أرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فدخلوا عليه وهو في بيت له


(1) فُسِّر بالفحش في الكلام.

(2) البحار 2 / 27.

(3) المصدر السابق: 2 / 37.

(4) المصدر السابق: 38.

(5) المصدر السابق.: ص 107، والخصال: 296.

472

جالس على التراب، وعليه خُلقان الثياب، قال: فقال جعفر(عليه السلام): فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال، فلمَّا رأى ما بنا وتغيُّر وجوهنا قال: الحمد لله الذي نصر محمَّداً وأقرَّ عينه، ألا أُبشِّركم ؟ فقلت: بلى أيُّها الملك، فقال: إنَّه جاءني الساعة من نحو أرضكم عين من عيوني هناك، فأخبرني أنَّ الله ـ عزَّوجلَّ ـ قد نصر نبيَّه محمَّداً (صلى الله عليه وآله)، وأهلك عدوَّه، وأُسر فلان وفلان وفلان التقوا بواد يقال له بدر كثير الأراك لكأ نِّي أنظر إليه حيث كنت أرعى لسيِّدي هناك وهو رجل من بني ضمرة. فقال له جعفر: أيُّها الملك، فمالي أراك جالساً على التراب، وعليك هذه الخُلقان ؟ ! فقال له: يا جعفر، إنَّا نجد فيما أنزل الله على عيسى(عليه السلام)أنَّ من حقِّ الله على عباده أن يحدثوا له تواضعاً عندما يحدث لهم من نعمة، فلمَّا أحدث الله ـ عزَّوجلَّ ـ لي نعمة بمحمَّد(صلى الله عليه وآله) أحدثت لله هذا التواضع. فلمَّا بلغ النبيَّ(صلى الله عليه وآله)قال لأصحابه: إنَّ الصدقة تزيد صاحبها كثرة، فتصدَّقوا يرحمكم الله، وإنَّ التواضع يزيد صاحبه رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله، وإن العفو يزيد صاحبه عِزَّاً، فاعفوا يعزّكم الله»(1).

 


(1) الكافي 2 / 121.

473

 

 

 

 

الفصل الثلاثون

ا لا نبســا ط

 

ذكر عبدالله الأنصاري(1): «الانبساط إرسال السجيَّة، والتحاشي من وحشة الحشمة، وهو السير مع الجبلَّة... إلى أن قال: الانبساط مع الحقِّ وهو أن لا يجنِّبك خوف، ولا يحجبك رجاء، ولا يحول بينك وبينه آدم وحوَّاء...».

وذكر شارح كتابه عبدالرزَّاق الكاشاني(2): «الانبساط لايجتمع مع الخوف والرجاء؛ فإنَّ الخوف والرجاء في حال البداية ومقام النفس والاحتجاب، والانبساطُ حال العارفين وأرباب القلوب والتجلِّيات، والخوف يحكم بالتجنُّب والبُعد، والانبساطُ لا يكون إلاّ مع القرب، وفي بعض النسخ (يعني: بعض نسخ كتاب منازل السائرين): أن لا يحبسك خوف، وفي بعضها لا يجبِّنك من الجُبْن، وهي متقاربة في المعنى؛ فإنَّ الخوف يورث الجُبْن والإحجام والانقباض، وكلُّها تنافي الانبساط، وكيف لا تنافي وهو من عالم الجمال، والخوف وما يلازمه من عالم الجلال. وكذلك الرجاء؛ فإنَّ صاحب الرجاء متوقِّع شيئاً، فلابدَّ له من التملُّق حتّى تقضى حاجته، فلا يستطيع أن ينبسط، وصاحب الانبساط مسترسل على حكم الجبلَّة والغريزة غير متكلِّف ولا متملِّق. «ولا يحول بينك وبينه آدم وحوّاء»


(1) في منازل السائرين، قسم الأخلاق، الباب العاشر باب الانبساط.

(2) في شرحه لمنازل السائرين: 112 ـ 113.

474

أي: لا يتوسَّط بين صاحب الانبساط وبين ربِّه خَلْق؛ لغاية قربه، كقولهم ما للتراب وربِّ الأرباب، فهو بصفاء الفطرة في مقام القلب، مجرَّد عن مزاحمة أحكام النشأة والصفات البشريَّة والنفسانيَّة، متوسِّل بالاتِّصال الأزلي، فلا يتوسَّل إلى ربِّه إلاَّ بربِّه، فأين هو من مزاحمة الماء والطين ؟!» انتهى ما أردنا نقله من كلام الكاشاني.

وقد جعل عبدالله الأنصاري(1) وكذلك الغزالي(2) من أمثلة الانبساط قول موسى(عليه السلام): ﴿... إِنْ هِيَ إلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء ...﴾ إلاّ أنَّ الشارح الآخر لكتاب منازل السائرين وهو عفيف الدِّين التلمساني(3) تنبَّه إلى أنَّه متى ما حمل لفظ الفتنة على الاختبار(4) لم يبقَ له ما يدلُّ على الانبساط.

وقال الغزالي(5): «اعلم أنَّ الخوف عبارة عن تأ لُّم القلب واحتراقه بسبب توقُّع مكروه في الاستقبال. وقد ظهر هذا في بيان حقيقة الرجاء. ومن أنس بالله، وملك الحقُّ قلبه، وصار ابن وقته مشاهداً لجمال الحقِّ على الدوام، لم يبقَ له التفات إلى المستقبل، فلم يكن له خوف ولا رجاء، بل صار حاله أعلى من الخوف والرجاء، فإنَّهما زمامان يمنعان النفس عن الخروج إلى رعوناتها. وإلى هذا أشار الواسطي حيث قال: «الخوف حجاب بين الله ـ تعالى ـ وبين العبد». وقال أيضاً: إذا ظهر الحقُّ على السرائر لا يبقى فيها فضلة لرجاء ولا لخوف. وبالجملة فالمحبُّ إذا شغل قلبه في مشاهدة المحبوب بخوف الفراق، كان ذلك نقصاً في


(1) في المصدر السابق عنه.

(2) في كتاب الإحياء 4 / 315.

(3) ص: 273. انتشارات بيدار بقم.

(4) من قبيل قوله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَيُفْتَنُونَ﴾ ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ السورة 29، العنكبوت، الآيتان: 2 ـ 3 (لا من قبيل قولنا: الملاحم والفتن).

(5) في المصدر السابق عنه: ص 147.

475

الشهود، وإنَّما دوام الشهود غاية المقامات» انتهى كلام الغزالي.

أقول: قوله: «الخوف حجاب بين الله ـ تعالى ـ وبين العبد» يقصد به: الحجاب النوري؛ فإنَّهم يقسِّمون الحجاب إلى قسمين: حجاب ظلماني كشهوات النفس، وحجاب نوراني كالخوف من الله تعالى. وهم يقولون: إنَّ الخوف من مقامات العوام، وليس من مقامات أهل الخصوص.

وقال الغزالي(1): «اعلم أنَّ الأُنس إذا دام وغلب واستحكم، ولم يشوِّشه قلق الشوق، ولم ينغِّصه خوف التغيّر والحجاب، فإنَّه يثمر نوعاً من الانبساط في الأقوال والأفعال والمناجاة مع الله تعالى. وقد يكون مُنكَر الصورة؛ لما فيه من الجرأة وقلّة الهيبة، ولكنَّه محتمل ممَّن أُقيم في مقام الأُنس. ومَن لم يقم في ذلك المقام، ويتشبَّه بهم في الفعل والكلام، هلك به، وأشرف على الكفر. ومثاله: مناجاة برخ الأسود الذي أمر الله ـ تعالى ـ كليمه موسى(عليه السلام) أن يسأله؛ ليستسقي لبني إسرائيل بعد أن قحطوا سبع سنين. وخرج موسى(عليه السلام) ليستسقي لهم في سبعين ألفاً، فأوحى الله ـ عزَّوجلَّ ـ إليه كيف أستجيب لهم وقد أظلمت عليهم ذنوبهم، سرائرهم خبيثة، يدعونني على غير يقين، ويأمنون مكري، ارجع إلى عبد من عبادي يقال له: برخ، فقل له: يخرج حتّى أستجيب له. فسأل عنه موسى(عليه السلام) فلم يُعرَف، فبينما موسى ذات يوم يمشي في طريق إذا بعبد أسود قد استقبله بين عينيه تراب من أثر السجود، في شملة قد عقدها على عنقه، فعرفه موسى(عليه السلام) بنور الله عزَّوجلَّ، فسلَّم عليه وقال له: ما اسمك ؟ فقال: اسمي برخ، قال: فأنت طلبتنا منذ حين، اخرج فاستسقِ لنا. فخرج فقال في كلامه: ما هذا من فعالك، ولا هذا من حلمك، وما الذي بدا لك. انقصت عليك عيونك (وفي نسخة أُخرى: تعصَّت عليك


(1) في المصدر السابق عنه: ص 314 ـ 315.

476

غيومك(1)) أم عاندت الرياح عن طاعتك، أم نفد ماعندك، أم اشتدَّ غضبك على المذنبين، ألست كنت غفَّاراً قبل خَلْق الخطَّائين ؟! خلقت الرحمة، وأمرت بالعطف، أم تُرينا أنَّك ممتنع، أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة ! قال: فما برح حتّى اخضلَّت بنو إسرائيل بالقطر، وأنبت الله ـ تعالى ـ العشب في نصف يوم حتّى بلغ الركب. قال: فرجع برخ، فاستقبله موسى(عليه السلام)، فقال: كيف رأيت حين خاصمت ربِّي، كيف أنصفني ؟ فهمَّ موسى(عليه السلام)به، فأوحى ـ الله تعالى ـ إليه: أنَّ برخاً يضحكني كلَّ يوم ثلاث مرّات. وعن الحسن قال.... كان أبو حفص يمشي ذات يوم، فاستقبله رستاقيٌّ مدهوش، فقال له أبو حفص: ما أصابك ؟ فقال: ضلَّ حماري، ولا أملك غيره. قال: فوقف أبو حفص وقال: وعزَّتك لا أخطو خطوة ما لم تردَّ عليه حماره، قال: فظهر حماره في الوقت، ومرَّ أبو حفص. فهذا وأمثاله يجري لذوي الأُنس، وليس لغيرهم أن يتشبَّه بهم. قال الجنيد: أهل الأُنس يقولون في كلامهم ومناجاتهم في خلواتهم أشياءَ هي كفر عند العامة. وقال مرَّةً: لو سمعها العموم لكفَّروهم، وهم يجدون المزيد في أحوالهم بذلك، وذلك يحتمل منهم ويليق بهم. وإليه أشار القائل:

قومٌ تخالجُهم زهَو بسيِّدهم
والعبدُ يزهو على مقدارِ مولاهُ
تاهوا برؤيته عمَّا سواه له
يا حسنَ رؤيتهم في عزِّ ما تاهوا»

انتهى ما أردت نقله من كلام الغزالي.

أقول: من الطريف أنَّ الغزالي افترض أنَّ رجلاً معاصراً لموسى(عليه السلام) اسمه برخ، كان أعلى مرتبة في الأُنس والشهود من موسى(عليه السلام)، ومع ذلك لم يخصُّه الله بالنبوَّة كما خصَّ موسى(عليه السلام) بها، فكان هو أفضل من نبيِّ زمانه على رغم عدم نبوَّته وبرغم أنَّ ذاك النبيّ ليس نبيَّاً اعتياديَّاً، بل من أُولي العزم. وقد عرفت من القِصَّة الخُرافيَّة


(1) هكذا في نسخة إحياء الإحياء 8 / 81 .

477

التي سردها: أنَّ موسى لم يدرك أُنس برخ، وشهوده، وانبساطه، فهمَّ به، ولا أدري هل المقصود بقوله: «همَّ به» أنَّه أراد ضربه، أو أراد قتله، فتدارك الله ـ تبارك وتعالى ـ الموقف بأن وضَّح لموسى(عليه السلام) أنَّ برخاً يُضحكه باليوم ثلاث مرَّات ! !

وأنت إذا تأمَّلت في حالات أئمَّتنا المعصومين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ الذين لا يساوي كلُّ أقطاب العرفاء والصوفيَّة ظفراً من إبهامهم، لم ترَ عيناً ولا أثراً فيهم(عليهم السلام) من الانبساط في الأقوال، والأفعال، والمناجاة مع الله سبحانه وتعالى، أو رفع ستار الحشمة في التعابير، أو ترك الأدب فيها من سنخ ما نقلوه عن برخ في قِصَّتهم الخياليَّة، أو ما إلى ذلك، بل ترى تعابيرهم العالية السامية، من قبيل ما يلي: «إلهي أُفكِّر في عفوك فتهون عليَّ خطيئتي، ثُمَّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليَّ بليَّتي»(1).

وقال ضرار في وصف عليٍّ(عليه السلام): «... ولو رأيته إذ مثل في محرابه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وهو قابض على لحيته يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وهو يقول: يا دنيا أبي تعرَّضت، أم إليَّ تشوَّقت، هيهات هيهات لا حاجة لي فيك، أبنتك ثلاثاً لا رجعة لي عليك، ثُمّ يقول: واه واه لبعد السفر، وقلَّة الزاد، وخشونة الطريق»(2).

وأيضاً من الطريف أنَّهم يقولون: إنَّ السالكين حينما يصلون إلى نهاية السفر الأوَّل يفترون عن الأعمال الشاقَّة، ويقتصرون على الفرائض والسُّنَن الرواتب؛ وذلك: أنَّهم يعتقدون(3) أنَّ أمام السالك أسفاراً أربعة:


(1) البحار 41 / 12.

(2) المصدر السابق: ص 15.

(3) راجع شرح منازل السائرين للتلمساني: 380 ـ 382، وشرح منازل السائرين للكاشاني: 164 ـ 165.

478

السفر الأوَّل: هو السير إلى الله سبحانه وتعالى، وبه يطوي السالك المنازل والأحوال والمقامات إلى أن يصل إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ وصولَ عيان، وليس وصول دليل وبرهان، ويفنى في الله عزَّوجلَّ، ويبقى بعد الفناء بقاءً في الله سبحانه وتعالى. وبانتهاء السفر الأوَّل يفترون عن الأعمال الشاقَّة، ويقتصرون على الفرائض والسُّنَن الرواتب؛ لما حصل لهم من الطمأنينة. قالوا: وأوَّل وصوله لا يخلو غالباً من اصطلام وسُكْر؛ لأنَّ لهذا الشهود سطوةً تقهر كلَّ شيء؛ لفناء الكلّ فيه عند تجلِّيه، فإذا صحا واستأنس بشهوده رأى جمال الذات بعينه؛ إذ لا غير ثمَّة، فشهوده شهود للحقِّ بذاته، فكان الشاهد في قوله تعالى: ﴿وَشَاهِد وَمَشْهُود﴾(1) عين المشهود(2).

السفر الثاني: يبدأ بالبقاء في الله. ويكون هذا السفر هو: السير في الله، أي: في مراتب أفعاله، وصفاته، وأسمائه. والتنقل فيه يُسمَّى التلوين في التمكين. قالوا: والناس يعظِّمون صاحب السفر الأوَّل أكثر ممَّا يعظِّمون صاحب السفر الثاني؛ لبُعد الثاني عن إدراكهم.

السفر الثالث: وبعد كمال السفر الثاني (وانتهاؤه القطبيَّة الوجوديَّة التي هي مركز المراكز، وصاحبها قطب الأقطاب) تكون بداية السفر الثالث، وهو: سفر المرسلين. ويُسمَّى السفر بالله إلى خلقه. وفيه يكون التنزُّل إلى مقادير العقول؛ لدعوتهم إلى الله.

السفر الرابع: هو: الرجوع إلى الله عزَّوجلَّ، والبقاء بالله. ويُسمَّى سفراً بالموجود إلى الوجود. وأكثر ما يكون هذا السفر عند الموت. وإليه أشار رسول


(1) السورة 85، البروج، الآية: 3.

(2) راجع بلحاظ هذه الجملة بالذات شرح الكاشاني لمنازل السائرين: ص 164 لدى شرح الدرجة الثالثة للطمأنينة.

479

الله(صلى الله عليه وآله)بقوله: «اخترت الرفيق الأعلى» قالوا: فهذه الأسفار الأربعة هي للرُسُل بطريق الأصل، وللأتباع بالوراثة والتبعيَّة.

وذكر سماحة آية الله الشيخ جوادي آملي حفظه الله في بيان حقيقة السفر الرابع: أنَّه بعد الرجوع من الوحدة إلى الكثرة (الذي هو السفر الثالث) يسير في الكثرة بمنظار الوحدة(1).

وعبَّر السيّد الإمام ـ رضوان الله تعالى عليه ـ عن هذا السفر باسم السفر من الخلق إلى الخلق، في مقابل السفر من الخلق إلى الحقّ الذي هو السفر الأوَّل، ومن الحقِّ إلى الحقِّ بالحقِّ الذي هو السفر الثاني، ومن الحقِّ إلى الخلق الذي هو السفر الثالث(2).

أقول: إنَّ ما ورد في شرح الكاشاني لمنازل السائرين من اتِّحاد الشاهد والمشهود إن كان من باب اعتقاد أنَّه لا وجود إلاّ لله تعالى، فهذا لو صحَّ في نفسه لكان ثابتاً منذ البدء، بلا حاجة إلى رياضة وتهذيب نفس.

وإن كان بمعنى كشف ذلك فمن الذي ينكشف له ذلك ؟ ! هل الوجود، ولا وجود إلاّ لله بحسب الفرض، وهو مطِّلع على الحقيقة منذ البدء، أو العدم وما معنى الانكشاف للعدم ؟ !

وإن كان بمعنى حصول الاتِّحاد بين المخلوق وخالقه بعد أن كان غيره، فهذا عين الكفر.

وإن كان بمعنى فناء العبد حقيقة من غير اتِّحاد، فمن الذي يواصل بعد ذلك هذه


(1) راجع المقدِّمة التي كتبها سماحة الشيخ جوادي آملي (حفظه الله) على كتاب سرِّ الصلاة للسيّد الإمام رضوان الله تعالى عليه: 13 ـ 14 بحسب طبعة مؤسسة تنظيم ونشر آثار السيّد الإمام(رحمه الله).

(2) راجع مصباح الهداية للسيّد الإمام رضوان الله عليه: 207 ـ 208 بحسب الطبعة المشتملة على ترجمة السيّد أحمد الفهري حفظه الله.

480

الأسفار ؟ ! فهل الله ـ تعالى ـ هو الذي يسافر ويكتمل ؟ ! تعالى الله عن ذلك علوَّاً كبيراً.

ثُمَّ: ما هو المقصود بما ورد في شَرْحي منازل السائرين من أنَّ السالك حينما يصل إلى الله يفتُر عن أعماله الشاقَّة ؟ ! وكأنَّهم افترضوا أنَّ الوصول له نهاية، فإذا انتهينا إلى نهاية الوصول فلا حاجة إلى الأعمال الشاقَّة، فلئن كان المقصود بالأعمال الشاقَّة: رياضات اختراعيَّة من عند أنفسهم، فهي لهم، وليست للأنبياء والأئمَّة ولأتباعهم،فهم لا يقتربون إليها منذ البدء، ولئن كان المقصود: الطاعات والعبادات والاحتراق ضمن حالات المناجاة والبكاء والتضرُّع وما إلى ذلك، فسيِّد الرسل(صلى الله عليه وآله) وأوصياؤه لم يفتروا عن ذلك و﴿كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالاَْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾(1) وكانت ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ...﴾(2) وفي الحديث الصحيح سنداً عن الصادق(عليه السلام) قال: «كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) إذا كان العشر الأواخر ـ يعني: من شهر رمضان ـ اعتكف في المسجد، وضُرِبت له قُبَّة من شعر، وشمَّر المئزر، وطوى فراشه...»(3).

وأخيراً ما هو المقصود بالوصول إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ في نهاية السفر الأوّل؟:

إن كان المقصود الوصول إليه بمعنى الفناء واتِّحاد الشاهد والمشهود، فقد مضت الإشارة إلى جوابه أعلاه.

وإن كان المقصود الوصول بالعلم والبرهان (وليس هذا هو المقصود)، فهذا أوَّل الطريق، وليس آخر الطريق، بل قد يثبت حتّى للكفَّار الذين جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم.


(1) السورة 51، الذاريات، الآيتان: 17 ـ 18.

(2) السورة 32، السجدة، الآية: 16.

(3) البحار: 16 / 273 ـ 274.

481

وإن كان المقصود الوصول بمعنى التجلِّي والحضور والشهود، فلا نعرف أحداً من الأنبياء وصل إليه غير رسول الله(صلى الله عليه وآله).

والذي نفهمه من الآية المباركة بشأن موسى على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام (والله أعلم بمقصوده) أنَّه(عليه السلام) لم يكن قابلاً للتجلِّي فبتجلِّي الله ـ تعالى ـ للجبل ـ لا له هو ـ خرَّ صَعِقاً، قال الله تعالى ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾(1) فلئن كان هذا حال موسى(عليه السلام)الذي هو رسول الله وكليمه، ويُعدُّ من الأنبياء أُولي العزم، فما ظنُّك بالعارفين الاعتياديين ؟ ! أفلا تستنتج معي أنَّه لو فُرِض تجلِّي الله ـ تعالى ـ للعارف كان حظُّه الهلاك قبل الوصول ؟ ! ولنعم ما قيل بالفارسيّة:

هر چند تو را راى جفا كارى نيست
در سينه تمنّاى دل آزارى نيست
بى پرده بسوى عاشق خود مگذر
كش طاقت آنكه پرده بردارى نيست
دى شانه زد آن ماه خم گيسو را
بر چهره نهاد زلف عنبر بو را
پوشيد بدين حيله رخ نيكو را
تا هر كه نه محرم نشناسد او را


(1) السورة 7، الأعراف، الآية: 143. وقد أوَّل بعض العرفاء المنحرفين عن خطِّ أهل البيت (عليهم السلام) (الجبل) في الآية المباركة بكون الإنسان وإنّيته. وجعل معنى الآية: أنَّه انظر إلى كونك وإنّيتك فسيتجلَّى ربُّك لجبلك هذا، فإن استقرَّ مكانه فسوف تراه، ولكنَّه سيتلاشى بتجلِّي الربّ لفناء المحدث عند تجلِّي القديم، فلا يبقى لك وجود إضافي متقيد بتلك الصورة الكونيَّة، فلا يبقى إلاّ الحقّ، ومعه لن تراني؛ لأنَّك تُفنى بهذا التجلِّي. قال: وهذا النظر هو اللحظ، فإنَّه ينظر إلى وجود الحقِّ بالحقيقة لا من حيث إطلاقه، بل من حيث تقيّده بتلك الصورة الكونيَّة. راجع شرح منازل السائرين للكاشاني باب اللحظ، وهو الباب الأوَّل من قسـم الولايات، أي: القسم الثامن من الكتاب: ص 194.

أقول: ما أجرأهم على تفسير القرآن بالرأي، وهو الذي نهى عنه أئمّتنا(عليهم السلام).

482

أمَّا ما ورد في كلمات أئمّتنا(عليهم السلام) بالنسبة لعامَّة الناس من عنوان رؤية الله تعالى، أو عنوان السفر إلى الله تعالى، فهو محمول على المستويات النازلة المناسبة لعامَّة الناس؛ فإنَّ التجلِّي والشهود أو الحضور غير محتمل بشأن عموم الناس. ومثال ذلك:

1 ـ ما عن إمامنا أميرالمؤمنين(عليه السلام)، وقد سأله ذِعْلب اليماني: «هل رأيت ربَّك يا أميرالمؤمنين ؟

فقال(عليه السلام): أفأعبد ما لا أرى ؟ !

فقال: وكيف تراه ؟

قال(عليه السلام): لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان...»(1).

والدليل على كون هذه الرواية ناظرة إلى حال عامَّة الناس، وكون المقصود بالرؤية وإدراك القلب: مجرَّد العلم والإيمان الحاصل لكلِّ مؤمن هو: تعليقه (عليه السلام)العبادة على الرؤية، واستفهامه الاستنكاري من العبادة مع فرض عدم الرؤية. ومن الواضح: أنَّه تكفي لوجوب العبادة الرؤية البرهانيَّة عن طريق رؤية آياته.

2 ـ ما عن إمامنا زين العابدين(عليه السلام) «... وأنَّ الرَّاحل إليك قريب المسافة. وأنَّك لا تحتجب عن خلقك، إلاّ أن تحجبهم الأعمال دونك...»(2).

والدليل على كون المقصود هو السفر الثابت لعامَّة المؤمنين الملتزمين، وأنَّه لا ينظر إلى الخواصِّ هو: أنَّه حصر الحجاب بالأعمال، يعني: المعاصي، فإذن المقصود هو ذاك المستوى من الحجاب المرتفع عن بصيرة كلِّ مؤمن ملتزم دون اختصاص لذلك بالخواص. ولنعم ما قيل بالفارسيّة:


(1) نهج البلاغة: 344، رقم الخطبة: 179.

(2) دعاء أبي حمزة.

483

كى رفته اى ز دل كه تمنّا كنم تو را
كى گشته پشت پرده كه حاشا كنم تو را
با صد هزار جلوه برون آمدى كه من
با صد هزار ديده تماشا كنم تو را

أمّا ما أشرنا إليه من إمكان الاعتقاد بوصول النبيِّ الخاتم(صلى الله عليه وآله) إلى مرتبة الشهود والحضور، فهو أمر مستوحى من قوله سبحانه وتعالى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّة فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالاُْفُقِ الاَْعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾(1) فقد ذُكِرَ لهذه الآيات المباركات تفسيران:

 

التفسير الأوَّل: إرجاع الضمائر إلى جبرائيل. وأنَّ الاقتراب قاب قوسين أو أدنى كان بين النبيِّ(صلى الله عليه وآله) وجبرائيل. وأنَّ الرؤية الواقعة مرَّتين هي: رؤية جبرائيل بصورته الأصليَّة.

والتفسير الثاني: أنَّ الضمائر راجعة إلى الله. وأنَّ الاقتراب لم يكن مادِّيَّاً، وكان اقتراباً من الله. وأنَّ الرؤية رؤية بالفؤاد لا بالعين الباصرة. وعلى هذا الأساس قد يقال: إنَّ هذه عبارة عن المشاهدة الحضوريَّة.

ولعلَّ أصحاب التفسير الأوَّل إنَّما ذهبوا إلى تفسيرهم: من رجوع الضمائر إلى جبرئيل، وحملوا الرؤية على رؤية جبرئيل؛ لأنَّهم حملوا الرؤية على رؤية العين الباصرة. وهذا في الله ـ سبحانه ـ مستحيل؛ إذ ليس جسماً، وليس مكانياً تعالى الله


(1) السورة 53، النجم، الآيات: 5 ـ 18.

484

عن ذلك علوَّاً كبيراً ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ...﴾(1)، ﴿... أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ...﴾(2)، ﴿... وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَما كُنتُم ...﴾(3) في حين أنَّ الرؤية في المقام ليست رؤية بالعين، بل رؤية بالفؤاد، بدليل قوله تعالى: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾، وأمَّا قوله تعالى: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ فهذه رؤية بالباصرة راجعة إلى سدرة المنتهى، وجنّة المأوى، وآياته الكبرى.

وقد ذكر بعض الأعلام لتضعيف التفسير الأوَّل، وتأييد التفسير الثاني وجوهاً، منها ما يلي:

1 ـ الضمائر في جملة: ﴿أَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ تعود إلى الله بلا شكٍّ. فكذلك باقي الجمل بمقتضى وحدة السياق.

2 ـ قوله ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ لايناسب تفسيره بجبرئيل؛ فإنَّه ليس معلِّماً لرسول الله(صلى الله عليه وآله)، وإنَّما هو بمنزلة ساعي البريد في إنزال الوحي، ورسول الله(صلى الله عليه وآله)أعلى درجة منه؛ ولذا صعد في المعراج إلى مرتبة عجز عنها جبرئيل، وقال: «.. لو دنوت أنملة لاحترقت»(4).

3 ـ مشاهدة جبرئيل بصورته الأصليّة ليست لرسول الله(صلى الله عليه وآله) منزلة عالية بحيث يهتمّ بها القرآن بمثل قوله: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى﴾.

4 ـ رؤية جبرئيل تناسب أن تكون رؤية بالباصرة لا بالفؤاد، في حين أنَّ الله تعالى يقول: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾.

5 ـ المعنى المؤيّد في الروايات إنَّما هو: التفسير الثاني لا الأوَّل، وذلك من قبيل


(1) السورة 6، الانعام، الآية: 103.

(2) السورة 2، البقرة، الآية: 115.

(3) السورة 57، الحديد، الآية: 4.

(4) البحار 18 / 382.

485

ما رواه الشيخ الطوسي في الأمالي عن ابن عباس، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «لما عرج بي إلى السماء دنوت من ربِّي ـ عزَّوجلَّ ـ حتّى كان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى».

وما رواه الصدوق في العلل عن هشام بن الحكم، عن موسى بن جعفر(عليهما السلام): «فلمَّا أُسري بالنبيِّ وكان من ربِّه قاب قوسين أو أدنى رفع له حجاب من حجبه»(1).

أقول: ومن هذا القبيل ما ورد في دعاء الندبة: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ دنوَّاً واقتراباً من العليِّ الأعلى.

فإذن المناسب لكلِّ هذا هو التفسير الثاني. ويبدو أنَّ المقصود به هو: المشاهدة الحضوريَّة بالقلب التي لا يمكن أن تخطأ، ويكون ذلك ـ بلا تشبيه ـ من قبيل مشاهدتنا لأنفسنا ولحبِّنا وبغضنا وما إلى ذلك ممَّا هو حاضر لدى أنفسنا. وهذه مشاهدة مصونة عن الخطأ؛ ولذا قال تعالى: ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى﴾ ففرق بين العلم بالأُمور التي هي منفصلة عن النفس، والتي يمكن فيها الخطأ، والعلم بمشاهدة ما هو متصل بالنفس. والمثال الذي مثّلنا به من مشاهدتنا لأنفسنا ولحبِّنا وبغضنا وما إلى ذلك، إنَّما هو مثال بقدر عقولنا الناقصة وأفهامنا القاصرة، وإلاّ فأين المشبَّه به من المشبَّه.

ثُمَّ إنَّ تجلِّي الله ـ سبحانه ـ لرسوله مرَّتين في حياته كما ورد في هذه الآيات، لا ينافي افتراض دوام التجلِّي له طيلة عمره المبارك؛ وذلك لإمكان حمل هاتين المرَّتين على مراتب عُلْيا من التجلِّي، وافتراض التجلِّي على مراتب متفاوتة.

ومن جملة مراتبها المرتبتان التاليتان، واللتان لا نستطيع أن نفهم مغزاهما قبل أن نصل إليهما:


(1) راجع تفسير «نمونه» 22 / 487 ـ 489.