والثانية: رواية أُخرى تامّة السند، وهي ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد عن أبي عبدالله الفرّاء عن حريز عن زرارة قال: «قلت لأبي جعفر(عليه السلام): الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم يجيء الرجل فيقيم البيّنة على أنّها جاريته لم تبع ولم توهب، فقال: يردّ إليه جاريته ويعوّضه بما انتفع. قال: كأنّ معناه قيمة الولد»(1)، وأبو عبدالله الفرّاء وإن كان لم يرد بشأنه توثيق لكنّه ممّن روى عنه ابن أبي عمير فيحكم بوثاقته.
وأمّا تفسير جملة: «ويعوّضه بما انتفع» بمعنى دفع قيمة الولد فهذا من قِبل أحد الرواة الواقعين في سلسلة سند الحديث ولا حجّية له، وتفسيرها بمعنى الانتفاع باللبن أو الخدمة أولى أو يحتمل ذلك على أقلّ تقدير.
وأمّا من ناحية الدلالة فأساساً استشهاد الشيخ رحمه الله بروايات الجارية المسروقة من الغرائب؛ فإنّ نكتة تخيّل عدم ضمان المقبوض بالعقد الفاسد هي تخيّل أنّ المالك هو الذي أهدر حرمة مال نفسه، فجعل روايات الضمان في الأمة المسروقة ردّاً على نفي ضمان المقبوض بالعقد الفاسد غريب؛ لأنّ الضمان في باب الجارية المسروقة لا يكون ردّاً على ذلك؛ لوضوح أنّه لا هدر لحرمة المال من قِبل المالك في باب السرقة، فما معنى التعدّي من مورد تلك الروايات إلى المقام؟! وهذه نكتة واردة في كلمات السيّد الخوئي رحمه الله(2).
نعم، الصحيح أنّ ضمان المقبوض بالعقد الفاسد لا يحتاج إلى نصّ؛ لأنّ الصحيح أنّ المالك لم يهدر في إقباضه بالعقد الفاسد حرمة مال نفسه؛ لأنّه قد أقبضه مبنيّاً على المعاوضة بالمسمّى(3)، وحتّى لو فرضنا علم المالك بفساد العقد قلنا رغم
(1) وسائل الشيعة، ج21، ص204، الباب88 من أبواب نكاح العبيد والإماء، ح2.
(2) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله) ، ج66، ص233.
(3) راجع المصدر السابق.
ذلك: أنّه لم يهدر المالك حرمة ماله؛ لأنّه إنّما أقبضه بعنوان المعاوضة بالمسمّى، وعلمه ببطلان ذلك لا ينافي ذلك(1). فإذا لم يكن المالك مُهدراً لحرمة ماله فالارتكاز العقلائي قائم على قاعدة اليد، فنحن نقول بالضمان لا برواية على اليد الساقطة سنداً، بل بالارتكاز العقلائي.
نعم، لو فرضنا أنّ المالك كان عالماً بفساد العقد والقابض كان جاهلاً بفساده وقبضه بتغرير من المالك ثم تلف في يده أو أتلفه بأكل أو غيره فهذا يدخل في قاعدة رجوع المغرور إلى من غرّه فلو كان المثل أكثر من المسمّى لم يضمن الزيادة، كما أنّه لو كان المسمّى أكثر من المثل لم يضمن أيضاً الزيادة في المسمّى؛ لأنّ ضمان المسمّى كان بالعقد وقد ظهر فساده، فهذا الجاهل المغرور من قِبل المالك ليس عليه دائماً إلّا أقلّ القيمتين من المثل والمسمّى، وهذا بحث خارج عن أصل قاعدة ما يضمن، والمهمّ أنّ أصل الضمان ثابت في المقام بحكم ارتكازية قاعدة اليد بعد أن كان المالك لم يُهدر احترام ماله.
ثم إنّ الشيخ الأعظم بعد أن أوضح ثبوت الضمان في قبض المبيع بالبيع الفاسد ذكر أنّ هذا من جزئيّات القاعدة المعروفة: «كلّ عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، وما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده»(2).
أقول: وبسرد البحث إلى هنا اتّضح خير دليل على هذه القاعدة وهو: أنّ العقد إن كان يضمن بصحيحه إذاً فالعاقد لم يهدر _ بتسليمه للمال _ حرمة ماله، فلو تبيّن بطلان العقد يكون القابض ضامناً على طبق القاعدة العقلائية التي تحكم _ في غير موارد هدر المالك حرمة ماله _ بأنّ اليد موجبة لضمانه، بخلاف ما إذا لم يكن الصحيح فيه عوض مالي كما في الهبة غير المعوّضة فإنّه عندئذ يكون المالك هو الذي أهدر حرمة ماله فلم يبق ما يوجب ضمان اليد عقلائيّاً.
(1) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله) ، ج66، ص240.
(2) کتاب المكاسب، ج3، ص182.
نعم، يبقى الكلام في أنّه هل يوجد نصّ يمكن إحلاله محلّ الارتكاز العقلائي الحاكم بضمان اليد حتّى تتمّ قاعدة اليد روائيّاً كما هي تامّة عقلائيّاً، أو لا؟
والنصوص التي يمكن أن تفترض حلّها محل الارتكاز العقلائي لضمان اليد عديدة:
منها: ما مضى من النبويّ المشهور: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»(1) وقد قلنا: إنّ عدم السند له أسقطه عن قابلية التمسّك به.
ومنها: ما ورد في التوقيع الشريف: «...فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه فكيف يحلّ ذلك في مالنا...»(2).
وفيه: أنّه لو لم يضمّ إليه الارتكاز العقلائي الحاكم بضمان اليد في أخذ مال من
(1) مستدرك الوسائل، ج17، ص88، الباب الأوّل من أبواب كتاب الغصب، ح4.
(2) وسائل الشيعة، ج9، ص540، الباب3 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، ح7. وعيب سند الحديث هو عدم ورود التوثيق بشأن مشايخ الصدوق الأربعة الذين روى الصدوق عنهم هذه الرواية، وهم محمد ابن أحمد السناني وعلي بن أحمد بن محمد الدقّاق والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المؤدّب وعلي ابن عبدالله الورّاق، فإنّهم رووا جميعاً هذا الحديث عن أبي الحسين محمد بن جعفر الأسدي في أجوبة مسائله التي وردت عليه من صاحب الدار (عجل الله تعالى فرجه الشريف) على يد الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري(قدس سره).
ولكن هذا الإشكال محلول عندنا بعدم احتمال توافق أربعة من مشايخ الصدوق على كذب من هذا القبيل.ولو لم نقتنع بهذا الجواب كفانا أيضاً صحيح زيد الشحّام عن أبي عبدالله(عليه السلام) عن رسول الله(صل الله عليه وآله): «من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، فإنّه لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفسه»، وسائل الشيعة، ج5، ص120، الباب3 من أبواب مكان المصلّي، ح1. ومثله موثّق سماعة.وتؤيّد هذه الروايات مرسلة عوالي اللآلي عنه(صل الله عليه وآله): «المسلم أخو المسلم لا يحلّ ماله إلّا عن طيب نفس منه»، عوالي اللئالي، ج3، ص473، باب الغصب، ح1. ومرسلة الدعائم عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «...ولا يجوز أخذ مال المسلم بغير طيب نفس منه». دعائم الإسلام، ج2، ص59، فصل ذکر الأقضية في البيوع من کتاب البيوع والأحکام فيها، ح159.دون وجه الحِلّ فهو لا يدلّ إلّا على الحرمة التكليفية دون الضمان.
ومنها: ما رواه الكليني عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيّوب عن عبدالله بن بكير عن أبي بصير عن أبي جعفر(عليه السلام): «قال: قال رسول الله(صل الله عليه وآله): سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وأكل لحمه معصية وحرمة ماله كحرمة دمه»(1). هذا فيما إذا فسّرنا الحرمة بالاحترام بمعنى يشمل الضمان، لا بمعنى الحرمة التكليفية، وإلّا لم تزد هذه الرواية على الرواية السابقة.
ومنها: ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن الحلبي ومحمد بن مسلم عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته هل تجوز شهادة أهل ملّة من غير أهل ملّتهم؟ قال: نعم، إذا لم يوجد من أهل ملّتهم جازت شهادة غيرهم، إنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد»(2).
وواضح أنّ التمسّك بـ «لا يصلح ذهاب حقّ أحد» لإثبات الحقّ تمسّكٌ بالكبرى لإثبات الصغرى، ولو أنّنا فرضنا العلم بالصغرى وهو حقّ الضمان في المقام فلا معنى للتمسّك بهذه الرواية.
ومنها: قاعدة نفي الضرر. والاستدلال بها في المقام للضمان يتوقّف على أحد أمرين:
الأمر الأوّل: أن نفترض أوّلاً أنّ الارتكاز العقلائي يقتضي الضمان، ثم نقول عندئذٍ: إنّ عدم إمضاء هذا الارتكاز العقلائي من قِبل الشريعة يعتبر ضرراً على المالك، ونفترض أيضاً أنّ نفي الضرر يشمل إثبات الحكم لدى كون نفيه ضرراً.
(1) الکافي،ج2، ص359، باب السباب من کتاب الإيمان والکفر، ح2؛ وسائل الشيعة، ج12، ص297، الباب 158 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح3. وهذا تامّ سنداً وورد نظيره بسند غير تامّ في وصيّة رسول الله(صل الله عليه وآله) لأبي ذر في وسائل الشيعة، ج12، ص281، الباب152 من أبواب أحکام العشرة في السفر والحضر، ح9.
(2) الکافي،ج7، ص4، باب الإشهاد علی الوصيّة من کتاب الوصايا، ح2.
والأمر الثاني: أن نفترض الكلام في خصوص ما إذا كان الضرر مستنداً إلى القابض كما في مورد الإتلاف مثلاً ولم يكن مستنداً إلى البائع أو إلى كليهما، ونفترض أن «لا ضرر» يعني لزوم التدارك من قِبل من أوجد الضرر.
والوجه الأوّل أشمل من الوجه الثاني؛ لأنّه لا يختصّ بخصوص ما إذا كان الضرر مستنداً إلى القابض، فالوجه الأوّل هو المهمّ في المقام.
والكلام بقدر ما يرجع إلى تفسير قاعدة لا ضرر موكول إلى بحث الأُصول أو بحث القواعد الفقهية.
والارتكاز العقلائي مسلّم في المقام، وهو في الحقيقة ارتكاز لقاعدة اليد، وذلك يغنينا عن الحاجة إلى قاعدة لا ضرر، فلا يهمّنا كثيراً تماميّتها وعدم تماميّتها في المقام.
وقد اتّضح بکلّ ما ذكرناه أنّ تمام الروايات التي سردناها ليست بوحدها دليلاً على قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، وإنّما هناك نقطة مركزية وقاسم مشترك بين كلّ أدلّة القاعدة، وهي أنّ المالك لم يهدر احترام مال نفسه.
وتبيّن أيضاً أنّ عكس القاعدة لو تمّ فإنّما يتمّ في حدود صدق إهدار المالك احترام مال نفسه بإقدامه على إقباض المال مجّاناً ومن غير عوض، وذلك كما في الهبة المجّانية لو كانت باطلة، كالهبة _ إذا كانت بمعنى عقد التمليك المجّاني _ باللغة الفارسية مع فرض شرط العربية، أو التمليك المجّاني للصبيّ مع فرض شرط بلوغ القابل، أو العارية غير المضمونة في صحيحها كما في عارية غير الذهب والفضّة أو غير مشروطة الضمان، فلو بطلت عاريته لعدم بلوغ المستعير مثلاً فقد يقال بتمامية قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده»، ولو صحّ هذا الكلام فلابدّ أن يشترط فيه علم المُعير بكون العارية غير مضمونة أو _ على الأقل _ قصده لعدم الضمان، وإلّا لم يصدر منه إهدارٌ لاحترام ماله. وكذا الحال في عقد الرهن والمضاربة والوكالة ونحو ذلك.
وقد يشكّك في صحّة عكس القاعدة؛ وذلك بأن يقال: إنّ قاعدة «ما يضمن» كان معناها أنّ المالك الذي أقبض ماله على أساس ضمان المسمّى لم يُهدر حرمة ماله، وأنّ من لم يهدر حرمة ماله فماله مضمون له بقاعدة اليد أو بأيّ دليل آخر، أمّا الذي أقبض ماله لا على أساس ضمان فهل هذا يعني إهدار حرمة ماله بقول مطلق أو يعني إهدار حرمة ماله إهداراً مقيّداً بما كان يتخيّله من صحّة المعاملة، وفرض تخيّله لتحقّق القيد خارجاً لا يعني الإطلاق، فبعد ما يطّلع على عدم تحقّق القيد أي على عدم صحّة المعاملة قد يقال: إنّ له أن يداعي بضمان ماله.
والخلاصة: أنّ مجرّد تخيّله لضمان المسمّى كان كافياً لعدم الإهدار، ولكن مجرّد تخيّله لعدم الضمان الشرعي ليس كافياً لإطلاق الإهدار.
وعليه فلكي نرى هل هناك دليل على عكس القاعدة أيضاً أو لا، نضطرّ إلى استئناف بحث جديد؛ لأنّ أصل القاعدة بالشكل الذي انتهينا إليه لا يستلزم عكسها.
وهنا نحن نبحث وجوهاً لإثبات عكس القاعدة كالتالي:
الوجه الأوّل: ما رواه الشيخ الأنصاري في المكاسب(1) عن الشيخ الطوسي في المبسوط، وهو أنّ ما لا يضمن بصحيحه فلا يضمن بفاسده بطريق أولى.
ووضّح الشيخ الأنصاري هذا الوجه بما يلي: أنّ الصحيح من العقد إذا لم يقتض الضمان مع إمضاء الشارع له، فالفاسد الذي هو بمنزلة العدم لا يؤثّر في الضمان؛ لأنّ أثر الضمان إمّا من الإقدام على الضمان والمفروض عدمه وإلّا لضمن بصحيحه، وإمّا من حكم الشارع بالضمان بواسطة هذه المعاملة الفاسدة والمفروض أنّها لا تؤثّر شيئاً.
ووجه الأولوية: أنّ الصحيح إذا كان مفيداً للضمان أمكن أن يقال: إنّ الضمان من مقتضيات الصحيح فلا يجري في الفاسد؛ لكونه لغواً غير مؤثّر، والإقدام كان على ضمان المسمّى والشارع لم يمضه فيرتفع أصل الضمان، والمفروض أنّ أصل الصحيح
(1) کتاب المکاسب، ج3، ص196 _ 197.
لا يفيد الضمان فكيف بفاسده؟!
وناقش الشيخ الأنصاري في هذا الوجه أو في الأولوية بإمكان أن يقال: إنّ الضمان كان على مقتضى القاعدة ولكن الذي رفعه نفس العقد الصحيح، فصحّة الرهن والإجارة مثلاً أوجبت تسلّط المرتهن والمستأجر على العين شرعاً فأوجبت رفع ضمان العين، بخلاف الفاسد الذي لا يوجب تسلّطاً لهما على العين فلا أولوية.
وهنا يكون ظاهر عبارة الشيخ الأنصاري أنّ هذا خدش في الأولوية لا في أصل الوجه فيصبح بصدد تصحيح أصل الوجه بالبيان التالي. ولكنّنا نرى هذا تشويشاً في التعبير، وأنّ الأولى جعل هذا سبباً في الانتقال إلى ذكر وجه ثان لإثبات عكس القاعدة وبالبيان التالي:
الوجه الثاني: ما قاله الشيخ الأنصاري رحمه الله، وهو ما دلّ على أنّ من لم يضمّنه المالك لا يضمّن، سواء ملّكه إيّاه بغير عوض أو سلّطه على الانتفاع به أو استأمنه عليه لحفظه أو دفعه إليه لاستيفاء حقّه أو العمل فيه بلا أُجرة أو بأُجرة أو غير ذلك.
أمّا دليل عدم الضمان في غير التمليك بلا عوض _ أعني الهبة _ فهو الدليل المخصّص لقاعدة الضمان، وهو ما دلّ على أنّ من استأمنه المالك على ملكه غير ضامن، بل ليس لك أن تتّهمه.
وأمّا دليل عدم الضمان في الهبة الفاسدة فهو الأولوية من خروج صورة الاستئمان عن الضمان، فإنّ استئمان المالك لغيره على ملكه إذا اقتضى عدم ضمانه له اقتضى التسليط المطلق عليه مجّاناً عدم ضمانه بطريق أُولى(1).
يبقى الكلام في أنّه ما هي الروايات التي يشير إليها بقوله: «ما دلّ على أنّ من استأمنه المالك على ملكه غير ضامن، بل ليس لك أن تتّهمه»(2)؟ ولعلّه يشير رحمه الله إلى عدد من روايات الباب4 من الوديعة.(3)
(1) المصدر السابق، ص197 _ 198.
(2) المصدر السابق، ص198.
(3) وسائل الشيعة، ج19، ص79، الباب4 من کتاب الوديعة.
فإليك صحيحة الحلبي، وهي الرواية الأُولى من الباب، وصحيحة مسعدة بن زياد وهي الرواية الأخيرة من الباب:
الرواية الأُولى من الباب: محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حمّاد عن الحلبي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان»(1).
والرواية الأخيرة من الباب: عبدالله بن جعفر في قرب الإسناد عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد عن أبيه(عليهما السلام): «أنّ رسول الله(صل الله عليه وآله) قال: ليس لك أن تتّهم من قد ائتمنته، ولا تأتمن الخائن وقد جرّبته»(2).
وقد أورد السيّد الخوئي رحمه الله _ على ما في التنقيح _ على هذا الوجه: بأنّ ما في ذيل كلامه _ يعني كلام الشيخ الأنصاري _ «من أنّ ما دلّ على أنّ من استأمنه المالك على ملكه غير ضامن له بل ليس لك أن تتّهمه مخصّص لعموم على اليد، فيا ليت قد عيّن مورده، فإنّه غير معلوم الرواية»(3).
وكلام السيّد الخوئي رحمه الله وجيه، فإنّ معنى الروايتين أنّ من جُعل أميناً لا يتّهم بالخيانة الموجبة للضمان ما لم تثبت خيانته، أمّا أنّه متى يضمن حتّى مع فرض عدم الخيانة ومتى لا يضمن حتّى مع فرض بطلان العقد الذي تمّ في ضمنه الائتمان فأمر أجنبي عن مفاد الروايتين.
الوجه الثالث: ما أفاده السيّد الخوئي رحمه الله _ على ما في التنقيح _ من أنّ المدرك للضمان في أصل قاعدة «ما يضمن» كان عبارة عن السيرة العقلائية، وهي مختصّة بما يضمن بصحيحه، أي بما إذا لم يقدم المالك على بذل ماله مجّاناً أو أمانةً أو عاريةً، أمّا إذا كان الأمر كذلك كما فيما لا يضمن بصحيحه فمن الأساس لا دليل على
(1) وسائل الشيعة، ج19، ص79، الباب4 من کتاب الوديعة، ح1.
(2) المصدر السابق، ص81، ح10.
(3) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص248.
الضمان فيه، فصحّ أنّ ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده؛ لأنّ موارد العقود المجّانية خارجة تخصّصاً من موارد تلك السيرة العقلائية الموجبة للضمان(1).
أقول: إنّ هذا الوجه لا يشمل ما إذا كان عدم الضمان في الصحيح خالقاً لهذه المجّانية:
ومثال ذلك: الجُعل الذي يجعله الجاعل للسابق في المسابقة، فإنّ هذا الجُعل لا يضمنه أحد في المسابقة الصحيحة، ولكن قد يتّفق أنّه بعد السبق يندم الجاعل على جُعله فلا يدفعه إلى السابق مجّاناً، بل يدفعه إليه باعتقاد وجوب ذلك شرعاً أو يكون رضاه مقيّداً من الأساس بفرض صحّة المسابقة، فلو بطلت وعلم السابق ببطلانها مثلاً فلا إشكال في أنّ قاعدة اليد العقلائية تقتضي ضمان السابق للجُعل ووجوب إرجاعه أو إرجاع المثل أو القيمة إلى الجاعل.
ومثال آخر: لو لم يعلم المؤجر والمستأجر أو المعير والمستعير بأنّ العين المؤجرة أو المستعارة غير مضمونة ولكن الشريعة حكمت بكون يد المستأجر والمستعير أمانية وغير موجبة للضمان، ثم انكشف بطلان الإجارة أو العارية فلا ينبغي الإشكال في أنّ قاعدة اليد العقلائية تبقى مقتضية للضمان.
وهنا لا بأس بالتنبيه بلحاظ أصل قاعدة ما يضمن على أنّ معرفة حدودها الحقيقية تنهي بعض الأبحاث الواردة في الكتب عن النقوض. ونمثّل لذلك بمثالين:
1_ فمثلاً قد يقال: إنّ السبق في المسابقة الفاسدة ليس مضموناً على أحد في حين أنّه مضمون في المسابقة الصحيحة على من جعل جُعلاً للسابق، فهو ممّا يضمن بصحيحه ولكنّه لا يضمن بفاسده فيفترض أنّ هذا نقض على القاعدة.
في حين أنّه لا معنى لنقض من هذا القبيل؛ فإنّ المعنى المعقول للقاعدة كان عبارة أنّ مقتضي الضمان حينما يكون موجوداً ولم يكن المالك قد أهدر احترام ماله كان ماله
(1) المصدر السابق، ص241 _ 242 وص247 _ 248.
مضموناً، وهذا الأمر لا مجال له أساساً في باب المسابقة؛ إذ لا مقتضي أصلاً لضمان السبق على أحد عدا أصل إمضاء الشارع لجعل الجاعل، والذي هو مخصوص بالسبق الصحيح، بينما في باب البيع مثلاً لم يكن المقتضي لأصل الضمان منحصراً في إمضاء الشارع لصحّة البيع، بل كانت قاعدة اليد العقلائية مقتضية للضمان، فحينما لم يكن البائع قد أسقط حرمة مال نفسه تمّ له الضمان في البيع الفاسد.
2_ ومثال آخر: قد يقال: إنّه في النكاح الفاسد مع علم المرأة بالفساد يكون الاستمتاع بها غير مضمون؛ لأنّها بغيّ ولا مهر لبغيّ مع أنّ الاستمتاعات في النكاح الصحيح مضمونة؛ لأنّه في حكم العقود المعاوضية.
وإذا قلنا: إنّ المهر في النكاح الصحيح لم يكن كضمان للاستمتاعات، بل كان صداقاً في أصل عقد النكاح، فلنبدّل المثال بالعقد المنقطع بناء على أنّهنّ مستأجرات(1) فمهرها
(1) كما قد يستشهد لذلك بقوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾. (النساء: 24) فقد يقال: إنّ المقصود بالأجير هنا أُجرة التمتّع بالمرأة المنقطعة.
ولا إشكال في ظهور هذه الآية في متعة النساء على خلاف رأي السنّة الذين حرّمها لهم زعيمهم، وذلك بقرينة ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ﴾، ولكن كون المقصود بالأُجرة الأُجرة المعروفة في باب الإجارة لا الصداق المعروف في باب الزواج غير واضح؛ لأنّ كلمة أُجورهنّ مستعملة أيضاً في القرآن فيما هو منصرف إلى مورد النكاح الدائم وهو قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ (الأحزاب: 50)؛ إذ لا شكّ في انصراف الزوج إلى الزوجية الكاملة وهي الدائمة.
وبالمناسبة يوجد هناك بحث أجنبي عن المقام وهو أنّه هل النبي(صل الله عليه وآله) تمتّع فى حياته بالمنقطع أو لا؟ نحن لم نر في التاريخ ما يدلّ على ذلك، فإنّ الوارد في التاريخ قصّة مارية القبطية، وهي كانت مملوكة للنبي(صل الله عليه وآله) ولم تكن متعة، راجع بهذا الصدد تفسير كنز الدقائق، ج13، ص323 _ 326، فالمروي في روايات الباب هو أنّه(صل الله عليه وآله) حرّم على نفسه مارية أو حرّم على نفسه شراب عسل فعاتبه الله تعالى بقوله: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾(التحريم: 1)، وفرض عليه تحلّة اليمين (التحريم: 2)، ولكن وجدنا مع ذلك بعض روايات تفسيرية تصرّح بتمتّع رسول الله(صل الله عليه وآله) وهي: ←
يكون في مقابل حقّ الاستمتاع، فمباضعتها مضمونة لدى صحّة العقد المنقطع، في حين أنّه لو كان العقد المنقطع باطلاً وهي تعلم بذلك فهي بغيّ لا مهر لها.
وقد أجاب السيّد الخوئي رحمه الله على هذا المثال: تارة بأنّه يمكن الالتزام بتخصيص القاعدة بحكم الشريعة بأنّه لا مهر لبغيّ، وأُخرى بأنّه يمكن الالتزام بالتخصّص؛ لأنّ المهر في النكاح إنّما يجعل بإزاء نفس الزوجية دون الانتفاعات(1) على ما يستفاد من بعض النصوص من مضمون: معاذ الله أن يجعل للبضع أجراً(2)، ويشير رحمه الله بذلك إلى صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما(عليهما السلام): «أنّه سئل عن الرجل يبتاع الجارية
→
1_ ما رواه صاحب الوسائل عن رسالة المتعة للشيخ المفيد بعنوان: روى الفضل الشيباني بإسناده إلى الباقر(عليه السلام) «أنّ عبدالله بن عطاء المكّي سأله عن قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ﴾ (التحريم: 3). فقال: إنّ رسول الله(صل الله عليه وآله) تزوّج بالحرّة متعة فاطّلع عليه بعض نسائه فاتهمته بالفاحشة. فقال: إنّه لي حلال، إنّه نكاح بأجل فاكتميه، فأطلعت عليه بعض نسائه». (وسائل الشيعة، ج21، ص10، الباب الأوّل من أبواب المتعة، ح22).
ولم نعرف الفضل الشيباني ولا سنده.
2_ مرسلة الصدوق عن الصادق(عليه السلام) «إنّي لأكره للرجل أن يموت وقد بقيت عليه خلّة من خلال رسول الله(صل الله عليه وآله) لم يأتها. فقلت له: فهل تمتّع رسول الله(صل الله عليه وآله)؟ قال: نعم. وقرأ هذه الآية: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً﴾ _ إلى قوله _ : ﴿ثَيَّبَات وَأَبْكَاراً﴾ (التحريم: 3 _ 5)».(من لا يحضره الفقيه، ج3، ص467، باب المتعة من کتاب النکاح، ح4615).
وهاتان الروايتان غريبتان؛ لأنّهما خلاف التاريخ المشهور الذي يروي أنّ الرسول(صل الله عليه وآله) حرّم على نفسه في القصّة المعروفة مارية أو شراب العسل.
3_ صحيحة بكر بن محمد عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال:« سألته عن المتعة فقال: إنّي لأكره للرجل المسلم أن يخرج من الدنيا وقد بقيت عليه خلّة من خلال رسول الله(صل الله عليه وآله) لم يقضها». (وسائل الشيعة، ج21، ص13، الباب الثاني من أبواب المتعة، ح1)، وذلك بناء على تفسير الخلّة بالخصلة المعمول بها من قِبل صاحبها.
وعلى أيّ حال فأصل البحث لا علاقة له بما نحن فيه.
(1) ولم يشر(رحمه الله) إلى احتمال الفرق بين النكاح الدائم والمنقطع.
(2) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص247.
فيقع عليها ثم يجد بها عيباً بعد ذلك؟ قال: لا يردّها على صاحبها ولكن تقوّم ما بين العيب والصحّة فيردّ على المبتاع معاذ الله أن يجعل لها أجراً»(1).
أقول: كأنّه رحمه الله وجد مجالاً للنقض بناء على أنّ المهر أجر للبضع فأجاب إمّا بالتخصيص أو بالتخصّص لمنع كون المهر أجراً للبضع.
ولكنّنا نقول: فلنفترض أنّ المهر أجر للبضع ولكنّنا نقول: إنّ إيراد هذا النقض ناتج من أصل تكبير قاعدة ما يضمن أكثر من واقعها وحقيقتها، فهي ليست قاعدة منصوصاً عليها بالأساس لا في كتاب ولا في سنّة، وإنّما حقيقتها عبارة عن أنّ من كان تسليطه لأحد على ماله تسليطاً غير مجّاني لم يهدر حرمة ماله فالمال مضمون له، ولکن متی کان للاستمتاع بالبغيّ احترام حتّى نرى أنّها أهدرت حرمة مالها أو لا؟!
ولنحذف في المقام البحث الطويل العريض الوارد في بعض الكتب عن نقوض قاعدة ما لا يضمن، ومن أرادها فليراجع المطوّلات.
تبقى نقطة ينبغي الالتفات إليها، وهي أنّه قد يتّفق أنّ العقد الأصلي باطل وأنّه كان ذاك العقد الأصلي على تقدير صحّته رافعاً للضمان الذي يكون مقتضيه ثابتاً وهي القاعدة العقلائية، فلم تنطبق على ذاك العقد الأصلي قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده»، ولكن يوجد في المقام استئمان صحيح يرفع الضمان، فنصل إلى نتيجة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» عن هذا الطريق.
مثاله: ما لو آجر بيته من صبيّ عاقل أو أعاره منه واشترطنا في عقد الإجارة أو العارية بلوغ المستأجر أو المستعير وكانت الشريعة قد أسقطت ضمان العين في الإجارة الصحيحة أو العارية الصحيحة بتسليط المستأجر أو المستعير على العين ولدى البطلان انتفى هذا الرافع للضمان، ولكن صاحب البيت قد استأمن الصبيّ على البيت كي يقدر على الاستفادة منه، والقاعدة العقلائية ترى الاستئمان مسقطاً للضمان عند
(1) وسائل الشيعة، ج18، ص103، الباب4 من أبواب أحكام العيوب، ح4.
التلف حتّى لو كان المستأمن _ عنده صبيّاً _ فعن هذا الطريق نصل إلى نتيجة عدم الضمان في خصوص فرض التلف دون الإتلاف.
الحكم الثاني: وجوب ردّ ما قبضه بالبيع الفاسد إلى المالك فوراً
أفاد الشيخ الأنصاري رحمه الله: «إنّ من الأُمور المتفرّعة على عدم تملّك المقبوض بالبيع الفاسد وجوب ردّه فوراً إلى المالك»(1).
فهل هذا حكم مستأنف ولغو لا ينبغي بحثه؛ لأنّه لو وجب دفع العوض إلى البائع لدى تلف المبيع فكيف لا يجب دفع نفس المبيع إليه مع وجوده؟!
وبكلمة أُخرى: إنّ المشتري كان ضامناً لمثل المبيع أو قيمته للبائع سواء قرّرنا ذلك بلغة أنّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده أو قرّرناه باللغة البسيطة التي تقول: إنّ البائع لم يهدر احترام مال نفسه فماله محترم، وأيضاً سواء تلف المبيع أو أتلفه المشتري، وإذا كان لدى التلف ضامناً له فكيف لا يضمنه لدى الإتلاف؟! فلو صحّ كلّ هذا فكيف يحتمل عدم وجوب ردّ نفس المبيع إلى البائع مع وجوده؟!
إلّا أنّه بالإمكان الجواب على ذلك بأنّه لدى تلف المبيع أو إتلافه لا يتعيّن ملك البائع إلّا بتطبيق المثل أو القيمة على عين خارجية، وهذا التطبيق لا يتحقّق بمجرّد فرض التطبيق واعتباره على عين خارجية من قِبل المشتري فيما بينه وبين نفسه، وإنّما يتحقّق بالارتكاز العقلائي بتسليم تلك العين مثلاً أو قيمتها إلى البائع. أمّا مع وجود المبيع فملك البائع مشخّص خارجاً، والمقدار المسلّم وجوبه هو التخلية بينه وبين مالكه وهو البائع، أمّا وجوب الردّ فبحاجة إلى استئناف بحث جديد.
وهناك أثر آخر لهذا البحث يخرجه أيضاً عن اللغوية، وهو أنّنا لو اقتصرنا على البحث السابق من وجوب ردّ المثل أو القيمة لدى التلف أو الإتلاف إلى البائع وقلنا:
(1) کتاب المكاسب، ج3، ص199.
إن وجب ردّ العوض فكيف لا يجب ردّ نفس المبيع مع وجوده؟! ولم نستطع التعدّي من ذلك إلى مورد ما لا يضمن بصحيحه كالهبة؛ لأنّه لم يكن يجب في ذاك المورد ردّ العوض لدى التلف ولا الإتلاف؛ لأنّ الواهب قد أسقط احترام مال نفسه فإثبات وجوب الردّ لدى وجود العين الموهوبة بحاجة إلى استئناف بحث جديد، وبدونه يبقى احتمال أنّه لا يجب شيء عدا التخلية بين العين الموهوبة ومالكها.
وقد استشهد الشيخ رحمه الله(1) لوجوب الردّ في البيع الفاسد بحديثين:
الأوّل: حديث الإمام صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف): «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(2) بناء على أنّ الإمساك يعدّ تصرّفاً.
والثاني: صحيح زيد الشحّام(3) وموثّق سماعة(4) عن أبي عبدالله عليه السلام عن رسول الله(صل الله عليه وآله): «من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، فإنّه لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفسه»، فحتّى لو قلنا: إنّ الإمساك لا يعدّ تصرّفاً فعلى الأقل هو داخل تحت إطلاق «لا يحلّ مال امرئ مسلم»؛ لأنّه حرّم بإطلاقه جميع الأفعال المتعلّقة به التي منها كونه في يده.
ولا يتوهّم أنّ هذا كان بإذنه؛ لأنّه دفعه إليه باختياره، فإنّ هذا الدفع كان بعنوان تمليكه إيّاه بعوض، ولم يسلّم له العوض، والتمليك المجّاني لم يصدر منه.
واستشكل السيّد اليزدي رحمه الله في صورة علم الدافع بالفساد في حرمة التصرّف على ما نقله في التنقيح(5) عن حاشيته على المكاسب بوجود الإذن الضمني في التصرّف؛ فإنّ المالك في ضمن تمليكه قد أذن للقابض في التصرّف. ودعوى أنّ الإذن مقيّد
(1) کتاب المكاسب، ج3، ص199 _ 200.
(2) وسائل الشيعة، ج25، ص386، الباب الأوّل من کتاب الغصب، ح4.
(3) المصدر السابق، ج29، ص10، الباب الأوّل من أبواب القصاص، ح1.
(4) المصدر السابق، ج5، ص120، الباب3 من أبواب مكان المصلّي، ح1.
(5) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص249 _ 250
بالملكية وهي غير حاصلة، مدفوعة بأنّ القيد إنّما هو الملكية في اعتبار البائع وهي حاصلة؛ إذ المفروض أنّه أنشأها ولم يكن الإذن مقيّداً بالملكية الشرعية(1).
وأجاب السيّد الخوئي(رحمه الله) على ذلك بأنّ المستثنى في قوله(عليه السلام): «لا يجوز لأحد التصرّف في مال غيره إلّا بإذنه» إنّما هو إذن المالك في التصرّف في ملك نفسه بما هو مالك، والإذن في المقام إنّما كان إذناً في تصرّف القابض في ملك نفس القابض ولو تشريعاً، فلا يكون داخلاً في المستثنى بل يبقى تحت المستثنى منه فيحرم(2).
ولكن في نفس الوقت لم يوافق السيّد الخوئي(رحمه الله) على استدلال الشيخ الأنصاري بالروايتين على وجوب الردّ(3).
أمّا الرواية الأُولى وهي: «لا يحلّ التصرّف» فلأنّ مجرّد الإمساك ما لم يكن بعنوان منع المالك عن ملكه ومزاحمته لا يعدّ تصّرفاً، وعليه فتكفيه التخلية ورفع المزاحمة، فيقول للمالك: إنّي لا أُزاحم سلطانك، ولا أمنعك من التصرّف في مالك، أمّا أنّه يجب عليه الردّ أو تجب عليه مؤونة الردّ فلا دليل عليه.
وأمّا الرواية الثانية وهي رواية: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه» فلا إطلاق لها لغير التصرّف حتّى يقال: إنّ مجرّد الإمساك ولو مع التخلية وعدم المزاحمة داخل في إطلاقها؛ لأنّ إسناد الحلّية أو الحرمة إلى المال وغيره من الأعيان يكون باعتبار الفعل المناسب لها باختلاف الموارد، لا باعتبار جميع الأفعال، ففي قوله سبحانه: ﴿حُرَّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾(4) يكون المقدّر النكاح لا النظر واللمس وسائر الأفعال،
(1) وإن شئت نصّ كلام السيّد اليزدي فراجع حاشيته علی المکاسب، ج1، ص95، وكأنّه يقول بعدم تقيّد الإذن بالملكية الشرعية من باب أنّ المفروض علمه بفساد المعاملة شرعاً، فلا يحتمل تقيّده بالملكية الشرعية.
(2) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص250.
(3) راجع المصدر السابق، ص251 _ 252.
(4) النساء: 13.
وفي قوله سبحانه: ﴿حُرَّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ﴾(1) يكون المقدّر هو الأكل، والمناسب في المقام إمّا هو تقدير الأكل أو جميع التصرّفات والانتفاعات، لا مجرّد كونه عنده مع فرض التخلية وعدم المزاحمة.
ثم لو سلّمنا وجوب الردّ _ بإحدى هاتين الروايتين أو غيرهما _ فعلى من ستكون مؤونة الردّ لو توقّف على المؤونة؟ هل على البائع أو على المشتري؟
نقل الشيخ عن التذكرة وجامع المقاصد: أنّ مؤونة الردّ على المشتري من باب وجوب مقدّمة الواجب(2).
وقال الشيخ: إنّ إطلاق هذا الكلام يشمل ما لو كان في ردّه مؤونة كثيرة إلّا أن يقيّد بغيرها بأدلّة نفي الضرر(3).
وقال الشيخ النائيني رحمه الله: إنّ مؤونة الردّ لو كانت من لوازم الردّ بطبعه الغالبي فهي غير مرفوعة بـ «لا ضرر»؛ لأنّ «لا ضرر» لا يدفع الأضرار الطبيعية الموجودة في الواجب، أمّا لو كانت مؤونة استثنائية ومجحفة فـ «لا ضرر» ترفعها(4).
وأفاد السيّد الخوئي رحمه الله على ما في التنقيح: أنّ ردّ المقبوض بالعقد الفاسد لا يكون ضرريّاً بطبعه؛ لعدم توقّفه في غالب أفراده عل صرف المؤونة كما في ردّ الكتاب أو الخاتم ونحوهما، فليس وجوب الردّ من الأحكام المبنية على الضرر حتّى لا يرتفع بحديث «لا ضرر»، فلو تحقّق في فرد ضرر ولو بأدنى مراتب القلّة فحديث «لا ضرر» يصير حاكماً عليه فيرفعه، فلا فرق بين الضرر القليل والكثير في المرفوعية، فالصحيح أنّ مؤونة الردّ على المالك مطلقاً(5).
(1) المائدة: 3.
(2) کتاب المكاسب، ج3، ص199.
(3) المصدر السابق.
(4) منية الطالب، ج1، ص132؛ المکاسب والبيع، ج1، ص327.
(5) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص253 _ 254
ثم إنّ ما حكم به السيّد الخوئي رحمه الله من أنّ الواجب على القابض إنّما هو التخلية، ولا يجب عليه الردّ ولا مؤونة الردّ قد قصد بذلك التخلية بمعنى إبقاء الحالة بين المالك وماله بالنحو الذي كان حين تسليم المالك المال إليه من أوّل الأمر، فيصدق عندئذٍ أنّه لم يزاحم سلطان المالك على ماله، فلو فرض أنّهما في مكان واحد _ كما لو بقيا في بلد المعاملة أو انتقلا معاً إلى بلد آخر _ فمن الواضح أنّه تكفي في عدم مزاحمة سلطان المالك على ماله مجرّد التخلية والسماح له بأن يأتي ويأخذ منه ماله كما أتاه قبل ذلك وسلّم إليه ماله. ولو فرض أنّ المالك انتقل إلى مكان آخر كما لو سافر إلى بلد آخر فأيضاً لم يصدر من القابض ضرر جديد على المالك، فلو اكتفى بمجرّد التخلية وعدم مزاحمته لسلطان المال على ماله صدق أيضاً أنّه لم يضرّر المالك شيئاً، فعلى المالك لو أراد ماله أن يصرف ما يحتاج إلى صرفه من المؤونة والمال للوصول إلى القابض وتسلّم ما يملكه.
أمّا لو انعكس الأمر فانتقل القابض إلى مكان آخر يبتعد عن المالك أو انتقل كلّ منهما إلى بلد غير ما انتقل إليه الآخر فللقابض أن يكتفي بدفع مقدار من المؤونة والمصرف يكفي لوصول المال إلى بلد المعاملة؛ إذ بذلك تتمّ التخلية المطلوبة، وعدم دفع ذلك يعتبر إضراراً بالمالك، ويكون الزائد على ذلك على المالك(1).
أقول: انتساب الإضرار إلى القابض وحده في مورد ابتعاده عن مكان المعاملة ليس واضحاً في كلّ الفروض ونذكر لتوضيح الفكرة عدّة أمثلة:
1_ لو كان البائع ملتفتاً إلى بطلان المعاملة وكان القابض غافلاً عن ذلك فانتقل القابض إلى مكان بعيد عن مكان المعاملة، فيا تُرى هل ينسب الإضرار المتوجّه للبائع _ في تحصيل ماله _ إلى القابض؟! لا أظنّ كون ذلك عرفيّاً.
2_ لو كان البائع والقابض متساويين في الالتفات إلى بطلان المعاملة أو الغفلة
(1) راجع المصدر السابق، ص254.
فهل الإضرار يوجّه إلى خصوص القابل لدى الابتعاد عن مكان المعاملة كي يضمّن؟! هذا أيضاً لا أظنّه مفهوماً عرفاً.
3_ لو كان البائع هو الغافل والقابض هو الملتفت إلى بطلان المعاملة ومع ذلك قبض المال ثم ابتعد عن المكان ممّا اضطرّ البائع في تحصيل ملكه إلى صرف بعض المصارف المالية فهنا يبدو إنّ الإضرار بالمالك ينسب عرفاً إلى القابض فيضمن.
الحكم الثالث: ضمان المنافع المستوفاة للمبيع
وهذا ممّا رتّبه الشيخ(رحمه الله) علی القبض بالبيع الفاسد، وقد استدلّ على ذلك بحديث: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفس منه»(1).
وممّا يلفت النظر أنّ الشيخ ترك هنا الاستدلال بالرواية الأُخرى وهي رواية: «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(2).
وكأنّ السبب في ذلك: أنّه يرى أنّ «لا يحلّ التصرّف» لا يدلّ على أكثر من حرمة التصرّف، أمّا الضمان فلا يفهم منه، فهذا الحديث كان نافعاً في إثبات وجوب ردّ المبيع مثلاً، لكنّه لا ينفع في إثبات ضمان المنافع المستوفاة. أمّا حينما ينسب نفي الحل إلى ذات المال لا إلى التصرّف فيه كما هو الحال في حديث «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفس منه» فتصبح الدلالة أوسع من مجرّد الحرمة التكليفية، أي تشمل الحرمة والضمان.
ولكن الصحيح ما أفاده السيّد الخوئي(رحمه الله) من أنّ نفي الحلّ عن المال أيضاً يعني نفي حلّ التصرّف فيه، وليس الضمان(3).
(1) عوالي اللئالي، ج3، ص473، باب الغصب، ح3.
(2) وسائل الشيعة، ج9، ص540، الباب3 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، ح7.
(3) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص256.
نعم، يدلّ حديث «على اليد»(1) على الضمان، ولكن قال السيّد الخوئي رحمه الله: إنّه مضافاً إلى سقوطه سنداً يختصّ بالأعيان؛ لأنّ قوله: «حتّى تؤدّيه» ظاهر في أداء نفس المأخوذ، والمنافع غير قابلة بعد أخذها للأداء بنفسها(2).
نعم استدلّ السيّد الخوئي رحمه الله على ضمان المنافع المستوفاة للمبيع تارة بلغة قيام السيرة العقلائية على ضمان المنافع المستوفاة ولم يردع عنها الشارع(3).
وأُخرى بلغة الاستشهاد بقاعدة «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» والإتلاف يعمّ ما كان بالاستيفاء أو بغيره، وهذه القاعدة متصيّدة من عدّة موارد ثبت في الفقه فيها الضمان.
وهذا المطلب أُشير إليه في التنقيح(4) وأُوضح في مصباح الفقاهة بتعبير أوفى؛ إذ قال: قاعدة من أتلف وإن لم تذكر في رواية خاصّة ولكنّها قاعدة متصيّدة من الموارد الخاصّة التي نقطع بعدم وجود الخصوصية لتلك الموارد، وعليه فتكون هذه القاعدة متّبعة في كلّ مورد تمسّ بها الحاجة. والموارد التي أُخذت منها هذه القاعدة هي الرهن والعارية والمضاربة والإجارة والوديعة وغير ذلك من الموارد المناسبة لها، فإنّه قد وردت فيها الأخبار الكثيرة الدالّة على أنّ إتلاف مال الغير موجب للضمان(5).
فإلى هنا ثبت المقتضي لضمان المنافع.
وبعد ذلك تصل النوبة إلى البحث عمّا يمنع عن تأثير هذا المقتضي وهي قاعدة «الخراج بالضمان» فقد نقل الشيخ الأنصاري رحمه الله(6) عن الوسيلة نفي ضمان المنافع
(1) مستدرك الوسائل، ج17، ص88، الباب الأوّل من أبواب كتاب الغصب، ح4.
(2) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص255.
(3) المصدر السابق، ص256.
(4) المصدر السابق.
(5) مصباح الفقاهة، ج3، ص131 _ 132. وأشار تحت الخط إلى عدد من روايات الباب
(6) کتاب المكاسب، ج3، ص201.
المستوفاة محتجّاً بأنّ الخراج بالضمان كما في النبوي المرسل(1).
وتفسيره: أنّ من تقبّل ضمان شيء لنفسه فخراجه له بسبب الضمان أو في مقابل الضمان، والمشتري قد أقدم على ضمان المبيع وتقبّله على نفسه بتقبيل البائع وتضمينه إيّاه على أن يكون الخراج له مجّاناً، والضمان ثابت حتّى في حال الفساد فالخراج له أيضاً حتّى في حال الفساد.
قال الشيخ الأنصاري رحمه الله: «وهذا المعنى (يعني الخراج بالضمان) مستنبط من أخبار كثيرة متفرّقة، مثل قوله عليه السلام في مقام الاستشهاد على كون منفعة المبيع في زمان الخيار للمشتري: ألا تری أنّها لو أُحرقت كانت من مال المشتري ونحوه في الرهن(2) وغيره»(3).
أقول كأنّه رحمه الله يشير بما ورد في مورد خيار المشتري إمّا إلى حديث الشيخ الطوسي رحمه الله بإسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان عن إسحاق بن عمّار قال: «حدّثني من سمع أبا عبدالله عليه السلام وسأله رجل وأنا عنده فقال: رجل مسلم احتاج إلى بيع داره فجاء إلى أخيه فقال: أُبيعك داري هذه وتكون لك أحبّ إليّ من أن تكون لغيرك على أن تشترط لي إن أنا جئتك بثمنها إلى سنة أن تردّ عليّ؟ فقال: لا بأس بهذا إن جاء بثمنها إلى سنة ردّها عليه. قلت: فإنّها كانت فيها غلّة كثيرة فأخذ الغلّة لمن تكون الغلّة؟ قال: الغلّة للمشتري ألا ترى أنّه لو احترقت لكانت من ماله»(4).
وهذا السند فيه شبهة الإرسال(5)؛ لاحتمال أن يكون من سمع أبا عبدالله عليه السلام _ ولا نعلم
(1) مستدرك الوسائل، ج13، ص302، الباب7 من أبواب الخيار، ح3، عن عوالي اللئالي، ج1، ص57، ح83: عن النبي(صل الله عليه وآله): «أنّه قضى بأنّ الخراج بالضمان».
(2) وسائل الشيعة، ج18، ص387، الباب5 من کتاب الرهن، ح6.
(3) کتاب المكاسب، ج3، ص202.
(4) تهذيب الأحکام، ج7، ص23، الباب2 من کتاب التجارات، ح13.
(5) وقد يقال: قوله: «حدّثني من سمع أبا عبدالله» شهادة له تحمل على ما يقرب من الحسّ على أنّ ذاك الرجل سمع أبا عبدالله(عليه السلام)
من هو _ قد قال لإسحاق بن عمّار: «سأله رجل وأنا عنده».
ولكن الإشكال قد يرتفع بنسخة الصدوق رحمه الله حيث روى الحديث كالتالي: روى إسحاق بن عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام): «قال: سأله رجل وأنا عنده فقال: رجل مسلم...»(1).
وهذا الحلّ إنّما ينفعنا لو وثقنا بذلك بأنّ المقصود بنقل الطوسي أنّ إسحاق بن عمّار هو الذي سمع أبا عبدالله وأنّ المشكلة ليست إلّا تشويشاً في العبارة، وإلّا فنقل الصدوق للرواية عن إسحاق بن عمّار لا يحلّ بنفسه مشكلتنا؛ لأنّه وقع في سند الصدوق إلى إسحاق بن عمّار علي بن إسماعيل، والظاهر أنّه علي بن إسماعيل بن عيسى، ولا دليل على وثاقته عدا وقوعه في أسانيد كامل الزيارات.
وإمّا إلى حديث الشيخ الطوسي رحمه الله بإسناده عن الحسن بن محمد بن سماعة عن أحمد بن أبي بشر عن معاوية بن ميسرة قال: «سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبدالله عليه السلام عن رجل باع داراً له من رجل وكان بينه وبين الرجل الذي اشترى منه الدار حاصر، فشرط إنّك إن أتيتني بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك فأتاه بماله؟ قال: له شرطه. قال له أبو الجارود: فإنّ ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين. قال: هو ماله. وقال أبو عبدالله(عليه السلام): أرأيت لو أنّ الدار احترقت من مال من كانت؟ تكون الدار دار المشتري»(2). ومعاوية بن ميسرة قد روی عنه محمد بن أبي عمير والبزنطي، فسند الحديث تامّ.
والظاهر أنّ أجنبية هذه الرواية عمّا نحن فيه في غاية الوضوح؛ فإنّ مفادها أنّ ما أصابه من منافع الدار في ضمن سنوات خيار البائع للمشتري؛ لأنّ الدار في تلك
(1) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص205، باب حکم القبالة المعدلة بین الرجلين بشرط معروف إلی أجل معلوم، ح3771.
(1) تهذيب الأحکام، ج7، ص176، الباب15 من کتاب التجارات، ح37.
السنوات كانت ملكاً للمشتري، ومنافع الملك للمالك، واستشهد لكون الدار ملكاً للمشتري بأنّها لو احترقت احترقت من مال المشتري. ولعلّ نظر الشيخ الأنصاري إلى الرواية الأُولى، لا إلى هذه الرواية.
وكأنّ الشيخ الأنصاري رحمه الله يشير بما ورد في الرهن إلى ما رواه الكليني عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد وسهل بن زياد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن حمّاد بن عثمان عن إسحاق بن عمّار قال: «قلت لأبي إبراهيم(عليه السلام): الرجل يرهن الغلام والدار فتصيبه الآفة على من يكون؟ قال: على مولاه ثم قال: أرأيت لو قتل قتيلاً على من يكون؟ قلت: هو في عنق العبد. قال: ألا ترى فلِمَ يذهب مال هذا؟ ثم قال: أرأيت لو كان ثمنه مائة دينار فزاد وبلغ مائتي دينار لمن كان يكون؟ قلت: لمولاه. قال: كذلك يكون عليه ما يكون له»(1).
وأمّا عطف الشيخ الأنصاري رحمه الله عبارة «وغيره» على موضوع الرهن فلعلّه يشير بذلك إلى ما رواه الكليني عن عدّة من أصحابنا عن محمد بن يحيى عن عبدالله بن محمد عن علي بن الحكم عن أبان عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن رجل استأجر من السلطان من أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام مسمّى ثم آجرها وشرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقلّ من ذلك أو أكثر وله في الأرض بعد ذلك فضل، أيصلح له ذلك؟ قال: نعم، إذا حفر لهم نهراً أو عمل لهم شيئاً يعينهم بذلك فله ذلك...قال: وسألته عن الرجل استأجر أرضاً من أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام معلوم فيؤاجرها قطعة قطعة أو جريباً جريباً بشيء معلوم فيكون له فضل فيما استأجره من السلطان ولا ينفق شيئاً أو يؤاجر تلك الأرض قطعاً على أن يُعطيهم البذر والنفقة فيكون له في ذلك فضل على إجارته وله تربة الأرض أو ليست له؟ فقال: له: إذا استأجرت أرضاً فأنفقت فيها شيئاً أو رممت
(1) الکافي، ج5، ص234، باب الرهن من کتاب المعيشة، ح10.
فيها فلا بأس بما ذكرت»(1).
ووجه الاستدلال هو أنّ المستأجر الأوّل لمّا ضمن الأُجرة للمؤجر كانت الفائدة الحاصلة له بالإجارة الثانية خراجاً عائداً له، لا لمالك الأرض.
أقول: إنّ أجنبية هذه الرواية الرابعة عمّا نحن فيه أيضاً في غاية الوضوح؛ فإنّها قد جعلت زيادة قيمة المنفعة للذي ملك المنفعة بالاستيجار بشرط إضافة شيء أو تحسين في الأرض، وهذا من قبيل من يملك شيئاً بمبلغ ثم يبيعه بمبلغ أكثر، وأيّ ارتباط لذلك بما نحن فيه؟
ولا أُريد أن أُحمّل هذا الإشكال على الشيخ الأنصاري، فإنّنا لا نعلم إنّه كان ناظراً إلى هذه الرواية.
والمهمّ من هذه الروايات الأربع هي الرواية الأُولى والثالثة.
والواقع أنّ التدقيق فيهما أيضاً يؤدّي إلى وضوح أجنبيّتهما عن المقام، فالأُولى ناظرة إلى أنّ غلّة الملك للمالك، والثالثة ناظرة إلى أنّ النقص الوارد على العبد وارد على ممتلكات المولى، كما أنّ زيادة قيمته راجعة إلى زيادة قيمة ممتلكات المولى.
فلم يبق شيء يمكن الاستدلال به في المقام إلّا رواية «الخراج بالضمان».
وهي رواية سنّية واردة في كتبهم، ولم ترد لدى الشيعة إلّا مرسلة عوالي اللآلي أو غوالي اللآلي.
ومع ذلك فقد نقل عن الشيخ النائيني رحمه الله تصحيح سند الحديث بقوله _ على ما ورد في كتاب المكاسب والبيع للشيخ الآملي رحمه الله: «وقد ذكر الشيخ(قدس سره) هذا الخبر _ أعني: جملة «الخراج بالضمان» _ في المبسوط وذكر له معنيين، وذِكره في كتابه وتصدّيه لبيان معناه يكشف عن اعتماده عليه، ويكفي في الاطمئنان بصدوره مع أنّه مؤيّد بما ورد في طرقنا في باب الرهن وغيره من أنّ الزيادة الحاصلة في العين المرهونة للمالك؛
(1) الکافي، ج5، ص272، باب الرجل يستأجر الأرض أو الدار فيؤاجرها بأکثر مما استأجرها، ح2.
لكون خسارة العين عليه، ومع ذلك كلّه فلا وجه للمناقشة في سنده كما في الكتاب (يعني مكاسب الشيخ الأنصاري) برميه بالإرسال، بل الإنصاف صحّة الاستناد إليه بما بيّنّاه»(1).
أقول: لو فرضت تمامية السند _ وهو غير تامّ _ يبقى النقاش الدلالي في الرواية؛ فإنّ المحقّقين قد ناقشوا في دلالة الرواية على المقصود.
فقد ناقش الشيخ الأنصاري رحمه الله في دلالة الرواية بأنّ المراد بالضمان الذي يكون بإزائه الخراج أنّه لو تقبّل الشخص الضمان فالشارع يمضيه ويجعل بإزاء هذا الضمان الخراج، في حين أنّ الضمان الذي تقبّله المشتري فيما نحن فيه لم يكن إلّا ضمان المسمّى، ولم يمضه الشارع حتّى يجعل في مقابل ذلك الخراج للمشتري، وإنّما ثبّت الشارع ضمان المبيع بالمثل أو القيمة لو تلف أو أُتلف، ولم يثبت أنّه في مقابل ذلك يكون الخراج للمشتري، فدلالة الرواية لا تقصر عن سندها في الوهن، فلا تترك لأجلها قاعدة ضمان مال المسلم واحترامه وعدم حلّه إلّا عن طيب النفس(2).
وقد أبدى السيّد الخوئي رحمه الله _ على ما في التنقيح(3) _ أربعة تفاسير في معنى الرواية.
التفسير الأوّل: أن يكون المقصود ما هو المعروف في باب الخراج والمقاسمة المرتبط بالأراضي الخراجية، ويكون المعنى: أنّ الذي يتقبّل دفع الخراج إلى السلطان في الأراضي الخراجية ويضمن له ذلك يكون عليه الخراج، وهو المطالب به وإن كان قد قبّل الأرض من شخص آخر بمقاسمة نتاج الزراعة بينه وبين المتقبّل.
وادّعى السيّد الخوئي رحمه الله: أنّ هذا التفسير _ وإن لم نره في كلمات الفقهاء _ هو أظهر الاحتمالات، ومعه يكون الحديث المزبور أجنبيّاً عن المقام.
(1) المکاسب والبيع، ج1، ص330.
(2) کتاب المكاسب، ج3، ص202 _ 203.
(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص256 _ 257.
التفسير الثاني: أن يكون المراد بالخراج مطلق المنافع، والمراد بالضمان مطلق الضمان سواءً كان اختياريّاً مترتّباً على العقود الصحيحة أو الفاسدة، أو غير اختياري كالضمان المترتّب على الغصب، وهذا المعنى ينطبق على مسلك أبي حنيفة حيث قال: إنّ كلّ من يضمن مالاً ولو غصباً فالمنافع له(1).
(1) الظاهر أنّ نظر أبي حنيفة المروي في صحيحة أبي ولّاد كان ناشئاً من رأيه هذا، وهي رواية طريفة أنقلها هنا عن الكافي، ج5، ص290، باب الرجل يكتري الدابّة فيجاوز بها الحدّ أو يردّها قبل الانتهاء إلى الحدّ، ح6. فقد روی الكليني عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن أبي ولّاد الحنّاط قال: «اكتريت بغلاً إلى قصر ابن هبيرة ذاهباً وجائياً بكذا وكذا، وخرجت في طلب غريم لي، فلمّا صرت قرب قنطرة الكوفة خُبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى النيل، فتوجّهت نحو النيل، فلمّا أتيت النيل خبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى بغداد، فاتّبعته وظفرت به، وفرغت ممّا بيني وبينه، ورجعنا إلى الكوفة، وكان ذهابي ومجيئي خمسة عشر يوماً، فأخبرت صاحب البغل بعذري وأردت أن أتحلّل منه ممّا صنعت وأُرضيه، فبذلت له خمسة عشر درهماً، فأبى أن يقبل، فتراضينا بأبي حنيفة، فأخبرته بالقصّة وأخبره الرجل، فقال لي: وما صنعت بالبغل؟ قلت: قد دفعته إليه سليماً قال: نعم بعد خمسة عشر يوماً. فقال: ما تريد من الرجل؟ قال: أُريد كراء بغلي فقد حبسه عليّ خمسة عشر يوماً. فقال: ما أرى لك حقّاً؛ لأنّه اكتراه إلى قصر ابن هبيرة فخالف وركبه إلى النيل وإلى بغداد فضمن قيمة البغل وسقط الكراء، فلمّا ردّ البغل سليماً وقبضته لم يلزمه الكراء. قال: فخرجنا من عنده وجعل صاحب البغل يسترجع، فرحمته ممّا أفتى به أبو حنيفة، فأعطيته شيئاً وتحلّلت منه، فحججت تلك السنة، فأخبرت أبا عبدالله(عليه السلام) بما أفتى به أبو حنيفة. فقال: في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها وتمنع الأرض بركتها. قال: فقلت لأبي عبدالله(عليه السلام): فما ترى أنت؟
قال: أرى له عليك مثل كراء بغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل ومثل كراء بغل راكباً من النيل إلى بغداد ومثل كراء بغل من بغداد إلى الكوفة توفّيه إياه. قال: فقلت: جعلت فداك إنّي قد علفته بدراهم فلي عليه علفه؟ فقال: لا؛ لأنّك غاصب. فقلت: أرأيت لو عطب البغل ونفق أليس كان يلزمني؟ قال: نعم، قيمة بغل يوم خالفته. قلت: فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز؟ فقال: عليك قيمة ما بين ←