353

الرجوع فيها إلّا أن يُحدث الموقوف عليهم ما يمنع الشرع من معونتهم والتقرّب إلى الله بصلتهم أو يكون تغيير الشرط في الموقوف أدرّ عليهم وأنفع لهم من تركه على حاله، وإذا أخرج الواقف الوقف عن يده إلى من وقف عليه لم يجز له الرجوع في شيء منه ولا تغيير شرائطه ولا نقله عن وجوهه وسُبله. ومتى اشترط الواقف في الوقف أنّه متى احتاج إليه في حياته _ لفقر _ كان له بيعه وصرف ثمنه في مصالحه جاز له فعل ذلك، وليس لأرباب الوقف بعد وفاة الواقف أن يتصرّفوا فيه ببيع أو هبة أو يغيّروا شيئاً من شروطه إلّا أن يخرب الوقف ولا يوجد من يراعيه بعمارة من سلطان أو غيره أو يحصل بحيث لا يجدي نفعاً لهم، فلهم حينئذٍ بيعه والانتفاع بثمنه، وكذلك إن حصلت لهم ضرورة إلى ثمنه كان لهم حلّه، ولا يجوز ذلك مع عدم ما ذكرناه من الأسباب والضرورات»(1) انتهى كلامه رحمه الله.

وهذا واضح في أنّ مقصوده رحمه الله بيعه وأكل ثمنه إن كان أدرّ عليهم وأنفع لا تبديله بعين أُخرى، وخصّ ذلك بما قبل خروج الموقوف من يد الواقف إلى يد الموقوف عليهم أو موته، إذاً فلعلّه رحمه الله ناظر إلى فرض أنّ الوقف لا يتمّ قبل الخروج من يد الواقف، فأصل نظره رحمه الله إلى الاستثناء غير واضح.

وقال الشيخ رحمه الله ما مفاده: إنّ العلّامة ذكر في التحرير: أنّ قول المفيد بجواز الرجوع في الوقف إذا أحدث الموقوف عليهم ما يمنع الشرع من معونتهم والتقرّب إلى الله بصلتهم أو يكون تغيير الشرط في الموقوف أدرّ عليهم وأنفع لهم من تركه على حاله متأوّل(2).

وعلّق الشيخ رحمه الله على ذلك بقوله: «ولعلّه من شدّة مخالفته للقواعد لم يرتض بظاهره للمفيد»(3).


(1) المقنعة، ص652 _ 653.

(2) کتاب المكاسب، ج4، ص45.

(3) المصدر السابق، ص45.

354

وقال الشيخ رحمه الله: إنّ زيادة النفع والدرّ تلحظ بالنسبة للبطن الموجود لو قيل بأكله للثمن، وتلحظ بالنسبة لجميع البطون لو قيل بوجوب شراء بدل الوقف بثمنه(1).

ثم أفاد رحمه الله: والأقوى المنع مطلقاً وفاقاً للأكثر، بل الكلّ بناء على ما تقدّم من عدم دلالة قول المفيد للاستثناء، وعلى تقدير دلالته فقد ذكر العلّامة في التحرير أنّ كلام المفيد متأوّل. وكيف كان فلا إشكال في المنع، لوجود مقتضي المنع وهو وجوب العمل على طبق إنشاء الواقف وقوله(عليه السلام): «لا يجوز شراء الوقف»(2) وغير ذلك(3)، وعدم ما يصلح للمنع، عدا رواية ابن محبوب عن علي بن رئاب عن جعفر بن حنّان(4) قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن رجل وقف غلّة له على قرابته من أبيه وقرابته من أُمّه وأوصى لرجل ولعقبه ليس بينه وبينه قرابة بثلاثمائة درهم في كلّ سنة ويقسم الباقي على قرابته من أبيه وقرابته من أُمّه فقال(عليه السلام): جائز للّذي أوصى له بذلك. قلت: أرأيت إن لم يخرج من غلّة تلك الأرض التي وقفها إلّا خمسمائة درهم؟ فقال: أليس في وصيّته أن يعطی الذي أوصى له من الغلّة ثلاثمائة درهم ويقسّم الباقي على قرابته من أبيه وقرابته من أُمّه؟ قلت: نعم. قال: ليس لقرابته أن يأخذوا من الغلّة شيئاً حتّى يوفّوا الموصى له ثلاثمائة درهم، ثم لهم ما يبقى بعد ذلك. قلت: أرأيت إن مات الذي أوصى له؟ قال: إن مات كانت الثلاثمائة درهم لورثته يتوارثونها ما بقي أحد منهم فأما إذا انقطع ورثته فلم يبق منهم أحد كانت الثلاثمائة درهم لقرابة الميّت يردّ ما يخرج من الوقف ثم يقسّم بينهم يتوارثون ذلك ما بقوا وبقيت الغلّة. قلت: فللورثة من قرابة الميّت أن يبيعوا الأرض إذا احتاجوا ولم يكفهم ما يخرج من


(1) المقنعة، ص78.

(2) إشارة إلى رواية أبي علي بن راشد الواردة في الوسائل، ج19، ص185، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح1.

(3) يعني باقي أدلّة المنع.

(4) أو جعفر بن حيّان.

355

الغلّة؟ قال: نعم إذا رضوا كلّهم وكان البيع خيراً لهم باعوا»(1).

والخبر المروي عن الاحتجاج: أنّ الحميري كتب إلى صاحب الزمان(عليه السلام): أنّه روي عن الصادق عليه السلام خبر مأثور: «...إذا كان الوقف على قوم بأعيانهم وأعقابهم فاجتمع أهل الوقف على بيعه وكان ذلك أصلح لهم أن يبيعوه فهل يجوز أن يشتری من بعضهم إن لم يجتمعوا كلّهم على البيع أم لا يجوز إلّا أن يجتمعوا كلّهم على ذلك؟ وعن الوقف الذي لا يجوز بيعه؟ فأجاب(عليه السلام): إذا كان الوقف على إمام المسلمين فلا يجوز بيعه، وإن كان على قوم من المسلمين فليجمع كلّ قوم ما يقدرون على بيعه مجتمعين ومتفرّقين إن شاء الله...»(2).

قال الشيخ الأنصاري رحمه الله: ويؤيّد المطلب _ أي: بيع كلّ قوم ما يقدرون على بيعه مجتمعين ومتفرّقين _ صدر رواية علي بن مهزيار في بيع حصّة ضيعة الإمام عليه السلام من الوقف(3).

ويقصد بذلك ما ورد في الوسائل بسند تام عن علي بن مهزيار قال: «كتبت إلى أبي جعفر الثاني(عليه السلام): إنّ فلاناً ابتاع ضيعة فأوقفها وجعل لك في الوقف الخمس ويسأل عن رأيك في بيع حصّتك من الأرض أو تقويمها على نفسه بما اشتراها أو يدعها موقفة، فكتب إليّ: أعلم فلاناً أنّي آمره أن يبيع حقّي من الضيعة وإيصال ثمن ذلك إليّ، وأنّ ذلك رأيي إن شاء الله أو يقوّمها على نفسه إن كان ذلك أوفق له»(4).


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص190، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح8.

(2) الاحتجاج، ج2، ص490؛ وانظر وسائل الشيعة، ج19، ص191، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح9.

(3) کتاب المکاسب،‌ج4، ص78 _ 81.

(4) وسائل الشيعة،‌ ج19، ص188، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح5. ويمكن حمل هذا على أنّه لم يكن هذا الخمس وقفاً أو حبساً، بل كان خمساً أو تمليكاً مجّانيّاً، فلعلّ قوله: «جعل لك في ←

356

ثم يبدأ الشيخ رحمه الله بمناقشة روايتي جعفر والحميري.

وعلى أيّ حال فلا إشكال في أنّ الروايتين ساقطتان سنداً:

أمّا رواية الاحتجاج فلوضوح أنّها مرسلة لا سند لها. وأمّا رواية جعفر فسواء فرضناه جعفر بن حنّان أو فرضناه جعفر بن حيّان لم يرد بشأنه أيّ توثيق.

وقد أورد السيّد الخوئي رحمه الله على الاستدلال برواية جعفر بن حنّان أو «ابن حيّان» مضافاً إلى ضعف السند بأنّ الرواية مشتملة على أشياء توجب وهن الرواية؛ وذلك لأنّه كيف تجتمع الوصيّة مع الوقف؟! لكونهما من المتنافيين، بداهة أنّ الوصيّة لو كانت قبل الوقف تكون باطلة بمجرّد الوقف، مثل ما إذا باع الموصي الشيء الموصى به، ولو كانت بعده فهي باطلة أيضاً؛ لأنّ الموصى به خارج عن ملكه(1).

إلّا أن يقال: إنّ المراد عن الوصيّة الشرط، يعني أنّ الواقف شرط في وقفه هكذا، فهذا جزء من الوقف، وقد تطلق الوصيّة لغةً وفي القرآن على الشرط، مثل قوله تعالى: ﴿يُوصِيْكُمُ اللّٰهُ﴾(2) فإن كان كذلك لم نفهم المراد من قوله في فرض ما إذا مات الذي أوصى له: «إن مات كانت ثلاثمائة درهم لورثته يتوارثونها بينهم ما بقي أحد منهم» بداهة أنّه على هذا يكون إعطاء ثلاثمائة درهم منوطاً بوجود من شرط الإعطاء له وهو الرجل وعقبه وفق ما اقتضاه الوقف، فإذن لا وجه لإعطائه لورثة المشروط له.

أمّا لو كان المقصود حقّاً الوصيّة وفرضنا صحّتها فلا وجه لأن يكون الموصى به بعد انقضاء ورثة الموصی له راجعاً إلى قرابة الميّت الواقف؛ بداهة أنّه على هذا يكون


الوقف» يعني في ضمن العين الموقوفة، لا أنّ هذا الخمس أيضاً وقف. كما يمكن أن يحمل ذلك على معنى أنّ الوقف على الشخص مشروط بقبوله أو قبضه، والإمام(عليه السلام) لم يقبله أو لم يقبضه وطلب منه بيعه أو تقويمه على نفسه مع إيصال ثمنه إلى الإمام(عليه السلام).

(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص290 _ 291.

(2) النساء: 11، ﴿يُوصِيْكُمُ اللّٰهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظَّ الأُنثَيَيْنِ...﴾.

357

ممّا لا وارث له، وعليه يكون مالاً للإمام(عليه السلام)؛ لأنّه وارث من لا وارث له.

وبعد غضّ النظر عن كلّ ما ذكرناه فالرواية لا دلالة لها على المطلب؛ لأنّها تدلّ على جواز البيع بشرط احتياج الموقوف عليهم ورضاهم بالبيع مع كون البيع أعود، فكفاية مجرّد كون البيع أعود وأنفع لهم لا تستفاد من الرواية. انتهی ما أردنا نقله من التنقيح مع حذف ما أردنا حذفه، وبإمكانك مراجعة المصدر.

وممّا يستفاد من عبارة الشيخ الأعظم رحمه الله أنّه ليس من المعلوم أن يكون المقصود بقوله(عليه السلام): «وكان البيع خيراً لهم» شرط الأعودية والأنفعية تعبّداً، فلعلّ المقصود أنّهم إذا ارتأوا خيرهم ومصلحتهم في البيع فأرادوا ذلك جاز، وهذا ممّا لا يقول به أحد(1).

بقي الكلام في رواية الاحتجاج بغضّ النظر عن سقوطها بالإرسال البحت.

وقد أفاد الشيخ الأنصاري رحمه الله(2): أنّ نفس ما أوردناه على الاستدلال برواية جعفر _ من عدم الدلالة على أنّ المقصود بالخير أو الصلاح الأعودية، وكون الأعودية هي الشرط الوحيد، وعدم الظفر بقائل بكفاية الأعودية عدا ما يوهمه ظاهر عبارة المفيد المتقدّمة _ يرد على الاستدلال برواية الاحتجاج.

وأفاد السيّد الخوئي رحمه الله في التنقيح بعد إلفات النظر إلى سقوط الحديث سنداً:

أوّلاً: «أنّ الرواية ليست في مقام بيان ما هو المجوّز لبيع الوقف، بل في مقام بيان أنّ أيّ وقف يصحّ بيعه بعد عروض المسوّغ، وهي ساكتة من بيان ما هو المجوّز والمسوّغ. وبعبارة واضحة: أنّ الرواية في مقام بيان أنّ بيع الوقف مع فرض وجود المسوّغ له هل يصحّ من بعض الموقوف عليهم أو يعتبر في جوازه اجتماعهم عليه، وأمّا ما يكون مجوّزاً أو مسوّغاً فليست في مقام بيانه»(3).


(1) کتاب المكاسب، ج4، ص81.

(2) المصدر السابق، ص82.

(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص292.

358

وثانياً: «أنّه على فرض التسليم إنّما تدلّ على جواز بيع الوقف مطلقاً؛ لأنّ الأصلحية إنّما ذكرت في كلام السائل، فلا توجب تقييداً»(1).

وثالثاً: سلّمنا كون الأصلحية قيداً للحكم إلّا أنّ الظاهر أنّ المراد بها الأصلحية بحال البائعين وهم البطن الموجود، ومن المعلوم أنّ بيع الوقف وتملّك ثمنه يكون أعود وأنفع لهم دائماً، فالمستفاد من الرواية على هذا جواز بيع الوقف للبطون الموجودة في جميع الموارد، فحينئذ لا تكون أخصّ من أدلّة منع بيع الوقف، بل يكون بينهما التباين، فتتعارضان....

أقول: إنّ الإشكال الأوّل من هذه الإشكالات الثلاثة يقصد رحمه الله به أنّ السائل فرض أنّ أهل الوقف اجتمعوا على بيعه وكان ذلك أصلح لهم، أمّا لماذا اجتمعوا على بيعه؟ فلم يذكره، وإنّما خصّ سؤاله بأنّه هل يجوز الشراء من بعضهم حصّة إذا اختلفوا في البيع وعدمه أو يختصّ الجواز بفرض اجتماعهم على البيع، فجواز البيع أُخذ مفروغاً من قبل في موضوع السؤال، ولا نعلم ما هو المجوّز، وجواب الإمام منصبّ على فرض جواز البيع، وأجاب عليه السلام بأنّ الشراء جائز حتّى مع الاختلاف فيما بينهم، فلك أن تشتري حصّة من وافق على البيع.

أقول: لأحد أن يستظهر من عبارة السائل: «وكان ذلك أصلح لهم» أنّ موضوع الجواز هو الأصلحية، فيكون ظاهر الجواب أيضاً الموافقة على هذا المقياس، فإن تمّ هذا الاستظهار بطل الإشكال الأوّل.

وأمّا الإشكال الثاني، وهو أنّ قيد الأصلحية إنّما ذكرت في كلام السائل دون جواب الإمام، وذلك لا يقيّد جواب الإمام، فأيضاً لقائل أن يقول: أنّ جواب الإمام ناظر إلى مفروض السؤال، فلا إطلاق له لغير فرض الأصلحية.

فالعمدة من هذه الإشكالات الثلاثة هو الإشكال الثالث، وهو أنّ الأصلحية ثابتة


(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص292.

359

مطلقاً؛ لأنّ ظاهر المراد هو الأصلحية بحال البائعين وهم البطن الموجود، ومن الواضح ثبوت أصلحية البيع وأكل الثمن لهم دائماً، فيكون التعارض مع أدلّة منع بيع الوقف تعارضاً بالتباين، فتتقدّم أدلّة المنع، لمسلّمية أصل المنع فقهيّاً، لا لما تعرّض له السيّد الخوئي رحمه الله في نهاية كلامه(1) من ضعف سند رواية الاحتجاج، فإنّ هذا رجوع إلى إشكال السند، وليس إشكالاً جديداً، ولا لما تعرّض له أيضاً في نهاية كلامه(2) من مبنى انقلاب النسبة على أساس أنّ الروايات المانعة خرج منها فرض الخراب بدليل جواز بيع الوقف لدى الخراب فصارت أخصّ، فإنّنا لا نقول بهذا المبنى في علم الأُصول.

التنبيه الخامس: فيما إذا أصابت الموقوف عليهم حاجة شديدة فقد ادّعي الإجماع تارة على جواز البيع في هذه الصورة، وأُخرى على عدم جوازه(3).

ولا قيمة للإجماعات المنقولة والمتضاربة في المقام.

والعمدة ما مضت من رواية جعفر بن حيّان أو جعفر بن حنّان، وفي ذيلها: «قلت: فللورثة من قرابة الميّت أن يبيعوا الأرض إذا احتاجوا ولم يكفهم ما يخرج الغلّة؟ قال: نعم إذا رضوا كلّهم وكان البيع خيراً لهم باعوا»(4).

وبغضّ النظر عن سقوط سند الحديث _ بنفس جعفر بن حيّان أو جعفر بن حنّان لعدم دليل على وثاقته _ لا تتمّ دلالة.

ومن الإشكالات الدلالية التي جرت على لسان الشيخ رحمه الله(5) وعلى لسان السيّد الخوئي(قدس سره)(6): أنّ المأخوذ في الرواية ليس هو طروّ الحاجة الشديدة، وإنّما هو عدم


(1) المصدر السابق، ص293.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) وسائل الشيعة، ج19، ص190، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح8.

(5) کتاب المكاسب، ج4، ص83

(6) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)،‌ج37، ص294.

360

كفاية غلّة الأرض لمؤونة تلك السنة للموقوف عليهم(1)، فالرواية بظاهرها غير معمول بها ولم يفت بها أحد.

وادّعی الشيخ الأنصاري رحمه الله أنّ النسبة بين الحاجة الشديدة وبين مطلق الفقر عموماً من وجه؛ إذ قد يكون فقيراً ولا تتّفق له حاجة شديدة بل مطلق الحاجة؛ لوجدانه من مال الفقراء ما يوجب التوسعة عليه، وقد تتّفق الحاجة والضرورة الشديدة في بعض الأوقات لمن يقدر على مؤونة سنته.

التنبيه السادس: في جواز البيع عند الحاجة إذا اشترط الواقف ذلك.

والظاهر صحّة ذلك؛ تمسّكاً بإطلاق نصوص الوقوف حسب ما يقفها أهلها(2).

وتوهّم أنّ ذلك خلاف التأبيد الثابت في الارتكاز العرفي والمتشرّعي مدفوع بأنّه ليس التأبيد الثابت في الارتكاز العرفي والمتشرّعي بأكثر من أنّ الواقف يخرج العين عن ملكه أبديّاً وأنّ المؤقّت ليس خارجاً من ملك الواقف بل يكون حبساً، والحبس مفهوم آخر غير مفهوم الوقف، فالوقف تأبيد لسكون العين في إنشاء الواقف وهو ممضى شرعاً في غير موارد الاستثناء، وجعل حقّ البيع للموقوف عليه لا ينافي مفهوم الوقف، ولا ينافي الارتكاز العرفي والمتشرّعي، ودليل «الوقوف حسب ما يقفها أهلها» يقتضي بإطلاقه صحّة هذا الشرط، ورواية أبي علي بن راشد القائلة: «لا يجوز شراء الوقوف»(3) لا تدلّ على أكثر من حرمة مخالفة ما أنشأه الواقف.

ولدينا في النصوص الشرعية ما يحتمل _ على الأقلّ _ دلالته على صحّة شرط أن يكون للموقوف عليه حقّ البيع لنفسه، بل وحقّ إرجاعه إلى ملكه الطلق من دون


(1) وهذا _ على حدّ تعبير الشيخ الأنصاري(رحمه الله) _ أقلّ مراتب الفقر الشرعي.

(2) سبق ذكرها في الوجه الثاني من وجوه عدم جواز بيع الوقف.

(3) وسائل الشيعة، ج19، ص185، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح1.

361

بدل، وهو صحيح عبدالرحمن بن الحجّاج: «...فإن أراد [يعني الحسن(عليه السلام)] أن يبيع نصيباً من المال فيقضي به الدين فليفعل إن شاء لا حرج عليه فيه، وإن شاء جعله شروى الملك [يعني مثل الملك]، وإنّ ولد علي وأموالهم إلى الحسن بن علي...»(1).

التنبيه السابع: ذكر الشيخ رحمه الله الصورة السابعة [من صور جواز البيع]: «أن يؤدّي بقاؤه إلى خرابه علماً أو ظنّاً، وهو المعبّر عنه بـ «خوف الخراب» في كثير من العبائر...»(2).

وأفاد أيضاً: «الأقوى الجواز مع تأدية البقاء إلى الخراب على وجه لا ينتفع به نفعاً يعتدّ به عرفاً سواء كان لأجل الاختلاف أو غيره... فإنّ الغرض من عدم البيع عدم انقطاع شخصه، فإذا فرض العلم أو الظن بانقطاع شخصه فدار الأمر بين انقطاع شخصه ونوعه وبين انقطاع شخصه لا نوعه كان الثاني أولى، فليس فيه منافاة لغرض الواقف أصلاً.

وأمّا الأدلّة الشرعية [يعني المانعة] فغير ناهضة؛ لاختصاص الإجماع [يعني بغير هذه الصورة]، وانصراف النصوص إلى غير هذه الصورة، وأمّا الموقوف عليهم


(1) المصدر السابق، ص200، الباب10 من کتاب الوقوف والصدقات، ح3.

(2) کتاب المكاسب، ج4، ص88. والصور الستّ التي عدّدها(رحمه الله) قبل هذه الصورة _ سواء قبلها أو لا _ ما يلي: الأُولى: أن يخرب الوقف بحيث لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالحيوان المذبوح والجذع البالي والحصير الخَلِق. والثانية: أن يخرب بحيث يسقط عن الانتفاع المعتدّ به بحيث يصدق عرفاً أنّه لا منفعة فيه كدار انهدمت فصارت عَرصَة تؤجر للانتفاع بها بأُجرة لا تبلغ شيئاً معتدّاً به. والثالثة: أن يخرب بحيث تقلّ منفعته لكن لا إلى حدّ يلحق بالمعدوم. والرابعة: أن يكون بيع الوقف أنفع وأعود للموقوف عليه. والخامسة: أن يلحق الموقوف عليهم ضرورة شديدة. والسادسة: أن يشترط الواقف بيعه عند الحاجة أو إذا كان فيه مصلحة البطن الموجود أو جميع البطون أو عند مصلحة خاصّة على حسب ما يشترط، هذا. ونحن لم نقبل فيما مضى من هذه الصور إلّا الصورة الأُولى والثانية والسادسة.

362

فالمفروض إذاً الموجود منهم وقيام الناظر العام أو الخاصّ مقام غير الموجود. نعم، قد يشكل الأمر فيما لو فرض تضرّر البطن الموجود من بيعه للزوم تعطيل الانتفاع إلى زمان وجدان البدل أو كون البدل قليل المنفعة بالنسبة إلى الباقي. وممّا ذكرنا يظهر أنّه يجب تأخير البيع إلى آخر أزمنة إمكان البقاء مع عدم فوات الاستبدال فيه...»(1)، انتهى المقدار الذي أردنا نقله من عبارة الشيخ.

وأورد عليه السيّد الخوئي رحمه الله في التنقيح(2) بمنع انصراف نصوص عدم جواز بيع الوقف وشرائه، وعدم دخول الغلّة في ملكه، وأنّه لا دليل على جواز البيع بعد ما كانت العين الموقوفة الآن قابلة للانتفاع، وكونها معدومة الانتفاع فيما بعد لا يكون موجباً لجواز بيعه إلّا في ظرفه....

أقول: كان الأولى بالشيخ رحمه الله أن يستدلّ بما مضى منّا من أنّ الوقفية شملت العين والمالية، ومقتضى «أنّ الوقوف حسب ما يقفها أهلها» حفظهما معاً، وهذا ما لا يمكن، فمقتضى تلك القاعدة الحفاظ على أحدهما، فيجوز بيع العين قبل خرابها حفاظاً على المالية لكن ذلك في آخر أزمنة إمكان بقائها، ولعلّ هذا هو واقع مقصود الشيخ رحمه الله. ومع كون الالتزام ببقاء العين إلى آخر أزمنة الإمكان مستلزماً لفوات المالية بعد ذلك والتي هي أيضاً مشمولة لإنشاء المالك يكون دعوى انصراف رواية أبي علي بن راشد «لا يجوز شراء الوقوف»(3) دعوى في محلّها.

التنبيه الثامن: أفاد السيّد الخوئي رحمه الله في التنقيح:

«الصورة السابعة ]ممّا ادّعي استثناؤها من عدم جواز البيع[: ما إذا علم أو خيف وظنّ أن يكون بقاء العين الموقوفة على حالها مؤدّياً إلى تلفها وعدم إمكان الانتفاع بها.


(1) کتاب المكاسب، ج4، ص89 _ 90.

(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص299.

(3) وسائل الشيعة، ج19، ص185، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح1.

363

الصورة الثامنة: أن يقع بين الموقوف عليهم اختلاف لا يؤمن معه من تلف المال أو الأنفس. وظاهر هذا الكلام أنّه يجوز بيع العين الموقوفة عند وقوع الاختلاف بينهم بحيث لا يؤمن من تلف المال ولو كان المال المخوف تلفه غير العين الموقوفة.

الصورة التاسعة: أن يكون بقاؤها مؤدّياً إلى الضرر على الموقوف عليهم. وبعبارة أُخرى: أن يتوجّه عليهم الضرر من بقاء العين الموقوفة.

الصورة العاشرة: أن يلزم من بقاء العين الموقوفة فساد يستباح منه الأنفس...»(1).

إلى أن قال رحمه الله: بقي الكلام في الرواية التي استدلّ بها كلّ من جوّز البيع في هذه الصور الأربعة، وهي مكاتبة علي بن مهزيار وذكر رحمه الله هنا مقاطع من هذه المكاتبة(2).

ونصّها الكامل ما يلي: «كتبت إلى أبي جعفر الثاني(عليه السلام): إنّ فلاناً ابتاع ضيعة فأوقفها وجعل لك في الوقف الخمس ويسأل عن رأيك في بيع حصّتك من الأرض أو تقويمها على نفسه بما اشتراها أو يدعها موقفة، فكتب إليّ: أعلم فلاناً أنّي آمره أن يبيع حقّي من الضيعة وإيصال ثمن ذلك إليّ، وإنّ ذلك رأيي إن شاء الله أو يقوّمها على نفسه إن كان ذلك أوفق له»(3).

«وكتبت إليه: إنّ الرجل ذكر أنّ بين من وقف عليهم هذه الضيعة اختلافاً شديداً وأنّه ليس يأمن أن يتفاقم ذلك بينهم بعده، فإن كان ترى أن يبيع هذا الوقف ويدفع إلى كلّ إنسان منهم ما وقف له من ذلك أمرته، فكتب إليه بخطّه: وأعلمه أنّ رأيي له إن كان قد علم الاختلاف ما بين أصحاب الوقف أن يبيع الوقف أمثل فإنّه ربّما جاء في الاختلاف تلف الأموال والنفوس»(4).


(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص297.

(2) المصدر السابق، ص301.

(3) وسائل الشيعة، ج19، ص188، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح5.

(4) المصدر السابق، ح6.

364

أمّا وجه الاستدلال بهذه الرواية على جواز البيع في هذه الصور الأربع فهو ما يلي:

أوّلاً: بالنسبة للصورة السابعة وهي ما إذا علم أو خيف وظنّ أن يكون بقاء العين الموقوفة على حالها مؤدّياً إلى تلفها وعدم إمكان الانتفاع بها فوجه الاستدلال بهذه الرواية لجواز البيع، في هذه الصورة هو أن يُفهم من قوله عليه السلام في نهاية الحديث: «فليبع فإنّه ربّما جاء في الاختلاف تلف الأموال والنفوس» أنّ الاختلاف ليس هو الموضوع الوحيد للبيع وإنّما العلّة هي خوف تلف الأموال، وأن يفهم أنّ عطف النفوس على الأموال لم يكن بمعنى عدم كفاية خوف تلف الأموال واشتراط خوف تلف النفوس أيضاً، وإنّما كان ذلك لبيان الضرر الآخر المترتّب أيضاً على الاختلاف، أو قل: إنّ هذا بيان لعلّتين عرضيّتين لجواز البيع فخوف أحدهما كاف لجواز البيع، وهذا ما ربّما يفهم من عبارة الشيخ الأنصاري في مقام تصوير وجه لجواز البيع في الصورة السابعة(1).

وثانياً: بالنسبة للصورة الثامنة وهي أن يقع بين الموقوف عليهم اختلاف لا يؤمن معه من تلف المال أو الأنفس يکون الاستدلال بذيل هذا الحديث لجواز البيع فيها أقوى منه بالنسبة للصورة السابعة؛ لأنّه في الاستدلال للصورة السابعة اضطررنا إلى حذف قيد الاختلاف وافتراض أنّ تمام العلّة هو خوف تلف الأموال أو النفوس، في حين أنّه في متن هذه الصورة الثامنة يكون الاختلاف مفروضاً.

وثالثاً: بالنسبة للصورة التاسعة وهي أن يكون بقاؤها مؤدّياً إلى الضرر على الموقوف عليهم من بقاء العين الموقوفة فوجه الاستدلال بجواز البيع بذيل الحديث أن نستظهر أنّ النكتة العرفية لما في هذا الذيل من فرض تلف الأموال والنفوس هي الإشارة إلى أنّ بقاء العين مؤدّياً إلى الضرر على الموقوف عليهم ]أو _ على حدّ تعبير


(1) کتاب المكاسب، ج4، ص94.

365

الشيخ الأنصاري _ أن يؤدّي الاختلاف بينهم إلى ضرر عظيم من غير تقييد بتلف المال فضلاً عن خصوص الوقف(1)[ ولم يكن فرض تلف الأموال أو النفوس إلّا مثالاً من الأمثلة ذكر في متن الحديث.

ورابعاً: بالنسبة للصورة العاشرة وهي أن يلزم من بقاء العين الموقوفة فساد يستباح منه الأنفس، لا إشكال في أنّ هذا هو القدر المتيقّن من هذه الرواية.

وسند الرواية تام.

إلّا أنّ السيّد الخوئي رحمه الله أسقط الرواية في التنقيح عن الاستدلال تماماً بعد الاعتراف بصحّته سنداً؛ وذلك لمجموع أُمور:

الأمر الأوّل: أنّ الظاهر _ بملاحظة القرائن _ كونها أجنبية عن بيع الوقف رأساً، بل لابدّ من حملها على ما قبل القبض وعدم تمامية الوقف، وإلّا لم يكن وجه لأمر الإمام عليه السلام ببيع حصّته مع أنّ الاختلاف كان بين الموقوف عليهم غير الإمام(عليه السلام). مضافاً إلى أنّ مباشرة الواقف لبيعه بلا وجه؛ إذ الواقف بعد تمام الوقف يكون أجنبيّاً؛ فلا وجه لإحالة البيع إليه، والظاهر أنّ حكم الإمام عليه السلام ببيعه لم يكن إذناً له بعنوان الولاية، بل كان عليه السلام في مقام بيان حكم المسألة بطبعها، كما أنّ دفع ثمن الوقف إلى الموجودين من الموقوف عليهم بحسب حصّتهم لا وجه له؛ حيث إنّ مقتضى قانون المبادلة قيام الثمن مقام المثمن كما كان، وحيث كانت العين الموقوفة ملكاً غير طلق لا يجوز إتلافه للبطن الموجود، بل لابدّ من إبقائه للبطون اللاحقة، فلابدّ وأن يكون ثمنها أيضاً كذلك، فلابدّ من حملها على صورة عدم تمامية الوقف من حيث عدم القبض بأن تكون هذه الأُمور المذكورة قرينة على أنّ الاختلاف ونحوه كان قبل قبض الموقوف عليهم، فتندفع هذه الإشكالات(2).


(1) المصدر السابق، ص89.

(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص301 _ 302.

366

أقول: إنّ القرينة على عدم تمامية الوقف لعدم تمامية القبض _ بدليل أمر الإمام ببيع حصّته مع أنّه عليه السلام لم يكن داخلاً في الاختلاف _ مخصوصة بحصّة الإمام(عليه السلام)، فلا موجب لإسراء القرينة إلى الموقوف عليهم الآخرين.

وأمّا أنّ حكم الإمام عليه السلام ببيعه لم يكن إذناً له أو أمراً بالولاية؛ إذ الواقف بعد تمام الوقف يكون أجنبيّاً فلا وجه لإحالة البيع إليه؛ فكلام غريب؛ فإنّ هذا إذن له أو أمرٌ له بالولاية حتّى لو لم يكن قد تمّ الوقف ولم تصبح حصّة الإمام للإمام.

وأمّا أنّ دفع ثمن الوقف إلى الموجودين من الموقوف عليهم بحسب حصصهم يكون خلاف قانون المبادلة لأنّ الثمن سيصبح ملكاً غير طلق كالمثمن، فجوابه أنّه إمّا أن يصبح ذلك قرينة على أنّ الموقوف عليهم كانوا هم الأحياء فحسب بناء على صحّة الوقف المنقطع الآخر أو يكون ذلك حكماً تعبّديّاً بطلقية الثمن.

الأمر الثاني: أنّه لو سلّمنا تمامية الوقف فلا يمكن الأخذ بمفادها في الصورة السابعة وما بعدها؛ لأنّ وجود الاختلاف بين الموقوف عليهم لا موضوعية له أصلاً، بل المناط هو تلف الأموال والأنفس، والاختلاف طريق محض، فلو كان بقاء الوقف على حاله موجباً لتلف الأموال والنفوس ولو لم يكن من جهة الاختلاف بين الموقوف عليهم لكان بيعه جائزاً. وهذا ممّا لا يمكن أن ينسب إلى العلماء(قدس سره)(1).

أمّا ما ذكره بعض من أنّه حتّى لو لم تكن في المقام رواية كنّا نقول بجواز بيع الوقف فيما لو كان عدم البيع موجباً للانجرار إلى التشاجر المنتهي إلى تلف الأموال والنفوس؛ لأنّ حفظ الأموال والنفوس من التلف أهمّ في نظر الشارع من عدم جواز بيع الوقف فجوابه: أنّ التزاحم إنّما هو في مقام امتثال الأحكام التكليفية، ومنشأه عجز المكلّف من الإتيان بكلّ من التكليفين في مرحلة الامتثال، وهذا لا دخل له بالأحكام الوضعية، فلو قلنا بسقوط حرمة التصرّف في الوقف بالتزاحم لم يوجب ذلك جعل


(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص302.

367

الشارع حكماً وضعيّاً كإمضاء البيع(1).

الأمر الثالث: أنّ الظاهر من تعبير الإمام عليه السلام بالأموال عدم الخصوصية لمال الوقف، فيجوز البيع حتّى فيما إذا لم يكن التالف العين الموقوفة في صورة اختلاف الموقوف عليهم، بل كان التالف الأموال الأُخر. وهذا ممّا لا يمكن أن ينسب إلى الأعلام(2).

الأمر الرابع: أنّ مورد إفتاء الأصحاب إنّما هو فرض العلم أو الظنّ بالأداء إلى الخراب، في حين أنّ الرواية عبّرت بتعبير «ربّما»، وظاهر ذلك _ وفقاً للأخذ بعموم التعليل _ الاكتفاء في جواز البيع بالاحتمال العقلائي وإن لم يحصل العلم أو الظنّ بذلك. وهو كما ترى.

والخلاصة: أنّه بعد فرض حمل الرواية على صورة تمامية الوقف فظاهر الرواية ممّا لا يفت به أحد، فلابدّ من ردّ علمها إلى أهله(3).

أقول: لا إشكال في أنّ استفادة جواز البيع في جميع الصور الأربع أعني: من السابعة إلى العاشرة بحسب عدّ السيّد الخوئي رحمه الله لها في غير محلّه، ولكن لو اقتصرنا على مورد النصّ وهو الاختلاف الذي يخشى من تلف الأموال والنفوس ولو على مستوى الخشية العقلائية الذي قد يكون أقلّ من مستوى العلم أو الظنّ منه _ ولو فرضت الأموال أموالاً أُخرى أو النفوس نفوساً آخرين على ما تقتضيه إطلاق العبارة _ فهذا ليس شيئاً يعلم بخلافه أو يكون هناك تسالم على خلافه.

والتعدّي إلى غير موارد الاختلاف بدعوى عموم العلّة ليس في محلّه؛ لأنّ لغة الرواية هي لغة بيان الحكمة والملاك، لا لغة التعميم في الموضوع، من قبيل «لأنّه حامض». نعم، بيان الحكمة والملاك يخصّص ويخرج المورد غير الشامل للملاك،


(1) المصدر السابق، ص303.

(2) المصدر السابق، ص302.

(3) المصدر السابق، ص302 _ 303.

368

فالاختلاف غير الشامل للاحتمال العقلائي لتلف الأموال والنفوس لا يوجب جواز البيع، أمّا الاختلاف الشامل للاحتمال العقلائي لتلف الأموال والنفوس حتّى إذا لم يصل إلى مستوى الظنّ بل كان احتمالاً بمقدار عشرين بالمائة مثلاً لا بمقدار واحد بالمائة مثلاً يوجب جواز البيع، وهذا المقدار من النتيجة ليس مخالفاً لمسلّمات الفقه، والاكتفاء بمفسدة أقلّ من مستوى تلف النفس بفرض جعل تلف الأموال ملاكاً مستقلّاً منفصلاً عن تلف النفوس ممّا لا مبرّر له.

أمّا التعدّي إلى کلّ أمر _ غير الاختلاف _ يوجب خوف تلف النفوس فلا مبرّر له. وأيضاً التعدّي في الحكم الوضعي وهو صحّة البيع في موارد وجود نفس المستوى من الحكمة والملاك الذي نعلم بعدم رضا الشارع بفواته كالتقاتل بين فئة _ غير الناشئ من اختلاف الموقوف عليهم _ لا يمكن حلّه إلّا ببيع هذا الوقف وصرف ثمنه على الإصلاح بينهم لا معنى له. نعم، قد يجوز _ في علاج ذلك _ المحرّم التكليفي كسرقة مال لعلاج المشكل. وهذا خارج عن المقام.

الوقف المنقطع الآخر

قد مضت منّا حينما أردنا الدخول في البيان الإجمالي لموارد الاستثناء مقدّمةٌ، وأشرنا فيها إلى أنّ بحثنا يشمل الوقف الدائم والوقف المنقطع الآخر بناء على الإيمان به وذلك بلحاظ ما قبل الانقطاع.

ولا بأس بالإشارة هنا إلى أنّ المشهور بين الأصحاب صحّة الوقف المنقطع الآخر.

أدلّة صحّة الوقف المنقطع الآخر

ويمكن الاستدلال لذلك بروايتين:

الرواية الأُولى: صحيحة علي بن مهزيارقال: «قلت له: روى بعض مواليك عن آبائك(عليهم السلام): أنّ كلّ وقف إلى وقت معلوم فهو واجب على الورثة، وكلّ وقف إلى غير

369

وقت جهل مجهول فهو باطل مردود على الورثة، وأنت أعلم بقول آبائك(عليهم السلام)، فكتب(عليه السلام): هكذا هو عندي»(1).

ولكن عيب هذا الحديث أنّ هذا ظاهره صحّة الوقف إلى وقت معلوم ولو بالسنين كعشر سنين وعشرين سنة، في حين أنّ هذا ليس هو المشهور بين الأصحاب، بل لعلّ المرتكز بين العرف والمتشرّعة بطلان ذلك، وإنّما يصحّ ذلك في الحبس دون الوقف.

والرواية الثانية: صحيحة الصفّار قال: «كتبت إلى أبي محمد عليه السلام أسأله عن الوقف الذي يصحّ كيف هو؟ فقد روي: أنّ الوقف إذا كان غير مؤقّت فهو باطل مردود على الورثة، وإذا كان مؤقّتاً فهو صحيح ممضى. قال قوم: إنّ المؤقّت هو الذي يذكر فيه أنّه وقف على فلان وعقبه فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وقال آخرون: هذا مؤقّت إذا ذكر أنّه لفلان وعقبه ما بقوا ولم يذكر في آخره: للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والذي هو غير مؤقّت أن يقول: هذا وقف ولم يذكر أحداً، فما الذي يصحّ من ذلك؟ وما الذي يبطل؟ فوقّع(عليه السلام): الوقوف بحسب ما يوقفها إن شاء الله»(2).

وهذا كما ترى ظاهره الاعتراف بالوقف المنقطع الآخر الذي لم يذكر في آخره: للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وعلى أيّ حال فالوقف المنقطع له دوام لحين الانقطاع.

ولم يبق لنا حديث جديد عن استثناء جواز البيع في الوقف المنقطع، وإنّما المهمّ أنّ الوقف خرج عن ملك الواقف إلى ملك الموقوف عليهم وهو تحبيس للعين وتسبيل للثمرة، وممضى من قبل الشريعة، فليس للموقوف عليهم بيعها إلّا في موارد الاستثناء، ولا داعي لنا لعقد بحث جديد عن البيع في موارد الوقف المنقطع، ومتى


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص192، الباب7 من کتاب الوقوف والصدقات، ح1.

(2) المصدر السابق، ح2.

370

ما انتهى أمد الوقف المنقطع يرجع إلى ملك الواقف أو ورثته ويصبح ملكاً طلقاً ويخرج عن محلّ البحث، وشرح ذلك موكول إلى كتاب الوقف.

نعم، لا بأس بالإشارة هنا إلى أنّه في مثل السكنى لا معنى لبيع من له السكنى البيتَ قبل انتهاء أمد السكنى أو بعده؛ لأنّه ليس ملكاً له، وإنّما هو ملك لمن أسكنه إيّاه، ويجوز للمالك بيع بيته مسلوب المنفعة لحين انتهاء أمد السكنى التي جعلها للساكن، وحتى لو كان الأمد غير محدّد كمدّة حياته أو له ولعقبه، وذلك برغم الجهالة الموجودة في مدّة كون البيت مسلوب المنفعة والتي قد يقال بأنّ مقتضى القاعدة بطلان البيع بالجهالة، وذلك لورود النصّ الخاصّ بالصحّة، وهو صحيحة حسين بن نعيم عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال: «سألته عن رجل جعل داراً سكنى لرجل أيّام حياته أو جعلها له ولعقبه من بعده هل هي له ولعقبه من بعده كما شرط؟ قال: نعم قلت له: فإن احتاج بيعها؟ قال: نعم. قلت: فينقض بيع الدار السكنی؟ قال: لا ينقض البيع السكنى، كذلك سمعت أبي عليه السلام يقول: قال أبو جعفر(عليه السلام): لا ينقض البيع الإجارة ولا السكنى، ولكن تبيعه على أنّ الذي اشتراه لا يملك ما اشترى حتّى تنقضي السكنى كما شرط، وكذا الإجارة. قلت: فإن ردّ على المستأجر ماله وجميع ما لزمه من النفقة والعمارة فيما استأجر؟ قال: على طيبة النفس وبرضا المستأجر بذلك لا بأس»(1).

بيع أُمّ الولد

قال الشيخ الأنصاري رحمه الله: «ومن أسباب خروج الملك عن كونه طلقاً صيرورة المملوكة أُمّ ولد لسيّدها، فإنّ ذلك يوجب منع المالك عن بيعها بلا خلاف بين المسلمين على الظاهر المحكي عن مجمع الفائدة، وفي بعض الأخبار دلالة على كونه من المنكرات في صدر الإسلام، مثل ما روي من قول أمير المؤمنين عليه السلام لمن سأله عن


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص135، الباب24 من کتاب الإجارة، ح3.

371

بيع أمة أرضعت ولده قال له: خذ بيدها وقل: من يشتري أُمّ ولدي؟»(1).

أقول: مقصوده بهذه الرواية ما رواه الشيخ(2) والصدوق(3) بسند فيه النوفلي عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه(عليهما السلام): «أنّ عليّاً عليه السلام أتاه رجل فقال: إنّ أمتي أرضعت ولدي وقد أردت بيعها فقال: خذ بيدها فقل: من يشتري منّي أُمّ ولدي».

والسند ضعيف بالنوفلي، ولو تمّ فقد يحمل ما يظهر منه من حرمة بيع أُمّ الولد من الرضاعة على الكراهة بقرينة موثّقة إسحاق بن عمّار، حيث روى(4) عن عبد صالح عليه السلام «قال: سألته عن رجل كانت له خادم فولدت جارية ]يعني بتزويجها لعبد له[ فأرضعت خادمه ابناً له ]فصارت أُمّ ولده من الرضاعة [وأرضعت أُمّ ولده(5) ابنة خادمه، فصار الرجل أبا بنت الخادم من الرضاع ]فأيضاً أصبح أُمَّ ولده من الرضاعة مرّة أُخرى[ يبيعها؟ قال(عليه السلام): نعم، إن شاء باعها فانتفع بثمنها. قلت: إن كان وهبها(6) لبعض أهله حين ولدت وابنه اليوم غلام شابّ، فيبيعها ويأخذ ثمنها ولا يستأمر ابنه أو يبيعها ابنه؟ قال: يبيعها هو (ويأخذ ثمنها ابنه ومال ابنه له)(7). قلت: فيبيع الخادم وقد أرضعت ابناً له؟ قال: نعم، وما أُحبّ له أن يبيعها. قلت: فإن احتاج إلى ثمنها؟ قال: فيبيعها».


(1) کتاب المكاسب، ج4، ص107.

(2) تهذیب الأحکام، ج7، ص325، باب ما يحرم من النکاح من الرضاع ومما لا يحرم منه من کتاب النکاح، ح48.

(3) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص480، باب الرضاع من کتاب النکاح، ح4686.

(4) وسائل الشيعة، ج20، ص408، الباب19 من أبواب ما يحرم بالرضاع،‌ ح2؛ وكذلك أورده في ج23، ص23، الباب8 من کتاب العتق، ح4.

(5) أظنّ أنّ مقصوده زوجته، لا أُمّ الولد بالمعنى المصطلح

(6) يعني: وهب بنت الخادم.

(7) هذه العبارة غامضة، ولعلّ المقصود: أنّه يصحّ أن يبيعها ابنه بإذن أبيه، ولكنّ الثمن الذي يأخذه لأبيه.

372

وجواز بيع أُمّ الولد من الرضاعة بسبب الرواية الثانية لو أفتينا بها لا ينافي ما استظهره الشيخ رحمه الله من الرواية الأُولى من أنّ بيع أُمّ الولد كان من المنكرات في صدر الإسلام.

وعلى أيّ حال فالمعروف على الألسُن أنّ نكتة حرمة بيع أُمّ الولد أنّها متشبّثة بالحرّية عن طريق إرث ولدها إيّاها.

وأصل هذا التشبّث ممّا لا شكّ فيه بضرورة من الفقه، مضافاً إلى دلالة بعض الروايات على ذلك، من قبيل: صحيح محمد بن قيس(1) عن أبي جعفر(عليه السلام): «قال أميرالمؤمنين(عليه السلام): أيّما رجل ترك سريّة لها ولد أو في بطنها ولد أو لا ولد لها، فإن كانت أعتقها ربّها عتقت، وإن لم يعتقها حتّى توفّي فقد سبق فيها كتاب الله(2)، وكتاب الله أحقّ، فإن كان لها ولد وترك مالاً جعلت في نصيب ولدها»(3).


(1) وسائل الشيعة، ج23، ص175، الباب6 من أبواب الاستيلاد، ح1.

(2) أي: أنّ كتاب الله نزل بالإرث فجزء منها يكون ملكاً لولدها وتنعتق بذاك المقدار.

(3) أي: أنّه إن ترك مالاً لباقي الورثة بحيث أمكن جعل رقبتها كاملة للولد ورثها الولد كاملة وانعتقت، وهذا من السنّة لا من الكتاب. ومفاد هذين التعليقين أخذناهما من التخريج الوارد في الكافي، ج6، ص192، باب أُمّهات الأولاد من کتاب العتق والتدبیر والکتابة، ح3، عن مرآة العقول للمجلسي، ج21، ص319، باب أُمّهات الأولاد، ح3. وهذا المقدار من الحديث هو نصّ الكافي الذي أعطينا الآن مصدره.

ولكنّ الشيخ الصدوق(رحمه الله) أضاف بعد كلمة «في نصيب ولدها» ما يلي: «ويمسكها أولياء ولدها حتّى يكبر الولد، فيكون هو الذي يعتقها إن شاء، ويكونون هم يرثون ولدها مادامت أمة، فإن أعتقها ولدها عتقت، وإن توفّي عنها ولدها ولم يعتقها، فإن شاؤوا أرقّوا، وإن شاؤوا أعتقوا»، من لا يحضره الفقيه، ج3، ص140، باب أمّهات الأولاد من أبواب القضايا والأحکام، ح3513.

فلو أردنا أن نفسّر هذا الذيل بالذي لا ينافي الصدر الذي تطابق الكافي والفقيه على نقله وجب أن نحمله على فرض أنّ نصيب الولد لم يكن يستوعب كلّ الرقبة حتّى تنعتق كاملة، فكلّ ما يتبقّى منها مملوكة يمسكها أولياؤها، وينتظرون أن يكبر الولد برجاء أنّه بعد الكبر يشتري البقية بماله الشخصي حتّى ينعتق، ولو مات الولد قبل أن يفعل ذلك فورثة الولد يملكون ما تبقّى، فإن شاؤوا أرقّوها، وإن شاؤوا اعتقوها.ولو بنينا على أنّ نسخة الصدوق أصبحت مجملة وغامضة ومحتملة الخطأ في النقل فلا يسري ذلك إلى نقل الكافي الذي هو واضح لا غموض فيه.

373

وصحيحة عمر بن يزيد عن أبي إبراهيم عليه السلام «قال: قلت له: أسألك؟ قال: سل. قلت: لِمَ باع أميرالمؤمنين عليه السلام أُمّهات الأولاد؟ فقال: في فكاك رقابهنّ. قلت: وكيف ذاك؟ قال: أيّما رجل اشترى جارية فأولدها ثم لم يؤدّ ثمنها ولم يدع من المال ما يؤدّى عنه أُخذ ولدها ثمنها منه وبيعت وأُدّي ثمنها. قلت: فتباع فيما سوى ذلك من الدين؟ قال: لا»(1).

وصحيحة ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا(2) عن أبي عبدالله عليه السلام «في رجل اشترى جارية يطؤها فولدت له ولداً فمات ولدها؟ قال: إن شاؤوا باعوها في الدين الذي يكون على مولاها من ثمنها وإن كان لها ولد قوّمت على ولدها من نصيبه»(3). والمقصود من هذا الحديث _ رغم التشويش الغريب في النصّ المنقول لنا عن الكافي والتهذيب والاستبصار والوسائل _ واضح، وهو التفصيل بين ما لو مات المولى ولم تكن التركة تفي بأداء الدين الباقي من ثمنها في ذمّة المولى فيجوز بيعها في أداء ثمنها، وبين ما لو كان لها ولد حيّ وكانت التركة واسعة فعندئذٍ تقوّم أُمّ الولد على ولدها.

وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام عن أبيه(عليه السلام)(4) «قال:


(1) وسائل الشيعة، ج23، ص170، الباب2 من أبواب الاستيلاد، ح 1 و2؛ وج18، ص278، الباب24 من أبواب بيع الحیوان، ح1.

(2) هكذا في نسخة الكافي، ج6، ص192، باب أُمّهات الأولاد من کتاب العتق والتدبیر والکتابة، ح4. أمّا في التهذيب، ج8، ص238، باب العتق وأحکامه من کتاب العتق والتدبیر والمکاتبة، ح94، والاستبصار، ج4، ص12، باب أنّه لا يجوز بیع الوقف من کتاب الوقوف والصدقات، ح2، فكالتالي: «عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي بصير، عن أبي عبدالله(عليه السلام)».

(3) وسائل الشيعة، ج23، ص173، الباب5 من أبواب الاستيلاد، ح2؛ وج18، ص279، الباب24 من أبواب بيع الحيوان، ح4، وفيه: «فولدت له أولاداً فمات وُلْدُها».

(4) جملة «عن أبيه» موجودة في الوسائل، لكنّها غير موجودة في المصدر وهو التهذيب، ج8، ص277، باب المکاتب من کتاب العتق والتدبیر والمکاتبة، ح41.

374

قال رسول الله(صل الله عليه وآله): في رجل وقع على مكاتبته فنال من مكاتبته فوطأها قال: عليه مهر مثلها، فإن ولدت منه فهي على مكاتبتها، وإن عجزت فردّت في الرقّ فهي من أُمّهات الأولاد»(1).

وهذا إشارة إلى ما هو المركوز في الذهن عن أُمّهات الأولاد من تشبّثها بالحرّية.

ولكن لا دليل لنا على أنّ هذا التشبّث هو الموضوع التامّ لحرمة بيعها على المولى.

بل هناك نصّ صريح في خلاف ذلك، وهو صحيح ابن مارد عن أبي عبدالله(عليه السلام): «في الرجل يتزوّج الأمة فتلد منه أولاداً ثم يشتريها فتمكث عنده ما شاء الله لم تلد منه شيئاً بعد ما ملكها ثم يبدو له في بيعها؟ قال: هي أمته إن شاء باع ما لم يحدث عنده حمل بعد ذلك، وإن شاء أعتق»(2).

فأنت ترى أنّه رغم انطباق الحديث السابق على هذا الفرض حيث قال: «سبق فيها كتاب الله» فنفتي بأنّه لو مات مولاها فقد أصبح بعض أجزائها لأولادها؛ لأنّ كتاب الله قد حكم بالإرث فانعتقت بذاك المقدار، لكن رغم هذا يجوز لمولاها مادام حيّاً أن يبيعها ما لم يحدث عنده حمل بعد ذلك فتصبح بذلك أُمّ ولد.

هذا، وقد أفاد الشيخ الأنصاري رحمه الله: «إنّ المنع عن بيع أُمّ الولد قاعدة كلّية مستفادة من الأخبار...»(3).

وعلّق على ذلك الشيخ الآخوند الخراساني رحمه الله بقوله: «يمكن المناقشة في استفادتها من الأخبار التي ذكرها؛ وذلك لأنّ رواية محمد بن مارد ظاهرة في كون الكلام فيها مسوق لبيان جواز البيع قبل حدوث الحمل عنده وعدم كون الولد


(1) وسائل الشيعة، ج23، ص157، الباب14 من أبواب المكاتبة، ح1.

(2) المصدر السابق، ص172، الباب4 من أبواب الاستيلاد، الحديث الوحيد في الباب؛ وج21، ص201، الباب85 من تتمة نكاح العبيد والإماء، الحديث الوحيد في الباب.

(3) کتاب المكاسب، ج4، ص116.

375

بالتزويج مانعاً، لا لبيان المنع عنه بعد حدوثه أيضاً كي يدلّ بالمفهوم على الكلّية، كما يظهر بالتأمّل في السؤال عنه عليه السلام وجوابه»(1).

ورواية السكوني(2) لا دلالة فيها على المنع أصلاً، بل على أنّ المكاتبة إذا وطأها مولاها وصارت حبلى وعجزت عن أداء مال الكتابة كانت من أُمّهات الأولاد، ويترتّب عليها ما يترتّب من الأحكام عليها كما لا يخفى.

وصحيحة عمر بن يزيد(3) غاية دلالتها أنّ المقتضي للمنع في أُمّهات الأولاد كان مرتكزاً في ذهن السائل، حيث سأل عن الوجه المسوّغ للبيع، والإمام عليه السلام قد قرّره عليه، وهو غير الدلالة على عموم المنع فعلاً كما هو المدّعی....

وأمّا قول أميرالمؤمنين عليه السلام في جواب السائل عن بيع أمة أرضعت ولدها: «خذ بيدها فقل من يشتري منّي أُمّ ولدي»(4) فغاية الدلالة على ما في بيع أُمّ الولد في نفسه من الاستهجان والاستنكار عرفاً، لا المنع عنه شرعاً مطلقاً كما هو المدّعی،


(1) حاشيته على المكاسب، ص114 _ 115.

(2) يقصد بها رواية السكوني بسند فيه النوفلي: عن أبي عبدالله(عليه السلام): أنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) قال: «في مكاتبة يطؤها مولاها فتحمل، قال: يردّ عليها مهر مثلها وتسعی في قيمتها، فإن عجزت فهي من أُمّهات الأولاد». وسائل الشيعة، ج23، ص158، الباب14 من أبواب المكاتبة، ح2. وقد نقلها الشيخ في المكاسب، ج4، ص111 و121.

وهذا الحديث وإن كان غير تام السند بالنوفلي، ولكن هناك حديث آخر تام السند بمضمونه، وهو ما مضى من صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عن أبيه(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صل الله عليه وآله): في رجل وقع على مكاتبته فنال من مكاتبته فوطأها، قال: عليه مهر مثلها، فإن ولدت منه فهي على مكاتبتها، وإن عجزت فردّت في الرّقّ فهي من أُمّهات الأولاد». المصدر السابق، ص157، ح1.

(3) يقصد بها ما ورد في الوسائل، ج23، ص170، الباب2 من أبواب الاستيلاد، ح1 و2، وج18، ص278، الباب24 من أبواب بيع الحيوان، ح1.

(4) يقصد بذلك ما ورد في الوسائل، ج20، ص407، الباب19 من أبواب ما يحرم بالرضاع، ح1.

376

كيف ولا منع ظاهراً عن بيع أُمّ الولد رضاعاً؟! فافهم.

أقول: لعلّ أمره رحمه الله بالفهم إشارة إلى أنّ دلالة الحديث على أصل وضوح حرمة بيع اُمّ الولد في الجملة واضح. نعم، لا يتمّ فيه الإطلاق، والمنع عن بيع اُمّ الولد من الرضاع إن لم يُقبل يحمل على الكراهة.

وعلّق الشيخ النائيني رحمه الله _ بحسب ما ورد في منية الطالب _ على كلام الشيخ الخراساني رحمه الله بقوله: «والظاهر كون خروجه عنها [يعني خروج أُمّ الولد عن الطلقية] من الأُمور المسلّمة بين المسلمين، فلا وقع للبحث عن دلالة الأدلّة التي أُقيمت عليه وعدم دلالتها، كما في حاشية المحقّق الخراساني(قدس سره)»(1).

أقول: لم يكن مقصود المحقّق الخراساني رحمه الله إنكار حرمة بيع أُمّ الولد بالمناقشة في دلالة الروايات حتّى يصحّ الجواب عنه بأنّ حرمة بيعها وخروجها عن الطلقية من المسلّمات، وإنّما كان مقصوده رحمه الله عدم وجود إطلاق يصبح مرجعاً في موارد الشكّ.

فالصحيح في مناقشة الشيخ الخراساني هو إلفات النظر إلى ما فيه الإطلاق، وهو ما مضى من صحيحة ابن مارد عن أبي عبدالله عليه السلام «في الرجل يتزوّج الأمة فتلد منه أولاداً ثم يشتريها فتمكث عنده ما شاء الله لم تلد منه شيئاً بعد ما ملكها ثم يبدو له في بيعها؟ قال: هي أمته إن شاء باع ما لم يحدث عنده حمل بعد ذلك وإن شاء أعتق»(2)، وكون السؤال وارداً عن جواز البيع وعدمه قبل حدوث الحمل عنده لا يبطل إطلاق مفهوم الغاية الواضح ورودها في مقام التحديد لكلّيّ جواز البيع، وتوضيح ذلك: أنّ قوله: «هي أمته إن شاء باع» ظاهر في أنّ كونها أمته وملكاً له مقتض لمضيّ بيعها، وقوله: «ما لم يحدث عنده حمل بعد ذلك» ظاهراً في أنّ حدوث الحمل بعد ذلك


(1) منية الطالب، ج2، ص295.

(2) وسائل الشيعة، ج23، ص172، الباب4 من أبواب الاستيلاد، الحديث الوحيد في الباب، وج 21، ص201، الباب85 من أبواب نكاح العبيد والإماء، الحديث الوحيد في الباب.

377

يُنهي أثر هذا المقتضي، وبما أنّنا نعلم يقيناً أنّه لا مقتضي آخر في المقام لجواز البيع غير الملك أو قل: كونها أمة له، فالنتيجة أنّه بمجرّد حدوث الحمل ينتهي جواز البيع، ولا وجه لعدم الإطلاق لذلك، وكون السؤال منصبّاً على ما في المغيّی لا الغاية لا يوجب افتراض أنّ الجواب لم يعلم إلا كونه في مقام بيان المغيّى ولم يعلم كونه في مقام البيان بالنسبة للغاية حتّى يتمّ الإطلاق لها. فالصحيح تمامية الإطلاق في الحديث في جملة المغيّى وفي جملة الغاية معاً.

اختصاص المنع بالبیع وعدمه

ثم هل الممنوع خصوص البيع أو مطلق الناقل كالهبة مثلاً أو المصالحة؟

الظاهر هو الإجماع على أنّ المقصود بالبيع مطلق النقل عدا ما نقله الشيخ الأنصاري رحمه الله حيث قال _ بعد استظهاره من كلمات أصحابنا إرادة مطلق النقل ولو بغير البيع _ : «ومع ذلك كلّه فقد جزم بعض سادة مشایخنا بجواز غير البيع من النواقل؛ للأُصول، وخلوّ كلام المعظم عن حكم غير البيع»(1).

وقد أفاد الشيخ الأنصاري رحمه الله: «أنّ عموم المنع لكلّ ناقل وعدم اختصاصه بالبيع قول جميع المسلمين ]يعني شيعةً وسنّةً[»(2)، ووجه ذلك ظاهر، وهو الفهم العرفي من كلمة البيع في المقام بمناسبات الحكم والموضوع وخاصّة مع ارتكاز كون حكمة الحكم هي التشبّث بالحرّية.

ثم إنّ هذه القاعدة الكلّية من حرمة بيع المولى أُمّ ولدها أو مطلق النقل لها استثناءاتها، وعلى ذلك تحمل صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام «قال: سألته عن


(1) کتاب المكاسب، ج4، ص109. وطبّق المخرّج «بعض سادةَ مشايخنا» تحت الخطّ على صاحب كتاب المناهل، ص320، التنبيه السادس أعني: السيّد محمد المجاهد(رحمه الله) ابن صاحب الرياض.

(2) المصدر السابق.