71

 

تأسيس الأصل بوجوه اُخرى:

وقد قرّب الأصل بوجوه اُخرى:

منها: ما أفاده الشيخ الأعظم(قدس سره) من التمسّك بالأدلّة الشرعيّة الدالّة على حرمة الإسناد إلى الشارع بغير علم.

وهذا الوجه إنّما يرجع إلى وجه فنّيّ إذا فرض فيه اُمور ثلاثة:

الأوّل: أن يكون جواز الإسناد لازماً مساوياً للحجّيّة؛ إذ لو لم يكن لازماً لها أصلاً أو كان أخصّ لم يكن نفيه دالّاً بالملازمة على نفيها؛ لأنّ نفي الأخصّ لا يدلّ على نفي الأعمّ، كما أنّ نفي شيء مّا لا يدلّ على نفي ما لا تلازم بينهما أصلاً.

الثاني: أن يكون جواز الإسناد لازماً لواقع الحجّيّة لا للحجّيّة الواصلة؛ إذ على الثاني نقطع بعدم جواز الإسناد لفرض عدم وصول الحجّيّة بلاحاجة إلى التمسّك لإثبات عدم جواز الإسناد بتلك الأدلّة، ولا يكون عدم جواز الإسناد مثبتاً لعدم الحجّيّة لفرض كفاية عدم وصولها فيه.

الثالث: أن لا يكون نفس احتمال الحجّيّة مانعاً عن التمسّك بعموم دليل عدم جواز الإسناد بغير العلم، وإلّا لم يمكننا التمسّك به لنفي الحجّيّة.

فيجب البحث في هذه الاُمور الثلاثة:

أمّا الأمر الأوّل: فلا مجال له بناءً على مبانينا في بحث قيام الأمارة مقام القطع الموضوعيّ، فإنّه يظهر بمراجعة ما ذكرناه هناك أنّه لا ملازمة بين حجّيّة الأمارة وقيامها مقام القطع الموضوعيّ، وبالإمكان قيامها مقام القطع الموضوعيّ بدليل مّا. إلّا أنّ هذا يصبح من مقارنات الحجّيّة لا من لوازمها، فقد يفرض دلالة دليل على جواز إسناد مفاد أمارة إلى الشارع لكن هذا لا يعني أنّ جواز الإسناد من لوازم حجّيّته حتّى يفرض أنّ دليل نفي جواز إسناده دليل على عدم حجّيّة تلك الأمارة.

72

وأمّا بناءً على مباني القوم فإن كان قيام الأمارة مقام القطع الموضوعيّ ملازماً للحجّيّة فإنّما هو ملازم لها على بعض الفروض في ألسنة جعل الحجّيّة، وهو لسان جعل الطريقيّة ولسان تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، وقد وقع البحث في إنتاجهما لقيام الأمارة مقام القطع الموضوعيّ وعدمه. وأمّا جعل المنجّزيّة والمعذّريّة وكذا جعل الحكم المماثل فلا علاقة لهما بقيام الأمارة مقام القطع الموضوعيّ وجواز الإسناد أصلاً، حيث قد عرفت أنّ نسبة جعل الحجّيّة إلى تمام تلك الألسنة على حدّ سواء. فجواز الإسناد إن كان لازماً للحجّيّة فإنّما هو لازم لبعض أنحاء جعل الحجّيّة، وليس لازماً مساوياً لجعل الحجّيّة بتمام أنحائها، فلا يكون نفيه نفياً لها بالملازمة.

وأمّا الأمر الثاني: فيختلف الحال فيه باختلاف مباني القول بالملازمة، وقد عرفت أنّ مباني القول بالملازمة أمران:

الأوّل: مبنى جعل الطريقيّة بناءً على ما يقال: من أنّ جعل الأمارة طريقاً مثمر لترتّب آثار القطع الطريقيّ بالشيء بالنسبة لأحكامه وأحكام متعلّقه، ولترتّب آثار القطع الموضوعيّ بالنسبة لأحكام نفس هذا القطع، ومن تلك الأحكام جواز الإسناد إلى المولى الذي أخذ في موضوعه العلم بصحّة المسند إليه وصدقه. وبناء على هذا المبنى يكون جواز الإسناد أثراً لواقع الحجّيّة لا للقطع بها، فإنّ المفروض أنّ دليل حجّيّة الأمارة وجعل العلم الاعتباريّ حاكم على دليل حرمة الإسناد بغير علم، ومن المعلوم أنّ هذا العلم الاعتباريّ محفوظ حتّى مع الشكّ فيه، فهذه الحكومة ليست إلّا كسائر الحكومات كما في قوله: «الطواف بالبيت صلاة». وقوله: «لاربا بين الوالد وولده» ممّا لا تكون الحكومة فيه مختصّة بفرض العلم.

الثاني: مبنى تنزيل المؤدّى منزلة الواقع بناءً على ما يقال: من أنّ ذلك يدلّ

73

بالملازمة على تنزيل العلم بالظاهر منزلة العلم بالواقع، وهذا ينتج كون جواز الإسناد أثراً للحجّيّة الواصلة لا لواقع الحجّيّة؛ إذ قبل الوصول لا يكون هناك علم بالظاهر كي يقوم مقام العلم بالواقع.

وأمّا الأمر الثالث: فهو مبنيّ على ما سنحقّقه ـ إن شاء الله ـ في محلّه: من أنّ الحكومة هل ترجع بروحها إلى التخصيص وإنّما الفرق بينهما في كيفيّة التعبير، أو أنّها تختلف في جوهرها عن جوهر التخصيص وتكون رافعة للموضوع كما يظهر من عبائر المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، فعلى الأوّل ـ وهو المختار ـ يتمّ الأمر الثالث، فإنّ الشكّ في الحجّيّة يساوق عندئذ الشكّ في تخصيص دليل حرمة الإسناد بغير العلم، فنتمسّك بإطلاقه. بينما على الثاني يكون التمسّك بإطلاق هذا الدليل عند الشكّ في الحجّيّة تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ؛ لأنّ العامّ إنّما دلّ على حرمة الإسناد بغير العلم، والشكّ في الحجّيّة يساوق الشكّ في كون هذا الإسناد إسناداً بالعلم أوبغير علم.

ومنها: استصحاب عدم الحجّيّة، وبناءً على ما عرفته فيما سبق لا تصل النوبة إلى هذا الاستصحاب(1) فيما لو ثبت بلحاظ الواقع حكم ظاهريّ في عرض تلك الحجّيّة كالبراءة والاستصحاب؛ لكون دليل الحكم الظاهريّ دليلاً اجتهاديّاً على عدم الحجّيّة، فلابدّ من فرض موضوع الكلام خصوص ما لم يكن فيه حكم ظاهريّ في عرض الحجّيّة ينفيها دليله بالملازمة.

وقد ذكر في مقام الإشكال على هذا الاستصحاب تقريبان:

التقريب الأوّل: ما فهمه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من كلام الشيخ الأعظم(قدس سره)،


(1) لو قلنا بأنّ الدليل الاجتهاديّ المطابق للاستصحاب يرفع موضوع الاستصحاب كما هو المعروف، وإن كان المختار خلافه.

74

وهو: أنّ الأثر المترقّب ترتّبه في المقام عبارة عن حرمة الإسناد، بينما هي أثر لنفس الشكّ في الحجّيّة لا لواقع عدم الحجّيّة حتّى يستصحب ذلك إثباتاً لهذا الأثر، وموضوع هذا الأثر ـ وهو الشكّ ـ ثابت، فيترتّب عليه الأثر.

وأورد المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) على ذلك في تعليقته على الرسائل بوجهين:

الأوّل: إنّ وجود الأثر للمستصحب إنّما يشترط فيما لو كان المستصحب موضوعاً من الموضوعات، أمّا استصحاب الحكم نفياً وإثباتاً فلا حاجة في تصحيحه إلى أثر آخر مترتّب عليه، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ الحجّيّة حكم نستصحب عدمها.

الثاني: إنّا لا نسلّم عدم ترتّب الأثر على المستصحب، فإنّ حرمة الإسناد كما تكون أثراً للشكّ في الحجّيّة كذلك تكون أثراً لواقع عدم الحجّيّة، كما يستفاد ممّا دلّ على حرمة الحكم بغير ما أنزل الله. إذن فهناك أمران:

أحدهما: قاعدة الشكّ المقتضية لحرمة الإسناد بمجرّد الشكّ في الحجّيّة.

والثاني: استصحاب عدم الحجّيّة. وهو حاكم على الأوّل كحكومة استصحاب الطهارة على قاعدة الطهارة.

ودفع المحقّق النائينيّ(رحمه الله) الإشكال الأوّل بأنّ عدم الحجّيّة وإن كان في نفسه نفياً لحكم شرعيّ لكنّه ليس بنفسه موضوعاً لجري العمل عليه كما في الأحكام التكليفيّة. والاستصحاب أصل في مقام الجري العمليّ، وروحه يرجع إلى تعيين الوظيفة العمليّة، فلابدّ من إجرائه فيما يتطلّب ابتداءً الجري العمليّ عليه بحكم العقل، أوتترتّب عليه ثمرة كذلك، فعدم الحجّيّة حاله حال الموضوعات في احتياج جريان الاستصحاب فيه إلى الأثر.

75

أقول: إنّ تحقيق هذا الكلام إثباتاً ونفياً سيظهر من تحقيقنا للتقريب الثاني من تقريبي الإشكال في استصحاب عدم الحجّيّة(1).

وأيضاً دفع المحقّق النائينيّ(قدس سره) الإشكال الثاني بأنّه بعد أن ظهر أنّ استصحاب عدم الحجّيّة يكون لأجل إثبات حرمة الإسناد لا لإثبات نفس عدم الحجّيّة وإن كان بنفسه حكماً من الأحكام، قلنا: إنّه لو سلّم ترتّب هذا الأثر على الشكّ في الحجّيّة وعلى واقع عدم الحجّيّة كان استصحاب عدم الحجّيّة تحصيلاً للحاصل، بل من أردأ أنحاء تحصيل الحاصل؛ لأنّه تحصيل لما هو حاصل وجداناً بالتعبّد، فإنّ إجراء الاستصحاب في المقام يكون لإثبات حرمة الإسناد تعبّداً مع أنّها ثابتة في الرتبة السابقة على الاستصحاب وجداناً؛ وذلك لأنّ الاستصحاب متأخّر رتبة عن الشكّ لكونه مأخوذاً في موضوعه، فلابدّ من ثبوت الشكّ حتّى يجري الاستصحاب، وبمجرّد ثبوت الشكّ تثبت حرمة الإسناد وجداناً بثبوت موضوعه وجداناً؛ إذ المفروض أنّ المولى حكم حكماً واقعيّاً على فرض الشكّ بحرمة الإسناد.


(1) الواقع أنّه إنّما اشترط في الأصل العمليّ أن يترتّب على مفاده أثر شرعيّ عمليّ، أو أن يكون مفاده بنفسه أثراً شرعيّاً عمليّاً استطراقاً لترتّب التنجيز والتعذير العقليّين عليه، والحجّيّة المفروض استصحاب عدمها في المقام لو نظرنا إليها من زاوية حرمة الإسناد فقط جاء القول بأنّ الحجّيّة ليست حكماً عمليّاً فهي بحاجة إلى أثر شرعيّ عمليّ كي يصحّ استصحاب عدمها. أمّا إذا نظرنا إليها من زاوية أنّ الحجّيّة الشرعيّة تولّد التنجيز والتعذير العقليّين؛ لأنّ استصحاب عدم الحجّيّة يرفع موضوع قبح العقاب بلا بيان مثلاً، ويبدّله إلى بيان العدم، وبيان العدم بنفسه يحقّق التعذير، فهذا ما سيأتي تحقيقه في البحث عن التقريب الثاني من تقريبي الإشكال إن شاء الله.

76

أقول: إنّ كون الشكّ وواقع عدم الحجّيّة معاً موضوعين لحرمة الإسناد يتصوّر على أنحاء:

الأوّل: أن يكون كلّ من الشكّ وعدم الحجّيّة موضوعاً مستقلاًّ لحرمة الإسناد، بأن تكون حرمة الإسناد مجعولة بجعلين: أحدهما على الشكّ، والآخر على عدم الحجّيّة.

وعلى هذا الفرض لا خفاء في عدم لزوم تحصيل الحاصل من الاستصحاب؛ إذ ما يثبت بالاستصحاب من حكم هو غير الحكم الثابت قبل الاستصحاب، نظير ما لو اُريد إثبات حرمة أكل مال باستصحاب كونه ملكاً للغير مع وجدانيّة حرمته من ناحية النجاسة.

ولا يبعد أن يكون مقصود المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) هو هذا الفرض؛ لأنّه أشار في تعليقته في المقام إلى ما يدلّ في نظره على حرمة الإسناد مع عدم الحجّيّة مستقلاًّ عن دليل حرمة الإسناد مع الشكّ، وهو ما دلّ على حرمة الحكم بغير ما أنزل الله، وهذا يشعر اختياره لهذا الفرض. وبناءً على هذا الفرض لا يرد عليه إشكال المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1).

الثاني: أن يكون الجامع بين الشكّ وعدم الحجّيّة موضوعاً للحرمة، ويكون المقصود بالشكّ مطلق عدم العلم بالحجّيّة الشامل لفرض العلم بعدم الحجّيّة.


(1) نعم، لو استظهر أنّ الموضوع الأوّل من موضوعيّ حرمة الإسناد ـ وهو الشكّ ـ عبارة عن مطلق عدم العلم بالحجّيّة الشامل للعلم بعدم الحجّيّة لا خصوص الشكّ بمعنى التردّد، ورد عليه: أنّ ما افترضه من حكومة الاستصحاب على قاعدة الشكّ في المقام في غير محلّها. ولكن يبدو أنّه(رحمه الله) يرى نفس الشكّ هو الموضوع، فتتمّ الحكومة بناءً على ما هو المعروف: من حكومة مثل استصحاب الطهارة على مثل أصالة الطهارة؛ لأنّ نكتة الحكومة لو تمّت هناك فهي تامّة هنا رغم أنّ حرمة الإسناد عند الشكّ حكم واقعيّ لا حكم ظاهريّ ثابت بأصل عمليّ، وعلى أيّ حال فسيتّضح أنّ أصل فكرة كون المقصود بالشكّ خصوص التردّد غير صحيحة.

77

وعلى هذا الفرض يصحّ القول بأنّ إثبات حرمة الإسناد بالاستصحاب تحصيل للحاصل كما ذكره المحقّق النائينيّ(قدس سره)؛ لثبوتها وجداناً بثبوت موضوعها، وهو عدم العلم بالحجّيّة وجداناً.

ولكن لا أثر لما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من كون الحرمة ثابتة في الرتبة السابقة على الاستصحاب، فإنّ ما يكون ثابتاً وجداناً لا يعقل إثباته بالاستصحاب تعبّداً ولو في عرضه، وفرض الثبوت في الرتبة السابقة ليس له دخل في نكتة الإشكال(1).

على أنّ ما ذكره من الطوليّة غير صحيح في نفسه، فإنّ الشكّ موضوع لأمرين: الاستصحاب، وحرمة الإسناد، فهما في عرض واحد لا طوليّان.

هذا. ولا يخفى أنّ هذا الوجه غير متصوّر في مثل استصحاب عدم الطهارة وقاعدتها؛ إذ الحكم فيه ظاهريّ ولا يعقل جعله على مطلق فرض عدم العلم بالنجاسة الشامل لفرض العلم بالطهارة؛ لعدم تعقّل الحكم الظاهريّ مع العلم.

الثالث: أن يكون الجامع بين الشكّ وعدم الحجّيّة هو الموضوع لحرمة الإسناد أيضاً، ولكن يكون المقصود بالشكّ التردّد لا ما يشمل فرض العلم بالعدم، وعلى هذا يتّجه القول بأنّ الاستصحاب يجري ولا يلزم منه تحصيل الحاصل؛ لأنّه يرفع الفرد الأوّل لموضوع الحكم بالحرمة، وهو الشكّ في الحجّيّة، فينتفي ثبوت الحكم من هذه الناحية ويثبت الفرد الثاني تعبّداً، وهو عدم الحجّيّة، فيثبت الحكم بثبوت


(1) ولعلّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) قاس تحصيل الحاصل بالوجدان تعبّداً بتحصيل الحاصل بالوجدان وجداناً أو بالتعبّد تعبّداً الذي يعني تحصيل ما هو مفروض الحصول في الرتبة السابقة. أمّا إن لم يكن مفروض الحصول في الرتبة السابقة فالتحصيل الثاني يرجع في واقعه إلى انضمام علّة ثانية بقاء إلى العلّة الاُولى وصيرورة كلّ منهما جزء علّة.

78

هذا الفرد من موضوعه. هذا ما تقتضيه الصناعة على مبنى القوم: من حكومة الاستصحاب على القاعدة ولو كانا متوافقين؛ لكون الاستصحاب رافعاً للشكّ الذي هو موضوع للقاعدة، وإن كان المبنى غير مرضيّ عندنا كما يأتي تحقيقه ـ إن شاء الله ـ في محلّه.

وهنا كلام، وهو: أنّ هناك نكتة يكون الالتفات إليها موجباً للاطمئنان هنا بخلاف ما تقتضيه الصناعة، وهي أنّه يلزم من ذلك أنّه لو كانت الحجّيّة ثابتة في الواقع فليس الإسناد حراماً في الواقع أصلاً، لا بملاك الشكّ في الحجّيّة؛ لفرض ارتفاعه بحكومة الاستصحاب التي هي حكومة واقعيّة، على ما نقحّناه فيما مضى في بحث قيام الأمارات مقام القطع الموضوعيّ: من أنّ قيامها مقامه يكون بالحكومة الواقعيّة لا الظاهريّة، ولا بملاك عدم الحجّيّة؛ لفرض مخالفة الاستصحاب للواقع وثبوت الحجّيّة واقعاً، فصورة القطع بكون الحالة السابقة هي عدم الحجّيّة أصبحت أسوء حالاً من غيرها، فيكون الإسناد حراماً واقعاً في غير تلك الصورة وغير حرام في هذه الصورة، وهذا ممّا يطمأنّ بخلافه، فيتّجه أنّ الحرمة ثابتة في هذه الصورة أيضاً واقعاً(1)، فيكون إثبات الحرمة تعبّداً


(1) لا يخفى أنّ النكتة الوجدانيّة التي بيّنها اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بالقدر الذي بيّنه كأنّها تقتضي الاطمئنان بالجامع بين بطلان مبنى تلك الصناعة المشروح في بحث حكومة الاستصحاب على القاعدة، وبطلان كون الشكّ الذي هو موضوع لحرمة الإسناد بمعنى التردّد لا بالمعنى الشامل للعلم بالعدم. ولا أدري لماذا لم يجر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) مع هذه النكتة إلى نهايتها، وذلك بأن يقال: إنّ أصل افتراض كون الشكّ الذي هو موضوع لحرمة الإسناد بمعنى التردّد لا بالمعنى الشامل للقطع بالعدم غير معقول؛ إذ يلزم من ذلك كون الشكّ في الحجّيّة أسوء حالاً من القطع بعدم الحجّيّة. إمّا مطلقاً كما هو الحال فيما لوفرض

79

بالاستصحاب تحصيلاً لما هو حاصل بالوجدان تعبّداً. وهذا الإشكال لا يأتي في مثل استصحاب الطهارة وقاعدتها؛ لأنّه لم يجعل على فرض الشكّ في الطهارة حكم واقعيّ يطمأنّ بوجوده عند جريان الاستصحاب ويقصد إثباته تعبّداً بالاستصحاب، وإنّما تثبت قاعدة الطهارة الطهارة الظاهريّة، والاستصحاب أيضاً يثبت ذلك بعد رفع موضوع قاعدة الطهارة.

التقريب الثاني: ما يبتني على أنّ إجراء استصحاب عدم الحجّيّة ليس لإثبات حرمة الإسناد؛ لما عرفت: من أنّ جواز الإسناد ليس من آثار الحجّيّة ولوازمها، بل هو أمر مستقلّ قد يقترن بالحجّيّة وقد لا يقترن، وإنّما هو للاستطراق إلى إثبات التنجيز والتعذير العقليّين، فيتحقّق ـ مثلاً ـ ببركة استصحاب عدم الحجّيّة موضوع حكم العقل بقبح العقاب.

ويورد على ذلك بأنّ حكم العقل مترتّب على نفس الشكّ، فالعقل بمجرّد عدم البيان يستقلّ بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، واستصحاب عدم الحجّيّة لإثبات حكم العقل بقبح العقاب تحصيل للحاصل.

ويتحصّل من كلام السيّد الاُستاذ والمحقّق العراقي(قدس سره) في مقام الجواب على هذا الوجه: أنّ حكم العقل قبل الاستصحاب بقبح العقاب كان باعتبار عدم البيان،


كلّ من الشكّ وعدم الحجّيّة واقعاً موضوعاً مستقلاًّ للحرمة، أو في خصوص ما إذا كانت الحجّيّة ثابتة في الواقع كما هو الحال فيما لو فرض موضوع الحرمة هو الجامع بينهما. بينما احتمال أسوئيّة الشكّ في الحجّيّة من القطع بالعدم غير موجود، وعليه فما ذكره صاحب الكفاية(رحمه الله) في تعليقته على الرسائل: من حكومة الاستصحاب على القاعدة، غير متصوّرة في المقام أصلاً، وإشكال لزوم تحصيل الحاصل لو فرض الموضوع هو الجامع مسجّل عليه.

80

وبجريان الاستصحاب يرتفع هذا الموضوع ويرتفع حكمه لا محالة، ويأتي مكانه حكم ثان للعقل بقبح العقاب مترتّب على موضوع آخر متحقّق ببركة الاستصحاب، وهو بيان العدم.

وذكر المحقّق العراقي(رحمه الله): أنّ موضوع حكم العقل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان عبارة عن عدم البيان من كلا الطرفين، فكما يرتفع هذا الموضوع ببيان الحكم كذلك يرتفع ببيان العدم.

ويتحصّل أيضاً من كلماتهم نقوض على هذا الوجه:

الأوّل: النقض باستصحاب عدم التكليف الحاكم على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

والثاني: النقض بسائر موارد حكومة أصل على أصل مع موافقتهما في النتيجة، كما في استصحاب الطهارة وأصالته، واستصحاب الحلّ وأصالته، والأصل السببيّ والمسبّبيّ المتوافقين في النتيجة.

والثالث: النقض بحجّيّة أمارة قامت على عدم حجّيّة شيء مّا.

والتحقيق: أنّ شيئاً من هذه الأجوبة الحلّيّة والنقضيّة غير صحيح؛ وذلك لأنّ موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يرتفع باستصحاب عدم الحجّيّة وإن بنى على كون موضوعها عدم البيان من كلا الطرفين، فإنّ المقصود من عدم البيان هو عدم بيان التكليف، واستصحاب عدم الحجّيّة لا يبيّن عدم التكليف، وإنّما يثبت عدم كون هذا الذي شككنا في حجّيّته طريقاً إليه، فلا موضوع لما مضى: من الجواب الحلّي.

وقد ظهر بذلك الجواب على النقض الأوّل، فإنّ دعوى أنّ للعقل حكمين على موضوعين متغايرين إن تمّت فإنّما تثبت حكومة استصحاب عدم التكليف على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فيقال ـ بحسب تعبيرات المشهور ـ: إنّ موضوع

81

الحكم الأوّل للعقل بقبح العقاب كان عبارة عن عدم بيان التكليف، وقد انتهى ذلك وثبت بيان العدم تعبّداً، وهو موضوع لحكم ثان للعقل بقبح العقاب بنحو أشدّ من القبح الأوّل. أويقال ـ بحسب تعبيراتنا ـ: إنّ الحكم الأوّل كان عبارة عن قبح العقاب عند عدم بيان اهتمام المولى، وبالاستصحاب يثبت بيان عدم اهتمام المولى وجداناً، فينتفي موضوع الحكم الأوّل، ويترتّب على بيان عدم الاهتمام وجداناً حكم ثان للعقل بقبح العقاب بنحو أشدّ من القبح الأوّل. هذا كلّه في استصحاب عدم التكليف. وأمّا فيما نحن فيه فلا مجال لذلك؛ فإنّ استصحاب عدم الحجّيّة إنّما يثبت عدم كون هذا الشيء المشكوك حجّيّته بياناً للتكليف أو عدم إبراز المولى اهتمامه بالتكليف بجعل الحجّيّة لهذا الشيء، ولا يبيّن عدم التكليف أو عدم اهتمام المولى به. وموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ليس هو عدم بيان الحجّيّة، وإنّما هو عدم بيان التكليف لا بنفسه ولا بطريقه، أو عدم بيان اهتمام المولى به، وهذا لا ينتفي باستصحاب عدم الحجّيّة، فقياس ذلك باستصحاب عدم التكليف قياس مع الفارق.

وكذلك لا مجال للنقض الثاني، فإنّ الأصلين المتوافقين لو سلّم حكومة أحدهما على الآخر فموضوع المحكوم ينتفي بوجود الحاكم(1)، فيثبت الحكم الظاهريّ ببركة الحاكم فقط، ولا علاقة لذلك بتحصيل الحاصل. وهذا بخلاف ما نحن فيه، فإنّ حكم العقل بقبح العقاب ثابت مع جريان الاستصحاب بنفس الملاك


(1) ولو لم تسلّم الحكومة فالأصلان معاً يجريان ويصبح مجموعهما علّة واحدة للتأمين أو التنجيز. وهذا أيضاً لا علاقة له بتحصيل الحاصل. كما أنّ استصحاب عدم الحجّيّة فيما نحن فيه أيضاً لا يلزم منه تحصيل الحاصل على ما سنشرحه في التعليق الآتي إن شاء الله.

82

الثابت للحكم قبل الاستصحاب كما عرفت توضيحه.

وأمّا النقض الثالث فتحقيق الكلام فيه: إنّه تارةً يتكلّم في فائدة ذكر الإمام(عليه السلام)لزرارة ـ مثلاً ـ عدم حجّيّة الأمر الفلانيّ، واُخرى يتكلّم في فائدة جعل الحجّيّة لهذا الحديث الدالّ على عدم حجّيّة الأمر الفلانيّ.

أمّا فائدة، ذكر الإمام(عليه السلام) ذلك لزرارة فيكفي فيها أنّه قد يفيد كلامه(عليه السلام)لزرارة القطع بعدم حجّيّة الأمر الفلانيّ، وهذا بنفسه معرفة بحكم من أحكام الإسلام، وتثقيف بالنظم والقوانين الإسلاميّة، وهذا من أهمّ الفوائد، فلا حاجة في ثبوت الفائدة إلى ترتّب التنجيز والتعذير.

وأمّا فائدة جعل الحجّيّة لهذا الحديث فتظهر عند المعارضة لدليل آخر يدلّ على الحجّيّة لما نفى هذا الحديث حجّيّته، فإنّه لولاه لثبتت الحجّيّة بذاك الدليل، وهذا يصلح مانعاً عن ذلك(1).

 


(1) لو كان الكلام في مسألة اللغويّة وعدم اللغويّة كفى في الجواب أن يقال بثبوت الفائدة عند وجود المعارض، بل يكفي في الجواب أن يقال: إنّ هذا الخبر الذي نفى حجّيّة القياس ـ مثلاً ـ لم تجعل له الحجّيّة مستقلاًّ كي يرد عليه إشكال اللغويّة، وإنّما جعلت الحجّيّة لمطلق خبر الثقة، ويكفي لعدم لغويّة هذا الجعل ثبوت الفائدة له في موارد اُخرى غير هذا المورد. كما أنّ فيما نحن فيه أيضاً لا يصحّ الإشكال على استصحاب عدم الحجّيّة باللغويّة، فإنّ هذا الاستصحاب لم يجعل بجعل مستقلّ، بل جعل ضمن جعل كلّيّ الاستصحاب، وكلّيّ الاستصحاب تكفيه الفوائد المرتّبة عليه في موارد اُخرى.

ولكن الكلام لم يكن حول اللغويّة وعدمها، وإنّما الكلام كان حول لزوم تحصيل الحاصل، حيث يقال: إنّ الحجّيّة الشرعيّة لا معنى لها من دون ترتّب التنجيز والتعذير العقليّين عليها على تقدير الوصول، وحجّيّة ما نفى حجّيّة القياس لا يترتّب عليها على




83


تقدير الوصول تنجيز أوتعذير؛ إذ يكفي الشكّ في حجّيّة القياس في المساوقة للقطع بعدم الحجّيّة بلاحاجة إلى حجّيّة الدليل الذي دلّ على عدم حجّيّته.

والحلّ هو: أنّه لا يلزم تحصيل الحاصل لا فيما نحن فيه ولا في مورد النقض؛وذلك لما أشرنا إليه فيما مضى: من أنّ إشكال تحصيل الحاصل إن لم يكن تحصيلاً للحاصل بالوجدان تعبّداً بأن كان تحصيلاً للحاصل بالوجدان وجداناً، أو بالتعبّدتعبّداً، فهو يختصّ بما إذا كان الحاصل حاصلاً في الرتبة السابقة، وإلّا دخل الأمرفي اجتماع علّتين على معلول واحد، فيصبح كلّ منهما جزء علّة والمجموع علّةواحدة. وفيما نحن فيه يكون ما هو الحاصل عبارة عن التعذير الوجدانيّ بقاعدةقبح العقاب بلا بيان مثلاً، واستصحاب عدم حجّيّة ما دلّ على الإلزام أيضاً يستلزمفرضاً قبح العقاب، أي: يترتّب عليه التعذير العقليّ وجداناً، فليكن ذلك من باباجتماع علّتين على معلول واحد. وكذلك في مورد النقض يكون اجتماع حجّيّة ما دلّ على نفي حجّيّة القياس مع أصالة عدم حجّيّته من باب اجتماع علّتين على نفي ما كان يترتّب على القياس من تنجيز أو تعذير وإثبات عكسه، ولا علاقة لهذا بباب تحصيل الحاصل أبداً.

نعم، نقول فيما نحن فيه بعدم جريان استصحاب عدم الحجّيّة، لا لإشكال تحصيل الحاصل، بل لأجل أنّه هل المقصود بهذا الاستصحاب الحصول على التعذير عن الواقع، أو المقصود به الحصول على التعذير عن الحكم الظاهريّ بقطع النظر عن الواقع؟!

فإن قصد الأوّل قلنا: إنّ استصحاب عدم حجّيّة ما دلّ على وجوب صلاة الليل مثلاً، لا يعذّر عن الواقع، فإنّ عدم حجّيّة هذا الدليل لا يعني التأمين عن الواقع، وإنّما يعني أنّ الواقع لا يتنجّز علينا عن طريق هذا الدليل، وأمّا عدم تنجّز الواقع في ذاته وبطريق آخر

84

ومنها: التمسّك بآيات النهي عن العمل بغير العلم، كقوله تعالى: ﴿لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾.

 


فهو مسكوت عنه، والتأمين الحيثي كما ترى ليس تأميناً ولا قيمة له.

وإن قصد الثاني قلنا: إنّ الحكم الظاهريّ بما هو حكم ظاهريّ غير قابل للتنجيز حتّى يصحّ التعذير عنه.

هذا إذا كان الحكم الذي دلّ عليه ذاك الدليل المشكوك حجّيّته هو الإلزام كوجوب صلاة الليل، وكان المحكّم لولا حجّيّة ذاك الدليل هو التعذير.

أمّا لو كان الحكم الذي دلّ عليه ذاك الدليل هو الترخيص، وكان المحكّم لولا حجّيّة ذاك الدليل هو التنجيز فأيضاً استصحاب عدم حجّيّة ذاك الدليل لا معنى له؛ إذ هل يقصد بذلك تنجيز الواقع، أو يقصد به تنجيز الحكم الظاهريّ بقطع النظر عن الواقع؟!

فإن قصد الأوّل: قلنا: إنّ نفي حجّيّة ما دلّ على الترخيص ليس نفياً لواقع الترخيص كي ينتج التنجيز.

وإن قصد الثاني قلنا: إنّ الحكم الظاهريّ بما هو حكم ظاهريّ غير قابل للتنجيز.

ويأتي عين الكلام حرفاً بحرف في مورد النقض، أعني: حجّيّة أمارة نفت حجّيّة القياس مثلاً، فتصبح حجّيّة هذه الأمارة مع كون الأصل في القياس هو عدم الحجّيّة ممّا لا معنى لها.

نعم، نستثني من ذلك ما إذا كانت الوظيفة لولا حجّيّة هذه الأمارة هي حجّيّة القياس، كما لو كان لدينا دليل يدلّ على حجّيّة القياس وكانت هذه الأمارة الدالّة على عدم حجّيّته معارضة لذاك الدليل أو مقدّمة عليه، فيترتّب على هذه الأمارة تنجيز الواقع بسدّها للباب الوحيد الذي ينفي الواقع، أو التعذير عن الواقع بسدّها للباب الوحيد الذي يثبت الواقع، وهو ذاك الدليل الذي دلّ على حجّيّة القياس، ولعلّ هذا هو مراد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)من ظهور الثمرة عند فرض وجود معارض يدلّ على الحجّيّة وإن كانت العبارة قاصرة.

85

وأورد على هذا الوجه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بأنّ احتمال حجّيّة الظنّ يعني احتمال جعله علماً، فالتمسّك بما يمنع عن العمل بغير العلم تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة(1)؛ لعدم إحراز عنوان عدم العلم.

ويرد عليه: أنّ مفاد آيات النهي عن العمل بغير العلم ليس هو النهي التكليفيّ كالنهي عن إسناد ما لم يعلم أنّه من الشارع إليه، كي يقال بحكومة دليل الحجّيّة عليه، وإنّما مفادها هو النهي الإرشاديّ إلى عدم الحجّيّة، فهي في عرض دليل الحجّيّة متكفّلة لبيان عدم جعل غير العلم علماً، فلا معنى للحكومة في المقام(2).

هذا تمام الكلام في الاُمور الثلاثة التي قدّمها المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)على بحث حجّيّة الأمارات.

 


(1) بناءً على عدم رجوع الحكومة في روحها إلى التخصيص، وإلّا فالشكّ في تخصيص زائد.

(2) لا يخفى أنّ المستفاد من آيات النهي عن العمل بغير العلم ليس بأكثر من الإرشاد إلى عدم الاعتماد في الأمن على غير العلم، أي: أنّ رأس الخيط في التأمين يجب أن يكون هو العلم، وهذا لا يدلّ على أصالة عدم الحجّيّة بقول مطلق.

86

 

السيرة

بقي علينا أمر آخر نذكره أيضاً قبل البحث عن حجّيّة الأمارات، وهو البحث عن السيرة. فالأصحاب وإن وجد في كلماتهم الاستدلال بالسيرة في بعض الموارد لكنّهم لم ينقّحوا بحث السيرة على حدّ تنقيحهم لسائر الأبحاث كحجّيّة خبر الواحد، والجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ، وغير ذلك، بينما موارد الاحتياج إلى الاستدلال بالسيرة كثيرة في الفروع الفقهيّة، مضافاً إلى أنّها من مدارك بعض الأمارات الآتية. وهذا هو السرّ في ذكرنا لهذا البحث قبل مباحث حجّيّة الأمارات. وحجّيّة السيرة لو ثبتت ليست على حدّ حجّيّة سائر الأمارات التي جعلت حجّة تعبّداً من قبل الشارع، وإنّما تكون حجّيّة السيرة كما سيظهر ـ إن شاء الله ـ على أساس إفادتها للقطع.

 

بروز الحاجة إلى بحث السيرة

وقد اشتدّت الحاجة إلى بحث السيرة بعد أن بطلت عدّة مدارك للفقه كانت تعتبر في الاُصول القديمة من الاُمور المعتمد عليها. توضيح المقصود:

إنّ هناك حالة نفسانيّة ثابتة في نفس الفقيه تمنعه عن مخالفة ما كان في كلمات الأصحاب من المسلّمات ويعدّ خلافه غريباً، ولذا ترى أنّه كثيراً مّا يذكر في الفقه بالنسبة لأمر مّا ككون نتيجة المعاطاة الإباحة مثلاً، أو الأخذ بقاعدة لا ضرر في مورد مّا، أنّه يلزم منه تأسيس فقه جديد، ويجعل هذا دليلاً على بطلان ذاك الأمر. والذي يظهر من القرائن المحفوفة بكلماتهم ومن سوابق هذا الكلام ولواحقه في الموارد المختلفة أنّه ليس المقصود بذلك إبطال ذاك الأمر بعموم أو إطلاق أو إجماع، وإلّا لقالوا: إنّ هذا ينافي العموم الوارد في نصّ كذا أو الإطلاق أو

87

الإجماع، فالظاهر أنّ مقصودهم بذلك دعوى ما هو أقوى من الإجماع، وهو: أنّ الالتزام بذاك الأمر يستلزم الالتزام بعدّة اُمور يكون الالتزام بمجموعها خلاف الضرورة الفقهيّة والمسلّمات عند الأصحاب، وخلاف ما هو مقطوع به لغاية وضوحه، ولا يمكن التفصيل بين بعض تلك الاُمور وبعض؛ لأنّ كلّها من واد واحد، ونسبة الدليل إليها على حدٍّ سواء، فنستكشف من ذلك إجمالاً بطلان ذاك الدليل وظهور خلافه عند الأصحاب بنحو يعدّ ذلك فقهاً جديداً.

وكأنّ هذه الحالة ـ أعني: حالة رفض مخالفة المسلّمات عند الأصحاب ـ موجودة في نفوس علماء العامّة أيضاً بالنسبة لمسلّمات عصر الصحابة مثلاً، فيرون مخالفة ما كان مسلّماً في عصر الصحابة شيئاً لا يقبله الطبع.

ومن هنا يقع الفقيه في حرج عند ما تقع المنافاة بين هذه الحالة النفسيّة له، ومقتضى الأدلّة والقواعد.

وكأنّ ما صدر من العامّة من سدّ باب الاجتهاد وحصره في دائرة علمائهم الأربعة وبعض تلامذتهم كان الدافع لهم إليه في الواقع هذه الحالة النفسيّة الكامنة في نفوسهم، حيث إنّ سدّ باب الاجتهاد وحصره في تلك الدائرة يعالج لهم تلك المشكلة؛ إذ لا تقع بعد هذا مخالفة بين الأدلّة وتلك الحالة النفسيّة؛ لأنّ الفقهاء الأربعة لم يخالفوا مسلّمات الصحابة مثلاً، فأراحهم هذا العمل عن لزوم تأسيس فقه جديد وحكم غريب من الأدلّة، كما أنّه أراحهم أيضاً عن لزوم تأسيس فقه جديد وحكم غريب من ناحية عدم المبالاة بالدين؛ إذ كان كثير منهم لا يبالون بدينهم ولا يخافون من جعل الحكم من عند أنفسهم ولو كان على خلاف ما هو المسلّم في نظرهم عند الصحابة مثلاً.

وأمّا أصحابنا الإماميّة(رحمهم الله) فهم فارغون عن الناحية الثانية؛ إذ ليس فيهم من يجعل الحكم من عند نفسه.

88

وأمّا الناحية الاُولى ـ وهي مخالفة الأدلّة والقواعد لتلك الحالة النفسيّة ـ فكانوا فارغين عنها أيضاً سابقاً؛ لأنّ أدلّتهم كانت بنحو تتّسق مع المسلّمات والمشهورات بين الأصحاب؛ وذلك لما كان يقوله جملة منهم من حجّيّة الإجماع المنقول، وجملة منهم من حجّيّة الشهرة، وجملة منهم من جبر الخبر ووهنه بعمل الأصحاب وإعراضهم، بل تعمّقوا في هذا المضمار أكثر من ذلك فقال بعضهم بانجبار الدلالة أيضاً بعمل الأصحاب. ويوجد مثل ذلك في كلمات الشيخ الأعظم(قدس سره) مع أنّه مؤسّس صناعة الاُصول الموجودة الآن بأيدينا(1)، فقد يقول مثلاً: لعلّ هذا الحديث دلالته منجبرة بعمل الأصحاب. وقد يقال: إنّ إطلاق دليل القرعة إنّما نعمل به في مورد عمل به الأصحاب، ونحو ذلك ممّا يوجد في كلماتهم. وهذه المباني كانت تدفع عنهم محذور الوقوع في مخالفة تلك الحالة النفسيّة.

ولكن المتأخّرين من الأصحاب(قدس سرهم) شرعوا بالتدريج في هدم هذه المباني، فكان هدم بعض تلك المباني من قبل الشيخ الأعظم(2) مثلاً، سلّماً لوصول المتأخّرين عنه إلى آخر ما يقتضيه هذا المسلك: من هدم تمام تلك المباني؛ إذ كلّها كانت هواء في شبك، وكان التفطّن إلى بطلان بعضها مستدعياً للتفطّن بالتدريج إلى بطلان ما يشابهه. وكأنّ السيّد الاُستاذ من أوائل من بنى على عدم انجبار الخبر ووهنه بالعمل والإعراض.

وقد كانوا في أوائل أيّام الشروع في إبطال هذه المباني يبطلون هذه المباني في الاُصول ويتمسّكون بها في الفروع؛ ولذا كان يشكل عليهم بأنّ الإجماع المنقول


(1) قد عدل اُستاذي الشهيد(رحمه الله) عند تأليفه لكتاب المعالم الجديدة عن القول بأنّ الشيخ الأعظم(رحمه الله) هو مؤسّس الاُصول بمرحلته المألوفة اليوم. واعتقد أنّ دور التأسيس للوحيد البهبهانيّ(رحمه الله).

(2) أو الوحيد البهبهانيّ(رحمه الله).

89

أصبح في الاُصول غير حجّة وفي الفقه حجّة، وترى الشيخ الأعظم(رحمه الله) يجعل لمثل ذلك أثراً مهمّاً في الفقه والإفتاء مع إبطاله إيّاه في الاُصول. وواقع المطلب أنّ الدافع لهم في الحقيقة إلى الإفتاء بعدّة من الفتاوى والأحكام هو تلك الحالة النفسيّة، ولكنّ التزامهم بالفنّ كان مانعاً عن ظهور ذلك لهم بوضوح، وموجباً للاستنكاف من دعوى فتوى مع الاعتراف بعدم اقتضاء الأدلّة والقواعد لها، فكان أثر هذه الحالة النفسيّة يبرز لهم في صورة الدليل، ودعوى حجّيّة الشهرة والإجماع المنقول ونحو ذلك، بينما الدليل الحقيقيّ لهم على تلك الفتاوى إنّما هو تلك الحالة النفسيّة دون هذه الأدلّة، ولذا تراهم ينكرون تلك الأدلّة في الاُصول ويعملون بها في الفقه؛ لوجود نفس الدافع السابق والدليل الحقيقيّ الكامن في النفس، فكأنّ واقع الدليل لم يبطل ولازال باقياً في النفس، وإن بطلت الأدلّة الصوريّة التي كانت في الحقيقة وليدة لواقع الدليل ولتلك الحالة النفسيّة.

إلى أن انتهى الأمر بالتدريج إلى جعل ما في الاُصول الجديد من إبطال هذه المباني مؤثّراً على الفقه، فترى السيّد الاُستاذ يبني فتاواه في الفقه على ما يقتضيه إنكار الجبر والوهن بالعمل والإعراض ونحو ذلك.

ولأجل هذه التطوّرات بدأت تلك الحالة النفسيّة تظهر في مظهر آخر وهو حجّيّة السيرة؛ ولذا ترى الاستدلال بالسيرة في ألسنة المتأخّرين عن الشيخ الأعظم(قدس سره)كثيراً، وفي لسان الشيخ الأعظم(رحمه الله)قليلاً فضلاً عمّا قبل الشيخ الأعظم(قدس سره).

هذا معنى ما قلناه: من أنّ الحاجة إلى بحث السيرة اشتدّت بعد أن بطلت عدّة مدارك للفقه، من قبيل الشهرة، والجبر والوهن بالعمل والإعراض، والإجماع المنقول. أمّا الإجماع المحصّل واتّفاق الكلّ من دعوى القطع به ليست بأهون من دعوى القطع بالحكم ابتداءً.

ونحن نبحث هنا أوّلاً السيرة، ثُمّ نبحث تلك الحالة النفسيّة، ومدى اعتبارها، وما هي وظيفتنا تجاهها.

90

 

بحث السيرة

أمّا بحث السيرة: فقبل البدء ببيان طريقة استكشاف الحكم الشرعيّ من السيرة نذكر أقسام السيرة، فنقول:

إنّ السيرة تنقسم بشكل رئيسي إلى قسمين:

1 ـ السيرة العقلائيّة.

2 ـ سيرة المتشرّعة.

والسيرة العقلائيّة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأوّل: اتّفاق العقلاء في أعمالهم ومسالكهم على شيء إيماناً منهم ولو ارتكازاً بنكتة عامّة موجودة في قريحة تمام العقلاء، فلو شذّ أحدهم عن هذه الطريقة كان من قِبَل العقلاء مورداً للملامة أو الاستغراب والسؤال ونحو ذلك بحسب اختلاف الموارد.

القسم الثاني: اتّفاقهم على شيء لا لإدراكهم ولو ارتكازاً نكتة كان المترقّب عندهم ممّن يشذّ أن يدركها، بل لحالات وأغراض شخصيّة عمّت صدفة غالب الناس، من دون فرض ملازمة بين ثبوتها عند بعض الأفراد وثبوتها عند البعض الآخر. فقد يتّفق العقلاء ـ مثلاً ـ على استعمال شيء من (الفيتامينات) أو غيرها لاحتياج أمزجتهم وأجهزتهم البدنيّة إلى ذلك، ويوجد شخص يختلف مزاجه عن أمزجة الآخرين، فيخالف هذه الطريقة من دون أن يعاب عليه، أو يلام، أو يسأل عن أنّه كيف لم يدرك النكتة العامّة.

والظاهر من كلمة السيرة العقلائيّة هو القسم الأوّل، ولعلّه المقصود للأصحاب حينما يستعملون هذه الكلمة. وإنّما لم نجزم بكون مقصودهم ذلك لأنّه لم ينقّح هذا البحث في كلماتهم، ولم يذكروا هذين القسمين، ولكن عدم تقسيمهم لها إلى

91

هذين القسمين لا يمنعنا عن هذا التقسيم بعد أن كان ذلك مؤثّراً على النتيجة من ناحية استنباط الحكم الشرعيّ على بعض الوجوه على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.

ثُمّ إنّ موارد القسم الأوّل في الفقه كثيرة، منها مسألة التملّك بالحيازة. فالسيرة العقلائيّة قامت على أنّ من حاز شيئاً ملك التصرّف فيه كما يشاء ولا يعارضه أحد في سلطانه المستقلّ عن ذلك؛ لنكتة عامّة ثابتة في أذهانهم ولو ارتكازاً كمصلحة الاقتصاد الاجتماعيّ مثلاً. وتطبيق القسم الأوّل على الموارد الفقهيّة واضح لا غبار عليه.

وإنّما الكلام في تطبيقه على ما يقصد في الاُصول إثباته بالسيرة من الحجّيّة والتنجّز والتعذير. فإن سلّمنا في هذا الباب بما هو المشهور(1): من أنّ الحجّيّة إنّما تكون بجعل إنشاء ظاهريّ ناشئ من ملاك في نفس الإنشاء، أمكن إدراج ذلك في القسم الأوّل بدعوى أنّ العقلاء بقريحتهم العامّة يدركون ولو ارتكازاً مصلحة اقتصاديّة اجتماعيّة في نفس هذا الإنشاء مثلاً.

وأمّا بناءً على ما هو الصحيح: من أنّ الحكم الظاهريّ بعد فرض عدم السببيّة شغله تعيين درجة اهتمام المولى بالأغراض الواقعيّة، فمن الواضح عدم إمكان إدراج ذلك من جميع جهاته في القسم الأوّل؛ لأنّ السيرة عندئذ تكون مرتكزة على أساس نكتتين ترجع إحداهما إلى المدرك بالقريحة العامّة للعقلاء، والاُخرى إلى القسم الثاني. ولنفترض ـ مثلاً ـ لتوضيح المطلب أنّ خبر الثقة يطابق الواقع بالمئة ثمانين ويخالفها بالمئة عشرين، وقامت السيرة العقلائيّة على أنّ كلّ من


(1) قال رضوان الله عليه: إنّنا حينما نطلق كلمة المشهور لا نقصد كون القائلين به أكثر عدداً من القائلين بخلافه، وإنّما المقصود القول المتعارف في هذا اليوم المغاير لما نتبنّاه.

92

تقمّص بقميص المولويّة يجعل خبر الثقة المتصدّي لإيصال أغراض المولى إلى عبده حجّة عليه، لأجل أنّ اهتمام العقلاء بتلك الأغراض يكون بدرجة الثمانين بالمئة. فترى أنّ هذه السيرة مرتكزة على نكتتين:

1 ـ كشف خبر الثقة عن الواقع بدرجة ثمانين بالمئة.

2 ـ اهتمام المولى بغرضه بهذه الدرجة.

والنكتة الاُولى تدرك بقريحة عامّة في العقلاء، ولكن النكتة الثانية ليست كذلك، فإنّ كلّ مولى من الموالي يحسب حساب أغراضه مستقلاًّ، فيرى أنّه هل تكون درجة اهتمامه بها بمقدار الثمانين بالمئة، أو لا؟ وليست لذلك نكتة عامّة ثابتة في القرائح وإن اتّفق صدفة توافقهم في الأعمّ الأغلب على ذلك من دون ملازمة في درجة الاهتمام بين بعض الأفراد والبعض الآخر.

وهناك احتمال آخر في باب الحجج العقلائيّة يختصّ بالطريقة التي ألفها المولى في مقام إيصال أغراضه إلى عبده، كظهور الكلام، وهو أن لا يكون حكماً عقلائيّاً من القسم الأوّل أو الثاني، بل يكون حكماً عقليّاً ثابتاً بغضّ النظر عن جعل العقلاء وسيرتهم، فالعقلاء أطبقوا على ذلك وجرت سيرتهم عليه بعقلهم لا بعقلائيّتهم.

وتقريب ذلك الحكم العقليّ هو: أنّ حقّ المولويّة يكون من مدركات العقل العمليّ، وسعته وضيقه بيد العقل العمليّ. والعقل العمليّ يدرك أنّ العبد إذا طبّق عمله على الطريقة التي تعارف للمولى إيصال أغراضه بتلك الطريقة لم يكن مقصّراً في ذلك بحقّ المولى، فتكون تلك الطريقة ـ وهي الظهور مثلاً ـ حجّة على حدّ حجّيّة القطع الذي حكم العقل العمليّ بأنّ العبد إذا طبّق عمله عليه لم يكن مقصّراً بحقّ المولى.

نعم، الفرق بينهما هو: أنّه لا يمكن الردع عن حجّيّة القطع، ولكن يمكن الردع

93

عن حجّيّة الظهور مثلاً؛ لأنّ حقّ المولويّة المدرك بالعقل العمليّ في باب الظهور معلّق على عدم ردع المولى عنه، بينما في باب القطع لم يكن معلّقاً على ذلك.

وعلى أيّ حال، فهذا مسلك آخر لإثبات حجّيّة مثل الظهور في قبال مسلك السيرة بكلا قسميها. ويفترق عن مسلك السيرة بأنّ الحجّيّة بناءً على هذا المسلك لا تحتاج إلى الجعل، ويكفي فيها نفس عدم الردع بخلافها على مسلك السيرة.

هذا، وسيظهر فيما يأتي ـ إن شاء الله ـ أنّ هذا المسلك لا مجال له بالنسبة لخبر الواحد، وأنّه بالنسبة لمثل الظهور أيضاً ليس قطعيّ الصحّة.

وعلى أيّ حال، فلنشرع الآن في بيان المدرك لحجّيّة السيرة.

فنقول: إنّ استكشاف الحكم الشرعيّ من السيرة يكون بطيّ مرحلتين:

1 ـ إثبات السيرة المعاصرة للنبيّ(صلى الله عليه وآله)، أو الأئمّة(عليهم السلام).

2 ـ استلزام ذلك لجعل الشارع الحكم على طبق تلك السيرة، فنستكشف من ذلك جعل الشارع لما يناسب تلك السيرة، على تفصيل في كيفيّة أخذ هذه النتيجة يأتي إن شاء الله. فيقع الكلام أوّلاً في هاتين المرحلتين، ثُمّ في كيفيّة استنتاج النتيجة.

 

إثبات السيرة المعاصرة للشارع:

أمّا المرحلة الاُولى: فهي عبارة عن إثبات السيرة المعاصرة للشارع، والوجه في التقييد بالمعاصرة ما يظهر عند الكلام في المرحلة الثانية: من أنّ الملازمة إن تمّت فإنّما تتمّ بلحاظ السيرة المعاصرة(1)، وبما أنّنا لم نعاصر الشارع الأقدس


(1) لا يخفى أنّ المقصود في المقام هو البحث عن السيرة التي نثبت بها حكماً كلّيّاً إلهيّاً، وهذه السيرة تتوقّف الاستفادة منها على كونها معاصرة للمعصوم(عليه السلام).

94


وهناك سيرتان اُخريتان خارجتان عن محلّ البحث، وقد ذكرهما اُستاذنا(رحمه الله)في دورته الأخيرة التي لم أحضرها على نقل الأخ السيّد علي أكبر حفظه الله:

الاُولى: سيرة تنقّح موضوع الحكم الشرعيّ. إمّا ثبوتاً كالسيرة على الإنفاق على الزوجة بمستوى معيّن بحيث لو أنفق عليها بمستوى أقلّ من ذلك عدّ إمساكاً ومعاشرة بغير معروف، فهذه السيرة تنقّح موضوع الإمساك والمعاشرة بالمعروف للزوجة الواجب شرعاً. وإمّا إثباتاً كالسيرة القائمة على خيار الغبن ـ مثلاً ـ التي تشكّل ظهوراً عرفيّاً لكلام المتعاقدين في عدم قبول البيع الغبنيّ إلّا مع الخيار، وهذا ينقّح موضوع الشرط في دليل (إنّ المؤمنين عند شروطهم). وفرق السيرة التي تنقّح الموضوع ثبوتاً عن التي تنقّحه إثباتاً هو: أنّ من شذّ عن السيرة العقلائيّة الموجدة للموضوع فشذوذه لا يؤثّر في فاعليّة السيرة التي تحقّق الموضوع ثبوتاً بشأنه، فمن لم ير للزوجة احتراماً وتقديراً تستحقّ معه ذاك المستوى من الإنفاق يجب عليه أن يلتزم بذاك المستوى من الإنفاق، أمّا من شذّ عن السيرة العقلائيّة الكاشفة عن الموضوع كما في المثال الثاني فالسيرة لا تكشف عن الموضوع بالنسبة إليه.

وهذا القسم من السيرة حجّيّتها ثابتة على القاعدة، وتكفي فيها السيرة المعاصرة لزماننا. بل لو ثبتت سيرة معاصرة لزمان المعصوم ثُمّ انتفت في زماننا انتهى مفعولها بانتهائها.

الثانية: السيرة التي تنقّح فهمنا للدليل، فإنّ البناءات والارتكازات تشكّل قرائن لبّيّة متّصلة دخيلة في تكوين الظهور للدليل، فلو تمّ الدليل على حجّيّة الظهور فلابدّ من أخذ هذه السيرة بعين الاعتبار. فمثلاً لو دلّ الدليل على أنّه (لو جاء بالثمن خلال ثلاثة أيّام، وإلّا فلا بيع بينهما) فإن جمدنا على حاقّ اللفظ فهمنا من ذلك بطلان البيع، وأنّه لا بيع

95

نحتاج في إثبات السيرة المعاصرة إلى طريق، ولذلك عدّة طرق:

الطريق الأوّل: ما يبدو في أوّل وهلة للنظر، وهو إثبات السيرة المعاصرة للشارع عن طريق السيرة المعاصرة لنا بروحيّة الاستصحاب القهقرائيّ، سواء كانت سيرة عقلائيّة، أو سيرة المتشرّعة. وتقريب ذلك في السيرة العقلائيّة هو الحدس بأنّ هذه السيرة إنّما نشأت من القريحة العامّة المشتركة في العقلاء الماضين منهم، والمتسلسلة إلى الموجودين، فيثبت بذلك وجود السيرة في ذلك الزمان. وفي سيرة المتشرّعة(1) أنّ من البعيد جدّاً افتراض أنّ السيرة الموجودة في زماننا حصلت دفعة بنحو الانقلاب من دون تلقّيها من زمن الشارع الأقدس، وهذا الاستبعاد واصل إلى حدّ الاطمئنان بالعدم، فالظاهر أنّها سيرة موروثة يداً بيد متّصلة إلى زمان الشارع، وإلّا لكان انقلاب السيرة السابقة إلى السيرة الموجودة يعدّ من الأعاجيب، وهذا ما يطمئنّ بخلافه. إمّا بنفسه، أو باعتبار أنّه لو كان لكان ينقل للناس على حدّ نقل الاُمور الغريبة، وكان يصلنا نقل ذلك. فمثلاً لو


لازماً ولا متزلزلاً، بينما بناءً على أخذ المرتكزات العقلائيّة بعين الاعتبار قد يقال: إنّ المفهوم من ذلك هو نفي البيع اللازم وثبوت خيار التأخير.

وهذا القسم من السيرة لابدّ من ثبوتها في زمن صدور النصّ، كي تؤثّر على الظهور وقتئذ، فإنّ الحجّيّة إنّما هي لظهور النصّ في وقت صدوره.

إلّا أنّنا إذا أحرزنا ثبوت هذا الارتكاز في عصرنا واحتملنا ثبوته في عصر صدور الدليل كفى ذلك للتأثير على ذاك الدليل، لا باعتبار أنّه يشكّل احتمال وجود القرينة المتّصلة ولا نافي لهذا الاحتمال. أقول: لا بهذا الاعتبار فحسب بل باعتبار أنّ المسألة تدخل تحت كبرى أصالة عدم النقل التي هي حجّة في باب دلالات الألفاظ.

(1) وهذا التقريب يأتي في السيرة العقلائيّة أيضاً مع جوابه، وسنشرح ذلك.