328

 

التواتر مع الواسطة:

بقي الكلام في التواتر مع الواسطة(1)، وهو ـ على ما ذكره الأصحاب ـ مشروط بحصول التواتر في كلّ طبقة متأخّرة على كلّ نقل من نقول الطبقة المتقدّمة. فلو فرضنا أقلّ التواتر مئة والناقلون المباشرون للقضيّة كانوا مئة، فقد قالوا: إنّه لابدّ في الطبقة الثانية أن يتواتر نقل كلّ واحد من اُولئك بمئة نقل، وفي الطبقة الثالثة أن يتواتر كلّ نقل في الطبقة الثانية بمئة نقل، وهكذا الحال إلى أن ينتهي الأمر إلينا.

أقول: إنّ هذا التصوير للتواتر مع الواسطة وإن كان صحيحاً لكن وقوعه خارجاً لا يعدو عادةً أن يكون أمراً خياليّاً.

ونحن لدينا ـ بحسب مبنانا في فهم التواتر ـ صورة اُخرى للتواتر غير المباشر، وهي: أن نأخذ كلّ خبر واحد من الأخبار الذي يحكي عن القضيّة بواسطة أو بوسائط، ونضيف قيمته الاحتماليّة إلى الخبر الآخر الذي يحكي أيضاً عن القضيّة بالواسطة أو الوسائط، وهكذا تتعاضد القيم الاحتماليّة ويتضاءل احتمال الكذب والخطأ في الجميع بالضرب إلى أن يحصل العلم بسبب ذوبان الاحتمال الضئيل في النفس. نعم، حصول العلم هنا أبطأ منه في الخبر بلاواسطة؛ لأنّ القيمة الاحتماليّة للخبر مع الواسطة أضعف منها للخبر بلا واسطة. وأكثر ما تثبت لدينا من تواترات إنّما تستعمل فيها هذه الطريقة لا الطريقة الاُولى.


(1) بحث التواتر مع الواسطة أخذته ممّا نقل عن القسم الذيلم أحضره من الدورة الأخيرة.

329

 

الشهرة

وأمّا بحث الشهرة: فقد نقصد بالشهرة الشهرة الروائيّة التي جعلت إحدى المرجّحات في باب الخبرين المتعارضين، ويأتي البحث عنها في باب التعادل والتراجيح إن شاء الله. واُخرى نقصد بها عمل المشهور بالخبر الذي يجعل جابراً للسند. ويأتي البحث عنه في باب حجّيّة خبر الواحد إن شاء الله. وثالثة يقصد بها الشهرة الفتوائيّة ويبحث عن مدى إثباتها لتلك الفتوى، وهذه هي المقصودة بالبحث في المقام.

والاعتماد على الشهرة الفتوائيّة تارةً يكون على أساس حصول العلم والاطمئنان، واُخرى على أساس التعبّد:

أمّا على أساس العلم والاطمئنان فالكلام فيها هو الكلام في الإجماع: من أنّ حصول القطع بذلك يكون على أساس حساب الاحتمالات، وأنّه يفترق ذلك عن باب التواتر بوجود عوائق خمسة عن حصول العلم بذلك، وتزيد الشهرة على الإجماع بضعف كمّيّ باعتبار أقلّيّة عدد المفتين، وبضعف كيفيّ باعتبار أنّ وجود المخالف يزاحم الحساب المتحصّل من آراء الموافقين(1).

هذا. وما نجده أحياناً من إفتاء المشهور بما نقطع بخطئه يضعّف لدينا قيمة الشهرة أيضاً(2).

وأمّا على أساس التعبّد فقد ذكر في مقام الاستدلال على حجّيّة الشهرة اُمور ثلاثة:

الأوّل: مقبولة عمر بن حنظلة، وفيها ـ بعد فرض السائل تساوي الراويين في


(1) هذا فيما لو عرفنا وجود المخالف.

(2) كما أنّ خطأ المشهور يضعّف لدينا قيمة الإجماع أيضاً.

330

العدالة ـ: «ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»(1).

وتقريب الاستدلال بها موقوف على مقدّمتين:

الاُولى: أنّ المراد بالمجمع عليه هو الشهرة، ويدلّ عليه جعله قبال الشاذّ، فإنّ المجمع عليه لا يوجد في مقابله شاذّ، كما أنّ إطلاق عدم الشهرة على الشاذّ قرينة اُخرى على أنّ ما في مقابله كان مشهوراً لا مجمعاً عليه.

والثانية: أنّ قوله: «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» تعليل عامّ يشمل الشهرة الفتوائيّة، ولا يضرّنا كون مورد الحديث الشهرة الروائيّة، فإنّ المورد لا يخصّص الوارد.

ويرد على المقدّمة الاُولى: أنّ كون شيء مجمع عليه إنّما ينافي وجود شاذّ في قباله في باب الفتوى، أمّا في باب الرواية فلا منافاة بين كون إحدى الروايتين مجمعاً عليها، أي: مرويّة ومعترفاً بها لدى الكلّ، والاُخرى شاذّة لم يروها إلّا بعض نادر. كما أنّ إطلاق غير المشهور على الشاذّ ليس قرينة على المقصود؛ إذ قد يكون المقصود بالمشهور هو الواضح المعروف لا ما اصطلح عليه عندنا في قبال المجمع عليه.

ويرد على المقدّمة الثانية: أنّ عدم الريب المذكور في التعليل الوارد في هذا الحديث فيه عدّة احتمالات، منها ما لا يوافق المقصود، ومنها ما لا يوافق ظاهر الحديث:

الاحتمال الأوّل: أن يكون المراد به نفي الريب حقيقة بأن يكون الكلام إخباراً


(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 1، ص 75 ـ 76.

331

عن عدم الشكّ واقعاً في صحّة المجمع عليه، وهذا وإن كان معقولاً في الشهرةالروائيّة باعتبارها توجب العلم غالباً ولو علماً اعتياديّاً لكنّه لا ينفع المقصود، وهو إثبات حجّيّة الشهرة الفتوائيّة الثابت فيها الريب تكويناً، كما هو واضح.

والمقصود بنفي الريب عن صحّة الرواية نفي الريب عن ورودها عن الإمام(عليه السلام)، لا مطابقتها للواقع كي لا يبقى ريب في بطلان الرواية الاُخرى.

الاحتمال الثاني: أن يكون المراد به نفي الريب تعبّداً من قِبَل الشارع.

وهذا الاحتمال لو فرض مثبتاً للمقصود فهو خلاف ظاهر الحديث؛ لتوقّفه أوّلاً على التصرّف في القضيّة التي هي بطبعها إخباريّة بحملها على الإنشاء، أو التصرّف في المخبر به بحمله على نفي الريب التعبّديّ لا الحقيقيّ؛ ولمنافاته ثانياً لما يترقّب من طبيعة التعليل، وهو أن يكون تعليلاً بشيء مرتكز عند العقلاء، كي يكون هذا التعليل تقريباً للحكم إلى الذهن، فلو فرضنا أنّ المعلّل به هو أمر تعبّديّ يفرضه الإمام الآن لم تكن للتعليل هذه الخصوصيّة.

الاحتمال الثالث: أن يكون المراد هو الإخبار عن عدم الريب تعبّداً عند العقلاء.

وهذا يمتاز على الاحتمال الثاني بتحفّظه على ما يتطلّبه ظاهر التعليل: من كونه تعليلاً بما يقرب الحكم إلى الذهن بارتكازيّته، ولكنّه أيضاً خلاف الظاهر من ناحية حمل عدم الريب على غير المعنى الحقيقيّ.

ولو فرضناه موافقاً للظاهر، قلنا: إنّ هذا الاحتمال لا يفيد المقصود، فإنّه لو تمّ فإنّما يقتصر فيه على ما يساعد عليه ارتكاز العقلاء، ولا يثبت الحكم في الشهرة الفتوائيّة التي من الواضح فيها عدم وجود تعبّد عقلائيّ وبناء عقلائيّ على حجّيّتها.

الاحتمال الرابع: أن يكون المقصود نفي الريب النسبيّ، أي: أنّه وإن كان الريب

332

ثابتاً في كلتا الروايتين لكن انتفاء الريب في الرواية المجمع عليها يكون بمعنى أنّ الشذوذ الذي هو باب من أبواب تطرّق الريب منسدّ بالنسبة لها، بينما هو مفتوح بالنسبة للخبر الشاذّ.

وهذا أيضاً يمتاز على الاحتمال الثاني بتحفّظه على التعليل بأمر مفهوم عند العقلاء، لكنّه أيضاً خلاف الظاهر، فإنّ الظاهر من عدم الريب هو عدم الريب حقيقة ومن جميع الجهات، لا عدم الريب النسبيّ.

ولو سلّمنا موافقة هذا الاحتمال لظاهر الحديث، قلنا: إنّه لا ينفعنا في المقام، لا لما اُفيد(1): من أنّ عدم الريب النسبيّ لا يصلح جعله قاعدة عامّة، فإنّ حاله حال سائر التعليلات يصلح جعله قاعدة عامّة، بل لأنّ هذا التعليل يكون بصدد بيان الوجه لترجيح هذا على ذاك بعدم الريب فيه بالنسبة إلى ذاك بعد فرض الفراغ عن حجّيّة أحدهما، أي: أنّه بعد ما فرض الفراغ عن حجّيّة أحدهما يكون ما هو أقلّ ريباً منهما أولى بالحجّيّة من الآخر، لا بصدد بيان تأسيس الحجّيّة لكلّ أمارة يوجد ما هو أخسّ منها إلى أن نصل إلى أخسّ الأمارات، فالتعدّي بقانون التعليل إنّما يكون إلى كلّ مورد علمنا بحجّيّة إحدى الأمارتين وكانت إحداهما أقلّ ريباً من الاُخرى. ولأجل هذا التعليل ومثله قال بعض في باب الخبرين المتعارضين بكفاية مطلق الترجيحات المتصوّرة في المقام ممّا يجعل احتمال الصدق في أحدهما أقوى من الآخر.

أمّا الشهرة الفتوائيّة التي يكون الكلام في أصل حجّيّتها، فهي أجنبيّة عن مفاد الحديث، ولم تثبت لنا في المرتبة السابقة حجّيّة إحدى الفتويين، كي نجعل الشهرة موجبة لتعيينها.


(1) راجع فوائد الاُصول للمحقّق الكاظميّ(رحمه الله)، ج 2، ص 54.

333

وعدم الالتفات إلى النكتة التي شرحناها أوجب إبراز الإشكال في الاستدلال بالحديث بصياغة عدم قابليّة هذا التعليل لجعله قاعدة عامّة. وواقع الأمر ما ذكرناه.

الثاني: ما رواه في عوالي اللآلي عن العلاّمة(رحمه الله) مرفوعاً عن زرارة قال: «سألت الباقر(عليه السلام) فقلت: جعلت فداك، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأ يّهما آخذ؟ قال(عليه السلام): يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشاذّ النادر ...»(1).

وتقريب الاستدلال بذلك: أنّ مورد الحديث وإن كان هو الخبرين المتعارضين لكن المورد لا يخصّص الوارد، فمقتضى إطلاق قوله: «خذ بما اشتهر بين أصحابك» حجّيّة الشهرة وإن كانت في الفتوى.

وهذا الوجه ـ بغضّ النظر عن سقوط الحديث سنداً ـ يظهر ممّا مضى في المقبولة الإيراد عليه:

أوّلاً: بأنّه لم يثبت كون المراد بالشهرة الأكثريّة في قبال الأقلّيّة كما هو المصطلح عندنا، فلعلّ المراد بها الوضوح لدى الكلّ.

وثانياً: أنّ ظاهر الحديث كونه في مقام تعيين الحجّة دون تأسيس أصل الحجّيّة(2)، فلا يشمل مثل الفتويين المتعارضتين.

هذا مضافاً إلى ما يرد على الاستدلال بهذا الحديث من غير ما ذكرناه(3).

 


(1) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 9 من صفات القاضي، ح 2، ص 185.

(2) لعلّه أخذ ـ رضوان الله تعالى عليه ـ هذا الظهور من قول السائل: «بأيّهما آخذ»، فكأنّ الأخذ بأحدهما كان مفروغاً عنه فيطلب التعيين.

(3) لعلّه (رضوان الله عليه) يشير بذلك إلى ما قد يقال: من أنّ (ما) الموصولة من المبهمات التي يصلح المورد للمنع عن انعقاد الإطلاق لها في غير دائرة المورد، أو إلىمنع

334

الثالث: دليل حجّيّة خبر الواحد.

وتقريب الاستدلال به على حجّيّة الشهرة هو: أنّ المستظهر من دليل حجّيّة خبر الواحد أنّه ليست حجّيّته لملاك في نفسه، بل للطريقيّة إلى الواقع، وبذلك نتعدّى إلى الشهرة؛ لمساواتها في الكشف لخبر الواحد أو أقوائيّتها منه.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ المقارنة بين ما عرفته: من ملاك كشف الشهرة القائم على أساس حساب الاحتمالات، وما سيجيء إن شاء الله: من ملاك كشف خبر الثقة القائم على أساس حساب الاحتمالات، توضّح أنّ كشف الشهرة بما هي شهرة أضعف من كشف خبر الثقة بما هو خبر ثقة. نعم، يمكن أن تقترن صدفة الشهرة بما يوجب أقوائيّتها في الكشف، أو يقترن خبر الثقة بما يوجب أضعفيّة كشفه.

وثانياً: أنّ ملاك جعل الحكم الظاهريّ الطريقيّ ـ على ما يظهر ممّا مضى منّا: من قيامه على أساس التزاحم بين ملاكات الأحكام الواقعيّة ـ ليس هو الكشف فحسب، بل هو الكشف مع عدم كون ملاك ما تحفّظ عليه بهذا الحكم الظاهريّ مزاحماً بملاك أقوى يكسر قيمة الكشف، ونحن نحتمل في الشهرات المستثنى


تماميّة الإطلاق في الوارد حتّى لو لم يكن موصولاً؛ لصلاحيّة المورد للقرينيّة على شرح سيأتي منّا ـ إن شاء الله ـ في البحث عن الروايات التي قد يستدلّ بها على عدم حجّيّة خبر الواحد.

وهذا لا ينافي ما سيأتي منه(قدس سره) في بحث التعادل والتراجيح إن شاء الله: من استظهار أنّ المقصود من هذا الحديث هو الشهرة الفتوائيّة لا الروائيّة، فإنّ المقصود بذلك ليست هي حجّيّة كلّ فتوى مشهورة، وإنّما المقصود به كون الشهرة الفتوائيّة على طبق أحد الخبرين المتعارضين مرجّحة له على الخبر الآخر.

335

منها ما ورد خبر الثقة على طبقها عدم تحقّق مقتض للحجّيّة خال عن المزاحمة بما لا يُبقي داعياً لحفظ بعض الأغراض بجعل الحجّيّة، كما لو كان المولى يعلم أنّ أكثر الملاكات الإلزاميّة الثابتة ضمن موارد الشهرة واصلة بخبر الثقة أيضاً الذي جعله حجّة، ومعه لم يرَ مقتضياً لجعل الحجّيّة للشهرة(1).

وبما ذكرناه يبطل هذا الكلام السيّال في علم الاُصول، وهو إثبات أمارة بمساواتها في الكشف لأمارة اُخرى ثبتت حجّيّتها، أو أقوائيّتها من تلك الأمارة في الكشف(2).

 


(1) وللسيّد الخوئيّ بيان آخر لإبطال الاستدلال على حجّيّة الشهرة بدليل حجّيّة خبر الواحد، وهو إبداء احتمال كون ملاك حجّيّة خبر الواحد غلبة المطابقة للواقع، ولعلّ المولى كان يعلم غلبة مطابقة خبر الواحد للواقع وعدم غلبة مطابقة الشهرة له، ولم نعلم أنّ الملاك كان هو الظنّ كي نتعدّى إلى ما يساويه أو يقوى عليه في الظنّ.

وأورد عليه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ـ على ما نقل عمّا لم أحضره في الدورة الأخيرة ـ بأنّ إفادة الشهرة للظنّ العقلائيّ المتعارف لا تنفكّ خارجاً عن غلبة مطابقتها للواقع، وهذا وجدانيّ بالإضافة إلى كونه مبرهناً عليه في بحث حساب الاحتمالات.

أقول: كأنّ هذا إشارة إلى ما استفاده(رحمه الله) في كتاب (الاُسس المنطقيّة للاستقراء) من معادلة برنولي: من أنّه إذا اتّسع عدد حادثة مّا نحتمل وقوع صدفة ضمن كلّ عدد منها كان احتمال تساوي عدد وقوع تلك الصدفة ضمن أعداد الحادثة لحاصل ضرب عدد الحادثة في درجة احتمال وقوع تلك الحادثة في مرّة بعينها أو اقترابه من التساوي قريباً من الواحد.

أقول: إنّ هذا الكلام وإن كان لا تبعد صحّته في نفسه لكن استفادته من معادلة برنولي محلّ إشكال على ما شرحنا ذلك في بعض تعاليقنا على كتاب (الاُسس المنطقيّة للاستقراء).

(2) قد يقال بالتهافت بين القول بحجّيّة مثبتات الأمارة والقول بعدم حجّيّة أمارة مساوية في الكشف للأمارة التي قام الدليل على حجّيّتها، أو أقوى منها.

336


وتوضيح ذلك: أن يقال: إنّه إذا كان العرف يفهم من دليل حجّيّة الأمارة حجّيّة مثبتاتها أيضاً بنكتة أنّ تمام المقياس هو الكشف الذي نسبته إلى المفاد الأوّليّ للأمارة والملازمات على حدّ سواء، فنفس النكتة توجب التعدّي إلى الأمارة الاُخرى المماثلة لهذه الأمارة أو الأقوى منها؛ لأنّ تمام النكتة في حجّيّة الأمارة الاُولى هي الكشف الثابت في الأمارة الثانية أيضاً بدرجة متساوية أو أقوى. وإذا كان العرف يحتمل أن لا يكون الكشف هو تمام النكتة في الحجّيّة فكما لا يتعدّى إلى الأمارة الثانية كذلك لا يبقى مبرّر لحجّيّة مثبتات الأمارة؛ إذ لعلّ نكتة الحجّيّة التي ليست هي الكشف محضاً تختصّ بالمفاد الأوّليّ للأمارة.

والواقع: أنّ دليل حجّيّة الأمارة تارةً يفرض شموله ابتداءً لمثبتات الأمارة في عرض شموله للمدلول الأوّليّ لها، وعندئذ لا شكّ في حجّيّة مثبتاتها من دون أن ينتقض ذلك بعدم حجّيّة الأمارة الثانية كما هو واضح. مثاله: ما إذا كان الدليل على حجّيّة خبر الثقة عبارة عن السيرة العقلائيّة التي نسبتها إلى المفاد الذي قصده المخبر وملازماته التي لم يقصدها على حدّ سواء.

واُخرى يفرض أنّ دليل حجّيّة الأمارة انصبّ بمضمونه ابتداءً على المدلول الأوّليّ للأمارة، لكنّنا تعدّينا إلى مثبتات الأمارة بعدم الفرق، وهذا هو الذي يمكن أن يتخيّل وروده نقضاً على المقام، فيقال: لو استظهر من دليل الحجّيّة أنّ تمام الموضوع للحجّيّة هو هذه المرتبة من الكشف فكما نتعدّى من الدلالة المطابقيّة إلى الملازمات كذلك نتعدّى من خبر الثقة مثلاً إلى كلّ ما يساويه في الكشف، ولو لم يستظهر ذلك لم نتعدّ لا إلى ما يساوي خبر الثقة في الكشف ولا إلى الملازمات.

والجواب: أنّ الأخبار الإلزاميّة ـ مثلاً ـ حينما جعلت حجّة يكون المستظهر لنا من

337

 

 


دليل حجّيّتها أنّه كان الملاك في الحجّيّة أنّ صدقها أكثر من كذبها الموجب لكون حجّيّتها مربحة للمولى للملاكات الإلزاميّة أكثر ممّا تخسّر المولى ملاكات ترخيصيّة، و ـ على الأقلّ ـ نحتمل أن يكون النظر إلى الأكثريّة العدديّة للصدق من الكذب لا مجرّد أقوائيّة الاحتمال بمعناها النفسيّ. وهذه الأكثريّة العدديّة بهذه النسبة قد تكون غير محفوظة في الشهرات المتساوية في الكشف لخبر الثقة، أو الأقوى منها ـ مثلاً ـ بعد استثناء ما طابقت منها مع أخبار الثقات؛ لاحتمال وقوع أكثر الشهرات الصادقة في دائرة (ما طابق الأخبار).

ولا يأتي مثل هذا البيان في الدلالات الالتزاميّة، بأن يقال: إنّ المثبتات بعد استثناء ما طابق منها صدفة لدلالات مطابقيّة لأخبار اُخرى لعلّ نسبة الصدق في الباقي منها إلى الكذب فيه تكون أقلّ من نسبة الصدق في الدلالات المطابقيّة إلى الكذب فيها.

فإنّه يقال في الجواب على ذلك: إنّنا نشير إلى ذاك العدد من الأخبار التي لم تكن مثبتاتها مستفادة من أخبار اُخرى بالمطابقة ونقول: إنّ الدلالات المطابقيّة لتلك الأخبار نسبة مساهمتها في خلق الترجيح بغلبة الصدق في أيّ دائرة وضعت لا تكون أكبر من نسبة مساهمة مثبتاتها في خلق ذاك الترجيح حينما توضع في نفس تلك الدائرة بدلاً عن دلالاتها المطابقيّة؛ إذ المفروض أنّه لا يحتمل كذب اللوازم مع كذب المطابقيّة، فنستدلّ بحجّيّة دلالاتها المطابقيّة على حجّيّة المثبتات.

339

الأمارات الظنّيّة

4

 

خبر الواحد الثقة

 

○أدلّة عدم حجّيّة الخبر.

○أدلّة حجّيّة الخبر.

 

 

341

 

 

 

 

 

 

 

الأمارة الثالثة: خبر الواحد الثقة. ويُقصد بخبر الواحد ما لم يبلغ حدّ التواتر(1).

ولنبحث أوّلاً أدلّة عدم حجّيّته:

 

أدلّة عدم حجّيّة الخبر

قد اُستدلّ على عدم حجّيّة خبر الواحد بالأدلّة الأربعة:

 

1 ـ دعوى التمسّك بالكتاب:

أمّا الكتاب: فاستدلّ بالآيات الناهية عن الظنّ بلسان ﴿لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم﴾(2)، أو بلسان ﴿إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾(3) بدعوى شمول إطلاقها للظنّ الخبريّ.


(1) ذكر (رضوان الله عليه) هنا كلاماً عن كون هذا البحث داخلاً في علم الاُصول وعدمه، ودخل بهذه المناسبة في تعريف علم الاُصول، وقد حذفت ذلك اكتفاءً بما ذكره في أوّل علم الاُصول في دورته الأخيرة.

(2) سورة الإسراء، الآية: 36.

(3) ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إلّاَ ظَنّاً إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾. سورة يونس، الآية: 36، ﴿وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْم إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾. سورة النجم، الآية: 28.

342

وقد أجاب على ذلك المحقّقون بما يرجع محصّله إلى وجوه ثلاثة:

الأوّل: دعوى حكومة أدلّة حجّيّة خبر الواحد على هذه الآيات؛ لأنّ موضوعها الظنّ وعدم العلم، وأدلّة حجّيّة خبر الواحد تجعل العلم والطريقيّة لخبر الواحد، فيخرج خبر الواحد عن كونه ظنّاً أو عدم كونه علماً.

ويرد عليه ـ بغضّ النظر عن الإشكال على أصل المبنى: من كون مفاد أدلّة حجّيّة خبر الواحد هو جعل الطريقيّة والعلم ـ: أنّنا لو لم نسلّم دلالة هذه الآيات في نفسها على عدم حجّيّة الظنّ حتّى بالنسبة للقياس فضلاً عن خبر الواحد، فلا موضوع للحكومة، فإنّ الحكومة فرع التعارض البدويّ. ولو سلّمنا دلالتها في نفسها على عدم حجّيّة الظنّ فكما أنّ دليل حجّيّة الظنّ يدلّ ـ بحسب مذاقهم ـ على جعله علماً، كذلك دليل عدم حجيّته يدلّ على عدم جعله علماً، فهما دليلان في عرض واحد تعارضا في جعل خبر الواحد علماً وعدمه، ولا مبرّر للحكومة. نعم، لا بأس بحكومة دليل جعل خبر الواحد علماً على أدلّة الأحكام المترتّبة على العلم وعدمه كدليل حرمة الإفتاء بغير علم. أمّا الدليل الذي ينفي حجّيّة الظنّ فهو في عرض الدليل الذي يثبت حجّيّته وينفي كون الظنّ علماً، كما أثبت دليل الحجّيّة كونه علماً. فهما متعارضان(1).

 


(1) هذا بناءً على المذاق الذي يرى أنّ الحجّيّة مطلقاً أو ـ على الأقلّ ـ في الأمارات لا يتصوّر لها مغزىً غير جعل العلم، فيقال عندئذ: كما أنّ دليل الحجّيّة يدلّ على جعل العلم كذلك دليل عدم الحجّيّة يدلّ على نفي جعل العلم. أمّا لو قيل: إنّ حمل دليل حجّيّة خبر الواحد على جعل العلم إنّما هو أمر استظهاريّ من بعض ألسنة الدليل، كقوله: «ليس لأحد التشكيك فيما يروي عنّا ثقاتنا»، وليس كلّ دليل يثبت الحجّيّة أو ينفيها فهو يثبت جعل العلم أو ينفيه، أمكن دعوى حكومة خصوص ذاك اللسان على آيات النهي عن

343

الثاني: أنّنا لو غضضنا النظر عن الحكومة وفرضنا أنّ دليل حجّيّة خبر الواحد لا يتكفّل جعل العلم والطريقيّة، بل يتكفّل جعل الحكم المماثل مثلاً، فأدلّة حجّيّة خبر الواحد تتقدّم على تلك الآيات بالأخصّيّة؛ لأنّها واردة في مطلق الظنّ، وتلك الأدلّة تختصّ بخبر الواحد.

وهذا الكلام بهذا النحو من الإهمال غير صحيح، بل لابدّ من استحضار الصور التفصيليّة لأدلّة حجّيّة خبر الواحد كي يرى أنّ هذا الجواب يتمّ بلحاظها أو لا؟ وباستحضار تلك الصور يعرف أنّ الجواب بالأخصّيّة يتمّ بلحاظ بعضها، ولكن بعضها الآخر ـ لو تمّت دلالته ـ لا معنى لتقديمه على الآيات بالأخصّيّة.

فسيرة العقلاء مثلاً ـ إن تمّت دليلاً على حجّيّة خبر الواحد ـ يجب أن يرى أنّها هل هي في الاستحكام بمرتبة لا تعدّ مثل هذه الآيات ردعاً لها، أو لا؟ فعلى الأوّل تقدّم على الآيات وإن فرضت غير أخصّ. وعلى الثاني لا تقدّم عليها وإن فرضت أخصّ.

وآية النبأ إن تمّت دليلاً على حجّيّة خبر الواحد، فنسبتها إلى تلك الآيات عموم من وجه، فإنّ أحسن تقريب لثبوت المفهوم لها ـ وإن كان المختار عدم ثبوت المفهوم لها ـ هو: أنّها تدلّ بمفهوم الشرط على عدم وجوب التبيّن عند عدم مجيء الفاسق بنبأ، وهذا يشمل بإطلاقه صورتي مجيء العادل بنبأ وعدمه، ففي


العمل بغير العلم، وكذلك لو اُستفيد من ذاك اللسان التنزيل منزلة العلم. نعم، يبقى الإشكال في أصل المبنى بأن يقال: إنّ جعل العلم التعبّديّ لا أثر له؛ لأنّ الأثر كان للعلم الوجدانيّ، وأنّ روح المستفاد من الدليل ليس عدا الاهتمام بالأغراض الواقعيّة، لا جعل العلم ولا التنزيل منزلة العلم، وليست هذه عدا صياغات تعبيريّة تشير إلى ذاك المعنى.

344

الصورة الثانية يكون انتفاء وجوب التبيّن بانتفاء الموضوع، وفي الصورة الاُولى يكون ذلك بحجّيّة خبر العادل، فكما يمكن تخصيص الآيات السابقة بإخراج خبر العادل عنها كذلك يمكن تخصيص مفهوم آية النبأ بإخراج صورة مجيء العادل بنبأ عنه.

بل فرض مجيء العادل بنبأ ينقسم إلى فرضين: فرض حصول العلم به، وعدمه، ففي فرض العلم لا يبقى مورد للتبيّن، وفي فرض عدم العلم لا يجب التبيّن للحجّيّة التعبّديّة، ومن الممكن إخراج هذا الفرض من مفهومها بتلك الآيات.

وبهذا البيان الأخير يتّضح: أنّ آية النفر لو تمّت دلالتها على حجّيّة خبر الواحد لم تكن أخصّ من آيات النهي عن العمل بغير العلم، فإنّها تدلّ على مطلوبيّة الحذر عند الخبر سواء أوجب العلم أو لا، فكما يمكن تخصيص تلك الآيات بها كذلك يمكن العكس بإخراج فرض عدم العلم من آية النفر.

الثالث: دعوى أنّ هذا النهي ورد في اُصول الدين، وليس له إطلاق يشمل فروع الدين. وقال صاحب الكفاية(رحمه الله): إنّ الظاهر منها أو ـ على الأقلّ ـ القدر المتيقّن منها هو النهي عن موارد اُصول الدين، فلا تشمل محلّ الكلام.

أقول: أمّا آية النهي عن العمل بغير العلم فهي خطاب ابتدائيّ من دون أن تكون في مورد مّا أصلاً، وليس في سياقها سابقاً أو لاحقاً ما يدلّ على كونها واردة في اُصول الدين. وأمّا آية ﴿إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾فموردها وإن كان هو اُصول الدين، حيث تصف الآية بعض المعتقدين بالاعتقادات الفاسدة بأنّهم لا يتّبعون إلّا الظنّ، ثمّ تقول: ﴿إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾، لكنّك ترى أنّ هذا الكلام بهذا الترتيب يكون له ظهور في العموم، فإنّه ظاهر في النهي عن تلك العقيدة الباطلة وتعليل ذلك بقاعدة عامّة مركوزة في الأذهان بنحو ترتيب الصغرى والكبرى، أي: أنّ اعتقادهم في المقام اعتقاد ظنّيّ، وكلّ ظنّ لا يغني من

345

الحقّ شيئاً، فهذا الاعتقاد لا يغني من الحقّ شيئاً. فظهوره في كونه تعليلاً بقاعدة كبرويّة مركوزة في الأذهان يؤكّد عمومه لا تخصيصه بخصوص المورد أو إجماله.

والتحقيق في مقام الجواب عن هذه الآية وجوه ثلاثة:

الأوّل ـ وهو المهمّ ـ: أنّ هذه الآيات لا دلالة لها في نفسها على نفي الحجّيّة.

أمّا قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ فظاهر النهي فيها أنّه نهي إرشاديّ إلى ما يستقلّ به العقل: من عدم جواز الاستناد في العذر وأداء المسئوليّة إلى غير العلم، بمعنى أنّه يجب أن يكون السند المباشر للإنسان ورأس الخيط لما يعتمد عليه هو العلم. ودليل حجّيّة خبر الواحد لابدّ أن ينتهي إلى العلم حقيقة، بحيث يكون السند المباشر لنا في العمل به هو العلم، وهذا ما لم تنه عنه الآية الكريمة، فيكون دليل حجّيّة خبر الواحد وارداً على الآية. نعم، العمل بخبر الواحد استناداً إلى إفادته للظنّ بالواقع منهيّ بالآية المباركة، أمّا العمل به استناداً إلى العلم بحجّيّته فهو غير منهيّ بها.

والشبهة التي يمكن طرحها في المقام: من أنّ النهي ظاهر في النهي المولويّ فلا مبرّر لحمله على النهي الإرشاديّ أو فرض الإجمال، إنّما يكون لها مجال على مستوى البحث العلميّ(1) لولا ذيل الآية المباركة وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ


(1) كأنّه إشارة إلى أنّ هذه الشبهة ليست عدا نقاش علميّ، ولا واقعيّة لها حتّى بغضّ النظر عن ذيل الآية، فإنّ النهي بحسب معناه الطبيعيّ ليس له ظهور في المولويّة، وإنّما ينشأ هذا الظهور من سياق حال المولى، حيث إنّ ظاهر حاله أنّه إنّما يخاطب العباد بما هو مولى لهم، فإنّ هذا هو الذي يكون من شأن المولى لا كخطاب أيّ إنسان اعتياديّ مع الآخرين. وهذا الظهور ـ كما ترى ـ لا يمنع عن حمل النهي في المقام على الإرشاد؛ إذ من شأن المولى أيضاً إرشاد العبد إلى الالتزام بما تقتضيه مولويّته، كالتنبيه على طاعة الله تعالى وترك معاصيه.

346

وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾، فإنّ مقتضى التعليل بفرض المسؤوليّة في المرتبة السابقة على هذا النهي كون هذا النهي إرشاديّاً، ولذا وقع في طول المسؤوليّة، ولو كان مولويّاً وفي مقام بيان عدم الحجّيّة لكانت المسؤوليّة في طوله وليس العكس.

وأمّا قوله تعالى: ﴿إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾، فهو أيضاً لا يدلّ على نفي حجّيّة الظنّ؛ إذ:

أوّلاً: أنّ الآية لم تدلّ إلّا على عتاب اُولئك الذين اتّبعوا الظنّ في الاعتقاديّات معلّلة ذلك بقوله تعالى: ﴿إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾، ونحن نعلم أنّ عدم إغناء الظنّ من الحقّ لا يصلح علّة للعتاب على اتّباع الظنّ إلّا حينما يكون المطلوب هو الوصول إلى الحقّ والواقع، كما هو الحال في اُصول الدين، كما هو مركوز في الأذهان وثابت في الأديان، وليست الآية بصدد بيان أنّه متى يكون المطلوب هو الوصول إلى الواقع ومتى لا يكون. وكون المطلوب في الفروع هو الوصول إلى الواقع أوّل الكلام؛ إذ بناءً على حجّيّة خبر الواحد فيها يكفي تفريغ الذمّة تجاه الواقع بالعمل بخبر الواحد بلا حاجة للوصول إلى الواقع.

وثانياً: أنّنا لو غضضنا النظر عن تلك النكتة قلنا أيضاً: ليس من المعلوم كون المقصود بالآية المباركة نفي حجّيّة الظنّ، بل من الممكن حملها على الإرشاد إلى أنّ الظنّ لا يصلح سنداً مباشراً للإنسان في عمله ورأس الخيط له في الاعتماد والاتّكاء، وهذا ممّا لا شكّ فيه. ومن يرى حجّيّة خبر الواحد إنّما يعتمد على علمه بحجّيّته، لا على مجرّد كون خبر الواحد مورثاً للظنّ، ولم تأت في الآية المباركة صيغة النهي كما في الآية الاُولى، كي يقول قائل: إنّ صيغة النهي ظاهرة بطبعها في المولويّة لا الإرشاد.

وثالثاً: أنّ هناك قرينة في الآية المباركة تدلّ على أنّها للإرشاد إلى عدم

347

صلاحيّة الظنّ لكونه سنداً مباشراً للعمل لا للحكم المولويّ بعدم حجّيّة الظنّ، وتلك القرينة هي: أنّ الآية بصدد الاحتجاج مع المشركين المنكرين لأصل الشريعة، والاحتجاج معهم يجب أن يكون بأمر عقليّ يفحمهم، ولا معنى للاحتجاج مع منكر الشريعة بأمر شرعيّ من قبيل نفي الحجّيّة الشرعيّة.

الثاني: أنّ الأدلّة اللفظيّة على حجّيّة خبر الواحد تتقدّم على الآيات الناهية عن العمل بالظنّ وغير العلم ـ لو سلّمنا دلالتها على عدم الحجّيّة ـ إمّا بالتخصيص أو بالنسخ.

وذلك لأنّ أدلّة حجّيّة خبر الواحد اللفظيّة عبارة عن السنّة القطعيّة وعن آيات قرآنيّة لو تمّت دلالتها على الحجّيّة، والسنّة تدلّ على حجّيّة خبر الثقة لا مطلق الظنّ، فهي أخصّ مطلقاً من الآيات الناهية عن العمل بالظنّ، فتقدّم عليها بالتخصيص.

وأمّا الآيات التي تدعّى دلالتها على حجّيّة خبر الثقة فعمدتها آية النبأ وآية النفر. وقد مضى أنّ النسبة بينهما وبين الآيات الناهية عن العمل بغير العلم عموم من وجه، فلا تصحّ دعوى التخصيص، لكن آيتي النبأ والنفر لو تمّت دلالتهما على حجّيّة خبر الواحد فبالإمكان دعوى كونهما ناسختين للآيات المفروض دلالتها على عدم الحجّيّة. وذلك بناءً على الإيمان بصغرى وكبرى:

أمّا الصغرى: فهي دعوى تأخّر زمان نزول الآيتين عن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم، وأنّ الآيتين مدنيّتان، والآيات الناهية عن العمل بغير العلم مكّيّة.

أمّا آية النبأ: فهي واردة في سورة مدنيّة(1)، ومورد نزولها ـ كما نقلوا بالاستفاضة ـ قصّة إخبار الوليد عن ارتداد بني المصطلق الواقعة بعد الهجرة، فيستكشف من مجموع ذلك كونها واردة في المدينة.


(1) سورة الحجرات، الآية: 6.

348

وأمّا آية النفر: فهي أيضاً واردة في سورة مدنيّة(1)، مضافاً إلى أنّ مضمون آية النفر لا يناسب وجود النبيّ(صلى الله عليه وآله)في مكّة؛ إذ في ذلك الزمان كان المسلمون قليلين ومضطهدين ومبتلين بالأذايا والمحن من قِبَل الأعداء ملتفّين حول رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولا معنى لأن يخاطب مثل هؤلاء بمثل قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون﴾، وإنّما يناسب ذلك مع انتشار الإسلام وكثرة المسلمين، ووجودهم في الأقطار، والقدرة على التخطيط للدعوة والتبشير في المناطق، فبمجموع ذلك نطمئنّ أنّ هذه الآية نزلت أيضاً في المدينة.

وأمّا الآيتان الدالّتان على عدم حجّيّة الظنّ ـ بحسب الفرض ـ فهما بحسب السياق مكّيّتان؛ إذ اُدرجت كلّ منهما في سورة مكّيّة، مضافاً إلى أنّ آية النهي عن العمل بغير العلم أثبتت في وسط آيات كثيرة كلّها تبيّن الاُمور التي تكون قريبة المأخذ من العقل العمليّ والفطرة، وبتتبّع الآيات المدنيّة والمكّيّة بالدقّة يعرف أنّ الآيات المكّيّة عادةً قريبة المأخذ من الفطرة والعقل العمليّ، وأنّ الآيات المدنيّة نزلت بعد أن كانت مطالب العقل العمليّ مفروغاً عنها، فهي تبيّن مطالب اُخرى. وآية الردع عن الظنّ وردت في مقام التعريض بعقائد المشركين، والآيات التي تكون هكذا هي غالباً مكّيّة باعتبار أنّ الإسلام في مكّة كان ابتلاؤه مع المشركين، وفي المدينة كان أغلب مناقشاته وألوان احتجاجه مع المسيحيّين واليهود. فإن حصل الاطمئنان من مجموع هذه القرائن بكون الآيتين مكّيّتين، أو قلنا بأنّ إدراجهما في سورة مكّيّة أمارة تعبّديّة على ذلك، فقد تمّت الصغرى.

وأمّا الكبرى: فهي عبارة عن القول بأنّه إذا دار الأمر في الأدلّة الواردة في


(1) سورة التوبة، الآية: 122.

349

عصر التشريع بين تخصيص الدليل المتأخّر تخصيصاً أفراديّاً ـ وأعني به: ما فيمقابل التخصيص الأزمانيّ أو النسخ ـ وتخصيص الدليل المتقدّم تخصيصاً أزمانيّاً ـ وأعني به: النسخ ـ فالمتعيّن هو النسخ. وسيأتي البحث عن مدى صحّة هذه الكبرى في بحث التعادل والتراجيح إن شاء الله.

فإن تمّت هاتان المقدّمتان، أعني: الصغرى والكبرى، فالنتيجة هي ناسخيّة آيات الحجّيّة لآيات نفي الحجّيّة.

وإن لم تتمّ هاتان المقدّمتان فقد يفرض إنكار الصغرى مع تسليم الكبرى بأن نقول: إنّ آيتي النبأ والنفر وإن كانتا ناسختين لآيات نفي الحجّيّة بناءً على تأخّرهما عنها في النزول، ولكن لم يثبت كون الآيات النافية للحجّيّة مكّيّة. وقد ورد: أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)كان إذا نزل الوحي قد يأمر بإدراج الآية في سورة سابقة ويختار لها موضعاً مناسباً، فلعلّ الآيتين مدنيّتان، وإنّما اُدرجتا في سورة مكّيّة بالتعبّد من رسول الله(صلى الله عليه وآله). إذن فالصغرى غير تامّة. وعندئذ نقول: لو كانت آيات الحجّيّة في علم الله هي المتأخّرة زمناً، فهي ناسخة لآيات نفي الحجّيّة؛ لأنّ المفروض تسليم الكبرى. ولو كانت آيات نفي الحجّيّة هي المتأخّرة زمناً في علم الله، لم نحتمل كونها ناسخة لآيات الحجّيّة؛ إذ كيف يقع مثل هذا النسخ ولا يقول به ولا يبدي احتماله أحد من المسلمين أصلاً، وإنّما هم بين قائل بعدم حجّيّة خبر الواحد وقائل بجعل الحجّيّة وعدم نسخها، ولم ترد بهذا النسخ رواية صحيحة ولا ضعيفة لا من طرق الشيعة ولا من طرق السنّة مع أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يفسّر الآيات ويبيّن المقصود منها. وهذا كلّه ممّا يوجب الاطمئنان والعلم بعدم نسخ الحجّيّة. وهذا بخلاف العكس، فإنّ ناسخيّة دليل الحجّيّة لدليل عدم الحجّيّة أمر محتمل، بل معنى القول بالحجّيّة هو النسخ دائماً، وكلّ مَن يقول بحجّيّة خبر الواحد يقول ـ لا محالة ـ بأنّ حجّيّته نسخت عدم حجّيّته؛ لأنّه من المعلوم أنّ حجّيّته لم تنزل مع نبوّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)في ساعة واحدة.

فظهر: أنّ آيات الحجّيّة إن كانت متأخّرة عن آيات نفي الحجّيّة، فهي ناسخة

350

لها، وإن كانت سابقة عليها، فهما متعارضتان.

ونتيجة ذلك: أنّ الآيات الدالّة على عدم حجّيّة خبر الواحد ساقطة عن الحجّيّة؛ لأنّنا قطعنا بأنّها إمّا مبتلاة بالنسخ، أو بالمعارض؛ إذ لو كانت آيات الحجّيّة متأخّرة عنها فهي ناسخة لها، ولو كانت سابقة عليها فهما متعارضتان بالعموم من وجه. بينما الآيات الدالّة على الحجّيّة نعلم بعدم ابتلائها بالنسخ، ولا نجزم بابتلائها بالمعارض؛ لاحتمال تأخّرها عن آيات نفي الحجّيّة، وعلى تقدير تأخّرها لا تعارضها آيات عدم الحجّيّة. إذن فآيات الحجّيّة حجّة لنا؛ لعدم العلم بما يعارضها.

وقد يفرض إنكار الكبرى، وهي تعيّن ناسخيّة الآيات المتأخّرة، وعندئذ فيقع التعارض بين الآيات والتساقط، وتبقى السيرة الثابتة على الحجّيّة سليمة عن الرادع، فإنّ إطلاقاً قرآنيّاً معارضاً لإطلاق قرآنيّ آخر ليس ممّا يمكن للشارع الاكتفاء به في مقام الردع عن السيرة. فالنتيجة أيضاً هي حجّيّة خبر الواحد.

الثالث: أنّنا لو سلّمنا دلالة الآيتين على عدم الحجّيّة وعدم ابتلائهما بدليل لفظيّ مخصّص ولا ناسخ ولا معارض، قلنا: إنّ إطلاق خطاب أو خطابين بهذا النحو من الدلالة الظنّيّة لا يكفي للردع عن مثل السيرة القائمة على حجّيّة خبر الثقة.

 

2 ـ دعوى التمسّك بالسنّة:

وأمّا السنّة التي يستدلّ بها على عدم حجّيّة خبر الواحد: فيمكن تقسيمها إلى طائفتين:

الاُولى: ما دلّت على عدم جواز العمل بالأخبار التي لم يعلم صدورها عنهم(عليهم السلام).

والثانية: ما دلّت على تحكيم الكتاب الكريم في قبول الأخبار ورفضها.

أمّا الطائفة الاُولى: فقد وجدنا روايتين بهذا المضمون:

الاُولى: ما عن محمّد بن عليّ بن عيسى: كتب إليه(1) يسأله عن العلم المنقول


(1) يعني أبا محمّد العسكريّ(عليه السلام).

351

إلينا عن آبائك وأجدادك قد اختلف علينا فيه، فكيف العمل به على اختلافه، أوالردّ إليك فيما اختلف فيه؟ فكتب(عليه السلام): «ما علمتم أنّه قولنا فالزموه، وما لم تعلموا فردّوه إلينا»(1).

والثانية: ما عن محمّد بن عيسى قال: أقرأني داود بن فرقد الفارسيّ كتابه إلى أبي الحسن الثالث(عليه السلام)وجوابه بخطّه فقال: نسألك عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك قد اختلفوا علينا فيه، كيف العمل به على اختلافه؟ إذا نرد إليك فقد اختلف فيه. فكتب وقرأته: «ما علمتم أنّه قولنا فالزموه، وما لم تعلموا فردّوه إلينا»(2).

وهما روايتان وليستا رواية واحدة؛ لتغاير الراوي والإمام المرويّ عنه.

ويردّ الاستدلال بهاتين الروايتين بوجوه:

الأوّل: منع تماميّة الدلالة؛ لأنّ السؤال إنّما هو عن فرض تعارض الروايات، فالجواب بالأخذ بما علم صدوره عنهم ورفض ما لم يعلم بذلك مقياس راجع إلى باب التعارض، وهو مقياس صحيح، وليس ضابطاً للأخذ بالرواية وعدمها على الإطلاق.

لا يقال: إنّ المورد لا يخصّص الوارد.

فإنّه يقال: إنّ هذا إنّما يتمّ حينما يكون الوارد تامّ الإطلاق، فالمورد عندئذ لا


(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 36، ص 86.

(2) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 9 من صفات القاضي، ح 10، ص 186 نقلاً عن بصائر الدرجات، وكذلك البحار، ج 2، ب 29 من كتاب العلم، ح 33، ص 241 نقلاً عن بصائر الدرجات أيضاً. وفي هامش البحار: (وفي نسخة: إذا أفرد إليك).

352

يخصّصه، كما لو سئل عن إكرام الشيخ المفيد فأجاب: (أكرم العالم). ولكن الوارد في المقام لا إطلاق له؛ لأنّ (ما) الموصولة بمرونتها وإهمالها اللغويّ يكون حالها حال المشترك اللفظيّ، ويكون استعمالها في المقيّد بأن يقصد المقيّد من حاقّ لفظها حقيقة وليس مجازاً، غاية الأمر أنّه يحتاج إلى القرينة كما يحتاج المشترك إلى القرينة، ويكفي المورد قرينة على المراد من الوارد الذي هو بمنزلة المشترك اللفظيّ.

إلّا أنّ هذا الكلام(1) يمكن النظر فيه بمنع مرونة الموصول بالنسبة للمورد بدعوى أنّ مرونته إنّما هي من ناحية الصلة لا غيرها.

ولكن مع ذلك لا يتمّ الإطلاق في مثل هذا الحديث الذي يكون الجواب فيه ظاهراً في مطابقته للسؤال وعدم كونه جواباً عمّا هو أعمّ من المورد، وحتّى لو أبدل الموصول في هذا الحديث بغير الموصول كما لو قال: (خبر علمتم أنّه قولنا الزموه، وخبر لم تعلموا أنّه قولنا ردّوه) لم نحسّ فيه بالإطلاق، فلابدّ أن تكون هنا نكتة اُخرى(2) لعدم تماميّة الإطلاق غير كون (ما) من أدوات


(1) من هنا إلى آخر هذا الردّ الأوّل ممّا أفاده(رحمه الله) في خارج البحث. أمّا ما ذكره في داخل البحث فهو ما مضى: من دعوى عدم الإطلاق في الموصول لمرونته.

(2) لا يبعد القول بعدم تماميّة الإطلاق حتّى بغضّ النظر عن الموصول. وتوضيحه: أنّ الوارد إن كان عامّاً فلا إشكال في أنّ المورد لا يخصّصه، أمّا إن لم يكن فيه ما يدلّ على الشمول عدا الإطلاق، فإن كانت هناك نكتة عرفيّة توجب صرف الوارد عن اختصاصه بالمورد، تمّ فيه الإطلاق بلا إشكال، وعندئذ يأتي القول بأنّ المورد لا يخصّص الوارد. مثاله: ما لو قال: (هل اُكرم الشيخ المفيد؟) فقال: (أكرم العالم). فإنّ مقتضى طبيعة الكلام