191

مبانيها، فمبانيها وإن كانت خاطئة لكن الشارع رأى بحكمته البالغة أنّ إرجاع الناس إلى أصالة عدم التغيّر أصلح من إرجاعهم إلى مرجع آخر، فأمضى الأصل.

هذا. ولا يمكن في المقام التمسّك بسيرة المتشرّعة بالمعنى المغني عن الإمضاء لكونها في طول رأي الشارع؛ لأنّ سيرة المتشرّعة في المقام لا تكشف عن إذن الشارع؛ إذ ليس من المستبعد غفلة جميع المتشرّعة عن احتمال عدم صحّة هذا المسلك، وأن يكون عملهم بذلك تطبيقاً للسيرة العقلائيّة القائمة على أساس النكتة الخاطئة التي لا تقتضي العادة التفاتهم إلى بطلان هذه النكتة، أو عدم مقبوليّة هذا المسلك للشارع(1).

 


(1) مضى منّا أنّ سيرة المتشرّعة بالمعنى العامّ التي تشمل سيرتهم التي يأخذونها من العقلاء يدلّ نفس استقرارها على الإمضاء؛ إذ لو ردع الشارع عنها لانكسرت.

ثُمّ إنّ ما أفاده(رحمه الله): من كون سيرة العقلاء في المقام مبنيّة على نكتة خاطئة، قد يورد عليه بأنّ التطوّر الثابت في اللغة مادامت هي لغة واحدة لا يعدو عن كون الظهورات المتبدّلة فيها بالقياس للظهورات غير المتبدّلة قليلة، فتبقى لأصالة الثبات كاشفيّتها النوعيّة، والدليل على قلّة التطوّرات والتبدّلات للظهور إنّنا حينما نرجع إلى نصوص القرآن الكريم، أو الروايات، أو النصوص الموروثة تأريخيّاً نرى أنّنا نفهم منها معاني متنسّقة ومقبولة، بينما لو كان قد وقع التطوّر الكثير في الظهورات لكنّا نبتلي فيها كثيراً بعبائر غير متّسقة المعنى. وافتراض أنّ التطوّر والتبدّل صار دائماً بنحو قد تبدّل ظهور العبارة المتّسق والمقبول بظهور آخر متّسق ومقبول بعيد بحساب الاحتمالات، وحينما يصل أمر تطوّر اللغة إلى هذا المستوى لا نقبل فرض بناء العقلاء على أصالة الثبات وعدم التغيّر، والعمل بما يفهم الآن من ظهور الكلام القديم.

وقد يقصد اُستاذنا(رحمه الله) أنّ تطوّر اللغة وتبدّل الظهور ضمن زمن طويل ليس على خلاف الطبع وإن كانت نسبة ما تبدّل إلى ما لم يتبدّل نسبة ضئيلة، والعقلاء في باب

192


الظواهر إنّما يتمسّكون بالاُصول العقلائيّة لنفي ما يكون على خلاف الطبع كالغفلة وإرادة الإخفاء ونحو ذلك، وبما أنّ التطوّر في زمن قصير يعدّ عرفاً على خلاف الطبع لكون أسبابه في غاية الندرة عمّم العرف الأمر خطأ على الأمد الطويل، قياساً للمقدار غير الداخل في تجربة الفرد العرفيّ على المقدار الداخل في تجربته.

هذا. ولا أجد بعد الاعتراف بقلّة التطوّرات بالقياس إلى موارد الثبات معنىً معقولاً لافتراض كون الشيء القليل نسبيّاً خلاف الطبع تارةً ووفق الطبع اُخرى إلّا بمعنى ندرة السبب وعدم ندرته، أي: أنّ كون الشيء القليل على خلاف الطبع أو عدمه يدور مدار مقدار ضآلة النسبة المئويّة لوجوده.

أمّا لو قصد بمخالفة الطبع مخالفة المقتضي لأجل مانع فمقتضي التطوّر في اللغة موجود وحتّى في الفتر القصيرة التي فيها تطوّر نادر، فالمفروض أن يقال: إنّ العقلاء أخطأوا حتّى بلحاظ الفترة القصيرة. على أنّه لا مبرّر لجعل المقياس مسألة المقتضي والمانع، فإنّ أساس الاُصول العقلائيّة هو الكشف، والكشف يدور مدار الكثرة والندرة، لا مدار كون ما يقع نادراً مخالفاً لما يتطلّبه المقتضي أو لا.

ثُمّ إنّه قد يورد على إثبات أصالة الثبات في اللغة بالتمسّك ببناء العقلاء بأنّ بناء العقلاء لعلّه ليس على أصالة الثبات، بل هم غفلوا عن أصل احتمال التغيّر فقطعوا بالثبات، لا أنّهم أجروا أصالة الثبات.

وكأنّ اُستاذنا(رحمه الله) كان بصدد علاج هذا المشكل حينما ذكر ـ على ما نقل عنه في دورته الأخيرة ـ: أنّه لولا قبول الشارع لأصالة الثبات فغفلة العقلاء عن أصل احتمال التغيّر تشكّل خطراً على أغراضه، فكان عليه تنبيهم وإلفاتهم إلى هذا الاحتمال.

ونقل أيضاً عن اُستاذنا(رحمه الله) في دورته الأخيرة أنّه قال: إنّه بعد أن كانت نكتة جريان

193

ثُمّ إنّ العلم الإجماليّ بوقوع التطوّر لا يوجب سقوط الظهورات عن الحجّيّة؛ إذ ليس العلم الإجماليّ متعلّقاً بخصوص تطوّر بعض الظهورات الإلزاميّة إلى ما لا يدلّ على الإلزام أو يدلّ على عدم الإلزام، وإنّما العلم الإجماليّ تعلّق بدائرة


أصالة الثبات وعدم النقل عند العقلاء هي غرابة وقوع النقل إذن يشكل جريان أصالة عدم النقل إلى زمان متأخّر إذا علمنا بأصل النقل وشككنا في تقدّمه وتأخّره، فإنّ الغريب كان هو أصل النقل وقد وقع، وبعد فرض وقوعه لا فرق بين أن يكون متقدّماً أو متأخّراً. كما أنّه يشكل جريان أصالة عدم النقل عند معرفة وجود أحداث ووقائع يحتمل كونها سبباً للنقل بخلاف ما إذا شكّ في أصل ما يوجب النقل؛ وذلك لأنّ القدر المتيقّن من انعقاد السيرة هو غير هذا الفرض الذي لا استبعاد فيه في النقل.

ونقل أيضاً عن اُستاذنا(رحمه الله): أنّه لا يمكن أن نجري الاستصحاب الشرعيّ لعدم النقل عند الشكّ في التقدّم والتأخّر كي نصل إلى نفس نتيجة أصالة عدم النقل العقلائيّة، كما قد يتوهّم ذلك في موارد جريان أصالة عدم القرينة أيضاً تأكيداً لها، فيقال: إنّ القرينة منفيّة بالأصل العقلائيّ وبالاستصحاب، والوجه في عدم جريان الاستصحاب: أنّ لتقريب جريانه صيغتين، وكلتاهما غير تامّة:

الاُولى: استصحاب علاقة اللفظ بالمعنى التي تسبّب فعليّة الظهور عند الاستعمال. وهذا غير جار؛ لأنّ هذه العلاقة ليست حكماً شرعيّاً، ولا موضوعاً لحكم شرعيّ. أمّا الأوّل فواضح. وأمّا الثاني فلأنّ موضوع الحكم الشرعيّ إنّما هو الظهور الفعليّ، وإثباته باستصحاب علاقة اللفظ بالمعنى تمسّك بالأصل المثبت.

الثانية: أن يقال: إنّ هذا الكلام لو كان قد صدر في زمان سابق لكان ظاهراً في كذا، فكذلك الأمر في الزمان اللاحق؛ وذلك للاستصحاب. وهذا أيضاً غير تامّ؛ لأنّ هذا استصحاب تعليقيّ في الموضوعات، وهو إن كان حجّة في الأحكام فليس بحجّة في الموضوعات.

194

واسعة تشمل ما كانت من ظهورات إلزاميّة وغيرها، وتبدّل الظهورات غير الإلزاميّة لا يضرّ شيئاً. إذن لا موجب لسقوط الظهورات عن الحجّيّة(1).

 


(1) قد يقال: إنّ شرط إلزاميّة الأثر في كلّ الأطراف لتساقط الاُصول إنّما هو في الاُصول الشرعيّة، أمّا الاُصول العقلائيّة فحجّيّة مثبتاتها تتعارض فيما بينها عند العلم الإجماليّ بالخلاف، ولو لم يكن قد تعلّق العلم بأثر إلزاميّ ينفى بهذه الاُصول في جميع الأطراف.

ويمكن حلّ هذا الإشكال بعدّة وجوه:

الأوّل: أنّ بعض أطراف العلم الإجماليّ في المقام خارج عن موضوع الحجّيّة؛ لعدم ترتّب أثر إلزاميّ ولا ترخيصيّ عليه، كالأخبار الواردة في غير باب الأحكام، فتبقى أصالة الثبات في باقي الأطراف حجّة بلا معارض.

وقد يورد عليه ـ لو سلّم بعدم وجود علم إجماليّ صغير في دائرة نصوص الأحكام ـ بأنّ أصالة الثبات في نصوص غير الأحكام تدلّ بالدلالة الالتزاميّة على وقوع التغيّر في نصوص الأحكام. والدلالة المطابقيّة وإن لم تكن حجّة لعدم ترتّب أثر عليها، ولكن الدلالة الالتزاميّة حجّة؛ لترتّب الأثر عليها، فيقع التعارض. وتبعيّة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة إنّما تقبل في موارد انخرام كشف المطابقيّة لا في موارد عدم حجّيّتها من باب عدم ترتّب الأثر عليها.

الثاني: أن يقال: إنّ الشبهة في المقام غير محصورة، فلا تضرّ بحجّيّة الظواهر.

وقد يورد على ذلك بأنّ كون الشبهة غير محصورة أثره إسقاط العلم الإجماليّ عن التنجيز، وبالتالي جريان الاُصول الترخيصيّة الشرعيّة. أمّا الاُصول العقلائيّة فقد تساقطت بسبب التعارض فيما بينها. وكون الشبهة غير محصورة لا يرفع التعارض الموجود بين الدلالة المطابقيّة للبعض والدلالة الالتزاميّة للبعض الآخر، فأصالة الثبات في بعض الظهورات تثبت لا محالة عدم الثبات في بعض آخر، ويقع التعارض بين الاُصول سواء

195


كانت الشبهة محصورة أو غير محصورة.

نعم، بالإمكان أن نبقى نتمسّك على الإجمال بغالب الظهورات، أي: بما عدا مقدار المعلوم بالإجمال تغيّره، وبالتالي نأخذ بجميع الظهورات الإلزاميّة من باب الاحتياط؛ للعلم الإجماليّ بحجّيّة أكثرها، لكنّ هذا غير حجّيّة الظهورات بالتفصيل التي لها آثارها: من التخصيص، والتقييد، والحكومة، والورود فيما بين الحجج.

ولكن الصحيح: أنّ كون الشبهة غير محصورة ينهي التعارض في المقام. بيان ذلك: أنّ أصالة الثبات في كلّ ظهور قد ابتلت بمؤشّر ضدّها يؤشّر إلى التغيّر وعدم الثبات، وهذا المؤشّر عبارة عن الدلالة الالتزاميّة الناتجة عن باقي الظهورات منضمّـاً إلى العلم الإجماليّ بوقوع التغيّر، ولكن بما أنّ الشبهة غير محصورة والنسبة المئويّة المعلومة التغيّر ضئيلة فالمؤشّر بالنسبة لكلّ واحد من الظهورات بالخصوص ضعيف للغاية إلى حدّ لا يعتبره العقلاء حجّة، وتبقى الحجّيّة خاصّة بالدلالات المطابقيّة، ولا يبقى محذور عن الأخذ بها عدا محذور مخالفة الأثر الإلزاميّ، وهو منفي إمّا بكون الشبهة غير محصورة، أو بأنّ جميع الأطراف ليست ذا أثر إلزاميّ.

الثالث ـ وهو الأقرب إلى كلام اُستاذنا(رحمه الله) الذي نقلناه في المتن ـ: أنّ العلم الإجماليّ بوقوع التغيّر في بعض ما بأيدينا من الظهور ناتج عن حساب الاحتمالات القائم على أساس احتمالات التغيّر في الأطراف، والعلم الإجماليّ القائم على أساس جمع احتمالات الأطراف لا يولّد العلم بقضايا شرطيّة مقدّمها نفي المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف، وتاليها إثباته في طرف آخر؛ لأنّ فرض نفي المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف هو فرض إبطال تجميع احتمالات المعلوم بالإجمال، ومن هنا لا تتكوّن أصلاً دلالة التزاميّة للأصل في كلّ طرف على نفيه في طرف آخر، فيبقى المحذور منحصراً في

196

 

حالة الشكّ في قرينيّة المنفصل:

التفصيل الثالث ـ وهو التفصيل بين الشكّ في قرينيّة المنفصل والشكّ في وجود القرينة المنفصلة، بعدم حجّيّة الظهور في الأوّل، وحجّيّته في الثاني ـ: فالمشهور فرّقوا بين القرينة المتّصلة والقرينة المنفصلة، ففي القرينة المتّصلة ذهبوا إلى التفصيل بين الشكّ في قرينيّة المتّصل، والشكّ في وجود القرينة المتّصلة، فمتى ما شكّ في قرينيّة المتّصل لم يجز التمسّك بالظهور، ومتى ما احتملنا وجود قرينة متّصلة غفلنا عنها جاز لنا التمسّك بالظهور، بينما قالوا في القرينة المنفصلة: إنّه متى شككنا فيها تمسّكنا بالظهور من دون فرق بين كون الشكّ في قرينيّة المنفصل، أو في وجود القرينة المنفصلة.

أمّا كلامهم في باب القرينة المتّصلة فمتين، وهو في الحقيقة ليس تفصيلاً في حجّيّة الظهور، فإنّ الشكّ إن كان في وجود القرينة المتّصلة جرت أصالة عدم القرينة، وتنقّح بذلك موضوع الظهور المتقوّم بعدم القرينة، فنتمسّك بأصالة الظهور. وإن كان الشكّ في قرينيّة الموجود المتّصل فلا تجري أصالة عدم القرينة؛ لما عرفت: من أنّ النكتة في أصالة عدم القرينة المتّصلة إنّما هي غلبة عدم الغفلة، فمع الشكّ في القرينة من وجهة اُخرى، كاحتمال معنىً معيّن للّفظ المتّصل على تقديره يكون قرينة، لا يمكن نفيها بأصالة عدم القرينة، وبالتالي لا يحرز موضوع الظهور كي نتمسّك بأصالة الظهور.

 


مخالفة التكليف الإلزاميّ، وقد فرضنا ـ مثلاً ـ أنّ أطراف العلم الإجماليّ ليس كلّها ذا أثر إلزاميّ، إذن لا يبقى محذور في المقام.

197

وهذا قد يكون بابه باب الشكّ في الظهور كما لو قال المولى: (أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم)، وكلمة (الفسّاق) لم تكن مجملة في نفسها لكنّا كنّا جاهلين بمعناها وأنّها تشمل مرتكب الصغيرة، أو لا؟ فهذا يكون بابه باب احتمال قرينيّة المتّصل على خروج مرتكب الصغيرة، والشكّ فيها يساوق الشكّ في الظهور، فلا ندري هل أنّ هذا الكلام له ظهور في وجوب إكرام العالم المرتكب للصغيرة التارك للكبيرة، أو لا؟ ومع الشكّ في الظهور لا مجال للتمسّك بأصالة الظهور.

وقد يمكن أن يفترض في بعض الأحيان أنّ بابه باب الإجمال لا باب الشكّ في الظهور. وذلك كما في المثال السابق فيما لو افترضنا أنّ (الفاسق) في نفسه مجمل وليس ظاهراً في أحد المعنيين، فلا محالة يسري إجمال ذلك إلى الكلام المتّصل به، فيكون الكلام مجملاً.

ولكن التحقيق: أنّ الظهور التعليقيّ هنا ثابت، أي: أنّ قوله: (أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم) ظاهر في وجوب إكرام كلّ عالم لم يكن مقصوداً بكلمة (الفسّاق)، وأنّ العالم المرتكب للصغيرة إن لم يكن داخلاً فيما اُريد من كلمة (الفاسق) فهو واجب الإكرام. ولذا لو قال المولى: (يجب إكرام كلّ عالم غير فاسق) وقال أيضاً: (تجب مجالسة كلّ عالم غير فاسق)، وعلمنا إجمالاً بأنّ المراد بالفاسق في أحد الكلامين هو مرتكب الكبيرة لا مطلق العاصي تحقّق العلم الإجماليّ بوجوب أحد الأمرين ظاهراً: الإكرام، أو المجالسة بشأن العالم المرتكب للصغيرة.

إذن فالعمدة في باب احتمال قرينيّة المتّصل هي: أنّه لا تجري أصالة عدم القرينة، وبالتالي لا يحرز موضوع الظهور مطلقاً، لا أنّه يحرز عدمه في بعض الأوقات. هذا كلّه في باب القرينة المتّصلة.

أمّا كلامهم في باب القرينة المنفصلة ـ وهو عدم التفصيل في الحجّيّة بين احتمال وجود القرينة واحتمال قرينيّة الموجود ـ فوجهه: أنّ الظهور محرز على

198

كلّ تقدير؛ لأنّ القرينة المنفصلة لاتصادم أصل الظهور، فلا بأس بالتمسّك بالظهور ما لم يحرز عدم إرادته بقرينة معلومة.

والمقصود هنا إبراز تفصيل في قبال هذا الكلام، وهو أن يقال: إنّه لو شككنا في وجود القرينة المنفصلة جاز لنا التمسّك بالظهور. أمّا لو شككنا في قرينيّة المنفصل فهذا الشكّ يصبح أحياناً مانعاً عن التمسّك بالظهور.

وأساس الاختلاف بين المشهور وهذا التفصيل هو: أنّ موضوع الحجّيّة هل هو الظهور والكشف النوعيّ لشخص الكلام الواحد، أو هو الظهور والكشف النوعيّ لمجموع الكلمات الواصلة؟ فعلى الأوّل لا إشكال في حجّيّة ظهور قوله: (أكرم كلّ عالم) في وجوب إكرام فرد شككنا في خروجه بالمخصّص المنفصل، سواء كان ذلك على أساس الشكّ في ورود دليل منفصل يدلّ على عدم وجوب إكرام زيد مثلاً، أو على أساس الشكّ في معنى (زيد) مع العلم بورود الدليل على عدم وجوب إكرامه، وهو قوله: (لا يجب إكرام زيد)، كما لو لم نكن نعلم أنّ كلمة (زيد) هل هي اسم للعالم الفلانيّ، أو للجاهل الفلانيّ، فعلى كلّ تقدير يكون موضوع الحجّيّة ـ وهو ظهور الكلام الأوّل في وجوب إكرام العالم الفلانيّ ـ محرزاً، فنتمسّك به ما لم تثبت لدينا حجّة على خلافه.

بينما على الثاني ـ وهو كون موضوع الحجّيّة هو الظهور والكشف النوعيّ لمجموع الكلمات الواصلة من المولى ـ لا شكّ في أنّ الكشف النوعيّ عن وجوب إكرام العالم الفلانيّ قد تنزّل مستواه؛ إذ لئن كان قوله: (أكرم كلّ عالم) كاشفاً بالظهور السياقي بدرجة 80 % مثلاً نتيجة لحساب الاحتمالات القائم على أساس الغلبة عن وجوب إكرام العالم الفلانيّ، فلا إشكال في أنّ قوله: (لايجب إكرام زيد) كاشف بدرجة 50 % مثلاً عن عدم وجوب إكرامه؛ لأنّنا نحتمل مثلاً 50 % كون (زيد) اسماً لهذا العالم، فعلى أساس الكسر والانكسار بين حسابي الاحتمال

199

ستكون درجة كشف مجموع الكلامين عن وجوب إكرام هذا العالم أضعف من درجة كشف العامّ لو لم يكن مبتلى بهذا المخصّص الاحتماليّ، فقد يدّعى أنّ هذا يضرّ بالحجّيّة مادام المقياس هو الظهور والكشف النوعيّ لمجموع كلمات المولى الواصلة إلينا.

نعم، هذا الكلام لا يتمّ في تمام الموارد، فمثلاً لو قال المولى: (أكرم كلّ عالم)، وقال أيضاً: (لايجب إكرام زيد) وشككنا في أنّ المقصود بـ (زيد) هل هو هذا العالم، أو ذاك الجاهل، فهذا الشكّ يمكن تصويره بشكلين:

الأوّل: أن نكون جاهلين بمعنى (زيد) فلا نعلم أنّ هذا الاسم موضوع لهذا العالم، أو لذاك الجاهل.

وهذا الفرض هو الذي طبّقنا عليه ما عرفته: من كون ورود محتمل القرينيّة موجباً لنقصان الكشف.

الثاني: أن يكون شكّنا على أساس الاشتراك اللفظيّ بأن يكون لدينا عالم مسمّى بـ (زيد)، وجاهل مسمّى بـ (زيد)، ولم نعرف هل أنّ المولى قصد بقوله: (لايجب إكرام زيد) الأوّل، أو الثاني.

وفي هذا الفرض لا ينطبق ما شرحناه: من تأثير محتمل القرينيّة في نقصان الكشف.

وتوضيح الأمر: أنّ في قوله: (أكرم كلّ عالم) حسابين:

أحدهما: حساب الاحتمالات بالنسبة لشمول مراد المولى لزيد العالم، وهذا الحساب قائم على بصيرة ومعرفة أنّ عوامل مطابقة الظهور للمراد ثمانون، وعوامل مخالفته له عشرون مثلاً.

والثاني: حساب الاحتمالات في عالم الملاك، أي أنّه: هل يوجد الملاك لإيجاب إكرام زيد العالم، أو لا؟ وهذا الحساب لو خلّي وطبعه يقتضي احتمال

200

وجود ملاك الوجوب بقدر 50 % مثلاً، واحتمال عدمه بقدر 50 % أيضاً. وهذا الحساب قائم على عدم البصيرة، وعدم المعرفة بعوامل تكوّن ملاك الوجوب، فلا نعرف أنّ نسبة وجود عوامل تكوّن ملاك الوجوب إلى عدمها هل هي أكثر من 50 % كي يترجّح احتمال وجود الملاك، أو أقلّ كي يترجّح احتمال عدمه، أو متساويان كي يتساوى الاحتمالان؟ والنتيجة الطبيعيّة لعدم هذه المعرفة والبصيرة أنّه سيكون احتمال الملاك وعدمه متساويين.

وهذان الحسابان أحدهما واقع في جانب العلّة، والآخر في جانب المعلول، فإنّ الملاك علّة لإرادة المولى، وقد اختلف حساب العلّة عن حساب المعلول في النتيجة، فحساب العلّة كان لصالح وجود ملاك الوجوب بمقدار 50 % ولصالح عدمه بهذا المقدار أيضاً، بينما حساب المعلول كان لصالح إرادة الوجوب بمقدار 80 % ولصالح عدمه بمقدار 20 %، ومتى ما تعارض الحسابان في العلّة والمعلول وكان أحدهما قائماً على أساس البصيرة ومعرفة العوامل، والآخر قائماً على أساس عدم البصيرة وعدم معرفة العوامل أصبح حساب الاحتمالات القائم على أساس البصيرة والمعرفة حاكماً على حساب الاحتمالات القائم على أساس فقدان البصيرة والمعرفة، على تحقيق وتفصيل راجع إلى بحث حساب الاحتمالات. إذن فالنتيجة أنّنا سنظنّ بثبوت ملاك الوجوب بمقدار 50 % .

وفي قوله: (لايجب إكرام زيد) أيضاً حسابان:

الأوّل: حساب الاحتمالات بالنسبة لكون المراد هو زيد العالم وعدمه، وهذا الحساب يقتضي بطبعه كون كلّ واحد من الاحتمالين بمقدار 50 %، وهذا الحساب قائم على أساس عدم البصيرة والخبرة بالملاك الذي يرجّح إرادة زيد العالم، أو عدم إرادته.

والثاني: حساب الاحتمالات بالنسبة لملاك وجوب إكرام زيد العالم، وهذا

201

أيضاً نتيجته 50 %، وهو أيضاً قائم على أساس عدم البصيرة والخبرة بالعوامل.

والحساب الأوّل واقع في جانب المعلول، والثاني في جانب العلّة.

وهذا الحساب الثاني هو عين الحساب الثاني في إكرام كلّ عالم، وهناك قد عرفنا كيف تبدّل الحساب من 50 % إلى 80 % نتيجة لحكومة حساب مرحلة المعلول عليه، إذن قد أصبح حساب العلّة ـ وهو الملاك ـ في قوله: (لايجب إكرام زيد) منتجاً لاحتمال ملاك الوجوب في زيد العالم بقدر 80 %، وعدمه بقدر 20 %، وهذا الحساب قائم على البصيرة والخبرة، فيحكم على حساب المعلول، وهو: أنّه هل اُريد بقوله: (لايجب إكرام زيد) زيد العالم، أو لا؟ لأنّ حساب المعلول كان قائماً على عدم البصيرة والخبرة بالعوامل، فبالتالي نظنّ بقدر 80 % أنّه لم يقصد بقوله: (لايجب إكرام زيد) زيداً العالم. وهذا معنى ما قلناه: من أنّ محتمل القرينيّة هنا لم يوجب نقصان الكشف.

وهذا بخلاف ما إذا كان الشكّ في المراد من قوله: (لايجب إكرام زيد) ناتجاً عن عدم المعرفة بأنّ (زيداً) هل هو اسم لهذا العالم، أو لذاك الجاهل، فإنّ الحسابين عندئذ ليس أحدهما في مرحلة العلّة، والآخر في مرحلة المعلول، كي يحكم أحدهما على الآخر، فإنّ كون (زيد) اسماً لهذا أو اسماً لذاك غير مربوط بملاك إكرام العالم وعدمه، وإنّما هو مربوط بعلل خاصّة غير ذلك، وهي دواعي الوضع في اللغة، لكنّنا علمنا صدفة الملازمة الاتّفاقيّة بين إرادة هذا العالم في قوله: (أكرم كلّ عالم) وكون (زيد) اسماً لذاك الجاهل، فيقع لا محالة التزاحم بين الحسابين، ويقع الكسر والانكسار(1).

 


(1) لا يخفى أنّه لو ورد (أكرم كلّ عالم) وكان احتمال مطابقة هذا العموم للواقع بالنسبة لشخص زيد بقدر ثلاثة من أربعة ـ مثلاً ـ باعتبار أنّ عوامل ثلاثة تقتضي مطابقة

202


الظواهر للواقع في مقابل عامل واحد يقتضي عدم المطابقة، فإنّنا يحصل لنا الظنّ بمقدار ثلاثة من أربعة بوجوب إكرام زيد العالم. وهذا الحساب يقدّم على حساب الملاك الذي لو خلّي وطبعه دلّ بمقدار 50 % على الوجوب، وبمقدار 50 % على عدم الوجوب، وهذا ليس لأجل أنّ الحساب الأوّل قائم على أساس الخبرة والبصيرة، والحساب الثاني قائم على أساس عدم الخبرة والبصيرة، ولذا لو فرضنا أنّ حساب الملاكات أيضاً كان قائماً على أساس الخبرة والبصيرة، وكانت ملاكات الوجوب بقدر ملاكات عدم الوجوب، وورد قوله: (أكرم كلّ عالم) حصل لنا الظنّ أيضاً بمقدار ثلاثة من أربعة بوجوب إكرام زيد.

والسرّ في ذلك: أنّ فكرة الحكومة بمعنىً يقابل فكرة ضرب عدد الاحتمالات بعضها في بعض لمجرّد أنّ العلم الإجماليّ في طرف العلّة أو المعلول قائم على أساس البصيرة بخلاف العلم الإجماليّ الآخر، لا أساس لها. ولا أظنّ أن اُستاذنا(رحمه الله) استقرّ على ذلك بعد هذا الزمان عند تأليفه لكتاب الاُسس، وإنّما الأساس في مثل هذا الفرض هو ضرب الاحتمالات، فإذا كانت احتمالات الملاك ولو عن بصيرة وخبرة عبارة عن احتمالين أحدهما في صالح وجود ملاك الوجوب، والآخر في صالح عدمه، واحتمالات مطابقة الظاهر للمراد أو مخالفته أربعة، ثلاثة منها في صالح المطابقة وواحد منها في صالح عدم المطابقة، فحاصل ضرب الأربعة في الاثنين يساوي ثمانية، تطرح منها الاحتمالات غير المعقولة، وهي احتمالات مطابقة الظاهر للمراد مقترنة بعدم وجود ملاك للوجوب، واحتمال(1)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هذا إنّما يكون غير معقول لو لم نحتمل عدم دخول زيد في هذا العموم مع كونه في نفسه واجب الإكرام، وإلّا فيصبح هذا رقماً إضافيّاً لاحتمالات وجوب إكرام زيد، فهو لا يضرّنا كما إنّه لا ينفعنا؛ لأنّه ليس احتمالاً ناتجاً من الظهور.

203

هذا. ولو ورد (أكرم كلّ عالم) وورد (لايجب إكرام زيد العالم) فهنا لا شكّ على كلّ تقدير في عدم وجوب إكرام زيد العالم، وإن كان يقع الفرق في التكييف الفنّيّ للوصول لوجه عدم ثبوت الوجوب. فبناءً على أنّ موضوع الحجّيّة هو ظهور الكلام الواحد فمقتضى الحجّيّة تامّ في المقام وهو عموم العامّ، ولكن المخصّص مانع. وبناءً على أنّ موضوع الحجّيّة هو مجموع الظهورات الواصلة من المولى لا


عدم المطابقة مقترناً بوجود الملاك، والباقي يساوي أربعة احتمالات، ثلاثة منها في صالح وجوب إكرام زيد، والرابع في صالح عدم وجوب إكرامه. وهكذا يتّضح السرّ في تقدّم حساب الظهور على حساب الملاك. وبنفس البيان يتقدّم حساب الظهور على حساب قوله: (لايجب إكرام زيد) المردّد بين إرادة العالم وإرادة الجاهل من دون فرق بين أن يكون العالم والجاهل كلاهما مسمّيين بـ (زيد)، أو يكون أحدهما المردّد عندنا مسمّى بـ (زيد)، فعلى كلّ تقدير نقول: إنّ احتمالات مطابقة العموم للمراد أو مخالفته ـ وهي أربعة ـ تضرب في احتمالات كون المقصود بـ (زيد) في قوله: (لايجب إكرام زيد) هو هذا العالم أو ذاك الجاهل، وهي احتمالان، حاصل الضرب يساوي ثمانية، تطرح منها الاحتمالات غير المعقولة، وهي احتمالات مطابقة العموم للمراد مقترنة بكون المراد من (زيد) في قوله: (لايجب إكرام زيد) هو العالم، فتبقى الاحتمالات خمسة، اثنان منها في صالح عدم العموم، وثلاثة منها في صالح العموم، بينما الاحتمالات لولا ورود (لايجب إكرام زيد) كانت أربعة، ثلاثة منها في صالح العموم، وواحدة منها في صالح عدم العموم، وهذا يعني وقوع الكسر والانكسار وتنزّل مستوى الكشف النوعيّ.

نعم، الصحيح أنّ هذا لا يؤثّر على الحجّيّة، إمّا لكفاية المقدار الباقي من الكشف، أو للروايات الآمرة بالرجوع إلى أخبارهم الدالّة على الرجوع إلى ظواهرها، أو لكون العبرة في الحجّيّة بالكشف لكلام واحد المنسجم مع الظهورات المربوطة بمعنى سيأتي شرحه في التعليق الآتي.

204

مقتضي للحجّيّة في المقام؛ لأنّ مجموع الكلامين يكشف عن عدم وجوب إكرام زيد العالم لا عن وجوبه.

ثُمّ إنّ هذا المقدار الذي ذكرناه في توجيه هذا التفصيل لا يكفي في مقام الاستدلال على هذا التفصيل؛ إذ غاية ما ثبت بذلك هي نقصان درجة الكشف بعد ورود قوله: (لا يجب إكرام زيد). أمّا أنّ موضوع الحجّيّة هل هو تلك الدرجة من الكشف الأكمل دون هذه الدرجة النازلة؟ فلم يثبت بذلك، فلابدّ في مقام تتميم الاستدلال من دعوى أنّ السيرة العقلائيّة لا تساعد على أزيد من حجّيّة تلك الدرجة الكاملة، ولا أقلّ من الشكّ، وهو يكفي في عدم الحجّيّة.

والمشهور لم يذكروا هذا التفصيل حتّى يجيبوا عنه، ولم يصرّحوا بأنّ العبرة بالكشف الثابت للكلام الأوّل، أو لمجموع الكلمات الواصلة إلينا، لكنّ الذي يظهر من مجموع كلماتهم هو: أنّ العبرة عندهم بالكشف الثابت للكلام الأوّل، وأنّ مقتضى حالهم أنّه لو عرض عليهم هذا التفصيل لأجابوا بأنّ العبرة بالكشف الثابت للكلام الأوّل لا لمجموع الكلمات.

وعلى أيّ حال، فقد يشكل الأمر في المقام على أساس احتمال دعوى كون العبرة في الكشف بمجموع الكلمات الواصلة إلينا من الشارع. وقد عرفت أنّ الكشف قد ينقص بورود محتمل القرينيّة، ومجرّد النقص وإن لم يكن دليلاً على عدم الحجّيّة لكن قد يُدّعى أنّ السيرة العقلائيّة القائمة على حجّيّة الظهور لا تشمل هذه المرتبة من الكشف النوعيّ، أو غير معلومة الشمول لها.

وقد يقال: إذا انتهى الأمر إلى الرجوع إلى السيرة في مقام تشخيص الحجّيّة وعدمها عند ورود محتمل القرينيّة فالبحث الذي بحثناه ـ من إبداء احتمال كون موضوع الحجّيّة الكشف الثابت لمجموع الكلمات الواصلة، وأنّ مرتبة الكشف قد تنزّل بواسطة ورود محتمل القرينيّة ـ أصبح لغواً صرفاً؛ لأنّ المهمّ هو معرفة مفاد

205

السيرة، فإن تمّت السيرة على حجّيّة الظهور عند احتمال قرينيّة المنفصل لم يضرّنا فرض تنزّل درجة الكشف، وإن لم تثبت السيرة على ذلك فلا حجّيّة للظهور عند احتمال قرينيّة المنفصل ولو أنكرنا تنزّل درجة الكشف.

ولكن الواقع: أنّ البحث الذي ذكرناه ليس لغواً في المقام، وتوضيح ذلك:

إنّ المتعارف في باب التفصيلات في حجّيّة الظهور غير التفصيل الراجع إلى التعبّد كدعوى سقوط حجّيّة ظهور القرآن بالتعبّد من الشارع، هو الرجوع إثباتاً ونفياً إلى السيرة العقلائيّة. والتحقيق: أنّ هناك طريقين لتمحيص التفصيلات:

الطريق الأوّل: النظر إلى نكتة السيرة العقلائيّة، كي نرى أنّها هل هي موجودة فيما ادّعي في التفصيل عدم حجّيّته، أو لا؟ فإنّ من شكّ في السيرة العمليّة يمكنه تمييز الحقّ بالرجوع إلى نكتتها؛ لأنّ الأصل العقلائيّ قائم على أساس الكشف النوعيّ، ولا يوجد التعبّد الصرف في مرتكز أذهان العقلاء، إذن فبالإمكان النظر إلى المورد الذي ادّعى فيه المفصّل عدم حجّيّة الظهور، فإن رأينا عدم ثبوت الكشف النوعيّ في ذلك المورد ثبت أنّ الحقّ هو التفصيل، وإن رأينا ثبوت الكشف النوعيّ فيه بلا طروّ نقص على درجة الكشف عرفنا بطلان التفصيل، وإن لم يمكن إنهاء البحث عن هذا الطريق، كما لو ثبت الكشف النوعيّ في المورد الذي ادّعى المفصّل فيه عدم الحجّيّة، ولكن كانت درجة الكشف فيه أضعف منها في سائر الموارد، احتجنا إلى الرجوع إلى الطريق الثاني.

والطريق الثاني: هو الرجوع إلى الوجدان والسيرة بلحاظ العمل الخارجيّ، والفحص عن الشواهد والقرائن على قصور السيرة أو شمولها لمورد النزاع.

وبهذا ظهر الوجه فيما مضى من البحث عن نقصان درجة الكشف لمجموع الكلمات عند ورود محتمل القرينيّة، فإنّه ينبغي أوّلاً البحث عن درجة الكشف، وأنّه هل طرأ عليها نقصان، أو لا؟ فإن ثبت بقاء الكشف بوضعه الطبيعيّ بلا طروّ

206

نقص ثبت عدم مضرّيّة ورود محتمل القرينيّة المنفصل بحجّيّة الظهور. وإن ثبت تنزّل درجة الكشف وصلت النوبة إلى دعوى القصور في السيرة العقلائيّة، فيرجع عندئذ كلّ شخص في ذلك إلى اعتقاده ووجدانه وملاحظته وما يراه من الشواهد والقرائن على قصور السيرة أو شمولها. فإن ثبت الشمول ولو بالشواهد والقرائن بطل التفصيل. وإن جزمنا بالقصور، أو شككنا فيه اتّجه التفصيل، إلّا أن يوجد ملجأ آخر كسيرة المتشرّعة مثلاً.

هذا. ولازال بياننا للطريق الأوّل من طريقي تمحيص التفاصيل ناقصاً يجب تكميله، فقد قلنا في بيان هذا الطريق: إنّ العبرة بالكشف النوعيّ، وإنّ التعبّد بعيد عن مرتكز العقلاء، لكن بقي هنا شيء، وهو: أنّه هل العبرة بالكشف النوعيّ عند العبد، أو العبرة بالكشف النوعيّ عند المولى؟ المتفاهم من الكشف عند الأصحاب الذي فرض موضوعاً للحجّيّة هو الكشف عند العبد. وعلى هذا يوجد مجال لدعوى التفصيل السابق، أي: التفصيل بين احتمال قرينيّة المنفصل واحتمال القرينة المنفصلة، بدعوى نقصان درجة الكشف عند احتمال قرينيّة المنفصل.

ولكن الصحيح: أنّ المقياس هو الكشف عند المولى لا الكشف عند العبد، وعليه لا يبقى أساس لذاك التفصيل؛ إذ الكشف عند المولى لا يختلف حاله بورود محتمل القرينيّة وعدم وروده، وإنّما يختلف الحال في ذلك لدى العبد، فلنا هنا كلامان:

1 ـ دعوى عدم تغيّر درجة الكشف عند المولى بورود محتمل القرينيّة.

2 ـ دعوى إنّ المقياس إنّما هو الكشف عند المولى لا الكشف عند العبد.

أمّا الكلام الأوّل: فبيانه: إنّ الكشف النوعيّ عند العبد إن كان يقلّ بورود (لايجب إكرام زيد)؛ لوقوع الكسر والانكسار في حساب الاحتمالات بين الثمانين بالمئة في جانب العامّ والخمسين بالمئة في جانب محتمل المخصّصيّة،

207

فهو لا يقلّ عند المولى، فإنّ الكشف النوعيّ عند المولى لا يعني فرض شكّ المولى في مراده بالنسبة لكلّ ظاهر من ظواهر كلامه، بل لو التفت إلى كلّ كلام له بالخصوص كهذا العامّ أو ذاك المحتمل مخصّصيّته، لقطع بمطابقة ظاهره لمراده أو مخالفته له، ولم يتصوّر له شكّ، ولا مورد للكشف النوعيّ أصلاً. وإنّما الكشف النوعيّ للمولى يعني أنّه لو لاحظ مجموع ظواهر كلامه لرأى أنّ ثمانين بالمئة منها تطابق مراده، فهذا هو معنى الكشف النوعيّ لكلامه عن مراده. وهذا كما ترى لا يختلف الحال فيه بين فرض ورود محتمل القرينيّة المنفصل وعدمه، فعلى كلّ تقدير لو فرض التفاته بالخصوص إلى هذا العامّ أو ذاك الخاصّ، فلا شكّ له في المراد، ولا معنى للكشف النوعيّ بهذا الاعتبار. ولو فرض التفاته إجمالاً إلى ظواهر كلماته فهو يعلم أنّ ثمانين بالمئة منها مطابق لمراده، فالكشف النوعيّ بهذا المعنى ثابت على كلّ حال. فميزان الحجّيّة لو فرض عبارة عن الكشف النوعيّ بمقدار ثمانين بالمئة فهو ثابت في العامّ في المقام، ولو فرض أنّ العشرين بالمئة الذي هو في صالح التخصيص ليست نسبته إلى التخصيصات على حدّ سواء، ففرض التخصيص مع وصوله إلى المكلّف مجملاً أقرب من فرض التخصيص مع عدم وصوله أصلاً. قلنا: إنّ هذا لا يضرّ بالحجّيّة ومثَلُه مَثَلُ ما لو فرضنا أنّ البريد الموصل لمخصّصات المولى ابتلى بالعطب أو قلّة الشغل، ومن هنا كان احتمال وجود مخصّص لم يصل أقوى ممّا إذا كان البريد سالماً فعّالاً ومع ذلك لم يصل المخصّص، ومن الواضح عدم تأثير ذلك في حجّيّة الظهور الواصل(1).

 


(1) لا يخفى أنّ الكشف النوعيّ إذا لوحظ في أيّ ظهور من الظهورات وهو ثمانون بالمئة ـ مثلاً ـ لا يقلّ عند العبد بورود محتمل القرينيّة عنه عند المولى، فإنّ مشكلة تنزّل

208


مستوى الكشف إنّما جاءت بلحاظ اعتبار كشف مجموع الكلامين، وبهذا اللحاظ تأتي المشكلة حتّى في الكشف النوعيّ لدى المولى، فيقال: إنّ المولى وإن كان يعلم بمطابقة ظواهر كلامه لمراده بمقدار ثمانين بالمئة لكنّه يعلم بمطابقة ظواهر كلامه التي وصل إلى العبد ما يحتمل قرينيّته على الخلاف بمقدار أقلّ من ثمانين بالمئة. والواقع: إنّ الكشف النوعيّ لمجموع الكلامين وإن كان قد ينزل لكنّ الظنّ النوعيّ يبقى محفوظاً ولو بدرجة نازلة ما لم نواجه التعارض أو القرينة على الخلاف، وهذا الظنّ النوعيّ النازل كاف في الحجّيّة بحسب بناء العقلاء، وبالجملة لا أثر فيما نحن فيه بين فرض كون العبرة في حجّيّة الظهور بكشف الكلام الواحد أو بكشف مجموع الكلمات الواصلة، ولا بين كون المقياس هو الكشف لدى المولى أو الكشف لدى العبد. نعم، لا يبعد أن يكون أصل كون العبرة بالظنّ النوعيّ لا الشخصيّ بنكتة أنّ المقياس إنّما هو الكشف عند المولى لا الكشف عند العبد. وهنا احتمال ثالث غير كون العبرة بالكشف الناشئ عن مجموع الظهورات المربوطة، وغير كون العبرة بالكشف الناشئ عن كلّ ظهور في ذاته، وهو كون العبرة بالكشف المنسجم مع الظهورات المربوطة. وتوضيح فرق هذا الاحتمال الثالث عن الاحتمالين الأوّلين مع بيان الثمرة العمليّة يتمّ بالالتفات إلى ثلاثة أمثلة:

المثال الأوّل: فرض ورود عامّ مبتلىً بمخصّص منفصل مع وجود معارض لذاك المخصّص المنفصل.

المثال الثاني: فرض ورود نصّين من المولى متطابقين في الظهور مع ورود نصّ ثالث يعارضهما في ظهوره.

المثال الثالث: فرض ورود عامّ مبتلىً بمخصّص منفصل مردّد مفهوماً بين الأقلّ والأكثر ـ ولنفرض الآن أنّ هذه النصوص كلّها قطعيّة السند وأنّ التعارض إنّما هو فيما بين

209


الظهورات ـ فإن قلنا بأنّ العبرة بكشف كلّ ظهور في ذاته تمّت المواقف المشهورة عن الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في كلّ هذه الأمثلة الثلاثة:

فقد قالوا في المثال الأوّل: إنّ المخصّص مع ما يعارضه يتساقطان ويبقى العامّ حجّة. وهذا صحيح؛ لأنّ العامّ كان بحدّ ذاته حجّة؛ لما فيه من الكشف النوعيّ، وما يزاحمه في الحجّيّة كان هو المخصّص، والمفروض سقوطه بالتعارض، ولا يسقط العامّ مع سقوط المخصّص ومعارضه؛ لأنّ دليل الحجّيّة إنّما يشمل العامّ في طول سقوط المخصّص؛ وذلك لحكومة المخصّص وتقدّمه على العامّ.

وقد قالوا في المثال الثاني: إنّ مقتضى القاعدة تساقط كلّ النصوص الثلاثة. وهذا صحيح؛ لأنّ نسبة دليل الحجّيّة إلى الكشف النوعيّ الثابت للظهور الثالث وإلى الكشف النوعيّ الثابت لأيّ واحد من الأوّلين على حدّ سواء، فترجيح أحد الطرفين على الآخر ترجيح بلا مرجّح فيتمّ التساقط.

وقد قالوا في المثال الثالث: إنّ العامّ حجّة فيما شكّ في دخوله في المخصّص، وإنّ الكلام المنفصل المحتمل قرينيّته لا يضرّ بحجّيّة ظهور الكلام الأوّل. وهذا أيضاً صحيح؛ لأنّ الكشف النوعيّ للعامّ ثابت على حاله.

وإن قلنا بأنّ العبرة بالكشف الناتج عن مجموع الظهورات المربوطة، فرأي الأصحاب في المثال الأوّل قد يصحّح بدعوى أنّ كشف العامّ عن العموم وإن كان مزاحماً بكشف المخصّص ولكنّه مؤيّد بما يعارض المخصّص، فقوّة الكشف بعد الكسر والانكسار ستكون إلى جانب العامّ، ولكن لازم ذلك أن يقال في المثال الثاني أيضاً بأنّ النصّين المتوافقين قد يكونان أقوى من النصّ الثالث، فالكشف يكون بعد الكسر والانكسار إلى جانبهما، ولكنّ هذا ليس معهوداً من الأصحاب كما هو واضح، وليس متعارفاً في السيرة

210


العقلائيّة، وهذا دليل على بطلان هذا المبنى وهو كون العبرة بالكشف الناتج عن مجموع الظهورات. وعلى كلّ حال، فبناءً على هذا المبنى قد يناقش فيما ذهب إليه الأصحاب في المثال الثالث: من حجّيّة العامّ أو الكلام الأوّل، بما مضى: من أنّ وجود ما يحتمل مخصّصيّته أو قرينيّته يضعّف الكشف، إلّا أن يقال بحجّيّة هذا الكشف رغم ما طرأ عليه من الضعف.

وإن قلنا بأنّ العبرة بالكشف المنسجم مع الظهورات المربوطة، أي: الكشف الثابت لبعض الظهورات مع عدم وجود ظهور آخر لكلام المولى على خلافه إلّا ظهوراً محكوماً للظهور الأوّل لضعفه مثلاً، فرأي الأصحاب في المثال الأوّل وهو بقاء العامّ على الحجّيّة لا يتمّ ؛ لأنّ ظهور العامّ يقابله ظهور آخر أقوى، وهو ظهور المخصّص المفروض صدوره من المولى وإن كان معارضاً بظهور آخر صادر أيضاً من المولى، إذن فظهور العامّ يسقط مع سقوط المخصّص ومعارضه، ويتمّ رأي الأصحاب في المثال الثاني وهو كون مقتضى القاعدة سقوط جميع النصوص؛ إذ لا يوجد كشف منسجم مع جميع النصوص، ويتمّ رأي الأصحاب في المثال الثالث أيضاً؛ لأنّ العامّ له ظهور في العموم، والمخصّص لم يثبت شموله لمورد الكلام، فدعوى إرادة العموم تنسجم مع المخصّص؛ لأنّ المخصّص مجمل بحسب الفرض، وكذا الحال في كلّ كلام منفصل محتمل القرينيّة.

هذه هي الاحتمالات الثلاثة ونتائجها، فإن ثبتت سيرة المتشرّعة أو سيرة العقلاء وفق أحد هذه الاحتمالات أخذنا به، وإلّا فإن علمنا بحياديّة ارتكاز العقلاء حول احتمالين من هذه الاحتمالات أو حولها جميعاً كان حلّ المطلب هو الرجوع إلى الروايات الآمرة بالرجوع إلى أخبارهم (عليهم الصلاة والسلام)؛ إذ معنى ذلك الرجوع إلى ظواهرها، وهو يعني حجّيّة كلّ ظهور في ذاته، وهذا يوافق الاحتمال الذي قلنا: إنّه يتمّ عليه كلّ مواقف

211

وأمّا الكلام الثاني ـ وهو دعوى أنّ العبرة في الحجّيّة بالكشف لدى المولى دون الكشف لدى العبد ـ: فيتّضح هذا بمجرّد الالتفات إلى طبع القضيّة ولبّ الأمر


الأصحاب حول الأمثلة الثلاثة، أمّا إذا شككنا في ارتكاز العقلاء ولم نعلم أنّه هل هو قائم على أساس الاحتمال الأوّل، أو الثاني، أو الثالث، أو تردّدنا بين احتمالين منها ولم نجزم بحياديّة ارتكاز العقلاء في المقام، فتلك الروايات لا تحلّ المشكل في المقام؛ لأنّها وإن دلّت على حجّيّة ظهور الأخبار الواردة منهم(عليهم السلام)لكنّها منصرفة إلى حجّيّة الظهور بالشكل الذي لا يخالف ارتكازات العقلاء في هذا الباب، وقد فرضنا الشكّ في تعيين الارتكاز في المقام.

والذي يرجّح عندي من هذه المحتملات الثلاثة هو القول بأنّ العبرة بالكشف المنسجم مع الظهورات المربوطة بالمعنى الذي عرفت.

أمّا إذا لم تكن الأسانيد قطعيّة فمتى ما سرى تعارض الدلالات إلى الأسانيد وقلنا بالتساقط لا التخيير صحّ ما عليه المشهور: من الرجوع إلى العامّ الفوقانيّ المطابق لأحدهما والمخالف للآخر رغم إيماننا بالاحتمال الثالث وهو كون العبرة بالكشف المنسجم مع الظهورات المربوطة؛ لأنّه بعد سقوط السند لا يكون أصل صدور الظهور المخالف لذاك العامّ ثابتاً، ومتى ما لم يسر التعارض إلى الأسانيد صحّ ما ذكرناه: من أنّ العامّ الفوقانيّ يسقط مع النصّين الآخرين، والمقياس في سريان التعارض إلى الأسانيد وعدمه ـ على ما نقّحناه في بحث التعادل والتراجيح ـ هو: أنّ التعارض بين الظهورين غير قطعيّي السند إن كان بالتباين سرى التعارض إلى السند، وإن كان بمثل العموم من وجه وجزمنا بصدق الراوي في شهادته بعدم المخصّص المتّصل المخرج لمادّة الاجتماع من تحت أحد العامّين لم يسر التعارض إلى السند، أمّا مع عدم الجزم بذلك فأيضاً يصحّ كلام المشهور؛ لأنّ الظهور المخالف للعامّ الفوقانيّ غير ثابت؛ لأنّ التعارض سار إلى السند بمقدار شهادة الراوي بعدم المخصّص المتّصل.

212

المفروض، فمن المعلوم أنّ المولى إنّما يجعل الحجّيّة للأمارات بهدف الوصول إلى أغراضه، والمقياس الذي يقرّبه في نظره إلى أغراضه إنّما هو الكشف عنده لا الكشف عند العبد، فيسقط المولى ـ مثلاً ـ القياس عن الحجّيّة وإن كان كاشفاً في نظر العبد؛ لغالبيّة خطئه في نظر المولى؛ لعلمه بأنّ الشريعة قائمة على أساس جمع المتفرّقات وتفريق المجتمعات.

هذا، مضافاً إلى وجود شاهد على ما نقول وهو إسقاط الاحتمالات الخارجيّة من الحساب، فلو تقوّى لدى العبد احتمال عدم إرادة العموم لا لورود ما يحتمل قرينيّته، بل لأمر خارجيّ كالاطّلاع على صفة لزيد يستبعد معها إرادة المولى لإكرامه، لم يكن الظهور ساقطاً عن الحجّيّة بشأن هذا العبد مع أنّ كشف المجموع من كلام المولى وهذه القرينة الخارجيّة أصبح ضعيفاً. فإن ادّعي رأساً أنّ حجّيّة الظهور مشروطة بعدم قوّة احتمال خلافه، أو بعدم الظنّ بالخلاف، أو بالظنّ بالوفاق، فهذا رجوع إلى التفصيل الآتي. أمّا إذا قُبلت حجّيّة الظهور عقلائيّاً في مثل هذا المثال مع إنكارها في فرض ورود محتمل القرينيّة منفصلاً فالتفصيل بينهما يكون تعبّديّاً بحتاً، وهو بعيد عن مشرب العقلاء.

والحاصل: أنّ السرّ في حجّيّة الظهور مع تقوّي احتمال خلافه لأمر خارجيّ غير كلام آخر للمولى إنّما هو أنّ العبرة بالكشف عند المولى وهو لا يقلّ بذلك، فيجب إسقاط الاحتمالات الخارجيّة من الحساب، وعين هذه النكتة موجودة فيما نحن فيه وهو فرض ورود محتمل القرينيّة.

وبما ذكرناه من الشاهد يدفع ما يمكن أنّ يدّعى: من أنّه وإن كان مقتضى الصناعة كون المقياس في الحجّيّة التي يجعلها المولى هو الكشف عند المولى لا الكشف عند العبد ولكن العقلاء لعلّهم أخطأوا فاعتمدوا في باب الحجّيّة على الكشف عند العبد، فلو احتمل شخص هذا الاحتمال دفعنا احتماله بأنّه لو كان

213

الأمر كذلك لم يكن وجه لإسقاط الاحتمالات الخارجيّة من الحساب، وكان ينبغيأن يشترط ـ مثلاً ـ في حجّيّة الظهور ثبوت ظنّ بدرجة خاصّة على طبقه.

وبهذا أيضاً ترفع شبهة اُخرى، وهي أن يقال: إنّ حجّيّة الظهور عند العقلاء فيما بينهم لعلّها ذاتيّة، أي: أنّها مجعولة بنفس جعل المولويّة بمعنى: أنّ المولويّة المجعولة من قِبَلهم إنّما جعلت بمقدار دائرة الظهورات، فالحجّيّة العقلائيّة للظهور لم تكن بجعل المولى كي يقال: إنّ مقتضى الصناعة كون المقياس هو الكشف لدى المولى، ومن المحتمل أنّه لوحظت في جعل المولويّة دائرة الكشف لدى العبد دون الكشف لدى المولى، فيقال أيضاً في الجواب: إنّه لو كان الأمر كذلك لم يكن وجه لإسقاط الاحتمالات الخارجيّة من الحساب.

هذا. ولا يخفى أنّ ما ذكرناه: من أنّ الحجّيّة العقلائيّة للظهور تدور مدار الكشف عند المولى إنّما ينسجم مع التصوّر الذي مضى منّا للحجّيّة العقلائيّة للظهور، وهو دعوى أنّ كلّ واحد منهم لو تقمّص بقميص المولويّة لجعل الظنّ حجّة على عبده. أمّا لو كان الدليل على حجّيّة الظهور مجرّد عمل عقلائيّ خارجاً بالظهور في مقام تحصيل أغراضهم بدعوى إفادة ذلك عادة توجب المشي عليها في الشرعيّات، فلو لم يرض الشارع بذلك لردع عنه، فلا يثبت بهذا المسلك أزيد من حجّيّة الظهور في دائرة الكشف عند العبد؛ إذ العمل بالظهور عند العقلاء في أغراضهم إنّما هو في دائرة الكشف لدى نفس العاملين، بل العمل في الحقيقة يكون بالظنّ، فتثبت بذلك حجّيّة الظنّ المطلق لولا ردع الشارع عن سائر أقسام الظنون.

 

حالة الظنّ بالخلاف:

التفصيل الرابع: هو القول باختصاص حجّيّة الظهور بفرض عدم الظنّ بالخلاف. بل ادّعى بعض أكثر من ذلك وهو اختصاص الحجّيّة بفرض الظنّ بمطابقته للمراد.

214

والمعروف في دفع ذلك هو دعوى أنّ السيرة العقلائيّة لا تختصّ بفرض الظنّ بالوفاق، أو عدم الظنّ بالخلاف، بل تشمل الظهور الذي ليس على وفقه ظنّ، أو كان الظنّ بخلافه.

وتعمّق المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في ذلك بأزيد من هذا المقدار من البيان فذكر: أنّ العقلاء يعملون بالظهور في مجالين: أحدهما في باب تحصيل أغراضهم الشخصيّة، والآخر في باب امتثال أمر المولى وتحصيل غرض المولى. وهناك فرق بين عملهم في المجالين، ففي المجال الأوّل لا يعملون بالظهور إلّا مع وجود الظنّ على طبقه. وفي المجال الثاني يعملون بالظهور حتّى مع الظنّ بالخلاف، وذلك من باب الاقتصار في المجال الثاني على أدنى مراتب الكشف، وهو مجرّد الظنّ النوعيّ، وعدم الاعتماد في المجال الأوّل إلّا على المرتبة القويّة من الكشف، وهي الظنّ الفعليّ(1).

أقول: إنّ تفطّنه(قدس سره) لوجود الفرق بين المجالين واشتراطه الظنّ الفعليّ في المجال الأوّل، وعدم مضرّيّة الظنّ بالخلاف في المجال الثاني في محلّه جدّاً، لكن تفسير ذلك على أساس الفرق في مرتبة الكشف المعتمد عليها، والاقتصار على


(1) الموجود في أجود التقريرات ـ ج 2، ص 94 و95 ـ هو التفصيل بين مقام الاحتجاج بين المولى والعبد ومقام كشف المرادات الواقعيّة، كما لو أراد تاجر تعيين الأسعار عن طريق مطالعة كتاب تاجر إلى تاجر آخر أخبره فيه بالأسعار، ففي الأوّل يكون الظهور حجّة حتّى ولو ظنّ بالخلاف؛ لصحّة احتجاج المولى على العبد وبالعكس بذلك، وفي الثاني يكون الأخذ بالظهور مقيّداً ـ على حدّ التعبير الذي جاء في أجود التقريرات ـ بأعلى مراتب الظنّ وهي مرتبة الاطمئنان. وكأنّ هذا التعبير هو الذي أوحى إلى ذهن اُستاذنا(رحمه الله) بأنّ نكتة الفرق بين المجالين في نظر المحقّق النائينيّ(رحمه الله) تعود إلى مدى درجة الكشف المطلوبة هنا وهناك، فأورد عليه بما أورد.

215

أدنى المراتب في الثاني، والاعتماد على المرتبة العليا في الأوّل غير صحيح. والصحيح: أنّ مرتبة الكشف تقريباً واحدة، وإنّما أساس هذا الفرق ـ كما عرفت فيما مضى ـ هو الفرق في كون الكشف المعتمد عليه مضافاً إلى المخاطب أو إلى المتكلّم، ففي مجال الأغراض الشخصيّة للمخاطب يكون الأساس هو الكشف بالنسبة للمخاطب، أمّا في مجال الأغراض المولويّة فالمولى يجعل الحجّيّة بلحاظ الكشف لديه، ولا يعتني بظنّ المخاطب صدفة بالخلاف أو عدم ظنّه بالوفاق، وهذا الظنّ بالخلاف لا يقلّل الكشف عند المولى.

نعم، يمكن أن يفترض في بعض الموارد ما يقلّل الكشف عند المولى، كما لو فرضنا أنّ القياس(1) تغلّب مطابقته للواقع، فإذا نظرالمولى إجمالاً إلى قائمة ظواهر كلامه التي يخالفها القياس رأى أنّه ليس الغالب فيها مطابقتها للمراد، وعندئذ تختلّ السيرة العقلائيّة على حجّيّة الظهور في هذا المورد، فالقياس ـ على أقلّ التقديرين ـ يمنع عن حجّيّة الظهور ولو كان في نفسه غير حجّة.

ولحلّ هذه المشكلة وإثبات حجّيّة الظهور في مثل هذا المورد توجد لدينا عدّة وجوه:

الأوّل: التمسّك بأخبار الردع عن القياس بناءً على أنّ ظاهر لسان بعضها هو فرض وجود القياس كعدمه بتاتاً كما ليس ببعيد.

الثاني: التمسّك بسيرة المتشرّعة. فإنّ موارد تصادم الظهور للقياس كثيرة مع أنّ القياس أمر طال التشاجر في شأنه بين فقهاء العامّة والشيعة، وخاض الأئمّة(عليهم السلام)


(1) بالنسبة لخصوص القياس أودّ أن اُنبّه إلى أنّ هذا المثال غير واقعيّ وإنّما هو مثال افتراضيّ، فإنّ علمنا بطبيعة الشريعة القائمة على أساس تفريق المتشابهات وجمع المتفرّقات، وعلى أساس ملاكات غير منضبطة بظواهر الاُمور يكشف لنا عن عدم قيمة نوعيّة حقيقيّة للقياس.