153


وثالثةً تُذكر لإبطال التمسّك بالسيرة لإثبات حجّيّة الظهور نهائيّاً، فلا سيرة العقلاء تثبت؛ لأنّ طريقة خطابات الشارع غير مألوفة لدى المجتمعات العقلائيّة. ولا سيرة المتشرّعة تثبت؛ لما مضى منّا: من أنّ سيرة المتشرّعة على العمل بالظهور يمرّ طريق إثبات معاصرتها للمعصوم عبر ثبوت سيرة العقلاء، فإذا لم تثبت سيرة العقلاء لم تثبت سيرة المتشرّعة.

قال(رحمه الله): والصحيح ثبوت سيرة المتشرّعة في المقام، وكذلك ثبوت سيرة العقلاء بلاحاجة إلى المرور بسيرة المتشرّعة.

أمّا ثبوت سيرة المتشرّعة فصحيح أنّ إثباته يمرّ عبر ثبوت سيرة العقلاء، لكن ليس المقصود بذلك سيرة العقلاء على العمل بظواهر كلمات الأئمّة(عليهم السلام)، وإنّما المقصود بذلك هو سيرة العقلاء على العمل بظواهر كلماتهم فيما بينهم، فإنّ هذا كاف في أن يكون افتراض اُسلوب آخر للتفاهم مع الأئمّة(عليهم السلام) ملفتاً للانتباه، وموجباً لتكاثر النقول والوصول إلينا.

وأمّا ثبوت سيرة العقلاء بغضّ النظر عن سيرة المتشرّعة فلأنّ سيرة العقلاء لها مجالان: أحدهما مجال الأغراض التكوينيّة، والآخر مجال الإدانة والمسؤوليّة والحجّيّة بين يدي المولى. وكثرة الاعتماد على القرائن المنفصلة إن أوجبت تزلزل السيرة فإنّما هو بلحاظ المجال الأوّل؛ إذ ملاك الحجّيّة في المجال الأوّل هو الكاشفيّة التي تزلزلت بكثرة الاعتماد على القرائن المنفصلة. أمّا في المجال الثاني فنفس كلام المولى له موضوعيّة بمعنى من المعاني.

نعم، لا بأس بأن يقال: إنّ هذا العمل لابدّ وأن يكون بعد الفحص عن المخصّصات والقرائن بقدر الإمكان. إذن فالظاهر أنّ كبرى السيرة العقلائيّة بمرتكزاتها منطبقة على المقام.

154


هذا كلّه لو سُلّم بوجود طريقة غير متعارفة لدى الأئمّة(عليهم السلام) ولم نقل بأنّ هذا المطلب وقعت المبالغة فيه، وإلّا فلا منشأ للشبهة من أساسها. انتهى المنقول عن اُستاذنا رضوان الله عليه.

أقول: أمّا مرور إثبات سيرة المتشرّعة على حجّيّة الظهور عبر ثبوت سيرة العقلاء فإن صحّ بالنسبة لإثبات حجّيّة بعض أقسام الظهور بعد تسليم كبرى حجّيّة الظهور في الشريعة في الجملة، لم يصحّ بالنسبة لإثبات أصل الكبرى؛ إذ لولا كبرى حجّيّة الظهور في الشريعة لكان للظهور بديل آخر كان هو الحجّة؛ إذ لا شكّ أنّ المتشرّعة كانوا يأخذون أحكام الشريعة بطريق من الطرق، وعندئذ يكفي لإثبات سيرة المتشرّعة بالمعنى الأعمّ على العمل بظهور الشريعة مجرّد احتمال ثبوت السيرة العقلائيّة على العمل بالظهور وعدم احتمال ثبوتها على بديل له، فيقال: لو كان عمل المتشرّعة على الظهور كان من المعقول عدم تناقل ذلك؛ لاحتمال أنّها كانت تطابق سيرة العقلاء فلم تنقل، ولو كان عمل المتشرّعة على البديل لكان ينقل لنا ذلك؛ لأهمّيّته وكثرة الابتلاء به، وبهذا يثبت عمل المتشرّعة بالظهور، وهذا بنفسه دليل أيضاً على أنّ سيرة العقلاء على العمل بالظهور الثابتة في زماننا كان ثابتاً وقتئذ.

وأمّا كون بناء العقلاء في مجال الأغراض المولويّة شاملاً لظهورات مولىً يُكثر الاعتماد على القرائن المنفصلة لافتراض موضوعيّة لظهور الكلام، فإنّما يتمّ على تقريب لنا مضى لتفسير ثبوت سيرة العقلاء على حجّيّة الظهور: من تفسيره بأنّ العقلاء جعلوا المولويّات العقلائيّة في حدود ظواهر الكلام. أمّا بناءً على التقريب الذي مضى منه(رحمه الله): من أنّ كلاًّ منهم لو تقمّص قميص المولويّة لجعل الظهور حجّة، فمن الواضح أنّ هذا أيضاً راجع إلى نكتة الكاشفيّة التي فرضنا تزلزلها بالاعتماد على القرائن المنفصلة.

155


وأمّا عدم ابتعاد الشارع كثيراً عن طريقة العقلاء فصحيح على ما نراه من عدم قبول التخصيص والتقييد إلّا في ثوب معقول عقلائيّاً وعرفاً. فمثلاً حينما نقيّد ما ورد: من قبول شهادة مَن لم يعرف فسقه، بما دلّ على اشتراط حسن الظاهر، نقيّده بثوب أنّ المقصود ممّن لا يعرف فسقه مَن لم يعرف فسقه بين المرتبطين به: من إخوانه وجيرانه، لا مَن لم يعرف فسقه لدى الحاكم.

ولعلّ قولهم أحياناً: إنّ العامّ الفلانيّ آب عن التخصيص إشارة إلى فقدان ثوب للتخصيص يقبله العرف، وإن كان من المحتمل كونه إشارة إلى وجود مزيّة خاصّة: من قوّة دلاليّة، أو مناسبة عرفيّة، أو ما شابه ذلك ممّا يجعله آبياً عن التخصيص.

وهناك مورد آخر منقول عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في دورته الأخيرة لفرض الافتراق بين التمسّك بسيرة العقلاء والتمسّك بسيرة المتشرّعة، وهو الظهورات التي تستنبط من قِبَل الفقيه الألمعيّ، والتي لا يلتفت إليها الإنسان الاعتياديّ عادة، والتي تتوقّف على مناسبات الحكم والموضوع، أو نكات اُخرى دقيقة. والظهورات التي تتمّ بدعوى إلغاء خصوصيّة مورد النصّ وتعدّي العرف إلى غير المورد. فظهورات من هذا القبيل تشبه الرأي والقياس، فيتأتّى احتمال مردوعيّتها بأدلّة الردع عن الرأي والقياس. صحيح أنّ أدلّة الردع عن الرأي والقياس لا يتمّ لها إطلاق لمثل هذه الموارد لأنّ هذه الموارد هي على أيّ حال داخلة في باب الظهور اللفظيّ لا في باب التمسّك بذات الرأي والقياس. لكن احتمال شمول النهي عن الرأي والقياس لأمثال هذه الظواهر كاف لعدم إمكانيّة التمسّك بسيرة العقلاء لإثبات حجّيّتها؛ لأنّ التمسّك بها فرع القطع بعدم الردع الملازم للإمضاء، وقد جاء احتمال الردع. ففي مثل هذه الموارد لابدّ من اللجوء إلى سيرة المتشرّعة التي ليس التمسّك بها بحاجة إلى الإمضاء.

156


وقد نقل عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) عدّة أجوبة على هذا الكلام:

الأوّل: أنّ هذا المقدار لا يكفي في الردع عن السيرة بعد فرض انعقادها وعموم نكتتها؛ إذ لابدّ من ردع واضح صريح في إرادة ذلك، فمجرّد التشابه بين بعض الظهورات والقياس أو إعمال الرأي المردوع عنه ـ الذي هو بنفسه قياس مع الفارق ـ لا يشكّل ردعاً، فعدم الردع المناسب ثابت.

الثاني: أنّنا نثبت بسيرة العقلاء حجّيّة الظواهر التي ليست من هذا القبيل، من قبيل العمومات والإطلاقات اللفظيّة، والمقاميّة، والسياقيّة، ثُمّ نتمسّك ببعض هذه الظواهر التي دخلت في القدر المتيقّن لإثبات حجّيّة بقيّة الظواهر. ونذكر هنا طائفتين:

1 ـ ما دلّ على التمسّك والعمل بكتاب الله والسنّة والرجوع إليها. وموضوع هذه الطائفة هو الكتاب والسنّة. فإمّا أن يكون المقصود بذلك الجانب اللفظيّ، وعندئذ يكون مقتضى الإطلاق هو التمسّك بكلّ الدلالات اللفظيّة. وإمّا أن يكون المقصود بذلك هو الجانب المعنويّ، وعندئذ فالإطلاق المقاميّ يقتضي كون المقصود التمسّك بمعاني الكتاب والسنّة عن طريق فهم العقلاء والعرف للكتاب والسنّة، فرجعنا مرّة اُخرى إلى حجّيّة جميع الظهورات.

2 ـ ما دلّ على تحكيم دلالات القرآن ابتداءً، من قبيل رواية عبد الأعلى مولى آل سام التي جاء فيها: «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله»، وروايات العرض على كتاب الله والأخذ بما وافق وطرح ما خالف كتاب الله. وهذه الطائفة ظاهرة في حجّيّة كلّ الدلالات اللفظيّة العرفيّة للكتاب.

الثالث: أنّ النهي عن العمل بالرأي والقياس لم يكن في بدايات عصر التشريع، وإنّما جاء في زمن متأخّر حيث شاع التمسّك بالقياس. فسيرة العقلاء على حجّيّة كلّ ظهور

157


كانت ثابتة في صدر التشريع، وتمّ إمضاؤها بعدم الردع، فاحتمال الردع يكون راجعاً إلى احتمال نسخ الإمضاء، فيستصحب بقاء الإمضاء. وهذا عمل بإطلاق دليل الاستصحاب، وهذا الإطلاق داخل في القدر المتيقّن ممّا ثبتت حجّيّته بسيرة العقلاء.

الرابع: (وهذا إن لم يكن جواباً تامّاً فهو مؤيّد للجوابين السابقين على أقلّ تقدير) أنّه روي عن الأئمّة(عليهم السلام)التمسّك بأمثال تلك الظهورات، وبالتتبّع يمكن الحصول على مجموعة معتدّ بها من تلك الروايات. فهناك روايات يتمسّك فيها الإمام بالإطلاقات والعمومات العرفيّة، وهذه خارجة عن محلّ الكلام. وهناك روايات وردت بصدد تفسير الآيات سواء كان تفسيراً وفق الظاهر أو خلاف الظاهر، وهذه أيضاً خارجة عن محلّ الكلام. وهناك روايات يتمسّك فيها الإمام(عليه السلام)بظهور لا نعرف وجهه أصلاً، وهي أيضاً خارجة عن محلّ الكلام، وقد تكون مؤيّدة. وهناك روايات يذكر الإمام فيها حكماً ويصير في مقام استفادة ذلك من القرآن، فيتمسّك بظهور ضعيف ممّا هو بحاجة إلى ضمّ مناسبات الحكم والموضوع، أو الالتفات إلى نكتة لا يفهمها إلّا الألمعيّ من الناس، وهذه هي محلّ الشاهد في المقام. وهي روايات كثيرة وإن كانت جملة منها لا تخلو عن المناقشة سنداً أو دلالة. منها ما يلي:

1 ـ ما عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: «قال الله تعالى في كتابه: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذَىً مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَام أَوْ صَدَقَة أَوْ نُسُك﴾ فمن عرض له أذى أو وجع فتعاطى ما لا ينبغي للمحرم إذا كان صحيحاً فصيام ثلاثة أيّام، والصدقة على عشرة مساكين يشبعهم من الطعام، والنسك شاة يذبحها فيأكل ويطعم، وإنّما عليه واحد من ذلك»(1).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 9، ب 14 من بقيّة كفّارات الإحرام، ح 2، ص 296.

158


فظاهر كلام الإمام هو تفريع الحكم الذي ذكره على الآية المباركة، بينما لا يمكن استنباط ما ذكره من الآية إلّا بمناسبات الحكم والموضوع، وقد عمّم الحكم لكلّ ما لا ينبغي للمحرم، في حين أنّ الآية إنّما جرت في خصوص حلق الشعر(1).

2 ـ ما عن معاوية بن عمّار قال: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن طائر أهليّ اُدخل الحرم حيّاً، فقال: لايمسّ؛ لأنّ الله تعالى يقول: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾»(2) . فاستدلّ الإمام(عليه السلام)بالآية المباركة لعدم جواز مسّ الطير الداخل في الحرم، في حين أنّ كلمة ﴿مَن﴾ لا تشمل الحيوانات.

3 ـ ما عن محمّد بن مسلم قال: «سألت أحدهما(عليهما السلام) عن رجل كانت له جارية فاُعتقت، فزوّجت، فولدت، أيصلح لمولاها الأوّل أن يتزوّج ابنتها؟ قال: لا، هي حرام وهي ابنته. والحرّة والمملوكة في هذا سواء، ثُمّ قرأ هذه الآية: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ﴾»(3).

فإلغاء الإمام(عليه السلام) لخصوصيّة الكون في حجر الزوج وتعدّيه إلى غير ذلك إنّماهو بمناسبات الحكم والموضوع التي جعل القيد وارداً مورد الغالب، كما ادّعاه الفقهاء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) التعميم لا يفهم من الآية ولو بظهور ضعيف، فهذا فهم للإمام(عليه السلام) باعتبار أنّ عنده علم الكتاب لا تمسّك بالظهور، فالرواية أجنبيّة عن المقام.

(2) الوسائل، ج 9، ب 12 من كفّارات الصيد، ح 11، ص 201. وهذا كما ترى خارجعمّا نحن فيه؛ لأنّ تطبيق (مَن) على غير ذوي العقول يكون بعلم الإمام(عليه السلام) لا بظهور ضعيف للكلام.

(3) الوسائل، ج 14، ب 18 من أبواب مايحرم بالمصاهرة ونحوها، ح 2، ص 351.

159


بعد ذلك في هذه الآية(1).

4 ـ ما عن عبد الله بن سنان قال: «قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): على الإمام أن يسمع من خلفه وإن كثروا؟ فقال: ليقرأ قراءة وسطاً يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا﴾»(2). فإنّ حاقّ مدلول هذه الآية غير واضح. ولكن تستظهر منها القراءة بصورة متوسّطة كما استفاده الإمام(عليه السلام).

5 ـ صحيحة زرارة، قال: «قلت لأبي جعفر(عليه السلام): ألا تخبرني من أين علمت وقلت: إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك فقال: يا زرارة، قاله رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ونزل به الكتاب من الله عزّ وجلّ؛ لأنّ الله عزّ وجلّ قال: ﴿فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُم﴾. فعرفنا: أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل، ثمّ قال: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ﴾. فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا: أنّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين، ثمّ فصل بين الكلام فقال: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُم﴾. فعرفنا حين قال ﴿بِرُؤُوسِكُم﴾: أنّ المسح ببعض الرأس؛ لمكان الباء، ثمّ وصل الرجلين بالرأس، كما وصل اليدين بالوجه، فقال: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَينِ﴾. فعرفنا حين وصلهما بالرأس: أنّ المسح على بعضهما. ثُمّ فسّر ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله)للناس فضيّعوه...»(3).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بل هذا الحديث أجنبيّ عن المقام؛ إذ هذه البنت لم تكن ربيبة لهذا الرجل؛ لأنّها ليست بنت زوجته، وإنّما هي بنت من كانت زوجته، فهذا التعدّي إنّما هو من علم الإمام(عليه السلام) بالكتاب وليس تمسّكاً بظهور ضعيف.

(2) الوسائل، ج 4، ب 33 من القراءة في الصلاة، ح 3، ص 773 و774. واحتمال كون مقصود الإمام(عليه السلام) تفسير الآية لا الاستدلال بها وارد، فتصبح الرواية أجنبيّة عمّا نحن فيه.

(3) الوسائل، ج 1، ب 23 من الوضوء، ح 1، ص 291.

160


فقد استدلّ الإمام(عليه السلام) بالآية المباركة على كون المسح ببعض الرأس لمكان الباء، مع أنّ الباء قيل: إنّها لا تكون للتبعيض بل للإلصاق، ومع ذلك يمكن استفادة التبعيض منها؛ لأنّ إلصاق المسح بالرأس بسبب الباء يشعر عرفاً بتخفيف الإلصاق الذي يكفي فيه مسح البعض.

6 ـ رواية الحسن بن عليّ الصيرفيّ، عن بعض أصحابنا، قال: «سئل أبو عبدالله(عليه السلام)عن السعي بين الصفا والمروة فريضة أم سنّة؟ فقال: فريضة. قلت: أو ليس قد قال الله عزّ وجلّ: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾؟ قال: كان ذلك في عمرة القضاء، إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام من الصفا والمروة، فتشاغل رجل ترك السعي حتّى انقضت الأيّام واُعيدت الأصنام، فجاؤوا إليه فقالوا: يا رسول الله، إنّ فلاناً لم يسع بين الصفا والمروة وقد اُعيدت الأصنام. فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ أي: وعليهما الأصنام»(1).

فقد استظهر السائل من نفي الجناح في الآية الترخيص ونفي الوجوب، فإنّ الواجب لا يناسب عرفاً أن يعبّر عنه بلا جناح، وإن كان بحسب اللغة لا ضير فيه. والإمام(عليه السلام)قد أمضى هذا الاستظهار، ولكنّه حاول أن يلفته إلى أنّ التعبير بذلك إنّما جاء بلحاظ خصوصيّة واقعة معيّنة كان يتوهّم فيها سقوط السعي، لابتلائه بمحذور تواجد الأصنام، فنفي الجناح ليس بلحاظ أصل عمل السعي بل بلحاظ إتيانه في تلك الحال. وكلّ هذا إعمال عنايات ومناسبات عرفيّة تتدخّل في تشكيل الظهور كما هو واضح.

7 ـ رواية حكم بن الحكم قال: «سمعت أبا عبد الله(عليه السلام) يقول وسئل عن الصلاة في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 9، ب 1 من السعي، ح 6، ص 511.

161


البيع والكنائس فقال: صلّ فيها قد رأيتها ما أنظفها. قلت: أيصلّى فيها وإن كانوا يصلّون فيها؟ قال: نعم، أما تقرأ القرآن: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً﴾ صلّ إلى القبلة وغرّ بهم»(1).

8 ـ رواية عبد الأعلى مولى آل سام قال: «قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ فقال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجلّ، قال الله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج﴾امسح عليه»(2).

إلى غير ذلك من روايات ممّا إذا كان في كثير منها مجال للنقاش دلالةً أو سنداً أمكن أن تجعل بمجموعها مؤيّدة للجوابين السابقين.

انتهى ما نقل عن اُستاذنا(رحمه الله) في الجواب على الشبهة الماضية.

وأيضاً نقل عنه(رحمه الله) أنّه قال: وقد يقال: إنّ الدلالات الالتزاميّة العرفيّة ـ وهي الالتزاميّة التي ليست من باب استحالة الانفكاك عقلاً، من قبيل دلالة ما يدلّ على مطهّريّة الماء على طهارته بالالتزام العرفيّ ـ قد ورد الردع عن حجّيّتها في رواية أبان المعروفة التي ردعت أبان عن إنكاره لصحّة كون دية قطع أربعة أصابع من أصابع المرأة أقلّ من دية ثلاثة أصابع، مع أنّه لا شكّ في الدلالة الالتزاميّة العرفيّة لدليل مقدار دية قطع ثلاثة أصابع من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 3، ب 13 من مكان المصلّي، ح 3، ص 438. وهذا أيضاً خارج عمّا نحن فيه؛ لعدم وجود أيّ ظهور للآية الكريمة في المقصود.

(2) الوسائل، ج 1، ب 39 من الوضوء، ح 5، ص 327. وهذا أيضاً خارج عمّا نحن فيه؛ لعدم ظهور الآية الكريمة إلّا في نفي وجوب المسح على العضو المجروح للحرج، أمّا ما هو البديل فلا يظهر من الآية الكريمة ولو بظهور ضعيف.

162

 

2 ـ تعيين موضوع الحجّيّة

وأمّا الجهة الثانية ـ وهي في البحث عن موضوع حجّيّة الظهور ـ فنقول: إنّ للكلام قسمين من الظهور:

القسم الأوّل: هو الظهور التصوّريّ، وهو عبارة عن إلقاء اللفظ معناه الموضوع له في الذهن. وهذا بابه ليس باب الكشف بل باب العلّيّة والإيجاد، ويكفي في إيجاد المعنى في الذهن الوضع، وكون السامع عالماً به، فعندئذ يؤثّر اللفظ أثره من نقش المعنى في الذهن ولو صدر من جدار لا من إنسان واع.

 


أصابعها على عدم كون مقدار دية قطع أربعة أصابع أقلّ من ذلك.

وهذا الكلام قد يجعل إشكالاً على حجّيّة القطع الناشئ عن طريق العقل. ويجاب عليه بأنّ الإمام لعلّه إنّما عاتب أبان على تقصيره في مقدّمات حصول القطع لا على الالتزام بما قطع به.

وقد يجعل إشكالاً على ثبوت إمضاء الشريعة للسيرة العقلائيّة القائمة على حجّيّة الدلالات الالتزاميّة العرفيّة.

والجواب: أنّ الزجر والتأنيب لم يكن لعدم حجّيّة الدلالة الالتزاميّة العرفيّة، بل كان على تحكيمها على النصّ، حيث سمع أبان بالعراق النصّ على كون دية أربعة أصابع أقلّ من دية ثلاثة أصابع، وردّه بعدم معقوليّة ذلك، بل إنّ الإمام(عليه السلام)ذكر له ذلك مباشرة وبقي مع ذلك مصرّاً على الاستغراب، وهذا ما سمّـاه الإمام(عليه السلام)بالقياس وأ نّبه عليه.

وإن شئت قلت: إنّ وضوح الفرق في الجملة بين الرجل والمرأة في الدية في الشريعة الإسلاميّة لا يبقي للنصّ دلالة من هذا القبيل، فلا يبقى إلّا الاستحسان والقياس.

انتهى المنقول عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

163

القسم الثاني: هو الظهور التصديقيّ. وهذا بابه باب الكشف والدلالة، ولا يكفي فيه مجرّد الوضع والعلم به بل يكون متوقّفاً على عدم القرينة المتّصلة. ولهذا الظهور شقّان طوليّان:

الأوّل: الدلالة الاستعماليّة، وهي الدلالة على أنّ المتكلّم قد قصد بإيجاده للفظ إخطار المعنى التصوّريّ الذي مضى ذكره في ذهن السامع. وهذه الدلالة غير موجودة في مثل اللفظ الصادر من الجدار، وتوجد في كلام الإنسان الواعي ولو مع القرينة على كون مقصوده الهزل والاستهزاء ونحو ذلك. نعم، لا توجد مع القرينة المتّصلة على عدم إرادة إخطار ذاك المعنى، كما لو قامت قرينة على إرادة إخطار خلاف ذلك كما في القرينة على المجاز، أو قامت قرينة على مجرّد عدم إرادة تفهيم المعنى الموضوع له.

والثاني: الدلالة الجدّيّة، وهي الدلالة الكاشفة عن كون داعي المتكلّم إلى إخطار المعنى الذي أراد إخطاره هو الجدّ لا الهزل ونحوه، فيقصد حقّاً بمثل: (زيد قائم) الحكاية، وبمثل (صلّ) الطلب التشريعيّ، وهكذا. وهي دلالة سياقيّة تنتفي عند صدور اللفظ من الجدار، وكذلك عند قيام القرينة المتّصلة على الخلاف ولو على مثل الهزل والاستهزاء.

والظهور التصديقيّ بكلا شقّيه يكون في مرحلة عدم القرينة المتّصلة، ولا يكون مشروطاً بعدم القرينة المنفصلة.

فتحصّل: أنّ هناك مرحلتين للظهور:

مرحلة الوضع، وهي مرحلة الظهور التصوّريّ.

ومرحلة عدم القرينة المتّصلة، وهي مرحلة الظهور التصديقيّ.

وأمّا مرحلة عدم القرينة المنفصلة فليست مرحلة للظهور أصلاً، وإنّما هي مرحلة الحجّيّة.

164

وكلمات المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في ذلك مضطربة، ففي بعضها يجعل مرحلة عدم القرينة المنفصلة مرحلة الحجّيّة والكشف، ولفظ الكشف وإن أمكن حمله على معنى الظهور كما يمكن حمله على معنى الحجّيّة، ولكن قد قرن به كلمة الحجّيّة. وفي بعضها جاء التصريح بجعل ذلك مرحلة للظهور، فذكر(رحمه الله): أنّ الظهور التصديقيّ على قسمين: الظهور فيما قال، والظهور فيما أراد. فالأوّل يكفي فيه عدم القرينة المتّصلة، والثاني مشروط بعدم القرينة المنفصلة(1).

والتحقيق: أنّه إن أراد(قدس سره) بالظهور فيما أراد الدلالة الجدّيّة في قبال الدلالة الاستعماليّة كفى فيه عدم القرينة المتّصلة. وإن أراد بذلك البناء على أنّ هذا هو


(1) هذا التشويش واقع فيما هو المنقول في أجود التقريرات عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله)في المجلّد الثاني في بحث الظهور، ص 91. أمّا ما هو المنقول عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في أجود التقريرات في المجلّد الثاني في التعادل والتراجيح، ص 508، فظاهره أنّ القرينة المنفصلة ترفع المرتبة الثانية من الظهور التصديقيّ. وأمّا ما هو المنقول عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في أجود التقريرات في المجلّد الأوّل في العامّ والخاصّ،ص 454 و455، فظاهره أنّ القرينة المنفصلة ترفع حجّيّة الظهور ولا ترفع أصل الظهور. وكلّ هذه التشويشات تنتفي إذا افترضنا أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله)يقصد بالمرتبة الثانية للظهور التصديقيّ الحجّيّة، فكأنّه يرى للكلام دلالة تصوّريّة، ودلالة تصديقيّة، وحجّيّة للظهور. ويرى أنّ القرينة المنفصلة لا تهدم الظهور ولكن تهدم حجّيّة الظهور. وأمّا مسألة الحاجة إلى أصالة عدم القرينة وعدمها فالذي يظهر من المنقول عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله)في أجود التقريرات، المجلّد الثاني في بحث التعادل والتراجيح، ص 508، هو عدم حاجة حجّيّة الظهور إلى أصالة عدم القرينة في القرينة المتّصلة فضلاً عن المنفصلة. وكذا ظاهر ما جاء في نفس المجلّد في بحث الظهور، ص 93، حيث افترض أصالة الظهور في عرض أصالة عدم الغفلة عن ذكر القرينة وغير محتاجة إليها، فراجع.

165

مراد المتكلّم فهو مرحلة الحجّيّة لا الظهور. وإن أراد قسماً آخر للظهور فنحن لا نتعقّله.

وبعد هذا نقول: لا إشكال في أنّ المقصود بحجّيّة الظهور هو إثبات لزوم البناء على الدلالة التصديقيّة الجدّيّة، فإنّ الدلالتين الاُوليين لا علاقة لهما بما هما ـ وبالمباشرة ـ بالوظيفة العمليّة أصلاً. والكلام يقع في أنّ موضوع الحجّيّة هل هو الدلالة التصوّريّة مع عدم العلم بالقرينة على الخلاف، أو الدلالة التصديقيّة مع عدم العلم بالقرينة المنفصلة على الخلاف، أو الدلالة التصديقيّة مع عدم القرينة المنفصلة على الخلاف واقعاً؟ اختار المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) الأوّل، والمحقّق النائينيّ(رحمه الله)الثالث، والمختار هو الثاني.

هذا. ولا يخفى أنّه وإن كان البناء على العمل بالظهور عقلائيّاً في موارد الشكّ في وجود القرينة عدا ما سيأتي استثناؤه ـ إن شاء الله تعالى ـ ممّا لا إشكال فيه، ولكن يقع البحث فلسفيّاً في تحليل جعل الحجّيّة للعقلاء في هذه الموارد، فبناء على ما اختاره المحقّق النائينيّ(رحمه الله)يرجع الأصل العقلائيّ مع الشكّ في وجود القرينة إلى أصلين:

الأوّل: أصالة عدم القرينة.

والثاني: حجّيّة الظهور.

وفائدة الأصل الأوّل هي تنقيح موضوع الأصل الثاني؛ إذ قد اُخذ في موضوع حجّيّة الظهور عدم القرينة المتّصلة والمنفصلة. أمّا القرينة المتّصلة فلأنّ عدمها دخيل في أصل تكوّن الظهور، وأمّا القرينة المنفصلة فلأنّ المفروض في مبناه(رحمه الله)دخل عدمها في حجّيّة الظهور، فلابدّ أوّلاً من إحراز عدم القرينة ولو بالأصل ثُمّ التمسّك بحجّيّة الظهور.

وأمّا بناءً على ما اختاره المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) فلا حاجة إلى أصالة عدم

166

القرينة أصلاً، فإنّ موضوع الحجّيّة ـ بحسب مبناه ـ مركّب من الظهور التصوّريّ، وعدم العلم بالقرينة، وكلا الجزءين محرزان بالوجدان.

وأمّا بناءً على المبنى المختار ففي القرينة المنفصلة لا حاجة إلى دفعها بالأصل؛ لأنّ جزء الموضوع هو عدم العلم بالقرينة المنفصلة وهو ثابت بالوجدان، لا عدم القرينة المنفصلة واقعاً.

وفي القرينة المتّصلة نكون بحاجة إلى دفعها بالأصل؛ لأنّ عدمها دخيل في أصل تكوّن الظهور.

ثُمّ إنّ المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) برهن على عدم الحاجة إلى أصالة عدم القرينة في القرينة المنفصلة بأنّ من المستحيل دخل عدم القرينة المنفصلة في الواقع في الحجّيّة عند العقلاء؛ لأنّ الشيء بوجوده الواقعيّ وبغضّ النظر عن وصوله ولو بمرتبة الوصول الاحتماليّ لا يعقل مانعيّته عن تأثير الظهور المولويّ في جري العقلاء على وفقه؛ لأنّ جري العقلاء عمل اختياريّ من قِبَل العاقل، والعمل الاختياريّ يستحيل أن يتأثّر بأمر خارج عن صقع النفس وغير واصل ببعض مراتب الوصول، فالذي يمكن أن يمنع العقلاء عن العمل بالظهور ليس هو القرينة بوجودها الواقعيّ، بل إمّا هو العلم بوجود القرينة، أو احتماله. والثاني خلف؛ إذ هو يعني سقوط الظهور عن الحجّيّة بمجرّد احتمال القرينة المنفصلة، وهذا مقطوع البطلان فيتعيّن الأوّل(1).

 


(1) واستمرّ(رحمه الله) ـ في نهاية الدراية، ج 2، ص 66 و67 ـ في تكميل البرهان بإسرائه إلى باب القرينة المتّصلة أيضاً ببيان: أنّ الموضوع للحجّيّة ليس هو الظهور الفعليّ (يعني الظهور التصديقيّ) وإنّما هو الظهور الوضعيّ؛ إذ لو كان الموضوع هو الظهور الفعليّ للزم


167


عدم إمكان التمسّك بالظهور عند الشكّ في وجود القرينة المتّصلة ولو بمعونة أصالة عدم القرينة؛ لأنّ البناء على عدم المانع إنّما يجري مع فرض إحراز المقتضي، بينما الشكّ في وجود القرينة يستدعي الشكّ في أصل المقتضي بناءً على كون المقتضي هو الظهور الفعليّ. إذن فموضوع بناء العرف والعقلاء هو الظهور الوضعيّ الذاتيّ، والذي يمنع عن تأثير هذا الظهور في تحقيق الحجّيّة لا يمكن أن يكون هو عدم القرينة المتّصلة واقعاً؛ لأنّ الشيء بوجوده الواقعيّ لايؤثّر في عمل العقلاء وبنائهم، فيجب أن يكون المانع إمّا هو العلم بالقرينة، أو احتمالها. والثاني باطل، فليس مجرّد الاحتمال صارفاً لهم عن العمل بالظهور، حيث إنّه ليس مفهماً لغيره. فالمتعيّن هو الأوّل.

أقول: إنّ قاعدة المقتضي والمانع ليست قاعدة عقلائيّة؛ لأنّ القواعد العقلائيّة لاتكون إلّا كاشفة، لا تعبّديّة محضة، ولا كاشفيّة لهذه القاعدة، والبناء على عدم القرينة ليس من باب البناء على عدم المانع بعد إحراز المقتضي، وإنّما هو من باب ندرة غفلة السامع عن القرينة، إذن فبالإمكان أن يكون موضوع الحجّيّة هو الظهور الفعليّ بوجوده الواصل ولو وصولاً ظنّيّاً من خلال أصالة عدم الغفلة دون كفاية مجرّد الوصول الاحتماليّ. وكان بإمكانه(رحمه الله) أن يترك الحديث عن قاعدة المقتضي والمانع، ويقول ابتداءً: إنّه عند الشكّ في القرينة المتّصلة لا يخلو الأمر من أحد فروض ثلاثة:

1 ـ عدم ثبوت الحجّيّة.

2 ـ ثبوت الحجّيّة على أساس أصالة عدم القرينة.

3 ـ ثبوت الحجّيّة مادمنا غير جازمين بالقرينة المنفصلة بلا حاجة إلى أصالة عدم القرينة.

والأوّل: باطل؛ لأنّ المفروض مسلّميّة أصل الحجّيّة عند الشكّ في القرينة، وإنّما

168

أقول: إنّ هذا الكلام مبنيّ على ما هو المشهور في تفسير السيرة العقلائيّة على جعل الحجّيّة: من أنّها عبارة عن الجري العمليّ للعقلاء طبق الظهور، فيقال: إنّ الواقع بما هو يستحيل أن يؤثّر في عمل العقلاء. أمّا على ما مضى منّا: من تفسير الحجّيّة العقلائيّة بمعنى أنّ كلّ عاقل من العقلاء لو تقمّص قميص المولويّة لجعل


الكلام في أنّ تخريج ذلك فنّيّاً هل هو على أساس أصالة عدم القرينة المنقّحة لموضوع الحجّيّة، أو على أساس دعوى الحجّيّة ابتداءً.

والثاني: يعني دخل واقع القرينة وعدمها في الحساب؛ إذ لولا دخل ذلك لا معنى للتمسّك بأصالة عدم القرينة، بينما لا يعقل دخل الواقعيّات وبقطع النظر عن الوصول في البناءات والأعمال العقلائيّة.

والثالث: هو المقصود، وهو عبارة اُخرى عن كون موضوع الحجّيّة هو الظهور الوضعيّ زائداً عدم العلم بالقرينة على الخلاف.

والجواب: أنّ بالإمكان افتراض أنّ موضوع الحجّيّة هو الظهور الوضعيّ زائداً وصول عدم القرينة وصولاً علميّاً أو ظنّيّاً ناشئاً من غلبة عدم الغفلة من دون كفاية مجرّد وصوله وصولاً احتماليّاً. أو قل: إنّ موضوع الحجّيّة هو الظهور الفعليّ التصديقيّ الواصل عن طريق مجموع أمرين: أحدهما ثبوت الظهور الوضعيّ، والآخر ثبوت عدم القرينة ثبوتاً علميّاً، أو ناشئاً عن غلبة عدم الغفلة دون كفاية مجرّد احتمال عدم القرينة. وأمّا مسلّميّة الحجّيّة عند الشكّ في القرينة المتّصلة فنحن لا نسلّم بها إلّا بحدود ما إذا كان احتمال القرينة ناشئاً من احتمال الغفلة. أمّا إذا نشأ من القطع بتقطيع النصّ مثلاً، كما لو تمزّق جزء من رسالة المولى واحتملنا وجود القرينة المتّصلة في الجزء التالف فلا نسلّم بحجّيّة الظهور كما سيأتي في المتن إن شاء الله تعالى. وهذا كلّه بغضّ النظر عمّا سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في المتن: من إشكال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على أصل فكرة أنّ المانع عن الحجّيّة لا يمكن أن يكون أمراً واقعيّاً، وبغضّ النظر عن الوصول.

169

الظهور حجّة على عبيده، فكون واقع مّا بما هو وبغضّ النظر عن الوصول مأخوذاً في موضوع هذا الجعل أمر معقول، كما أنّ الوثاقة مأخوذة في موضوع حجّيّة خبر الواحد. فليكن ما نحن فيه من قبيل حجّيّة خبر الواحد.

نعم، مع هذا نحن نؤمن بالنتيجة التي أرادها المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله): من عدم الحاجة إلى أصالة عدم القرينة المنفصلة، وكفاية عدم العلم بالقرينة، ولكن ببرهان آخر:

وهو: أنّ الاُصول العقلائيّة تكون بحسب طبع العقلاء وارتكازهم، وباعتراف الأصحاب اُصولاً معتبرة بما لها من الكشف، لا اُصولاً تعبّديّة صرفة. ومن الواضح أنّ عدم صدور القرينة المنفصلة على الخلاف إنّما حصل الظنّ به من ناحية نفس ظهور الكلام وغلبة مطابقته للواقع، فلولا ظهور العامّ في العموم ـ مثلاً ـ وغلبة مطابقته للواقع لكان احتمال صدور الخاصّ واحتمال عدم صدوره متساويين، والذي رجّح احتمال عدم صدور الخاصّ إنّما هو صدور العامّ، إذن فالكشف إنّما هو لنفس الظهور الذي شككنا في وجود قرينة منفصلة على خلافه، ولا كاشفيّة إطلاقاً في الرتبة السابقة على ذلك لأصالة عدم القرينة المنفصلة، فلو افترضنا أنّ العقلاء يجرون في الرتبة السابقة على حجّيّة الظهور أصالة عدم القرينة لكان معنى ذلك أنّ أصالة عدم القرينة أصل تعبّديّ محض لديهم. وهذا خلاف دأب العقلاء في اُصولهم العقلائيّة.

وحاصل الكلام: أنّه لا توجد لدينا نكتتان مستقلّتان كلّ منهما توجب الظنّ النوعيّ بشيء كي يفترض وجود أصلين عقلائيّين: أصالة عدم القرينة، وأصالة الظهور. وإنّما هناك نكتة واحدة هي الظهور توجب الظنّ بأنّ المتكلّم أراد ما هو الظاهر من الكلام، ولم يرد خلافه معتمداً على قرينة منفصلة. إذن فالأصل العقلائيّ هنا منحصر بأصالة الظهور نتمسّك بها ما لم نعلم بالقرينة المنفصلة على الخلاف.

إذن فالوجه الثالث من الوجوه الثلاثة التي أشرنا إليها في مستهلّ البحث ـ وهو كون

170

موضوع الحجّيّة عبارة عن الظهور التصديقيّ زائداً عدم القرينة المنفصلة على الخلاف ـ باطل. وبعد إبطال هذا الوجه بقي الأمر دائراً بين الوجه الأوّل وهو كون الموضوع الدلالة التصوّريّة زائداً عدم العلم بالقرينة، والوجه الثاني وهو كون الموضوع الدلالة التصديقيّة زائداً عدم العلم بالقرينة المنفصلة.

وبالإمكان أن يتوهّم أنّ ما أبطلنا به الوجه الثالث يكفي لإبطال الوجه الثاني أيضاً، ففي القرينة المتّصلة يقال أيضاً: إنّ أصالة عدم القرينة لا كاشفيّة لها عن شيء، فيجب الرجوع رأساً إلى الظهور التصوّريّ عند عدم العلم بالقرينة على الخلاف؛ إذ الرجوع إلى أصالة عدم القرينة رجوع إلى أصل تعبّديّ بحت، وليس هذا من ديدن العقلاء في اُصولهم العقلائيّة.

ولكن الواقع على عكس هذا تماماً فالنكتة التي أبطلنا بها الوجه الثالث تبطل الوجه الأوّل أيضاً، وتعيّن الوجه الثاني؛ وذلك لأنّ التمسّك بالظهور التصوّريّ يعني التمسّك بأصل تعبّديّ بحت؛ لما مضى: من أنّ الظهور التصوّريّ ليس بابه باب الكشف، وإنّما بابه باب العلّيّة والإيجاد. والكشف إنّما يتمّ ببركة نكتة الظهور التصديقيّ، ولولا الظهور التصديقيّ لما كان أيّ كشف للكلام كي يعقل الاعتماد عليه عقلائيّاً، فالاعتماد العقلائيّ إنّما هو على الظهور التصديقيّ، والذي هو متقوّم بعدم القرينة على الخلاف، فلابدّ من إحراز عدم القرينة كي يمكن التمسّك بالظهور التصديقيّ، والذي يحرز لنا عدم القرينة هو أصالة عدم القرينة المتّصلة، وليست هذه أصلاً تعبّديّاً بحتاً بل هي قائمة على استبعاد غفلة السامع عن القرينة؛ لأنّ الغفلة خلاف الطبع العقلائيّ، وأسبابها في قبال أسباب الالتفات وعدم الغفلة نادرة جدّاً، فأصالة عدم القرينة المتّصلة ليست أصلاً تعبّديّاً، ولو لم تجر لم تصل النوبة إلى أصالة الظهور؛ إذ لو اُريد بالظهور الدلالة التصوّريّة فقد عرفت أنّ بابها ليس باب الكشف، ولو اُريد به الدلالة التصديقيّة فقد عرفت أنّ قوامها بعدم القرينة

171

المتّصلة، فبناء العقلاء على الحجّيّة المجعولة الفعليّة للظهور مع الشكّ في القرينة المتّصلة الذي هو مسلّم ومفروغ عنه لا يعقل تفسيره فلسفيّاً إلّا بإجراء أصالة عدم القرينة المتّصلة أوّلاً تنقيحاً لموضوع الظهور ثُمّ إجراء أصالة الظهور.

ومن هنا نستثني من أصالة عدم القرينة المتّصلة ما لو لم يكن احتمال القرينة ناشئاً من احتمال الغفلة، بل كان ناشئاً من جهة اُخرى، كما لو كان السامع مبتلى بثقل السمع فاحتمل عدم سماع بعض الكلمات ممّا يكون قرينة صارفة، أو كان المولى قد أرسل إلى عبده رسالة مكتوبة وتمزّق صدفةً مقدار من المكتوب واحتمل العبد وجود القرينة المتّصلة في المقدار التالف من المكتوب، ففي مثل هذه الموارد ممّا لا يكون احتمال عدم القرينة فيها راجحاً نوعاً على احتمال القرينة لا نسلّم جريان أصالة عدم القرينة، وبالتالي لا نسلّم جريان أصالة الظهور؛ لعدم إحراز موضوعها.

وقد تلخّص من هذا البحث: أنّ في باب القرائن المنفصلة لا أساس لأصالة عدم القرينة، ولا حاجة إليها ونتمسّك رأساً بأصالة الظهور حتّى فيما إذا احتملنا وجود قرينة منفصلة. وفي باب القرينة المتّصلة لو لم نحتملها فلا إشكال في التمسّك بأصالة الظهور ابتداءً، ولو احتملناها جرى أصلان طوليّان: الأوّل: أصالة عدم القرينة، وهذا الأصل ينقّح موضوع الظهور. والثاني: أصالة الظهور التي تجري بعد تنقيح موضوعها بالأصل الأوّل.

وقد يقول القائل: لا دليل على وجود جعلين في المقام؛ إذ بالإمكان إرجاع الجعلين إلى جعل واحد من باب الاختصار في الجعل مثلاً بأن يقول المولى: مهما تكوّن لك الظنّ النوعيّ بالمراد من اجتماع أمرين: أحدهما: الرجحان النوعيّ لعدم القرينة المتّصلة؛ لكون احتمالها من باب احتمال الغفلة، والثاني: الظهور في معنى معيّن على تقدير عدم القرينة المتّصلة..، فقد جعلت لك هذا الظنّ حجّة.

172

والواقع: أنّ البحث لم يكن في افتراض أنّ العقلاء جلسوا على كرسيّ الجعل والتفتوا بالتفصيل إلى كيفيّة الجعل الموصلة للمطلوب من جعل واحد أو جعلين، وإنّما مقصودنا من جعل العقلاء أنّهم يعتبرون ولو بالارتكاز النكتة الكاشفة في باب الظهور قابلة للاعتماد عليها لأجل كشفها، فإذا تعدّدت النكتة الكاشفة، وكانت إحداهما منقّحة لموضوع الاُخرى، قلنا لا محالة: إنّ هنا جعلين باعتبار وجود نكتتين اعتنوا بكلتيهما، وأحد الجعلين ينقّح موضوع الآخر. وما نحن فيه من هذا القبيل. ولا فرق فيما ذكرناه بين فرض دعوى الجعل حقيقة: من تنزيل، أو جعل للحكم المماثل، أو لنفس الحجّيّة ونحو ذلك، وفرض اعتبار الكاشف بمثل الإخبار عن شدّة اهتمام المولى بغرضه المكشوف بتلك النكتة الخاصّة.

وبعد أن تلخّص أنّ موضوع الحجّيّة مركّب من الظهور التصديقيّ وعدم العلم بالقرينة المنفصلة بقي الكلام في أنّ أيّاً من درجتي الظهور التصديقيّ هي الموضوع للحجّيّة، هل الظهور التصديقيّ للاستعمال، أو الجدّيّ؟ يظهر من بعض كلمات المحقّق النائينيّ(رحمه الله) كما عرفت: أنّ للظهور التصديقيّ درجتين: الظهور فيما قال، والظهور فيما أراد. وجعل عدم القرينة المتّصلة مرحلة الظهور الأوّل، وعدم القرينة المنفصلة مرحلة الظهور الثاني، وجعل موضوع الحجّيّة هو المرتبة الأخيرة من الظهور(1).

وقد عرفت أنّ عدم القرينة المنفصلة ليس مرحلة للظهور، وأنّ هنا درجتين للظهور التصديقيّ بالتفصيل الذي مضى منّا، وكلاهما في مرحلة عدم القرينة المتّصلة.

والتحقيق: أنّ كلتا الدرجتين موضوع للحجّيّة، فإنّه لابدّ أن تجري أوّلاً أصالة المطابقة بين المدلول التصوّريّ والمدلول الاستعماليّ، وينقّح بذلك موضوع أصل ثان وهو أصالة المطابقة بين المدلول الاستعماليّ والمدلول الجدّيّ، فيثبت بذلك المراد الجدّيّ للمولى.


(1) مضى منّا ما نحتمله فيما هو مراد المحقّق النائينيّ(رحمه الله) قبل صفحات.

173

 

3 ـ مع الاُصول اللفظيّة الاُخرى

وأمّا الجهة الثالثة ـ وهي في البحث عن نسبة أصالة الظهور إلى سائر الاُصول اللفظيّة الوجوديّة كأصالة الحقيقة وأصالة العموم والإطلاق ونحو ذلك، والعدميّة وهي أصالة عدم القرينة ـ فنقول:

أمّا نسبتها إلى الاُصول الوجوديّة فواضحة، فإنّ مثل أصالة الحقيقة وأصالة العموم وأصالة الإطلاق كلّ واحد منها حصّة من حصص أصالة الظهور على اختلاف بينها في المرتبة: فأصالة الحقيقة تكشف عن المراد الاستعماليّ، وقد يعبّر عنها بأصالة المطابقة بين المعنى التصوّريّ والمراد الاستعماليّ. وأصالة العموم تكشف عن المراد الجدّيّ باعتبار أصالة المطابقة بين المراد الاستعماليّ والمراد الجدّيّ. وأصالة الإطلاق أيضاً تكشف عن المراد الجدّيّ ببركة مقدّمات الحكمة التي ترجع إلى ظهور كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد.

وأمّا نسبتها إلى أصالة عدم القرينة فقد ظهر ما هو الحقّ في ذلك ممّا سبق في الجهة الثانية، حيث اتّضح أنّ أصالة عدم القرينة المنفصلة لا أساس لها، وأنّ أصالة عدم القرينة المتّصلة أصل مستقلّ برأسه تجري إلى صفّ أصالة الظهور، وتستعمل في موارد الشكّ في القرينة المتّصلة لتنقيح موضوع أصالة الظهور، ومع عدم احتمال القرينة المتّصلة تجري أصالة الظهور ابتداءً.

هذا. ولكن قد وقع الخلاف بين الشيخ الأعظم(قدس سره) وصاحب الكفاية(رحمه الله)حول النسبة بين أصالة الظهور وأصالة عدم القرينة، فيظهر من بعض كلمات الشيخ الأعظم(قدس سره)(1) أنّ أصالة الظهور في الحقيقة ترجع إلى أصالة عدم القرينة. واختار


(1) راجع فرائد الاُصول، ص 34 بحسب الطبعة المشتملة على حاشيته(رحمه الله)المنشورة من قبل مكتبة المصطفويّ.

174

المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) العكس، فأرجع أصالة عدم القرينة المتّصلة إلى أصالة الظهور(1)، وقال(2) في وجه ذلك: إنّنا نرى أنّ تمسّك العقلاء بأصالة الظهور دائماً هو بنفس واحد وبنسق واحد، وقد يتّفق أنّنا نقطع بعدم القرينة المتّصلة، ونشكّ مع ذلك في إرادة المعنى الظاهر، ولا إشكال في جريان أصالة الظهور في هذا الفرض، ومن الواضح أنّ أصالة الظهور هنا لا ترجع إلى أصالة عدم القرينة؛ إذ المفروض القطع بعدم القرينة، فلا يعقل إجراء أصالة عدم القرينة، فيثبت بذلك أنّ في صورة احتمال القرينة أيضاً يكون الأصل الجاري هو أصالة الظهور لا أصالة عدم القرينة بإرجاع أصالة الظهور إليها، وإلّا لزم اختلاف مسلك العقلاء في أصالة الظهور باختلاف الصورتين، بينما من الواضح لدينا أنّ تمسّكهم بأصالة الظهور دائماً هو بشكل واحد.

أقول: إنّ عدم اختلاف مسلك العقلاء في أصالة الظهور باختلاف الموارد إنّما يصلح دليلاً على بطلان كلام الشيخ الأعظم(رحمه الله) القائل برجوع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة، فيقال: إنّ أصالة الظهور تجري أحياناً مع القطع بعدم القرينة، فلا يمكن رجوعها إلى أصالة عدم القرينة. لكن هذا لا يثبت ما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): من رجوع أصالة عدم القرينة إلى أصالة الظهور، ويبقى احتمال كونهما أصلين مستقلّين، وأنّ أصالة عدم القرينة تجري عند احتمال القرينة لتنقيح موضوع الظهور كما اخترناه(3).

 


(1) راجع الكفاية، ج 2، ص 65 بحسب طبعة المشكينيّ، وتعليقة الآخوند على الرسائل، ص 42 و43.

(2) في تعليقته على الرسائل.

(3) يوجد في عبارة المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في تعليقته على الرسائل احتمال آخر،

175

وأمّا ما ادّعاه الشيخ الأعظم(رحمه الله) على ما يظهر من بعض كلماته: من رجوع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة، فلم يذكر(رحمه الله) في كتابه وجهاً لذلك. ولكن المحقّق العراقي(رحمه الله) ذكر في وجه تصحيح أو إبطال هذا الكلام: إنّ القضيّة مرتبطة بمسألة الإيمان بقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة وعدمه، فإن لم نقل بقبح ذلك وجوّزنا ـ بناءً عليه ـ فصل القرينة عن ذي القرينة، إذن فأصالة عدم القرينة المتّصلة لا تكفي للعمل بالظهور كي يقال: إنّ أصالة الظهور ترجع إلى أصالة عدم القرينة؛ إذ حتّى مع افتراض عدم القرينة المتّصلة يبقى احتمال إرادة خلاف الظاهر والاعتماد على قرينة منفصلة قائماً، ولابدّ في دفع ذلك من التمسّك بأصالة الظهور. وإن قلنا بقبح ذلك وأنّ القرينة المنفصلة تكشف دائماً عن قرينة متّصلة لقبح الفصل، إذن فلا منشأ لاحتمال إرادة خلاف الظاهر عدا احتمال القرينة المتّصلة، وهو منفيّ بأصالة عدم القرينة، ولا تبقى


وهو: أن يكون مقصوده بالبرهان الماضي البرهنة فقط على عدم رجوع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة. وأمّا جريان أصالة عدم القرينة عند الشكّ فيها في عرض أصالة الظهور فأبطلها بما نراه: من أنّه لا مجال لأصالة عدم قرينة المجاز ـ مثلاً ـ لو قطعنا بعدم إرادة الحقيقة، فهذا يعني أنّ أصالة عدم القرينة مرجعها إلى أصالة الحقيقة.

أقول: ويرد عليه: أنّ ما نراه: من أنّه لا مجال لأصالة عدم القرينة عند القطع بعدم إرادة الحقيقة، صحيح، ولكن قد يكون هذا بنكتة أنّه مع القطع بعدم إرادة الحقيقة لا يبقى أثر عمليّ لأصالة عدم القرينة، فتسقط باللغويّة، أو بنكتة أنّ عدم إرادة الحقيقة المقطوع به ـ بحسب الفرض ـ يكون بحدّ ذاته أمارة نوعيّة على وجود القرينة، وهذا غير فرض رجوع أصالة عدم القرينة إلى أصالة الحقيقة.

176

حاجة إلى أصل آخر يستقلّ عن أصالة عدم القرينة يسمّى بأصالة الظهور(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: إنّ احتمال القرينة المتّصلة لا يمكن دفعه بقاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ما لم نثبت في المرتبة السابقة حجّيّة الظهور، فإنّ الظهور لو لم يكن حجّة بقطع النظر عن هذه القاعدة كان حال الظاهر بقطع النظر عن هذه القاعدة حال المجمل وحال السكوت، ولا فرق بينه وبينهما بلحاظ التنجيز والتعذير. وليس معنى قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة قبح تأخير تفهيم الحكم عن وقت الحاجة ولو بالإجمال والسكوت، وإنّما مقصودهم من هذه القاعدة قبح الاعتماد على القرينة المنفصلة الدالّة على خلاف ما هو حجّة على المكلّف ويدعو المكلّف إلى نفسه، ويكون حاله حال الإجمال والسكوت، فلو كان ضمّ قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى أصالة عدم القرينة المتّصلة كافياً لإحراز مراد المولى ومغنياً عن التمسّك بأصالة الظهور من حيث هو ظهور، فلنفرض الإجمال بدلاً عن الظهور، ولنفرض القطع بعدم القرينة المتّصلة بدلاً عن أصالة عدم القرينة، فهل ترى أنّ هذا يكفي لاستكشاف مراد المولى بضمّ قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة؟ طبعاً لا. فإن لم يفدنا ذلك فكيف يفيدنا بضمّ قاعدة تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى أصالة عدم القرينة؟ وهل القطع بعدمها أسوء حالاً من أصالة عدمها؟!


(1) لا يخفى أنّه لا يوجد في كلام الشيخ الأعظم(رحمه الله) وكلام المحقّق العراقي(رحمه الله)أيّ إشارة إلى الفرق بين القرينة المتّصلة والمنفصلة. وقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة الذي جاء في كلام المحقّق العراقي(رحمه الله) لا يعني قبح تأخير البيان عن كونه متّصلاً بالكلام، وإنّما يعني قبح تأخير البيان عن وقت العمل، أي: أنّه يجب ذكر القرينة قبل انتهاء وقت العمل ولو منفصلة، فإذا شككنا في القرينة ونفيناها بالأصل، كفى ذلك في العمل بالظهور؛ لأنّ عدم القرينة لا متّصلة ولا منفصلة يعني كون المراد مطابقاً لما هو ظاهر الكلام.

177

وثانياً: إنّا لو سلّمنا أنّ قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة تشمل السكوت، أو الاقتصار في وقت الحاجة على ما يكون مجملاً، أو غير حجّة، قلنا: إنّه لو فرض عدم حجّيّة هذا الظاهر بقطع النظر عن هذه القاعدة فضمّ هذه القاعدة لا يعني إحراز مراد المولى بها، بل يعني الفراغ عن ارتكاب المولى لهذا القبيح(1).

 


(1) إنّ مراجعة كلام المحقّق العراقي(رحمه الله) في المقالات توضّح أنّ مقصوده (رضوان الله عليه) من قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ليست هي قاعدة قبح فصل القرينة عن الحجّة، بل مقصوده هو المفهوم الأوّليّ من هذه العبارة، وهو قبح ترك البيان إلى انتهاء وقت الحاجة العمليّة، بأن لا يبيّن الأمر لا بالقرينة المتّصلة ولا بالقرينة المنفصلة إلى انقضاء وقت العمل. وقد مضى منّا أنّه لم يرد في كلام المحقّق العراقي، ولا الشيخ الأعظم(رحمهما الله) أيّ إشارة إلى التفصيل بين القرينة المتّصلة والمنفصلة، وعليه فبالإمكان أن يكون مقصوده من قبح تأخير البيان ما يشمل قبح السكوت. وعليه فمن الواضح أنّ الإشكال الأوّل غير وارد.

وأمّا الإشكال الثاني فقد يدّعي القائل بقبح تأخير البيان: أنّ المقصود قبح تأخير البيان العرفيّ بغضّ النظر عن حجّيّته. وهذا يعني أنّ ظاهر كلام المولى بجميع قرائنه المتّصلة والمنفصلة يجب أن يكون وافياً بالمقصود وفق المفهوم العرفيّ من الكلام، وليست الحجّيّة مأخوذة في موضوع ذلك بأن يثبت أنّ المولى ارتكب القبيح، ونتيجة ذلك: إنّنا إذا اطّلعنا على ظاهر كلام المولى بجميع قرائنه المتّصلة والمنفصلة أورث ذلك القطع بمراده. أمّا إذا شككنا في القرينة فأصالة عدم القرينة حجّة، وهي تكفي عن أصالة الظهور كأصل مستقلّ إذا لم يكن الشكّ في المراد إلّا بلحاظ الشكّ في القرينة المتّصلة أو المنفصلة المنفيّة بالأصل.

ولعلّ الشيخ الأعظم(رحمه الله) لا ينظر أصلاً إلى دعوى قاعدة قبح تأخير البيان، بل ينظر إلى قطعنا بأنّ الشارع قد بيّن تمام مراده بمجموع بياناته المتّصلة والمنفصلة، القطع الناشئ إمّا