11

اللّه جلّ جلاله

1

 

 

 

إثبات الصانع

 

 

○ أسباب لزوم الفحص عن وجود اللّه تعالى.

○ فطريّة الإيمان باللّه تعالى.

○ البراهين على وجود اللّه تعالى.

 

 

 

 

13

 

 

 

 

 

أسباب لزوم الفحص عن وجود الله تعالى

 

العقل يُلزم كلّ إنسان غير عالم بوجود الله بالفحص عن وجوده تعالى؛ لأحد أسباب ثلاثة:

الأوّل: دفع الضرر المحتمل، سواء فرض الضرر عبارةً عن العذاب المحتمل، أو فقدان الثواب المحتمل، أو فرض عبارةً عن أمر عرفانيّ هو الحجب عن الله تعالى، أو فقد رضوانه، أو فقد الالتذاذ بالنظر إليه بالمعنى المعقول من النظر إليه، قال الله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾(1)، وقال عزّ وجلّ: ﴿كَلاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذ لَّمَحْجُوبُونَ﴾(2)، وقال عزّ من قائل:﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَر﴾(3)، وعن الصادق(عليه السلام)أنّه قال لابن أبي العوجاء: «إن يكن الأمر كما تقول ـ وليس كما تقول ـ نجونا ونجوت، وإن يكن الأمر كما نقول ـ وهو كما نقول ـ نجونا وهلكت»(4).

الثاني: شكر المنعم؛ إذ على تقدير وجود المنعم الحقيقي يجب شكره عقلاً،


(1) س 75 القيامة، الآية: 22 ـ 23.

(2) س 83 المطفّفين، الآية: 15.

(3) س 9 التوبة، الآية: 72.

(4) البحار 3: 47، الباب 3 من كتاب التوحيد، الحديث 20.

14

ويتحقّق شكره بمعرفته، واحتمال الوجوب العقلي ينجّز الفحص.

وأوّل النعم هو أصل الوجود، وثانيها الفهم والمعرفة، ووسائلهما التي زوّدنا الله بها، ثُمّ باقي النعم التي لا تحصى، وقد ذكّر الله تعالى عباده في محكم كتابه مرّات كثيرة بنعمه، ومنها هذان المقطعان:

1 ـ ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفٌْ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَد لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الليْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِّقَوْم يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْم يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَات وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(1).

2 ـ ﴿اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ *


(1) س 16 النحل، الآية: 3 ـ 18.

15

وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الليْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾(1).

ومن الطريف أنّ كلا المقطعين خُتما بقوله تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾ كما أنّ كلا المقطعين مشتملان على مسألة شكر النعمة وكفرانها، فالأوّل بتعبير: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون﴾ والثاني بتعبير: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾.

ومن الطريف أيضاً في المقطع القرآنيّ الأوّل أنّه حثّ في ثلاثة مواضع من عدّه نعم الله تعالى على التفكّر تارة وعلى التعقّل اُخرى وعلى التذكّر ثالثة، فقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ... إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِّقَوْم يَعْقِلُونَ... إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْم يَذَّكَّرُونَ﴾.

وعلى أيّة حال فالآيات التي تذكّر الناس بنعم الله تعالى كثيرة، نختم الحديث عنها هنا بقوله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْم وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَاب مُّنِير﴾(2).

وأمّا الروايات فأقتصر منها هنا على ذكر رواية واحدة تربط بين جسيم النعمة وبين الهداية، وهي المرويّة عن عليّ(عليه السلام): «ولو فكّروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ولكنّ القلوب عليلة والبصائر مدخولة»(3).

الثالث: مسألة المالكيّة والمملوكيّة، فإنّ جميع الملكيات العرفية والعقلائية والشرعية الإلهية والشرعيات الوضعية ليست عدا اعتبارات جعلية، والملكيّة


(1) س 14 إبراهيم، الآية: 32 ـ 34.

(2) س 31 لقمان، الآية: 20.

(3) نهج البلاغة، الخطبة 185.

16

الوحيدة التي هي بمعنى الجدة الحقيقية إنّما هي ملكيّة الخالق لمخلوقه إن كان هناك في الواقع خالق للعالم بما فيه من الموجودات، فعلى تقدير وجوده في واقع الأمر تجب معرفته وطاعته واتباعه اتباعَ المملوك لمالكه الحقيقي واحتمال ذلك يكون منجّزاً عقلاً.

والوجهان الأخيران يؤثّران في النفوس الشفّافة والقلوب الصافية، والأخير أرقّ من الثاني ويكون تأثيره بحاجة إلى صفاء أكثر، أمّا الأوّل وهو دفع الضرر المحتمل فهو الأمر العامّ المؤثّر في نفوس العقلاء الاعتياديين.

 

 

 

* * *

 

17

 

 

 

 

 

فطرية الإيمان بالله تعالى

 

يدلّ القرآن الكريم على أنّ الإيمان بالله أمر فطري للبشر، إمّا وحده وإمّا ضمن فطرية الدين، قال الله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(1)، وقال عزّ من قائل: ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾(2)فهاتان الآيتان المباركتان صريحتان في فطرية الدين أو الإيمان بالله عزّ وجلّ.

إلّا أنّ هذه الفطرية يمكن تفسيرها بأحد تفسيرين:

الأوّل: الفطرية بمعنى البداهة، وهذا لا ينافي استبطانه للبرهان؛ فقد يحتاج حكم معيّن إلى البرهان إلّا أنّ برهانه حاضر لدى فطرة العموم لا يغيب عن الذهن لدى تصور القضية، وعلى هذا الأساس سمّى أصحاب المنطق الصوري قسماً من البديهيات بـ «الفطريات» وهي التي قياساتها معها، بمعنى أنّ الحد الأوسط لا يغيب عن الذهن لدى تصور الأصغر والأكبر فتعتبر النتيجة بديهيّة.

الثاني: الفطرية بمعنى كون الإيمان بالله عن علم حضوري وعن إحساس


(1) س 30 الروم، الآية: 30.

(2) س 2 البقرة، الآية: 138.

18

باطنيّ فطريّ مباشر به سبحانه وتعالى بالرغم من أنّه قد يغيب عن الذهن بسبب تراكم العلائق المادّيّة.

وأيّ التفسيرين هو الصحيح؟

لا شكّ في صحة الفطرية بالمعنى الأوّل؛ لفطرية بعض براهين وجود الله سبحانه للكلّ، كبرهان النظم أو حساب الاحتمالات الذي سوف يأتي شرحه، وكبرهان الصديقين لدى بعض النفوس الذكيّة الوقّادة وسوف يأتي أيضاً بيانه إن شاء الله.

وأمّا الفطرية بمعنى الإحساس الحضوري فلا إشكال في أنّه لا يوجد الإحساس بها في الحالات الاعتيادية لدى الناس الاعتياديّين، وتفسير الآيات بها غير واضح بعد صدق الفطرية على البداهة أيضاً، وفي الفلسفة أيضاً لا نجد شاهداً على فطرية الإيمان بالله بمعنى الشهود والإحساس الحضوريين؛ لأنّ الفلسفة تقول: إنّ وجود الخالق هو الوجود المستقل، ووجود المخلوق هو عين الربط والتعلق، ولعله يأتي في المستقبل بيان ذلك إن شاء الله، ومن المعلوم أنّ الوجود الربطي والتعليقي هو الذي يجب أن يكون حاضراً لدى الوجود الحقيقي والمستقل، وأنّ الوجود الحقيقي والمستقل هو الذي يجب أن يكون واجداً للوجود الربطي والتعلّقي بالعلم الحضوري لا العكس.

نعم يبدو من القرآن حصول الشهود بعين القلب والإحساس الحضوري مرّتين لرسول الله(صلى الله عليه وآله) على أحد التفسيرين لآيات سورة النجم، وكذلك يبدو منه ذلك للمؤمنين أو لبعضهم في يوم القيامة في قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾(1).

 


(1) س 75 القيامة، الآية: 22 ـ 23.

19

وأمّا ثبوت ذلك ولو بمرتبة دنيا لعامّة الناس في هذا العالم فهذا ما لا يستفاد من آيات الفطرة، فمن أحسّ بحالة الشهود والعلم الحضوري بالله سبحانه وتعالى فهنيئاً له، سواء أكان هذا الإحساس بسبب شفّافية خاصّة لوجدانه وفطرته، أو بسبب ترويض النفس وتهذيبها وانقطاعها التربوي عن المادّيات، أو بسبب انقطاع علائقه بالمادّيات صدفة في حالة غرق مثلاً أو نحو ذلك.

أمّا من لم يحصل له شهود بسبب من الأسباب فمجرد آيات الفطرة لا تبرهن له على هذا الشهود؛ لإمكان حملها على البداهة.

وقد تلحق بآيات الفطرة آيات الالتجاء إلى الله لدى اليأس من الأسباب المادّية، ولعل أبرزها ثلاث مقاطع من القرآن الكريم:

1 ـ ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِّكُلِّ صَبَّار شَكُور * وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّار كَفُور﴾(1).

2 ـ ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيح طَيِّبَة وَفَرِحُوا بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَان وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾(2).

3 ـ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾(3).


(1) س 31 لقمان، الآية: 31 ـ 32.

(2) س 10 يونس، الآية: 22 ـ 23.

(3) س 29 العنكبوت، الآية: 65.

20

وحاصل الفكرة التي يفترض إشارة هذه الآيات إليها هو أنّ الإنسان قد يبتعد عن الفطرة فيغطّي عينَ قلبه غشاءُ المادّيّات فيغفل عن الله تعالى، ولكن تنجلي فطرته لدى زوال هذا الغشاء بسبب انقطاعه عن المادّيّات بمثل عروض حالة الغرق على سفينة في البحر إذ لا منجي إلّا الله تعالى، فتتيقّظ فطرته وتنفتح بصيرته ولا يرى إلّا الله سبحانه وتعالى.

بل تلحق بهذه الآيات مطلق آيات الالتجاء إلى الله لدى الضرّ من قبيل:

1 ـ ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾(1).

2 ـ ﴿فَإِذَا مَسَّ الاِْنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْم﴾(2).

3 ـ ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(3).

وعندي أنّ كلّ هذه الآيات لا تدل على فطرية التوحيد ووجود الله سبحانه وتعالى عدا آيتي الفطرة والصبغة؛ لأنّ ما مضى من الآيات الاُخرى قابل للحمل على معنى آخر، وهو أنّ الإنسان بلغ في مستوى كفرانه وطغيانه أنّه على رغم من يقينه بالله ـ بأيّ سبب من الأسباب ـ تراه يعترف به ساعة انقطاع جميع الحيل المادّية ثمّ يرجع إلى غيّه من كفر أو كفران لدى انتهاء الاضطرار، من قبيل ابن يلتجئ إلى أبيه في ساعة الاضطرار ولكنه يطغى عليه في ساعة الإحساس بالاستغناء، أمّا أنّ ثبوت الله أو التوحيد عنده هل كان على أساس


(1) س 30 الروم، الآية: 33.

(2) س 39 الزمر، الآية:49.

(3) س 10 يونس، الآية: 12.

21

الوجدان، أو على أساس برهان نظري، أو غير ذلك، فلم يعلم كون هذا داخلاً في عهدة هذه الآيات.

نعم هناك رواية يحتمل أن تكون ناظرة إلى آيات جري الفلك وابتلائها بحالة الغرق، ولو كانت ناظرة إليها فهي تشهد على أنّ تلك الآيات تنظر إلى فطرية التوحيد وبروز الفطرة لدى الانقطاع عن الأسباب، وتلك الرواية ما يلي: «قال رجل للصادق(عليه السلام): يا بن رسول الله، دلّني على الله ما هو، فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني؟ فقال له: يا عبدالله، هل ركبت سفينة قطّ؟ قال: نعم، قال: فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال: نعم، قال: فهل تعلّق قلبك هنالك أنّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ قال: نعم، قال الصادق(عليه السلام): فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث»(1).

وهذه القصّة قد تجسّدت أيضاً في مقطع تاريخيّ رواه صاحب مجمع البيان في ذيل آية:﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِد﴾(2) وهو مايلي:

«لمّا كان يوم فتح مكّة أمّن رسول الله(صلى الله عليه وآله) الناس إلّا أربعة نفر، قال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبدالله بن أخطل، وقيس بن صبابة، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، فأمّا عكرمة فركب البحر فأصابتهم ريح عاصفة فقال أهل السفينة: أخلصوا فإنّ آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً ها هنا، فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلّا الإخلاص ما ينجيني في البرّ غيره، اللهمّ لك عليّ عهدٌ إن أنت عافيتني ممّا أنا فيه أن آتي محمداً حتّى


(1) البحار 3: 41، الباب 3 من كتاب التوحيد، الحديث 16.

(2) س 31 لقمان، الآية: 32.

22

أضع يدي في يده فلأجدنّه عفوّاً كريماً، فجاء فأسلم».

وعلى أيّة حال فلا شكّ على الإجمال في فطرية التوحيد ووجود الله تعالى، والروايات المصرّحة بفطرية ذلك مستقلاً أو ضمن فطرية الدين كثيرة، جمع قسماً منها المجلسي(رحمه الله) في البحار المجلد الثالث في الباب الحادي عشر من كتاب التوحيد، وآخرها في ذاك الباب الحديث المعروف عن النبي(صلى الله عليه وآله): «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه يهوّدانه و ينصّرانه»(1).

ومن طرائف الروايات الدالة على فطرية وجود الله سبحانه وتعالى عن طريق بروز آياته كلام الإمام الصادق(عليه السلام) مع ابن أبي العوجاء المرويّ عن أبي منصور المتطبّب قال: «أخبرني رجل من أصحابي قال: كنت أنا وابن أبي العوجاء وعبدالله بن المقفّع في المسجد الحرام، فقال ابن المقفّع: ترون هذا الخلق؟ ـ وأومى بيده إلى موضع الطواف ـ ما منهم أحد اُوجب له اسم الإنسانية إلّا ذلك الشيخ الجالس ـ يعني جعفر بن محمّد(عليه السلام) ـ فأمّا الباقون فرعاع وبهائم، فقال له ابن أبي العوجاء وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟ قال: لأنّي رأيت عنده ما لم أر عندهم، فقال ابن أبي العوجاء: مابدّ من اختبار ماقلت فيه منه، فقال له ابن المقفّع: لا تفعل فإنّي أخاف أن يفسد عليك ما في يدك، فقال: ليس ذا رأيك، ولكنك تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك إيّاه المحلّ الذي وصفت، فقال ابن المقفّع: أمّا إذا توهّمت عليّ هذا فقم إليه وتحفّظ ما استطعت من الزلل، ولا تثن عنانك إلى استرسال يسلمك إلى عقال، وسمه ما لك أو عليك، قال: فقام ابن أبي العوجاء وبقيت وابن المقفّع فرجع إلينا وقال: يابن المقفّع، ما هذا ببشر! وإن كان في الدنيا روحانيّ يتجسّد إذا شاء ظاهراً


(1) البحار 3: 281، الباب 11 من كتاب التوحيد، الحديث 22.

23

ويتروّح إذا شاء باطناً فهو هذا، فقال له: وكيف ذاك؟ قال: جلست إليه فلمّا لم يبق عنده غيري ابتدأني فقال: إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون ـ يعني أهل الطواف ـ فقد سلموا وعطبتم، وإن يكن الأمر كما تقولون ـ وليس كما تقولون ـ فقد استويتم وهم، فقلت له: يرحمك الله وأيّ شيء نقول؟ وأيّ شيء يقولون؟ ما قولي وقولهم إلّا واحداً، فقال: كيف يكون قولك وقولهم واحداً وهم يقولون: إنّ لهم معاداً وثواباً وعقاباً، ويدينون بأنّ للسماء إلهاً، وأنّها عمران، وأنتم تزعمون أنّ السماء خراب ليس فيها أحد؟ قال: فاغتنمتها منه فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما تقول أن يظهر لخلقه ويدعوهم إلى عبادته حتّى لا يختلف منهم اثنان، ولمَ احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل؟ ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به. فقال لي: ويلك! وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك؟ نشوؤك ولم تكن، وكبرك بعد صغرك، وقوّتك بعد ضعفك وضعفك بعد قوّتك، وسقمك بعد صحّتك وصحّتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك وفرحك بعد حزنك، وحبّك بعد بغضك وبغضك بعد حبّك، وعزمك بعد إبائك وإباؤك بعد عزمك، وشهوتك بعد كراهتك وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك ورهبتك بعد رغبتك، ورجاؤك بعد يأسك ويأسك بعد رجائك، وخاطرك بما لم يكن في وهمك، وعزوب ما أنت معتقده من ذهنك. ومازال يعدّ عليّ قدرته التي في نفسي التي لا أدفعها حتّى ظننت أنّه سيظهر فيما بيني وبينه»(1).

إلى هنا عرفنا أنّ بعض الآيات والروايات تشير إلى فطرية التوحيد أو وجود الله تعالى المنسجمة مع قصد البداهة، أو كونه من قبيل القضايا التي


(1) البحار 3: 42 ـ 43، الباب 3 من كتاب التوحيد، الحديث 18.

24

قياساتها معها، ولم نعرف منها الإشارة إلى خصوص العلم الحضوري أو الإحساس المباشر بالله سبحانه عزّ وجلّ.

ولكن في القرآن آية قد تستفاد منها الإشارة إلى العلم الحضوري والإحساس المباشر به سبحانه، وهي آية الذرّ أو الميثاق. قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾(1).

وقد ذكر علماؤنا الأبرار احتمالات عديدة في تفسير هذه الآية(2)نقتصر هنا على ذكر ثلاثة منها:

الأوّل: أن تكون الآية إشارة إلى عالم جمعيّ يسمّى بعالم الذرّ أو الميثاق؛ جمع فيها كلّ بني آدم وسحبهم على صورة الذرّ من صلب آدم(عليه السلام)، وأخذ منهم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم، وعلى هذا الاحتمال لا بأس بافتراض السؤال والجواب بلسان المقال.

وأظنّ أنّ هذا الاحتمال أبعد الاحتمالات عن الصواب؛ لصراحة الآية المباركة في أخذ الذريّة من ظهور بني آدم جميعاً لا من ظهر آدم(عليه السلام).

الثاني: أن تكون الآية إشارة إلى زمان يختلف باختلاف الأشخاص، وهو زمان انتقال النطفة من صلب الأب إلى رحم الاُمّ، وعليه فالآية لاتشير إلى عالم واحد جمع فيه كلّ بني آدم، ولا إلى خطاب شعوري عرفه الناس وأجابوه بالاختيار والشعور، بل تشير إلى أنّ فكرة التوحيد قد عجنت في فطرة كلّ أحد


(1) س 7 الأعراف، الآية: 172 ـ 173.

(2) راجع پيام قرآن 3: 108 ـ 115، ومنشور جاويد 2: 63 ـ 82.

25

منذ انعقاد نطفته في رحم اُمّه.

وقد يعترض على هذا الاحتمال بأنّ ظاهر الآية الإخبار عن زمان مضى حيث قال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ...﴾ في حين أنّ انتقال النطفة من صلب الرجل إلى رحم المرأة أمر تدريجيّ باختلاف زمان انعقاد النطف، فمنهم من مضى زمانه حين نزول الآية ومنهم من هو باق على عهدة الاستقبال.

إلّا أنّ هذا الاُسلوب في المستقبل المحقق الوقوع مألوف من القرآن الكريم من قبيل قوله تعالى:﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ * وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَل﴾(1)، وقوله تعالى:﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الاَْرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْس مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً... * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ...﴾(2) إلى غير ذلك من الآيات(3).

وقد يعترض على هذا الاحتمال أيضاً بأنّ ظاهر الآية هو السؤال والجواب بلسان المقال لا السؤال بلسان التكوين أو الجواب بلسان الحال.

إلّا أنّ هذا النمط من الاستعمال شائع ومستحسن في لغة العرب، فمثلاً


(1) س 40 غافر، الآية: 48 ـ 50.

(2) س 39 الزمر، الآية: 68 ـ 73.

(3) منها الآية: 21 ـ 23 من سورة 14 إبراهيم.

26

قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْل ...﴾(1) لم يقصد به إلّا الوحي الطبيعي والغريزي والهداية التكوينيّة من قبل الله سبحانه وتعالى لهذا الحيوان، وقوله(عليه السلام):

ناداهُم صارخ من بعد دفنهم
أين الأسرّة والتيجان والحللُ
أين الوجوه التي كانت منعّمة
من دونها تضرب الأستار والكللُ
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم(2)
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم
 

لم يقصد بالنداء والجواب فيه إلّا لسان الحال.

الثالث: أن تكون الآية أيضاً إشارة إلى زمان يختلف باختلاف الأشخاص وهو زمان بلوغ الإنسان سنّ العقل والرشد، ويكون المقصود الدلالة الفطرية العقلية لكلّ أحد إلى التوحيد ووجود الله سبحانه وتعالى لدى بلوغه هذا السنّ.

وهذا التفسير يشبه التفسير الثاني في الاعتراض عليه وفي الجواب عن الاعتراض.

وبناءً على التفسير الثالث يكون المقصود بالآية المباركة الإشارة إلى فطرة العقل بمعنى بداهة وجود الله تعالى، أو كونه من القضايا التي قياساتها معها، ولا تحمل على العلم الحضوري والإحساس المباشر بالقلب.

وبناءً على التفسير الثاني يمكن حملها على فطرة العقل بمعنى البداهة أو وضوح القياسات، ويمكن حملها على فطرة القلب بمعنى الإحساس والعلم الحضوريين.

وبناءً على التفسير الأوّل يفترض في الآية وجود عالم أخذ الله تعالى فيه


(1) س 16 النحل، الآية: 68.

(2) منتهى الآمال 2: 676 ـ 677، في أحوال الإمام الهادي(عليه السلام).

27

من الإنسان هذا التعهد والميثاق في حالة شعور الإنسان وفهمه، وبما أنّنا قد نسينا ذلك ولا يمكن الاحتجاج بتعهد منسيّ من قبل المتعهّد فلابدّ من حمل الآية على معنى أنّ ذاك التعهد الشعوري كان سبباً في تكوّن الفطرة على التوحيد ووجود الله تعالى بأحد المعنيين، أعني فطرة العقل أو القلب أو قل: الإحساس البديهي أو المباشر والحضوري.

وامتياز هذه الآية عن آيات الفطرة أنّ آيات الفطرة لم نر فيها قرينة على إحدى الفطرتين بالخصوص: فطرة العقل أو فطرة القلب، أو قل: فطرة البداهة أو فطرة الإحساس الحضوري، فكانت الاُولى هي المتيقنة والثانية المحتملة، في حين أنّ آية الميثاق فيها قرينة على إرادة فطرة القلب أو الإحساس الحضوري، وتلك هي الإشارة إلى شخص الربّ سبحانه وتعالى بقوله: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُم﴾ فإنّ هذا لا يناسب فطرة العقل؛ لأنّ العقل ينتهي دائماً إلى فكرة كلّية وهي مثلاً وجود خالق موصوف بكذا وكذا، أمّا الانتهاء إلى المصداق والشخص فهذا إنّما يكون عن طريق الإحساس والحضور والشهود.

ويدعم ذلك بعض الروايات من قبيل ما رواه القمّي عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن ابن مسكان عن أبي عبدالله(عليه السلام) في قوله تعالى:﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ قلت: «معاينةً كان هذا؟» قال: «نعم فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه»(1).

فإضافةً إلى تعبيره بالمعاينة تراه عبّر بقوله: «ولولا ذلك لم يعرف أحد من خالقه ومن رازقه»، وهذا التعبير يناسب معرفة شخص الخالق والرازق، وهي لا


(1) تفسير القمّي 1: 248.

28

تكون إلّا بالشهود القلبي، ولو أراد المعرفة العقلية لوجود خالق ورازق بالمفهوم الكلّي لكان يناسب أن يقول: ولولا ذلك لم يعرف أحد أنّ له خالقاً ورازقاً (1).

والتفكيك الذي فرضناه بين آية الفطرة وآية الميثاق ـ من حمل الاُولى على ما يناسب كلّ واحدة من الفطرتين العقلية والقلبية أو البديهية والشهود، وحمل الثانية على خصوص الفطرة القلبية والشهود ـ إنّما هو مبلغ فهمنا من ظواهر الآيات.

ولكننا نرى في بعض الروايات مايدل على أنّ المقصود بالآيتين أمر واحد، وأنّ فطرة الله التي فطر الناس عليها هي في زمن أخذ الميثاق، فقد ورد في صحيحة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «سألته عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾(2) ما تلك الفطرة؟ قال: هي الإسلام، فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد قال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُم﴾ وفيه المؤمن والكافر»(3).

وختم الكلام: أنّه لا شك كتاباً وسنّة وعقلاً في فطرية وجود الله تعالى على مستوى فطرة العقل والقضايا التي تكون قياساتها معها، ولا أظنّ أنّه يختلف في ذلك اثنان من الموحّدين، وتبدو من بعض الآيات والروايات فطريته على مستوى فطرة القلب والإحساس والشهود، وسلام الله على الإمام المعصوم الحسين الشهيد الذي قال حسب ما ورد عنه في دعاء يوم عرفة: «كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك، ومتى


(1) راجع معارف قرآن 1: 40.

(2) س 30 الروم، الآية: 30.

(3) الكافي 2: 12، باب فطرة الخلق على التوحيد من كتاب الإيمان والكفر، الحديث 2.

29

بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيبا».

كى رفته اى زدل كه تمنّا كنم ترا
كى گشته پشت پرده كه حاشا كنم ترا
با صد هزار جلوه برون آمدى كه من
با صد هزار ديده تماشا كنم ترا
 

 

 

 

* * *

 

31

 

 

 

 

 

البراهين على وجود الله تعالى

 

نقتصر لإثبات وجود الله تعالى بغض النظر عن وحدانيته على بعض البراهين ضمن منهجين: أوّلاً: المنهج الفلسفي، وثانياً: المنهج العلمي.

 

المنهج الفلسفي لإثبات وجود اللّه تعالى

 

يستفيد من المنهج الفلسفي لإثبات الصانع من يدرك بعض الدقائق الفلسفية، ونذكر في هذا المنهج عدداً من البراهين:

 

البرهان الأوّل ـ برهان الإمكان الذاتي

وهذا البرهان مؤلّف من ثلاث مقدّمات:

الاُولى: أنّ عالمنا هذا بما يزخر به من المادّيات المختلفة ممكن الوجود، أي: يمكن أن يوجد ويمكن أن ينعدم.

الثانية: أنّ كلّ ما كان ممكن الوجود ـ أي كانت نسبته إلى الوجود والعدم على حدّ سواء ـ احتاج في وجوده إلى علّة.

الثالثة: أنّ تلك العلّة يجب أن تنتهي إلى واجب الوجود، وذلك قطعاً للدور أو التسلسل.

 

32

أمّا المقدّمة الاُولى فتوضيحها: أنّ كلّ ما يزخر به عالمنا من الاُمور التي نحسّها له ماهيّة ثابتة في عالم التقرر، ووجود مرتبط بها في لوح الخارج، وهناك بعض الاُمور تعتبر من لوازم الماهية، فتكون ذاتية لها يستحيل انفكاكها عنها من قبيل الزوجية للأربعة، وآية ذلك: أنّها لا تنفكّ عنها حتّى في الوجود الذهني، فلو كانت الزوجية من لوازم الوجود لا الماهية، أو كانت من المقارنات من دون ملازمة لما كان إيجاد الماهية في الذهن غير قابل للانفكاك عن الزوجية. وهناك من الآثار ما قد يعتبر من لوازم الوجود ـ كالإحراق بالنسبة للنار ـ وليس من لوازم الماهية، وآية ذلك: أنّه لا يترتب على الوجود الذهني للماهية، فليس تصوّر النار مثلاً محرقاً، ولو كان من لوازم الماهية لترتّب على تصوّر النار كما يترتّب على وجودها الخارجي؛ لأنّ الماهية مشتركة بين الوجود الذهني والوجود الخارجي حسب التصوّر المعروف في الفلسفة.

يبقى الكلام في النسبة بين نفس الوجود والماهية، وطبعاً لا معنى لافتراض كون الوجود من لوازم وجود الماهية كالإحراق بالنسبة للنار مثلاً؛ لأنّ الوجود هو هو والملازمة فرع نوع من الاثنينيّة، وعليه فيتّجه السؤال إلى أنّ الوجود: هل هو من لوازم الماهية ولا ينفكّ عنها كما أنّ الزوجية لا تنفك عن ماهية الأربعة، أو لا؟ ومجرّد تصوّر ذلك كاف في الإجابة عنه بالنفي لوضوح عدم دخل الوجود في الهويّة التقررية للماهية، ولهذا لا يتحقّق ـ أعني الوجود الخارجي ـ بمجرد تصوّرها ذهناً، وعليه فكل ماهية نفترضها يمكن أن توجد ويمكن أن لا توجد.

ولا أرغب في الاستشهاد لعدم كون الوجود من لوازم أيّ ماهية ممّا حولنا من الماهيات بما قد نحسّ به من حدوثها وتحققها بعد أن لم تكن كما فعله

33

بعضهم(1)؛ لأنّ الحدوث وحده كاف في مقابل الإمكان كنقطة بدء للاستدلال على وجود الله تعالى، كما سيأتي إن شاء الله في ما نسمّيه ببرهان الحدوث، فلا نرغب في الخلط والتركيب بينهما.

وأمّا المقدّمة الثانية: فتوضيحها: أنّه اذا كانت نسبة الماهية إلى الوجود والعدم على حدّ سواء فترجيح كلّ واحد من كفّتي الوجود والعدم على الاُخرى من دون علّة وبدون مرجّح غير معقول، واستحالة الترجيح بلا مرجّح من بديهيات العقل، وعلّة العدم عبارة عن عدم علّة الوجود.

وأمّا المقدّمة الثالثة: فتوضيحها: أنّ ما فرضناه علّة لإيجاد الماهية لو لم يكن واجب الوجود ولا منتهياً إلى واجب الوجود للزم التسلسل أو الدور، وكلاهما مستحيلان: أمّا استحالة الدور فلرجوعه إلى توقّف الشيء على نفسه، واستحالته من بديهيات العقل، وأمّا استحالة التسلسل فإمّا لبداهتها أو لبعض البراهين من قبيل برهان لزوم كون تمام السلسلة قد وجدت بلا مرجح.

ثُمّ إنّنا إنّما احتجنا في برهان الإمكان الذاتي إلى المقدّمة الاُولى وهي إثبات أنّ المادّة ممكنة الوجود؛ لأننا كنّا نهدف لإثبات أنّ المادّة ليست هي الله تعالى.

أمّا لو اُريد الاقتصار على إثبات واجب الوجود من دون هدف تعيين المصداق هل هو المادّة أم غيرها فالمقدّمة الاُولى يُستغنى عنها.

ثُمّ الواقع أنّ هذا البرهان مع ما سيأتي إن شاء الله من البرهان الرابع يمكن أن يكونا برهاناً واحداً؛ وذلك لأنّ هذا البرهان يناسب أصالة الماهية(2)، وما


(1) راجع الإلهيّات 1: 68.

(2) ويناسب أصالتهما أيضاً.

34

سيأتي إن شاء الله من البرهان الرابع يناسب أصالة الوجود(1)، ونحن في هذا الكتاب لا يسعنا الحديث عن هذين المبنيين وتحقيق ما هو الحق في المقام، إذن بإمكاننا أن نضمّ دليلاً على وجوده سبحانه على مبنى أصالة الماهية في المادّة إلى دليل على وجوده سبحانه على مبنى أصالة الوجود، ونعتبر مجموع الدليلين دليلاً واحداً على المقصود مستوعباً لكلا الاحتمالين.

ولعلّ الفهم الأوّلي للعوام هو أصالة الماهية، بمعنى تمايل أذهانهم إلى واقع أصالة الماهية من دون أن يعرفوا المصطلحات.

فإن كانت الماهية أصيلة صحّ أن يقال: هل الوجود ينبع منها أو يلازمها، أو أنّ له علّة مستقلّة عن هذا الشيء؟ ويكون الإيجاب بالثاني؛ لأنّ العقل يرى أنّ الماهية بما هي لا يكمن فيها الوجود.

أمّا على القول بأصالة الوجود وكون الماهية حدّاً للوجود ولو حدّاً وجودياً ـ فضلاً عن القول بكونها حدّاً عدمياً ـ فلا معنى للتساؤل عن كون الوجود لازماً لحدّه أو نابعاً عنه وعدمه، بل لابدّ عندئذ من تفسير إمكان الوجود ووجوبه بتفسير آخر ينسجم مع أصالة الوجود، كما سيأتي إن شاء الله في البرهان الرابع.

ومن الغريب أني رأيت برهان الإمكان بشكله المناسب لأصالة الماهية حتّى عند بعض القائلين بأصالة الوجود، فقد ذكر الشيخ السبحاني حفظه الله حسب تقرير الشيخ حسن المكّي العاملي: «إنّ كلّ معقول في الذهن إذا نسبنا إليه الوجود والتحقّق، فإمّا أن يصح اتّصافه به لذاته أو لا. الثاني هو ممتنع الوجود كاجتماع النقيضين، والأوّل إمّا أن يقتضي وجوب اتّصافه به لذاته أو لا، والأوّل هو واجب الوجود لذاته، والثاني هو ممكن الوجود لذاته ...»(2)، وأنت


(1) ويناسب أصالتهما أيضاً.

(2) الإلهيّات 1: 61.

35

ترى أنّ المعقول في الذهن حسب تصوّراتهم(1) ليس إلّا الماهية، وأنّ التساؤل عن نسبة الوجوب والإمكان للوجود بالقياس إلى الماهية لا معنى له لو فرضت الماهية حدّاً للوجود.

 

البرهان الثاني ـ برهان الحدوث

وهذا البرهان أيضاً مؤلّف من ثلاث مقدّمات:

الاُولى: الحدوث.

الثانية: احتياج الحادث إلى علّة.

الثالثة: ضرورة الانتهاء في سلسلة العلل إلى القديم؛ وذلك لاستحالة الدور والتسلسل.

أمّا المقدّمة الاُولى: وهي حدوث العالم، فلإثبات حدوثه طرق عديدة منها مايلى:

1 ـ الحركة الجوهريّة:

لا إشكال في كون العالم مليئاً بالحركة الظاهرية، والحركة: هي الخروج من القوّة إلى الفعل تدريجاً، أو قل: هي الزوال والحدوث المستمرّ، وهذه الحالة حسّيّة لنا في البشر في نموّه وبلوغ أشدّه ثُمّ انتكاسه، وكذلك في الحيوانات، والأشجار، وكذلك التغيّرات الاُخرى: من الحرّ والبرد والليل والنهار وحركة السيّارات وما إلى ذلك.

والمادّة عموماً ـ وفقاً لاكتشاف العلم الحديث ـ يتألّف كلّ مليمتر واحد منها


(1) إشارة إلى وجود تصوّر آخر وهو أنّ المعقول في الذهن يكون صورة عمّا هو خارج الذهن، لا ماهية مشتركة بين الوجود الذهني والوجود الخارجي.