والثانية: أنّنا حتّى لو فرضنا إجمال إنشاء الواقف أو حياديّته تجاه فرضين نأخذ بتحليل الأدلّة الشرعية للأحكام ولسان الشريعة في المقام كي نصل إلى المقصود. وهذا ما يستفاد من ظاهر عبارة الشيخ الأنصاري رحمه الله.
وبغضّ النظر عن بعض تعديلات لكلام أحد العلَمين وعدمه وأيضاً مع غضّ النظر عن أنّ الشيخ هل أفتى وفق طريقته التي اقترحها، أو لا؟ يكون المهمّ عندنا أنّ توحيد الطريقتين ممّا لا ينبغي، فلابدّ من الالتفات إلى جوهرين من الكلام معقولين سواء اخترناهما أو اخترنا أحدهما:
فتارة نقول: إنّ الواقف أنشأ وقف العين وتسبيل المنفعة وأنشأ ضمناً وقف المالية وتسبيل منفعتها، والإنشاء الثاني مقصود له بالاستقلال وإن كان بحسب تعبيره ضمنيّاً. وأُخرى نقول: إنّ الواقف لم ينشئ إلّا وقف العين، ولم يكن له نظر استقلالي إلى وقف المالية، وليست المالية إلّا جزءاً تحليليّاً للعين، ولكن لسان الشريعة يوصلنا بالتدقيق والتعمّق إلى النتيجة المطلوبة. فلا تغفل.
فروع مترتّبة علی جواز بيع الوقف
وبقي الكلام بعد ذلك في عدّة فروع:
الفرع الأوّل: هل يكون البدل مثل المبدل في كونه وقفاً أو يصير ملكاً طلقاً للبطن الموجود؟ من الواضح أنّ قانون المبادلة يقتضي أن يكون البدل أيضاً وقفاً على نحو المبدل؛ لأنّ الثمن يقوم مقام المثمن، فكما كان المثمن ملكاً غير طلق للبطون الموجودة يكون البدل أيضاً كذلك، فنحن إمّا أن نقول: إنّ الوقف بالخراب خرج عن كونه وقفاً، ولازم ذلك رجوعه إلى ملك الواقف أو وارثه، ولا تصل النوبة أصلاً إلى بيع الموقوف عليهم بأنفسهم أو بإذن وليّ الوقف للعين، وإمّا أن نقول بأنّه بالخراب لم يخرج عن الوقفية، فيكون بدل الوقف وقفاً لا محالة.
ولا فرق في الوصول إلى هذه النتيجة بين أن نستكشف جواز البيع بالطريقة الأُولى المقترحة من قِبل الشيخ الأنصاري وهو مجرّد التدقيق في لسان الشريعة، أو نستكشف جواز البيع بالطريقة الثانية المقترحة من قِبل السيّد الخوئي رحمه الله من تحليل مراد الواقف إلى وقف العين ووقف المالية ثم الوصول إلى الحكم الشرعي:
أمّا على الثاني فالأمر واضح؛ فإنّ المالية قد وقفها الواقف، وانتقالها من أيّ عين إلى أُخرى لا تؤثّر في وقفيّتها شيئاً.
وأمّا على الأوّل فلأنّ حكم الشريعة قد تعلّق بالتبديل، وليس معناه إلّا قيام الثمن مقام المثمن.
الفرع الثاني: هل إنّ حكم البدل مثل المبدل في عدم جواز بيعه إلّا بطروّ المجوّز وعروض المسوّغ، أو أنّه ليس كذلك بل يجوز بيعه لو رأى من بيده الاختيار من الناظر والمتولّي أو الحاكم مصلحة في بيعه وتبديله إلى شيء آخر؟
أفاد السيّد الخوئي رحمه الله ما حاصله: أنّ الظاهر هو الثاني؛ لأنّ عدم جواز البيع في المبدل كان خاصّاً بالمبدل؛ لأنّ الوقف تحبيس للعين وتسبيل للمنفعة، أمّا المحبوس الآخر فكان هو المالية، والمالية محفوظة في جميع أنحاء البدل.
ومن هنا ظهر أنّه لا مانع من تبديل العين الموقوفة في صورة عروض المسوّغ وجواز البيع بما لا يمكن أن يتعلّق به الوقف مثل الدنانير والدراهم التي لا يمكن الانتفاع بها إلّا بإعدام موضوعها ثم تبديلها بما ينتفع به، لأنّ تحبيس الدينار والدرهم وتسبيل منفعتهما غير ممكن(1).
أقول: أمّا المطلب الثاني وهو عدم إمكان وقف المالية ابتداءً _ لأنّها ليست متجسّدة في عين تحبس كالدينار والدرهم وتسبل منفعتها _ فقابل للمناقشة؛ وذلك
(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص275 _ 276.
لأنّه وإن كان الوقف المألوف في زمن النصوص كان بشكل حبس العين وتسبيل المنفعة دون حبس المالية وتسبيل منفعتها لكن قد يخطر بالبال التمسّك بإطلاق روايات الصدقة الجارية(1) ببيان أنّ عنوان الصدقة الجارية صادق على وقف المالية، وحبس المالية على عمل خيريّ أمر معقول وعقلائي، كحبسها على الاتّجار بها وتسبيل منفعتها على تعازي الإمام الحسين عليه السلام مثلاً أو أيّ مشروع خيريّ آخر، وانحصار مصداقها في زمن النصوص في تحبيس عين معيّنة لا يوجب انصرافها إلى ذلك.
وبهذا البيان نصحّح أمثال الصناديق الخيرية أو تمليك مال لحركة أو حزب أو ما شابه ذلك إن كان أمراً خيريّاً يتمشّی فيه قصد القربة.
إلّا أنّ فهم هذا الإطلاق من روايات الصدقة الجارية يتوقّف على أن لا نحتمل كون انحصار مصداق الصدقة الجارية وقتئذٍ في مرتكز المتشرّعة في الوقف الذي لا يبدّل ولا يباع ولا يوهب صالحاً للقرينية الموجبة لانصراف إطلاق عنوان الصدقة الجارية إلى ذلك، أمّا إذا احتملنا ذلك فقد بطل الإطلاق. ولعلّ السبب في انصراف الصدقة الجارية وقتئذٍ عن وقف المالية الصرفة ابتداءً كصدقة جارية في الارتكاز العرفي والمتشرّعي عدم تعقّل ذلك في ذاك الزمان ضمن الاقتصاد المغلق الذي لم يكن يتحمّل الزمان والمكان غير ذلك.
ولكن حلّ هذا الإشكال عبارة عن الرجوع إلى صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج الصريحة في جواز شرط الواقف حقّ البيع والتبديل، فيرجع واقع المطلب إلى التصدّق بالمالية، أو قل: وقف المالية القابلة للتجسيد في الأعيان المختلفة.
فراجع هذا الحديث وهو حديث مفصّل، وقد ورد فيه قوله(عليه السلام): «... وإن كان دار الحسن غير دار الصدقة فبدا له أن يبيعها، فليبعها إن شاء لا حرج عليه فيه، وإن باع فإنّه يقسّمها ثلاثة أثلاث، فيجعل ثلثاً في سبيل الله، ويجعل ثلثاً في بني هاشم
(1) راجع وسائل الشيعة، ج19، الباب الأوّل من کتاب الوقوف والصدقات، ص171 _ 175.
وبني المطّلب، ويجعل ثلثاً في آل أبي طالب...»(1)، فإن استظهرنا من هذا الكلام تبديل العين الموقوفة بعين أُخرى بأن يشتري بثمن الأُولى الثانية فهذا يكون ما أسميناه بوقف المالية. وإن استظهرنا من هذا الكلام بيع الوقف وصرف ثمنه على الموقوف عليهم قلنا: إذاً فصحّة شرط جواز البيع للتبديل أولى من شرط جواز البيع للصرف والاستهلاك، فإذا جاز هذا جاز ذاك، وذلك راجع _ كما قلنا _ إلى وقف وتمليك المالية؛ للتبدّل في تجسّدها من عين إلى عين.
وأيضاً ورد في نفس الحديث قبل هذا المقطع قوله: «فإن أراد ]يعني الحسن(عليه السلام)[ أن يبيع نصيباً من المال فيقضي به الدين فليفعل إن شاء لا حرج عليه فيه، وإن شاء جعله شِروى الملك ]يعني مثل الملك[ وإنّ ولد علي وأموالهم إلى الحسن بن علي» وهذا أيضاً إمّا راجع إلى وقف المالية أو إلى ما تكون صحّة وقف المالية أولى منه.
نعم، كلّ هذا بحسب مورد الرواية يختصّ بفرض الوقف بقصد القربة، ولكن يمكن التعدّي _ بعدم الاحتمال العرفي للفرق _ إلى الوقف الذي لا يكون بقصد القربة، أو قل: إلى مطلق تمليك المالية وتحبيسها وتسبيل ثمرتها.
وأمّا المطلب الأوّل _ وهو أنّه في وقف العين بعد طروّ المجوّز للتبديل وتبديلها بعين أُخرى لا يحكم بضرورة عدم تبديل العين الثانية، فلو رأى المتولّي أو الحاكم تبديلها بعين ثالثة جاز ذلك _ فهذا يتمّ على مسلك السيّد الخوئي رحمه الله من أنّ مجوّز التبديل كان عبارة عن أنّ الواقف قد وقف العين والمالية. فوقفه للعين إنّما كان يقتضي الحفاظ على العين مدّة الإمكان، وقد انتفت تلك المدّة، أمّا وقفه للمالية فلا يقتضي إلّا الحفاظ على المالية ولو في ضمن عدّة بدائل من الأعيان، فلا مانع من تبديل بعد تبديل لو رأى المتولّي أو الحاكم ذلك.
(1) وسائل الشيعة، ج19،ص199_ 200، الباب10 من کتاب الوقوف والصدقات، ح3.
أمّا لو بنينا على المسلك الآخر وهو أنّ الفهم العرفي للدليل الشرعي اقتضى التبديل من دون تحليل فعل الواقف إلى وقف العين ووقف المالية بالاستقلال فهذا الوجه لا ينتج التبديل مرّة أُخرى إلّا إذا تكرّر المجوّز، وإلّا فيبقی احتمال أنّ البدل حلّ محلّ المبدل في تعلّق حقّ البطون المتأخّرة به ما لم يتكرّر المجوّز(1).
ولو آمنّا بكلا المسلكين كفى إيماننا بمسلك السيّد الخوئي رحمه الله في جواز التبديل للعين بعين أُخرى عدّة مرّات لو رأى المتولّي أو الحاكم ذلك.
الفرع الثالث: هل يعتبر بعد البيع شراء المماثل للوقف، أو لا؟
إن كان دليلنا على جواز البيع مجرّد الفهم من الدليل الشرعي من دون افتراض انحلال وقف الواقف إلى وقف العين ووقف المالية فلم نعرف دليلاً على اعتبار شراء المماثل.
وإن كنّا نعتقد أنّ وقف الواقف منحلّ إلى وقف العين ووقف المالية فالمقياس أيضاً ليس عنوان شراء المماثل، وإنّما المقياس عنوان الاحتفاظ بما وقفت عليه المالية بقدر الإمكان؛ بحكم أنّ الوقوف حسب ما يقفها أهلها.
الفرع الرابع: أنّ المباشر للبيع هل هو المتولّي أو الموقوف عليهم الموجودون أو الحاكم أو البطون الموجودة مع الحاكم؟
أفاد الشيخ الأنصاري رحمه الله: «إنّ المتولّي للبيع هو البطن الموجودة بضميمة الحاكم القيّم من قبل سائر البطون، ويحتمل أن يكون هذا إلى الناظر إن كان؛ لأنّه المنصوب لمعظم الأُمور الراجعة إلى الوقف، إلّا أن يقال بعدم انصراف وظيفته المجعولة من قِبل الواقف إلى التصرّف في نفس العين»(2).
(1) وتوضيح ذلك: أنّ احتمال تعلّق حقّ البطون المتأخّرة بعين البدل يجعلنا لا نجزم بصحّة البيع الثاني والأصل في المعاملات الفساد. وهذا بخلاف ما لو آمنّا بمسلك السيّد الخوئي(رحمه الله) الذي ينتج أنّ حقّ البطون المتأخّرة تعلّقت بالمالية لا بعين البدل.
(2) کتاب المكاسب، ج4، ص69.
وأفاد السيّد الخوئي رحمه الله: أنّ المتولّي المنصوب من قِبل الواقف لدى الوقف إن كان قد جعله متولّياً حتّى لمثل هذا البيع بأن سلب سلطنة الموقوف عليهم عن الوقف من هذه الجهة وجعل سلطنة ذلك للمتولّي فلا إشكال في أنّ المباشر للبيع هو المتولّي.
أمّا لو لم يكن الواقف قد نصب متولّياً أو كان قد نصبه لإصلاح الوقف فحسب لا لبيعه لدى حصول المجوّز للبيع فالمباشر للبيع هو البطن الموجود من الموقوف عليهم المالك فعلاً للوقف؛ لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم، ولا وجه لأن يكون منوطاً بنظر الحاكم أيضاً.
الّلهم إلّا أن يقال: إنّ انضمام الحاكم إلى البطون الموجودة المالكة يكون من جهة كونه وليّاً للبطون المتأخّرة. ولكن هذا المعنى ممنوع:
أمّا أوّلاً: فلأنّه قد يفترض بعض البطون المتأخّرة موجودين فعلاً من الطبقة الثانية أو الثالثة أيضاً وإن لم يكونوا مالكين فعلاً للوقف مادام البطن الأوّل موجوداً، أفهل يكون الحاكم الشرعي حاكماً على البطون الموجودين؟!
وأمّا ثانياً: فلأنّ الوقف ملك للطبقة الأُولى ماداموا موجودين، ولا نتعقّل الملكية الشأنية الجارية على لسان الشيخ الأنصاري رحمه الله لغيرهم من المعدومين والموجودين(1).
نعم، جعل الواقف لهم الملكية التقديرية، بمعنى أنّهم يملكون الوقف لو انقرض البطن السابق، ولا أثر للملكية التقديرية، وإلّا فجميع الورّاث في العالم يملكون مال مورّثهم على تقدير موته، أفهل يمنع ذلك المورّث من بيع ماله؟!
فتحصّل: أنّه لا وجه لاعتبار انضمام الحاكم على جميع التقادير أصلاً.
أقول: إنّ هذا الكلام من أوّله إلى آخره لا يمكن المساعدة عليه، وأطرف ما فيه ما ذكره أخيراً من النقض بإرث الوارث الذي لا يمنع المورّث عن بيع ماله أو استهلاكه.
(1) کتاب المكاسب، ج4، ص63.
فإنّ الواقف قد أنشأ ملكية كلّ البطون بطناً بعد بطن منذ البدء، والشريعة أمضت ذلك، وهذا يعني أنّ البطن المعدوم يكون محكوماً من الآن بآثار ملكيّته في حينه وكذلك البطن المتأخّر الموجود في زمان البطن الأوّل محكوم من الآن بآثار ملكيّته في حين موت البطن الأوّل، أو قل: إنّ اعتبار الملكية في المقطع الزماني المتأخّر ثابت من الآن، ولا يصغى _ في زماننا الحاضر الذي اتّضح فيه معنى الملكية وأنّها ليست إلّا أمراً اعتباريّاً _ إلى القول بأنّ المعدوم لا يملك أو أنّ البطن المتأخّر لا يملك(1).
والخلاصة: أنّ تعلّق الحقّ المانع عن بيع السابق نافذ المفعول من الآن، وإن شئت فسمّ هذا بالملكية الشأنية إلّا أنّهم لا يستطيعون الآن الترخيص في البيع، فيأتي دور حاكم الشرع، فلا أقلّ من الاحتياط بإذن حاكم الشرع إن لم نفت صريحاً بذلك.
الفرع الخامس: لو كان الواقف قد جعل ناظراً على الوقف ثم طرأ المجوّز للتبديل فأُبدِل الوقف بعین أُخرى فهل يبقى الناظر ناظراً على بدل الوقف أو تسقط نظارته، فبالنسبة للبدل يكون حاله حال ما إذا لم يكن الواقف قد عيّن ناظراً للوقف؟
أفاد الشيخ الأنصاري رحمه الله في المقام: «الظاهر سقوط نظارته عن بدل الوقف. ويحتمل بقاؤه؛ لتعلّق حقّه بالعين الموقوفة، فيتعلّق ببدلها»(2).
أقول: أمّا الوجه الذي ذكره للاحتمال الثاني فيبدو أنّه ضعيف عند الشيخ رحمه الله؛ إذ قال: «الظاهر سقوط نظارته عن بدل الوقف» ووجه ضعفه واضح؛ لأنّ معنى
(1) وقد أفاد السيّد الخوئي(رحمه الله) عدم استحالة كون المعدوم مالكاً، وإنّما قال بعدم مالكيّته في المقام من جهة عدم شمول إنشاء الواقف وتمليكه لهم مع وجود البطن الموجود، كما صرّح(رحمه الله) بذلك في التنقيح، موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص282، ولكنّي لا أدري لماذا يفترض(رحمه الله) _ بعد إمكان مالكية المعدوم _ أنّ الواقف الذي جعل ما وقفه للبطون بطناً بعد بطن أنّه لم ينشئ ولم يعتبر ملكيّتهم المتأخّرة من الآن، بمعنى تقدّم الاعتبار وتأخّر المعتبر؟
(2) کتاب المكاسب، ج4، ص69.
البدلية إنّما هو تعلّق الحقّ الذي كان على المبدل للموقوف عليهم على البدل، لا تعلّق كلّ أحكام المبدل على البدل.
وأمّا ما استظهره الشيخ من سقوط حقّ نظارة الناظر عن البدل فقد أفاد السيّد الخوئي رحمه الله بشأنه ما يلي: الظاهر أنّ هذا لا يحتاج إلى بحث، بل هو دائر مدار جعل الواقف في تعيينه الناظر؛ لأنّه تارة يجعل شخصاً ناظراً لنفس العين الموقوفة لأجل خصوصية فيها بحيث لو باع الدار مثلاً واشترى بثمنها شيئاً آخر غير الدار لم يجعله ناظراً على البدل، كما إذا كان الوقف داراً وجعل لها ناظراً من المعمارين من جهة أنّه أعرف بمصلحة الدار، فلو فرضنا بيعها بمجوّز واشترى بثمنها شيئاً آخر ليس للمعمار فيه شأن أصلاً، وعندئذٍ لا مانع من القول بسقوط نظارته عن البدل. وأُخرى يجعله ناظراً على الإطلاق أعمّ من نفس العين الموقوفة وبدلها درءاً لوقوع المخاصمة والمشاجرة بين الموقوف عليهم في كلّ طبقة مثلاً، فالمناط في هذا المقام كيفية جعل النظارة من قبل الواقف(1).
الفرع السادس: ما ذكره الشيخ(قدس سره) بقوله: «لو لم يمكن شراء بدله ولم يكن الثمن ممّا ينتفع به مع بقاء عينه _ كالنقدين _ فلا يجوز دفعه إلى البطن الموجود؛ لما عرفت من كونه کالمبيع مشتركاً بين جميع البطون، وحينئذٍ فيوضع عند أمين حتّى يتمكّن من شراء ما ينتفع به ولو مع الخيار إلى مدّة، ولو طلب ذلك البطن الموجود فلا يبعد وجوب إجابته، ولا يعطّل الثمن حتّى يوجد ما يشتری به من غير خيار. نعم، لو رضي الموجود بالاتّجار به وكانت المصلحة في التجارة جاز مع المصلحة إلى أن يوجد البدل، والربح تابع للأصل، ولا يملكه الموجودون؛ لأنّه جزء من المبيع، وليس كالنماء الحقيقي»(2).
(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ص279.
(2) کتاب المكاسب، ج4، ص69 _ 70.
وقد قطّع السيّد الخوئي رحمه الله البحث في هذا المقطع من كلام الشيخ إلى عدّة جهات من البحث:
الجهة الأُولى: في أصل جواز إبدال الوقف بما لا يمكن وقفه مثل الدنانير والدراهم. قال رحمه الله: وربّما يقال بعدم جواز ذلك؛ لأنّ البدل لابدّ وأن يكون مثل المبدل في كونه تحبيساً للعين وتسبيلاً للمنفعة...(1).
وعلّق على ذلك السيّد الخوئي رحمه الله بقوله:
«أوّلاً: أنّ ما ذكره(قدس سره) من مقالة عدم إمكان هذا المعنى في مثل الدنانير وإن كان متيناً إلّا أنّه لا مانع من جعل البدل ديناراً مقدّمة لأن يشتري به ما يكون قابلاً للوقف. وبعبارة أُخرى: أنّه لمّا كان الغالب كون الثمن من الدنانير والدراهم فلا مانع من تبديل الوقف إلى الدينار مثلاً ليوصل به إلى اشتراء ما يمكن وقفه والانتفاع به مع بقاء عينه.
وثانياً: أنّه لا مانع من وقف نفس الدينار والدرهم لا ابتداءً بل في مرحلة التبديل بعد ملاحظة ما ذكرناه آنفاً(2) من جواز بيع البدل ولو بلا عروض المجوّز»(3).
أقول: إنّ التعليق الذي لدينا على هذا الكلام هو ما وضّحناه في الفرع الثاني من أنّ وقف المالية أمر ممكن، إلّا أنّ هذا لا يمانع عن التعليقين اللذين علّق السيّد الخوئي رحمه الله على كلام الشيخ الإيرواني.
الجهة الثانية: في شراء ما ينتفع به مع الخيار.
قال رحمه الله: أصل جواز ذلك لا إشكال فيه رغم خيار البائع، ولا ينافيه التأبيد المشروط في الوقف، كيف وقد أجزنا بيع البدل من دون طروّ المجوّز من جديد. نعم،
(1) والقائل هو الشيخ الإيرواني في حاشيته على المكاسب 2:459
(2) إشارة إلى ما نقلناه عنه(رحمه الله) آنفاً فيما ذكرناه بعنوان الفرع الثاني.
(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص280 _ 281.
ما ذكره الشيخ من تقييد وجوب الشراء بصورة المطالبة من قِبل البطن الموجود غير صحيح، بل يجب هذا الشراء سواء طلب البطن الموجود أو لا؛ لأنّ تعطيل الوقف وعدم تبديله إلى شيء يمكن الانتفاع به ولو في زمان يعدّ تضييعاً للوقف، وهذا المعنى مخالف لإنشاء الواقف وغرضه؛ بداهة أنّ غرضه من الوقف انتفاع البطون من نفس العين الموقوفة عند الإمكان ومن بدلها مع عدمه، فعليه لابدّ من تبديل الدنانير مثلاً إلى شيء خياري يمكن الانتفاع منه مع بقاء عينه ولو كان بزمان قليل مثلاً؛ لأنّ تعطيل هذا تضييع للوقف ومنافٍ لـ «الوقوف على حسب ما يقفها أهلها» من حيث تحبيس العين وتسبيل المنفعة(1).
أقول: من الواضح أنّ تحبيس العين وتسبيل المنفعة أو «الوقوف حسب ما يقفها أهلها» لا يعني ضرورة إجبار الموقوف عليه على الاستفادة، وإنّما يعني تمكينه من الاستفادة، فإن كان البطن الموجود راضياً بعدم الاستفادة وكان متمكّناً من الاستفادة بتبديل الدينار ببيع خياري متى ما أراد كفى ذلك في تحقّق ما أنشأه الواقف أو ما كان غرضاً له، فلعلّ هذا هو مراد الشيخ من تقييد وجوب الشراء بصورة المطالبة.
نعم، لو فرضنا احتمال أنّه لو لم يتمّ الآن التبديل بما يمكن الانتفاع به فسيأتي زمان يريد البطن الاستفادة ولكنّه يعجز عندئذٍ من التبديل والاستفادة، صحّ تعليق السيّد الخوئي رحمه الله على كلام الشيخ إن كان إطلاق كلام الشيخ لهذا الفرض مقصوداً له.
الجهة الثالثة: فيما ذكره الشيخ رحمه الله من وجوب جعل الثمن عند أمين من دون أن يعطی إلى البطن الموجود؛ لأجل كونه مشتركاً بين الموجودين منهم والمعدومين.
أفاد السيّد الخوئي رحمه الله: أنّ ما قاله الشيخ رحمه الله في المقام في غير محلّه، بل لابدّ من إعطائه وجعله عند البطن الموجود؛ لكونه ملكاً لهم، غاية الأمر أنّها ملكية خاصّة، أي: التي لا تباع ولا تورث، فلا وجه لجعله عند أمين والمعدومون ليسوا بمالكين
(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص281.
فعلاً، ولا حقّ لهم في ذلك، لا من باب استحالة كون المعدوم مالكاً، بل من جهة عدم شمول إنشاء الواقف وتمليكه لهم مع وجود البطن الموجود. نعم، إنّ المعدومين يكونون مالكين بعد انقراض البطن الموجود وبقاء العين الموقوفة...(1).
أقول: قد مضى منّا(2) أنّ الواقف قد أنشأ ملك البطون المتأخرّة، لا بمعنى إنشاء ملكيّتهم في ظرف الآن بأن يكون ظرف الآن هو ظرف ملكيّتهم الفعلية، بل بمعنى إنشاء ملكيّتهم المتأخّرة على أساس تقدّم الاعتبار وتأخّر المعتبر، وقلنا: إن شئت فسمّ هذا بالملكية الشأنية.
نعم، لا بأس بجعله تحت يد البطن الأوّل إن كان أميناً بوصفه أميناً، لا بوصفه المالك الوحيد.
الجهة الرابعة: في اتّجار الموجودين بثمن الوقف.
أفاد السيّد الخوئي رحمه الله: أنّ الظاهر جوازه؛ لأنّه ملكهم، والربح يكون تابعاً للعين؛ لأنّه جزء البدل، وليس من قبيل المنافع، بل من قبيل اتّساع الوقف، فإذا اشترى بالثمن صوفاً مثلاً صار هو بدل الوقف، فإذا بيع بثمن أعلى صار مجموع الثمن بدل الوقف، ولا وجه لعود الربح إلى البطن الموجود، فهو نظير تبديل الدار الموقوفة الضيّقة بدار واسعة، فإنّ الدار الواسعة حينئذٍ بأجمعها تكون وقفاً(3).
أقول: إنّ أصل ما أفتى به رحمه الله صحيح، لكن لا لأنّه ملكهم وحدهم، بل عرفت أنّ الواقف اعتبر الوقف ملكاً للمعدومين أيضاً على أساس تقدّم الاعتبار على المعتبر، وإذاً فلابدّ من إذن الولي الشرعي بلحاظ البطون المتأخّرة ولو بأن يكون هو الحاكم.
الفرع السابع: قال الشيخ رحمه الله: «لا فرق في جميع ما ذكرنا من جواز البيع مع خراب
(1) المصدر السابق، ص282.
(2) في الفرع الرابع.
(3) المصدر السابق.
الوقف بين عروض الخراب لكلّه أو بعضه، فيباع البعض المخروب ويجعل بدله ما يكون وقفاً، ولو كان صرف ثمنه في باقيه بحيث يوجب زيادة منفعته جاز مع رضا الكلّ؛ لما عرفت من كون الثمن ملكاً للبطون، فلهم التصرّف فيه على ظنّ المصلحة. ومنه يعلم جواز صرفه في وقف آخر عليهم على نحو هذا الوقف، فيجوز صرف ثمن ملك مخروب في تعمير وقف آخر عليهم»(1).
أقول: وليكن ذلك بضمّ إجازة الولي بلحاظ البطون الذين لم تصل النوبة لهم.
وكلام السيّد الخوئي رحمه الله(2) يقارب كلام الشيخ أو يطابقه.
الفرع الثامن: إذا احتاج الوقف إلى صرف المنفعة الموجودة التي هي ملك طلق للموجودين من البطون في تعمير الوقف، بحیث لو لم تصرف فيه لا يمکن انتفاع البطن اللاحق من الوقف، هل يجب صرفها في عمارة الوقف حفظاً للوقف عن خروجه عن قابلية انتفاع البطون اللاحقة به، أو لا؟
أفاد السيّد الخوئي رحمه الله: أنّه لو اشترط الواقف ضمن الوقف إخراج مؤونة الوقف وما يحتاج إليه من جهة العمارة من منافع الوقف قبل القسمة وجب ذلك، وإلّا لم يجب على الموجودين أن يصرفوا المنافع الموجودة في تعمير الوقف لأجل حفظ الوقف عن خروجه عن قابلية الانتفاع به بالنسبة إلى البطون اللاحقة؛ لأنّ المنفعة ملك طلق للموجودين، فلهم أن ينتفعوا من الوقف ماداموا موجودين، ولا وجه لوجوب صرف الإنسان مال نفسه في حفظ مال شخص آخر.
نعم، لو كان الخراب مستنداً إلى الأُمور الجزئية، كما إذا سقط الميزاب من سطح الدار أو حصل ثقب في سقفها بحيث لو لم يعمّر ذلك لخربت الدار بنزول المطر ولم ينتفع منها الموجودون أيضاً فحينئذٍ لا مانع من دعوى الارتكاز العرفي ضمن صيغة الوقف
(1) کتاب المكاسب، ج4، ص70.
(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)،ج37، ص282.
في استتثناء المصارف من المنافع قبل تقسيمها على البطون الموجودة(1).
وعبارة التنقيح متأرجحة بين كون منشأ الارتكاز والانصراف كون المصارف جزئية، أو كونها لابدّ منها حتّى لأجل البطن الموجود فعلاً.
وعلى أيّ حال فمتى ما كان الارتكاز يتمّ كلام السيّد الخوئي رحمه الله؛ لأنّ الارتكاز راجع إلى شرط الواقف ضمن الوقف.
الفرع التاسع: لو خرب بعض الوقف وخرج عن الانتفاع وبقي بعضه محتاجاً إلى عمارة لا يمكن بدونها انتفاع البطون اللاحقة، فهل يصرف ثمن المخروب إلى عمارة الباقي وإن لم يرض البطن الموجود وأراد تبديله بما ينتفع هو به الآن، أو لا؟
أفاد السيّد الخوئي رحمه الله: أنّ هذا حاله حال الفرع السابق من أنّه مع شرط الواقف ضمن الوقف حفظ الباقي بثمن المخروب يجب ذلك، وبدونه يعمل بما يريده البطن الموجود(2).
أقول: أنّ ملك البطون المتأخّرة للمخروب وللباقي ثابت على شكل تقدّم الاعتبار وتأخّر المعتبر، فلابدّ من العمل برأي الوليّ ولو كان هو الحاكم إمّا فتوىً أو احتياطاً.
الفرع العاشر: ما إذا فرضنا أنّ الوقف ممّا يمكن الانتفاع به فعلاً إلّا أنّه لو لم يُبَع فعلاً يسقط عن الانتفاع بعد مدّة قليلة بالمرّة ولا يشتريه شخص آخر في ذلك الظرف، كما إذا فرضنا أنّه يهدمه السلطان بعد شهر بفتح الشارع.
وقد أفاد السيّد الخوئي رحمه الله: أنّه لا إشكال في جواز بيعه؛ لأنّ تعطيله يؤدّي إلى تضييع الوقف وإعدام موضوعه. ثم أمر رحمه الله في التنقيح بالتأمّل(3)، ولعلّ الأمر بالتأمّل من المقرّر لا من السيّد الخوئي.
(1) المصدر السابق، ص283 _ 284.
(2) المصدر السابق، ص284.
(3) المصدر السابق، ص284 _ 285.
أقول: إنّ هذا مرجعه إلى ما مضى منّا في المورد الرابع من موارد جواز بيع العين الموقوفة لدى استعراضنا الإجمالي لموارد جواز البيع.
وحاصل الكلام: إنّه إمّا أن يحلّل إنشاء الواقف إلى وقف العين ووقف المالية أيضاً بالاستقلال، أو يستفاد من الأدلّة الشرعية مباشرة جواز البيع، ولا إشكال في أنّ هذا الجواز لا يكون إلّا لأجل شراء البديل.
التنبيه الثالث: ذكر الشيخ الأنصاري رحمه الله صورتين من الصور التي قد يقال فيهما بكونهما من مستثنيات عدم جواز بيع الوقف:
إحداهما: «أن يخرب بحيث يسقط عن الانتفاع المعتدّ به، بحيث يصدق عرفاً أنّه لا منفعة فيه»(1). والأُخرى: «أن يخرب بحيث يقلّ منفعته لكن لا إلى حدّ يلحق بالمعدوم»(2).
ويظهر منه رحمه الله التفصيل بين الصورتين، فألحق الأُولى بصورة انتفاء المنفعة كاملة وقال: «مجرّد حبس العين وإمساكه... لو وجب الوفاء به لمنع عن البيع في الصورة الأُولى ]يعني صورة انعدام المنفعة كاملة كالحيوان المذبوح والجذع البالي والحصير الخَلِقَ[»(3)، وقوّى في الثانية المنع عن البيع(4).
التنبيه الرابع: قد يُنسَب إلى الشيخ المفيد: أنّ من موارد بيع الوقف ما إذا كان أنفع وأعود للموقف عليه.
ونصّ عبارة الشيخ المفيد في المقنعة ما يلي: «الوقوف في الأصل صدقات لا يجوز
(1) راجع کتاب المكاسب، ج4، ص71 وما بعدها.
(2) المصدر السابق، ص76 وما بعدها.
(3) المصدر السابق، ص73.
(4) المصدر السابق، ص76 و77.
الرجوع فيها إلّا أن يُحدث الموقوف عليهم ما يمنع الشرع من معونتهم والتقرّب إلى الله بصلتهم أو يكون تغيير الشرط في الموقوف أدرّ عليهم وأنفع لهم من تركه على حاله، وإذا أخرج الواقف الوقف عن يده إلى من وقف عليه لم يجز له الرجوع في شيء منه ولا تغيير شرائطه ولا نقله عن وجوهه وسُبله. ومتى اشترط الواقف في الوقف أنّه متى احتاج إليه في حياته _ لفقر _ كان له بيعه وصرف ثمنه في مصالحه جاز له فعل ذلك، وليس لأرباب الوقف بعد وفاة الواقف أن يتصرّفوا فيه ببيع أو هبة أو يغيّروا شيئاً من شروطه إلّا أن يخرب الوقف ولا يوجد من يراعيه بعمارة من سلطان أو غيره أو يحصل بحيث لا يجدي نفعاً لهم، فلهم حينئذٍ بيعه والانتفاع بثمنه، وكذلك إن حصلت لهم ضرورة إلى ثمنه كان لهم حلّه، ولا يجوز ذلك مع عدم ما ذكرناه من الأسباب والضرورات»(1) انتهى كلامه رحمه الله.
وهذا واضح في أنّ مقصوده رحمه الله بيعه وأكل ثمنه إن كان أدرّ عليهم وأنفع لا تبديله بعين أُخرى، وخصّ ذلك بما قبل خروج الموقوف من يد الواقف إلى يد الموقوف عليهم أو موته، إذاً فلعلّه رحمه الله ناظر إلى فرض أنّ الوقف لا يتمّ قبل الخروج من يد الواقف، فأصل نظره رحمه الله إلى الاستثناء غير واضح.
وقال الشيخ رحمه الله ما مفاده: إنّ العلّامة ذكر في التحرير: أنّ قول المفيد بجواز الرجوع في الوقف إذا أحدث الموقوف عليهم ما يمنع الشرع من معونتهم والتقرّب إلى الله بصلتهم أو يكون تغيير الشرط في الموقوف أدرّ عليهم وأنفع لهم من تركه على حاله متأوّل(2).
وعلّق الشيخ رحمه الله على ذلك بقوله: «ولعلّه من شدّة مخالفته للقواعد لم يرتض بظاهره للمفيد»(3).
(1) المقنعة، ص652 _ 653.
(2) کتاب المكاسب، ج4، ص45.
(3) المصدر السابق، ص45.
وقال الشيخ رحمه الله: إنّ زيادة النفع والدرّ تلحظ بالنسبة للبطن الموجود لو قيل بأكله للثمن، وتلحظ بالنسبة لجميع البطون لو قيل بوجوب شراء بدل الوقف بثمنه(1).
ثم أفاد رحمه الله: والأقوى المنع مطلقاً وفاقاً للأكثر، بل الكلّ بناء على ما تقدّم من عدم دلالة قول المفيد للاستثناء، وعلى تقدير دلالته فقد ذكر العلّامة في التحرير أنّ كلام المفيد متأوّل. وكيف كان فلا إشكال في المنع، لوجود مقتضي المنع وهو وجوب العمل على طبق إنشاء الواقف وقوله(عليه السلام): «لا يجوز شراء الوقف»(2) وغير ذلك(3)، وعدم ما يصلح للمنع، عدا رواية ابن محبوب عن علي بن رئاب عن جعفر بن حنّان(4) قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن رجل وقف غلّة له على قرابته من أبيه وقرابته من أُمّه وأوصى لرجل ولعقبه ليس بينه وبينه قرابة بثلاثمائة درهم في كلّ سنة ويقسم الباقي على قرابته من أبيه وقرابته من أُمّه فقال(عليه السلام): جائز للّذي أوصى له بذلك. قلت: أرأيت إن لم يخرج من غلّة تلك الأرض التي وقفها إلّا خمسمائة درهم؟ فقال: أليس في وصيّته أن يعطی الذي أوصى له من الغلّة ثلاثمائة درهم ويقسّم الباقي على قرابته من أبيه وقرابته من أُمّه؟ قلت: نعم. قال: ليس لقرابته أن يأخذوا من الغلّة شيئاً حتّى يوفّوا الموصى له ثلاثمائة درهم، ثم لهم ما يبقى بعد ذلك. قلت: أرأيت إن مات الذي أوصى له؟ قال: إن مات كانت الثلاثمائة درهم لورثته يتوارثونها ما بقي أحد منهم فأما إذا انقطع ورثته فلم يبق منهم أحد كانت الثلاثمائة درهم لقرابة الميّت يردّ ما يخرج من الوقف ثم يقسّم بينهم يتوارثون ذلك ما بقوا وبقيت الغلّة. قلت: فللورثة من قرابة الميّت أن يبيعوا الأرض إذا احتاجوا ولم يكفهم ما يخرج من
(1) المقنعة، ص78.
(2) إشارة إلى رواية أبي علي بن راشد الواردة في الوسائل، ج19، ص185، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح1.
(3) يعني باقي أدلّة المنع.
(4) أو جعفر بن حيّان.
الغلّة؟ قال: نعم إذا رضوا كلّهم وكان البيع خيراً لهم باعوا»(1).
والخبر المروي عن الاحتجاج: أنّ الحميري كتب إلى صاحب الزمان(عليه السلام): أنّه روي عن الصادق عليه السلام خبر مأثور: «...إذا كان الوقف على قوم بأعيانهم وأعقابهم فاجتمع أهل الوقف على بيعه وكان ذلك أصلح لهم أن يبيعوه فهل يجوز أن يشتری من بعضهم إن لم يجتمعوا كلّهم على البيع أم لا يجوز إلّا أن يجتمعوا كلّهم على ذلك؟ وعن الوقف الذي لا يجوز بيعه؟ فأجاب(عليه السلام): إذا كان الوقف على إمام المسلمين فلا يجوز بيعه، وإن كان على قوم من المسلمين فليجمع كلّ قوم ما يقدرون على بيعه مجتمعين ومتفرّقين إن شاء الله...»(2).
قال الشيخ الأنصاري رحمه الله: ويؤيّد المطلب _ أي: بيع كلّ قوم ما يقدرون على بيعه مجتمعين ومتفرّقين _ صدر رواية علي بن مهزيار في بيع حصّة ضيعة الإمام عليه السلام من الوقف(3).
ويقصد بذلك ما ورد في الوسائل بسند تام عن علي بن مهزيار قال: «كتبت إلى أبي جعفر الثاني(عليه السلام): إنّ فلاناً ابتاع ضيعة فأوقفها وجعل لك في الوقف الخمس ويسأل عن رأيك في بيع حصّتك من الأرض أو تقويمها على نفسه بما اشتراها أو يدعها موقفة، فكتب إليّ: أعلم فلاناً أنّي آمره أن يبيع حقّي من الضيعة وإيصال ثمن ذلك إليّ، وأنّ ذلك رأيي إن شاء الله أو يقوّمها على نفسه إن كان ذلك أوفق له»(4).
(1) وسائل الشيعة، ج19، ص190، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح8.
(2) الاحتجاج، ج2، ص490؛ وانظر وسائل الشيعة، ج19، ص191، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح9.
(3) کتاب المکاسب،ج4، ص78 _ 81.
(4) وسائل الشيعة، ج19، ص188، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح5. ويمكن حمل هذا على أنّه لم يكن هذا الخمس وقفاً أو حبساً، بل كان خمساً أو تمليكاً مجّانيّاً، فلعلّ قوله: «جعل لك في ←
ثم يبدأ الشيخ رحمه الله بمناقشة روايتي جعفر والحميري.
وعلى أيّ حال فلا إشكال في أنّ الروايتين ساقطتان سنداً:
أمّا رواية الاحتجاج فلوضوح أنّها مرسلة لا سند لها. وأمّا رواية جعفر فسواء فرضناه جعفر بن حنّان أو فرضناه جعفر بن حيّان لم يرد بشأنه أيّ توثيق.
وقد أورد السيّد الخوئي رحمه الله على الاستدلال برواية جعفر بن حنّان أو «ابن حيّان» مضافاً إلى ضعف السند بأنّ الرواية مشتملة على أشياء توجب وهن الرواية؛ وذلك لأنّه كيف تجتمع الوصيّة مع الوقف؟! لكونهما من المتنافيين، بداهة أنّ الوصيّة لو كانت قبل الوقف تكون باطلة بمجرّد الوقف، مثل ما إذا باع الموصي الشيء الموصى به، ولو كانت بعده فهي باطلة أيضاً؛ لأنّ الموصى به خارج عن ملكه(1).
إلّا أن يقال: إنّ المراد عن الوصيّة الشرط، يعني أنّ الواقف شرط في وقفه هكذا، فهذا جزء من الوقف، وقد تطلق الوصيّة لغةً وفي القرآن على الشرط، مثل قوله تعالى: ﴿يُوصِيْكُمُ اللّٰهُ﴾(2) فإن كان كذلك لم نفهم المراد من قوله في فرض ما إذا مات الذي أوصى له: «إن مات كانت ثلاثمائة درهم لورثته يتوارثونها بينهم ما بقي أحد منهم» بداهة أنّه على هذا يكون إعطاء ثلاثمائة درهم منوطاً بوجود من شرط الإعطاء له وهو الرجل وعقبه وفق ما اقتضاه الوقف، فإذن لا وجه لإعطائه لورثة المشروط له.
أمّا لو كان المقصود حقّاً الوصيّة وفرضنا صحّتها فلا وجه لأن يكون الموصى به بعد انقضاء ورثة الموصی له راجعاً إلى قرابة الميّت الواقف؛ بداهة أنّه على هذا يكون
→
الوقف» يعني في ضمن العين الموقوفة، لا أنّ هذا الخمس أيضاً وقف. كما يمكن أن يحمل ذلك على معنى أنّ الوقف على الشخص مشروط بقبوله أو قبضه، والإمام(عليه السلام) لم يقبله أو لم يقبضه وطلب منه بيعه أو تقويمه على نفسه مع إيصال ثمنه إلى الإمام(عليه السلام).
(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص290 _ 291.
(2) النساء: 11، ﴿يُوصِيْكُمُ اللّٰهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظَّ الأُنثَيَيْنِ...﴾.
ممّا لا وارث له، وعليه يكون مالاً للإمام(عليه السلام)؛ لأنّه وارث من لا وارث له.
وبعد غضّ النظر عن كلّ ما ذكرناه فالرواية لا دلالة لها على المطلب؛ لأنّها تدلّ على جواز البيع بشرط احتياج الموقوف عليهم ورضاهم بالبيع مع كون البيع أعود، فكفاية مجرّد كون البيع أعود وأنفع لهم لا تستفاد من الرواية. انتهی ما أردنا نقله من التنقيح مع حذف ما أردنا حذفه، وبإمكانك مراجعة المصدر.
وممّا يستفاد من عبارة الشيخ الأعظم رحمه الله أنّه ليس من المعلوم أن يكون المقصود بقوله(عليه السلام): «وكان البيع خيراً لهم» شرط الأعودية والأنفعية تعبّداً، فلعلّ المقصود أنّهم إذا ارتأوا خيرهم ومصلحتهم في البيع فأرادوا ذلك جاز، وهذا ممّا لا يقول به أحد(1).
بقي الكلام في رواية الاحتجاج بغضّ النظر عن سقوطها بالإرسال البحت.
وقد أفاد الشيخ الأنصاري رحمه الله(2): أنّ نفس ما أوردناه على الاستدلال برواية جعفر _ من عدم الدلالة على أنّ المقصود بالخير أو الصلاح الأعودية، وكون الأعودية هي الشرط الوحيد، وعدم الظفر بقائل بكفاية الأعودية عدا ما يوهمه ظاهر عبارة المفيد المتقدّمة _ يرد على الاستدلال برواية الاحتجاج.
وأفاد السيّد الخوئي رحمه الله في التنقيح بعد إلفات النظر إلى سقوط الحديث سنداً:
أوّلاً: «أنّ الرواية ليست في مقام بيان ما هو المجوّز لبيع الوقف، بل في مقام بيان أنّ أيّ وقف يصحّ بيعه بعد عروض المسوّغ، وهي ساكتة من بيان ما هو المجوّز والمسوّغ. وبعبارة واضحة: أنّ الرواية في مقام بيان أنّ بيع الوقف مع فرض وجود المسوّغ له هل يصحّ من بعض الموقوف عليهم أو يعتبر في جوازه اجتماعهم عليه، وأمّا ما يكون مجوّزاً أو مسوّغاً فليست في مقام بيانه»(3).
(1) کتاب المكاسب، ج4، ص81.
(2) المصدر السابق، ص82.
(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص292.
وثانياً: «أنّه على فرض التسليم إنّما تدلّ على جواز بيع الوقف مطلقاً؛ لأنّ الأصلحية إنّما ذكرت في كلام السائل، فلا توجب تقييداً»(1).
وثالثاً: سلّمنا كون الأصلحية قيداً للحكم إلّا أنّ الظاهر أنّ المراد بها الأصلحية بحال البائعين وهم البطن الموجود، ومن المعلوم أنّ بيع الوقف وتملّك ثمنه يكون أعود وأنفع لهم دائماً، فالمستفاد من الرواية على هذا جواز بيع الوقف للبطون الموجودة في جميع الموارد، فحينئذ لا تكون أخصّ من أدلّة منع بيع الوقف، بل يكون بينهما التباين، فتتعارضان....
أقول: إنّ الإشكال الأوّل من هذه الإشكالات الثلاثة يقصد رحمه الله به أنّ السائل فرض أنّ أهل الوقف اجتمعوا على بيعه وكان ذلك أصلح لهم، أمّا لماذا اجتمعوا على بيعه؟ فلم يذكره، وإنّما خصّ سؤاله بأنّه هل يجوز الشراء من بعضهم حصّة إذا اختلفوا في البيع وعدمه أو يختصّ الجواز بفرض اجتماعهم على البيع، فجواز البيع أُخذ مفروغاً من قبل في موضوع السؤال، ولا نعلم ما هو المجوّز، وجواب الإمام منصبّ على فرض جواز البيع، وأجاب عليه السلام بأنّ الشراء جائز حتّى مع الاختلاف فيما بينهم، فلك أن تشتري حصّة من وافق على البيع.
أقول: لأحد أن يستظهر من عبارة السائل: «وكان ذلك أصلح لهم» أنّ موضوع الجواز هو الأصلحية، فيكون ظاهر الجواب أيضاً الموافقة على هذا المقياس، فإن تمّ هذا الاستظهار بطل الإشكال الأوّل.
وأمّا الإشكال الثاني، وهو أنّ قيد الأصلحية إنّما ذكرت في كلام السائل دون جواب الإمام، وذلك لا يقيّد جواب الإمام، فأيضاً لقائل أن يقول: أنّ جواب الإمام ناظر إلى مفروض السؤال، فلا إطلاق له لغير فرض الأصلحية.
فالعمدة من هذه الإشكالات الثلاثة هو الإشكال الثالث، وهو أنّ الأصلحية ثابتة
(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص292.
مطلقاً؛ لأنّ ظاهر المراد هو الأصلحية بحال البائعين وهم البطن الموجود، ومن الواضح ثبوت أصلحية البيع وأكل الثمن لهم دائماً، فيكون التعارض مع أدلّة منع بيع الوقف تعارضاً بالتباين، فتتقدّم أدلّة المنع، لمسلّمية أصل المنع فقهيّاً، لا لما تعرّض له السيّد الخوئي رحمه الله في نهاية كلامه(1) من ضعف سند رواية الاحتجاج، فإنّ هذا رجوع إلى إشكال السند، وليس إشكالاً جديداً، ولا لما تعرّض له أيضاً في نهاية كلامه(2) من مبنى انقلاب النسبة على أساس أنّ الروايات المانعة خرج منها فرض الخراب بدليل جواز بيع الوقف لدى الخراب فصارت أخصّ، فإنّنا لا نقول بهذا المبنى في علم الأُصول.
التنبيه الخامس: فيما إذا أصابت الموقوف عليهم حاجة شديدة فقد ادّعي الإجماع تارة على جواز البيع في هذه الصورة، وأُخرى على عدم جوازه(3).
ولا قيمة للإجماعات المنقولة والمتضاربة في المقام.
والعمدة ما مضت من رواية جعفر بن حيّان أو جعفر بن حنّان، وفي ذيلها: «قلت: فللورثة من قرابة الميّت أن يبيعوا الأرض إذا احتاجوا ولم يكفهم ما يخرج الغلّة؟ قال: نعم إذا رضوا كلّهم وكان البيع خيراً لهم باعوا»(4).
وبغضّ النظر عن سقوط سند الحديث _ بنفس جعفر بن حيّان أو جعفر بن حنّان لعدم دليل على وثاقته _ لا تتمّ دلالة.
ومن الإشكالات الدلالية التي جرت على لسان الشيخ رحمه الله(5) وعلى لسان السيّد الخوئي(قدس سره)(6): أنّ المأخوذ في الرواية ليس هو طروّ الحاجة الشديدة، وإنّما هو عدم
(1) المصدر السابق، ص293.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق.
(4) وسائل الشيعة، ج19، ص190، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح8.
(5) کتاب المكاسب، ج4، ص83
(6) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)،ج37، ص294.
كفاية غلّة الأرض لمؤونة تلك السنة للموقوف عليهم(1)، فالرواية بظاهرها غير معمول بها ولم يفت بها أحد.
وادّعی الشيخ الأنصاري رحمه الله أنّ النسبة بين الحاجة الشديدة وبين مطلق الفقر عموماً من وجه؛ إذ قد يكون فقيراً ولا تتّفق له حاجة شديدة بل مطلق الحاجة؛ لوجدانه من مال الفقراء ما يوجب التوسعة عليه، وقد تتّفق الحاجة والضرورة الشديدة في بعض الأوقات لمن يقدر على مؤونة سنته.
التنبيه السادس: في جواز البيع عند الحاجة إذا اشترط الواقف ذلك.
والظاهر صحّة ذلك؛ تمسّكاً بإطلاق نصوص الوقوف حسب ما يقفها أهلها(2).
وتوهّم أنّ ذلك خلاف التأبيد الثابت في الارتكاز العرفي والمتشرّعي مدفوع بأنّه ليس التأبيد الثابت في الارتكاز العرفي والمتشرّعي بأكثر من أنّ الواقف يخرج العين عن ملكه أبديّاً وأنّ المؤقّت ليس خارجاً من ملك الواقف بل يكون حبساً، والحبس مفهوم آخر غير مفهوم الوقف، فالوقف تأبيد لسكون العين في إنشاء الواقف وهو ممضى شرعاً في غير موارد الاستثناء، وجعل حقّ البيع للموقوف عليه لا ينافي مفهوم الوقف، ولا ينافي الارتكاز العرفي والمتشرّعي، ودليل «الوقوف حسب ما يقفها أهلها» يقتضي بإطلاقه صحّة هذا الشرط، ورواية أبي علي بن راشد القائلة: «لا يجوز شراء الوقوف»(3) لا تدلّ على أكثر من حرمة مخالفة ما أنشأه الواقف.
ولدينا في النصوص الشرعية ما يحتمل _ على الأقلّ _ دلالته على صحّة شرط أن يكون للموقوف عليه حقّ البيع لنفسه، بل وحقّ إرجاعه إلى ملكه الطلق من دون
(1) وهذا _ على حدّ تعبير الشيخ الأنصاري(رحمه الله) _ أقلّ مراتب الفقر الشرعي.
(2) سبق ذكرها في الوجه الثاني من وجوه عدم جواز بيع الوقف.
(3) وسائل الشيعة، ج19، ص185، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح1.
بدل، وهو صحيح عبدالرحمن بن الحجّاج: «...فإن أراد [يعني الحسن(عليه السلام)] أن يبيع نصيباً من المال فيقضي به الدين فليفعل إن شاء لا حرج عليه فيه، وإن شاء جعله شروى الملك [يعني مثل الملك]، وإنّ ولد علي وأموالهم إلى الحسن بن علي...»(1).
التنبيه السابع: ذكر الشيخ رحمه الله الصورة السابعة [من صور جواز البيع]: «أن يؤدّي بقاؤه إلى خرابه علماً أو ظنّاً، وهو المعبّر عنه بـ «خوف الخراب» في كثير من العبائر...»(2).
وأفاد أيضاً: «الأقوى الجواز مع تأدية البقاء إلى الخراب على وجه لا ينتفع به نفعاً يعتدّ به عرفاً سواء كان لأجل الاختلاف أو غيره... فإنّ الغرض من عدم البيع عدم انقطاع شخصه، فإذا فرض العلم أو الظن بانقطاع شخصه فدار الأمر بين انقطاع شخصه ونوعه وبين انقطاع شخصه لا نوعه كان الثاني أولى، فليس فيه منافاة لغرض الواقف أصلاً.
وأمّا الأدلّة الشرعية [يعني المانعة] فغير ناهضة؛ لاختصاص الإجماع [يعني بغير هذه الصورة]، وانصراف النصوص إلى غير هذه الصورة، وأمّا الموقوف عليهم
(1) المصدر السابق، ص200، الباب10 من کتاب الوقوف والصدقات، ح3.
(2) کتاب المكاسب، ج4، ص88. والصور الستّ التي عدّدها(رحمه الله) قبل هذه الصورة _ سواء قبلها أو لا _ ما يلي: الأُولى: أن يخرب الوقف بحيث لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالحيوان المذبوح والجذع البالي والحصير الخَلِق. والثانية: أن يخرب بحيث يسقط عن الانتفاع المعتدّ به بحيث يصدق عرفاً أنّه لا منفعة فيه كدار انهدمت فصارت عَرصَة تؤجر للانتفاع بها بأُجرة لا تبلغ شيئاً معتدّاً به. والثالثة: أن يخرب بحيث تقلّ منفعته لكن لا إلى حدّ يلحق بالمعدوم. والرابعة: أن يكون بيع الوقف أنفع وأعود للموقوف عليه. والخامسة: أن يلحق الموقوف عليهم ضرورة شديدة. والسادسة: أن يشترط الواقف بيعه عند الحاجة أو إذا كان فيه مصلحة البطن الموجود أو جميع البطون أو عند مصلحة خاصّة على حسب ما يشترط، هذا. ونحن لم نقبل فيما مضى من هذه الصور إلّا الصورة الأُولى والثانية والسادسة.
فالمفروض إذاً الموجود منهم وقيام الناظر العام أو الخاصّ مقام غير الموجود. نعم، قد يشكل الأمر فيما لو فرض تضرّر البطن الموجود من بيعه للزوم تعطيل الانتفاع إلى زمان وجدان البدل أو كون البدل قليل المنفعة بالنسبة إلى الباقي. وممّا ذكرنا يظهر أنّه يجب تأخير البيع إلى آخر أزمنة إمكان البقاء مع عدم فوات الاستبدال فيه...»(1)، انتهى المقدار الذي أردنا نقله من عبارة الشيخ.
وأورد عليه السيّد الخوئي رحمه الله في التنقيح(2) بمنع انصراف نصوص عدم جواز بيع الوقف وشرائه، وعدم دخول الغلّة في ملكه، وأنّه لا دليل على جواز البيع بعد ما كانت العين الموقوفة الآن قابلة للانتفاع، وكونها معدومة الانتفاع فيما بعد لا يكون موجباً لجواز بيعه إلّا في ظرفه....
أقول: كان الأولى بالشيخ رحمه الله أن يستدلّ بما مضى منّا من أنّ الوقفية شملت العين والمالية، ومقتضى «أنّ الوقوف حسب ما يقفها أهلها» حفظهما معاً، وهذا ما لا يمكن، فمقتضى تلك القاعدة الحفاظ على أحدهما، فيجوز بيع العين قبل خرابها حفاظاً على المالية لكن ذلك في آخر أزمنة إمكان بقائها، ولعلّ هذا هو واقع مقصود الشيخ رحمه الله. ومع كون الالتزام ببقاء العين إلى آخر أزمنة الإمكان مستلزماً لفوات المالية بعد ذلك والتي هي أيضاً مشمولة لإنشاء المالك يكون دعوى انصراف رواية أبي علي بن راشد «لا يجوز شراء الوقوف»(3) دعوى في محلّها.
التنبيه الثامن: أفاد السيّد الخوئي رحمه الله في التنقيح:
«الصورة السابعة ]ممّا ادّعي استثناؤها من عدم جواز البيع[: ما إذا علم أو خيف وظنّ أن يكون بقاء العين الموقوفة على حالها مؤدّياً إلى تلفها وعدم إمكان الانتفاع بها.
(1) کتاب المكاسب، ج4، ص89 _ 90.
(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص299.
(3) وسائل الشيعة، ج19، ص185، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح1.
الصورة الثامنة: أن يقع بين الموقوف عليهم اختلاف لا يؤمن معه من تلف المال أو الأنفس. وظاهر هذا الكلام أنّه يجوز بيع العين الموقوفة عند وقوع الاختلاف بينهم بحيث لا يؤمن من تلف المال ولو كان المال المخوف تلفه غير العين الموقوفة.
الصورة التاسعة: أن يكون بقاؤها مؤدّياً إلى الضرر على الموقوف عليهم. وبعبارة أُخرى: أن يتوجّه عليهم الضرر من بقاء العين الموقوفة.
الصورة العاشرة: أن يلزم من بقاء العين الموقوفة فساد يستباح منه الأنفس...»(1).
إلى أن قال رحمه الله: بقي الكلام في الرواية التي استدلّ بها كلّ من جوّز البيع في هذه الصور الأربعة، وهي مكاتبة علي بن مهزيار وذكر رحمه الله هنا مقاطع من هذه المكاتبة(2).
ونصّها الكامل ما يلي: «كتبت إلى أبي جعفر الثاني(عليه السلام): إنّ فلاناً ابتاع ضيعة فأوقفها وجعل لك في الوقف الخمس ويسأل عن رأيك في بيع حصّتك من الأرض أو تقويمها على نفسه بما اشتراها أو يدعها موقفة، فكتب إليّ: أعلم فلاناً أنّي آمره أن يبيع حقّي من الضيعة وإيصال ثمن ذلك إليّ، وإنّ ذلك رأيي إن شاء الله أو يقوّمها على نفسه إن كان ذلك أوفق له»(3).
«وكتبت إليه: إنّ الرجل ذكر أنّ بين من وقف عليهم هذه الضيعة اختلافاً شديداً وأنّه ليس يأمن أن يتفاقم ذلك بينهم بعده، فإن كان ترى أن يبيع هذا الوقف ويدفع إلى كلّ إنسان منهم ما وقف له من ذلك أمرته، فكتب إليه بخطّه: وأعلمه أنّ رأيي له إن كان قد علم الاختلاف ما بين أصحاب الوقف أن يبيع الوقف أمثل فإنّه ربّما جاء في الاختلاف تلف الأموال والنفوس»(4).
(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص297.
(2) المصدر السابق، ص301.
(3) وسائل الشيعة، ج19، ص188، الباب6 من کتاب الوقوف والصدقات، ح5.
(4) المصدر السابق، ح6.