139

حمل المسلم على العدالة، كما نسب إلى ظاهر الشيخ؟

مقتضى القاعدة هو الأول؛ لأنّ العدالة _ بعد البناء على أخذ الملكة فيها، وعدم كفاية مجرّد عدم الفسق _ أمر وجودي مسبوق بالعدم، فما لم تثبت بالعلم، أو الاطمئنان، أو بمثل البيّنة، فمقتضى الأصل عدمها، واستصحاب عدم الفسق المستلزم أحياناً للعدالة لا يثبتها؛ لعدم حجّية الأصل المثبت.

وأمّا الروايات فهي على طوائف:

الأُولى _ ما دلّت على مقياسية حسن الظاهر من قبيل:

1_ رواية عبداللّه بن أبي يعفور، وهي مفصّلة، ومن جملة ما جاء فيها قوله: «... والدالّة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش ما وراء ذلك، ويجب عليهم تزكيتة وإظهار عدالته في الناس...»(1). ومن جملة ما جاء فيها ما مضى في بحث إضرار الصغائر بالعدالة وعدمها.

2_ ما عن يونس بن عبدالرحمان عن بعض رجاله، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن البيّنة إذا أُقيمت على الحقّ أيحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة؟ فقال: خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم: الولايات، والمناكح، والذبائح، والشهادات، والأنساب؛ فإذا كان ظاهرالرجل ظاهراً مأموناً جازت شهادته، ولا يسأل عن باطنه»(2). والسند ضعيف بالإرسال.

3_ ما عن عبداللّه بن المغيرة بسند تام قال: «قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) رجل


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص288 _ 289، الباب 41 من الشهادات، ح 1 و2.

(2) نفس المصدر، ص290، ح3 و4.

140

طلّق امرأته، وأشهد شاهدين ناصبيّين؟ قال: كلّ من ولد على الفطرة، وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته»(1).

ويمكن النقاش في دلالة هذه الرواية؛ إذ من المحتمل أن يكون المقصود بقوله: «عُرِف بالصلاح» العلم بالصلاح لا حسن الظاهر. وهذا الجواب إمّا ردّ على ما سئل عنه من كفاية شهادة الناصبيّين، أو بيان لكبرى صحيحة بنحو يوهم تقيّة انطباقها على الناصبي. وعلى أيّ حال يبعد أن يكون الظاهر عرفاً هو إرادة حسن الظاهر.

4_ ما عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس...»(2).

5_ ما عن ابن أبي عمير _ بسند غير تام _ عن إبراهيم بن زياد الكرخي، عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: «من صلّى خمس صلوات في اليوم والليلة في جماعة فَظُنّوا به خيراً، وأَجيزوا شهادته»(3).

6_ ما عن سماعة بن مهران _ وهي رواية تامّة سنداً _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم كان ممن حرمت غيبته، وكملت مروّته، وظهر عدله، ووجبت أُخوّته»(4).

وهذا الحديث يدل على كفاية حسن الظاهر بالمستوى المذكور، وعدم الحاجة إلى البيّنة أو اليقين، ولا يدل على عدم كفاية أقلّ من ذلك من مجرّد عدم العلم بالفسق،


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص 289، الباب 41 من الشهادات ، ح5.

(2) نفس المصدر، ص291، ح8.

(3) نفس المصدر، ح12.

(4) نفس المصدر ، ج8، ص597، الباب 152 من أحكام العشرة، ح 2؛ وج 5، ص393، الباب 11 من صلاة الجماعة، ح 9.

141

أو مستوىً أقلّ ممّا ورد فيه من حسن الظاهر، وذلك لأنّنا لم نؤمن بمفهوم الشرط بشكل السلب الكلّي، والسلب الجزئي في المقام يكفي فيه انتفاء بعض الجزاءات المتعاطفة.

7_ ما عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «شهادة القابلة جائزة على أنّه استهلّ، أو برز ميّتاً إذا سئل عنها فعدّلت»(1). والسند غير تام.

8 _ ما عن عبدالكريم بن أبي يعفور، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كنّ مستورات من أهل البيوتات، معروفات بالستر والعفاف، مطيعات للأزواج، تاركات للبذا والتبرج إلى الرجال في أنديتهم»(2). والسند غير تام.

9_ ما رواه الصدوق _ بإسناده التام _ عن العلا، عن محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الذمّي والعبد يشهدان على شهادة، ثم يسلم الذمّي ويعتق العبد، أتجوز شهادتهما على ما كانا أُشهدا عليه؟ قال: نعم. إذا علم منهما بعد ذلك خير جازت شهادتهما»(3).

الثانية _ ما دلّ على كفاية عدم العلم بالفسق من قبيل:

1_ ما رواه في الوسائل عن حريز بسند تام عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا، فعدّل منهم اثنان ولم يعدّل الآخران، فقال: «إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أُجيزت شهادتهم جميعاً، وأُقيم الحدّ على الذي شهدوا عليه. إنّما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا وعلموا، وعلى الوالي أن يجيز شهادتهم، إلا أن يكونوا معروفين بالفسق»(4).


(1) نفس المصدر ، ج 18، ص266، الباب 24 من الشهادات، ح 38.

(2) نفس المصدر ، ص294، الباب 24 من الشهادات، ح20.

(3) نفس المصدر، ص285، الباب 29 من الشهادات، ح 1.

(4) نفس المصدر، ص293، الباب 41 من الشهادات، ح 18.

142

2_ ما عن علقمة _ والسند غير تام _ قال: «قال الصادق (عليه السلام) وقد قلت له يا ابن رسول اللّه، أخبرني عمّن تقبل شهادته ومن لا تقبل، فقال: يا علقمة كلّ من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته. قال: فقلت له: تقبل شهادة مقترف بالذنوب؟ فقال: يا علقمة لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلا شهادة الأنبياء والأوصياء (عليه السلام)؛ لأنّهم المعصومون دون سائر الخلق، فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان، فهو من أهل العدالة والستر، وشهادته مقبولة، وإن كان في نفسه مذنباً، ومن اغتابه بما فيه فهو خارج من ولاية اللّه داخل في ولاية الشيطان»(1).

3_ ما عن علاء بن سيّابة، قال: سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن شهادة من يلعب بالحمام، فقال: لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق»(2).

وقد رواه الشيخ عنه بسند غير تام، ورواه الصدوق عنه بسند تام مع تكملة خارجة عمّا هو المقصود.

4_ ما عن سلمة بن كهيل، قال: «سمعت عليّاً (عليه السلام) يقول لشريح:... واعلم أنّ المسلمين عدول بعضهم على بعض إلا مجلود في حدّ لم يتب منه، أو معروف بشهادة زور، أو ظنين...»(3). والسند غير تام. ومن حيث الدلالة يدل على أصالة العدالة بشرط عدم كونه متّهماً وظنيناً.

ولا يمكن الجمع بين هاتين الطائفتين من الروايات ببيان أنّ الطائفة الأُولى دلّت على كفاية حسن الظاهر، وبالإطلاق دلّت على عدم كفاية شيء آخر، وهذه الروايات


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص292، الباب 41 من الشهادات، ح 13.

(2) نفس المصدر، ص291، ح 2، و ص305، الباب 54 من الشهادات، ح1 و3.

(3) نفس المصدر ، ص155، الباب الأول من آداب القاضي، ح 1، والباب 41 من الشهادات، ذيل حديث23.

143

دلّت على كفاية شيء آخر، وهذا تقييد لذاك الإطلاق.

والوجه في بطلان ذلك: أنّه لو كفى مجرّد عدم العلم بالفسق لإثبات العدالة لَلَغا حسن الظاهر، فهذا إلغاء للطائفة الأُولى ما عدا الرواية السادسة منها التي عرفت أنّها لا تدل على عدم كفاية ما هو أقلّ من حسن الظاهر.

والصحيح في مقام الجمع بين الطائفتين أن يقال: إنّ هذه الروايات لو دلّت على كفاية مجرّد عدم العلم بالفسق فإنّما دلّت بالإطلاق، فقوله مثلاً: «مَنْ لم تَرَهُ بعينك يرتكب ذنباً، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان» يشمل بإطلاقه من لم يصل إلى القاضي شاهدان يشهدان بفسقه، بينما يمكن تقييده بإرادة من يكون في بيئته وظروفه الاعتياديّة بين جيرانه وأصدقائه بنحو لا يوجد شاهدان يشهدان على فسقه، وهذا هو حسن الظاهر.

والواقع أنّ ما هو تام سنداً من الروايات _ التي فرضناها دالّة على جريان أصالة العدالة بمجرّد الشكّ _ لا يدل على أكثر من كفاية حسن الظاهر. فرواية حريز قالت: «إلا أن يكونوا معروفين بالفسق»، وهذه إنّما تدل على كفاية مجرّد عدم العلم بالفسق لو حملت على معنى: (إلا أن يكونوا معروفين لدى القاضي بالفسق)؛ بينما من المحتمل أن يكون المقصود: (إلا أن يكونوا معروفين في بيئتهم وبين أصدقائهم وجيرانهم بالفسق)، وعدم المعروفيّة بذلك في بيئته عبارة عن حسن الظاهر. وكذلك الكلام في قوله في رواية علاء بن سيّابة: «إذا كان لا يعرف بفسق».

نعم، لو وجدنا حديثا تاماً سنداً ودلالةً يدل على كفاية مجرّد عدم العلم بالفسق، فهاتان الروايتان لا تعارضانه، وحديث علقمة يدل على ذلك لكنّنا أشرنا إلى ضعفه سنداً.

وعلى أيّة حال فلو تمّ شيء من روايات الطائفة الثانية سنداً ودلالةً على كفاية

144

مجرّد عدم العلم فهو مقيّد بالطائفة الأولى الدالّة على اشتراط حسن الظاهر.

الثالثة _ ما دلّ على لزوم الاعتماد على الوثوق بالعدالة، كما مضى من رواية علي ابن راشد: «لا تصلّ إلا خلف من تثق بدينه» أو «بدينه وأمانته»(1).

ورواية يزيد بن حماد: «أُصلّي خلف من لا أعرف؟ قال: لا تصلّ إلا خلف من تثق بدينه»(2).

وما مضى في الطائفة الأُولى من رواية عبدالله بن المغيرة(3) بناءً على احتمال مضى ذكره في تفسير قوله: «عرف بالصلاح».

وهذه الطائفة تارةً نسقطها سنداً ودلالةً؛ لما مضى من عدم تماميّة سند الحديثين الأولين، ومن استظهار كون الحديث الثالث مفاده مفاد الطائفة الأُولى، ولا أقلّ من الإجمال؛ وأُخرى نفترض تماميّتها سنداً ودلالةً، ونحاول الجمع بينها وبين الطائفة الأُولى، وحينئذٍ نقول: لو كان العلم أو الوثوق المأخوذ فيها مأخوذاً كموضوع لجواز الائتمام فقد يشكل الأمر من ناحية أنّه حتى لو كان هذا العلم موضوعاً طريقيّاً لا موضوعاً صفتيّاً لم يثبت في علم الأصول قيام الأمارة مقام العلم الموضوعي حتى الموضوعي الطريقي. فالطائفة الأُولى الدالّة على أماريّة حسن الظاهر وحجّيّتها تبتلی بالمعارضة بهذه الطائفة الدالة، على أنّ العلم بالعدالة موضوع لجواز الأئتمام، وحيث إنّه مع موضوعيّة العلم لا يبقى مجال لحجّيّة الأمارة، إلا أنّ حمل هذه الطائفة على موضوعيّة العلم والوثوق خلاف الظاهر، والظاهر عرفاً وفق طبيعة كلمة العلم والوثوق هو أخذهما كطريق إلى متعلقهما، وعندئذٍ تنحلّ


(1) وسائل الشيعة ، ج 5، ص389، الباب 10 من صلاة الجماعة، ح2.

(2) نفس المصدر ، ص395، الباب 12 من صلاة الجماعة، ح1.

(3) نفس المصدر ، ص290، الباب 41 من الشهادات، ح5.

145

المعارضة بوضوح لما ثبت في علم الأصول من قيام الأمارات _ وحتى الأصول _ مقام العلم الطريقي. ومفاد الطائفة الأولى هو أماريّة حسن الظاهر على العدالة، فحسن الظاهر يقوم مقام الوثوق والعلم بالعدالة بلا أيّ معارضة بين الطائفتين. وهذا سنخ ما تراه من أنّنا لا نحسّ بأيّ تعارض بين هذه الروايات ودليل حجّية البيّنة الدالّة على ثبوت العدالة بالبيّنة.

نعم، لو كان لسان الدليل الذي أُخذ فيه العلم أو الوثوق طريقيّاً مشتملاً على خصوصيّة معيّنة تدل على رفض حجّية ما دلّت روايات أُخرى على حجّيته، وقع التعارض بينه وبين تلك الروايات، والظاهر ثبوت ذلك فيما بين الطائفة الثانية الدالّة على جريان أصالة العدالة بمجرّد الشكّ في الفسق وقوله في إحدى روايات الطائفة الثالثة: «أُصلّي خلف من لا أعرف؟ قال: لا تصلّ إلا خلف من تثق بدينه»؛ إذ إنّ هذا الجواب جاء كردٍّ على قول السائل: «أُصلّي خلف من لا أعرف»؛ بينما لو كانت أصالة العدالة ثابتة عند الشكّ فلا مورد لردّ ذلك، بل قد يقال: إنّ ذكر كلمة «الوثوق» أو «المعرفة» في جميع روايات الطائفة الثالثة لا يجتمع عرفاً مع افتراض كفاية مجرّد الشكّ في إثبات العدالة بأصالة العدالة، إلا أنّ هذا كلّه يعني التعارض بين الطائفة الثالثة والثانية، لا الطائفة الثالثة والأُولى، وقد حملنا فيما مضى ما تمّ سنداً من الطائفة الثانية على ما لا يتنافى مع الطائفة الأولى، وهذه الطائفة الثالثة أيضاً ستكون مؤيّدة لنفس ذاك الحمل؛ فالنتيجة النهائيّة هي أنّ حسن الظّاهر مقياس لمعرفة العدالة.

هذا تمام الكلام في أصل الشرائط الثابتة في القاضي المنصوب بشكل عام من قبل الإمام المعصوم (عليه السلام).

146

القاضي المنصوب من قبل الفقيه

والآن يقع الكلام في أنّه هل يجوز للفقيه الجامع للشرائط فى زماننا _ بناءً على الإيمان بولاية الفقيه _ أن ينصب شخصاً غير واجد لبعض تلك الشرائط قاضياً، أم لا؟

قد يقال بالتفصيل بين كل شرط يستظهر من دليله اشتراطه من قبل الشريعة الإسلامية كشرط العدالة، وكلّ شرط غاية ما دلّ الدليل عليه أنّ الولي المعصوم حينما أراد أن ينصب _ بنحو العموم _ فئةً للقضاء لاحظ هذا الشرط، وهذا يعني أنّ نصبه العام مقيّد بحدود تواجد هذا الشرط، ولا يدل على كونه شرطاً من قبل الشريعة الإسلامية، وذلك من قبيل الاجتهاد الذي استظهرنا اشتراطه من قوله: «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً».

ففي القسم الأول لا يجوز للفقيه نصب من كان فاقداً لذاك الشرط؛ لأنّ هذا خلاف أحكام الشريعة الإسلامية، وولاية الفقيه إنّما هي في دائرة الأحكام الإسلامية لا خارج حدود دائرتها. وفي القسم الثاني يجوز ذلك؛ إذ ليس نصبه قاضياً خارجاً عن حدود دائرة الأحكام الإسلامية؛ إذ لم يثبت اشتراطه من قبل الشريعة الإسلامية في القاضي. وأخذ الإمام المعصوم (عليه السلام) هذا الشرط في دائرة نصبه العامّ لا يحتمّ على الفقيه أخذه في دائرة نصبه الخاصّ، ومن الطبيعي اتّخاذ احتياطات في النصب العامّ الذي لا يختصّ بشخص معيّن ولا بزمان أو مكان معيّنَين ممّا لا يُهتمّ به في النصب الخاص لشخص خاص، ولمقطع زماني ومكاني خاص لدى ملاحظة الولي حالات ذاك الشخص بالخصوص، وظرف ذاك المقطع من الزمان أو المكان.

يبقى أنّنا لو شككنا في موردٍ ما أنّ الشرط الفلاني هل هو شرط من قبل الشريعة الإسلامية في منصب القضاء، أو شرط أخذه الإمام المعصوم في نصبه العام، فقد

147

يقال: إنّه في هذا الفرض لا يمكن التمسّك بإطلاق دليل ولاية الفقيه لإثبات جواز نصبه لفاقد هذا الشرط للقضاء؛ إذ لو كان واقعاً شرطاً من قبل الشريعة الإسلامية فهو غير داخل في دائرة ولاية الفقيه، فالتمسّك بإطلاق دليلها تمسّك بالعام في الشبهة المصداقية؛ فإنّ دليل الولاية إنّما أثبت للفقيه الولاية فيما هو جائز في ذاته، أو قل: إنّما أثبت للفقيه ما للإمام، ونحن شاكّون في أصل أن يكون للإمام حقّ نصب الفاقد هذا الشرط قاضياً.

ومن هنا قد يسري الإشكال إلى جميع الشروط الماضية، حتى ما كان ظاهر دليله أخذ الإمام (عليه السلام) له كقيد في نصبه كما في الاجتهاد، فإنّ ذاك الدليل لا ينفي _ على أيّ حال _ احتمال كون هذا شرطاً من قبل الشريعة الإسلامية، وإنّما غاية ما دلّ عليه الدليل هو ضيق دائرة نصب الإمام. أمّا سعة دائرة ما يقبل النصب في الشريعة الإسلامية فلم يدل عليها، فلا محالة يقع الشكّ في ذلك، ومعه يكون التمسّك بإطلاق دليل ولاية الفقيه تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقية.

وقد يجاب على ذلك: بأنّ دليل ولاية الفقيه دلّ على أنّ ما للمعصوم للفقيه، فلنرَ ما هو الثابت للمعصوم بحكم قوله تعالى: ﴿اَلنَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾؟(1)

لا ينبغي الإشكال في أنّ الحرمات التي ترجع إلى احترام النفس _ أي سلطة الإنسان على نفسه _ لا تقف مقابل ولاية النبي أو الإمام الذي ثبت عند الشيعة أنّه كالنبي؛ لأنّ هذا هو معنى أولويّة النبي بالمؤمنين من أنفسهم، وكذلك الحرمات التي ترجع إلى احترام المال، وذلك بدلالة الأولويّة.

نعم، الحرمات الأُخرى من قبيل حرمة شرب الخمر مثلاً لا ترتفع بولاية المعصوم،


(1) الأحزاب: 6.

148

فلا يقال: إنّ كلّ حرام سوف ترتفع حرمته بالولاية؛ لأنّها ولاية في إطار الحفاظ على واجبات ومحرّمات الإسلام، بل الحرمات الراجعة إلى احترام النفس أو المال تكون محكومة لهذه الولاية، فمن حقّ المعصوم أن يتملّك مثلاً مال شخص من دون رضاه، وقد ثبت بدليل ولاية الفقيه أنّ ما للإمام المعصوم للفقيه بقيد ملاحظة مصالح وشؤون الأُمّة المولّى عليها. إذاً فالحرمات المنتهية إلى سلطة الإنسان على نفسه أو ماله لا تقف مقابل إطلاق ولاية الفقيه. وعدم نفوذ قضاء من لم يكن جامعاً لشرائط القضاء على النفس والمال مرجعه في الحقيقة إلى أنّ هذا القضاء إن لم يكن _ في الواقع وفي علم اللّه _ قضاءً بحقّ فهو سوف لن يغيّر من الحقّ شيئاً؛ لأنّ تغييره له نفوذ في محلّ سلطة الآخرين؛ إلا أنّ مقتضى إطلاق ولاية الإمام وبالتالي ولاية الفقيه أنّ هذا الذي عيّن من قبل الإمام أو الفقيه أيّاً كان ينفذ قضاؤه؛ بمعنى أنّه حتى لو كان في الواقع مخالفاً للحقّ فهو نافذ ومضيّقٌ لسلطة الآخرين على نفوسهم أو أموالهم، خرج بالتخصيص كلّ مورد ثبت شرط من قبل الشريعة الإسلاميّة في نفوذ القضاء، وكان هذا الشخص غير واجد لذاك الشرط، أمّا كلّ مورد كان دليل الشرط فيه مجملاً، أو كان ظاهراً في كونه قيداً في نصب الإمام ولم نعرف هل هو شرط في نفس الوقت للقضاء من قبل الشريعة الإسلامية أو لا، فنرجع فيه إلى إطلاق دليل الولاية.

نعم، في بعض موارد القضاء يكون المورد من الحرمات التي لا ترجع إلى سلطة الإنسان على نفسه أو إلى احترام المال، من قبيل موارد الدماء والفروج، ولكنّا نتعدّى إلى هذا القسم بعدم احتمال الفصل فقهيّاً، فمن كان أهلاً لأن ينصب قاضياً فهو أهل له في كلا القسمين، ومن لا يكون أهلاً لذلك فليس أهلاً له في كلا القسمين وبما أنّ الدليل على عدم نفوذ القضاء في القسم الثاني هو أصالة عدم النفوذ، ودليل النفوذ في القسم الأول هو إطلاق دليل الولاية، فبعد فرض عدم الفصل نحكّم إطلاق

149

دليل الولاية على أصالة عدم النفوذ. وبتعبير آخر: إنّ لوازم الإطلاق حجّة، ولوازم الأصل ليست بحجّة، فنتعدّى من القسم الأول إلى القسم الثاني دون العكس.

إلا أنّه يمكن أن يناقش في ذلك بوجهين:

الأول _ أنّ ولاية الفقيه في بعض الأمور ولاية كاشفة، كحكم الفقيه بالهلال، ولا تنفذ على من علم بالخطأ، وفي بعض الأمور ولاية بمعنى حقّ التصرّف في الحكم الواقعي الأوّلي، كما لو حكم بوجوب إعطاء مبلغ من المال للدّولة، أو بتحديد الأسعار، وما شابه ذلك، وفي هذا القسم لا يتصوّر الخطأ. وولاية القضاء في الحقيقة هي من القسم الأول، أي: إنّ القضاء بالارتكاز له كاشفيّة، وتكون حجّيّته بمعنى كشفه عن أنّ الحقّ كان مع المحكوم له، ولذا لا يجوز لمن علم الخطأ أن يماشي هذا الحكم في مورد يؤدّي به إلى الحرام، فالمحكوم له مثلاً لو علم أنّ الحقّ مع صاحبه، وأنّه كان مُزوّراً يجب عليه تسليم الحقّ إلى ذي الحقّ.

نعم، لا يجوز للمحكوم عليه _ رغم علمه بأنّه على حقّ _ أن يطالب بحقّه، بل يجب عليه التسليم، وذلك بنكتة لزوم كون القضاء فاصلاً للخصومة على ما سيأتي إن شاء اللّه في محلّه شرح ذلك، إلا أنّ هذا التسليم إنّما هو في طول أصل حجّية القضاء بما له من كشف لمن لا يعلم بخطئه، رغم أنّ الكشف غير ثابت بالنسبة لهذا الشخص.

وعليه فنقول فيما نحن فيه: إنّه ماذا يقصد بنفوذ قضاء هذا القاضي الذي نصبه الفقيه وهو غير واجد لبعض الشروط المتقدّمة؟

فإن قصد بذلك وجوب التسليم له من قبل المحكوم عليه مثلاً ولو علم بأنّه على حقّ، وذلك خصماً للنزاع؛ ورد عليه: أنّ هذا إنّما يكون في باب القضاء في طول حجّية القضاء وكاشفيته. وإن قصد بذلك إعطاء الكاشفية والحجّية بالمعنى الثابت

150

في الأحكام الظاهرية لقضائه؛ فهذا غير مسألة النفوذ في منطقة سلطة الآخرين على نفوسهم وأموالهم، فإذا احتملنا وجود شرط شرعي لذلك لم يكن نفيه تمسّكاً بإطلاق دليل الولاية، فإنّه تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

وإن قصد بذلك نفوذ حكم هذا الشخص على المحكوم عليه مثلاً من دون أن يعطى له ما لطبيعة القضاء النافذ من الكشف؛ قلنا: إنّ هذا أجنبي عن طبيعة باب القضاء، ولم يثبت فيه عدم الفصل كي يتم التعدّي من القسم الأول إلى القسم الثاني.

الثاني _ أنّه كما كان دليل نفوذ القضاء في القسم الأول دليلاً لفظيّاً وهو إطلاق دليل ولاية الفقيه الذي نصب هذا قاضياً، كذلك دليل عدم نفوذ القضاء في القسم الأول والثاني يكون أحياناً دليلاً لفظيّاً، كما لو قطع المحكوم عليه بأنّ المال المتنازع فيه ملكه، فهو مسلّط عليه بإطلاق دليل «الناس مسلّطون على أموالهم» أو أثبت بإطلاق دليل لفظي زوجيّة المرأة التي تدّعي بطلان الزوجيّة، فبعد فرض عدم الفصل يقع التعارض بين الدليلين.

لا يقال: إنّ دليل نفوذ القضاء حاكم على الأدلّة الأُخرى؛ لأنّه عنوان ثانوي ناظر إلى باقي العناوين.

فإنّه يقال: إنّ النظر ثبت في القسم الأول فحسب؛ أمّا التعدّي إلى القسم الثاني فلم يكن بظهور لفظي ناظر إلى موارد القسم الثاني أيضاً، وإنّما كان بمجرّد اكتشاف الملازمة بعدم الفصل، وهذا لا يحقّق ملاك الحكومة وهو النظر.

ونتيجة كلّ ما مضى حتى الآن: هي أنّه لا يجوز للفقيه أن ينصب شخصاً فاقداً لبعض الشرائط الماضية للقضاء.

ويمكن أن يستثنى من ذلك كلّ مورد يكون المرتكز عقلائيّاً دخوله في حقّ الولاية، فيتمّ الإطلاق المقامي لدليل الولاية فيه.

151

مثاله: أنّ المرتكز عقلائيّاً بشأن الولي والسلطان أن يكون من حقّه نصب إنسان كفوءٍ للقضاء قاضياً ولو لم يكن فقيهاً ما دام عارفاً بموازين القضاء ولو عن تقليد. فنصب القاضي الكفوء بالمواصفات المعقولة التي يرتئيها الولي هو من شؤون الولاية، وهذا يحقّق الإطلاق المقامي لدليل الولاية، فيصبح من حقّ الفقيه نصب إنسان كفوء عارف بمسائل القضاء _ عن تقليد _ للقضاء.

وهذا الوجه _ كما ترى _ أضيق دائرةً بكثير من الوجه الأول الذي ناقشناه في فسح المجال أمام الفقيه لنصب فاقد بعض الشرائط الماضية للقضاء.

والأن لنراجع الشرائط الماضية واحداً بعد آخر لنرى أنّ أيّ واحد منها يمكن للفقيه غضّ النظر عنه في نصبه بناءً على الوجه الأول لو تمّ، وبناءً على الوجه الثاني، فنقول:

الشرط الأول: العلم، وبديهي عدم معقوليّة نصب الجاهل للقضاء، ولكن كون علمه عن اجتهاد وإن كان قد أُخذ في مصبّ النصب العام الوارد عن المعصوم (عليه السلام) لكن يمكن التغاضي عنه في نصب الفقيه لشخصٍ ما للقضاء بناءً على كلا الوجهين: أمّا على الوجه الأول فلأنّه لا دليل على كون الاجتهاد شرطاً فقهيّاً للقضاء، وأمّا على الوجه الثاني فلما مضى من أنّ المرتكز عقلائيّاً أنّ من شؤون الوالي أن ينصب الكفوء قاضياً ولو لم يكن فقيهاً.

الشرط الثاني: البلوغ، فإن استفدنا هذا الشرط بالتعدّي من دليل محجوريّة الصغير؛ إذاً كان هذا شرطاً فقهيّاً لا يمكن التغاضي عنه بشيء من الوجهين. وإن استفدناه بعدم الإطلاق في دليل القضاء، أو بأخذ قيد الرجولة في قوله: «انظروا إلى رجل منكم» تمّ فيه الوجه الأول؛ إذ لم يبقَ دليل على كون البلوغ شرطاً فقهيّاً ولا يتم فيه الوجه الثاني لعدم قيام ارتكاز عقلائي على صحّة نصب غير البالغ قاضياً.

152

الشرط الثالث، والرابع، والخامس: العقل، والرشد، والإسلام: ومن الواضح عدم إمكان التغاضي عنها.

الشرط السادس: الذكورة، فإن كان دليلنا عليه عدم الإطلاق، أو أخذ قيد الرجولة في قوله: «انظروا إلى رجل منكم» تمّ فيه الوجه الأول، لكن الوجه الثاني لا يتم؛ لأنّ ارتكاز صلاحيّتها للقضاء لو نصبها الولي غير ثابت في جوّ المسلمين وإن ثبت في أجواء الغربيّين، فإنّ ثبوته في أجواء الغربيّين لا يكفي لتماميّة الإطلاق المقامي كما هو واضح. وإن كان دليلنا عليه مثل التعدّي من اشتراط الذكورة في إمام الجماعة، أو استفادة عدم صلاحيّتها للقضاء من مثل قوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصٰامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾(1) إذاً يكون هذا شرطاً فقهيّاً لا يتمّ فيه شيء من الوجهين.

الشرط السابع: طهارة المولد، فإن كان الدليل عليه التعدّي من باب صلاة الجماعة والشهادة فهو شرط فقهي لا يمكن التغاضي عنه بشيء من الوجهين، وإن كان الدليل عدم الإطلاق تطرّق فيه الوجه الأول، ولم يتطرّق فيه الوجه الثاني؛ لعدم ارتكاز يساعد على نصبه في جوّ المسلمين.

الشرط الثامن، والتاسع: الإيمان، وأن لا يكون مصداقاً لسلطان الجور وأياديه: وكلّ منهما من الشروط الفقهية التي لا يمكن التغاضي عنها بشيء من الوجهين.

الشرط العاشر: الحرّيه، فإن كان الدليل عليه ما مضى من رواية محمد بن مسلم؛ إذاً هو شرط فقهي لا يتطرّق فيه شيء من الوجهين، وإن كان الدليل عليه عدم الإطلاق فالوجه الأول يتأتّى فيه، ولعلّ الوجه الثاني لا يتأتّى فيه.


(1) الزخرف: 18.

153

الشرط الحادي عشر، والثاني عشر: الكتابة، والبصر، ويتأتّى فيهما كلا الوجهين.

الشرط الثالث عشر: الضبط، وهو بمعناه الواضح اشتراط لا يمكن رفع اليد عنه، والأكثر من ذلك حاله حال البصر والكتابة.

الشرط الرابع عشر، والخامس عشر: عدم الصمم والخرس، وذلك بقدر ما يرجع إلى الشروط الأُخرى حاله حال تلك الشروط، وبقدر ما يفترض شرطاً مستقلّاً حاله حال اشتراط البصر.

الشرط السادس‏عشر: العدالة، ولا يتأتّى فيه شيء من الوجهين؛ لأنّه شرط فقهي.

ثم لو ناقشنا في الوجه الثاني أيضاً، ولم نقبل الإطلاق المقامي الذي شرحناه أشكل الأمر في مثل زماننا الذي وفّق اللّه العاملين في سبيل الإسلام لإقامة دولة الحقّ في قطعة من الأرض مثل (إيران)، وتكون الحاجة ملحّة لنصب قضاة كثيرين في الأطراف، ولا يوجد فقهاء مستعدّون لتقبّل ذلك بقدر الكفاية، فيضطرّ الولي الفقيه أن ينصب آخرين غير فقهاء للقضاء في كثير من المناطق، فهل يوجد لذلك تخريج فنّي أو لا؟

هنا لابدّ من الرجوع إلى دليل وجوب القضاء كفاية، وقد مضى لذلك دليلان: أحدهما عدم رضا الشارع باختلال النظام، واهتمامه بحفظ النظام. والثاني توقّف النهي عن المنكر على ذلك.

والوجه الثاني لا يفيدنا هنا شيئاً؛ لأنّ قضاء غير الفقيه لو لم يكن نافذاً فسوف لن يمنع عن تحقّق المنكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجبان يتوقّفان على القضاء النافذ، ونفوذ قضاء غير الفقيه أوّل الكلام.

أمّا الوجه الآخر وهو اهتمام الشارع بحفظ النظام، فإن فسّر بمعنى وجوب حفظ

154

النظام علينا فأيضاً لا يفيدنا في المقام، فإنّ النظام الواجب علينا حفظه إنّما هو النظام الناتج عن القضاء النافذ، ونفوذ قضاء غير الفقيه أوّل الكلام.

لكن هناك تفسير آخر لذلك، وهو علمنا بأنّ الإسلام وضع من القوانين ما يكفي لحفظ النظام، فإذا توقّف حفظ النظام على نفوذ القضاء، فهو بنفسه دليل على نفوذ القضاء، فهذا دليل على أنّ الإسلام يسمح لغير الفقيه بالقضاء عند توقّف حفظ النظام عليه؛ أي: يثبت بذلك نفوذ قضائه؛ لعلمنا بأنّ نفوذ قضائه هو الطريق الوحيد لحفظ النظام، وأنّ اهتمام الشارع بحفظ النظام بالغ إلى درجة يوجب السماح بما يتوقّف عليه من نفوذ القضاء.

نعم، بما أنّ هذا دليل لبي لابدّ فيه من الاقتصار على القدر المتيقّن، وهو القضاء لغير الفقيه بتعيين من قبل الولي الفقيه، لا بلا تعيين، بل القضاء بلا تعيين قد يولّد بنفسه اختلال النظام؛ فإنّ نظام كلّ مجتمع يتوقّف على أن تكون أمثال هذه التعيينات بيد الولي المشرف على ذلك المجتمع.

التوكيل في القضاء

بقي الكلام في أنّه هل يمكن حلّ الإشكال عن طريق افتراض أن ينصب الفقيه وكيلاً من قبله في القضاء فاقداً لبعض الشرائط الماضية، بأن يقال: إنّ وكيل القاضي ليس قاضياً كي يشترط فيه تلك الشرائط أو لا؟ وبناءً على تصوير ذلك يجب على الوكيل اتّباع رأي الموكّل في القضاء عملاً بالوكالة، بينما القاضي المنصوب من قبل الفقيه يقضي وفق رأيه أو رأي مقلَّده.

وهذا الوجه لو تمّ لم تصل النوبة إلى الوجه السابق من تجويز جعل غير الفقيه قاضياً لدى الاضطرار؛ إذ لا اضطرار إلى ذلك ما دام يمكن حلّ الإشكال عن

155

طريق التوكيل.

والواقع أنّ التوكيل بمعناه المفهوم عرفاً في أبواب العقود والإيقاعات، والذي لا يرجع في روحه إلى نصب القاضي غير مفهوم في المقام؛ فإنّ التوكيل يتصوّر في القضايا الاعتبارية البحتة التي ينسب العرف فيها المضمون المُنْشأ بالاعتبار إلى الموكّل حقيقةً، فيعتبر مالك العين مثلاً بائعاً حقيقةً حينما يصدر إنشاء البيع من الوكيل، وكذا ينسب الطلاق حقيقة إلى الزوج في نظر العرف رغم صدور صيغة الطلاق من قبل وكيل الزوج، وهكذا.

أمّا باب القضاء فليس حاله من هذا القبيل ولا يعتبر قضاء الوكيل قضاءً للموكّل، وذلك بنكتة توسّط رأي الوكيل في تشخيص الحكم الذي قد لا يكون رأياً للموكّل، ولو من باب عدم إطّلاعه على القضيّة، وحال التوكيل في القضاء يشبه حال التوكيل في التصرفات المادّية كالأكل مثلاً.

نعم، قد يمكن التوكيل في إجراء صيغة الحكم فحسب؛ بأن يفترض أنّ القاضي الفقيه هو الذي ينظر في الأمر ويشخّص الحكم، ثم يرسل وكيله في إجراء صيغة الحكم، لكن يحكم بما ارتاه القاضي.

156

قاضي التحكيم

وأمّا الأمر الثالث _ وهو أنّه هل من حق المترافعين تحكيم غير الواجد لشرائط المنصوب من قبل المعصوم، أو غير المنصوب من قبله ولا من قبل الفقيه، وهو المسمّى بـ «قاضي التحكيم» أو لا؟

فلنذكر مقدمةً لذلك: أنّ قاضي التحكيم يتصور على نحوين:

الأول _ أن يتحاكم المترافعان إلى إنسان واجد للشرائط الفقهية للقضاء، إلا أنّه ليس منصوباً من قبل المعصوم أو الفقيه، ومثاله في زماننا من كان واجداً لشرائط القضاء من قبيل الإيمان والعدالة ولم يكن فقيهاً، بناءً على أنّ شرط الفقاهة ليس شرطاً فقهيّاً، وإنّما أخذ قيداً في النصب العام من قبل الإمام المعصوم (عليه السلام) وبذلك يتضح إمكانيّة تصوير قاضي التحكيم بهذا النحو في زماننا.

الثاني _ أن يتحاكما إلى إنسان غير واجد للشرائط الفقهية للقضاء بدعوى أنّها شرائط للقاضي المنصوب، لا لقاضي التحكيم.

ولا يخفى أنّ قاضي التحكيم وإن لم يكن منصوباً للقضاء في المرتبة السابقة على التحكيم لكن لا معنى لنفوذ قضائه ما لم يثبت إمضاء من قبل الشريعة لتحكيمه الصادر من المتحاكمين، فإنّ الولاية للّه ولا ينفذ حكم أحد على أحد من دون تنفيذ من قبل الشريعة.

157

أدلّة النفوذ

وعلى أيّ حال فالذي يمكن أن يجعل دليلاً على نفوذ قضاء قاضي التحكيم أمور:

الروايات

الأول _ الروايات من قبيل:

1_ ما رواه الكشّي في رجاله عن العياشي، عن أحمد بن منصور، عن أحمد بن الفضل الكناسي قال: «قال لي أبو عبداللّه (عليه السلام): أيّ شيء بلغني عنكم؟ قلت ما هو؟ قال: بلغني أنّكم أقعدتم قاضياً بالكناسة. قال: قلت: نعم _ جعلت فداك _ رجل يقال له عروة القتات، وهو رجل له حظ من العقل، نجتمع عنده، فنتكلّم ونتساءل، ثم يردّ ذلك إليكم. قال: لا بأس»(1). فقد يقال: إنّ هذا دليل على نفوذ قضاء قاضي التحكيم، فإنّ عروة القتات نصبه نفس الناس قاضياً وليس ولي الأمر، إلا أنّ الحديث قابل للمناقشة سنداً ودلالةً.

أمّا من حيث السند فنقول: إنّ أحمد بن منصور إن كان هو الخزاعي كما شوهد نقل العياشي عنه، فافتراض عدم سقوط الواسطة بعيد، إلا أن يفترض معمّراً؛ لأنّ أحمد بن منصور الخزاعي من أصحاب الرضا (عليه السلام) والعياشي ينقل عن أصحاب علي بن الحسن بن فضّال الذي هو من أصحاب الهادي والعسكري(عليهماالسلام). وإن كان شخصاً آخر غيره فأيضاً يبعد افتراض عدم سقوط الواسطة بينه وبين العياشي، أو بينه وبين من ينقل عن الصادق (عليه السلام). وعلى أيّ حال فلا دليل على وثاقة أحمد بن منصور، ولا على وثاقة أحمد بن الفضل الكناسي، ولعلّه أحمد بن الفضل الخزاعي بقرينة رواية أحمد بن منصور عنه.


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص107، الباب 11 من صفات القاضي، ح 31.

158

وأمّا من حيث الدلالة فلئن كان صدر الحديث ظاهراً في إرادة القضاء بالمعنى المقصود لنا فذيله وهو قوله: «نجتمع عنده، فنتكلّم ونتساءل، ثم يردّ ذلك إليكم» ظاهر في البحث العلمي والفقهي، وبعد هذا لا أقلّ من الإجمال.

ولو فرضناه ظاهراً _ رغم هذا _ في إرادة القضاء فلا دليل على أنّ عروة القتات لم يكن داخلاً في المنصوب بالنصب العام في مقبولة عمر بن حنظلة، ألّلهم إلا أن يتمسّك بالإطلاق بملاك ترك الاستفصال، إلا أنّ هذا الإطلاق غير تام في المقام؛ لأنّ الظاهر اجتماع الشرائط الواردة في مقبولة عمر بن حنظلة في عروة القتات، فقد كان شيعيّاً كما هو ظاهر من نصبهم له، ومن قوله: «ثم يردّ ذلك إليكم»، وعارفاً بالأخبار والروايات كما يظهر من قوله: «ثم يردّ ذلك إليكم»، وكان واجداً لحسن الظاهر الكاشف عن العدالة؛ إذ يستبعد تجمّعهم بهذا الشكل حول ظاهر الفسق.

ولو ثبت أنّ هذا الحديث ورد قبل ورود مقبولة عمر بن حنظلة وقبل أيّ نصب عام من قبل الإمام للقضاء، فغاية ما يدل عليه هذا الحديث هو نفوذ قضاء قاضي التحكيم بالمعنى الأول _ أعني الواجد للشرائط غير المنصوب _ دون المعنى الثاني _ أعني غير الواجد للشرائط _؛لما عرفت من أنّ الإطلاق بملاك ترك الاستفصال غير تام في المقام.

2_ ما عن أبي بصير بسند تام عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال في رجل كان بينه وبين أخٍ له مماراة في حقّ، فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه، فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء: «كان بمنزلة الذين قال اللّه (عزوجل): ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا

159

أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾(1)»(2).

وجه الاستدلال هو التمسّك بالإطلاق؛ إذ لم يقيّد الرجل الذي دعا أحد الأخوين صاحبه إلى الترافع إليه بقيد سوى قيد التشيّع، فمقتضی الإطلاق صحّة التحاكم عند الرجل الشيعي ولو لم يكن منصوباً، بل ولو لم يكن واجداً لسائر الشرائط.

إلا أنّ الظاهر عدم تماميّة الإطلاق؛ إذ هو بصدد الردع عن التحاكم إلى حكّام الطاغوت، لا بصدد بيان من يجوز التحاكم إليه من الشيعة كي يتمّ الإطلاق: ومن هنا يتبيّن أنّه لو فرض ثبوت ورود هذا الحديث قبل مقبولة عمر بن حنظلة وقبل أيّ نصب عام من قبل الإمام، فإنّما يدل على نفوذ قضاء قاضي التحكيم بالمعنى الأول دون الثاني.

3_ ما عن الحلبي بسند تام قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): ربّما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء فيتراضيان برجل منّا؟ فقال: ليس هو ذاك، إنّما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط»(3)؛ بناءً على أنّ النظر في هذا الحديث إلى حرمة التحاكم لدى من هو غير منصوب، أو عدم نفوذ حكمه، فيفصّل الإمام (عليه السلام) بين من يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط فيحرم أو لا ينفذ، وبين من تراضى به المترافعان وكان شيعيّاً فيحلّ وينفذ.

إلا أنّ هذا التفسير غير واضح؛ إذ الظاهر: أنّ قوله: «ليس هو ذاك» إمّا هو إشارة إلى ما هو المعروف من حرمة الترافع لدى الطاغوت، أو لدى حاكم الجور، ݣݣفيفسّر


(1) النساء: 60.

(2) وسائل الشيعة، ج 18، ص3، الباب الأول من صفات القاضي، ح2.

(3) نفس المصدر ، ص5، الباب الأول من صفات القاضي، ح8.

160

الإمام (عليه السلام) ذاك المعروف بالترافع لدى من يحكم الناس بالسيف والسوط من الأُمراء الظالمين، ويقول: إنّ هذه الحرمة غير ثابتة في الترافع لدى رجل منّا، وليس بصدد بيان مدى جواز ونفوذ قضاء هذا الرجل، كي يتمّ الإطلاق، أو هو إشارة إلى كلام مسبق بين الإمام والسائل محذوف، ولانعرفه ما هو، فلا يتم الإطلاق أيضاً. ولو فرض ثبوت ورود هذا النص قبل النصب العام ودلالته على نفوذ قضاء قاضي التحكيم، فلا يدل إلا على نفوذ قضاء القاضي بالمعنى الأول دون الثاني؛ لما عرفته من عدم تماميّة الإطلاق.

4_ ما مضى من رواية أبي خديجة(1) بناءً على حمل السيد الخوئي لها على قاضي التحكيم، إلا أنّه مضى إبطال ذلك.

5_ ما ورد من حديث نبوي رأيته في كتاب القضاء للمولى علي الكني (رحمه الله)(2)، وهو قوله (صلى الله عليه و آله): «من حكم بين اثنين تراضيا به، فلم يعدل فعليه لعنة اللّه». وأورد المولى الكني (رحمه الله) على الاستدلال بذلك بضعف السند، وبأنّه وارد مورد حكم آخر، وهو عدم جواز الحكم بغير العدل، وليس بصدد بيان جواز القضاء لكلّ من رضيا به كي يتم الإطلاق، وبأنّه معارض بما دلّ على إذن الإمام في القاضي، والثاني مقدّم بالأخصّية. ولو فرض أنّ النسبة عموم من وجه كفانا أنّه بعد التعارض والتساقط لا يصلح دليلاً على المقصود.

أقول: إشكاله الأخير جزء ممّا سيأتي إن شاء اللّه من البحث عن أدلّة عدم نفوذ قضاء قاضي التحكيم غير المنصوب.


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص4، الباب الأول من صفات القاضي، ح5.

(2) ص 24.

161

6_ ما عن موسى بن أكيل عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سئل عن رجل يكون بينه وبين أخٍ له منازعة في حقّ فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما، فحكما، فاختلفا فيما حكما؟ قال: وكيف يختلفان؟ قال: حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره الخصمان. فقال: ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين اللّه فيمضي حكمه»(1).

والسند ضعيف بذبيان بن حكيم الذي لم تثبت وثاقته، والدلالة ضعيفة بعدم الإطلاق لفرض عدم اجتماع الشرائط فيهما، كما يظهر من قوله: «ينظر إلى أعدلهما وأفقههما(2) في دين اللّه»، على أنّ الرواية واردة في حكم تعارض الحكمين لا في أصل نفوذ الحكم كي يتم فيه الإطلاق. ولو فرض وروده قبل النصب العام فإنّما يدل على نفوذ قضاء قاضي التحكيم بالمعنى الأول.

ومنه يظهر الكلام أيضاً في رواية داود بن الحصين عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين، فاختلف العدلان بينهما عن القول أيّهما يمضي الحكم؟ قال: «ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه، ولا يلتفت إلى الآخر»(3). وسند الحديث تام.

أمّا ذيل مقبولة عمر بن حنظلة الوارد فيما كان كلّ منهما اختار رجلاً من أصحابنا، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما، واختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ فقال: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص88، الباب 9 من صفات القاضي، ح45.

(2) قد يقال: إنّ الفقاهة لا يقصد بها المعنى المصطلح اليوم في مقابل التقليد، فمن يتقن الأحكام عن طريق التقليد فهو أيضاً فقيه في الأحكام لغةً.

(3) وسائل الشيعة، ج 18، ص80، الباب 9 من صفات القاضي، ح20.

162

وأورعهما...»(1) فالأمر فيه أوضح، فإنّ هذا ذيل للصدر الدالّ على النصب العام، ومفروض السائل أنّ المتنازعين رضيا بشخصين داخلين في ذاك النصب العام.

أدلّة الوفاء بالشرط

الثاني _ أن يتمسّك بأدلّة الوفاء بالشرط والعقد، بأن يقال: إنّ المترافعين قد تشارطا وتعاقدا على قبول حكم هذا الحاكم بنحو شرط الفعل، أو على نفوذه بنحو شرط النتيجة بناءً على مشروعيّة شرط النتيجة، فيجب عليهما العمل بقضائه، أو ينفذ قضاؤه بدليل وجوب الوفاء بالشرط ونفوذه. ويمكن الإيراد على ذلك بوجوه:

1_ عدم نفوذ الشرط الابتدائي بناءً على رأي المشهور، ولكنّ المرجّح عندنا نفوذه على تفصيل موكول إلى محلّه.

2_ رجوع التحاكم دائماً إلى المشارطة غير واضح، ولكن قد يقال: لا نفهم معنى التحاكم والرضا به حكماً إلا التباني والتشارط على قبول حكمه.

3_ أنّ هذا الوجه روحه روح نفوذ الشرط لا روح نفوذ القضاء بما هو قضاء، فينحصر مفعوله في دائرة المباحات، ولا يؤثّر في إثبات الزوجيّة ونفيها، وإثبات الولد ونفيه، وفي الدماء، وما شابه ذلك ممّا لا مجال لإثباته بالشرط، بل لابدّ فيه من الرجوع إلى أدلّة الأحكام الشرعية في ذاتها.

آيات قرآنية

الثالث _ التمسّك بآيات من قبيل: ﴿وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾(2). و﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ﴾، أو


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص75، الباب 9 من صفات القاضي، ح1.

(2) النساء: 58.

163

﴿الظّٰالِمُونَ﴾، أو ﴿الْفٰاسِقُونَ﴾»(1). ممّا قد يستفاد منها أصل جواز الحكم من قبل الناس من دون أن يؤخذ في ذلك أيّ شرط من شرائط القاضي المنصوب ولا شرط النصب، فقد يقال: إنّ هذه الآيات راجعة إلى قاضي التحكيم، كما استدلّ السيد الخوئي بها على عدم اشتراط الاجتهاد في قاضي التحكيم حيث قال في تكملة المنهاج:

«وأمّا قاضي التحكيم فالصحيح أنّه لا يعتبر فيه الاجتهاد خلافاً للمشهور، وذلك لإطلاق عدّة من الآيات منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا وَإِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ...﴾(2)»(3).

أقول: إنّ هذه الآيات إنّما هي بصدد بيان أنّ الإنسان حينما يحكم يجب أن يكون حكمه حكماً بالعدل وبما أنزل الله. أمّا متى يحكم ولمن يجوز الحكم؟ فهذه مسألة أُخرى لم تكن الآيات بصددها؛ كي تثبت بإطلاقها عدم شرط الاجتهاد، أو عدم شرط النصب، أو عدم أيّ شرط آخر.

السيرة العقلائية

الرابع _ بناء العقلاء وسيرتهم بدعوى قيام ذلك على تنفيذ حكم قاضي التحكيم رغم عدم نصبه ما دام المترافعان قد تراضيا به، ولم يرد ردع عن ذلك وهو دليل الإمضاء.

أقول: هذا الوجه أيضاً لو تم فإنّما يثبت نفوذ حكم قاضي التحكيم بالمعنى الأول؛


(1) المائدة: 44_45_47.

(2) النساء: 58.

(3) ج1، ص 9.